العودة
نحو الساعة
(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)
سورة غافر الآية 11
اشرف محمد إسماعيل – المحامي
إهداء
إلى روح والدي
والى والدتي. وابني وابنتي
الطبعة الأولى
فبراير 1996م
ــــــــــــــــــــــــــ
حقوق الطبع والنشر متاحة للجميع
ــــــــــــــــــــــــــ
تصدير
إلى كل من كسب القضية وابتاع الآخرة بالدنيا
إلى كل من طمع في رضاء الله وقدم من اجل ذلك ما قدم.
إلى كل من جعل قلمه ومداده بل وفكره لأجل الدعوة إلى الله.
إلى كل من تقرب من ربه ذراعا فتقرب الله منه باعا.
إلى كل من حارب المعصية بالطاعة والضلال بالهدي.
إلي كل من اشتاق إلى لقاء الله فاشتاق الله للقائه.
إلى كل من وضع نقطة فوق سطر في ورقة من كتاب من لدن آدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها فجلي الحقيقة وأبان المعاني وأثار الهمم....
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء )
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ )
(إبراهيم 40: 41)
{ مقدمة }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يجيب من دعاه – ويعطي من سأله ويتوب على من تاب إليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وأشهد أن محمد عبده ورسوله إمام الذاكرين وقدوة السالكين وسيد الخلق أجمعين. صلاة وتسليما عليك يا شفيعنا يوم أن نلق الله رب العالمين.
أما بعد،،
إن للاحتضار وولوج القبر وحياة البرزخ والبعث فالصراط ثم الحساب وصولا إلى دار القرار إما جنة وإما نار لهول وروع وفزع يستحق منا أن نقف باهتمام شديد ووعي كامل لما فيها من زجر وعظة ونهر عن الآثام والموبقات وترغيب وحض على فعل الخيرات والحسنات.(1/1)
فهذه الدنيا التي نحيا ببريقها الخادع ووهجها الفتان ما هي إلا دار امتحان أننجو أم نكن من الهالكين هل أسرفنا على أنفسنا أم أعددنا العدة لما لنا( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ , إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " (1) هل كانت دنيانا هي كل زادنا رحنا ننهل من زيفها ونغترف وإذا بنا لحظة منتهانا خالية أيدينا حتى من أعظم ما تمنيناه وودت أحلامنا من مال وولد وجاه حتى تأتي لحظة الجزاء والحساب "يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ " (2) الم يكن يعلم المرء أن هناك رقيب عليه أنا راح أو غدا " إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ , مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " (3) الم يكن يعلم كذلك أن بانتظاره لحظة لو تدبرها الحاكم لود أن يكون محكوما ولو تدبرها المتكبر لتواضع لصاحب العزة والجبروت. ولو تدبرها الغني لأنفق ماله في تجارة رابحة مع الله غنم كسبه لحظة منتهاه.. ولو تدبرها الفقير والمريض لصبرا ووكلا أمرهما إلى الله دونما حزن أو جزع.. فهناك لحظة يتساوى فيها ذو الحسب مع عديم الحسب وذو المال مع عديم المال وذو العيال مع عديم العيال وذو الصحة مع ذي المرض والمتكبر مع المتواضع.. الكل سواسية فيها ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى والعمل الصالح..وكيف لا ونحن الآن وفي هذه اللحظة بساحة احكم العادلين " وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ , وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ , وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ , لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ "(4) كما يقول سبحانه " كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ
__________
(1) الشعراء 88: 90
(2) ق 30
(3) ق 17: 19
(4) ق 19: 23(1/2)
, وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ , وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ , وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ , إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ " (1) هنا لقد افلت دار الامتحان ونحن في انتظار النتيجة وفي انتظار حكم العدل فلا ظلم هناك ولا جور " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ " (2) وكيف لا وهو القائل سبحانه في سورة لقمان " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ " (3) فلا يضيع الله جهد من اجتهد في الطاعة كما انه لا يقفل بابه أمام العاصي إذا ما ود أن يتوب دونما إصرار على المعصية.. أيضا فإنه يعاقب من أصر عليها أيا كان قدر الخطأ وقدر المعصية فالمرء يحاسب عليه مهما بلغت ضآلته وقلة حجمه ومادام ذلك كذلك وما دام المرء ملاق ربه حتما وما دام أنه يحاسب عن كل ما قدم من خير أو شر فكان لزاما أن يضع حقيقة الموت تذكرة دائمة أمام عينيه تدفعه عن المعصية إلى الطاعة وتأخذ بيديه من زيف الدنيا وزينتها الخادعة إلى الآخرة من متاع حقيقي وعذاب حقيقي وللوصول إلى هذا الحق فإني قد استخرت الله أن أضع بين يدي القارئ المسلم كتابا أبين فيه لحظة الموت والدلالات التي تبدو لنا منها بحثا بين القران والسنة ثم حياة البرزخ ثم البعث بين القران والسنة ثم الحساب فالعاقبة بشقيها عذاب النار ونعيم الجنة كذلك بين القران والسنة وختمت الدراسة بدراسة لحقيقة الدنيا إذا ما قورنت بالآخرة وكيف ابان القران ووضحت السنة كلا منهما.واني لا أحاول بهذا إظهار أني قد فعلت ولا أزكي نفسي على الله لكني أحاول لفت نظري وإياكم إلى حياة أخرى سرمدية في انتظارنا إما عذاب وإما هناء ونعيم دائمين وأقصد من وراء هذا التناول
__________
(1) القيامة 26: 30
(2) الزلزلة 7: 8
(3) لقمان 16(1/3)
حديثة صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن طريق أبي هريرة " إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.... " فحسبي أن أقابل ربي ولم ينقطع بموتي عملي والله أرجو أن يتقبل عملي وهو ارحم الراحمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اشرف محمد إسماعيل
المحامي
الفصل الأول
لحظة الموت
لو صادفت يوما احتضار امرئ أمامك لعلمت تمام العلم ما لهذه اللحظة من روع وفزع وهلع وإن كنت لم تصادف فلك حق التخيل المشفوع بالمرارة ساعة انتظارك الحكم الإلهي بخروج روحك من بين ذرات بدنك وأنت تتحرك دون حراك ظاهري إلى طريق اللاإرادة واللااختيار فأنت الآن أمام ساحة الجبار. ولا تفوتك رحمته فها هو الرحمن الرحيم يذكرنا في كل وهلة بهذه الوهلة وفي كل لحظة نراه يذكرنا بهذه اللحظة فها هو سبحانه يقول " كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ " (1) ويقول تعالى " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " (2) ويقول تعالى " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ " (3) وقوله تعالى "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " (4) وغيرها من الآيات المنذرات من الموت ومن النهاية المقضية كما أن رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) لم تفته – وهو الذي لا ينطق عن الهوى – أن ينذرنا من الموت وعدم الاستعداد له فيقول (- صلى الله عليه وسلم -) أكثروا ذكر هادم اللذات.. الموت(5) وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه الترمذي " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله (6)
__________
(1) آل عمران: 185
(2) الملك: 2
(3) فاطر 37
(4) السجدة: 11
(5) رواه ابن ماجة والترمذي ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن
(6) رواه الترمذي عن أبي يعلي شداد بن أوس وقال حديث حسن(1/4)
وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) كفى بالموت واعظا وكفي باليقين غنى (1) هل لنا إذا حجة بعد ما جاءنا النذير كلا بل حجتنا يومئذ داحضة وكيف لا وهو القائل في كتابه " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ" (2)
__________
(1) رواه الطبراني
(2) الأعراف : 37(1/5)
فلقد جاءت لحظة الموت إذن وها نحن في عالم آخر بدايته هذه اللحظة وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (1) فها نحن والموت وجها لوجه لا مفر منه ولا ملجأ فلطالما تناسيناه وهو حتما ملاقينا فها نحن أمامه نراه عين اليقين وكيف لا وحواسنا قد أطلقت لها القدرة بينما إرادة الإنسان عليها قد سلبت فقدرة السمع قد قويت وكذلك قدرة الأبصار قد استطالت ملكاتها فأصبحنا نسمع ما لا يسمع من حولنا وكذا نرى ما لا يرى من هم حولنا. أصبحنا ندرك حقائقهم وليس فقط ظاهرهم لا موانع أمام العين فراحت تبصر ما وراء عوائقها. بل لم تقف قدرتها على رؤية المادة فأصبحت ترى ما وراء المادة فكل المخلوقات النورانية أصبحت محل رؤية فالملك تراه العين وكل رسل ربك. فها أنا الآن في معية الله وبجواري رسله وملائكته وبجواري عملي " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ , وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ , وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ " (2) وقوله سبحانه " كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ , وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ , وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ , وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ , إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ " (3) فها هي النفس وقد بلغت عظام الحلق لا راقي ينفع ولا طبيب . فلا ريب هي لحظة الفراق.. هنا التفت ساقي بالأخرى فاجتثت الروح من بين ذرات البدن ليساق المرء إلى رب الروح والبدن وترك البدن لميقات ربك. لا سلطان ولا جاه وجاءت لحظة العدل فالكل سواسية منذ هذه اللحظة. الكل يخضع لإجراءات الغسل والتكفين لا محسوبية تمنع ولا جاه مسبق أو سلطان زائل يفرق. لا مال ولا كنز مهما بلغ يهشم مبدأ المساواة فالدنيا الدانية زالت وعدل العادل أذن ميقاته فلا حمى يحتمي ولا حجة يحتج فرجع إلى ربه كما خلقه لا أخذ أخذ ولا متاع " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
__________
(1) ق: 19
(2) الواقعة: 83: 85
(3) القيامة: 26: 30(1/6)
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " (1) وقوله تعالى " وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً " (2) إذن يعود الأمر لأصله.
وساعة الاحتضار تجتمع فيها كل الحكم والعبر ويحار فيها كل الحكماء والفلاسفة. ففيها ينجلي عمل المرء ويبدو إما خيرا كان أم شرا منذ لحظة تكليفه وحتى لحظة منتهاه. واليوم لا دفاع جائز ولا مرافعة مقبولة " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (3) فدفاع الدنيا والذي كان مقبولا حتى ولو اعتراه ظلما وبهتانا وغمطا للحقيقة لمجرد كونه دفاعا مرتبا ومؤثرا على هيئة القضاء اليوم لا يقبل وكيف لا فهيئة القضاء أحادية – هو الله – لا حاجب هناك ولا مانع فالخيط مقطوع والوصل موجود !! (4) " اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " (5) ومنذ هذه اللحظة ليس للمرء من إرادته شيئا إذ تركها مع دنيا الأغيار وها هو يدخل مدخل الحياة السرمدية ليس له على نفسه من سلطان. لا ينفع من حياته الأولى – دار الاختيار – غير عمله أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به أما عدم كل هذا فلا ربح ربح مهمابلغ ربحه ولا كسب كسب مهما بلغ كسبه بل خسر وغرم. خسر حتى ولو كان ذا مال جمع وأعد مادام لم ينفقه في تجارة مع الله " يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ , كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (6) بل خسر حتى ولو كان ذا بنين وولد طالما لم يكن بينهم ولد صالح يدعو له.." يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ , إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ
__________
(1) الأنعام 94
(2) مريم 95
(3) النحل 28
(4) تعبير للصوفية ويقصد بالخيط المقطوع " يعني لا واسطة أو همزة وصل.. والوصل موجود.. يعني أنه ما بين الخلق وخالقه دائما موصول دونما وصال أو واسطة.
(5) الإسراء: 14
(6) الهمزة : 3: 4(1/7)
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " (1) فالمال ليس لنا منه إلا ما أنفقنا لطاعة الله ووجهه والولد ليس لنا منه إلا من علمنا الصلاح والإيمان بوحدانية الله فيدعو الله لنا بصلاحه فيقبل منه والعلم أيضا ليس لنا منه إلا ما كان فيه نفع للناس غير حاض على الانشغال بغير ذكر الله لقوله تعالى " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " (2) وليس لنا أن نستأنس بغير ذكر الله فالذكر والزاد مهما كثر قليل والطريق مهما قرب بعيد والعاقبة والمآل شيء عظيم فهل لنا إذا من روحة وغدوة مع القهار الرحيم..
ومن الذين عقلوا الأمر وعرفوا – الكثير – ففطنوا إلى عمق القضية وأبعادها ومن هؤلاء الحكماء والشعراء من قال:
نصيبك مما تجمع الدهر كله............. رداءان تلوي فيها وحنوط
وقال اخر:
هي القناعة لا تبغي بها بدلا
انظر لمن ملك الدنيا باجمعها ... فيها النعيم وفيها راحة البدن
هل راح منها بغير القطن والكفن
وعلى المرء ان يتذكر الموت وأشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله فيتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب ويتذكر أحوالهم ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم وكيف تبددت أجزاءهم في قبورهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم ويتذكر كيف كان يروح ويغدو وقد تهدمت رجلاه ومفاصله , وكيف كان ينطق وكيف أكل الدود لسانه وكيف كان يضحك وقد أكل الدود أسنانه وكيف كان يدبر لنفسه مالا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهرا وهو غافل عما يراد به حتى جاء الموت في وقت لم يحتسبه فانكشف له صورة الملك وقرع سمعه النداء إما بالجنة وإما بالنار (3).
__________
(1) الشعراء: 88: 89
(2) الذاريات: 56
(3) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ( 4/436)(1/8)
ولما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه " يا أبتاه إنك لتقول لنا: ليتني لقيت رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد. وأنت ذلك الرجل فصف لي الموت فقال: يا بني والله كأن جنبي في تخت وكأن السماء قد انطبقت على الأرض وأنا بينهما ؛ وكأني أتنفس من سم إبرة وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي. "(1)
ولما حضرت هارون الرشيد منيته قال " احملوني إلى قبري ؛ فحملوه فاطلع فيه فأخذ يبكي حتى ابتلت لحيته.. ثم قال يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. (2)
__________
(1) التذكرة للقرطبي
(2) التذكرة للقرطبي(1/9)
وذكر القرطبي في التذكرة ما رواه البخاري عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان الواحد عن يمينه والآخر عن شماله فالذي عن يمينه على صفة أبيه يقول له , يا بني إني كنت عليك شفيقا ولك محبا ولكن مت على دين النصرانية فهو خير الأديان ؛ والذي عن شماله على صفة أمه تقول له: يا بني إنه كانت بطني لك وعاء وثدي لك سقاء وفخذي لك وطاء ولكن مت على دين اليهود فهو خير الأديان.. وعند استقرار النفس في التراقي والارتفاع تعرض عليه الفتن وذلك إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة وأستعملهم عليه ووكلهم به فيأتون المرء وهو على تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا ؛ كالأب والأم والأخت والصديق الحميم فيقول له: أنت تموت يا فلان ونحن قد سبقناك في هذا الشأن فمت يهوديا فهو الدين المقبول عند الله تعالى فإن انصرف عنهم وأبى جاءه آخرون وقالوا له: مت نصرانيا فإنه دين المسيح وقد نسخ الله به دين موسى ويذكر له عقائد كل ملة فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه وهو معنى قوله تعالى " رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً " (1) أي لا تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا فإذا أراد الله بعبده هداية وتثبيتا جاءته الرحمة وقيل ؛ وهو جبريل عليه السلام فيطرد عنه الشياطين ويمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت لا محالة وكثيرا من يرى مبتسما في هذا المقام فرحا بالبشير الذي جاءه من الله تعالى فيقول: يا فلان أما تعرفني ؟ أنا جبريل وهؤلاء أعدائك من الشياطين.. مت على الملة الحنفية والشريعة الجليلة فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملك وهو قوله تعالى " وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " ثم يقبض (2)
__________
(1) آل عمران : 8
(2) رواه البخاري(1/10)
وينبغي على من حول المحتضر أن يلقنوه شهادة أن لا إله إلا الله لقوله (- صلى الله عليه وسلم - ) " إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها عند موته إلا كانت زاده إلى الجنة " (1) وقوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " (2) ولا يجب الإلحاح في التلقين بالشهادة فيكفيه - أي المحتضر- أن يقولها مرة واحدة شريطة أن تكون آخر ما ينطق فإن تكلم بعدها لقن بها ثانية حتى تكون آخر ما ينطق ومن ثم فبامتناعه عن الكلام يكون قد دخل في عالم آخر ومعية أخرى هي معية الله. لا رحمة سوى رحمة الله فهو الرحمن الرحيم. فلا يستطيع احد ممن حوله يرفع عنه هذه المعاناة وهذه الآلام فلقد قالوا عن الموت والآمه الكثير. إن له أهوال جسام فسكراته والألم الذي يعاني منه عند خروج الروح من البدن شيء لا يطاق حتى قالوا أنه أشد من ضرب السيوف ونشر المناشير وقرض المقاريض لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق في جميع أجزائه من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من المفرق إلى القدم ليستل الروح منها فلا تسأل عن كربة وألمه.. ولذلك لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الكرب حيث قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خورا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه وقد جذب من كل عرق على حدة فالألم منتشر بداخله وخارجه حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان وتخضر أنامله فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيا فتبرد أولا قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها للحلقوم فعند ذلك ينقطع عن الدنيا وأهلها وتعظم حسرة المفرط ويندم حيث لا ينفع الندم (3)
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا.
(2) أخرجه أبو داوود من حديث معاذ بن جبل
(3) موارد الظمآن ص 213(1/11)
وصدق من قال: -
إن الحبيب من الأحباب مختلس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا
لا يرحم الموت ذا جهل لعزته
كم أخرس الموت في قبر وقفت به
قد كان قصرك معمورا له شرف
... لا يمنع الموت بواب ولا حرس
يا من يعد عليه اللفظ والنفس وأنت دهرك في اللذات منغمس
ولا الذي كان منه العلم يقتبس
عن الجواب لسانا ما به خرس
فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
فالموت إذن هو حكيم الحكماء ومنذر المنذرين بل هو نذير من الله للإنسان قبل الرسل فقال (- صلى الله عليه وسلم -) الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها(1) فإلى متى الانتظار وعدم الاستعداد والى متى نتناسى هذه الحقيقة فالعقد من عمر الإنسان يجر الآخر والعام يلتهم تاليه والموت يقترب منا يوما فيوم وساعة فساعة. ومهما بلغ بنا الأجل فإلى متى نستمر سنصل حتما إلى نهاية وما دامت النهاية واجبة فالعمل لها والاستعداد أوجب فيقول الله في الحديث القدسي الجليل " ابن آدم شاب شعرك وضعف بصرك وانحنى ظهرك ووهن عظمك فاستحى مني فإني أستحي منك ". وقبل أن أغادر هذا الموضع إلى غيره وحتى نتأكد من الدلالات السابقة للموت ليس أجل من ذكر أمر وفاته (- صلى الله عليه وسلم -) والدلالات التي تبدو لنا منها خاصة وهو خير خلق الله إلى الله سبحانه وتعالى بل أحبهم إليه.
وفاته ( - صلى الله عليه وسلم - ) ودلالاتها(2)
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن
(2) مكاشفة القلوب للإمام الغزالي ص 298(1/12)
قال ابن مسعود رضي الله عنه دخلنا على رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - ) ببيت أمنا عائشة رضي الله عنها حين دنا الفراق فنظر إلينا فدمعت عيناه ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم قال مرحبا بكم حياكم الله آواكم الله نصركم الله وأوصيكم بتقوى الله وأوصي بكم الله إني لكم منه نذير مبين أن لا تعلوا على الله في بلاده وعباده وقد دنا الأجل والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى وإلى الكأس الأوفى فأقرءوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي مني السلام ورحمة الله وروى أنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال لجبريل عليه السلام عند موته من لأمتي بعدي فأوصى الله تعالى جبريل أن بشر حبيبي أني لا أخذله في أمته وبشره بأنه أسرع الناس خروجا من الأرض إذا بعثوا وسيدهم إذا جمعوا وأن الجنة محرمة على الأمم حتى تدخلها أمته فقال الآن قرت عيني وقالت عائشة رضي الله عنها أمرنا رسول الله أن نغسل بسبعة قرب من سبع آبار ففعلنا ذلك فوجد راحة فخرج فصلى بالناس وأستغفر لأهل أحد ودعا لهم وأوصى بالأنصار لا تزيد إليها فأكرموا كريمهم يعني محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ثم قال إن عبدا خير بين الدنيا وبين ما عند الله فأختار ما عند الله فبكى أبو بكر رضي الله عنه. وظن انه يريد نفسه فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -) على رسلك يا أبا بكر سدوا هذه الأبواب والشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإنه لا أعلم أمرا أفضل عندي في الصحبة من أبي بكر قالت عائشة رضي الله عنها فقبض (- صلى الله عليه وسلم -) في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت فدخل علي أخي عبد الرحمن وبيده سواك فجعل ينظر إليه فعرفت أنه يعجبه ذلك فقلت له أخذه لك فأومأ برأسه أي نعم فناولته إياه فأدخله في فمه فاشتد عليه فقلت ألينه إليك فأومأ برأسه أي نعم فلينته وكان بين يديه ركوة ماء فجعل يدخل فيها يده ويقول لا إله إلا الله أن للموت لسكرات ثم نصب(1/13)
يده يقول الرفيق الأعلى الرفيق الأعلى فقلت إذا والله لا يختارنا.
وروى سعيد ابن عبد الله عن أبيه قال لما رأت الأنصار أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)يزداد ثقلا أطافوا بالمسجد فدخل العباس رضي الله عنه على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك ثم دخل عليه علي رضي الله عنه فأعلمه بمثله.. فمد يده وقال ها فتناولوه فقال ما تقولون قالوا نقول نخشى أن تموت وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فسار رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه ورسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس علي أسفل مرقاة من المنبر وثاب الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس إنه بلغني أنكم تخافون علي من الموت كأنه استنكارا منكم للموت وما تنكرون من موت نبيكم ألم أنع إليكم وتنعي إليكم أنفسكم. هل خلد نبي قبلي فيمن بعث فأخلد فيكم ألا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون به وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم فإن الله عز وجل قال "وَالْعَصْرِ , إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ , إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا " (1) إلى آخرها.. وإن الأمور تجري بإذن الله فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد ومن غالب الله غلبه ومن خادع الله خدعه فهل إن عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. وأوصيكم بالأنصار خيرا , فإنهم الذين تبوءوا الدار والأيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم ألم يشاطروكم الثمار. ألم يوسعوا عليكم الديار ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة. ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم ألا ولا تستأثروا عليهم ألا وإني فرط لكم وأنتم لاحقون بي ألا وإن موعدكم الحوض حوض " اعرض مما بين
__________
(1) العصر الآية ( 1: 3 )(1/14)
بصري والشام وصنعاء اليمن يصب فيه ميذاب الكوثر ماؤه اشد بياضا من اللبن والين من الزبد وأحلى من الشهد.. أبدا حصباؤه اللؤلؤ وبطحاؤه المسك.. من حرمه الموقف غدا حرم الخير كله ألا فمن أحب أن يرده علي غدا فليكفف لسانه ويده إلا ما ينبغي فقال العباس يا نبي الله أوصي بقريش فقال إنما أوصي بهذا الأمر قريشا والناس تبعا لقريش برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم فاستوصوا آل قريش خيرا يا أيها الناس إن الذنوب تغير النعم وتبدل القسم فإذا بر الناس برهم أئمتهم وإذا فجر الناس عقوهم قال الله تعالى "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ "(1).
__________
(1) الأنعام الآية ( 129 )(1/15)
وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال لأبي بكر رضي الله عنه سل يا أبا بكر فقال يا رسول الله دنا الأجل ! فقال دنا وتدلى.. فقال ليهنك يا نبي الله ما عند الله فليت شعري عن منقلبنا ! فقال إلى الله وإلى سدرة المنتهى ثم إلى جنة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والرفيق الأعلى والحظ والعيش المهنا. فقال يا نبي الله من يلي غسلك ؟ قال رجال من أهل بيتي الأدنى فالأدنى قال: ففيم نكفنك ؟ قال مهلا غفر الله لكم وجزآكم عن نبيكم خيرا إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم أخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي الله عز وجل "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ " (1) ثم يأذن الملائكة في الصلاة علي فأول من يدخل علي من خلق الله ويصلي علي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة ثم الملائكة بأجمعها صلى الله عليهم أجمعين ثم أنتم فأدخلوا علي أفواجا فصلوا علي أفواجا زمرة زمرة وسلموا تسليما ولا تؤذونني بتزكية ولا صيحة ولا رنة وليبدأ منكم الإمام وأهل بيتي الأدنى فالأدنى ثم زمرة النساء ثم زمرة الصبيان قال: فمن يدخلك القبر ؟ قال زمرة من أهل بيتي الأدنى مع ملائكة كثيرة لا ترونهم ويرونكم قوموا فأدوا عني إلى من بعدي وقالت عائشة رضي الله عنها فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - ) رأوا منه خفة في أول النهار فتفرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين وأخلوا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - ) بالنساء فبينما نحن على ذلك لم نكن على مثل حالنا في الرجاء والفرح قبل ذلك إذ قال (- صلى الله عليه وسلم - ) أخرجن عني.. هذا الملك يستأذن علي فخرج من في البيت غيري ورأسه في حجري فجلس وتنحيت في جانب البيت فناجى الملك طويلا ثم إنه دعاني فأعاد رأسه في حجري وقال للنسوة أدخلن.. فقلت ما هذا
__________
(1) الأحزاب: الآية ( 43)(1/16)
بحس جبريل عليه السلام فقال (- صلى الله عليه وسلم - ) أجل يا عائشة هذا ملك الموت جاءني فقال إن الله عز وجل أرسلني وأمرني ألا أدخل عليك إلا بإذن فإن لم تأذن لي أرجع وإن أذنت لي دخلت وأمرني ألا أقبضك حتى تأمرني. فماذا أمرك ؟ فقلت أكفف عني حتى يأتيني جبريل عليه السلام فهذه ساعة جبريل قالت عائشة رضي الله عنها فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب ولا رأي فوجمنا وكأنما ضربنا بصاحة ما نحير إليه شيئا وما يتكلم أحد من أهل بيتي إعظاما لذلك الأمر وهيبة ملأت أجوافنا.. قالت وجاء جبريل في ساعته فسلم فعرفت حسه وخرج أهل البيت فدخل فقال إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك وهو أعلم بالذي تجد منك ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق وأن تكون سنة في أمتك فقال أجدني وجعا فقال أبشر فإن الله تعالى أراد أن يبلغك ما أعد لك فقال يا جبريل إن ملك الموت استأذن علي واخبره الخبر – أي خبر الموت – فقال جبريل يا محمد ان ربك إليك مشتاق ألم يعلمك الذي يريد بك لا والله ما استأذن ملك الموت على أحد قط ولا يستأذن عليه أبدا إلا أن ربك متم شرفك وهو إليك مشتاق قال: فلا تبرح إذا حتى يجئ وأذن للنساء فقال يا فاطمة أدني فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تدمع وما تطيق الكلام ثم قال أدني مني رأسك فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك وما تطيق الكلام فكان الذي رأيناه عجبا فسألناها بعد ذلك. فقالت: أخبرني وقال إني ميت اليوم فبكيت.. ثم قال إني دعوت الله أن يلحقك بي في أول أهلي وأن يجعلك معي فضحكت وأدنت إبنيها منه فشمهما قالت وجاء ملك الموت فسلم وأستأذن فأذن له.. فقال الملك. ما تأمرنا يا محمد؟ قال: ألحقني بربي الآن.. فقال.. بلى من يومك هذا أما إن ربك إليك مشتاق ولم يتردد عن أحد تردده عنك.. ولم ينهني عن الدخول على أحد إلا بإذن غيرك ولكن ساعتك أمامك وخرج.. قالت وجاء جبريل فقال: السلام(1/17)
عليك يا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - ) هذا أخر ما أنزل فيه الأرض أبدا طوي الوحي وطويت الدنيا وما كان لي في الأرض حاجة غيرك ومالي فيها حاجة إلا حضورك ثم لزوم موقفي. لا. والذي بعث محمدا بالحق ما في البيت أحد يستطيع أن يخير إليه في ذلك كلمة ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما نسمع من حديثة ووجدنا وأشفقنا قالت: فقمت إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم - ) حتى أضع رأسه بين ثديي وأمسكت بصدري وجعل يغمي عليه حتى يغلب وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قط فجعلت أسلت ذلك العرق وما وجدت رائحة شيء أطيب منه فكنت أقول له إذا أفاق بأبي أنت و أمي ونفسي وأهلي ما تلقى جبهتك من الرشح فقال يا عائشة إن نفس المؤمن تخرج بالرشح ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار فعند ذلك ارتعدنا وبعثنا إلى أهلنا فكان أول رجل جاءنا ولم يشهده أخي بعثه إلى أبي فمات (- صلى الله عليه وسلم -) قبل أن يجئ أحد وإنما صدهم الله عنه لأنه ولاه جبريل وميكائيل وجعل إذا أغمي عليه قال: بل الرفيق الأعلى.. كان الخيرة تعاد عليه. فإذا انطلق الكلام قال: الصلاة. الصلاة. إنكم لا تزالون متماسكين ما صليتم جميعا.. الصلاة. الصلاة كان يوصي بها حتى مات وهو يقول الصلاة.. قالت عائشة رضي الله عنها مات رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بين ارتفاع الضحى وانتصاف النهار يوم الاثنين ثم قالت: لما مات(- صلى الله عليه وسلم -) اقتحم الناس حتى ارتفعت الرنة وسجى (- صلى الله عليه وسلم -) الملائكة بثوبي فاختلفوا ( أي الناس) فكذب بعضهم بموته كعمر بن الخطاب. وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد البعد كعثمان بن عفان.. وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير بيان ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعباس أيدهما بالتوفيق والسداد وإن كان الناس لم يرعووا إلابقول أبي بكر حتى جاء العباس فقال والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الموت ولقد قال(1/18)
وهو بين أظهركم " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ , ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ " (1) وبلغ أبي بكر الخبر وهو في بني الحارث بن الخزرج فجاء ودخل عليه (- صلى الله عليه وسلم -) فنظر إليه ثم أكب عليه فقبله ثم قال.. بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كان الله ليذيقك الموت مرتين فقد والله توفى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ثم خرج إلى الناس فقال أيها الناس. من كان يعبد محمد فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقال تعالى " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " (2) فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية إلا يومئذ.
إذاَ محمد قد مات: افبعيد نحن إذا عن الموت ؟! لا والله فما نحن خير منه فهو خير خلق الله أجمعين صلاة وتسليما عليه الى يوم أن نلقى الله رب العالمين. ومما تقدم من رواية وفاته (- صلى الله عليه وسلم -) نخرج بالدلالات الآتية والتي نختتم بها هذا الفصل في موضوع الموت:-
أولا: لا نجاة لأحد من الموت. فمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) نفسه قد مات.
ثانيا: أخر ما وصى به (- صلى الله عليه وسلم -) قبل وفاته الصلاة. كررها ما بين كل إفاقة ووجع.
ثالثا: استئذان ملك الموت منه للدخول. وزيارة جبريل له لطمأنته وتبشيره.
رابعا: صلاة رب العزة جل جلاله عليه والملائكة والناس قبل دفنه تدل هذه الإشارات الأربع أنه هكذا هو حال الأنبياء والصالحين أفلا يجدر بنا أن نقتفي أثرهم وخطاهم وألا نحيد عن سنته (- صلى الله عليه وسلم -) ونهجه حتى نرد حوضه وننعم بجواره وننال شفاعته " يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ , إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " (3)
الخاتمة
حسنها وسوءها
__________
(1) سورة الزمر آية (30: 31)
(2) سورة آل عمران آية ( 144 )
(3) سورة الشعراء آية ( 87: 89 )(1/19)
بعد ما ذكرنا حقيقة الموت ولزومية حدوثه. وبعد ما رأينا روعه وعظم شأنه فحري بنا إذن أن نقف ولو للحظة أمام الخاتمة خاصة وقد مررنا على رواية وفاته (- صلى الله عليه وسلم -) ورأينا كل هذا الحسن لخاتمته وكل هذا الاصطفاء من لدن أدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها فحسبه زيارة جبريل له لطمأنته أليس في هذا اصطفاء , استئذان ملك الموت منه عند الدخول.. أليس في هذا اصطفاء. بل أليس هذا حسن خاتمة فهو القدوة إذن والرحمة المهداة وهو السراج المنير.
