هذه الزهرة الحمراء
مقدمة:
إن طريقا جميلا فسيحا يغريك بالتوغل، تتفرع عنه دروب ضيقة، وانعطافات حادة، لن تدعك شرطة السير والمرور تسير فيه بسيارتك دون علامات تحذير حمراء، وإشارات للأخطار، فترسم لك خطأ عموديًا وسط مثلث يطلب منك الانتباه، وخطأ أفقيا أبيض وسط دائرة حمراء يمنعك الدخول، وسهمًا منكسرًا جنب سهم مستقيم مشطوبا بخط أحمر يمنعك تجاوز من يسير أمامك، وسبقه بسيارتك.
فما من سائر يلتزم حدود هذه اللافتات، إلا ويصل مراده وغايته آمنًا، ساكن القلب، في لذة غامرة.
وطريق العمل الإسلامي الحركي واسع لاحب، ولكن شأنه مشابه، إذ أوجدت الاجتهادات الشاذة والأهواء في جوانبه وخلاله دروبا ضيقة، وانعطافات مهلكة، وعوائق معرقلة، أبت الغيرة عليك غير إنارته لك بأنوار ساطعة لامعة، في صف مستقيم، تكشف لك دربك إذا حل ظلام الفتن، وغير التصدي لتحذيرك من الهاوية بإشارة حمراء، ليسلم "منطلقك".
لكن الروابط بيننا روابط قلبية، ومشاعرنا رقيقة، ومعاني الوصال معك متبخترة مياسة، بالغة اللطف، فأبت إشارتنا أن تتمثل خطأ وسهما، بل نبتت زهرة حمراء في أرض قلبي، تعكس أوراقها ومضات صفاء نفوس سالف المؤمنين، وخفة روح الشعراء، تنبهك إلى أخطار الطريق.
فهذى زهرة نبتت بتربي………بدت في حمرة م ذوب قلب
تقبلها، بهذا القلب رفقا ………فلي قلب، وهذا القلب حسبي
نبتت في قلب إقبال من قبل، وأودعها هديته الحجازية، فما أدري بعد: أهذه الحمرة القانية في زهرتي هي حمرة خجل، من واقع كثير من الدعاة انتسب إلى رهطهم، ألهاهم انتصارهم لنفوسهم عن الموازين الشرعية في الخلاف، فهم في حيصة اضطراب، تفوتهم معها الفرص، والنصر منهم قريب، ولو سكنوا، لتناوشوه؟
أم هي حمرة الدماء النازفة سقت زهرتي، من قلب جرحته مصائب المسلمين، وفتن هؤلاء الدعاة، في وقت يلزمنا فيه الكثير من الجد، ليناسب ضخامة الحاجة؟(1/1)
إلا أنه نزف مؤلم من جرح آذاني، لم أستطع معه كبت الأنين، فخالطت لغتي الرقيقة ألفاظ عتاب شديد وتأنيب وتقريع، عسى أن تنكسر لأنيني قلوب المختلفين، فتعاف لغطها اللاهب، وتسكن إلى إفياء التآخي الباردة.
بل هي تنهدات وعبرات، تابعت بها كمال عبد الرحيم رشيد، في شدوه مع الغرباء، يوم:
آذاه جرح أوجعه، فبكي وأبكي من معه
جرح قديم راعف، أحيا القصيد ورجعه
فكان هذا الإحياء لقصيد فقهاء الدعوة، وكان هذا الترجيع، الذي لا يملك معه صاحب القلب الصادق إلا المشاركة في البكاء.
غير أنه بكاء له نسب مع بكاء الحسرة واليأس، فإن من العار أن نبكي هذا البكاء الممنوع شرعًا، كما أن من الظلم للجيل الجديد من ناشئة الدعوة أن نبكيهم ونحن نراهم يفتحون تباعا أبواب الآمال في همة عالية وتصميم على الاستدراك، إنما هو بكاء مفروض في الفطرة على كل نفس، عند كل وخزة مؤلمة، يخالطه بكاء حياء بين يدي رب رقيب سبحانه، يحب أن يرى مآقي عبده تترقرق فيها دموع الخشية بعد الأخطاء.
فانزل أخي، واسق زهرتي، فإن أمامك مزالق وعوائق، وهي منتصبة لك، تداعب أوراق الحمراء نسمات الإيمان، تنبهك إلى أدب السير في... هذا الطريق.
[1] زمرة القلب الواحد
عهود متكاملة تلك التي يلتزم الدعاة بها، لا ينفك بعضها عن بعض، ولا تتجزأ.
فهم يعلنون ميثاقهم مع أول قدم:
الكفوف في الكفوف……فاشهدوا عهودنا:
الثبات في الصفوف ……والمضاء والفنا
فكما أنهما المضاء والفناء تسرع إليهما عصبة الدعاة الفقهاء، عبر جهاد مستبصر، فإنها الطاعة الواعية، والثبات في صفوف لا تسمع خلالها لاغية.
وكما أن الإيمان بالجنة يدفع إلى سباق في الجهاد، فإنه أيضًا يدفع إلى سباق آخر في الطاعة والحب الأخوي والصفاء القلبي، بين أفراد الجماعة المسلمة، كل يحرص على أن يكون ضمن المقدمة السابقة، والزمرة الأولى التي تدخل الجنة، بما كان لهم من الوحدة، وأنهم -كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم-:-(1/2)
(لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد)(1).
فهي طاعة تبغي أن تصيب هذا الصفاء، وتنسب صاحبها إلى هذه الزمرة الفائزة، من الإيمان تنطلق، وبقواعده تسترشد، وإليه تعود، وليست هي استكانة خاضع راهب، ولا تملق طامع مصلحي راغب.
إنها طاعة إسلامية مميزة، ليست ككل طاعة، يعتبرها الدعاة ركنا في إيمانهم، لا كمال له بدونها، ويعتوره النقص بفقدانها.
قوم يرون الحق نصر أميرهم………ويرون طاعة أمره إيمانًا
ولذلك يسوغ من أجلها اتهام العقل عند اختلاف الاجتهاد، والضغط على القلب عند نداء الراغبات، حفظا لهذا الإيمان من أن ينثلم.
فتور واخلاط
وما دامت هذه الطاعة قد انتسبت إلى الإيمان، فأنها معرضة لما يتعرض له الإيمان من الزيادة والنقص، فإن الإيمان يزيد وينقص كما يقول جمهور المحدثين والفقهاء، وأصبحت ككل عمل إيماني، يعلو فيصل الأوج والذروة أحيانًا اعتقادًا وممارسة، وينحدر متضائلا تارة أخرى، والفائز من لا يغالي عند التعالي، ولا يسرف عند الهبوط، بأن يلزم هدى السنة النبوية الشريفة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح من أن:
(لكل عمل شره، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى)(2).
وفي لفظ آخر صحيح أيضًا:
(فمن كانت شرته إلى سنتي فقد اهتدى)(3).
والشرة: هي بلوغ أقصى الجد والاجتهاد والحرص على الاتقان.
والفترة: هي الفتور، أي التراخي، من بعد الجد، والجنوح إلى الكسل والسكون وإيثار الدعة والراحة.
__________
(1) صحيح البخاري 4/143.
(2) مسند الإمام أحمد، وصححه أحمد محمد شاكر.
(3) مسند الإمام أحمد، وصححه أحمد محمد شاكر.(1/3)
والطاعة من هذا الكل، لها شرة وفترة، وتتضح صورها للمؤمن أو تغبش، وتقييد الطاعة المتصاعدة بالعزة السنية والحيلولة دون تحولا خنوعا وذلا: جمال إنما يكمله جمال آخر يمسك بزمام رغبة التفلت الجامحة ويمنع تأديتها إلى تسيب وتفرد وافتتان يحرم مقترفه أجر العمل الجماعي، ويمنعه ولوج الجنة مع تلك الزمرة، ويظل هذان الجمالان يتألقان حتى يغدو وجه الواحد من المؤمنين الذين مع تلك الزمرة على هيئة القمر البدر ليلة تمامه، كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفس الحديث الآنف.