حسن الخاتمة:(1/20)
هي آيات وعلامات يبشر بها ذوي الميت بأنه في رحمة الله وفي استقباله روضة من رياض الجنة فنعيمها كما وأن لسوء الخاتمة والعياذ بالله آيات وعلامات منها يعلم ذوي الميت بأنه مغضوب عليه ومن الخاسرين. وحسن الخاتمة وسوئها وإن كانت أمرا مقضيا على الميت فإنها عظة وإنذار لأهله وذويه , وحسن الخاتمة نبه الله على أهميتها فقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "(1) وقوله "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ "(2) إذن استمرار التقوى أمر لازم وحتى الوفاة فهناك من يتقي الله طوال حياته ويبتعد عن المعاصي وقبل أن يموت يقترف السيئات فيختم له بسوء الخاتمة لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " وأن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " (3) ومثال على ما رواه البخاري ومسلم عن آبى هريرة رضي الله عنه قال شهد رجل مع رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) خيبر فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا وقد مات فقال (- صلى الله عليه وسلم -) إلى النار فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فقال الله أكبر أشهد أني عبده ورسوله ثم أمر بلالا فنادي في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وأن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر (4)
سوء الخاتمة:
__________
(1) آل عمران الآية ( 102 )
(2) الحجر الآية ( 99 )
(3) البخاري 11/417 ومسلم برقم 26430
(4) البخاري 6/125 ومسلم برقم 111(1/21)
إذن قد يعمل المرء بعمل أهل الصلاح طوال حياته ثم قبل موته يعمل بعمل العاصين فيختم له بسوء الخاتمة والعكس قد يعمل المرء بعمل العاصين ويشاء الله له التوبة فيتوب ثم يموت فيختم له بحسن الخاتمة
ولكن إن كان ميقات الموت وأجل المرء لا يعلمه إلا الله فلما التسويف في التوبة والعمل الصالح.. فقد يباغتنا الموت فجأة دونما استعداد منا فيقضي لنا بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
وللشيطان مداخل كثيرة حتى يصل مناه بنا إلى سوء الخاتمة..كيف؟
الشيطان يرغبنا في طول الأمل: وقد حذرنا منه (- صلى الله عليه وسلم -) فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " أخذ (- صلى الله عليه وسلم -) بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (1)
فهكذا يحذرنا (- صلى الله عليه وسلم -) من طول الأمل بالدنيا بينما الشيطان يرغبنا في ذلك ويرسم لنا الأماني حتى تكون الدنيا هي أكبر همنا ومبلغ علمنا وتأتي لحظة الجزاء وأيدينا خالية من كل ما جمعناه لهذه المسماة بالدنيا.
وحتى نبعد طول الأمل عنا وصانا (- صلى الله عليه وسلم -) بأن نتذكر الموت دائما لقوله " أكثر من ذكر هادم اللذات " (2) كما أوصانا بزيارة القبور للعظة البليغة فقال (- صلى الله عليه وسلم -) " زوروا القبور فإنها تذكر الموت (3) كذلك أوصانا بتغسيل الميت لكون هذا أكبر وأشد موعظة إذ كيف هذا الذي هو يتحرك بإرادة المغسل لا حراك له ولا إرادة وقد كان يوما شديد البطش عظيم الهيبة إذا سار بلغ موكبه مبلغه وإذا قعد قامت حاشيته رهن إشارته وإذا نام استيقظ كل من حوله لأجل أن ينام.. اليوم هو بالموت صار جسدا خامدا لا حراك له.
__________
(1) البخاري 11/190 – 200 والترمذي برقم 2334
(2) الترمذي برقم 2409
(3) مسلم برقم 976(1/22)
كما أوصانا تعالى بزيارة الصالحين بغية الإنكباب على الطاعة والتباري بالاجتهاد فيها لقوله تعالى "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً "(1)
كما وأن الشيطان يرغبنا في التسويف بالتوبة: فيقول المرء سأتوب بعد الخمسين أو الستين أو حتى بعد شهر – وماذا يدريه لعله يلاقي ربه لتوه فيضحك منه الشيطان لبلوغه مأربه ويقضي على هذا المرء المسوف بسوء الخاتمة والعياذ بالله فعلينا ديمومة التوبة والاستغفار فقد قال (- صلى الله عليه وسلم -) " يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة (2) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " (3)
كما وأن الشيطان يرغبنا في المعصية: إذ يستولي على قلب المرء وتفكيره في اللحظات الأخيرة من حياته فإذا أراد أقرباؤه تلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه وعهده بالدنيا طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وبذا يكون الشيطان قد نجح وختم للمرء بسوء الخاتمة والعياذ بالله
كما وأن الشيطان قد يدفع بالمرء للانتحار: وربما كان هذا المرء يوصف طوال حياته بالصلاح وإذا به قبل وفاته تصيبه مصيبة يختبره بها الله أيجزع أم يكن من الصابرين فإذا بالشيطان يجعله يقنط من رحمة الله والعياذ بالله ويرغبه في الانتحار كأحسن وسيلة للخلاص من مصيبته فينهي المرء حياته مغضوبا عليه وبذا يكون الشيطان قد نجح وختم للمرء بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
__________
(1) الكهف الآية ( 28 )
(2) مسلم برقم ( 2702 )
(3) ابن ماجه برقم 4250 وإسناد حسن(1/23)
إذن سوء الخاتمة يعني أن تنقضي حياة المرء على معصية فتكون خاتمته سوءا فيعلم أهله وذويه بسوء مآله وخسرانه العظيم
آيات حسن الخاتمة:
إذا كان المرء قد يقضي له بسوء الخاتمة نتاجا لسوء عمله وعصيانه لله فكذا قد يقضى له بحسن الخاتمة وهي دلائل وبشائر إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك تبشيرا لأهله وذويه بحسن ماله ورضاء الله عنه ومن هذه البشائر:-
أولا: نطقه بكلمة التوحيد عند الموت:
بحيث تكون أخر كلامه وعهده بالدنيا لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " من كان آخركلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (1)
ثانيا: أن يموت شهيدا في سبيل الله:
لقوله تعالى " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ , فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (2)
والشهيد كما وأنه من يموت غازيا في سبيل الله فقد أدرج الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) تحت تسمية شهيد من مات وهو محرما بحج لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) في المحرم الذي وقعته ناقته " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " (3)
أيضا من مات دون نفسه أو دون ماله أو دون عرضه فهو شهيد لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) من مات دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد "(4)
__________
(1) أبو داوود 3116 والحاكم 1/351 وصفه الحاكم ووافقه الذهبي
(2) آل عمران: الآية ( 169: 170 )
(3) مسلم برقم 1206
(4) أبو داود 4772 والترمذي برقم 1418 و 1421(1/24)
ثالثا: أن يكون آخر عمله طاعة: " لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة ومن صام ابتغاء وجه الله وختم له بها دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة "(1)
رابعا من يموت صابرا محتسبا بسبب أحد الأمراض الوبائية: كالتي ذكرها (- صلى الله عليه وسلم -) مثل الطاعون لقوله " الطاعون شهادة لكل مسلم "(2) وكذلك السل لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) قتل المسلم شهادة والطاعون شهادة والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة والسل شهادة " (3) أيضا من مات بداء البطن لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " ومن مات في البطن فهو شهيد " (4) وكذلك من ذهب بصره وأحتسب لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه عوضته عنها الجنة " ( رواه البخاري عن طريق أنس بن مالك )
خامسا موت المرأة في نفاسها وبسبب ولدها: لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة " (5)
سادسا الموت بالغرق والحرق والهدم: لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) "الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم " (6)
سابعا الموت ليلة الجمعة أو نهارها: لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر "(7)
__________
(1) احمد 5/391
(2) البخاري 10/156- 157
(3) أحمد 3/289
(4) مسلم برقم 1915
(5) أحمد 4/210 و5/323
(6) مسلم برقم 1915
(7) احمد 2/176(1/25)
ثامنا عرق الجبين عند الموت: لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " المؤمن يموت بعرق الجبين " (1) وحنظله غسيل الملائكة أكبر مثال.. إذ نادى مناد الجهاد فقاتل حتى قتل فملأ وجهه العرق فقال (- صلى الله عليه وسلم -) لمن حوله " أتركوه فإن الملائكة تغسله الآن "(2) فيالها من حسن خاتمة !! فالمرء إذن يختم له بحسن خاتمته وإن مات على معصية ساءت خاتمته كمن يموت وهو يحتسي الخمر أو هو يزني أو وهو في طريقه إلى حانة خمر أو أي مكان للمعصية هل يستوي مع من يموت على صوم أو من هوقائم يصلي أو يحج أو يقاتل في سبيل الله. هل يستويان مثلا. لا والله فهذا يكون أسود الوجه عند موته وذاك يبيض وجهه مستبشرا فرحا بلقاء الله ففرح الله بلقائه " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ , وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ , تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ" (3)
فالذي يموت على طاعة تجد وجهه عند موته مستبشرا بينما من يموت على المعصية فتجد وجهه عابسا عليه غضب من الله والعياذ بالله الأول فرحا بما بشر به والأخر حزنا مما آل إليه
فهكذا حال من مات على الطاعة وحال من مات على المعصية اللهم اجعل ختام حياتنا على طاعتك واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك وصلى الله على سيدنا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وسلم تسليما كثيرا.
الفصل الثاني
حياة البرزخ
__________
(1) الترمذي برقم 982
(2) رجال حول الرسول ( خالد محمد خالد )
(3) آل عمران 106: 108(1/26)
ماذا يحدث بعد الموت هل يستقر البدن في القبر بعد خروج الروح وولوج الجسد فيه إلى يوم القيامة دونما حساب ؟! لا.. بل القبر كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) " إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار "(1) إذن أفي القبر عذاب ونعيم ؟ نعم إذ تبدأ بولوج الجسد القبر حياة البرزخ.. ونعيم أو عذاب البرزخ ليس هو نهاية النعيم أو العذاب بل هو ثاني حلقة من مجموعة الحلقات المكونة لما يسمى بالحياة الآخرة ودليل هذا أن دخول المرء النار لا يكون إلا بعد البعث بعد أن تقوم الساعة وما يحدث في حياة البرزخ هو فقط العرض على النار ورؤية الجنة ويكفي العرض على النار للإحساس بمدى العذاب ويكفي رؤية الجنة للإحساس بمدى النعيم بينما الدخول فيكون يوم تقوم الساعة لقوله تعالى في سورة غافر"النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (2) أي أن آل فرعون سيعذبون في القبر بعرضهم على النار غداة وعشية حتى قيام الساعة فيكون الجزاء النهائي وهو دخولهم الفعلي ليروا أشد العذاب والقول بأنه من مات فقد قامت قيامته " لا يعني أن لكل فرد قيامة خاصة به بل يعني أنه يعرف مآله بمجرد موته أو حتى أثناء احتضاره لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) "أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة "(3) إذن تقوم قيامته تعبير عن علمه مآله إما إلى الجنة وإما إلى النار ثم تأتي حياة البرزخ للعرض على النار للكافرين والإحساس بالعذاب الدائم أو للعرض على الجنة ليرى مقعده والحور العين اللاتي في انتظاره والسرر
__________
(1) رواه الترمذي عن طريق أبي سعيد الخدري وقال هذا حديث غريب - الترغيب والترهيب للمنذري ج 4 ص 129.
(2) غافر آية 46
(3) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي(1/27)
الموضونة وكل أنواع النعيم المقيم ويستمر أمر المرء هكذا حتى قيام الساعة فيدخل المرء إما لجنة عدن وإما لجهنم سقر والعياذ بالله.
ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يبين لنا كيفية الموت وخروج الروح من البدن ثم يبين لنا بعد ذلك حياة البرزخ أي حياة القبر حتى قيام الساعة:
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال ان النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وهو في جنازة رجل من الأنصار وعندما انتهينا إلى القبر وقبل أن يلحد جلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: " استعيذوا بالله من عذاب القبر قالها مرتين أو ثلاثة ثم قال أن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس بيدهم كفن من أكفان الجنة وحنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ويجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج كسيل القطرة من في السقاة ( من الإناء ) فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفخة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه للأرض فإنه منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحة فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فيقولان له وما علمك فيقول قرأت كتاب الله فأمنت به وصدقت فينادي مناد أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا(1/28)
له بابا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر.. قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثوب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك. هذا يومك الذي كنت توعد فيقول ومن أنت فوجهك الوجه الذي يجئ بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يجعلها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) (1) فيقول الله عز وجل أكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه. هاه لا أدري فيقولان له ما دينك فيقول هاه. هاه لا أدري فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه. هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الذي يجئ بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم
__________
(1) الأعراف آية 40(1/29)
الساعة "(1)
ويقول (- صلى الله عليه وسلم -) يقول القبر للميت حين يوضع فيه ويحك يا ابن ادم ما غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود وما غرك بي إذ كنت تمر بي فدادا ( أي تقدم رجل وتؤخر أخرى) فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فيقول القبر فإني أعود عليه خضرا ويعود جسده نورا وتصعد روحه إلى رب العالمين ) (2)
وفي الصحيحين من حديث قتادة عن أنس أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال "إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع خفق نعالهم. أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله قال فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال (- صلى الله عليه وسلم -) فيراهما جميعا أما الكافر والمنافق فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري فيقول له لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين.
__________
(1) وعن هذا الحديث ( أورده أبو داوود في سنته والحاكم في مستدركه والطيالس في مسنده وأحمد في مسنده وورد بلفظه في موارد الظمآن ص 213
(2) ذكر هذا الحديث أبو احمد الحاكم في كتاب الكنى " التذكرة للقرطبي ص109 "(1/30)
وسكان القبور يسمعون السلام الملقى عليهم من الأحياء. قال (- صلى الله عليه وسلم -) ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا ورد عليه السلام (1) وعلمنا (- صلى الله عليه وسلم -) كيفية إلقاء السلام على الميت أو أهل القبور فعن أبي هريرة أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإن شاء الله بكم لاحقون (2) وفي الصحيحين عنه (- صلى الله عليه وسلم -) عندما مر بقتلى بدر فألقوا في قليب ( وهو مكان إلقاء جثث المشركين ) ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم " يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان. هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا فقال له عمر يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا فقال (- صلى الله عليه وسلم -) والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا.. وثبت عنه (- صلى الله عليه وسلم -) " إن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه " (3)
ولكن هل تتزاور أرواح الموتى
نعم فذكر معاوية بن يحي عن عبد الله بن سلمة أن إبراهيم الأصمعي حدثه أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن (- صلى الله عليه وسلم -) قال أن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون: أنظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد فيسألونه: ماذا فعل فلان وما فعلت فلانة ؟ وهل تزوجت فلانة ؟ فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال: فإنه قد مات قبلي: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية ".
كما وأن الميت ليستأنس بمن يزوره من الأحياء لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا إستأنس به حتى يقوم ".
ضمة القبر:
__________
(1) التذكرة للقرطبي ص165
(2) سنن أبو داوود ج 3 ص 219 طبعة دار الكتب العلمية ببيروت..
(3) رواه البخاري في باب الجنائز.(1/31)
قال (- صلى الله عليه وسلم -) عند دفن أبنته رقية إذ جلس عند القبر فتربد وجهه ثم سرى عنه فقال له أصحابه رأينا وجهك أنفا ثم سرى فقال (- صلى الله عليه وسلم -) تذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها وأيم الله لقد ضمت ضمة سمعها من بين الخافقين". (1)
كما ذكر عنه (- صلى الله عليه وسلم -) عند دفن سعد بن معاذ فيما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه (- صلى الله عليه وسلم -) قال: " هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألف من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه "(2)
وهذا يعني أن ضمة القبر حادثة لا محالة مثلها كخروج الروح ولكل روع وهلع والعياذ بالله.
كما أنه روي سفيان الثوري عن عمر بن عبد العزيز عند مرضه وموت ابنه انه قال لابنه عبد الملك وهو مريض كيف تجدك قال في الموت قال لأن تكون في ميزاني أحب إلى أن أكون في ميزانك فقال له والله يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلى من أن يكون ما أحب. فلما مات ابنه عبد الملك قال عمر يا بني لقد كنت في الدنيا كما قال الله عز وجل (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (3) ولقد كنت أفضل زينتها وإني لأرجوا أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خير ثوابا وخير أملا والله ما سرني أن دعوتك من جانب فأجبتني ولما دفنه قام عمر على قبره فقال ( مازلت مسرورا بك فقد بشرت بك وما كنت قط أسر إلى منك اليوم ثم قال اللهم اغفر لعبد الملك بن عمر ولمن استغفر له.. ولما قام الناس له قال يا معشر الناس إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد فإنما يقوم الناس لرب العالمين ) (4)
__________
(1) موارد الظمآن ص 635
(2) موارد الظمآن ص 635
(3) سورة الكهف آية 46
(4) موارد الظمآن ص 635(1/32)
نخرج من هذه المعالجة الموجزة لحياة البرزخ وما سبقها أيضا من ساعات احتضار وموت تساوي آلاف السنين من الألم والمعاناة. نخرج بحقيقة ثلاثية الأبعاد.. فالموت آت لا محالة فلا شفاعة فيه والبرزخ قادم لا ريب فهذا ما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) ونص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى " النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (1) فالبعد الأول إذن هو وجوب الاستعداد ليوم الرحيل إذ الزاد مهما كثر قليل والطريق طويل والاستعداد يكون بالطاعة لا بالمعصية بالإيمان لا بالشرك. بالوحدانية. لا بالتعدد والبعد الثاني هو أننا من التراب وإلى التراب نعود لقوله تعالى " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى " (2) ويعني هذا أنه ما دام التراب أصلنا ومآلنا فلم التكبر عليها والتجبر وهناك الجبار الأكبر فهنيئا لمن تواضع وأسلم أمره إلى الله تعالى فلا عز بغير طاعة ولا غني بغير قناعة ولا نجاح ونجاة وفلاح بغير اجتهاد في العبادة والاصطبار عليها. وأما البعد الثالث فهو قضية الحياة كلها فإن كان مآلنا لا محالة إلى الموت فالبرزخ فثم ساحة اعدل العادلين فلم إذن التكالب والتصارع عليها وهي قصيرة الأمد عديمة الفائدة سوى من عمل صالح يغتنمه المرء أو صدقة جارية تنفعه.. والإيمان بهذه الأبعاد الثلاثة أمر واجب إذا أصاب نفس المرء علم تام بأنه لا رازق غير الله. ولا مغن غيره ولا معز غيره. " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (3) وإن قال المرء هذا على علم ويقين أمن أنه لن يضره الجن والإنس ولو
__________
(1) غافر الآية 46
(2) طه آية 55
(3) آل عمران آية 26(1/33)
اجتمعوا على قلب رجل واحد إلا بشيء قد كتبه الله عليه ولن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له فعن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فقال يا غلام إني أعلمك كلمات فأحفظها عني أحفظ الله يحفظك. أحفظ الله تجده تجاهك.. إذا سألت فاسال الله وإذا استعنت فأستعن بالله وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.. ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.. رفعت الأقلام وجفت الصحف " (1) ومادام أن الأمر كله إلى الله فحري بنا ألا نخرج من ساحته وألا ننس أنه مهما طالت الحياة فأمران ينتظران المرء حتما هما الموت وحياة البرزخ بكل ما سلف تبيانه من عذاب ونعيم حتى دار العذاب ودار النعيم
الفصل الثالث
البعث بين القرآن والسنة
__________
(1) رواه البخاري_رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح(1/34)
ليس بموت الإنسان تقع النهاية بل البداية لحياة أخرى سرمدية خالدة ولكن ما يفصل هذه عن تلك هو يوم كان عند ربك كألف سنة مما تعدون فيه يبسط الله عدله وتوفى كل نفس ما عملت " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ " (1) ولقد سمى المولى تبارك وتعالى هذا اليوم بأسماء عديدة مثل القارعة – الواقعة - الحاقة - الغاشية - يوم التغابن - يوم التناد - يوم الفصل - الخ ولكل اسم من هذه الأسماء وغيرها دلالة خاصة على ما لهذا اليوم من فزع ورهبة وعظيم شأن ورغم أن المولى تبارك وتعالى قد بين كيفية حدوث ذلك اليوم وأوضح رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) ذلك إلا أنه لم يحدد ميقات حدوثه لقوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا , فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا , إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا " (2) ولكن المعلوم حقا هو أن حياة البرزخ تبدأ بدخول المتوفى القبر وحتى ينفخ في الصور والذي هو ميقات البعث إذن الأمر معلوم لديه مجهول لدينا فأمره محصور بين الكاف والنون " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " (3) وإن كان الميقات أخفاه فإن الكيفية قد أبانها سواء بين آيات القرآن الكريم أو على لسانه (- صلى الله عليه وسلم -) الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي
ولكن قبل البيان والتبيين علينا أن نسأل ما دليل بدء البعث بالنفخ في الصور ؟
__________
(1) الزلزلة الآية 7- 8
(2) النازعات الآية 42: 44
(3) النحل الآية 40.(1/35)
علينا بداية أن نعلم أن النفخ في الصور سبقع على مرتين الأولى لأجل الفناء الكوني التام والثانية فهي للبعث والنشور ودليل ذلك قوله تعالى " يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ , تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ " (1) وأيضا قوله تعالى " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ , وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ , وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " (2) ويفصل النفختين أربعين كما جاء ذلك في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال " قال (- صلى الله عليه وسلم -) بين النفختين أربعون.. قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت.. قالوا أربعون سنة قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت والنفخ في الصور – أمر مقضي فيه لقوله تعالى " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ"(3) وقوله " فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ" (4) وصولا لسورة النبأ " يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً " (5) إذن بمجرد النفخ في الصور يقع يوم البعث.
الصورة قبل النفخ في الصور وبعده:
__________
(1) النازعات الآية 6-7
(2) الزمر الآية 67 – 69
(3) الحاقة الآية 13
(4) المدثر الآية ( 8 )
(5) النبأ الآية ( 18 )(1/36)
فالبعث إذن تغيير لكل سنن الكون فإذا كان كل كوكب يسير في مجال ثابت مع الكواكب الأخرى وحول الشمس دونما تغيير أو اهتزاز لقوله تعالى" لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (1) وإذا كانت الجبال رواكز في الأرض راسخات لقوله تعالى " وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (2).
__________
(1) يس الآية ( 40 )
(2) النحل الآية ( 14 )(1/37)
وإذا كانت السماء تتناثر النجوم فيها تزينها وتجملها لقوله تعالى في سورة الملك "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ " (1) وقوله في سورة الصافات "إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ " (2) وإذا كان ناموس الحياة أن زينة الناس هي النساء والبنين والأموال والأملاك وغيرها لقوله تعالى في سورة آل عمران " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ " (3) وإذا كانت الغرائز هي محاور الحياة ما بين خيرها وشرها فمنها غريزة الأمومة فالأم تضحي بنفسها لأجل رضيعها أو ولدها وإذا كانت البحار تتلاطم أمواجها في منظر مبدع جميل وكذا القمر يرسل أضوائه الفضية الحالمة وإذا كان هذا هو حال الأرض وما عليها أفلا نتذكر من فيها ومن بداخلها إنهم أهل القبور أنهم أهل حياة البرزخ السابق الإشارة إليهم في الفصل السابق.. وإذا كانت الحياة تسير سيرها العادي فإذا بالنفخ في الصور.. النفخة الأولى كما بينا فهي للفناء الكوني التام ولم لا فهناك من لازالوا على قيد الحياة فتنقضي الحياة ويموت كل ما فيها وما عليها حتى ملك الموت نفسه فيؤمر فيقبض ويقول جل جلاله.. لمن الملك اليوم ؟ فلا أحد يجيب ثم يجيب على نفسه: لله الواحد القهار (4) هنا يفنى العالم كله الأرض بمن عليها والسماوات بمن فيها إلا وجه الله !!.
__________
(1) الملك الآية ( 5 )
(2) الصافات الآية ( 6 )
(3) آل عمران الآية ( 14 )
(4) لقوله تعالى " يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" غافر الآية ( 16 )(1/38)
فنجد الأرض وقد دكت دكة واحدة لقوله تعالى في سورة الحاقة " وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً " (1) كما أن الأرض أيضا ستتسع رقعتها كثيرا لتستوعب كل هذه الخلائق والتي ألقت من باطنها إذعانا وتنفيذا لأمر الله لقوله تعالى في سورة الانشقاق " وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ , وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ , وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ "(2) وقوله تعالى في سورة الزلزلة " إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا , وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا"(3)
دليل على زلزلتها فيفزع من عليها ويخرج من باطنها من فيها كما أنها ستتبدل الأرض وتتحول لخلقة أخرى غير التي عهدناها لقوله تعالى في سورة إبراهيم " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ "(4).
كما أننا سنجد الجبال وقد نسفها الله: لقوله تعالى في سورة طه "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً " (5) وسيتم دكها لقوله في سورة الحاقة " وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة " كما أنها ستتحرك وتسير حتى تصير سربا لقوله تعالى في سورة النبأ " وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً " (6) وقوله تعالى في سورة التكوير "وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ " (7) وسيساعد خفتها حينئذ سيرها لكونها كالصوف لقوله تعالى في سورة القارعة " وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" (8).
__________
(1) الحاقة الآية ( 14 )
(2) الانشقاق الآية (3: 4)
(3) الزلزلة الآية ( 1 : 2 )
(4) إبراهيم الآية ( 48 )
(5) طه الآية ( 105 )
(6) النبأ الآية ( 20 )
(7) التكوير الآية ( 3 )
(8) القارعة الآية ( 5 )(1/39)
كما أننا سنجد الكواكب والنجوم وقد تخلت عن قانون بعدها الثابت وفلكها المرسوم لها فتناثرت وتساقطت وتلاشت لقوله تعالى في سورة الانفطار " وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ "(1) وفي سورة التكوير " وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ " (2).
كما أن القمر نراه وقد ذهب ضوءه فيما يسمى بالظاهرة الكونية الخسوف لقوله تعالى في سورة القيامة " فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ , وَخَسَفَ الْقَمَرُ" (3)
كما أن السماء ستنشق لضعفها لقوله تعالى في سورة الحاقة "وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ " (4) وفي سورة الانفطار " إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ " (5) أي انشقت وفي سورة الانشقاق " إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ , وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ " (6) كما أنها ستطوى بمقدرة الله وتكشف لقوله تعالى في سورة الأنبياء " يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ" (7).
كما أن الشمس سيتم لفها ويذهب نورها لقوله تعالى في سورة التكوير " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ , وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ , وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ , وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ , وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ , وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ , وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ " (8).
__________
(1) الانفطار الآية ( 2 )
(2) التكوير الآية ( 2 )
(3) القيامة الآية ( 7: 8 )
(4) الحاقة الآية ( 16 )
(5) الانفطار الآية ( 1 )
(6) الانشقاق الآية ( 1: 2 )
(7) الأنبياء الآية ( 104 )
(8) التكوير الآية ( 1: 7 )(1/40)
إذن الجبال ستسير وتتحرك لقوله تعالى " وإذا الجبال سيرت " أيضا إناث النوق ستعطل دونما حلب أو راع لقوله تعالى " وإذا العشار عطلت " حتى أن الوحوش وهي الحيوانات المتوحشة سيتم حشرها من قبل المولى سبحانه وتعالى لقوله تعالى " وإذا الوحوش حشرت " حتى أن البحار ستتحول إلى نار مستعرة متأججة لقوله تعالى " وإذا البحار سجرت " حتى أن الأنفس فنراها وقد زوجت واقترنت بالأبدان ثانية اقترانا حقيقيا لقوله تعالى " وإذا النفوس زوجت " واستدراكا فإن كل المخلوقات يتم حشرها يوم القيامة ثم تكون ترابا ما عدا الثقلين وهما الإنس والجن فاما إلى الجنة وإما إلى النار.. وفي هذا الموقف يتحسر الكافر على نفسه ويود أن يكون حيوانا ويصير مصيره إلى ما صاروا إليه من تراب وأن ينجيه الله من العذاب ولكنها ساعة لا ينفع فيها الندم لقوله تعالى " وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً " (1).
أما الأواصر والروابط الأسرية والدموية فلكل شغله الشاغل لقوله تعالى في سورة عبس "يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ , وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ , لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " (2) فالفرار والهروب والانشغال والفزع هو حال العباد والكون وكل الخلائق ولم يعد للمرء سوى عمله الذي قدم يرتكز عليه دونما حسب أو مال أو ولد.. فترى الوجوه وقد اختلفت فهناك المستبشر المطمئن ذو الوجه الأبيض المتهلل ذو العمل الحسن وهناك غبر الوجه المتشائم حسرة لكفره وسوء عمله لقوله تعالى " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ , ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ , وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ , تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ , أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ " وقوله تعالى " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ " (3).
__________
(1) النبأ الآية ( 40 )
(2) عبس الآية ( 34 )
(3) عبس الآية (38: 42 ) وال عمران الآية (6 )(1/41)
كما أن الإخلاء في الدار الدنيا على معصية نجدهم أعداء يوم القيامة إلا المتقين فهم أحباء في طاعة الله في الدنيا وفي الآخرة لقوله تعالى " الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " (1).
كما وأن المنافقين نراهم يطلبون من المؤمنين انتظارهم ليهتدوا بنورهم على المسير فيؤمروا بالرجوع ثم يضرب من قبل الله تعالى بحائط بينهم باطنه فيه الرحمة من جهة المؤمنين وظاهره فيه العذاب من جهة المنافقين لقوله تعالى "يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ " (2)
__________
(1) الزخرف الآية ( 67 )
(2) الحديد الآية ( 13 )(1/42)
وهنا وكما نرى فقد استعدت كل الخلائق للحساب فلقد انقضى البعث وتغيرت كل سنن الكون الدنيوية وتحطمت كل البناية وتهدمت وأصبح الناس عرايا كما خلقهم الله أول مرة وأصبحوا فرادى كما خلقهم الله أول مرة.. وكل منهم أصبح في شأن يغنيه هوله عن شأن أخيه وشأن أمه وأبيه فلا ولد ولا والد ولا أخت ولا أخ ولا خليلة ولا صديق ولا حميم ولا شفيع إلا العمل الصالح والأيمان بوحدانية الله وإتباع صراطه الذي رسمه لنا ورسوله الذي أرسل ألينا. حتى أن الجنة فنراها وقد تزينت واستعدت لملاقاة ساكنيها لقوله تعالى " وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ " (1) والنار أيضا قد تسعرت ترصدا للكافرين لقوله تعالى "إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً , لِلْطَّاغِينَ مَآباً" (2)وقوله تعالى " وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ " (3) كما أنها ستسأل لقول تعالى" يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ " (4).
كما أن وقودها سيكون الناس والحجارة: لقوله تعالى " وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " (5).
كما وأن أهلها سيمعن في إذلالهم وتعذيبهم: فإذا ما تآكلت جلودهم بدلهم الله غيرها ليذوقوا العذاب.
__________
(1) التكوير الآية ( 13 )
(2) النبأ الآية ( 22 )
(3) التكوير الآية ( 12 )
(4) ق الآية ( 30 )
(5) البقرة الآية ( 24 )(1/43)
هنا وأمام هذا المشهد المريع والمفزع والخلائق كل في اتجاه وفي شغل من أمره فجأة: تنشق السماء بيسر شديد لمدى ضعفها ووهنها وإذا بعرش الرحمن يحمله ثمانية من الملائكة بينما يصطف الملائكة على أرجاء السماء في منظر ومشهد مهيب لا يمكن وصفه ولا من قبيل التقريب والإشارة ولكن فقط مصداقا لقوله تعالى في سورة الحاقة " وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ , وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ " (1) هنا قد بدأ يوم الحساب وكيف لا والحق سبحانه وتعالى يقول في سورة القيامة " فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ , وَخَسَفَ الْقَمَرُ , وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ , يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ , كَلَّا لَا وَزَرَ , إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ " (2) فالشمس والقمر مجموعان في هذا اليوم.. وبرق وومض النظر والرؤية قد أخذت بالألباب من الدهشة والحيرة مما كان يكذب المرء وها هو اليوم واقع أمامه فيقول كيف لي المفر فيكون الجواب كلا لا ملجأ تتحصن به فكل الخلائق مستقرون أمامه سبحانه وتعالى.
__________
(1) الحاقة الآية ( 16 )
(2) القيامة الآية ( 7: 12 )(1/44)
ويذكر المولى يوم القيامة بيوم الفصل فيقول في سورة النبأ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً , يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً , وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً , وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً , إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً , لِلْطَّاغِينَ مَآباً " (1) ويعيد المولى ذكره بتعبير قوي في سورة النازعات " يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ , تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ , قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ , أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ , يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ , أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً , قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ , فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ , فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ " (2) والآيات واضحة الدلالة على ما سبق تبيانه في وصف ذلك اليوم وقسوته أيضا قوله تعالى في سورة النمل "فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ"(3) أي صاغرين طائعين ويوصف هذا اليوم بأنه غير يسير على الكافرين لقوله تعالى في سورة المدثر " فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ , فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ , عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ " (4) كما أنه في هذا اليوم ينادى كل إنسان بإمامه فهناك حزب الشيطان وهناك من أتخذ من هواه إمامه وهناك من إتبع ما أنزل الله على نبيه وأمن ووحد فكل ينادى بإمامه. وذلك لقوله تعالى في سورة الإسراء " يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ "(5).
__________
(1) النبأ الآية ( 17: 22 )
(2) النازعات الآية ( 6: 14 )
(3) سورة النمل الآية ( 87 )
(4) سورة المدثر الآية ( 8 )
(5) الإسراء الآية ( 71 )(1/45)
ويزيد رب العزة في تبيان ذلك اليوم كيلا يكون لنا حجة علية: فيقول في سورة الزلزلة " إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا , وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا , وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا , يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا , بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا , يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ , فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ " (1) كما يقول في سورة الحج " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ , يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ "(2) وهذه الآية لا تحتاج لبيان فالهول ظاهر وعظم اليوم واضح وجلي ويكفينا أن المرضعة ترمي بمن ترضع.. أحن واحدة عليه وأغلى من لها بين يديها فتضمه دائما إلى صدرها فإذا هي الآن ترميه وتلقيه عنها تخلصا منه وانشغالا بنفسها. كما أن الحامل المتباهية بحملها ستلده من هول الصاعقة ميلادا مبسترا ( قبل الميعاد ) فالرعب كفيل بذلك والناس يترنحون تائهين مذهولين وكأنهم سكارى لكنهم غير ذلك كل ما هناك أن بطش ربك لشديد !!.
__________
(1) الزلزلة الآية من 1: 8
(2) الحج الآية ( 1: 2 )(1/46)
وأيضا قوله تعالى زيادة في التذكير بهذا اليوم والتحذير منه " الْقَارِعَةُ , مَا الْقَارِعَةُ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ , يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ , وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ , فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ , فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ , وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ , فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ , نَارٌ حَامِيَةٌ " (1) وعلينا أن نتذكر حديث رسول الله(ص) (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت , إذا السماء انفطرت , إذا السماء انشقت) (2) والمقصود أن يقرأ سورة التكوير والتي يقول الحق سبحانه وتعالى: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ , وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ , وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ , وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ , وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ , وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ , وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ , وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ , بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ , وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ , وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ , وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ, وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ , عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ " (3) وكذا قراءة سورتي الانفطار والانشقاق.
وتعني السماء قشطت " أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاه فهنا قد علمت كل نفس في هذا اليوم العصيب ما أحضرت قبلا من خير أو شر.
__________
(1) القارعة ( الآية 1: 11)
(2) رواه الترمذي – الترغيب والترهيب جـ 2 ص 223
(3) سورة التكوير الآيات ( 1: 14 )(1/47)
أيضا قوله في سورة الانفطار " إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ , وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ , وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ , وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ , عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ " (1) أيضا زيادة في إيضاح هذا اليوم العصيب يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الانشقاق "إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ , وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ , وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ , وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ , وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ , يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ , فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ , فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً , وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً , وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ , فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً , وَيَصْلَى سَعِيراً "(2).
كما يصفه الحق في سورة المزمل " فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً " (3)من الروع والفزع والهلع والذي فيه يقول الكافر" مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ , هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ " (4) أما من أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى فكما أن معيشته جعلها الله ضنكا عليه كذلك يحشره أعمى لقوله تعالى في سورة طه " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى , قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً , قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى"(5).
__________
(1) سورة الانفطار الآية ( 1: 5 )
(2) سورة الانشقاق الآية ( 1: 12 )
(3) سورة المزمل الآية ( 17 )
(4) سورة الحاقة الآية ( 28: 29 )
(5) سورة طه الآية ( 124: 126 )(1/48)
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نتناول ما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) بخصوص قضية البعث منذ النفخ في الصور وحتى الحساب.
وعلينا قبل أن نتناولها أن نسوق مزيدا من الأدلة على حدوث البعث كي لا يكون للمكذبين حجة أمام المولى سبحانه وتعالى ومن ثم سنورد الأدلة الأربعة ثم نعقبها بما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) بخصوص قضية البعث
الدليل الأول: قياس البدئ على الإعادة: أي أن رب العزة قد قاس إعادة الخلق على بدئه أول مرة فقال في سورة الأنبياء " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"(1).
الدليل الثاني: قياس البعث على خلق السماوات والأرض: فقال في سورة يس " أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ"(2).
الدليل الثالث: قياس البعث على إحياء الأرض بالماء: لقوله تعالى في سورة فصلت " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(3).
الدليل الرابع: قياس البعث على اليقظة بعد النوم: لقوله تعالى في سورة الزخرف " وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ" (آية رقم 11).
البعث في بيان السنة:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية ( 104 )
(2) سورة يس الآية ( 81 )
(3) سورة فصلت الآية ( 39 )(1/49)
أولا: النفخ في الصور: ذكر أحمد بن الحسن النحوي الأبلى قال ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل عن إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة فقال ان الله عز وجل لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخصا بصره الى العرش ينتظر متى يؤمر قلت يا رسول الله وما الصور قال القرن قلت كيف هو قال عظيم والذي بعثني بالحق ان عظم دارة فيه كعرض السماوات والأرض ينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات والأرض الا من شاء الله فيأمره فيديمها ويطيلها ولا يفتر وهي التي يقول الله عز وجل( وما ينظر هؤلاء الا صيحة واحدة ما لها من فواق) فيسير الله عز وجل الجبال فيمر سير مر السحاب فتكون سرايا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الامواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الرياح وهو الذى يقول الله( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة) فيميد الناس على ظهرهاووجهها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها وترجع ويولي الناس مدبرين ما لهم من الله من عاصم ينادي بعضهم بعضا وهو الذي يقول الله (يوم التناد )فبينا هم على ذلك إذ تصدعت الأرض تصدعين من قطر الى قطر فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ثم تطوى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت السماء فانتثرت نجومها وخسفت شمسها وقمرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك قال أبو هريرة يا رسول الله من استثنى الله(1/50)
عز وجل حين يقول ففزع من في السماوات ومن في الأرض الا من شاء الله قال أولئك الشهداء إنما يصل الفزع الى الاحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون فوقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه وهو الذي يقول الله عز وجل ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) فيكونون في ذلك البلاء ما شاء الله الا أنه يطول ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل بنفخة الصعق فيصعق أهل السماوات والأرض الا من شاء الله فإذا هم قد خمدوا جاء ملك الموت الى الجبار عز وجل فيقول يا رب قد مات أهل السماوات والأرض الا من شئت فيقول الله عز وجل وهو أعلم بمن بقى فمن بقى فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت حملة عرشك وبقى جبريل وميكائيل وبقيت أنا فيقول الله عز وجل ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل فيقول الله اسكت فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي فيموتان فيجيء ملك الموت الى الجبار فيقول أي رب قد مات جبريل وميكائيل فيقول الله عز وجل وهو أعلم بمن بقى فيقول بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت حملة عرشك وبقيت أنا فيقول الله عز وجل فليمت حملة عرشي فيموتون فيأمر الله عز وجل العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت عليه السلام الى الجبار فيقول يا رب قد مات حملة عرشك فيقول الله عز وجل وهو أعلم بمن بقي: فمن بقى؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا فيقول الله عز وجل أنت من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق الا الله الواحد القهار الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد كان آخرا كما كان أولا طوى السماوات والأرض طي السجل للكتاب ثم دحاهما ثم تلقفهما ثلاث مرات ثم يقول أنا الجبار أنا الجبار ثلاثا ثم هتف بصوته لمن الملك اليوم لمن(1/51)
الملك اليوم ثلاث مرات فلا يجيبه أحد ثم يقول لنفسه لله الواحد القهار يقول الله عز وجل يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ثم يمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في مثل هذه المبدلة في مثل ما كانوا فيها من الأول من كان في بطنها كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ثم ينزل الله عز وجل عليهم ماء من تحت العرش ثم يأمر الله عز وجل السماء ان تمطر فتمطر أربعين يوما حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ثم يأمر الله عز وجل الأجساد ان تنبت فتنبت كنبات الطراثيث أو كنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله عز وجل لتحيى حملة عرشي فيحيون ويأمر الله عز وجل إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ثم يقول ليحي جبريل وميكائيل فيحييان ثم يدعو الله عز وجل الأرواح فيؤتي بها توهج أرواح المؤمنين نورا وأرواح الآخرين ظلمة فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح الى جسده فيدخل الأرواح في الأرض الى الأجساد فيدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنهم وأنا أول من تنشق الأرض عنه فيخرجون منها سراعا وإلى ربكم تنسلون مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر حفاة عراة غرلا ثم يقفون موقفا واحدا مقداره سبعون عاما لا ينظر إليكم ولا يقضي بينكم فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يدمعون دما وتعرقون حتى يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الاذقان فتضجون وتقولون من يشفع لنا الى ربنا فيقضي بيننا فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأتي ويقول ما أنا بصاحب ذلك فيستنصرون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاؤوا نبيا(1/52)
أبي عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتوني فانطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجدا قال أبو هريرة يا رسول الله ما الفحص قال قدام العرش حتى يبعث الله عز وجل الى ملكا فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي يا محمد فأقول نعم لبيك يا رب فيقول الله عز وجل ما شأنك وهو أعلم فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقضي بينهم فيقول الله عز وجل قد شفعتك أنا آتيكم أقضي بينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فهالنا فنزل أهل السماء الدنيا بمثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنور ربهم وأخذوا مصافهم قلنا لهم أفيكم ربنا قالوا لا وهو آت ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظل من الغمام والملائكة ويحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسماوات الى حجرهم والعرش على مناكبهم لهم زجل من تسبيحهم يقولون سبحان ذي العرش ذى القوة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح سبحان الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ثم يهتف بصوته فيقول يا معشر الجن والإنس اني قد انصت لكم منذ خلقتكم الى يومكم هذا اسمع قولكم وأبصر أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه ثم يأمر الله عز وجل جهنم فيخرج منها عين عنق ساطع ثم يقول ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ) ألم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنت توعدون اوبها تكذبون- شك عاصم- وامتازوا اليوم أيها المجرمون فيميز الله الناس وتجثوا الأمم يقول الله عز وجل وترى كل أمة(1/53)
جاثية كل أمة تدعي الى كتابها اليوم تجزون ما كنت تعملون فيقضي الله عز وجل بين خلقه الا الثقلين الجن والإنس فيقضي الله تعالى بين الوحوش والبهائم حتى انه ليقضي للجماء من ذوات القرن فإذا فرغ الله من ذلك لم تبق تبعة عند واحدة لاخرى قال الله عز وجل لها كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ثم يقضي الله بين العباد فكان أول ما يقضي فيه الدماء ويأتي كل قتيل في سبيل الله ويأمر الله عز وجل كل من قتل فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول يا رب فيم قتلني هذا فيقول وهو أعلم فيم قتلتهم فيقول قتلتهم لتكون العزة لك فيقول الله عز وجل له صدقت فيجعل الله عز وجل وجهه مثل نور الشمس ثم تمر به الملائكة الى الجنة ويأتي كل من قتل على غير ذلك فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول يا رب فيم قتلني هذا فيقول وهو أعلم لم قتلتهم فيقول يا رب قتلتهم لتكون العزة لي فيقول تعست ثم لا تبقى نفس قتلها الا قتل بها ولا مظلمة ظلمها الا أخذ بها وكان فى مشيئة الله عز وجل ان شاء عذبه وان شاء رحمه ثم يقضي الله عز وجل بين من شاء ممن بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لاحد عند أحد الا أخذ بها للمظلوم من الظالم حتى انه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء فإذا فرغ الله عز وجل من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد من دون الله الا مثلت له آلهته بين يديه ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى ثم قادتهم آلهتهم الى النار وهو الذي يقول( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون) فإذا لم يبق الا المؤمنون فيهم المنافقون جاءهم الله عز وجل فيما شاء من هيأته فقال يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتهم وما كنتم تعبدون فيقولون والله ما لنا إله إلا الله عز وجل وما كنا نعبد غيره فينصرف(1/54)
عنهم وهو الله الذي يأتيهم فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يأتيهم فيقول يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون والله ما لنا إله الا الله وما كنا نعبد غيره فيكشف لهم عن ساقه ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم فيخرون للأذقان سجدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر ثم يأذن الله تبارك وتعالى لهم فيرفعون ويضرب الله عز وجل الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة أو كحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان دونه جسر دحض مزلة فيمرون كطرف العين أو كلمح البصر أو كمر الريح أو كجياد الخيل أو كجياد الركاب أو كجياد الرجال فناج سالم وناج مخدوش ومكدوش على وجهه في جهنم فإذا أفضى أهل الجنة الى الجنة قالوا من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم خلقه الله عز وجل بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله فيؤتي نوح فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول ما أنا بصاحب ذلك ويقول عليكم بإبراهيم فإن الله عز وجل اتخذه خليلا فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول ما انا بصاحب ذلك ويقول عليكم بموسى فإن الله عز وجل قربه نجيا وكلمه وأنزل عليه التوراة فيؤتى موسى صلى الله عليه وسلم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول لست بصاحب ذلك ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى بن مريم عليه السلام فيؤتى عيسى بن مريم فيطلب ذلك إليه فيقول ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن فانطلق فأتي الجنة فآخذ بحلقة الباب فاستفتح فيفتح لي فأحيا ويرحب بي فإذا دخلت الجنة فنظرت ونظرت الى ربي خررت ساجدا فيأذن قد أذن الله عز وجل لي من حمده تحميده وتمجيده بشيء ما أذن به(1/55)
لاحد من خلقه ثم يقول عز وجل ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع وسل تعطه فإذا رفعت رأسي يقول الله عز وجل وهو أعلم ما شأنك فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة فيقول الله عز وجل قد شفعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول والذي نفسي بيده بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل كل رجل واحد منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله عز وجل وثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما في الدنيا فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوته على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجا من سندس واستبرق ثم انه يضع يده بين كتفيها ثم ينظر الى يده من صدرها ووراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر الى مخ ساقيها كما ينظر أحدكم الى السلك في قصبة الياقوت كبدها له مرآة فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ما يأتيها ولا يأتيها من مرة الا وجدها عذراء ما يفتر ذكره وما يشتكي قبلها فبينما هو كذلك إذ نودي انا قد عرفنا انك لا تمل ولاتمل لانه لا منى ولا منية الا أن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت له والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ولا في الجنة شيء أحب إلي منك وإذا وقع أهل النار في النار وقع فيها خلق من خلق ربك أوبقتهم أعمالهم فمنهم من تأخذ النار قدميه لا تجاوز ذلك ومنهم من تأخذه الى انصاف نصف ساقية ومنهم من تأخذه الى ركبتيه ومنهم من تأخذه الى حقويه ومنهم من تأخذ جسده كله الا وجهه حرم الله صورته عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول يا رب شفعني في من وقع في النار فيقول الله عز وجل أخرجوا من عرفتم فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن الله عز وجل في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد الا شفع فيقول الله عز وجل أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة الدينار ايمانا فيخرج أولئك(1/56)
حتى لا يبقى منهم أحد ثم يشفع الله فيقول أخرجوا من وجدتم في قلبه ايمانا ثلثي دينار نصف دينار ثم يقول ثلث دينار ثم يقول ربع دينار ثم يقول قيراط ثم يقول حبة من خردل فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط ولا يبقى أحد له شفاعة الا شفع حتى ان إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله عز وجل رجاء ان يشفع له ثم يقول بقيت وأنا أرحم الراحمين فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره كأنهم حمم فيلقون على في نهر يقال له نهر الحيوان فينبتون كما تنبت في حميل السيل فما يلي الشمس منها أخيضر وما يلي الظل منها أصيفر فينبتون كنبات الطراثيث حتى يكونوا مثل أمثال الدر مكتوب في رقابهم الجهنميون عتقاء الرحمن يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب ما عملوا خيرا قط فيمكثون في الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم ثم يقولون امح عنا هذا الكتاب فيمحوا الله عزوجل.(1)
__________
(1) ورد بكتاب الأحاديث الطوال للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني برقم 36 مطبعة الأمة للنشر بغداد(1/57)
*عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي(ص) فقال ما الصور ؟ قال: قرن ينفخ فيه " (1) والنفخ في الصور هو بداية البعث وبأتي بغتة فيفزع منه من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ودليل المفاجأة ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال (- صلى الله عليه وسلم -) تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء وتنتشر حتى تملأ السماء ثم ينادي مناديا يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه.. قال (- صلى الله عليه وسلم -) فوالذي نفسي بيده أن رجلين ينشران الثوب فلا يطويانه وأن الرجل ليمدر حوضه فلا يسقي منه شيئا أبدا والرجل يحلب ناقته فلا يشربه أبدأ " (2) وقد أورد الإمام بن جرير في حديث الصور عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال (- صلى الله عليه وسلم -): " إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخصا ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر ". قال ابو هريرة يا رسول الله وما الصور ؟ قال: ( قرن ) قال: فكيف هو ؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين.. يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر وهى التي يقول الله تعالى: " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " فتسير الجبال فتكون ترابا وترج الأرض بأهلها رجا وهي التي يقول الله تعالى: " يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة " فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه
__________
(1) رواه أبو داوود والترمذي وقال حديث حسن و بن حبان في صحيحه " الترغيب والترهيب" جـ4 ص 190
(2) رواه الطبراني بإسناد جيد " الترغيب والترهيب جـ 4 ص 191 "(1/58)
الأرواح فيمتد الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهي التي يقول الله تعالى: " يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد " فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ورأوا أمرا عظيما فأخذهم لذلك من الكرب ما الله اعلم به فإذا نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم خسف شمسها وقمرها وانتثرت نجومها ثم كشطت عنه – قال (- صلى الله عليه وسلم -): والأموات لا يعلمون بشئ من ذلك قال أبو هريرة فمن استثنى الله حين يقول ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " قال: أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء أولئك الأحياء عند ربهم يرزقون ووقاهم الله شر ذلك اليوم وأمنهم وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه وهو الذي يقول الله يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد "(1)
ثانيا: بعث كل عبد على ما مات عليه:
ورد بمسلم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) يقول يبعث كل عبد على ما مات عليه".
ثالثا: كيفية بعث النبي (- صلى الله عليه وسلم -) من قبره:
أخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: حدثنا بشر بن خالد قال: حدثنا سعيد بن سلمة عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال: خرج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ويمينه على أبي بكر وشماله على عمر فقال(هكذا نبعث يوم القيامة).
رابعا: حشر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) يوم القيامة:
__________
(1) الحديث رواه الطبراني وبن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم وورد بتفسير بن كثير سورة الحج آية 1(1/59)
عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " قال (- صلى الله عليه وسلم -) أحشر يوم القيامة بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى أقف بين الحرمين فيأتي أهل الدينة ومكة"(1).
خامساً: طول اليوم ووقوف الخلائق فيه:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال " يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " فقيل: ما أطول هذا اليوم فقال (- صلى الله عليه وسلم -): والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة" (2).
سادساً: كيفية العرض يوم القيامة (وهل سنرى الله في هذا اليوم):
عن أبي سعيد الخدري قال: إن أناسا زمن رسول (- صلى الله عليه وسلم -) قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟
__________
(1) ورد بالتذكرة للقرطبي ص 240 ( غريب من حديث بن مالك تفرد به عبد الله ابن إبراهيم عنه )
(2) رواه احمد وابو يعلى وابن حبان في صحيحه كلهم عن طريق دراج بن الهيثم وقد ورد بالترغيب والترهيب جـ 4 ص 196(1/60)
فقال (- صلى الله عليه وسلم -) هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟! وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما (الشمس والقمر) وأردف (- صلى الله عليه وسلم -) قائلا: فإذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبقى إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فيدعوا اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ قالوا كنا نعبد عزير بن الله , فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون ؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار: ألا ترون ؟؟! ( سخرية من مطلبهم إذ يشار بهم لسراب خادع كالماء ) فيحشرون للنار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون فيها. ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ قالوا كنا نعبد ( المسيح بن الله ) فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون ؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فيشار بهم كما سبق ويقال لهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار. ثم إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر أو أهل الكتاب , أتاهم رب العالمين ماذا تنتظرون قالوا: فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم اللهم سلم..(1).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم(1/61)
كما روى أبو هريرة قال: قلت يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فكان رده (- صلى الله عليه وسلم -) هل تضارون من رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب أو رؤية القمر بدرا ليس معه سحاب قال قلت: لا يا رسول الله. قال (- صلى الله عليه وسلم -) ما تضارون من رؤيته إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. ثم يلقى العبد فيقول له: ألم أكرمك وأسودك. وأزوجك واسخّر لك الجبال والإبل. وأذرك ( أتركك ) ترأس وترتع ؟! فيقول: لا: فيقول الله إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول له. ويقول مثل ذلك بعينه !! ثم يلق الثالث فيقول له. فيقول يارب أمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وتصدقت وصمت ويثني بخير ما استطاع. قال فيقول: ها هنا إذا ثم يقول: الآن نبعث شاهدا عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه , ويقال لفخذه أنطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه ( أي يرى عيب نفسه ) وذلك هو المنافق ذلك الذي يسخط الله عليه وقد قال تعالى: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(1) وإذا نظر فيه ورأى أنه قد هلك فإن أدركته سابقة حسنة وضعت له ( لا إله إلا الله ) في كفة فرجحت كل السماوات والأرض , وفي رواية " فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ".
سابعاً: ما روي في عرق الناس يوم القيامة:
ما رواه مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال) إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وأنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو أذنهم.).. شك ثور أيهما. (أخرجه البخاري)(2).
__________
(1) سورة الإسراء الآية ( 14 )
(2) ثور ( هو أحد رواة الحديث )(1/62)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما – عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (1) قال " يوم يقوم أحدهم في رشحة إلى نصف أذنيه " أخرجه البخاري والترمذي وقال حديث صحيح ومرفوع ( أي منسوب له (- صلى الله عليه وسلم -) ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ( قال ): تلا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) هذه الآية ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ثم قال " كيف بكم إذا جمعكم الله عز وجل كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ". وقال الوائلي ( حديث جيد الإسناد ) (2)
ثامنا ما ورد عن حر الشمس يوم القيامة.. ومن ينجيه الله من كربه:
إن الشمس ستكون فوق الرؤوس فهو يومئذ يوم عصيب الا إن حرها لن يضر مؤمنا كامل الإيمان أو مستظلا بعرش الرحمن مصدقا لما ورد في الحديث الصحيح الذي أورده الأئمة مالك وغيره ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله , ورجل قلبه معلق بالمسجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله , ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه , ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه). " رواه الأئمة عن أبي هريرة"(3).
كما أنه مما ينجي يوم القيامة تقديم لقمة لأخيك ( والمقصود ما يسر به الخاطر لأخيك لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) في الحديث الذي ورد عن أنس بن مالك إذ قال (- صلى الله عليه وسلم -):" من لقم أخيه لقمة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة " (4) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه أنس بن مالك: " من أشبع جائعا أو كسا عريانا أو أوى مسافرا أعاذه الله من أهوال يوم القيامة"(5).
__________
(1) سورة المطففين الآية ( 6)
(2) التذكرة للقرطبي ص 275
(3) التذكرة للقرطبي ص 271
(4) أخرجة الطبراني عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك
(5) التذكرة للقرطبي ص 279(1/63)
كما أن هناك من الأعمال ما ينجي من يوم القيامة وكربه!!
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال (- صلى الله عليه وسلم -): " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب اليوم الأخر ( يوم القيامة ) " رواه مسلم.
وخرج الترمذي الحكيم عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال: " إني رأيت البارحة عجبا !! رأيت رجلا من أمتي جاء ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه. ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلا من أمتي قد أحتوشته الشياطين (أي أحاطت به ) فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ورأيت رجلا من أمتي قد أحتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صومه فسقاه ورأيت رجلا من أمتي – والنبيين قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذه بيده وأقعده بجانبي ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فيها فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور. ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه ورأيت رجلا من أمتي يتقي شر النار ووهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتي وقد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه – بينه وبين الله حجاب ! فجاءه حسن خلقة فأخذه بيده فأدخله على الله ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه ( أي ما(1/64)
كان يقدم من أدوات السقاية ليسقي بها الناس ) فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط ويرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا فجاءته صلاته علىّ فأخذت بيده ومضى على الصراط ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت الأبواب وأدخلته الجنة ).
تاسعا ما ورد عن من له حق الشفاعة يوم الفصل:(1/65)
روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش نهشه ( أي بطرف أسنانه ) فقال ( أنا سيد ولد أدم يوم القيامة. وهل تدرون بم ذلك , يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض ألا تروا ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم. فيأتون أدم فيقولون ياادم ؟ أنت أبونا أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك: اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ! ألا ترى ما قد بلغنا ؟! فيقول ادم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت !نفسي نفسي , اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض وسماك الله عبدا شكورا. اشفع لنا إلى ربنا ألا ترىما نحن فيه ؟ ! ألا ترى ما قد بلغنا ؟! فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) (1) ثم يقول لهم نفسي.. نفسي , اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك.. ألا ترى ما نحن فيه ؟! ألا ترى ما قد بلغنا. فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وذكر كذباته إشارة لقوله في معرض استدراج قومه إلى معرفة الإله الحق حين رأى كوكباقال( هذا ربي ) فلما أفل قال ( لا أحب الآفلين ) وهكذا قال عن القمر والشمس ليصل بهم إلى الخالق أتيا لهم بسلطان مبين ثم يقول نفسي.. نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى – عليه السلام
__________
(1) سورة نوح الآية ( 26 )(1/66)
- فيأتون موسى – عليه السلام – فيقولون: يا موسى: أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب قبلة مثله ولن يغضب بعده مثله , وإني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ! نفسي.. نفسي اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمت الناس في المهد وكلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله !!( ولم يذكر ذنبا ) نفسي.. نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد (- صلى الله عليه وسلم -) فيأتونني (أي يأتون محمدا (- صلى الله عليه وسلم -) فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟! ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأنطلق فأتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد غيري من قبلي ثم قال ( أي قال الله ) يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي.. أمتي فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة.. وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ( أي من فتحات الجنة ) كما بين مكة وهجر ( وهي من بلاد نجد ) أو كما بين مكة وبصري وفي البخاري بين مكة وحمير.
عاشرا: من هم أسعد الناس بشفاعة النبي (- صلى الله عليه وسلم -)؟(1/67)
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال: ( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث , أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه ).
وروى زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال ( من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة !!) قيل يا رسول الله , ما إخلاصها ؟ قال: ( أن تحجزه – أي تحجزه لا إله إلا الله –عن محارم الله )(1).
إحدى عشر: ما الحالة التي سيكون الناس عليها يوم الحشر؟
ذكر في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قام فينا (- صلى الله عليه وسلم -) بموعظة فقال ( أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاه عراه غرلا ( أي غير مختونين ) ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )(2) ألا وإن أول الناس يكسي إبراهيم عليه السلام ألا وإنه يؤتي برجال من أمتي فيأخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيه ) إلى قوله ( العزيز الحكيم ) (3) قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم مذ فارقتهم.. أخرجه البخاري.
ولا ننسى هنا حديث عائشة في مشهد حشر الناس:
عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعته (- صلى الله عليه وسلم -) يقول: ( يحشر الناس يوم القيامة حفاه عراه غرلا غير مختونين ) قلت: يا رسول الله الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض قال يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك (4).
__________
(1) أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
(2) الأنبياء: ( 4- 6 )
(3) المائدة آية 117: نهآية الآية 118
(4) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه(1/68)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب في الأرض عرقهم سبعين ذراعا وأنه يلجمهم حتى يبلغ أذانهم " (1).
تغليفا لكل ما سبق من بيان قراني أو من سنة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأحاديثه المروية عن مدى عظم هذا اليوم وهوله وروعه.. وكيف لا ونحن الآن في ساحة أحكم العادلين الذي يغير ولا يتغير.. يبدل ولا يتبدل.. فلو تخيلنا معا هذا اليوم بما سبق من بيان مروع وعظيم وعند العظيم ما هو أعظم وأشد لبعدنا عن كل ما من شأنه يقربنا من غضبه وبطشه وعملنا عملا صالحا يقربنا من عدله وكرمه فإنه العدل الكريم. وفي شأن هذا اليوم قيل:
مثل وقوفك يوم العرض عريانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق
اقرأ كتابك ياعبدي على مهل
لما قرأت ولم تنكر قراءته
نادى الجليل خذوه ياملائكتي
المشركون غدا في النار يلتهبوا ... مستوحشا قلق الاحشاء حيرانا
على العصاه ورب العرش غضبانا
فهل ترى فيه حرف غير ما كان
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم(1/69)
وحتى تكتمل صورة البعث لا يفوتنا قوله تعالى في سور الكهف "وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً , وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً , وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً " (1) فالصورة هنا واضحة والعرض هنا جلي والمشهد هنا عظيم والمواجهة بين الخالق والخلائق مريعة ومفزعة والحجج يومئذ داحضة فالأعمال بادية لا حاجة بها إلى تعليق فالفعل وفاعله والشهود عليه جميعا بحضرة العدل فلا ظلم هناك ولا جور.. ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )الاسراء اية 14
الفصل الرابع
" الحساب بين القران والسنة "
__________
(1) الكهف الآية ( 47 – 49 )(1/70)
لقد أنهينا في الفصل السابق الحلقة الثانية وهي البعث وقضية النشور وعلمناها بين الآيات القرآنية والسنة النبوية ونحن هنا أمام الحلقة الثالثة من العقد المسمى بالحياة الآخرة الا وهي قضية الحساب ومشهد الحساب والمساءلة والذي يبدأ منذ انشقاق السماء – وأخذ الملائكة أماكنهم المحددة بأرجائها – وعرش الرحمن محمول فوق ثماني ملائكة لقولة تعالى في سورة الحاقة " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ , وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً , فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ , وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ , وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ , يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ" (1) هنا بدأ إذن مشهد الحساب والذي يقضي فيه أول ما يقضى في النبيين والشهداء لقوله تعالى في سورة الزمر " وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " (2) ثم ننظر هنا فنجد الملائكة والروح – وهو جبريل – يقفون جميعا صفا واحد في موقف عصيب ومهيب لا يتكلم أحد قط إلا من إذن له الرحمن لقوله تعالى " يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً" (3) وكل ما هم فاعليه هو التسبيح والاستغفار لأجل من أمنوا لقوله تعالى في سورة غافر " الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
__________
(1) الحاقة آية ( 13- 18 )
(2) الزمر آية 69
(3) النبأ آية 38(1/71)
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ " (1) ثم يأتي الأمر الإلهي بأن كل نبي يقف شهيدا على أمته ومحمد (- صلى الله عليه وسلم -) شهيدا على أمته لقوله تعالى في سورة النحل " وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء " (2) ولكن ما حال العباد ؟! إنهم في سكرة وروع وانشغال كل بحاله وبأمره لقوله تعالى في سورة عبس " فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ , يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ , وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ , وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ , لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " (3) وأيضا قوله تعالى في سورة الحج " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " (4) نعم الموقف عصيب.فالمرء يتمنى لو يفتدي بماله وولده وأمه وأبيه ولكن هيهات.. هيهات. كل نفس بصيرة ما فعلت وما قدمت ولن ينفعها الحجج والأعذار لقوله تعالى في سورة القيامة " بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ , وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ " (5) " وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ" (6) ثم يأتي دور استلام المرء لكتابه فليحاسب نفسه إذا وهذا هو مدى العدل الإلهي إذ يجعل الفرد ساعتها حكما على نفسه فعمله باديا أمامه إن كان خيرا وإن كان شرا لقوله تعالى في سورة الإسراء " اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " (7) وهنا يصيب المرء العجب والدهشة فالكتاب الذي تسلمه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها لقوله تعالى في سورة ( ق ) " مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا
__________
(1) سورة غافر آية 7
(2) النحل آية 89.