من هنا كان فحص القلب واجبا، ليعرف المؤمن درجته من الزيادة والنقصان، فيحمد ربه أو يستدرك.
ومن هنا كان نداء الجنيد رحمه الله أن:
(انظر ماذا خالط قلبك؟)
فسماها أخلاطًا، أي أنها شوائب، تعكر الصفاء، و توهم بالاطمئنان في غير موضع الرجاء.
أخلاط مردية، تغر وتخدع، تعطيك الصورة، وتمنعك الحقيقة، وتطرحك أرضا من بعد شرة، وتسرق منك هوية الانتساب إلى زمرة القلب.
فتعرف عليها معنا، في جولة فقهية، نكفك بالعلم شر الجهل.
وداد وانتماء
وإنما يساعد على التعرف: الإنصاف فإنك مجاهد والمجاهد حر رفض الذي فتحركن وللحر سمات وطباع، ذاك السير إلى العز أولها، وليس بكملها، وكما أن الحر به يعرف، فإنه برد الجميل من بعده ينخلع عن نوع من خلق العبودية ويصرف، وذلك الذي أشار إليه الإمام الشافعي حين يقول:
(الحر من راعي وداد لحظة، أو انتمي لمن أفاده لفظه).
وهذه الدعوة علمتك دهرًا معنى الوداد، وأفادتك كل الألفاظ لا مجرد لفظة، فإن كنت حرًا: راعيت ودادها، وأخلصت لها، وابتعدت عن فتن تربص بها، وإن سلبك الانتصار للنفس حريتك فشأنك وما اخترت.
ولا ينتصب أحد لفتنة من بعد ستر، ولا يكسل كسلان فينقطع ويترك ويستبدل أصحاب بأصحاب، إلا لنقص معنى الحرية فيه، وإلا لتقمصه بعض أثواب عبودية الدنيا.(1/4)
وما ثبت داعية على الطريق، وازداد بذلا وإيثارًا، إلا لاكتمال معنى الحرية والوفاء فيه، ومراعاته الوداد، وما أرشد إليه الشافعي من الانتماء.
وإنه معدن الأخلاق والعفة نحرص عليه قبل أن يكون شرط علم وكفاية إدارة، وكانت الطاعة من قبل في جمهرة الدعاة تتحرى عفة القائد قبل أن تسأل عن خبرته في السياسية، فقال الشاعر:
سكن الدعاة إلى أمير سلامة………عف الضمير مهذب الأخلاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعة………قبل الأكف بأوكد الميثاق
وكلا نريد، خلقا وخبرة، ولكن ميزان الدعاة في أحكام التفاضل يقدم ويؤخر بعيدًا عن أعراف السياسة، يعلمون أن الخلق تقوى، وأن التقوى باب الوعي، بوجودها يتعلم الساذج، ويلهم الصواب إلهامًا.
ثم أنه تأديب شامل يجبر الحر على دوام الانتماء إلى الدعاة الذين ربوه، وما هي لفظة عابرة.
فإن دعاة غذوك الفكر……بهم هدي الشرق والمغرب
وفي أدب منهم نشأت……ونعم لعمرك ما أدبوا
وقد حفزك القرآن إلى أن تقيس توقير المؤدب المربي على توقير المسلم للرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قال الله تعالى:
(لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا).
(فلابد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه، وهي لفتة ضرورية، فلابد للمربي من وقار، ولا بد للقائد من هيبة. وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا، وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض. يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير)(1).
وللرسول -صلى الله عليه وسلم- المثل الأكمل، ولكنها الموعظة تستلزم القياس.
__________
(1) في ظلال القرآن 18/127.(1/5)
ولا تقولن: فلان من أترابي، أو: هو متأخر عني، لم يربني، فربما أسدى لك نصيحة يوما ما عصمتك، ورب ناشيء لم يعرف الدعوة إلا هذا اليوم، ترى من حماسته ما يعديك، ويستفزك للخير، وكل ذلك تربية، يطلب منك لمثلها الوداد.
الإمارة الناصحة سباقة
ولا شك أنه واجب مزدوج وحرص ينبغي أن يصدر عن كلا الطرفين: قيادة تسبق، وداعية يطيع.
فالقيادة يجب أن تكون سابقة لمجموع الدعاة في طرحها للاجتهاد الذي يقتضيه تطور الأوضاع، وفي تنسيقها لدروس التجربة، فإن من لم تسعفه بفقه واضح سيدور دوما مع الخطأ، ويراوح في مكان محصور، وليس لك من سبيل لوم، وإلا أرهقته من أمره عسرًا.
والقيادة من بعد يجب أن تكون سابقة في توفير مناخ العمل للجميع وفقا لتطور كفاياتهم، ونمو آمالهم، وتوسع آفاقهم، وإلا فإن من لم تصرف طاقته في دروب الخير المستقيمة سيبددها في متاهات الشر، أو يجمعها ليعصف بك.
وكل ذلك من كما معاني النصح والجهد الواجبة على كل أمير في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة) (1).
أنها طاقة هائلة تتمثل في كل جيل من الدعاة، إما أن يجاد استخدامها، وإلا ضغطت وهدمت، بطغيان وفتن وتهورات.
هو السيل إن واجهته انقدت طوعه……وتقتاده من جانبيه فيتبع
فأمر الطاقة المعطلة المحبوسة كالفيضان والسيل تمامًا، يكون خيرا لمن عرف شق الجداول للاستفادة منه، وضررًا لمن أهمل، فكل جيل سيل، بيدنا أن نجعله مفيدًا أو نتركه يضر.
التحريش الغامض
وكأن هذا هو السر الكامن فيما قرره القرآن الكريم من تفرق المسلمين وجعل بأسهم بينهم إذا تركوا الجهاد، فإن في الجهاد تصريفا للطاقة في دروب الخير، تتحول لتستهلك نفسها إذا حصرت، وفي قوله تعالى: (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ): إيماء جلي إلى هذا المعني.
قال ابن تيمية في تفسيرها:
__________
(1) صحيح مسلم 1/88.(1/6)
(قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيدي العباد، فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهم بأس بعض) (1).
وقديما قال أهل المثل:
(العسكر الذي تسوده البطالة يجيد المشاغبات).
فإنما يكون تحريش الشيطان في مجالات الركود، ولئن أنجى الله المصلين من عبادة الشيطان، فإنه سبحانه قد ترك له مجالا للتحريش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)(2).
لا يقول لهم: هذا تحريش، وأنا شيطان، وإنما يلبس لباس الزاهد العابد، ويتكلم بفصاحة الناصح الأمين، حتى إذا خدع وأوهم، وفرق وأبهم، ولي مقهقها وهم يبكون.
هكذا دائمًا أسلوب الشيطان:
(يعرض الشر في معرض الخير، والتمييز في ذلك غامض، وأكثر العباد به يهلكون) (3).
لا خير في طاعة هاوية
وإنما يعصى الشيطان بمبادرة من الداعية يجدد فيها عزمه على الطاعة، فإنه هو المسؤول عن هذه المبادرة، وإليه يتوجه الخطاب، وإن ظن أن في الطاعة تفويتا لصواب يعتقده، فإنما يبني كيان الجماعات والجيوش والدول على هذا التنازل من الأكثرة لقلة ترسم الطريق وتقود، كافرها ومسلمها، في القرون الأولى وفي المستقبل.
ومن أحدث ما قرأنا عن شروط انتصار الجيوش كلام القائد الإنكليزي مونتغمري، المنتصر في العلمين على رومل، حين يقول في مذكراته:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/44.
(2) صحيح مسلم 8/138.
(3) إحياء علوم الدين 3/29.(1/7)
(إنني أدخلت عنصرا مهما في نظام العمل، وهو أن أوامر القيادة يجب أن لا تناقش من قبل الضباط الصغار، كما لاحظت عادة في كثير من الحالات، لأنه متى كثرت لاخطط لابد أن يفشل الجنود، لكونهم غير واثقين من صوابية خطة واحدة)(1).