(3) سورة عبس آية ( 33- 37 )
(4) الحج آية 2
(5) سورة القيامة 15:14
(6) سورة ق آية 21
(7) سورة الإسراء آية 14(1/72)
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " (1) فيقول المرء في عجب " وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا " (2) الكهف.. هنا تجيبه الملائكة في أسلوب استفهامي يدل على التعجب (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) (3) العلق فكل عملك مدون أمامك لقوله تعالى في سورة الزلزلة " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ "(4) ثم يأتي دور التبشير والتبكيت للمؤمن والكافر حال استلام كل كتابه فالمؤمن يعطى كتابه بيمينه فرحا مسرورا متباهيا للملأ أن يقرءوا ما فيه من عمل صالح قد قدم في دنياه ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم لقوله في سورة الحاقة " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ , إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ , فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ " (5) أي تكون نهايته الرضا وحسن العاقبة والمآل.. ولكن الكافر والعياذ بالله يعطى كتابه بشماله حزينا تعسا في حسرة على حاله ومآله الخزي وضياع مكانته وسلطانه ونال الخزي والوضاعة والامتهان لقوله تعالى أيضا في سورة الحاقة " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ , وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ , يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ , مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ , هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ " (6) وهناك نوعين من الكتاب أي من السجل الشامل لكل أعمال العباد. فهناك سجل شامل لكل أعمال العباد الأبرار الصالحين وسجل أخر شامل لكل أعمال الكفار الفجار الأول موضوع بمكان ما بالسماء السابعة تحت العرش
__________
(1) سورة ق آية 18
(2) سورة الكهف آية 49
(3) سورة العلق آية 14
(4) سورة الزلزلة آية ( 7-8 )
(5) سورة الحاقة الآية ( 19- 20 )
(6) سورة الحاقة الآية (25: 29)(1/73)
وبه أعمال الصادقين والمؤمنين والملائكة وأخيار الجن لقوله تعالى في سورة المطففين " كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ , كِتَابٌ مَّرْقُومٌ , يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ "(1) بينما الثاني فنجده بمكان ما بأسفل الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنده لقوله تعالى في سورة المطففين " كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ , كِتَابٌ مَّرْقُومٌ " (2)هنا قد أخذ كل كتابه مؤمنا كان أم كافرا قرأه وعلم موقفه هل هو من أهل اليمين أم من أهل الشمال.
** الحوار فيما بين الخلائق وبينهم ورب العرش **
__________
(1) سورة المطففين الآية (18- 21 )
(2) سورة المطففين الآية ( 7 – 9 )(1/74)
يأتي دور الحوار ما بين رب العزة سبحانه وتعالى وبين المشركين به في الدار الدنيا فيقول لهم في سورة القصص " وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ , فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ "(1) – أي لا يملكون ردا ولا إجابة – وأيضا في سورة القصص " ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون " (2) أيضا مشهد حواري ما بين رب العزة والمجرمين في سورة السجدة "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ " فيرد الله عليهم قائلا - وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ , فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ "(3) ثم يأتي دور الحوار ما بين المجرمين أنفسهم فيلقى التابعون منهم على المتبوعين اللوم قائلين لهم إنا كنا لكم بجانبكم ووافقنا دعوتكم لنا ظنا منا أنه الحق لقسمكم لنا بأنه كذلك فيردون عليهم.. بل لم تكونوا مؤمنين إذ رجعتم عن الإيمان إلى الضلال فما كان لنا عليكم من سلطان أو قدوة أو قهر حتى نرغمكم على المضي معنا بل كنتم قوما ضالين فهنا يوجب الله سبحانه وتعالى العذاب عليهم أجمعين وذلك مصداقا لقوله تعالى في سورة الصافات " وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ , قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ , قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا
__________
(1) سورة القصص الآية ( 65 – 66 )
(2) سورة القصص الآية ( 74 – 75 )
(3) سورة السجدة الآية ( 12- 14 )(1/75)
مُؤْمِنِينَ , وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ , فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ , فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ , فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ , إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ " (1) فلن يجدوا أمامهم إلا أن يدعوا عليهم أن يضاعف الله في عذابهم لقوله تعالى في سورة الأحزاب " وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا , رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً " (2)
__________
(1) سورة الصافات الآية ( 27 -34 )
(2) سورة الأحزاب الآية (67: 68 )(1/76)
ولم ينتهي الحوار بعد فالحق سبحانه وتعالى يسأل الملائكة سؤالا تقريريا يشهدهم به على أنفسهم وعلى الكافرين فيقول لهم هل هؤلاء المشركين كانوا يعبدونكم من دوني.. فتجيب الملائكة كلا تنزيها لك يا رب ليس بيننا وبينهم موالاة بل كانوا يعبدون الجن بطاعتهم لهم وتصديقهم لهم فيرد الحق عليهم قائلا لا نفع ولا ضرر يملكون وهذه هي النار التي كانوا بها يكذبون وذلك مصدقا لقوله تعالى في سورة سبأ " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ , قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ , فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ " (1) - ثم يأتي الحوار التقريري من الله إلى عيسى بن مريم أمام من اتخذوه وأمه إلهين من دونه والعياذ بالله ليشهدهم على أنفسهم وكي لا تكن لهم حجة فيقول الحق في سورة المائدة " وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ , مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ , إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ
__________
(1) سورة سبأ آية ( 40 – 42 )(1/77)
الْحَكِيمُ " (1) وتغليفا للتناول القرآني لقضية الحساب فليس هناك ما يصور الحساب أكثر من قوله تعالى في سورة غافر " رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ , يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ , الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ , وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ , يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ , وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " (2) وحري بنا مادمنا نناقش موضوع الحساب ما بين القران والسنة أن نرى ما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) من أحاديث عن كيفيتة حتى تكتمل الصورة وتستضيح الرؤية وكيف لا ونبينا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وهو ما لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.. فهيا بنا لذكر بعض ما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) بخصوص موضوع الحساب الإلهي
*** الرد على منكري الحساب ***
__________
(1) سورة المائدة آية ( 116 – 118 )
(2) سورة غافر الآية ( 15 – 20 )(1/78)
بداية نرد على منكري الحساب من سنته (- صلى الله عليه وسلم -) فبعضهم قد استنكر أن يحاسب الله عباده بهذه السرعة على كثرة عددهم فنقول لهم أن الله سبحانه وتعالى لا يشغله حساب عن حساب فكما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) أن الله سبحانه وتعالى يحاسب العباد جميعا في مقدار حلب شاه وقد سئل النبي (- صلى الله عليه وسلم -) كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرة عددهم فقال (- صلى الله عليه وسلم -) كما يرزقهم مع كثرة عددهم فالمنكر ضيق الأفق لأنه نظر إلى القوانين الدنيوية وإلى ضعفه هو كمخلوق ولكن بعد عن نظره وأعماه الشيطان عن قدرته سبحانه وتعالى وأنه هو مسير الزمن فالأيام في الدنيا تختلف عما عند الله سبحانه وتعالى لقوله في سورة المعارج " تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ " (1) وقوله في سورة السجدة " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ " (2) فليست العبرة بتوقيت معلوم لدينا ولكن العبرة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحسبنا رحلة الإسراء والمعراج التي توقف فيها الزمن حتى أسري وعرج به (- صلى الله عليه وسلم -) في جزء يسير من الليل
بعض ما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) بخصوص يوم الحساب: -
أولا: أمر الله لملائكته بإعداد خلقه للحساب:-
__________
(1) سورة المعارج الآية ( 4 )
(2) سورة السجدة الآية ( 5 )(1/79)
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) انه قال " إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع.. يا عبادي. أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم فإنكم مسئولون محاسبون , يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب" (1) .
ثانيا: ما يسأل عنه العبد وكيفية السؤال:
عن عدي بن عدي عن الصالحي عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال (- صلى الله عليه وسلم -): لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل أربع خصال: عن عمره فيما أفناه ؟ وعن شبابه فيما أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ (2)
ثالثا: تكليم الله لعباده المؤمنين:
عن عدي بن حاتم قال: قال (- صلى الله عليه وسلم -) ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ! فينظر أيمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) (3). وفي آخر (ولو بكلمة طيبة).
رابعا: القصاص ممن استطال في حقوق الناس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)( قال أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
خامسا : امة محمد هي أول من يحاسب :
__________
(1) الفزع الأكبر للقرطبي ص 166
(2) التذكرة للقرطبي ص 300
(3) رواه مسلم وأخرجه البخاري والترمذي وقال حديث صحيح وقد ورد بلفظه بالتذكرة للقرطبي ص 35(1/80)
روى ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال نحن آخر الأمم وأول من يحاسب , يقال أين الأمة الأمية ونبيها ؟ فنحن الآخرون الأولون .
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ( فتفرح لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محجلين من آثار الوضوء فتقول الأمم كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ) أخرجه أبو داوود في مسنده .
سادسا : أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته وأول ما تقضى فيه الدماء :-
عن ابن مسعود قال : قال (- صلى الله عليه وسلم -) : ( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء ) (1) رواه النسائي (2)
وعن محمد بن كعب عن رجل من الأنصار . عن أبي هريرة قال : حدثنا (- صلى الله عليه وسلم -) في طائفة من أصحابه يكون أول ما يقضى بينهم في الدماء ويأتي كل قتيل قتل فيحمل رأسه وتشخب أوداجه ( أي تنساق دماء عروق رقبته ) دما فيقول : يا رب . سل هذا فيم قتلني ؟! فيقول الله تعالى : وهو أعلم – فيم قتلته ؟ فيقول : يا رب قتلته لتكون العزة لك فيقول الله تعالى : صدقت . فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس ثم تشيعه الملائكة إلى الجنان ثم يأتي كل من قتل يحمل رأسه وتشخب أوداجه دما : فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله وهو أعلم فيم قتلته ؟- فيقول رب قتلته لتكون العزة لي فيقول الله تعالى تعست ( دعاء عليه بالشقاء ) ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها وكان فى مشيئة الله تعالى أن شاء عذبه وإن شاء رحمه .. (3)
سابعا : في ذكر الكوثر الذي أعطي له (- صلى الله عليه وسلم -) :
__________
(1) رواه مسلم وأخرجه البخاري والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح
(2) التذكرة للقرطبي ص321
(3) التذكرة للقرطبي ص 321(1/81)
ورد فى مسلم عن أنس قال بينما رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي أنفا سورة فقرا : بسم الله الرحمن الرحيم " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ , فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ , إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ " والأبتر هو المنقطع دابره أي لا نسل له – قال : (أتدرون ما الكوثر ؟ ) قلنا الله ورسوله أعلم .. قال ( فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عليه خير كثير , هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة أنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي .. فيقال ما تدري ما أحدث بعدك !).
وعن عبد الله بن عمر بن العاص قال : قال (- صلى الله عليه وسلم -) : حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء أي( طوله يساوي عرضة ) وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك : كيزانه كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبدا . ( أخرجه البخاري )
وذكر البخاري عن أنس بن مالك عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال بينما أنا – أسير في الجنة إذا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف .. قلت ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه .. أو طينته مسك ازفر ....."
وفي حديث أخر ( الكوثر نهر في الجنة حافتاه ذهب ومجراه الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج ) رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح ..
ثامنا : من هم أول الناس ورودا الحوض على النبي (- صلى الله عليه وسلم -)(1/82)
خرج عن ثوبان مولى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال إن حوضي مابين عدن إلى البلقاء ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه لا يظمأ بعدها أبدا . أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤساء الدنس ثوبا الذين لا ينكحون المنعمات ولا يفتح لهم أبواب السدد .(1)(أي لدى السادة والأمراء ).
تاسعا : من يطرد عن الحوض ؟:
رواه البخاري عنه (- صلى الله عليه وسلم -) انه قال " ليردن علي الناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دونه فأقول : أصحابي فيقال لي : لا تدري ما أحدثوه بعدك ."
عاشرا : أدلة وجود الصراط والميزان :
لقد روى عنه (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال :( تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان . ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب )(2)
هذا بالنسبة إلى الميزان فماذا بالنسبة إلى الصراط ؟:
خرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)يقول( يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس ( أي يطلب منهم المرور فناج مسلم ومخدوج به ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها ) (3) ويقصد بحسك السعدان ( شوكة بنجد ) .
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي سلام الحبشي ( الترغيب والترهيب جـ 4 ص 208)
(2) الفزع الأكبر ص 301
(3) التذكرة للقرطبي ص 383(1/83)
وقال (- صلى الله عليه وسلم -) فإذا صار الناس على طرف الصراط نادى ملك من تحت العرش : يا فطرة الملك الجبار (أي يا خلق الله ) جوزوا على الصراط وليقف كل عاص منكم وظالم فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها !!! وما أشد حرها يتقدم فيها من كان في الدنيا ضعيفا وهينا ويتأخرعنها من كان في الدنيا عظيما مكينا( ذا مكانه ووجاهة ) ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك بالجواز على الصراط قدر أعمالهم في ظلمتهم وأنوارهم فإذا عصف الصراط بأمتي نادوا .. وامحمداه !! وامحمداه !! فأبادر من شدة إشفاقي عليهم وجبريل اخذ بحجزتي ( معقد الأزار) فأنادي رافعا صوتي . ربي . أمتي . أمتي . لا أسألك اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي والملائكة قيام على يمين الصراط وعن يساره ينادون : رب سلم . سلم وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال ( المخاوف ) والعصاة يتساقطون عن اليمين وعن اليسار والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال وينادونهم : أما نهيتم عن كسب الأوزار ؟ أما خفتم عذاب النار ؟ أما أنذرتم كل الإنذار ؟ أما جاءكم النبي المختار (- صلى الله عليه وسلم -)(1).
حادي عشر : أين مصير من استوت حسناته وسيئاته
__________
(1) هذا الحديث ورد في روضة المشتاق والطريق إلي الملك الخلاق(1/84)
ذكر خيثمة بن سليمان في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) توضع الموازين يوم القيامة فتوزن السيئات والحسنات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته مثقال صؤابة على حسناته دخل النار قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال أولئك أصحاب الأعراف"(لم يدخلوها وهم يطمعون)(1).ويقال أنه قرأ" فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم " (2) ولقد سئل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عن أصحاب الأعراف قال : هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم " (3)
ثاني عشر : هل هناك حقا صراطين :
__________
(1) الفزع الأكبر للقرطبي ص 310
(2) سورة الأعراف الآية ( 8 : 9 )
(3) ورد بتفسير بن كثير الأعراف الآية 46 وقال بن كثير هذا مرسل حسن(1/85)
روى ابن المبارك عن عبد الله بن سلام قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيا نبيا وأمة أمة حتى يكون أخرهم محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وأمته ويضرب الجسر على جهنم وينادي مناد : أين أحمد وأمته فيقوم النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وتتبعه أمته برها وفاجرها حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه فتهافتوا في النار يمينا وشمالا ويمضي النبي (- صلى الله عليه وسلم -) والصالحون معه ( فتتلقاهم الملائكة ) فيدلونهم على طريق الجنة .. على يمينك .. على شمالك .. حتى ينتهي إلى ربه فيوضع له كرسي من الجانب الأخر ثم يدعى نبي نبي وأمة أمة حتى يكون أخرها نوحا رحم الله نوحا .. ثم يستطرد القرطبي قائلا : اعلم رحمك الله إن في الآخرة صراطين أحدهما مجاز " أي معبر يجتازونه " وهو لأهل المحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه – ولا يخلص منه إلا المؤمنين الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم – حبسوا على صراط خاص لهم ولا يرجعوا إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء الله لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط فيه من أوبقه ذنبه ( أي هلكه ) وأربى على الحسنات – بالقصاص – جرمه !! " أي زاد جرمه على حسناته بسبب القصاص منه لمن لهم مظلمة عنده " . ولله در من قال:
إذا مد الصراط على جحيم
فقوم في الجحيم لهم ثبور
وبان الحق وانكشف الغطاء ... تصول على العصاة وتستطيل
وقوم في الخيام لهم مقيل
وطال الويل واتصل العويل
وبذلك نكون قد أتممنا قضية الحساب والصراط ما بين القران والسنة اللهم نجنا من المرور عليه وارحمنا يوم لا منج غير رحمتك .. آمين.
وإلى الحلقة الأخيرة من العقد المسمى بالحياة الآخرة والتي سنناقش فيها قضية الجنة والنار وما يدور فيهما من نعيم وعذاب دائمين أيضا ما بين القران والسنة.
الفصل الخامس(1/86)
***********
العاقبة " الجنة أم النار " !!
********************
هل للاجتهاد في الطاعة من عاقبة سوى الفوز بالجنة وهل للانغماس في المعصية من عاقبة غير الخسران والنار ؟! وإننا إن كنا قد تناولنا بالنظر الحلقات المتتالية والمكونة للحياة الآخرة بدءا من الاحتضار فالبرزخ انتقالا إلى البعث فالحساب مرورا بالصراط فقد وصل بنا قطار المعرفة الآن إلى ثمرة الفوز أو جزاء الخسران وان كان ذلك كذلك فالجنة والنار يستحقان منا بما في الأولى من نعيم مقيم وما في الأخرى من عذاب دائم أن نفرد لكل منهما جزءا مستقلا نتناول فيه الجنة بين القران والسنة ونتناول في الآخر النار بين القران والسنة.
************
** الجنة بين القران والسنة **
قال تعالى : " وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ( سورة البقرة آية 25 ) .. ويبين هنا أن الجنة هي لمن امن وعمل صالحا أما عن صورتها فهي أكثر من مجرد التخيل فالأنهار تجري من تحت غرفها وأشجارها وقوله تعالى : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " إنما يعني أنهم يظنون أنها كالتي راوها في الدنيا للتشابه الشديد بينهما ولكن كما قال جرير " الطعم يختلف والمذاق " وقوله تعالى " ولهم فيها أزواجا مطهرة " أي من الحيض والغائط .. " وهم فيها خالدون " أي امنين من الموت والانقطاع عن نعيمها.
أهل الجنة(1/87)
والجنة بها الشهداء أحياء فيها غير أموات لقوله تعالى "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ , فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ , يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ " ( آل عمران 169- 171 ) إذن الشهداء في الجنة أحياء كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) أرواحهم في جوف طير خضر قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت كما أنهم يسرون بلحاق من لحقهم من اخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم وهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم .ونعيم الجنة كثير وأعظمه رضوان الله على أهلها لقوله تعالى " وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " ( التوبة 72 ) أي أن هذه الجنات التي وعد الله المؤمنين سيظلون ماكثين فيها أبدا كما أن لهم مساكن حسنة البناء طيبة القرار . ولكن رضوان الله عليهم إنما هو أكبر وأجل وأعظم(1/88)
كما أن الذين امنوا وعملوا الصالحات لهم في الجنة ما يهتدون فيها به .. كما أن دعواهم وتسبيحهم في الجنة بقولهم " سبحانك اللهم " فيرد عليهم التحية والسلام فيكون اخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين . وكل هذا لقوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ , دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
(يونس 9-10)(1/89)
كما أن متاع أهل الجنة ونعيمها النظر إلى وجه الرحمن لقوله تعالى " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (يونس : 26 ) وقوله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " يقول (- صلى الله عليه وسلم -) الحسنى : (الجنة) والزيادة ( النظر إلى وجه الله الكريم ) (1) وقوله تعالى ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة " أي غبرة في وجوههم ولا هوان ولا حقارة شأن فهذا هو حال الكفار لا حالهم أما هم فقد قال تعالى فيهم " فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا " كما أن اهل الجنة يجمع الله بينهم الصالح من آباءهم وأهليهم وذرياتهم حتى تقر أعينهم بهم بل والملائكة يدخلون عليهم من كل باب من أبواب الجنة قائلين " سلام " عليكم في دار السلام فهنيئا لكم النعيم وجوار النبيين والصديقين لقوله تعالى " جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ , سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " (الرعد 23- 24) كما أن فواكة الجنة واكلها دائم لا ينقطع لقوله تعالى " مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ " (الرعد 35). وأيضا قوله تعالى " وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ". (الواقعة 32)
__________
(1) أخرجه الأمام أحمد ابن حنبل وأخرجه مسلم منفردا عن يزيد بن هارون التذكرة للقرطبي ص 573(1/90)
كما أن أهل الجنة ينزع الله منهم الغل قبل أن يدخلوها فيكونون بداخلها إخوانا سررهم متقابلة أي ينظرون بعضهم وجه بعض ولا يعط أحد منهم للأخر ظهره ولا يمسهم في الجنة مشقة أو أذى لقوله تعالى " ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ , وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ , لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ , نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ , وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ " . (الحجر 45 : 50) كما سيسأل أهل الجنة سؤال تقريري " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ وهذا لقوله تعالى " وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ , جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ , الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " ( النحل 30- 32 ) وقوله تعالى : " لهم فيها ما يشاءون " كقوله تعالى "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون " (1) ثم أخبر الله تعالى بحال من اتقاه وأمن به وأحسن عمله حين احتضاره هنا فيقول تعالى" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ". ( فصلت أية 30)
__________
(1) سورة الزخرف آية ( 71 )(1/91)
كما أن أهل الجنة لا يضيع الله أجرهم ففيها يحلون أساور من ذهب ولؤلؤ كما أن لباسهم هو الحرير وثيابهم منه ما هو رقيق كالقمصان وهو الذي يطلق علية سندس وإما غليظ كالديباج وهو الذي يطلق عليه إستبرق .. لبريقه .. كما أنهم يتكئون أي يتضجعون على الأسرة فيا لحسن منزلهم ومقامهم وذلك لقوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً , أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً " . ( الكهف : 30: 31)
كما أن أهل الجنة لو خيروا عنها ما اختاروا لها بديلا مهما طالت إقامتهم فيها لما فيها من نعيم لقواه تعالى " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً , خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً " ( الكهف : 107- 108 ) كما أن الجنة ليس بها كلام ساقط تافه لا معنى له كالحال في الدنيا ولكن كل ما يقال فيها " سلاما " كما أن رزقهم في الجنة صباحا ومساءا فليس في الجنة نهارا يقتصر عليها الرزق كما في الدنيا بينما الليل فهو للسكينة بل هنا في الجنة لا يوجد ليل إذ هم في نور دائم برفع الحجب وفتح الأبواب وكل هذا مصداقا لقوله تعالى " جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً , لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً , تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً "
(مريم 61-63 )
نعيم أهل الجنة(1/92)
كما أن أهل الجنة قد أخفي الله لهم من الثواب الكثير جزاء لهم لأن الجزاء من جنس العمل ففي الجنة مالا يمكن تخيله لقوله تعالى " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة 17 )
كما أن أهل الجنة لا يشغلهم عذاب أهل النار لقوله تعالى " إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ , هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ , لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ , سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ " ( يس : 55-58 )
كما أنه يطاف عليهم بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها وهذه الخمر بيضاء اللون طيب طعمها لا توجع البطن كما تفعل خمر الدنيا ولا تذهب عقولهم كحالها أيضا بل لهم أيضازوجات من الحور العين عفيفات لاينظرن الى غير ازواجهن كما ان عيونهن حسنة عفيفة وهن كانهن اللؤلؤالمكنون(يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ , بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ , لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ , وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ , كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ " ( الصافات : 45- 49 )(1/93)
والمؤمن ينجوا من النار بعفو الله بينما برحمة الله يدخل الجنة ثم يصعد في درجات الجنة بحسب عمله الصالح لقوله تعالى " يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ , الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ , ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ , يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ , وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ , لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ "(الزخرف : 68- 73 ) وقوله " تحبرون " أي تنعمون وتسعدون , وقوله فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين " أي طيب الطعم والريح وحسن المنظر – وقوله " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " أي إنكم برحمة الله وعملكم الصالح أدخلتم هذه الجنة وقوله " لكم فيها فاكهة كثيرة ) أي من جميع الأنواع " ومنها تأكلون " أي تأكلون منها مهما اخترتم وأردتم فليس هناك حدود في الرغبة أو الأنواع.
وعن أنهار الجنة : فماؤها غير متغير ولكنه صاف هناك أنهار من لبن في غاية البياض والحلاوة والدسامة .. وأنهار أخرى من خمر لذيذ غير كريه الطعم والرائحة كخمر الدنيا وأنهار من عسل صاف حسن اللون والطعم والرائحة وهذا كله لقوله تعالى " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ " ( محمد آية 15 )(1/94)
كما أن أهل الجنة سيجدون أمامهم فيها كل أنواع الفاكهة ومن اللحوم ما يشتهون كما أنهم يتعاطون من الخمر ما لا يذهب العقل معه أو يحمل شاربه على الفارغ من الكلام السيئ .. ويطوف عليهم خدمهم كأنهم اللؤلؤ المصون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم ثم يتساءلون بعضهم البعض الآخر عن أعمالهم في الدنيا وكيف هم كانوا خائفين من ربهم وها هم الآن تصدق الله عليهم وأجارهم مما يخافون وهذا كله مصدقا لقوله تعالى " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ , وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ , يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ , وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ , وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ , قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ , فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ , إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ " ( سورة الطور آية 21 -28 )(1/95)
كما أن الجنة ستقترب من المتقين والتائبين والعائدين لله الخاضعين له فنرى الأمر الإلهي بأن يدخلوها سالمين من عذاب الله وغضبه في يوم لا منج من غضبه إلا رضاه فها هو سبحانه راض عنهم .. فهم حينئذ في الجنة لهم فيها كل ما يريدون حتى ولو وصل الأمر حد الرؤية لوجه الله عز وجل لقوله تعالى " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ , هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ , مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ , ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ , لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ " ( سورة ق : 31- 35 ) وقوله "ولدينا مزيد" قيل إن المزيد هو (رؤية الله عز وجل ) ثم نأتي إلى سورة الرحمن ففيها الوصف الجامع إذ يقول الحق سبحانه وتعالى " فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , ذَوَاتَا أَفْنَانٍ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "
( سورة الرحمن : 46- 53 ) .
ويعني قوله تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان " أن هذه الجائزة هي لمن خاف وهاب رب العزة وهو بين يديه يوم القيامة وعمل لهذا اليوم في دنياه من طاعة لله واجتناب ما حرم الله والجنتان هما جنتان من ذهب .. وقوله " ذواتا أفنان " أي أغصان نضرة حسنه تحمل من كل ثمرة ناضجة . وقوله " فيهما عينان تجريان " أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان . وقوله " فيهما من كل فاكهة زوجان " أي من جميع أنواع الثمار " والمقصود في الآيات هنا الخطاب للإنس والجن معا ويعني هذا أن الجن المؤمن يدخل الجنة أيضا .(1/96)
وتواصل الآيات رسم الصورة .. فيقول الحق سبحانه وتعالى " مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " ( سورة الرحمن : 54- 61 ) .
يعني قوله سبحانه " قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " أي غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئا في الجنة أحسن من أزواجهن كما أنهن لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس أو الجن .. وقوله " كأنهن الياقوت والمرجان " أي أنهن يبلغن من الشفافية والنقاء درجة الياقوت والمرجان والياقوت حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم أستصفيته لرأيته من وراءه (1) " فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان " أي هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة .
__________
(1) تفرد به الإمام أحمد(1/97)
كما قال في سورة الرحمن " وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , مُدْهَامَّتَانِ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ , فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذى الجلال والاكرام
( سورة الرحمن : 62- 68 )
وقوله تعالى هنا " ومن دونهما جنتان " أي أن الجنتين المذكورتين في (الآية 46 ) والتي هي من الذهب فهما للمقربين ومن خلال هاتين الجنتين هناك جنتان من فضة لأصحاب اليمين وهما أقل من الأولتين في الدرجة وقوله " مدهامتان " أي سوداوان من الخضرة من شدة الري من الماء .. كما أن قوله " فيهن خيرات حسان " أي خيرات كثيرة حسنة ومنها الزوجة الصالحة لقوله( - صلى الله عليه وسلم - ) أن الحور العين يغنين في الجنة فيقلن " نحن الخيرات الحسان خلقن لأزواج كرام " (1) وقوله تعالى " حور مقصورات في الخيام " أي ملزمات خيام أزواجهن والتي هي من اللؤلؤ . وقوله (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان )أي هن أبكارا وقوله " متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان " أي أن الوسائد الخضر والعبقري هو الديباج والبساط من الحسن والجمال ما يناسب الجنة التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان "
الجنة على درجات
__________
(1) تفسير ابن كثير ( سورة الرحمن الآية 80)(1/98)
والناس على درجات في الجنة فهناك المقربين وهناك أصحاب اليمين . والمقربون هم جزء من السابقين من هذه الأمة والجزء الآخر من الذين لحقوا بهم لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) لأصحابه إني لأرجوا أن تكونوا ربع أهل الجنة , ثلث أهل الجنة . بل نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني "(1)
(1) المقربون
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم والإمام أحمد " مختصر تفسير ابن كثير ص 429 جـ3 في تفسير سورة الواقعة الآية 13 , 14(1/99)
وهؤلاء قال الله فيهم " ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ , وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ , عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ , مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ , يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ , بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ , لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ , وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ , وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ , وَحُورٌ عِينٌ , كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ , جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ , لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً , إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً " ( الواقعة 13- 26 ) وقوله على سرر موضونة " يعني منسوجة بالذهب (1) وقوله " متكئين عليها متقابلين " أي وجها لوجه وقوله " يطوف عليهم ولدان مخلدون " أي لا يشيبون ولا يتغيرون وقوله " بأكواب وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون " أي أن الأكواب لا خراطيم لها ولا آذان والأباريق والكئوس كل هذا مملوء بخمر من عين جارية لا تنضب ولا يصدع شاربها ولا يذهب بعقله وقوله " وفاكهة مما يتخيرون " أي مما يريدون ويتخيرون لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " عن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " (2) وقوله " ولحم طير مما يشتهون " أي مما يشتهون ويرغبون ويتمنون وقوله" وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون " أي لهم زوجات من الحور العين كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه جزاء بما قدموا في دنياهم وقوله " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " أي ليس في الجنة الساقط من الكلام بل كل قولهم سلاما. سلاما .
(2) أصحاب اليمين :
__________
(1) وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك . تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص 287 طبعة دار المنار
(2) أخرجه الحافظ الطبراني(1/100)
فيقول تعالى : " وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ , فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ , وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ , وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ , وَمَاء مَّسْكُوبٍ , وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ , لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ , وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ , إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء , فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً , عُرُباً أَتْرَاباً , لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ , ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ , وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ " الواقعة (27 : 40 )(1/101)
وقوله " في سدر مخضود " قال ابن عباس وعكرمة " هو الذي لا شوك فيه" .. وقوله " وطلح منضود " أي بها شجر عظيم متراكم الثمر وأحلى من العسل كما قال ابن عباس . وقوله " وظل ممدود " يقول (- صلى الله عليه وسلم -) في معنى هذا "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها "(1) . وقوله " وماء مسكوب " أي يجري دونما انقطاع . وقوله " وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة " كقوله " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها " أ ي يشبه فاكهة الدنيا في الشكل لكنه أحلى منها في المذاق والطعم والرائحة وهذه الفاكهة ليس لها فصول تظهر فيها كالحال في الدنيا لا بل دائمة غير مقطوعة وغير ممنوعة . وقوله " وفرش مرفوعة " قال (- صلى الله عليه وسلم -) ارتفاع فراش الرجل في الجنة كما بين السماء والأرض " (2) وقوله " إنا أنشأناهن إنشاءا فجعلناهن أبكارا عربا أترابا " أي إنا أعددناهن إعدادا فبعد أن كن عجائز في الدنيا جعلناهن أبكارا غير ثيبات فيرونهن أبكارا صغار السن متعشقات محببات " أترابا " أي على ميلاد واحد وهذا كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) أي في سن واحدة غير متفاوتات في السن .(3) وقوله " لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " أي أن هذا كله جزاء خالص لأصحاب اليمين وهذه الفئة هي جماعة من الأولين في هذه الأمة وجماعة من الآخرين منهم لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) هما جميعا من أمتي " وجزاء المؤمنين في الجنة عظيم أقربه قوله تعالى " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
__________
(1) رواه البخاري والترمذي وعن طريق أنس ابن مالك
(2) أخرجه النسائي
(3) في تفسير الرسول لقوله تعالى ( عربا أترابا ) .. مختصر تفسير ابن كثير ص 434 جـ 3 الحديث الذي رواه الطبراني عن أم سلمه(1/102)
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " (1) وقوله "يسعى نورهم بين أيديهم " يعني الصراط لأنه عندما سئل (- صلى الله عليه وسلم -) بماذا تعرف أمتك يا رسول الله من بين الأمم ؟ قال " أعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم .. "(2) جزء من الحديث . وقوله " وبأيمانهم " أي يقال لهم : بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
أيضا من لهم نفس الجزاء هم التائبون توبة نصوحا والذين أمنوا مع النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( سورة التحريم آية 8 )
__________
(1) الحديد ( آية 12 )
(2) أخرجه ابن أبي حاتم(1/103)
أيضا في الجنة تجد من كل ما كنت تود وترغب في دنياك بأجمل مما كنت تود فتجدهم يشربون من كأس فيه لذة الكافور لرائحته الطيبة وهذا الشراب المسمى بالكافور لا ينضب ولا ينقض فهم يتصرفون فيه حيث شاءوا وأينما شاءوا .. وذلك لقوله تعالى " إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً , عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً " ( الإنسان 5-6 ) . أيضا زيادة في رسم صورة الجنة نجده تعالى يقول " مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً , وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً , وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا , قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً , وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً , عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً " ( الإنسان : 13: 18 )
وهذا يعني أن الطقس في الجنة لا هو بالحر المزعج ولا بالبرد المؤلم بل بالجو المعتدل الجميل – كما أن أغصان الجنة قريبة منهم متى أرادها المرء وأراد أن يقطف منها دنا منه حتى ينال ما يريده من ثمار
كما أنه سيطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهو من فضه وأكواب الشراب وهو التي لا خراطيم ولا عرى لها وحجمها أي حجم هذه القوارير بحسب ري صاحبها .. وقوله تعالى " ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا " أي حار المذاق ليعتدل الأمر مع ما أخذوه من شراب الكافور البارد والمعتدل . كما أن الزنجبيل هذا هو من عين من الجنة تسمى سلسبيلا لقوله " عينا فيها تسمى سلسبيلا ".(1/104)
ويواصل الحق في رسم الصورة فيقول " وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً , وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً , عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً , إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً " ( سورة الإنسان : 19: 22 ) .(1/105)
أي أن الغلمان مخلدون لا يتغيرون ولا يشيبون وهم في صباحه وجوههم ونضرتها مثل اللؤلؤ المتفرق على المكان .. بل هناك أعظم من كل هذا فهناك ملكا عظيما وسلطانا باهر لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه ابن عمر " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاها كما ينظر إلى أدناها "(1) وقوله تعالى " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق " أي مما هو كالحرير ومما فيه بريق ولمعان . وقوله "يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير " أي أنهم يتحلون ويتجملون بأساور من ذهب خالص ولؤلؤ كما أن لباسهم من الحرير أيضا .. وقوله " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " أي يطهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة . كما يقول الحق أيضا أن المتقين لهم جزاء خاص فنرى يقول "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً , حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً , وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً , وَكَأْساً دِهَاقاً , لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً , جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً " ( النبأ : 31- 35 ) وتعني الآيات أن جزاء المتقين عند ربهم مفازة وهي النجاة من النار والدخول في الجنة فيجدون فيها حدائق من نخيل وعنب وحور عين من سن واحد غير متفاوتات السن ويقال أن كواعب أترابا أي إن ثديهن نواهد غير متدليات لأنهن أبكارا وقوله " وكأسا دهاقا " أي مملوءة متتابعة صافية لا تنضب كما أن الجنة ليس فيها كلام ساقط ولا كاذب فنعم الجزاء الحسن على ما قدموا من تقوى الله سبحانه وتعالى وطاعته والأبرار غير الفجار أعد لهم الله جزاء أوفى لقوله تعالى " كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ , كِتَابٌ مَّرْقُومٌ , يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ , إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ,
__________
(1) مختصر تفسير بن كثير للصابوني ج3 ص584في تفسير سورة الإنسان في قوله تعالي" نعيما وملكا كبيرا"(1/106)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ , تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ , يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ , خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ , وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ , عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ " (سورة المطففين 18- 28) ويعني هذا أن الأبرار غير الفجار كتابهم في الجنة في السماء عند سدرة المنتهى يشهده الملائكة وهم يتنعمون في نعيم الجنة متكئين على سررهم ينظرون إلى الله عز وجل إذا نظرت إليهم تجد في وجوههم صفات وسما ت الترف والنعيم كما أنهم يشربون من خمر الجنة والرحيق وهو اسم من أسماء الخمر .. مخلوط بالمسك (1) وقوله " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " أي لمثل هذه الجائزة فليتنافس الكل للاستباق إلى مثل هذا الجزاء الأوفى والنعيم الأجدى .
كما أن أهل الجنة ناعمة وجوههم يعرف عند النظر إليها أنهم متنعمون راضون نتيجة سعيهم في الحياة الدنيا لأجل هذه المكانة فهاهو مستقرهم جنة رفيعة جميلة الغرفات لا يسمعون فيها السيئ من الكلام والساقط وهذا لقوله تعالى " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ , لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ , فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ , لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً " الغاشية8-11
__________
(1) قو ل ابن مسعود وابن عباس ومجاهد .. ( تفسير ابن كثير سورة المطففين آية 25 )(1/107)
أيضا قوله تعالى " فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ , فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ , وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ , وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ , وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ "( الغاشية 11-16 ) وقوله " عين جارية " أي غير منقطعة أو متوقفة فهي سارية دائما . وقوله تعالى " فيها سرر مرفوعة " أي عالية ناعمة مرتفعة . وقوله " وأكواب موضوعة " يعني أواني الشرب معدة وجاهزة لمن أرادها . وقوله "ونمارك مصفوفة" أي وسائد مصفوفة (1) وقوله " وزرابي مبثوثة " أي بساط غرف الجنة مفروشة لمن أراد الجلوس عليها (2)
علمنا إذن صورة الجنة وأهلها فلمن أعدة الجنة ؟.
يقول الله تعالى " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ , الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ , وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ , أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ " ( ال عمران 133- 136 ) .
هنا ذكر الحق سبحانه وتعالى من هم المتقون الذين أعدت لهم الجنة – إنهم أربعة أصناف من الناس .
الصنف الأول : وهم الذين ينفقون من أموالهم في الصحة والمرض . في الشدة والرخاء
الصنف الثاني : الكاظمون الغيظ وهم الذين لا يعملون غضبهم في الناس بل يكظمون غيظهم.
__________
(1) قول ابن عباس . تفسير ابن كثير آية 15
(2) قول ابن عباس أيضا تفسير ابن كثير آية 16(1/108)
الصنف الثالث : العافون عن الناس وهؤلاء لا يكظمون غيظهم فقط بل يعفون عنهم وهؤلاء هم أرقى درجة من سابقيهم ولذلك يسمون المحسنين .
الصنف الرابع : وهم الذين إذا فعلوا ذنبا أو إثما فظلموا بذلك أنفسهم سارعوا بالاستغفار والتوبة والعودة إلى رحاب الله ولم يصروا على إثمهم وذنبهم .
هذه الأصناف الأربعة هم الذين وضعهم الله تحت مسمى ( المتقين ) والذين أعد لهم الله جزاء المغفرة والجنات التي تجري الأنهار من تحت غرفها خالدين متنعمين فيها دون موت أو انقطاع بل خلود ونعيم .
أيضا أعدت الجنة لمن يطع الله ورسوله بقوله تعالى: " وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً , ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً " ( النساء آية 69- 70 ) .
... ... *** الحوار بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ***
أيضا هناك حوار مابين أصحاب الجنة وأصحاب النار لقوله تعالى " وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ , الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ " ( الأعراف آية 44- 45 ) أي أن أهل الجنة يسخرون من أهل النار فيقولون لهم لقد وجدنا ما وعدنا الله من جزاء عملنا الصالح والإيمان به فهل وجدتم ما وعدكم من جزاء عنادكم وكفركم من عذاب وجحيم وهنا لا يستطيعون الإجابة سوى مناد ينادي أن لعنة الله مستقرة عليهم دائمة بما كانوا يصدون عن سبيل الله ويكفرون بالآخرة .
أهل الأعراف(1/109)
أيضا أصحاب الأعراف يجيبون أهل الجنة ويطمعون أن يدخلهم الله الجنة وسوف يدخلونها برحمة الله لقوله تعالى " وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ , وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " (الأعراف اية 46 – 47 ) .
والأعراف جمع عرف وهو سور بين الجنة والنار وعلى هذه الأسوار يقبع من الناس من هم قد استوت حسناتهم وسيئاتهم فينظرون إلى أهل الجنة فيلقون عليهم التحية والسلام وينظرون إلى أهل النار وعذابهم فيتمنون من الله الا يدخلهم مع القوم الظالمين ويظلون هكذا حتى يقضي الله فيهم ,وسئل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عن أصحاب الأعراف فقال " هم أخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوما أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم "(1) إذا هؤلاء داخلين الجنة برحمة الله
ويستمر الحوار ما بين أصحاب الأعراف وناس يعرفونهم معرفة تامة هم في النار فيقولون لهم الآن ما أغنى عنكم كثرتكم ولا استكباركم لقوله تعالى " وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ , أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ " ( الأعراف 48- 49 ).
__________
(1) قال ابن كثير هذا مرسل حسن(1/110)
وبعد موقف أصحاب الأعراف وحوارهم ما بين أهل الجنة وأصحاب النار بل والجبار القهار نجد حوارا أخر بين أصحاب النار أنفسهم وأصحاب الجنة فيقول تعالى " وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ , الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ"(الأعراف اية 50- 51) .
وهذا يعني أن أصحاب النار يلتمسون الماء والطعام ورزق أهل الجنة فيجابون إن الله حرمهما على الكافرين الذين غرتهم الدنيا وسخروا من دينهم ولهوا به فالله اليوم قد نسيهم كما هم قد نسوا من قبل هذا اليوم الذي وعد الله ولا يخلف الله وعده بل كانوا بآيات الله يكفرون وينكرون ويجحدون .
وماذكرنا هذا الحوار رغم كون ذكره أولى مع مشاهد النار إلا ليبين مدى نعيم أهل الجنة وقمة نعيمها أنهم مع تلذذهم بنعيمها يرون عذاب أهل النار وهذا إمعان لهم في النعيم وإمعان لأهل النار في العذاب والامتهان.
والمستحقون لأن يكونوا من أهل الجنة أصناف فمنهم التائب من ذنبه ومنهم القائم بعبادة ربه المحافظ عليها ومنهم الصائم والراكع الساجد والأمر بالمعروف والناهي عن المنكر والحافظ لحدود الله وأوامره وهؤلاء هم المؤمنين الذين بشرهم الله بهذه العاقبة وهي الجنة وذلك لقوله تعالى " التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " ( سورة التوبة آية 112 ).(1/111)
أيضا المستحقين للجنة هم الشهداء لقوله تعالى " وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ , سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ , وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ "(سورة محمد 4- 6).
هناك هدية وجزاء عظيم لمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) نختتم بهما ما ذكره الله من ايات قرانية بخصوص الجنة فقال تعالى " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ , فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ , إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ , " والكوثر كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) انه نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد علية أمتي يوم القيامة انيته عدد النجوم في السماء فيختلج العبد منهم , فأقول : ربي إنه من أمتي فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك .... إلى أن قال رحمه الله (أخرجه مسلم).
** الجنة في متناول السنة **(1/112)
مادمنا قد بينا الجنة في متناول القران فحري بنا أن نتناولها في رحاب السنة فيما ورد عنه (- صلى الله عليه وسلم -) من أحاديث جلت أنواع النعيم بها وكافة أحوال أهلها ومنازلهم وكل ما يتعلق بها كدار نعيم أعدت للمتقين فهيا إلى رحابه (- صلى الله عليه وسلم -) وما ورد عنه في الجنة ونعيمها بداية : يثور سؤال حتمي:هل الجنة مخلوقة وموجودة الآن قبل يوم القيامة؟ نعم الجنة موجودة الآن وليس أصدق على هذا من حديثه (- صلى الله عليه وسلم -) قال :" إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في ثمر الجنة أو شجر الجنة " رواه أهل السنن وصححه الترمذي . وأيضا ما ذكره عبد الله بن عمرو عنه (- صلى الله عليه وسلم -) والذي نفس محمد بيده لقد أوتيت من الجنة حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تخشاكم " (1) معنى هذا أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الان وقبل يوم القيامة بل وهناك من يدخل الجنة قبل يوم القيامة وهم الشهداء لقوله تعالى " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ , فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ " (2) وهناك من يعترض على أن الجنة موجودة قبل يوم القيامة بدعوي أن ذلك لو كان كذلك لفنيت الجنة مع فناء الخلائق يوم البعث لقوله تعالى " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ "(3) ولكنهم فاتهم ما ورد عن البخاري في قوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " يعني كل شيء
__________
(1) ورد بمسند الأمام أحمد وسنن أبي داوود والنسائي من حديث عبد الله ابن عمر
(2) ال عمران ( 169 – 171 )
(3) القصص آية 88(1/113)
هالك إلا ملكه – أي ملك الله وما أريد به وجه الله . كالعرش والجنة والنار " (1)
***رؤية أهل الجنة رب العزة ومخاطبته لهم ***
لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) لأبي هريرة لما سأله وهل نرى ربنا عز وجل ؟ قال: نعم . قال هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ قلنا لا . قال فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم ولا يبقى ذلك المجلس " مجلس الحضور مع الله " أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول : يا فلان ابن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا ؟! ويذكره ببعض غدرا ته في الدنيا فيقول : بلى أفلم تغفر لي ؟ فيقول بمغفرتي بلغت منزلتك هذه ... (2)
وأهل الجنة فيها يتزاورون بعضهم على بعض لقوله تعالى : " إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الأخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى هذا وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعان جميعا فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيقول أحدهما لصاحبه تعلم متى غفر الله لنا ؟ ! فيقول نعم يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا " (3)
والجنة لا يمكن وصفها على كل حال فهي فوق كل ما يخطر بالبال فيكفي قوله (- صلى الله عليه وسلم -) في صحيح البخاري " لقيد سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها "
** الحوار ما بين الله وعباده **
__________
(1) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم الجوزي
(2) حادي الارواح لابن القيم الجوزية ص 249
(3) رواه ابن ابي الدنيا والبزار الترغيب والترهيب للمنذري جـ 4 ص 269(1/114)
وعن رحمة الله في الحوار مع عباده يقول (- صلى الله عليه وسلم -) : في حديث رواه عنه عبد الله بن مسعود أنه قال : " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء . قال : وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي مناد أيها الناس الم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا أن يولي كل أناس منكم ما كانوا يقولون ويعبدون في الدنيا أليس ذلك عدلا من ربكم ؟ قالوا بلى فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويقولون في الدنيا قال : فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون وقال : قال ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويمثل لمن كان يعبد عزير شيطان عزير ويقف محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وأمته فيأتيهم الرب عز وجل فيقول ما بالكم لا تنطلقون فما انطلق الناس قال : فيقولون إنا لنا إله ما رأيناه بعد فيقول هل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون إن بيننا وبينه علامة إذا رأيناه عرفناه قال : فيقول ما هي : فيقولون : يكشف عن ساقه .. فعند ذلك يكشف عن ساق فيخرون له سجدا ... ويبقى قوم ظهورهم كصياص البقر ويريدون السجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ثم يقول أرفعوا رأسكم فيرفعون رؤوسهم فيغطيهم نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يغطي نوره على قدر الجبل العظيم يسعى بين أيدهم ومنهم من يغطي نوره أصغر من ذلك حتى يكون أخر رجل يغطي نوره على إبهام قدمه يضيء مره ويطفئ مره فإذا أضاء قدم قدمه ومشى وإذا أطفئ قام – والرب تبارك وتعالى أمامهم – حتى يمروا في النار فيبقى أثره كحد السيف قال : ويقول مروا فيمرون على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب ومنهم(1/115)
من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الفرس ومنهم كشد الرجل حتى يمر الذي أعطى نوره على قدر إبهام قدمه يحبوا على وجهه ويده ورجليه يجر يد ويعلق يد ويجر رجل ويعلق رجل وتصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتي يخلص فإذا خلص وقف عليهم ثم قال : الحمد لله لقد أعطاني ما لم يعطى لأحد إذ نجاني منها بعد أن رايتها قال : فينطلق بها إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم فيرى ما في الجنة من خلال الباب فيقول: رب أدخلني الجنة فيقول الله تبارك وتعالى له . أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار ... فيقول يا رب .. أجعل بيني وبينها حجابا لا اسمع حثيثها قال : فيدخل الجنة .. قال : ويرى أو يرفع له منزل أمام ذلك كأنما الذي هو فيه إليه حلم ليدخله فيقول : رب أعطني ذلك المنزل .. فيقول : لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره فيقول وعزتك لا أسأل غيره . وأي منزل يكون أحسن منه قال : فيعطاه فينزله فقال : ويرى أو يرفع له منزل أخر يدخله فيقول رب أعطني ذلك المنزل فيقول الله عز وجل : فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره : فيقول لا وعزتك لا اسأل غيره وأي منزل يكون أحسن منه . قال : فيعطاه فينزل . قال : ويرى أو يرفع له أمامه ذلك منزل أخر كأنما الذي هو منه إليه حلم فيقول رب أعطني ذلك المنزل فيقول الله جل جلاله فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره قال : لا وعزتك لا أسأل غيره وأي منزل يكون أحسن منه .. قال فيعطاه فينزل ثم يسكت فيقول الله عز وجل مالك لا تسأل فيقول : رب لقد سألتك حتى استحييتك وأقسمت لك حتى استحييتك فيقول الله عز وجل ألا ترضى أن أعطيك مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه فيقول أتستهزئ بي وأنت رب العزة ... فيضحك الرب عز وجل من قوله قال : ثم ضحك رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عند هذا الموضع حتى بدت أضراسه .. قال : ثم قال رسول الله أن الله عز وجل يقول له : لا ولكني على ذلك قادر سل : فيقول ألحقني بالناس فيقول(1/116)
الحق بالناس فينطلق يرحل في الجنة حتى إذ دنا من الناس رفع له قصر من در فيخر ساجدا فقال له : ارفع رأسك . مالك فيقول رأيت ربي أو ترائى لي ربي فيقال له إنما هو منزل من منازلك قال : ثم يلقى فيها رجلا فيتهيأ للسجود فيقال له مه مالك ؟ فيقول : رأيت أنك ملك من الملائكة فيقول له : إنما أنا خازن من خزائنك عبد من عبيدك تحت يدي ألف كهرمان على مثل ما أنا عليه قال : فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر قال وهو في درة مجوفة سقائفها وأبوابها وإغلاقها ومفاتيحها منها تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء كل جوهرة تفضي الى جوهرة على غير لون الأخرى في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف أدناهن حورا عينا , عليها سبعون حلة ورأى مخ ساقها من وراء حللها كبدها مرآته إذا أعرض عنها إعراضه إزدادت في عينيه سبعين ضعفا عما كانت قبل ذلك فيقول لها والله لقد إذدادت في عينيه سبعين ضعفاعما كانت قبل ذلك فيقول لها والله لقد اذددت فى عينى سبعين ضعفا فتقول له والله والله وأنت لقد إذددت في عيني سبعين ضعفا فيقال له أشرف قال فيشرف : فيقال له . ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصره . (1) ولقد سئل أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال الزياده أي النظر لوجه الله تبارك وتعالى (2)
** صفات الجنة وما تشتمل عليه **
__________
(1) رواه أبن أبي الدنيا والطبراني والحاكم وهو في مسلم بنحوه وبإختصار عنه
(2) تفسير ابن كثير سورة يونس آية 26(1/117)
بداية علينا قبل بيان صفات الجنة ذكر صفات أهلها فلأجلهم خلقت وتزينت وتجهزت .. وأهل الجنة هم الذين باعوا دنياهم باخرتهم فربحوا وغنموا وعن صفاتهم يقول (- صلى الله عليه وسلم -) : في رواية أنس ابن مالك " يدخل أهل الجنة على طول أدم ستين ذراعا بذراع الملك وعلى حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثون سنه وعلى لسان محمد (- صلى الله عليه وسلم -) جرد مرد مكحولون )(1) وأهل الجنة لا ينامون لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : " النوم أخو الموت ولا ينام أهل الجنة " (2) . كما أن العبد من أهل الجنة قد يرتقي في درجاتها من درجة إلى أخرى أعلى منها لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) :" إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة .. فيقول يا رب أنى لي هذه ؟! فيقول : باستغفار ولدك لك "(3) وبذا فإن ذرية المؤمن تلحق به في الدرجة ولو كانوا أقل منه في العمل حتى تقر بهم عينه .. كما أن أهل الجنة خالية قلوبهم من الأحقاد لقوله تعالى : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ " (4)
** وإن كانت الجنة موجودة الآن فما صفاتها وما تشتمل عليه إذن ؟
__________
(1) رواه انس بن مالك ( حدي الأرواح ص 146 )
(2) الحديث صحيح عن طريق جابر وأورده ابن عدي في كتابه الكامل وأبو نعيم في الحلية وورد في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/74 رقم 1087
(3) البداية والنهاية لابن كثير 2/340 إسناده صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب كتب الستة
(4) سورة الحجر آية 47(1/118)
أولا: أبواب الجنة : للجنة أبواب ثمانية لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : في الصحيحين عنه (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال : في الجنة ثمانية أبواب باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : " وما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ويسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء " (1)
ثانيا : أين الجنة قال تعالى في سورة النجم (أية 12-15): "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى , عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى , عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى " وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها وما يصعد إليه وقد ثبت في الصحيحين عنه (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال : " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض وهذا يدل على أنها في غاية العلو والارتفاع وأعلى هذه الدرجات مرتبة الفردوس لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) في تكملة الحديث : فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " رواه البخاري.
ثالثا ما تشتمل عليه الجنة : الجنة كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) : في رواية لأبي هريرة " الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وترابها الزعفران وطينها المسك وقي رواية اخرى لأبي هريرة عنه (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال : " أرض الجنة بيضاء عرصتها صخور الكافور وقد أحاط به المسك مثل كثبان الرمل فيها أنهار مطردة فيجتمع فيها أهل الجنة أدناهم وأخرهم فيتعارفون فيبعث الله ريح الرحمة فيهب عليهم ريح المسك فيرجع الرجل إلى زوجته وقد إزداد حسنا وطيبا فتقول له : لقد خرجت من عندي وأنا بك معجبة وأنا بك الان أشد إعجابا (2)
__________
(1) رواه عمر بن الخطاب وأخرجه مسلم
(2) رواه ابن أبي الدنيا ( التذكرة للقرطبي ص 253 )(1/119)
وفي سنن ابن ماجه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الضحاك المفاخري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنه سمع أسامة ابن زيد يقول : قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : " ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها . هي ورب الكعبة نورا يتلألأ وريحانه تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام أبدي في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال : قولوا إن شاء الله (1)
أما عن غرف الجنة : فقال (- صلى الله عليه وسلم -) أن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها .. فقام إعرابي فقال يا رسول الله لمن هي قال لمن طيب الكلام , وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام " (2) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وعائشة أن جبريل قال للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) هذه خديجة أقرئها السلام من ربها , وأمره أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ( والقصب هنا هو قصب اللؤلؤ المجوف ) وسيعرف أهل الجنة غرفهم رغم أنهم لم يروها من قبل لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) في رواية أبي هريرة . قال (- صلى الله عليه وسلم -) والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف أحوالكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة )(3)
__________
(1) حادي الأرواح لابن القيم ص 134
(2) رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن ابن إسحاق
(3) حادي الأرواح ص 140(1/120)
أما عن بساتين وأشجار الجنة وظلالها قال (- صلى الله عليه وسلم -) يقول الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرءوا إن شئتم(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة آية 17 ) وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرءوا إن شئتم " فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ " ( آل عمران آية 185 ) (1)
اما عن ثمار الجنة فيحدثنا ابن عقيل عن جابر قال بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فتقدمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضي الصلاة قال له ابي بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم شيئا ما رأيناك كنت تصنعه قال " إني عرضت على الجنة ومافيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لاتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه " (2)
أما عن انهار الجنة ففيها نهر يسمى الكوثر وعد رب العزة سبحانه وتعالى به نبينا فقال (- صلى الله عليه وسلم -) (بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه حبات اللؤلؤ المجوف فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك قال فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر )(3) كما أن بها عيونا كثيرة لقوله تعالى " وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً , عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً " (سورة الإنسان آية 17,18 )
__________
(1) رواه بهذا اللفظ والسياق الترمذي والنسائي وابن ماجه وصدره قي الصحيحين
(2) حادي الأرواح ص 168
(3) رواه البخاري(1/121)
وعن أهل الجنة قال (- صلى الله عليه وسلم -) لرجل من اليهود جاء يسأل يا أبا القاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ؟ قال (- صلى الله عليه وسلم -) والذي نفس محمد بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع فقال له اليهودي فإن الذي يأكل ويشرب تكون له حاجة فقال له (- صلى الله عليه وسلم -) حاجتهم عرق يفيض من جلودهم مثل المسك فإذا البطن قد ضمر )(1) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) في حديث اخر رواه ابن مسعود قال " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا " (2)
وعن مراكب أهل الجنة ومطاياهم فالخيل لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) في رواية عن جابر بن عبد الله انه (- صلى الله عليه وسلم -) قال إذا دخل أهل الجنة الجنة جاءتهم خيول من ياقوت أحمر لها أجنحة لا تبول ولا تروث فقعدوا عليها ثم طارت بهم في الجنة فيتجلى لهم الجبار فإذا رأوه خروا سجدا فيقول لهم الجبار سبحانه وتعالى : ارفعوا رؤوسكم فإن هذا ليس يوم عمل إنما هو يوم نعيم وكرامة فيرفعون رؤوسهم فيمطر الله عليهم طيبا فيمرون بكثبان المسك فيبعث الله على تلك الكثبان ريحا فيهيجها عليهم حتى أنهم ليرجعون إلى أهليهم وإنهم لشعث غبر " (3)
__________
(1) رواه ابن حيان في صحيحة والحاكم ( الترغيب والترهيب جـ4 ص 259)
(2) رواه ابن أبي الدنيا والبزار والبيهقي ( الترغيب والترهيب جـ4 ص 160)
(3) حادي الأرواح ص 244(1/122)
وعن الطرب في الجنة وسماع الحور العين : يقول (- صلى الله عليه وسلم - ) " إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرقصن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له " (1) كما أن هناك رواية لأبي هريرة عنه (- صلى الله عليه وسلم -) قال " إن في الجنة شجرة جذوعها من ذهب وفروعها من زبرجد ولؤلؤ فتهب لها ريح فتصطفق فما سمع السامعون بصوت شيء قط ألذ منه " (2)
وعن خيام اهل الجنة وسررهم : فيقول (- صلى الله عليه وسلم -) إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا (3) وأما السرر فيقول تعالى " مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ " . ( الطور اية : 20 ).
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والبيهقي – الترغيب والترهيب جـ 4 ص 266
(2) رواه ابو نعيم في وصف الجنة الترغيب والترهيب جـ 4 ص 258
(3) رواه البخاري والترمذي وكذلك مسلم(1/123)
وعن ملابسهم فيقول (- صلى الله عليه وسلم -) من قرأ القران فقام به أناء الليل والنهار ويحل حلاله ويحرم حرامه خلطه الله بلحمه ودمه وجعله رفيق السفرة الكرام البررة وإذا كان يوم القيامة كان القران له حجابا فقال يا رب كل عامل يعمل في الدنيا يأخذ بعمله من الدنيا إلا فلانا كان يقوم أناء الليل وأطراف النهار فيحل حلالي ويحرم حرامي يقول يا رب أعطه فيتوجه الله تاج الملوك ويكسوه من حلة الكرامة ثم يقول هل رضيت ؟ فيقول : يا رب أرغب في أفضل من هذا فيعطيه الله الملك بيمينه والخلد بشماله ثم يقول له " هل رضيت ؟ فيقول نعم يا رب (1) ويقول (- صلى الله عليه وسلم -) عند تلاوته قوله تعالى " جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب " فقال إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب " * كما أن فرش الجنة مبطنة بالإستبرق فإذا كانت هذه هي بطانتها فما بالك بظاهرها لقوله تعالى :" مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ " ( الرحمن اية 54) كما أن قارئي سورة البقرة وال عمران يرتدون تاج الوقار لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) تعلموا سورة البقرة وال عمران فإنهما الزهراوان وأنهما يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان والقران يقي صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له هل تعرفني ؟ فيقول له : ما أعرفك فيقول القران أنا الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك , وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسي والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان : بما كسبنا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكم القران , ثم يقال له اقرأه وأصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود مادام يقرأ هددا كان أو
ترتيلا " (2)
__________
(1) رواه ابو هريرة ( حادي الأرواح ص 196 )
(2) ذكره أحمد في مسنده من حديث أبي بريدة عن أبيه(1/124)
أما عن لباس أهل الجنة : فلا تبلى لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه . في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (1) كما يقول (- صلى الله عليه وسلم -) "تبلغ الحلية من الحلي من المؤمن حيث يبلغ الوضوء(2) " وعن ثيابهم قال (- صلى الله عليه وسلم -) طوبى لمن رآني وأمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن أمن بي ولم يراني فقال له رجل وما طوبى يا رسول الله ؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها (3) وعن مناديلهم ورد بالصحيحين أنه أهدي لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ثوب حرير فعجبوا من لينه! فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تعجبون من هذا ؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ) . وكيف لا وسعد بن معاذ قد إهتز لموته العرش (4) وفي ثيابهم قوله تعالى في سورة الكهف "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً , أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ " . ( الكهف آية 30,31 )
الحور العين
__________
(1) رواه مسلم عن طريق ابي هريرة
(2) رواه مسلم
(3) رواه بن حبان0الترغيب والترهيب ج4 ص258
(4) حادي الارواح ص 195 من حديث البراء(1/125)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال(- صلى الله عليه وسلم -)"أن للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ثيابها من وراء الثياب (1) كما أنه (- صلى الله عليه وسلم -) قد أجاب على أم سلمة عندما سألته عن تفسير قوله تعالى (حور عين ) قال (حور ) بيض (عين ) أي بأعينهم حور .. ضخام العيون شقر – الحوراء بمنزلة جناح النسر " قلت أخبرني عن قوله عز وجل " كأنهن لؤلؤ مكنون " قال " صفاؤهن صفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي " قالت يا رسول الله أخبرني عن قوله عز وجل " فيهن خيرات حسان " قال " خيرا ت الأخلاق حسان الوجوه " قالت يا رسول الله أخبرني عن قوله عز وجل " كأنهن بيض مكنون " ( الصافات آية 49) قال رقتهن كرقة الجلد الذي رأيته بداخل البيضة مما يلي القشرة وهو العزقاء " قالت يا رسول الله أخبرني عن قوله عز وجل " عربا أترابا " قال " هن اللواتي قبضن في دار الدنيا رمضا شمطا خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عزارى عربا متعشقات متحببات أترابا على ميلاد واحد " قالت يا رسول الله نساء الدنيا أم حور العين" ؟ قال :" بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانه " قالت يا رسول الله وبم ذلك ؟ قال :" بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله تعالى ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن نحن الخالدات فلا نموت ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً .. وطوبى لمن كنا له وكان لنا .. قالت يا رسول الله . المرأة منا تتزوج زوجين أو ثلاثة أو أربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها .. قال يا أم سلمه إنها تخير فنختار أحسنهن خلقا فتقول أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمه ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة (2)
__________
(1) حادي الأرواح ص 217
(2) رواه الطبراني في الكبير والأوسط(1/126)
وعن نكاح أهل الجنة ووطئهم والتلذذ بذلك دونما مذى أو مني أوحاجة إلى غسل من جنابة : يقول (- صلى الله عليه وسلم -) في الإجابة على من سأله " هل ينكح أهل الجنة ؟ قال . أي والذي بعثني بالحق دحما دحما وأشار بيده ولكن لا مني ولا منية )(1) وأيضا رده (- صلى الله عليه وسلم -) على من سأله " يا رسول الله " ألنا فيها أزواج أو منهن صالحات ؟ قال الصالحات للصالحين , تلذون بهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أنه لا توالد "(2)
وفي ختام ما تقدم من هذا الوعد الجميل والثواب الحسن وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين لا يسعنا إلا أن نختم دراستنا للجنة بقوله تعالى في سورة الحديد "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " " صدق الله العظيم " (آية 12 ) .....
النار بين القران والسنة
كما أن القران والسنة قد أفاض كل منهما في ذكر مشاهد الجنة ونزلها وصور النعيم فيهافانهما قد أفاضا في ذكر مشاهد النار ونزلها وصور العذاب فيها ترغيبا وترهيبا حتى لا يكون للناس على الله حجة يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ...
__________
(1) رواه ابو أمامه حادي الأرواح ص 277
(2) رواه الطبراني وعبد الله ابن أحمد من حديث لقيط ابن عامر(1/127)
فالنار وقودها الناس والحجارة لقوله تعالى " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " ( البقرة : 24) كما قال تعالى " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا"(الجن 15) وقوله تعالى " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " (الانبياء 98)وهذه الحجارة هىمن الكبريت عظيمة السواد منتنة الريح إذا حميت ....كما أن هذه النار لا تنقضي لقوله تعالى "......... كلما خبت زدناهم سعيرا "(الاسراء 97) كما يقول تعالى " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ "( ال عمران :10 ) وأيضا قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " ( التحريم 6)إذن فكما أن وقودها الناس والحجارة فإن طباع خزنتها كذلك غليظة دونما رحمة. اذن هل يدرك الخيال سعيرها إذا كان وقودها هو الشخص المعذب بها نفسه ! ولقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)قال اشتكت النار إلى ربها أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها وأشد ما تجدون في الصيف من حرها " وأهل النار إمعانا من الله في عذابهم تتبدل جلودهم وهي موضع الإحساس من الجسد ليذوقوا العذاب وذلك مصداقا لقوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً " ( النساء : 56 )(1/128)
وفي النار تجد أهل النار يلعن بعضهم بعضا لقوله تعالى " قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ , وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ"(الأعراف 38: 39) وهذا يعني أنه بعد اجتماعهم كلهم بالنار تقول أخر جماعة تدخل لأول جماعة دخلت النار أنتم الذين أضللتمونا ويدعوا الله أن يضاعف لهم العذاب فترد عليهم الفئة الأولى لا لم نضلكم ولكنكم أنتم مثلنا وهنا يرد الله تعالى عليهم أن لكل منهما ضعف العذاب .