فكثرة الإدلاء بالآراء تسبب الخلاف، فالجدال، فتضييع الوقت، فاختلاف القلوب، ففقدان الحماسة، فالوهن والتراجع.
عندئذ تكون الطاعة محكومة بالهوى، يطيع المطيعون فيما وافق مذاهبهم وكان الأمر عليهم خفيفا، ويعصون إن خولفوا وكان الأمر عليهم ثقيلا.
(يسارعون إلى الطاعة فيما يحبون، ويبطئون فيما يكرهون. فإن امتحنوا بأمر يكرهونه وفيه صلاح الجماعة عذروا وولوا، أو أطاعوا كارهين، وامتثلوا ساخطين.
وإنما أداء الواجب أن تؤديه في المنشط والمكره، وتصدع به فيما تحب و تبغض، وأن تتلقاه عزيمة لا رخصة فيها، وحزما لا تردد فيه، وجدًا لا هوادة لديه، حتى لا يكون للرأي فيه تردد، ولا للهوى فيه خيار. وهو الواجب تلقاه راضيا، وتمضي به مقدمًا، و تحتمله صابرًا، وهو حلو عندك، وإن أمر، ونافع، وإن بك أضر.
هكذا تمضى الجماعات والآحاد بواجباتها، غي رمعذرة فيها، حتى يكون أداء الواجب ديدنا لا مفر منه، وعزما لا محيص عنه.
ذلكم قياس الصدق في الآحاد، وميزان الإخلاص في الجماعات) (2).
وإنما تلك الطاعة الهاوية بقية من خلق بني إسرائيل يربأ المؤمن بنفسه عنها، فإنهم طلبوا القتال في سبيل الله، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ).
(سمة خاصة من سمات بني إسرائيل في نقض العهد، والنكث بالوعد، والتفلت من الطاعة، والنكوص عن التكليف، وتفرق الكلمة، والتولي عن الحق البين.
__________
(1) مجلة (الحوادث) اللبنانية عدد865 الصادر في 8/6/1973.
(2) الشوارد، لعبد الوهاب عزام /6/ مع تصرف.(1/8)
ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد، العميقة التأثير. وهي -من ثم- سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر، كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر، فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل)(1).
من أجل ذلك كانت التربية على الطاعة من أسس دعوتنا، فأوضح الإمام المرشد أ، طريقنا يعتمد علي:
(التكوين: باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض).
(والدعوة فيه "خاصة" لا يتصل بها إلا من استعد استعدادًا حقيقيا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى، كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد: "كمال الطاعة").
والشعار في هذه المرحلة: (دائمًا: "أمر وطاعة" من غير تردد، ولا مراجعة، ولا شك، ولا حرج)(2).
[2] نحو تربية تستدرك
ما تأمل متأمل من دعاة الإسلام ذاك الحوار الصريح بين موسى عليها السلام والعبد الرحيم إلا وفرح بكلمة تقال له تبين له أدب الطاعة.
(قال له موسى: هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا؟
قال: إنك لن تستطيع مع صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا؟
قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا، ولا أعصى لك أمرًا).
إنها ليست بالكلمات العابرة يقولها موسى يراعي بها أدب المجاملة، ولكنه عهد سن خلاله سنة طاعة التابع لمن اختار اتباعه برضاه، واصطلاحات شرعية يعرف مدلولها رسم بها قانون تفويض القادة حق الأمر.
وإنما قالها توكيدًا من بعد أن خاف عليه العبد الرحيم إبهامًا يخرجه إلى حيرة ففترة، وأن يكون مكانًا تلجأ إليه الدهشة.
__________
(1) الظلال 2/226.