لمن أعدت النار
والنار أعدت للكافرين والمستكبرين عن آيات الله إعدادا يناسب عنادهم فيجدون من النار مهادا أي فراشا ويلتحفون أيضا بالنار لقوله تعالى "لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ" ( الأعراف : 41 ) وقوله تعالى "يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ " (التوبة :35 ) وهذا هو جزاء المكذبين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله. ولقوله (- صلى الله عليه وسلم -): " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره ألف سنة حتى يقضى بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"(1).
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة .. مختصر تفسير ابن كثير جـ2 ص 140(1/129)
كما أنهم في النار لهم شهيقا وزفيرا من العذاب وكذلك هم في النار خالدين لقوله تعالى " فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ , خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ " ...( هود 106: 107) ويقصد بقوله تعالى هنا مادامت السماوات والأرض " أن السماء غير هذه السماء والأرض غير هذه الأرض ".(1)
كما أنهم في أعناقهم الأغلال يسحبون بها في النار لقوله تعالى " وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ " ( الرعد : 5)
أيضا الظالمون لهم عذاب عظيم فالنار أمامهم ويسقون فيها من ماء صديد يشربون قهرا وقسرا لا يستطيعون مجرد تذوقه لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته كما أن الموت يأتيه من كل مكان بكل ما للموت من بشاعة وعذاب ولكنه لا يموت وله بعد هذا كله عذاب عظيم يخفيه الله في علمه وهذا لقوله تعالى " مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ , يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ " (إبراهيم 16-17 ) وقوله تعالى "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " وقوله تعالى" إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ , طَعَامُ الْأَثِيمِ , كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ , كَغَلْيِ الْحَمِيمِ " (2)
ملابس أهل النار
__________
(1) لقوله تعالى " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات " إبراهيم : آية 48 )
(2) سورة الدخان آية 43 : 46(1/130)
كما أن أهل النار سرابيلهم من قطران وهو النحاس المذاب لقوله تعالى " وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ , سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ , لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (إبراهيم :49 : 51) والمعنى هنا أن ثيابهم من نحاس مذاب وهم مجموعون جنبا إلى جنب بقيود غليظة والنار تلهب وجوههم جزاءا لهم بما كسبوا في الحياة الدنيا . وذلك لقوله تعالى أيضا "تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ".(المؤمنون 104)
أبواب النار:
النار لها سبعة أبواب كل باب يدخله جزء من أتباع إبليس حسب عمله وقدر ظلمه وهذا لقوله تعالى"وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم"(الحجر44) وفي قوله " لكل باب جزء مقسوم " يقول (- صلى الله عليه وسلم -) : "إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين قال فتصهرهم الشمس فيكونوا فى العرق كقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما " (1)
* ألوان العذاب في النار *
هناك من تجده في النار أعمى وأبكم وأصم كلما سكنت النار زادها الله عليه سعيرا لقوله تعالى " وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً " ( الإسراء آية 97 )
__________
(1) رواه مسلم .......... تفسير ابن كثير الجزء الرابع ص 485(1/131)
وهناك لون آخر من العذاب لقوله تعالى " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً " (الكهف : 29 ) وقوله تعالى " نارا أحاط بهم سرادقها " أي أحاط بها حائط من نار وقوله تعالى "إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " أي أنهم إن طلبوا الغيث يغاثوا بماء كالدم والقيح ولونه أسود منتن شديد الحرارة لذا فإنه يشوي وجه الكافر إذا أراد أن يشرب فقربه إلى وجهه " وقوله " بئس الشراب وساءت مرتفقا " أي بئس هذا الشراب وساءت النار منزلا ومقاما لا ينفصل عنها وذلك لقوله تعالى " إنها ساءت مستقرا ومقاما "0(الفرقان66)ٍ
ترحيب أهل النار بالقادمين إليها
ترحيب أهل النار بالقادمين لها لقوله تعالى "بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً , إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً , وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً , لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً " (الفرقان 11-14 ) معنى هذا انه عند قدوم المكذبين إليها يسمعون شهيقا وزفيرا عليهم استعدادا منها للفتك بهم وهنا تراهم يلقى بهم بمكان ضيق في النار إمعانا لهم في العذاب بل وهم موثوقون جنبا إلى جنب هنالك يصابون بالويل والندامة والحسرة فيجاب عليهم لا تقولون ويلا واحدا بل قولوا ويلا كثيرا فلا مغيث لكم من الهلاك.(1/132)
وهناك في النار شجرة تسمى شجرة الزقوم وهذه الشجرة تخرج في أصل الجحيم ومنها خلقت وغريت هيئتها مثل رؤوس الشياطين لمدى بشاعتها فمنها يأكل أهل النار حتى تمتلئ بطونهم ويشربون بعدها لشدة عطشهم بماء كالمهل وهو الذي انتهى حره فإذا قربوه من وجوههم شوى وجوههم فيصهر ما في بطونهم وتتساقط جلودهم ثم يعودون للنار وكل ذلك لإتباعهم لآبائهم الضالين فضلوا مثلهم وسعوا وراءهم.
وذلك مصداقا لقوله تعالى " أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ , إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ , إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ , طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ , فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ , ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ , ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ , إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ , فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ " ( الصافات 62-70 ).
وقوله تعالى أيضا " ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع "(الغاشية 6) وفي هذا يقول (- صلى الله عليه وسلم -) "إتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " أخرجه الترمذي والنسائي وقال حديث حسن.(1/133)
كما أن أهل النار لا يعذبون بالنار فقط بل يعذبون بشدة البرد أيضا ومنه صنوف كثيرة مثل الزمهرير والسموم وأكل الزقوم إلى آخره من ألوان العذاب ثم يحدث هنالك حوارا مابين أهل النار وجماعة من القادمين إليها فيقولون لهم لا مرحبا بكم أيضا لأنكم الذين دعوتمونا فأفضيتم بنا إلى هذا المصير فبئس المصير ثم يلعنون بعضهم فيدعون الله أن يزيدهم ضعفا من العذاب ثم يتساءلون أين الذين كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار وسخرنا بهم مالنا لا نجدهم هنا وهنا يعرفون أنهم في الجنة بل في الدرجات العلى منها وذلك مصداقا لقوله تعالى " هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ , جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ , هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ , وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ , هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ , قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ , قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ , وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ , أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ , إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" ( ص 55: 64 ) وتأكيدا لهذا الحوار يقول الحق( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ" ( الأعراف 38 ) وأيضا قوله تعالى " وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " ( الأعراف 44 )(1/134)
وأهل النار ترى وجوههم مسودة من كذبهم وافتراءهم وذلك لقوله تعالى "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ " ( الزمر: 60).
ومن سوء حال أهل النار أنهم يساقون إلى النار بزجر وعنف حتى إذا ما أتوها فتحت أبوابها بسرعة حتى تعجل لهم العقوبة ثم يسألهم خزنتها الم يجيئكم رسل من الله فينذرونكم لقاء هذا اليوم قالوا نعم وهنا حقت عليهم كلمة العذاب فيمثلون في النار مأوى لهم لكفرهم واستكبارهم عن الحق وذلك لقوله تعالى " وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ , قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " ( الزمر 71: 72) وتأكيدا لهذا قوله تعالى " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " وقوله أيضا " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا " .
الحوار ما بين أهل النار(1/135)
وهناك نوع من الحوار ما بين الضعفاء والذين استكبروا وكلهم في النار فيقول الضعفاء للقادة الذين اتبعوهم إنا أطعناكم عندما دعوتمونا فهيا ارفعوا عنا قسطا من النار تتحملونه عنا فيردون عليهم كفى بنا ما عندنا فلقد قضى الله علينا كل بما يستحقه ثم قالوا جميعا لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فيردون عليهم ألم تأتكم رسل من عند ربكم قالوا نعم فيقولون لهم إذن فادعوا انتم ربكم إنه سوف لا يجيبكم وذلك لقوله تعالى"وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ , قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ , وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ , قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ". (غافر 47: 48).
تأكيدا لهذا الحوار يقول الحق تبارك وتعالى "إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ , لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ , وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ , وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ , لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ , أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ , أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ". (الزخرف 74: 80).(1/136)
ويعني هذا أن المجرمين يخلدون في النار لا يرفع عنهم العذاب ساعة واحدة ويصابون باليأس من كل رحمة بهم فهم الذين ظلموا أنفسهم ثم يحاورون خازن النار فيقولون له ادعوا ربك ليميتنا فيريحنا مما نحن فيه فيقول لهم لا بل أنكم ستظلون هكذا لكفركم بما أنزل الله لكم من الحق فهكذا قضى عليكم الله هذا العذاب , فإن كنتم في الدنيا تكيدون وتتآمرون فإن الله يعلم تآمركم سرا وجهرا وكيف لا وملائكته يكتبون فهكذا كادكم الله ورد وبال ذلك عليكم فهذه هي النار التي كنتم تكذبون أحقا هي أمامكم أم لا ؟ وهذا السؤال تبكيتي وتهكمي إليهم لقوله تعالى " فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ , الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ , يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً , هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ , أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ , اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" ( الطور 11: 16).
أهل الشمال(1/137)
وهنالك فئة في النار يطلق عليهم أهل الشمال وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث ويكفرون بالله وكانوا في الدنيا منعمين .. فهؤلاء يأكلون من شجرة الزقوم فمالئون بطونهم منها ثم يسلط عليهم العطش فيشربون من الماء المغلي كما تشرب الإبل العطاش وهذه هي مكانتهم وذلك كله مصداقا لقوله تعالى في سورة الواقعة "وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ , فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ , وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ , لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ " (1) أي هواء حار وماء مغلي ولو طلبوا أن يتظللوا من النار يتظللون بظل الدخان , وذلك لقوله تعالى "انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ , لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ "(2) وعن سبب هذا الجزاء يقول سبحانه وتعالى " إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ , وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ , وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ , أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ , قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ , لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ , ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ , لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ , فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ , فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ , فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ , هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ "
( الواقعة 45: 56).
__________
(1) الواقعة ( 41 : 44 )
(2) المرسلات ( 30 : 31 )(1/138)
وقبل دخول الأشقياء النار سيعرفون مآلهم فيعطون كتبهم بشمالهم هنا يتمنون الموت فلم يغني عنهم مالهم ولا سلطانهم فيؤمر بهم فيجعل الأغلال في أعناقهم ثم يغمرون في النار ثم يقيد الواحد منهم في سلسلة طولها سبعون ذراعا ... فليس له هنا قريب ولا صديق وليس له من طعام يطعم إلا من شجرة الزقوم وقيل طعامه من الدم والصديد الذي يسيل من لحومهم .. وذلك لقوله تعالى " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ و وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ , يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ , مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ , هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ , خُذُوهُ فَغُلُّوهُ , ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ , ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ , إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ , وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ , فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ , وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ , لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ " ( الحاقة 25 : 37 ) .
وقال الحق عن النار أنها تلفح الجلد لفحة فتجعله أسود من الليل كما ان مقدمي زبانية النار عددهم تسعة عشر عظيم " خلقهم وغليظ خلقهم لقوله تعالى "سَأُصْلِيهِ سَقَرَ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ , لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ , لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ , عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ " ( المدثر 26 : 30 ).(1/139)
ويبين الحق سبحانه وتعالى الصورة أكثر إيضاحا بقوله تعالى "انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ , لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ , إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ , كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ , وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " ( المرسلات 30 : 34 ) ويعنى هذا أن النار يرونها الآن رأي العين . تلك الحقيقة التي كانوا يكذبون بها فلهيبها أذا ما ارتفع وصعد معه دخان فمن شدته وقوته تجد له ثلاث شعب وهذا الدخان من كثافته وشدته يظن الرائي له أنه يظله لكن لا يظل ولا يغني من لهيب النار وشدته ويكفي أن شرر النار الواحدة من تبلغ في حجمها كالقصر وكأنها الإبل السود في منظرها.
ولمشهد آخر من مشاهد النار يقول الحق في (سورة فصلت 19 : 24 ) " وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ , حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ , وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ , وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ , وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ , فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ " ) أي أنهم إذا صبروا فليس لصبرهم فرج " من هم لا ولو طلبوا الرضا والمسامحة من الله فما هم من المرضيين المسامحين.
حوار بين الشيطان وأهل النار(1/140)
وأهم مشهد هو ذلك الحوار الذي سيكون ما بين الشيطان وأهل النار فيقول تعالى "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (إبراهيم : 22) ويعنى هذا أن الشيطان بعد أن يقضي الله أمره ويساق الذين كفروا إلى النار يقول لهم إن الله وعدكم وعد الحق بينما أنا أخلفتكم ما وعدتكم ولكن أنتم الذين استجبتم لي فليس لي عليكم سلطان فلا تلقوا علي باللائمة ولكن لوموا أنفسكم ولا تطلبوا مني أن أغيثكم من العذاب فما أنا بمغيثكم وما أنتم أيضا بقادرين على إغاثتي وإنقاذي من العذاب فأنا كفرت وجحدت بالله عز وجل – لكني لم أشرك به – إذن الشيطان دعانا للشرك بالله بينما هو لم يشرك بالله بل عصى أمر الله بالسجود لآدم وهذا واضح في قوله تعالى " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً , قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً , قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً , وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً , إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً " ( الإسراء 61 : 65 )(1/141)
* نخرج من كل ما سبق من الذكر القرآني لمشاهد النار وحالها وحال أهلها بأن أهل النار والخالدين فيها كثير فمنهم الكافرين لقوله تعالى "فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " ( البقرة 24 ) أيضا اليهود الذين كتموا صفة محمد (- صلى الله عليه وسلم -) في كتبهم حتى لا تذهب رياستهم أو ما كانوا يأخذونه من العرب لقوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " ( البقرة 174 ).
آكلين الربا لقوله تعالى " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ( البقرة 275 ).
البخلاء : غير المنفقين من أموالهم في سبيل الله فلا يزكون لقوله تعالى "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" ( آل عمران 180 ).(1/142)
القاتل عمدا : لقوله تعالى "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً" ( النساء 93 ).
قاتل نفسه لقوله تعالى "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً , وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً " ( النساء 29 : 30).
* المنافقون : لقوله تعالى "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً" ( النساء 145 ).
* المنافقون المتخلفون عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في غزوة تبوك لقوله تعالى "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ " (التوبة : 81).
فرعون وآله لقوله تعالى "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" ( غافر46 ) أيضا لقوله تعالى " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ , إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ , يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ , وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ" ( هود 96 : 99).(1/143)
كل كافر عنيد في كفره لا يؤدي الصدقة ويجعل مع الله آلهة أخرى لقوله تعالى "وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ , أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ , مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ , الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ , قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ , قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ , مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ , يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ " ( ق 23 : 30 ).
منكروا البعث لقوله تعالى " وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ " (الرعد : 5 ).
المنافقون والمفسدون في الأرض لقوله تعالى "وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" ( الرعد25).
من افترى على الله وقال أن له ولد : حاشا لله لقوله تعالى "فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ" (مريم 37 ).
من أضاع الصلاة لقوله تعالى "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً " (مريم 59 ).(1/144)
المشركون بالله لقوله تعالى "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ,لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ , لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ " (الأنبياء 98 : 100 ) وأيضا لقوله تعالى "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ , وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ , مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ , فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ , وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ " ( الشعراء 91 : 95 ).
من لا يقيم الصلاة فهو من أهل النار لقوله تعالى " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ , إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ , فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ , عَنِ الْمُجْرِمِينَ , مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ , قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ , وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ , وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ , وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ , حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ "(المدثر 38 : 47) إذن من أهل النار الخالدين فيها الذين لا يؤدون الصلاة والذين لا يطعمون المساكين رغم قدرتهم على ذلك وأيضا الذين يتكلمون فيما لا يعلمون ويقولون " كلما غوى غاو غوينا " (1).
أكل مال اليتيم ظلما : لقوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً " ( النساء 10).
الخلود في النار لمن حارب النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لقوله تعالى " وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " ( الحج : 51 )
__________
(1) كما قال قتادة ذلك في قوله تعالى " كنا نخوض مع الخائضين )(1/145)
من كل ما سبق من ذكر أحوال النار وأهلها في القران يبين أن القرآن الكريم لم يقصر في حق الناس في شأن الترهيب من النار وعذابها فهناك من الآيات الكثيرة التي تتناول هذا الموضوع وما تناولنا إلا القدر اليسير خاصة وأن هذا الموضوع هو بحث من فصل من كتاب فإن شئت التوسع فارجع إلى كتاب الله وآياته ترى العجب العجاب ويكفينا الخطاب الموجه إليهم من قبل الله تعالى " قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ , قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ , قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ , أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكرِيمِ " ( المؤمنون 112- 116 ) فإذا كان الخلود في النار هو جزاء الكافرين والعمر مهما طال في الدنيا قصير أفليس أحرى بنا أن نتقي النار ولو بشق تمرة كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) وأن نتوب إلى الله توبة نصوح ونعاهده ألا نرجع إلى المعاصي أبدا وأن الإسلام ديننا ومحمد رسولنا ونبينا ونبتعد عن كل عمل يقربنا من النار ويبعدنا عن الجنة وأن نعمل كل ما من شأنه أن يقربنا من الجنة ويبعدنا عن النار وما تشتمل عليه في وصف القرآن الكريم لها. فلا يفوتنا بيان السنة وتفصيلها لما أجمله القرآن تبيانا وتفصيلا.
* النار في متناول السنة *
وإن كنا قد تناولنا النار وأحوالها في القرآن الكريم فإنه حري بنا أن نرى حالها كذلك في السنة ففي ذلك لا ريب إيضاح للصورة كما ينبغي فالسنة كما نعلم شارحة للمجمل في القرآن ومفصلة له وكما بينا أحوال الجنة وأهلها في السنة سنورد أحوال النار وأهلها لنكون قد وازنا بين الترغيب والترهيب وفي كل إفادة أيما إفادة.(1/146)
بداية: إذا كنا قد اتفقنا وأمنا بأن القبر هو أول مراحل الآخرة ومن ثم درسناه مع دراسة الجنة لأنه إما روضة من رياضها وهو كذلك قد يكون حفرة من حفر النار لذا علينا أن نعلم أن العذاب يبدأ بالقبر وكيف لا وقد قال (- صلى الله عليه وسلم -): " والذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم(1) أيضا قوله(- صلى الله عليه وسلم -): " إن هذه الأمة تبتلي في قبورها لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر الذي أسمع"(2) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -): " يسلط الله على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة فلو أن تنينا منها نفخت في الأرض ما أنبتت خضرا" (3) وفى البداية يثور تساؤل حتمى..هل يعنىقوله سبحانه وتعالى..وان منكم الا واردها كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً " (مريم : 71) هل يعني هذا أن المؤمن أيضا يدخلها؟!.. فلقد روي عن أبي سميه أنه قال:" اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر ابن عبد الله فقلنا: إن اختلافنا ههنا في الورود فقال تردونها جميعا فقلت له إنا اختلفنا في ذلك فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضنا يدخلونها جميعا فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله(- صلى الله عليه وسلم -) يقول: الورود الدخول ولا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال لجهنم ضجيجا من
بردهم" ثم ينجي الله الذين اتقوا ويزر الظالمين"(4).
__________
(1) التذكرة ص 163
(2) رواه مسلم عن طريق زيد بن ثابت
(3) التذكرة للقرطبي ص 153 برواية أبي سعيد الخدري
(4) رواه احمد ورواته ثقات والبيهقي بإسناد حسن ( الترغيب والترهيب جـ4 ص212)(1/147)
وكثير ما حذرنا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من النار في أحاديث عديدة.. فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) انه خطب فقال: " لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار ثم بكى حتى جرى أو بل دمعه جانبي لحيته ثم قال والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة لمشيتم إلى الصعدات ولحثيتم على رؤوسكم التراب" (1). كما قال (- صلى الله عليه وسلم -): " إتقوا النار قال وأشاح ثم قال : إتقوا النار ثم أعرض وأشاح ثلاثا حتى ظن أنه ينظر إليها ثم قال: إتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة" رواه البخاري ومسلم كما قال (- صلى الله عليه وسلم -): " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذهبهن عنها وأنا أخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي". رواه مسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أتى بفرس يجعل كل خطو منه أقصى بصره فسار وسار معه جبريل عليه السلام فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء قال: يا جبريل من هؤلاء؟ ......... قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة ثم أتى على قوم ختم على أدبارهم رقاع وعلى اقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام على الضريع والزقوم ورضف جهنم قال ما هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما والله بظلام للعبيد ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمه لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها قال يا جبريل ما هذا قال هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أدائها وهو يريد أن يزيد عليها
__________
(1) رواه أبو يعلي ( الترغيب والترهيب جـ 4 ص 255)(1/148)
ثم أتى على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء قال يا جبريل ما هؤلاء؟ قال خطباء الفتنة ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم يرد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع.. حتى يصل إلى واد فسمع صوت منكرا فقال يا جبريل ما هذا الصوت قال هذا صوت جهنم تقول يا رب أأتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وقد بعد قعري وأشتد حري أأتني بما وعدتني قال لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب قالت قد رضيت"(1). روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال جاء جبريل إلى النبي(- صلى الله عليه وسلم -) في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه فقال إليه (- صلى الله عليه وسلم -): يا جبريل مالي أراك متغير اللون فقال ما جئتك حتى أمر الله عز وجل بمنافخ النار فقال (- صلى الله عليه وسلم -) يا جبريل صف لي النار وأنعت لي جهنم فقال جبريل أن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها الف عام حتى ابيضت ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيىء شرارها ولا يطفئ لهيبها والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات كل من فىالارض جميعامن حره والذى بعثك بالحق لو ان خاذنامن خذنة جهنم برز الى أهل الدنيا لمات من في الأرض كلهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لرفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى. فقال (- صلى الله عليه وسلم -) حسبي يا جبريل لا ينصدع قلبي فأموت قال فنظر (- صلى الله عليه وسلم -) إلى جبريل وهو يبكي فقال: تبكي يا جبريل وأنت من الله
__________
(1) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما(1/149)
بالمكان الذي أنت به فقال أنا أحق بالبكاء لعلي أكون في علم الله غير الحال التي أنا عليها وما أدري لعلي أبتلي بما أبتلي به إبليس فقد كان من الملائكة ولا أدري لعلي أبتلي ما أبتلي به هاروت وماروت قال: فبكى (- صلى الله عليه وسلم -) وبكى جبريل عليه السلام فما زالا يبكيان حتى نودي أن يا جبريل ويا محمد أنا الله عز وجل قد أمنتكما أن تعصيان فارتفع جبريل عليه السلام وخرج الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) فمر بقوم من الأنصار يضحكون ويلعبون فقال: أتضحكون ووراءكم جهنم فلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما أسفتم الطعام والشراب ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله. رواه الطبراني في الأوسط
*ولقد ذكر في شدة حر النار قوله (- صلى الله عليه وسلم -) لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وبينهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لأحترق المسجد ومن فيه (1). كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) لو أن غربا من جهنم جعل في وسط الأرض لأذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب ولو أن شرره من شرر جهنم بالمشرق لوجد حرها من بالمغرب. رواه الطبري
وقيل عن ظلمتها وسوادها قوله (- صلى الله عليه وسلم -) " أوقد عليها ألف سنة حتى أحمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت فهي كالليل المظلم" رواه الترمذي
أما عن أوديتها وجبالها قال (- صلى الله عليه وسلم -) " ويلٌ واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره" وقال: واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعره " (2)
__________
(1) رواه أبو يعلي والبزار ( الترغيب والترهيب جـ 4 ص 227
(2) تفسير ابن كثير ط دار المنار الجزء الرابع(1/150)
وعنه (- صلى الله عليه وسلم -) في قوله تعالى " سأرهقه صعودا" قال "جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده عليه ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجل عليها ذابت فإذا رفعت عادت يصعد سبعين خريفا ثم يهوي كذلك" رواه أحمد وقال صحيح الإسناد رواه الترمذي
وعن بعد قعرها قال (- صلى الله عليه وسلم -) : لو أن حجر قذف به في جهنم لهوى سبعين خريفا فيه قبل أن يبلغ قعرها (1). وعن أبي هريرة قال كنا عند رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فسمعنا وجبة فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -) " أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله اعلم قال هذا حجر أرسله ربي في جهنم منذ سبعين خريفا فالآن حين انتهى إلى قعرها" .. رواه مسلم.
__________
(1) رواه أبو يعلي والبزار وابن حبان والبيهقي(1/151)
وعن سلاسلها قال (- صلى الله عليه وسلم -): ينشئ الله سبحانه وتعالى سحابة مظلمة فيقال يا أهل النار أي شيء تطلبون فيذكرون بها سحابة الدنيا فيقولون يا ربنا الشراب فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمر تلتهب عليهم"(1). وعن مقامعها قال (- صلى الله عليه وسلم -) لو أن مقمعا من حديد جهنم وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما اقلوه من الأرض (2). وعن حياتها وعقاربها قال (- صلى الله عليه وسلم -) إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت تلسع إحداهن اللسعة فيجد حرها سبعين خريفا وأن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين سنة (3). أما عن شراب أهل النار قال (- صلى الله عليه وسلم -) لو أن دلوا من غساق جهنم يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا (4).كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة فإن مات مات كافرا فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل يا رسول الله وما طينة الخبال قال صديد أهل النار " رواه أحمد .. أما عن طعامهم قال (- صلى الله عليه وسلم -) يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم يخيرون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون أدعوا خزنة جهنم فيقولون: " الم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" قال فيقولون " ادعوا
__________
(1) رواه الطبراني
(2) رواه أحمد وأبو يعلي والحاكم وقال صحيح الإسناد
(3) رواه أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال الحاكم صحيح الإسناد
(4) رواه الترمذي من حديث رشدين عن حديث عمر بن الحرث وقال الحاكم صحيح الإسناد(1/152)
مالك فيقولون " يا مالك ليقضي علينا ربك قال فيجيبهم إنكم ماكثون (1).أما عن قبح أهل النار قال (- صلى الله عليه وسلم -) لو أن رجلا من أهل النار أخرج إلى الدنيا لمات أهل الدنيا من وحشة منظره ونتن ريحه قال ثم بكى عبد الله بكاء شديدا (2) وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) إن الكافر ليجر لسانه فرسخين يوم القيامة يتوطأه الناس(3). كما قال (- صلى الله عليه وسلم -): " يعظم أهل النار في النار حتىان بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقة لمسيرة سبعمائة عام وإن غلظ جلده سبعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد (4). وعن أهون أهل النار عذابا قال (- صلى الله عليه وسلم -) إن أهون أهل النار عذابا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهم دماغه كما يغل المرجل بالقمقم (5). وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) إن أهون أهل النار عذابا رجل منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه مع أجزاء العذاب ومنهم من في النار إلى كعبيه مع أجزاء العذاب ومنهم من في النار إلى ركبتيه مع أجزاء العذاب ومنهم من قد اغتمر(6). وعن بكائهم وشهيقهم قال (- صلى الله عليه وسلم -): إن أهل النار يرسل البكاء عليهم فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت(7). وفي ختام عرضنا للنار نقول أنه وإن كان الله سبحانه وتعالى قد أعد للمؤمنين نعيما ما بعده نعيم فوق العقل والخيال فكذا سبحانه وتعالى قد أعد للعاصين عذابا فوق العقل والخيال وإن ما سبق ليس هو الصورة بأكملها بل قليل من كل. فإلى متى تتناسى حقيقة" إنا لله وإنا إليه راجعون" فلم لا نفعل ما ندرأ به عن أنفسنا يومئذ
__________
(1) رواه الترمذي والبيهقي
(2) رواه إبن أبي الدنيا موقوفا وفي إسناده ابم لهيعة ( الترغيب والترهيب جـ4 ص 237)
(3) رواه الترمذي ( الترغيب والترهيب جـ4 ص 238 )
(4) رواه الطبراني
(5) رواه البخاري ومسلم
(6) رواه أحمد والبزار وهو في مسلم مختصر
(7) رواه ابن ماجه وأبو يعلي(1/153)
العذاب.!