(2) المجموعة/ رسالة التعاليم/16.(1/9)
وبهذا التخوف من العبد الرحيم، وإيراده احتمال ذهول التابع، حازت بحوث فقه الدعوة مسوغا وسببا مقبولا لأن تخاطب الحين بعد الحين كل داعية، تحذره الغفلة وبطء الوفاء، فإن من هو خير منه قد خوطب بمثل ذلك وجرى معه الحوار، ولم يك عاصيا إذ ذاك، ولا أظهر استغرابا ولا كان قد حار.
إن الطاعة ليست بدعة نتنادى لها اليوم، ولكنها المذهب القديم الذي أعلنه موسى عليه السلام، فأداه فنه في الطاعة إلى فن في القيادة سديد.
ألا وأن أزمة الإسلام ومشكلته الحاضة تكمن في حاجته إلى القادة، ولن يصل مخلص إلى وعي فن القيادة حتى تتعود قدمه المشي في درب الطاعة اللاحب السليك.
لذة تغري القلب فيتورط
ويتساءل البعض عن شباب ناشئة، امتلأت قلوبهم أول مقدمهم الدعوة إيمانًا ومحبة وأخوة وحماسة، فلما لبثوا سنوات، بردت حماستهم واختلفت آراؤهم وخرجوا إلى تعصب فرق بينهم.
إنه وصف يترجم ظاهرة تتكرر في بلاد شتى، في أوقات متعاقبة.
وسبب ذلك –والله اعلم- أن القلب الإنساني يشعر بلذة عارمة إذا تمكن صاحبه من تنفيذ ما يعتقده صوابا، لكنه لا يقنع، بل يتسع ممتدا إلى آفاق مترامية فيتطلع إلى إشباع كامل يستغرق هذا الامتداد الواسع ويريد تصاعد اللذة سريعا، فلا يصبر، بما أودع الله فيه من سر العجلة، فيخرج مدفوعا بطمعه وعجلته إلى إفراط في تشغيل الجوارح بما يعود باللذة على القلب، فتتعب، وينعكس تعبها على القلب في صورة ملل، فتخلط اللذة بالمغارم وتعود ثقلا محمولا، من بعد ما كانت مركبا حاملا، وتظل المغارم تضغط عليها حتى ينكمش ويضيق من بعد الاتساع الذي جبل عليه وشب في كنفه فلا يعود فيه محل لحلم، ولا لاحتمال يتركه لغيره في أن يصيب، ولا لمصلحة غيره في أن تأخذ حقها.(1/10)
إن هذه الظاهرة في عمل القلوب وطبائعها تفسر لنا بعض جوانب ما نرى في عمل الدعوات الإسلامية من جناية الأخطاء التخطيطية والتربوية على أمثال هؤلاء الشباب الدعاة، ولعل البعض يظن أن أمر تصويبها يحتاج إلى معادلات وإحصاءات وخطوط بيان، بينما هو أقرب من ذلك لمن جرب عن كثب، إذ يمكنه أن يتناوش التصويب من خلال معرفة بسيطة بسياسة القلوب، ليست بنائية عنه، ولا هي في مكان بعيد.
إن قرة عين الدعاة برؤية زمرة القلب الواحد، والانغماس فيها، تجر جرًا إلى تلمس ما فعله ضعف التربية بالأمس من فتن ولدت ذهولا عن قواعد التعامل الإيماني، وجفل خلالها الأنصار.
ولابد أن نراجع أنفسنا ونستدرك نقصنا، بجولة إيمانية طويلة نصفي فيها عقائدنا ونزيد عبادتنا، ونسمو بأخلاقنا وأذواقنا، ونثبت قلوبنا، ونجرد دعوتنا للآخرين على أساس عقائدي إيماني يزهد بنا معها الطامع والمستعجل، ومتقلب القلب.
ريث يوحي
إنها ليست بدائية الأسلوب، ولا بداوة المحيط، جعلتا دعوة كل الأنبياء عليهم السلام تركز على معنى التوحيد، وتدندن حوله، وتتممه بمكارم الأخلاق.
كلا إنهم ..... .... ليسوا كما يظن المستعجلون.
إنها حكمة الله جعلتهم يعلمون أتباعهم الريث والاحتجاب التربوي، وفصاحة اللغة القلبية.