*** الجنة والنار أيهما تختار ***
بعد ما رأينا الجنة بين القران والسنة وكذلك النار في رحابهما علينا أن نختار أي الطريقين أحق أن نسلك؟! ولكي نضع صورة موجزة لكلتا النتيجتين حري بنا أن نجمل ما فصلناه سلفا في صورة سريعة للجنة وأخرى للنار كي نستبين حقيقة الاختيار
أولا: صورة الجنة: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرعلى قلب بشر.. فيها النعيم المقيم.. فيها فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة. فيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون غير متفاوتات في السن بل في سن واحدة لا يرين غير أزواجهن حسنا ولم يطأهن أحد قبلهم ويبلغن المنتهى جمالا وشفافية كأنهن الياقوت والمرجان. فيها خمر لذة للشاربين لا يذهب العقل بها.. فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه ولحم طير مما يشتهون وفراشها مرفوع بطائنها من إستبرق.. لا غل فيها ولا حقد.. بل شجر عظيم متراكم الثمر الذي هو أحلى من العسل متواجد دائما غير مرتبط بفصل كما بالدنيا – أيضا أهلها يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم – لا يرون شمسا فيها ولا زمهريرا.. وثمرها في متناول الأيدي فلا يجد المرء عناءا في التقاطه حتى أن أوانيها هي من فضة بينما قواريرها المعدة للشراب فهي فى حجم ري صاحبها بينما شفاء أهلها وريهم فمن بئر يسمى سلسبيل – يقوم على خدمة أهلها ولدان مخلدون لا يشيبون ولا يتغيرون كمااللؤلؤ حسنا يرتدون ثيابا من سندس أخضر ويحلون بأساور من فضة وبواطنهم مطهرة من الحقد والغل والحسد والأذى – كما أن أهل الجنة ناعمة وجوههم تعرف منها عند النظر إليهم أنهم منعمون راضون – وشدة النعيم لديهم رؤيتهم لأهل النار وهم يعذبون فيبكتونهم لقد وجدنا ما وعدنا الله فهل وجدتم ما وعدكم وللجنة أبواب ثمانية من أيها شاء داخلها دخل ولبناتها من ذهب ومن فضة وترابها الزعفران وطينها المسك. بينما لذة النعيم لديهم رؤيتهم لله سبحانه وتعالى والنظر إلى وجهه الكريم بل والحوار الذي بينه وبين كل منهم(1/154)
.. والعبد في الجنة يرتقي فيها درجة إلى درجة باستغفار ولده له. وهي بيضاء غرفها تلك الني يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها – وعن بساتينها فحسبك شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطهعا – وعن أنهارها فالكوثر حافتاه حبات اللؤلؤ المجوف طينه مسك أزفر – ماؤه مزاجه زنجبيلا – والرجل في الجنة يعطى قوة مئة رجل في الجماع بل في المطعم والمشرب – وعن انتقالهم من مكان إلى مكان يمتطون خيول من ياقوت أحمر لها أجنحة لا تبول ولا تروث – وهناك ألوان من الطرب بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها .. وكل ما تشتهيه النفس تجده دونما عناء أو تعب فلو أشتهي طيرا سقط مشويا في يده .. وسرر الجنة متقابلة يتحرك سرير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا دونما مجهود أو عناء .. ونكاح أهل الجنة ووطئهم والتلذذ بذلك فدونما مذى أو مني أو حاجة إلى غسل أو جنابة كما أن أهل الجنة يقضون حاجاتهم عرقا بينما الجنة لا شمس فيها ولا زمهريرا. فكل شيء قد أعده الله لأجل قاطنها بما يناسب تكوينه فهو خالقه ويعلم حتى ما وراء خياله وطموحه قد أعده وجهزه كي يوافيه الجزاء جزاء ما قدم من عبادة خالصة إلى وجهه الكريم وامتثالا لأوامره ونهيا عن نواهيه فطالما صبر على قضاء الله وقدره وأحتسب أمره إلى الله وأسهر ليله في عبادته وتسبيحه ولم يقترب من حرماته خشية وجهه وطمعا في جزائه وجنته.(1/155)
ثانيا: صورة النار: فحسبك الناس والحجارة – التي هي عظيمة السواد منتنة الريح إذا حميت والنار لا تنقضي فكلما خبت زادها الله سعيرا – عليها ملائكة غلاظ شداد دونما رحمة لا يعصون أمر الله كما أن أهلها تبدل جلودهم في الساعة مئة مرة لهم شهيق وزفير من العذاب وهم فيها خالدون في أعناقهم الأغلال يسحبون بها في النار – وأن أهون عذاب أهلها رجل تحت قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه – كما أن أهلها يسقون فيها من ماء صديد يشربون منه قهرا وقسرا فيقطع أمعائهم –من شدة حرارته – والموت يأتيهم من كل مكان وما هم بميتين – ويسقون لو عطشوا ماءا حميما يشوي الوجوه لو اقترب منها – وطعامهم من شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم – كما أن سرابيلهم من قطران وهو النحاس المذاب – مقيدين جنبا إلى جنب بقيود غليظة – تراهم وجوههم مسودة من سوء حالهم يساقون إلى النار بزجر وعنف حتى إذا ما أتوها فتحت أبوابها بسرعة لتعجل لهم العذاب بينما هم فيصابون باليأس من كل رحمة. والنار لها سبعة أبواب مخصص كل منها لفئة حسب جرمها – وهم يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما – وفي النار شجرة من زقوم تخرج من أصل الجحيم هيئتها كرؤوس الشياطين .. وهناك فئة من أهلها يقال لهم أهل الشمال يتظللون من النار بظل الدخان لكثافته الشديدة لا يظلهم ولا يغني عنهم من اللهب. كما أن مقدمي زبانية أهل النار هم تسعة عشر عظيم خَلقهم وغليظ خُلقهم. كما أن أحد شررها كالقصر حجما. وهناك فئات يخصص لكل منهم نوع من العذاب يتناسب وما قدموه من أعمال كأكلي الربا والبخلاء والقاتل عمدا وقاتل نفسه والمنافق وهناك منزلة منفردة لفرعون وآله وكل كفار عنيد ومنكري البعث والمنافقين والمفسدين في الأرض ومن ادعى بأن لله ولدا ومن أضاع الصلاة والمشركين بالله وأكل مال اليتيم ظلما وكذلك من حارب النبي (- صلى الله عليه وسلم -). والنار شديد حرها حتى لو أن شرارة من شرارها بالمشرق لوجد حرها(1/156)
من بالمغرب وهي مظلمة شديدة السواد كالليل البهيم المظلم. بها أودية منها واد يسمى ويل يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره. وهناك من المقامع والسلاسل والحيات والعقارب وما لا يتصوره عقل. أما عن شراب أهلها فمن غساق الذي لو أن دلوا منه يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا. وكما أن النعيم فوق العقل والخيال فكذلك العذاب فوق العقل والخيال أفبعد ذكر هاتين الصورتين الآنفتين لا يزال المرء في حال اختيار؟! أفلا يجدر بنا أن نسارع إلى التوبة ونلتمس الغفران؟ أفلا حري بنا أن نسلك مسلك العائدين إلى رحابه ننشد رحمته ونتقي عذابه. أم نؤجل التوبة لميقات قد لا ندركه فيحل بنا العذاب؟
إذا فالطريقان كلاهما واضحين والنتيجة في كل منها جلية فها هي الجنة وها هي النار وأيهما تختار؟ :-
فنراه يقول الحق في شراب أهل الجنة: "يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ , بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ " ( الصافات الآية 45: 46 )
بينما نراه يقول في شراب أهل النار: " وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً " (الكهف آية 29)
ونراه سبحانه يقول في طعام أهل الجنة:" إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ , أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ , فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ , فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ"(الصافات آية 40: 43)
بينما نراه يقول في طعام أهل النار:" ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ , لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ " ( الواقعة آية 51: 52)
أفليس هذا ترغيبا وترهيبا من الله إلينا؟ أفلا نكن خير مخاطب لخير مخاطب ألا هو القران ومحمد(- صلى الله عليه وسلم -) والله أدعوا أن يجنبنا النار وعذاب النار إنه هو العزيز الغفار
الفصل السادس
الدنيا والآخرة في الميزان(1/157)
... لو وضعناهما الدنيا والآخرة على كفتي الميزان.. ميزان النظر الثاقب والعقل الواعي فأيهما ستثقل الأخرى إن الحياة التي نحيا هي دنيا أغيار فلا شيء ثابت فيها فهي ذاتها محدودة لها نهاية بالفناء والهلاك والغنى لا يدوم فقد يعقبه الفقر والصحة لا تدوم فقد يعتريها المرض والسرور لا يدوم فقد يتلوه الهم دنيا بكل هذه السمات والأوصاف هل تستاهل كل هذا الاهتمام وعلى حساب ماذا؟ على حساب حياة أخرى سرمدية يقول عنها الحق سبحانه وتعالى " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"(1) فهل لنا نحن العباد أن نحكم على الدنيا حكم مخالف؟! إذا فحري بنا أن نأخذ من الدنيا ما يقربنا من رحمة الله في الآخرة وألا نبيع آخرتنا بدنيانا فالدنيا متاع زائل والآخرة نعيم دائم لقوله تعالى" لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ , مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ , لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ "(2) وقوله تعالى "قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً "(3) وإذا كان هذا هو أمر الآخرة ونعيم المؤمنين والمتقين فيها فجدير بالعقل الواعي أن يختار.. فاختيارهم لا شك ينصب على الأخرة لا الدنيا فليطمئن لهذه الآخرة ويركن إليها ويغفل عن آيات الله فيها فإنه إن فعل ذلك كان ممن قال عنه تعالى" إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ,
__________
(1) العنكبوت : الآية 64
(2) آل عمران الآية 196: 198
(3) النساء آية 77(1/158)
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ "(1) معنى هذا أن التفكر والتدبر في آيات الله الكونية في الدنيا وعبادة الله هم أولى أسباب خلق الله للإنسان واستخلافه في الأرض وهذا أمر مقبول للعقل مادام الخلود والنعيم اللانهائي هما العاقبة بينما الفناء والتغير هما أمر الحال. فلأيهما نعمل ونعد العدة.
... والحق سبحانه وتعالى أبان للإنسان حقيقة الدنيا منذ أوجده فيها بل وأرسل له الأنبياء والرسل هادين إلى طريق الله وإلى درب الوصول إلى النعيم السرمدي والرضاء الإلهي ومبشرين له بالجنة إذا ما التزم به ومنذرين له من طريق الشيطان ومن الإرتكان إلى نعيم الدنيا الزائل والسخط الإلهي وعدم التفكر في آيات الله الكونية وآياته في خلقه والحرص على الدنيا وعدم الحرص على رضاء الله والآخرة فذلك هو الخسران المبين فقال سبحانه وتعالى" مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"(2) كما يقول (- صلى الله عليه وسلم -) " إن الله لا يظلم المؤمن حسنه يعطي بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة, وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا"(3)
__________
(1) يونس آية (7: 8)
(2) النحل آية 97
(3) أخرجه أحمد ومسلم في صحيحه(1/159)
... كما يقول سبحانه وتعالى " فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ , وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ , أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"(1) أي أن هناك من طلب من الله حظه من الدنيا وعمل له وليس له من الآخرة من حظ ولا نصيب فله ما طلب كما أن هناك من طلب من الله حظه ونصيبه من الدنيا وكذا نصيبه من الآخرة فذلك كذلك له ما طلب.
* والإنسان يطلب من الدنيا الزائل من نعيمها لا ما يوصل منها إلى النعيم المقيم وإلى حسن المئاب فنراه يطلب ما زين له في الدنيا من أمور فانية لقوله تعالى " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ , قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"(2) فالنساء فتنة لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء "(3) والمقصود بكلمة فتنة أي يفتن بها الرجال فيقعوا فيما حرم الله ولكن إذا كان القصد بهن العفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب ومندوب فعله.
فتنة الولد
__________
(1) سورة البقرة ( آية 200: 202 )
(2) آل عمران ( آية 14: 15 )
(3) متفق عليه عن طريق أسامة بن زيد ( التذكرة للقرطبي ص 429 ط دار الريان للتراث)(1/160)
... كما أن البنين وحبهم فتنة إذا كان القصد بهم التفاخر والتباهي. أما إذا كان القصد منهم التوحيد بالله وعبادته فذلك مندوب فعله ووصى به (- صلى الله عليه وسلم -) لقوله تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم "(1).
وكذلك كل ما ذكر في الآيات السابقة من فتن لا يجب الأخذ منها إلا ما كان منه لوجه الله ولطاعته وتقدمة إلى حياة أخرى سرمدية بها نعيم عظيم ورضوان من الله تعالى.
والذي يجرى وراء الدنيا ليس له منها إلا ما كتب الله له مهما بلغ سعيه وبلغ عمره. أفليس جدير به ألا يلجأ إلا إليه سبحانه وتعالى لقوله تعالى " مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً " (النساء : 134) أي أنه من أراد أن يغتنم الدنيا والآخرة فليتق الله وليرجع إلى رحابه.
فتنة المال
__________
(1) رواه أبو داوود والنسائي والحاكم وقال الحاكم صحيح الإسناد(1/161)
والمال لا ريب فتنة لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال"(1). فعلينا ألا نفتتن به.. فالغني فتنة وكذلك الفقر فتنة لقوله تعالى"فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ , وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ , كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ , وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ , وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً , وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً "(2). فالابتلاء بالغنى امتحان له هل سيفتن به فلا يتصدق ولا يكن من المحسنين أم سيجعله فى طاعة الله وكذلك الابتلاء بالفقر امتحان له هل سيفتن به بالايصبر ويقنط من رحمة الله ام يصبر ويمتثل لامر الله ويكن من الشاكرين(3).
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن حيان في صحيحه والحاكم وقال الحاكم صحيح الإسناد
(2) الفجر آية 15: 20
(3) لقوله تعالى " ولو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير." الشورى : 27(1/162)
إذا فالحياة الدنيا هي دار إبتلاء بكل ما فيها ووصفها رب العزة بجميل الوصف والتبيين فقال " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " الحديد (1) .. كما يصفها تعالى بقوله" وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً , الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً " (الكهف 45 : 46 ).
__________
(1) الحديد آية 20(1/163)
فهذه الدنيا ما هي إلا دار فتنة واختبار ولا قيمة لها عند العزيز الجبار فذلك (- صلى الله عليه وسلم -) يقول " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء"(1) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) في رواية لابن عمر ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) (2) وفي رواية عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر به (- صلى الله عليه وسلم -) فقال له كيف أصبحت يا حارث؟ قال أصبحت مؤمنا حقا قال لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها وقد قيل تساوي عندي نضرها بحجرها فقال (- صلى الله عليه وسلم -) يا حارث عرفت فألزم قالها ثلاثا (3) معنى هذا أنه (- صلى الله عليه وسلم -) قد أوصانا بالزهد في الدنيا وعدم الابتعاد عن منهاج الله وأمره وكل ما من شأنه أن يقرب إلى رحمة الله وكرمه وعدم الارتكان إلى زخرفها وزينتها فما هي إلا أمور خادعة وما هي إلا طيف سراب فيقول (- صلى الله عليه وسلم -) عن الدنيا عندما مر بشاة ميتة قد ألقاها أهلها فقال والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها(4) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء "(5)
__________
(1) رواه البخاري وأورده في كتاب قصر الأمل عن طريق عبد الله بن عمر
(2) رواه البخاري – رياض الصالحين ص 201 ط مؤسسة الرسالة بيروت
(3) أخرجه الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري ( ورد بتفسير بن كثير في سورة الأنفال آية رقم 4
(4) رواه أحمد بإسناد لا بأس به ( الترغيب والترهيب جـ4 ص 101 )
(5) رواه الترمذي – رياض الصالحين عن سهل بن سعد الساعدي(1/164)
وأيضا قال (- صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه ابو هريرة : ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما او متعلما) (1). أيضا قال أبو بكر" رأيته (- صلى الله عليه وسلم -) يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحداً فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت ليّ فقلت لها: إليك عني ثم رجعت فقالت إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك" (2) والعقل ذاته يقول إذا كانت الدنيا هي الأولى من الآخرة بالعمل والتمتع لكان (- صلى الله عليه وسلم -) أول من تمتع بها. فكانت الدنيا كلها أمامه ود منها ما ود أو شاء منها ما شاء لكنه لم يستجب لخداعها فلم يبحث عن غني رغم أن الغنى آتيه إذا ما هو أشار ولم يبحث عن سلطان ولا جاه فكان مثله مثل صحابته حاله كحالهم فأمرهم " ألا يسيدوه في الصلاة " وكان يشاركهم في أي عمل يقومون به مهما قل قدره. فما هو بالمتكبر وما هو بالسلطان بل كان صاحب رسالة من السماء مكتوب على غلافها " وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون"
__________
(1) رواه ابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال حديث حسن
(2) مكاشفة القلوب للإمام الغزالي(1/165)
وبصرنا (- صلى الله عليه وسلم -) بأمر الدنيا فقال" مثل ابن آدم وماله وأهله وعمله كرجل له ثلاث أصحاب فقال أحدهم أنا معك حياتك فإذا مت فلست منك ولست مني فهو ماله وقال الآخر أنا معك فإذا بلغت تلك الشجرة فلست منك ولست مني وقال الآخر أنا معك حيا وميتا (1) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) "الهاكم التكاثر .. يقول ابن أدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت(2) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) " الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (3) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) من أصبح وهمه الدنيا فليس منا (4) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك (5)
إذن ما دامت الدنيا هكذا أمرها غير ثابت .. فكل شيء فيها متغير فعلينا إذن ألا نود العز إلا في طاعة الله وألا نخاف الذل إلا من البعد عن منهاجه ونقرأ ونتدبر قوله تعالى "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" ( آل عمران 26 )
وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: مالي والدنيا .. ما أنا في الدنيا إلا كراكب إستظل تحت شجرة ثم راح وتركها(6)
__________
(1) رواه البزار ورواته رواه الصحيح ( الترغيب والترهيب جـ4 ص 101 )
(2) رواه مسلم والترمذي
(3) رواه أحمد والبيهقي وزاد ومال من لا مال له وإسنادهما جيد
(4) رواه الطبراني
(5) رواه البخاري وغيره( الترغيب والترهيب جـ4 ص 133 )
(6) رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح والطبري(1/166)
ولقد سئل نبي الله نوح وقد عاش ما عاش .. صف لنا الدنيا أجاب" الدنيا كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر (1) ومن ثم فعلينا ألا نعمل في الدنيا إلا ما هو لازم لحياتنا ومعاشنا وألا تشغلنا الدنيا عن العمل للآخرة. فلا أموال ولا أولاد بنافع المرء فلا نافع سوى عمله الصالح لقوله تعالى"وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ , الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ , يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ , كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ , نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ " (الهمزة 1: 5 ) فلن يأخذ المرء من الدنيا غير ثلاث كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له(2) فجمع المال إذا لن يفيد بل قد يكون غرم عليه وحجة يوم القيامة فيسأل عنه من أين أكتسبه وفيما أنفقه كما أن الاغترار بالسلطان والجاه والسعي وراءهما لن يفيد فقد يدفعانه للظلم فيحاسبه الله تعالى عن كل ظلم ظَلم
إذا علينا أن نجعل حياتنا وسيلة لا غاية محطة انتقال لا محطة وصول وأن نستعد فيها حتما ليوم الرحيل ما دام الرحيل حتما قادم وما دام السفر آت لا محالة .. نستعد بالإيمان الكامل بالوحدانية وعمل الصالحات وكل ما من شأنه أن يقربنا إلى الله وساحة رحمته وجنته ونبتعد عن كل ما من شأنه أن يبعدنا عن الله وساحة رحمته وجنته ويقربنا من بطشه وناره انه نعم المولى ونعم النصير.
** الحكماء والسلف .. والدنيا **
__________
(1) قصص الأنبياء لابن كثير
(2) ورد بصيح مسلم عن طريق أبي هريرة(1/167)
فالدنيا هكذا قيمتها والآخرة هكذا قيمتها وقد فطن الكثير لقيمة كل منهما فقد قال الحسن بن علي " والله قد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا " وقال رجل للحسن ماذا تقول في رجل أتاه الله مالا فهو يتصدق منه ويصل منه أيحسن أن يتعيش منه أي يغتنم؟ فقال: لا لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقدم ذلك ليوم فقره".
وروي أن سليمان بن داوود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وعن شماله فمر بعابد من بني إسرائيل فقال والله يا بن داوود لقد أعطاك الله ملكا عظيما فقال سليمان: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داوود فإن ما أعطي ابن داوود يذهب والتسبيحة تبقى (1) وقال عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد. ومن وصايا المسيح أيضا أنه قال لأصحابه " من ذا الذي يبني على موج البحر دار تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا " وأيضا قال لهم أعبروا ولا تعمروها " وقال بعض الحكماء: " كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره كيف يفرح من يقوده عمره ألي أجله وتقوده حياته إلى موته " وقال الشاعر أبا العتاهية:
وما أدري وإن أملت عمرا
ألم ترى أن كل صباح يوم ... لعلي حين أصبح لست أمسي
وعمرك فيه أقصر منه أمسي
وكل ما على الدنيا زائل لا محالة لقوله تعالى " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً , وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً " ( الكهف آية 7: 8). فيا لخسران وغرم من باع آخرته بدنياه ويا لكسب وغنم من باع دنياه بآخرته في تجارة رابحة مع الله فغنم كسبه لحظة منتهاه.
__________
(1) مكاشفة القلوب للإمام الغزالي(1/168)
*** بيانه (- صلى الله عليه وسلم -) لقيمة الدنيا ***
وهناك من أقواله (- صلى الله عليه وسلم -) وأقوال السلف ما يساعدك على السير في طريق الحق " دونما أوب أو رجعة".. منها ما قال (- صلى الله عليه وسلم -) أحفظ الله يحفظك , أحفظ الله تجده تجاهك , وإذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو أجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضرك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) (1) وحفظ المرء لله أي الحفظ لحدود دينه وشرعه والبعد عن حرماته فإذا ما قصد المرء هذا وحاول جاهدا حفظه الله وأيده وناصره وحماه مما خاف أن يقع فيه من حرمات. كما أن السؤال لغير الله غير مجد فلا عاط إلا الله ولا مانع إلا الله والإستعانه تكن دائما بالله لا بغيره .. والإيمان الكامل بأنه لن يضر المرء احد بغير ما كتبه الله عليه ولن ينفعه بغير ما كتبه الله له. والالتزام بهذا كله والإيمان به من شانه الحفاظ على المرء ونفسه من الآلام النفسية والتوترات العصبية وسلامة روحه من روع وفزع مادام وكل أمره إلى الله وآمن أن كل ما له سوف يأتيه وأن رزقه آتيه لا محالة فقط عليه الإتيان بالأسباب وعلى الله الخواتيم كلها .. هنا يصيب المرء من الطمأنينة والسكينة ما لا يصيبه غير المتبع لنهج الله وأوامره الذي يظل يركض في الدنيا كركض الوحوش في البرية ولن يغنم إلا ما كتبه الله له. فالإيمان بأن الرازق هو الله والمغني هو الله والشافي هو الله والإيمان بما رواه أنس ابن مالك عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال: " يقول الله عز وجل : إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن أبسط عليه أفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه
__________
(1) أخرجه الترمذي والأمام أحمد حديث عبد الله بن عباس ( جامع العلوم والكم ص 223 ط دار الريان للتراث . القاهرة الطبعة الأولى 1987م(1/169)
إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وإن من عبادي من يطلب بابا من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليم خبير "(1) إذن الإيمان بأن المرض والصحة والغنى والفقر كلها أمور لا يعلم غايتها إلا الله وفي كل منها خير إن لم يكن الخير في الدنيا فيكون الخير في الآخرة بل قد يكون في الدنيا والآخرة معا من ورائها. فالعالم هو الله فلا راد لما قضى الله ولا معقب لما أمر الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) رواه الطبري – جامع العلوم والحكم ص 228 طبعة دار الريان للتراث(1/170)
أيضا قوله (- صلى الله عليه وسلم -) " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " رواه مسلم في صحيحه .. معنى هذا أن الإيمان بالقدر خيره وشره وبأن كل شيء من عند الله وكل مقدر على المرء من سعادة وشقاء أمر واجب ولازم من لوازم الإيمان. بل أن الإيمان بهذا الأمر يهدئ من روع المرء إذا ما حلت به مصيبة فالأمر واقع لا محالة حاولت منعه أم لا. فهو واقع .. واقع.. لقوله تعالى "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ "(1) وأيضا قوله تعالى: " وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(2) وقوله سبحانه وتعالى: "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(3) هنا لو أيقن المرء وآمن بأن ما أصابه من خير أو شر مكتوب عليه كما قال تعالى "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ "(4) فعن أبي يحي صهيب بن سنان رضي الله عنه قال : قال (- صلى الله عليه وسلم -) " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له" (5) . إذا أيقن المرء بهذا وآمن أن الفرج مع الكرب لقوله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا
__________
(1) سورة الحديد آية : 22
(2) سورة يونس آية : 107
(3) سورة فاطر آية : 2
(4) سورة التوبة آية : 51
(5) رواه مسلم وذكر في رياض الصالحين للإمام النووي ص 22 ط مؤسسة بيروت(1/171)
وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ "(1) وقوله "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً "(2) وقوله "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ "(3) وقوله "سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً "(4) إذا آمن المرء بكل هذا فسلم أمره إلى الله وأراح خاطره وباله لإنصلح حاله ومآبه فغنم الدنيا والآخرة.
اقتربت الساعة
في خضم بحثنا لقيمة الدنيا والآخرة تتضاءل قيمة الأولى ويتعاظم شأن الأخيرة إذا ما علمنا أن الدنيا قد اقتربت من النهاية. هذه حقيقة لا ريب فيها .. فأشراط الساعة الصغرى منها والكبرى لو دققنا النظر في كل منها على حدة لعلمنا أن الأشراط الصغرى قد تحققت ونحن في انتظار العلامات الكبرى لها .. تلك العلامات التي ليس بينها وبين النفخ في الصور زمن يقاس أو عداد يعد... فإذا كان ميقات الساعة أمرا قد اختص العليم به إلا أن الله سبحانه وتعالى قد أبان لنا أماراتها وأشراطها على لسانه (- صلى الله عليه وسلم -) وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ... لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) لجبريل عليه السلام لما سأله عن الساعة فقال (- صلى الله عليه وسلم -) " ما المسئول عنها بأعلم من السائل – قال – أي جبريل عليه السلام – فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاه يتطاولون في البنيان "(5).
وأهم العلامات الصغرى التي أبانها (- صلى الله عليه وسلم -):-
أن تلد الأمة ربتها : وهذه الآية قد تحققت بالفعل.
أن ترى الحفاة العراة رعاة الشاه يتطاولون في البنيان وهذا قد تحقق بالفعل والكل يراه في زماننا هذا رأي العين ولا حاجة بنا إلى الإشارة من قريب أو بعيد.
__________
(1) سورة الشورى آية 28
(2) سورة الشرح آية 6
(3) سورة الطلاق آية 3
(4) سورة الطلاق آية 7
(5) طرف من حديث صحيح رواه مسلم عن عمر بن الخطاب ورواه أحمد عن ابن عباس وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة برقم 1345(1/172)
قوله (- صلى الله عليه وسلم -) :" إذا وسد الأمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة"(1)
قوله (- صلى الله عليه وسلم -) إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج – والهرج هو القتل – " (2)
قوله (- صلى الله عليه وسلم -) " من أشراط الساعة الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين وائتمان الخائن " (3) فنرى الآن بذاءة اللسان وقطيعة الرحم واتهام الأمين وائتمان الخائن بل وتقريبه.
أيضا من هذه الأشراط اتخاذ المساجد للمرور لا للصلاة فيها وظهور موت الفجاءة في الناس لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) .. " وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر الموت الفجاءة "(4) وهذا قد حدث وكثر بالفعل..
من أشراط الساعة أيضا .. كثرة الزلازل لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج – والهرج هو القتل "(5) وبالفعل في زماننا هذا قد كثرت الزلازل حتى أن العلماء قالوا أن الأرض في حالة ارتعاش دائم!!
تداعي الأمم وتكالبها على أمة الإسلام كما تتكالب الأكلة على قصعتها(6)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب العلم عن أبي هريرة
(2) متفق على صحته من حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما
(3) حديث صحيح رواه أحمد والبزار عن ابن عمر وذكره الألباني في سلسلته الصحيحة برقم 2290
(4) حديث حسن عند الطيالس عن أنس رضي الله عنه وذكره الألباني في الصحيحة برقم 2292
(5) رواه البخاري في صحيحة عن أبي هريرة وأحمد وابن ماجه في سننه
(6) معنى حديث حسن رواه أحمد وأبو نعيم في الحلية عن ثوبان مولى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)(1/173)
من أشراطها أيضا – التماس العلم عند الأصاغر – وهم طلبة العلم غير المتمكنين – فيسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون لقوله(- صلى الله عليه وسلم -) " إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر(1)
كذلك من أشراطها أن يكون السلام للمعرفة فقط فلا يسلم الرجل إلا على من يعرف لقوله " إن من أشراط الساعة أن يسلم على الرجل لا يسلم إلا للمعرفة (2) وهذا أيضا قد حدث بالفعل.
كذلك من أشراطها أن يتباهى الناس في المساجد وتفاخرهم بها وبأثاثها وزخرفها لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد(3) وهذا حدث بالفعل.
أن تشارك المرأة زوجها في العمل والتجارة لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة" (4)
ظهور الترف وحياة الدعة في الأمة الإسلامية لقوله(- صلى الله عليه وسلم -) "إذا مشت الأمة على المطياء وخدمها أبناء الملوك أبناء فارس والروم سلط شرارها على خيارها"(5)
__________
(1) صحيح رواه الطبراني عن أبي أمية الجمحي ورواه ابن المبارك وذكره الألباني في الصحيحة برقم 695.
(2) صحيح لغيره رواه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه
(3) صحيح رواه أحمد والنسائي وأبو داوود وابن ماجه من حديث انس رضي الله عنه
(4) صحيح لغيره رواه أحمد والطياليس عن ابن مسعود
(5) رواه الترمذي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما وذكره الألباني في الصحيحة برقم 956(1/174)
من الأشراط أيضا محاصرة العراق بل وأهل الشام كذلك فيمنع عنهم الطعام وهذا لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفير ولا درهم قلنا من أين ذلك؟ قال من قبل العجم يمنعون ذلك ثم قال : يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدى .. قلنا من أين ذلك؟ قال : من قبل الروم (1)
من أشراطها أيضا قوله (- صلى الله عليه وسلم -): أعدد ستا بين يدي الساعة: موتي ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كعصاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى بيت من بيوت العرب إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبنو الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية أثنا عشر ألف"(2)
لو تدبرنا هذا الحديث لرأينا أن جل هذه الأشراط والتي أشار إليها (- صلى الله عليه وسلم -) قد تحققت فأولها وفاته (- صلى الله عليه وسلم -) وفتح بيت المقدس حدث بالفعل في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. كما نرى الأسعار في غلاء لم يحدث من قبل حتى أن المرء لا يشعر بغنيمة ما يكتسب مهما بلغ .. كما أن التلفاز وهو أكبر فتنة نراه قد دخل كل البيوت..
__________
(1) رواه مسلم في كتابه " الفتن" عن جابر ورواه أحمد في مسنده – والقفير هو مكيال العراق والمدى هو مكيال أهل الشام .
(2) رواه البخاري في صحيحه عن عوف بن مالك وأحمد والطبراني عن معاذ وذكره الألباني في الصحيحة برقم 1883(1/175)
فإن كان ذلك كذلك .. وإذا كانت أشراط الساعة وكما رأينا قد تحققت – فلم يبقى بعد سوى الأشراط الكبرى لها .. والتي عدها (- صلى الله عليه وسلم -) عشر أشراط:- روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال " أطلع علينا النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فقال ما تذكرون؟ قالوا نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى ترون عشر آيات – فذكر الدخان – والدجال – والدابة – وطلوع الشمس من مغربها – ونزول عيسى بن مريم عليه السلام – ويأجوج ومأجوج – وثلاثة خسوف ( خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ) وأخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (1) ويعني كل ما سبق أن الآيات الصغرى للساعة قد تحققت .. ونحن الآن في انتظار الآيات الكبرى لها...
بيان العلامات الكبرى للساعة
فتوحات المهدي بين الآيات الصغرى والكبرى للساعة
إنه إذا ما اكتمل ظهور العلامات الصغرى للساعة ( وقد اكتمل ظهورها بالفعل) فارتقب العلامات الكبرى لها. ولكن اعلم أنه يسبق ظهور العلامات الكبرى تلك علامة مهمة تعتبر حلقة الوصل بين العلامات الصغرى والعلامات الكبرى لها وهذه العلامة هي ظهور المهدي المنتظر. ولكن متى يظهر المهدي المنتظر؟ وما هي علامات ظهوره؟
(حرب العمالقة ) (2)
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه – كتاب الفتن وأشراط الساعة- ورواه أحمد في مسنده.
(2) وهذه الحرب معروفة عند أهل الكتاب وذكرتها كتبهم المقدسة بمسمى ( هرمجدون ) فلقد جاء في (سفر الرؤيا /16- 16 ) وجمعت الأرواح الشيطانية جيوش العالم كلها في مكان يسمى هرمجدون.) الإنجيل ص 388. الناشر دار الثقافة. هرمجدون هي كلمة عبرية مكونة من مقطعين هر ومعناها بالعبرية جبل. ومجيدون وهي اسم وادي في فلسطين والمقصود (جبل مجيدو) وهو ساحة المعركة القادمة.(1/176)
بداية... فإن ظهور المهدي المنتظر يتطلب مناخا لازما لظهوره وهذا المناخ قد أعده الله تعالى سلفا وأوضحه لنا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -).. كيف؟
قال - صلى الله عليه وسلم - " ستصالحون الروم صلحا آمنا فتغزون أنتم وهم عدوا من ورائهم فتسلمون وتغنمون ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول غلب الصليب فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله فيغدر الروم وتكون الملاحم فيجتمعون لكم في ثمانين غاية مع كل غاية اثني عشر ألفا (1) ويعني الحديث أنه بتمام ظهور العلامات الصغرى للساعة علينا أن نرتقب ( تقارب سياسي ) وصلحا آمنا بين المسلمين والروم يصل لدرجة عقد اتفاقيات الدفاع المشترك وعندئذ يكون المسلمون والروم في خندق واحد وجيش موحد يغزون عدوا آخر – لم يحدده الحديث – ولكن قد تحدده الرؤية المتعمقة للاتجاهات السياسية العالمية وعلى العموم فهذه الحرب والتي يمكن تسميتها حرب العمالقة شديدة الوطيس مدمرة تباد فيها كل مظاهر المدنية الحديثة ودليل هذا أن المعركة الثانية سيكون القتال فيها بالسيف وسنبين هذا في حينه. المهم تنتهي المعركة بانتصار معسكر المسلمين والروم على المعسكر الآخر وترفع رايات النصر ولكن لا يلبث الأمر إلا ويعكر صفو هذا التحالف ما بين المسلمين والروم قيام رجل من الروم يرفع الصليب ويقول غلب الصليب فتلتهب دماء رجال من المسلمين غيرة على دينهم واعتزازا به فيهب أحدهم ويقتله وهنا يرحل الروم إلى بلادهم وفي نيتهم الغدر بالمسلمين فيجتمع ملوك الروم على كلمة واحدة هي - حرب المسلمين – غائبة حطين عن أذهانهم فيشكلون جيشا جرارا به ثمانين كتيبة في كل كتيبة اثنا عشر ألف جندي.. وهذا يعني أن هذا الجيش سيبلغ المليون جندي تقريبا
__________
(1) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه وابن حيان عن ذي مخمر رضي الله عنه وصححه الألباني في تحقيقه لأحاديث المشكاة برقم 5424 . وفي صحيح الجامع أيضا وله روايات.(1/177)
وقبل أن يتوجه هذا الجيش تلقاء بلاد المسلمين تكون هناك أحداث متلاحقة على الصعيد الآخر وهو (المسلمين).... كيف؟
...... عند موت خليفة المسلمين حينئذ يقع خلاف بين المسلمين حول من يتولى الخلافة بعد سلفه وهنا يشتد الخلاف فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة وبالتحديد إلى الكعبة المشرفة وبينما هو بين الركن والمقام إذ يأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه وذلك لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام(1) ولكن من هذا الرجل الذي يبايعونه؟! إنه المهدي المنتظر .. ومن يبايعونه؟! إنهم أناس لا عدد لهم ولا عدة ولا منعة ولا قوة يتحصن بهم المهدي بالبيت فيعلم المسلمون بأمرهم وأمر من بايعوه خليفة وأين هم يتحصنون فيرسل إليهم بجيش لقتالهم ولكن ما أن يجاوز هذا الجيش المدينة إلا وتخسف الأرض بهم – أي تنشق وتبتلعهم – ويكون هذا الخسف بالقادمين لقتال المهدي ومن معه كرامة وحماية له ودفاعا عنه وشهادة له بأنه هو المهدي المنتظر ودليل هذا ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت "عبث" (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه فقلنا يا رسول الله صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله فقال العجب أن ناس من أمتي يؤمون (3) البيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف الله بهم فقلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس قال نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون جميعا مهلكهم واحدا
__________
(1) رواه أحمد وأبو داوود عن أم سلمه وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وحسن إسناده أبن القيم لكن في إسناده راوي تكلم فيه وضعفه غير واحد ولذلك ضعفه الألباني في ( الضعيفة ) برقم 1965 ثم ساق له متابعات ذكرها في الصحيحة برقم 1924
(2) عبث – أي تحرك جسده الشريف
(3) يؤمون – أي يتوجهون نحو البيت(1/178)
ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم (1) وأيضا لقوله - صلى الله عليه وسلم - " سيعوذ بهذا البيت قومّ ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة يبعث الله إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم " (2) وهنا يعلم المسلمون بأمره وبكرامته التي أظهرها الله بخسفه بالجيش المعادي له تكريما له وهنا يبايعه المسلمون إرسالا وجماعات. فقد بايعه الناس من قبل وهو غير راغب في البيعة ولكن الله هيأه لذلك وجهزه في مقدار ليلة وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - " المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة " (3) ومنذ هذه اللحظة تبدأ مسيرة المهدي المنتظر والذي يسمى هو وكذلك يسمى أباه باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم أبيه فإنه محمد ابن عبد الله ( المهدي المنتظر ) والذي هو كذلك يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما ويمكث في الناس سبع أو ثماني أو تسع سنوات على الأكثر وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لتملأن الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما يبعث الله رجل مني أسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيملؤها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما فلا تمنع السماء شيئا من قطرها ولا الأرض شيئا من نباتها .. يمكث فيكم سبعا أو ثمانيا فإن أكثر فتسعا"(4)
خلافة المهدي المنتظر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ما ذكر في الأسواق ومسلم واللفظ له في كتاب الفتن باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت
(2) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها
(3) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه " عن طريق علي رضي الله عنه " وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند وصححه الألباني في الصحيحة برقم 2371.
(4) حديث صحيح رواه الطبراني والبراز وأبو نعيم ورمز السيوطي لصحته في " الجامع " وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1529(1/179)
بمبايعة المسلمين للمهدي المنتظر يصبح هو خليفة المسلمين – العادل – والقائد المظفر الذي سيعود على يديه زمن الفتوحات الإسلامية.
أولا: غزو جزيرة العرب وفارس: وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - " تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله ثم تغزون الدجال فيفتحه الله" (1)
ثانيا: الملحمة الكبرى: - تلك الحرب الكبرى والتي نوهنا عنها سلفا والتي سيكون المسلمون فيها بقيادة المهدي المنتظر طرفا مدافعا عن دينه وكرامته واعتزازا بهما وبين الروم الذين رحلوا من قبل لديارهم بعد المعركة الأولى وكل نيتهم الغدر بالمسلمين , لقتلهم أحد رجالهم حامل الصليب وناسبا النصر إليه هم اليوم أتوا في جيوش جرارة تبلغ المليون جندي تقريبا يتقدمها ملوك الروم فينزلون بمكان يسمى " دابق" أو "الأعماق" قريبا من دمشق بسوريا ويعسكرون هناك بينما مقر قيادة المسلمين حينئذ " إقامة المهدي " بالغوطة " أيضا بالقرب من دمشق لقوله - صلى الله عليه وسلم - فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ(2)
__________
(1) رواه مسلم عن نافع ابن عتبة ورواه أحمد وابن ماجه أيضا
(2) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داوود والحاكم – وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(1/180)
إذا المواجهات باتت وشيكة !! فها هي رسائل جس النبض تتبادل.. كيف؟! يقول الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم" معنى هذا أن كثيرا من الروم سيعتنقون الإسلام بعد المعركة الأولى – وقت أن كان المسلمون والروم في خندق واحد – وبعد النصر والخلاف بينهما ظل هؤلاء الذين أسلموا في خندق المسلمين فتخلفوا بذلك عن جيوش الروم الراحلة فاعتبروا بذلك خارجين عليهم مستحقين العقاب لذا ها هم يطالبون المسلمين بأن يسلموهم هؤلاء فيرفض المسلمون فيقع القتال – قتالا- السلاح فيه هو السيوف فهي والخيل تشكل الآلة العسكرية وقتئذ.. لماذا؟ لأنه وكما أوضحنا فإن المدنية الحديثة ستباد عن آخرها في الحرب الأولى والتي يمكن تسميتها بحرب العمالقة ويستمر النزال دونما انقطاع على مدار أربعة أيام يواجه المسلمون اختبارات في مدى الإيمان والصبر على المكاره- وهم على ذلك قادرون- وكيف لا وهم جند المهدي المؤزر من السماء.
أول اختبار : ثلث جيش المسلمين يخزلونه لكن يخزلهم الله ولا يتوب عليهم أبدا(1/181)
ثاني اختبار: استشهاد ثلث الجيش كذلك ولكن ينتصر المسلمون والمهدي بثلث الجيش فقط على ملوك الروم ذوي المليون مقاتل ويهزمونهم هزيمة منكرة ويقتلونهم شر قتلة لتنتهي بذلك تلك الحرب المسماة بالملحمة الكبرى ودليل ما سبق ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله ويفتح ثلث لا يفتنون أبدا فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان أن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون- وذلك باطل- فإذا جاءوا الشام – المهدي ومن معه – خرج الدجال – فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم – عليه وعلى نبينا الصلاة السلام- فأمهم(1) فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح فلو تركه لإنذاب حتى يهلك ولكن يقتله المسيح بيده(2) فيريهم دمه في حربته(3) ..ويبين من الحديث السابق أنه بانكسار جيش الروم وانتصار المسلمين تتوالى الفتوحات فيتوجه المهدي بجيوشه الفاتحة قوامها سبعون ألف تلقاء القسطنطينية وهي الأستانة أو إسطنبول بتركيا فتفتح لهم دونما سيف أو رمح ولكن بالتهليل والتكبير بأن يهلل الفاتحون لا إله إلا الله والله أكبر وذلك مصداقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الأمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سمعتم بمدينة جانب بها في البر وجانب بها في البحر؟ قالوا نعم يا
__________
(1) أي قصدهم وتوجه إليهم
(2) أي بيد عيسى عليه السلام
(3) رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة(1/182)
رسول الله قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألف من بني إسحاق فإذا جاءوها فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها.. قال ثور – راوي الحديث – لا أعلمه إلا قال الذي في البحر ثم يقولوا ثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ثم يقولوا الثالثة لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون(1) .. وهنا وكما هو واضح من الحديث فإنه وبمجرد فتح القسطنطينية يظهر المسيح الدجال وهو أول العلامات الكبرى للساعة تلك التي ستتوالى سريعا الواحدة تلو الأخرى لا يفرق الأولى عن تاليتها من الزمن لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الآيات خرزات منظومات في سلك فانقطع السلك فيتبع بعضها بعضا"(2)
المسيح الدجال أول العلامات الكبرى
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة
(2) الفتن والملاحم من تاريخ ابن كثير باب " ذكر باب خروج الدابة من الأرض تكلم الناس "(1/183)
إنه ملك اليهود ذلك الذي طالما تمنوا ظهوره فهو في زعمهم مخلصهم من هذا العالم الفاسد ويسمونه " مسيا Messiah " والذي يقودهم لزعامة هذا العالم بينما النصارى فيسمونه " المسيح الكذاب" لكن المسلمون يسمونه "المسيح الدجال" ويزعم اليهود بأن ملكهم هذا سيقدم مع رئيس الكهنة في هيكل سليمان ذبيحة المحرقة ويلتق أتباعه حول الذبيحة مصلين لله وسائليه أن يرسل عليهم نارا من السماء فتحرقها علامة على قبول قربانهم ويمكثون هنالك سبعة أيام لا يلتفت إليهم. والمسيح الدجال هذا له صفات حددها - صلى الله عليه وسلم - فهو رجل قصير ضخم الجثة أسمر أحمر الوجنة عظيم الرأس كان رأسه أفعى أجعد الشعر كثيف ملتف له شبه شيطاني فشق وجهه الأيمن ممسوح لا عين فيه ولا حاجب بينما عينه اليسرى متقدة خضراء بارزة جاحظة متدلية على وجنته كالعنبة الطافية مكتوب بين عينيه كلمة كفر (ك ف ر ) وتستقي هذه الصفات للدجال من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - " ألا وإنه أعور ولكن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه ( كافر ) يقرؤه كل مؤمن (1) وفي رواية مكتوب بين عينيه (ك ف ر ). أيضا(2) قوله - صلى الله عليه وسلم - " فإذا هو رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين " (3) وأيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - ان الدجال ممسوح العين اليسرى (4) . وأيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - " أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية" (5).
__________
(1) متفق عليه من حديث أنس
(2) رواه الترمذي عن أنس وهو في "الصحيحة" برقم 2457
(3) البخاري في صحيحه عن ابن عمر – كتاب الفتن – باب ذكر الدجال
(4) صحيح رواه أحمد عن أنس وحذيفة – الجامع الصغير للسيوطي
(5) رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر – كتاب الفتن – باب ذكر الدجال(1/184)
وهكذا يخرج الدجال " ملك اليهود " ووراءه أتباعه من اليهود يسير في الأرض مسلحا بالفتن والشياطين تعينه على ضلاله وكلما أزداد وأشتد كفره أزداد بالمقابل ولاءهم وطاعتهم لأمره.. يخرج واليهود من وراءه يجوبون الأرض كلها وهي وقتئذ تكون في حالة فساد عام – فهي آخر أيام المهدي التي سادها العدل!! ولكن ما لبث أن انقضت فهو حكم الله.. كيف؟! فما دامت فتنة الدجال ستكون في المأكل والمشرب كان لزاما أن تتجهز الأرض لقدوم هذا الدجال وحتى يختبر المسلمون في إسلامهم هل سيضعف إيمانهم فينقادون إليه لمجرد الجوع والعطش أم يلجأون إلى الله بالتكبير والتهليل والتحميد فيحيل عطشهم إلى ري وجوعهم إلى شبع. وبينما يسير الدجال تجاه المدينة, وبينما هو يصعد جبل أحد إذا به ينظر المدينة لكنها هي ومكة محرمتان عليه دخولهما على كل باب من أبوابها ملك بيده سيف صلتا يصده عنهما فلقد روي الأمام أحمد عن محجن بن الأدرع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوما فقال " يوم الخلاص , وما يوم الخلاص, قال : يجيء الدجال فيصعد أحد فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه هل ترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد ثم يأتي المدينة فيجد في كل نقب من أنقابها ملكا مصلتا سيفه فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه فذلك يوم الخلاص"(1) .. وعن فتنة الدجال فهناك حديث جامع لفتنة الدجال وسيرته. قال - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال وإن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة فإن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيج لكل مسلم وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من حلة بين الشام والعراق
__________
(1) صحيح رواه أحمد في المسند(1/185)
فيعيث يمينا وشمالا. يا عباد الله أيها الناس فاثبتوا فأني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي.. يقول: أنا ربكم. ولا ترون ربكم حتى تموتوا. وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب وإن من فتنته أن معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار فمن أبتلى بناره فليستعذ بالله وليقرأ فواتح الكهف وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك وتشهد أني ربك؟ فيقول نعم فيتمثل له شيطانا في صورة أبيه وأمه فيقولان يا بني اتبعه فإنه ربك وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها بنشرها بالمنشار حتى تلقى شقين ثم يقول: أنظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه ثم يزعم أن له ربا غيري فيبعثه الله ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله وأنت عدو الله أنت الدجال والله ما كنت قط أشد بصيرة بك من اليوم وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه, وامده خواصر وأدره دروعا وإنه لا يبقى شيئا من الأرض إلا وطأه وظهر عليه إلا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب من أنقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه فتنفي الخبيث منها كما ينفي الكير خبث الحديد ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص قيل: فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل. وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي الصبح إذ نزل عيسى بن مريم الصبح فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقري ليتقدم عيسى فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى افتحوا(1/186)
الباب فيفتحون ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هاربا فيدركه عند باب لد الشرقي فيقتله فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيئا مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط إلا الغرقده فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله. فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مقسطا يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة فلا يسعى على شاه ولا بعير وترفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في فيّ الحية فلا تضره. وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله وتضع الحرب بأوزارها وتسلب قريش ملكها وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويكون الثور بكذا وكذا من المال ويكون الفرس بالدريهمات.. وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد يأمر الله السماء السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ثم يأمر السماء في السنة الثالثة أن تحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء فلا يبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان قال : التهليل والتكبير و التحميد ويجزئ ذلك عليهم مجزات الطعام (1)
__________
(1) صحيح رواه ابن ماجه وابن خزيمة عن أبي أمامه رضي الله عنه – قال الألباني : ولي رسالة في تخريج هذا الحديث وتحقيق الكلام في فقراته التي وجدت لأكثرها شواهد تقويها وهو في الصحيحة برقم 2457(1/187)
وعن مدة مكث الدجال في الأرض: ورد في بعض الروايات في صحيح مسلم: ( قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما. يوم كسنة ويوم كشهر ويم كجمعة وسائر أيامه كأيامهم قالوا يا رسول الله فذلك اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا أقدروا له) ويعني هذا أنه سيمكث ثلاثمائة وإحدى وسبعون يوما..
المسيح عيسى بن مريم ( ومقتل الدجال )
يروح الدجال ويغدو يعيث في الأرض فسادا ومن وراءه أصحابه وحوله الشياطين ييسرون له فتنته حتى يذهب تلقاء المدينة ويصعد جبل أحد بيد أن المدينة ومكة محرم عليه دخولهما.. وعلى الصعيد الآخر نجد المهدي يجهز جيشه استعداد للقيا الكذاب لتكون آخر حروبه تلك الحرب مع ملك اليهود وأصحابه وترجف المدينة ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا وخرج إليه وهنا يؤم المهدي المسلمين في صلاة الصبح عند المنارة البيضاء شرقي دمشق(1) وإذا بعيسى ابن مريم ينزل من السماء فيرجع المهدي ليتقدم عيسى فيضع عيسى يده على كتفه قائلا تقدم فصلي فإنها لك أقيمت وهذا تشريفا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا انقضت الصلاة قال عيسى افتحوا الباب فلما فتحوا إذا بالدجال وأصحابه من وراءه سبعون ألف يهودي فاذا رأى المسيح الكذاب عيسى ابن مريم ذاب كما يذوب الملح في الماء فيسير خلفه عيسى ويقتله بنفسه وبذلك يهزم اليهود ويخبر عنهم كل شيء حتى الحجر قائلا تعالى يا مسلم ورائي يهودي فأقتله.. ويظل عيسى على إمرة المسلمين عدلا يمشي على الأرض يدق الصليب ويذبح الخنزير ويشيع الحب وترفع الشحناء والتباغض.. ولقد بين - صلى الله عليه وسلم - كل ما سبق في الحديث الجامع الذي أوردناه سلفا في فتنة الدجال.
يأجوج ومأجوج
__________
(1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق حديث صحيح رواه الطبراني عن أوس ابن أوس(1/188)
وهم ثالث الآيات الكبرى للساعة.. ويأجوج ومأجوج هم أقوام أخبرنا عنهم الله تعالى في سورة الكهف فقال تعالى(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً , حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً , قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً , قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً , آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً , فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً , قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً )(1) فهم اذا أقوام كانوا يعيثون في الأرض فسادا يأكلون الزرع ويخربون الديار فأعدادهم مهولة كالنمل والجراد وهؤلاء كانوا يقبعون خلف جبل يتسلقونه ويغيرون على البلدان المجاورة فيتركوها خرابا فيتوجه أهل هذه البلدان إلى ذي القرنين للاستعانة به في مواجهة هؤلاء المفسدين فيساعدهم بأن يبني بينهم سدا – سدا منيعا شاهقا أملس مصنوع من قطع الحديد والنحاس المصهور – يقبع خلفه هؤلاء الظالمين فلا يمكنهم فتحه أو الصعود عليه ويأتي حكم الله بأن يظلوا هكذا منذ ذلك الحين إلى اليوم بل وحتى ميقات يوم لا يعلمه إلا الله .( ذلك الميقات وهو ظهور العلامات الكبرى للساعة حتى مقتل المسيح الدجال) وهنا يأذن الله بخروج هؤلاء من وراء السد فيتوافدون على الناس من كل صوب وحدب فيشربون مياه الأنهار ويأكلون الزروع والأشجار بينما المسلمون بقيادة عيسى ابن مريم قد تحصنوا بمدائنهم
__________
(1) الكهف آية 92 : 98(1/189)
وحصونهم ويظلون هكذا محصورين لا حيلة لهم ولا سبيل حتى يكون رأس الثور لديهم خيرا من مئة دينار فيرغب عيسي إلى الله عز وجل يدعوه بأن ينجيهم الله من هذه الأقوام فيرسل الله عليهم دودا في أعناقهم فيصبحون موتى لا حس لهم فيفرح المسلمون ويخرجون إلى حياتهم وأعمالهم وذلك مصدقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - " تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل " من كل حدب ينسلون " فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض حتى أن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى أن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان ها هنا ماء مره. حتى إذا لم يبقى من الناس أحدا إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مختضبة دما للبلاء والفتنة فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دودا في أعناقهم كنغث الجراد الذي يخرج في أعناقه فيصبحون موتى لا يسمع لهم حسا فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كافاكم عدوكم فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم فما يكون لهم مرعى إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط (1)
طلوع الشمس من مغربها
__________
(1) صحيح رواه أحمد وابن ماجه وابن حيان والحاكم عن أبي سعيد(1/190)
وهذه هي رابع علامة من علامات الساعة. فالأصل في الشمس طلوعها من المشرق وبينما هي كذلك حتى يأذن الله فإذا هي تطلع من المغرب وبهذه العلامة يقفل الله باب التوبة وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها ورآها الناس أمنوا جميعا فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن أمنت من قبل (1)
الدابة
وهذه هي خامس علامة من علامات الساعة وقد أشار الله عنها في كتابه العزيز في سورة النمل " وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ" (2) وتلك الدابة تكلم الناس وتوسمهم في وجوههم فيعرفوا المؤمن من الكافر لقوله - صلى الله عليه وسلم - " تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتحطم أنف الكافر بالعصا وتجلوا وجه المؤمن بالخاتم حتى أن أهل الخوان الواحد – المائدة – ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن وهذا يا كافر(3)
الدخان
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ورواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه أيضا
(2) النمل آية 82
(3) رواه أبو داوود الطيالسي وأحمد وابن ماجه كلهم عن حماد بن سلمه عن أبي هريرة(1/191)
تلك سادس علامة من العلامات الكبرى للساعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إن ربكم أنذركم ثلاثة الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال "(1) وهذا الدخان لن يضر المؤمنين فيأخذهم كهيئة الزكام بينما هو إنذار شديد للكافرين فينفخهم ثم تأتى بعد ذلك ريح لينة من قبل اليمن فتقبض أرواح المؤمنين جميعا ولا تدع إلا النفوس الكافرة تمهيدا لصب العذاب عليهم صبا لقوله - صلى الله عليه وسلم - تجيء ريح بين يدي الساعة فيقبض فيها روح كل مؤمن فيقبض" (2) وتأكيدا لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله .. الله " (3)
آخر علامات الساعة الكبرى !!
وهذه العلامة لا يراها المؤمنون لأنهم وكما أشرنا في بيان العلامة السابقة قد قبضوا ولم يبق في الأرض غير الكافرين أعداء الله ولكن ما هي هذه العلامة الأخيرة؟!
__________
(1) أخرجه ابن جرير ورواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري وإسناده جيد
(2) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن النواس بن سمعان
(3) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن حيان عن أنس(1/192)
هي ثلاثة خسوف أي انشقاق الأرض وابتلاعها الناس الأول خسف بالمشرق والآخر بالمغرب والثالث بجزيرة العرب لقوله - صلى الله عليه وسلم - " في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف إذا ظهرت القيان ( المغنيات) والمعازف وشربت الخمور " (1) ثم تظهر نار تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب لقوله - صلى الله عليه وسلم - " .. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم " (2) وفي رواية " ... نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حتى قالوا" (3) وبظهور هذه النار والتي تخرج من عدن اليمن تسوق الناس إلى محشرهم تكون علامات الساعة الكبرى قد اكتملت والانقلاب الكوني قد أذن ميقاته فينفخ في الصور النفخة الأولى وهي نفخة الفزع يفزع منها جميع الأحياء إلا ما شاء الله وذلك لقوله تعالى " وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ "(4) ثم ينفخ النفخة الأخرى وهي نفخة البعث والنشور لقوله تعالى " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ "(5) إذا بالنفخة الثانية يكون البعث والنشور ولقد أفردنا للبعث فصلا مستقلا هو الفصل الثاني من هذه الدراسة بيانا له مابين القرآن والسنة ... وبهذا نكون قد أوضحنا العلامات الصغرى للساعة والتي قد ظهرت عن آخرها تقريبا وبينا كذلك العلامات الكبرى لها والتي نحن في انتظارها. إذا ها نحن قد أصبحنا في آخر الزمان الذي قال عنه - صلى الله عليه وسلم - " ليأتين على أحدكم زمان
__________
(1) صحيح ورواه الترمذي عن عمران بن الحصين وهو في الصحيح للألباني برقم 2203
(2) رواه مسلم عن حذيفة ابن أسيد
(3) رواه أحمد ومسلم عن حذيفة ابن أسيد
(4) النمل 67 (داخرين أي صاغرين )
(5) الزمر آية 68(1/193)
لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله" (1) نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد أدركنا هذا الزمان وأنه لأن نراك لدينا خير من أن تكون لنا الدنيا وما فيها.
وما دامت الأشراط الصغرى للساعة قد تحققت وما دمنا على أعقاب الأشراط الكبرى لها والتي لن يكون بين العلامة وأختها زمنا بعيد فلم التسويف بالتوبة ولم الإرتكان على عجوز مهددة دائما بالفناء قال تعالى " هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " الزخرف 66
** وصايا عشر **
وفي النهاية أهمس في أذنك أخي المسلم بعشر وصايا أحسبك لا تغفل عنها:
أولا: لو دامت الدنيا لغيرك ما وصلتك ولو كتب لأحد البقاء لكان أولى الناس بالبقاء سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - ولكن الله قال " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ".( الأنبياء 34 )
ثانيا: لا تغتر بالدنيا وما فيها فالدنيا زائلة لا راحة فيها ولا حياة حقيقية وإذا أردت أن تسأل عن الحياة الحقيقية تلك تجد قوله تعالى"وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" (العنكبوت اية 64)
ثالثا: لا ينفعك مال " ولا جاه ولا ولد ولا حسب ولا نسب " فكله زائل ومنك يتبرأ ولن ينفعك سوى طاعة الله فهو زينة الدنيا وذرُ في الآخرة لقوله تعالى " الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً "(2).
رابعا: اعلم أن الموت يأتي بغتة وإن للموت لسكرات فهو كما قال العلماء " لو لم يكن في الموت إلا السكرات لكفي " فالله يخفف السكرات عن المؤمنين فجاهد أن تكون منهم كما أن سبحانه وتعالى يشدد السكرات على من دونهم فابتعد عنهم وفر منهم لتنجو بنفسك وتقيها مصارع السوء ومطارحه.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحة عن أبي هريرة – وكذلك مسلم وأحمد
(2) الكهف آية 46(1/194)
خامسا: تذكر يوم تجرد الثياب وتفقد قوتك وتصبح بلا إرادة أو قوة تنادي فلا تجيب تصرخ فلا يستجيب لك أحد. الكل يسارع في دفنك وتشييع جثمانك خشية رياح جيفتك العفنة. وليس مؤنس إلا العمل الصالح ويحثوا عليك التراب أقرب الناس إليك مسرعين ليتقاسموا أموالك التي جمعت من حرام أو حلال بينما الآن ها أنت تسأل عن مالك هذا من أين اكتسبته وفيما أنفقته!!
سادسا: للقبر ظلمة وعتمة وله ضمة تختلف فيها أضلاعك لم ينجوا منها أحد ليس فيها بصيص من نور ولا شعاع من ضياء وفيه شجاع أقرع ومطارق من جهنم فماذا أنت فاعل في هذا المكان الموحش.
سابعا : تخرج من قبرك يوم الفزع الأكبر عاري الجسد كما خلقت أول مرة فردا كما خلقت أول مرة. الناس مذهولين من هول الموقف كل يقول نفسي. نفسي فالأمر جد لا هزل. والناس مشغولون عن النظر لعوراتهم فشمس على رؤوسهم وأرض فسيحة محشورين فيها ونار تزفر لهم من حنق وغيظ على كل عاص وفاجر. وجنة تتقرب للمؤمنين منهم أزلفت إليهم بما فيها من نعيم وفاكهة عظيمة لا مقطوعة ولا ممنوعة وأنهار من عسل مصفى وخمر لذة للشاربين.. فأيها تختار(1/195)
ثامنا: تذكر قوله (- صلى الله عليه وسلم -) ( القابض على دينه كالقابض على الجمر)(1) فتحمل في سبيل دينك وعقيدتك واصطبر عليه ولا تستثقل الطاعات بما استطعت من قربات كما تذكر أنه قد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات لما ورد عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فأنظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ثم حفها بالمكاره ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها ثم جاء فقال أي رب وعزتك لقد خشيت الا يدخلها أحد قال فلما خلق الله النار قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فنظر إليها ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال يا جبريل اذهب فانظر ثم جاء فقال أي رب وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحدا إلا دخلها"(2) إذا عليك أن تتقرب إلى الجنة مهما صادفت في الطريق إليها من أهوال وابتعد عن النار مهما تزينت إليك طرقها.
تاسعا: تذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه وتعالى وهو القوي المتين الجبار المتكبر المتعال العظيم وأنت العبد الذليل الحقير فلا عز يومئذ بغير ما قدمت من طاعة ولا جنة بغير ما قدمت من اجتهاد كما تذكر إذا ما أمر الله بك ملائكته أن يسوقوك إلى النار أو أن يفتحوا لك أبواب جنته وتذكر الفريقين فريق الهدى وفريق الضلال فأيهما تختار؟ وتذكر الصراط وكيفيته فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة وما على جانبيه من كلاليب وخطاطيف تأخذ بمن يمر عليها عند منزلته من النار ولن ينجوا إلا من كان قوي الصلة بالله أفلا يجدر بك أن تكون من الناجين.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم
(2) حديث حسن أورده أبو داوود في سننه والترمذي في سننه والنسائي في سننه والحاكم في مستدركه وأحمد بمسنده(1/196)
عاشرا: لا تياس من رحمة الله مهما بلغت ذنوبك فباب التوبة مفتوح وباب العودة إلى رحابه غير مغلق وضع نصب عينيك قوله تعالى " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عن رب العزة سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الجليل " يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " (2) إذا مادام الرحمن بابه مفتوح للتائبين فهلم معي في طريق عودة إلى رحابه نسأله التوبة والمسامحة والنجاة من النار.
وفي نهاية بحثي أجعل لله ما قدمت فإن كان خيرا فمن الله وإن كان غير هذا فمن نفسي ولله ما قدمت واحسبني ما أتممت فبحثي لا شك قاصر وناقص والكمال لله وحده فالموضوع سيظل مفتوحا للدراسة والتدبر والعظة ما دامت الحياة قائمة لم تنقض وما دام الموت والفناء قادمين لا محالة.. ولرحمة الله أرجو فهو وليي ونعم النصير.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,,,
أشرف محمد إسماعيل
... المحامى
ت/ 6760193/ 050
Email/ashrafavocato@hotmail.com مراجع الكتاب
تفسير القرآن العظيم لابن كثير
البداية والنهاية لابن كثير
فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني
صحيح مسلم بشرح النووي
رياض الصالحين للإمام النووي
الأحاديث الصحيحة للألباني
سنن الإمام الترمذي
سنن الإمام الدرامي
نوادر الأصول للترمذي
كتاب الأوسط للإمام الطبراني
الفتن والملاحم للإمام ابن كثير
__________
(1) الزمر آية 53
(2) رواه الترمذي عن طريق أنس ابن مالك وقال حديث حسن صحيح(1/197)
مكاشفة القلوب لحجة الإسلام (الغزالي)
موارد الظمآن في إغاثة اللهفان
يوم الفزع الأكبر للإمام القرطبي
الترغيب والترهيب للإمام المنذري
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم الجوزية
تذكرة الإمام القرطبي
إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ( إصدار دار إحياء الكتب العربية)
وصف الدور الثلاثة لأبي ذر القلموني
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
قصص الأنبياء لابن كثير
رجال حول الرسول ( خالد محمد خالد )
مسند الأمام أحمد
سنن أبو داوود
محتويات الكتاب
م ... الموضوع ... رقم الصفحة
1 ... تصدير ... 4
2 ... مقدمة ... 5
3 ... الفصل الأول: لحظة الموت ... 8
4 ... وفاته (- صلى الله عليه وسلم -) ودلالاتها ... 15
5 ... الخاتمة حسنها وسوءها ... 20
6 ... الفصل الثاني : حياة البرزخ ... 26
7 ... هل تتزاور أرواح الموتى ... 30
8 ... ضمة القبر ... 30
9 ... الفصل الثالث : البعث بين القرآن والسنة ... 33
10 ... الصورة قبل النفخ في الصور وبعده ... 34
11 ... الأدلة على حدوث البعث ... 43
12 ... البعث في بيان السنة ... 60:43
13 ... النفخ في الصور ... 43
14 ... بعث كل عبد على ما مات عليه ... 51
15 ... كيفية بعث النبي- صلى الله عليه وسلم - وحشره يوم القيامة ... 51
16 ... طول اليوم ووقوف الخلائق فيه وكيفية العرض ... 52
17 ... ما روي في عرق الناس وحر الشمس يوم القيامة ... 54
18 ... من له حق الشفاعة ... 56
19 ... من هم أسعد الناس بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - ... 58
20 ... ما الحالة التي سيكون عليها الناس يوم الحشر ... 58
21 ... الفصل الرابع: الحساب بين القرآن والسنة ... 72:61
22 ... الحوار بين الخلائق , وبينهم وبين رب العزة ... 64
23 ... الرد على منكري الحساب ... 66
24 ... أمر الله الملائكة بإعداد خلقه للحساب ... 66
25 ... ما يسأل عنه العبد وكيفية السؤال – تكليم الله للمؤمنين ... 67(1/198)
26 ... القصاص ممن استطال في حقوق الناس ... 67
27 ... أمة محمد هي أول من يحاسب- أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته- أول ما يقضى فيه الدماء ... 67
28 ... ذكر الكوثر الذي أعطي له - صلى الله عليه وسلم - ... 68
29 ... أول الناس ورودا الحوض على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يطرد عنه ... 69
30 ... أين مصير من استوت حسناته وسيئاته وهل هناك صراطين ... 71
31 ... الفصل الخامس: العاقبة الجنة أم النار ... 128:73
32 ... الجنة بين القرآن والسنة ... 103:74
33 ... أهل الجنة ... 74
34 ... نعيم أهل الجنة ... 77
35 ... درجات الجنة ( المقربون – أصحاب اليمين ) ... 87:82
36 ... لمن أعدت الجنة ... 88
37 ... الحوار ما بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ... 89
38 ... أهل الأعراف ... 89
39 ... الجنة في متناول السنة ... 91
40 ... الحوار بين الله وعباده ... 93
41 ... صفات الجنة وما تشتمل عليه ... 96
42 ... النار ما بين القرآن والسنة ... 128:104
43 ... ترحيب أهل النار بالقادمين إليها ... 108
44 ... الحوار ما بين أهل النار ( الضعفاء والذين استكبروا ) ... 110
45 ... أهل الشمال ... 111
46 ... الحوار ما بين الشيطان وأهل النار ... 113
47 ... النار في متناول أهل السنة ... 118
48 ... الجنة والنار وأيهما تختار؟ ... 124
49 ... الفصل السادس: الدنيا والآخرة في الميزان ... 140:129
50 ... واقتربت الساعة ( الآيات الصغرى والكبرى للساعة) ... 158:141
51 ... وصايا عشر ... 162:159
52 ... مراجع الكتاب ... 163
تم بحمد الله وعونه(1/199)