وهو حب الله، يروونه ويبشرون به من يكون حليما متأنيا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للأشج رضي الله عنه رئيس قبيل عبد القيس:
"إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"(1).
فحلم الحليم حصانة له ضد الافتتان يعصمه من الغضب والانتصار للنفس، فيلزم العدل في أحكامه، وأما تأني المتأني فأظهر في تأديته إلى العصمة، إذ يمنح فرصة للتأمل والقياس، فيزول الإلتباس.
وإنها فطنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين رأي تكرر الآيات التي تذم المتكبرين، فراح يعلم الأجيال مقاصد القرآن، فقال:
"الكبر: بطر الحق، وغمط الناس"(2).
__________
(1) صحيح مسلم 1/37/65.
(2) صحيح مسلم 1/37/65.(1/11)
أي جحد الاحتكام إلى قواعد الشرع، وغمط الناس حقوقهم بعدم تنزيلهم منازلهم، وبتجاهل حسنات المخالفين.
ورثة الأنبياء على درب الأناة
ثم هي كذلك الحكمة كانت تحوط ورثة الأنبياء حين كان إغراء المال يقوى، أو حين كانت الفتن تسود، ويكثر قيل وقال.
فا هو بأول طرق لأبواب الدعاة حين طرق أولئك باب الفضيل بن عياض رحمه الله.
(فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي، والدموع تتقاطر من وجهة ولحيته، وهو يضطرب.
فقال له: ما بالكم؟
فقالوا له: عظنا يا أبا علي)
ولا هو بأول جواب من مثله حين وعظمهم قال:
(عليكم بالقرآن.
عليكم بالسنة.
عليكم بالصلاة.
ويحكم!!
هذا الزمان ليس بزمان حديث، وإنما هو زمان: احفظ لسانك، وأخف مكانك، وعالج بالليل، وخذ ما تعرفن ودع ما تنكر).
إنها السياسة التربوية الدائمة لكل جماعة إسلامية عاملة.
يريد الإسلام أن نصفيها قلوبًا.
تربية طويلة، لأطول مما منحناها من الوقت آنفا، مادتها القرآن والسنة وخلوات الثلث الآخر، تعلمنا صواب القول والعمل وإنكار الذات، ونقذف في القلب ميزانًا فرقانا بين معروف ومنكر.
يجب أن تتعود قلوب الدعاة على أن تأخذ ما تعرف أخذ عبادة وسرور ورجاء ثواب، وأن تدع ما تنكر، ترك عبادة ونفور وخوف عقاب.
طريقة سلفية في تعليم الوفاء
وبهذه السجية أشرق جمال وفاء من وفي ممن سلف وظل ينير مجالس أجيال الذاكرين حتى وصل إلى دعاة اليوم يحثهم إلى اتساء واقتداء، ويلوم من تخلف ويوسعه تقريعا.
إنها ومضات إشراق الوفاء تدفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى التغني بها وإلى جعلها عنوان المسلم، فسيرها كلمات هاديات لما جاءه عدى ابن حاتم الطائي رضي الله عه في وفد.
يقول عدي:
(فجعل يدعو رجلا رجلا، ويسميهم. فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟
قال: بلي.
أسلمت إذ كفروا.
وأقبلت إذ أدبروا.
ووفيت إذ غدروا.
وعرفت إذ أنكروا.
فقال عدي: فلا أبالي إذا) (1).
تلك جوانب شخصية المسلم الحق وهويته.
__________
(1) صحيح البخاري 5/221.(1/12)
إقبال حين الإدبار.
ووفاء حين الغدر.
ومعين حين الإنكار.
لا يبالي بعدها أن جهل اسمه الجاهلون أو ذهل عن نسبه الناظرون، طالما أ،ه شمخ بمنقباته على حضيض من حام حول دنيا وحظوظ، وتسامي بهن محلقا إلى الأفق الأعلى.
ثم يظل خير طالب السلامة يزداد ويعظم حتى يكون مربيا لغيره معلما، يعلمهم سبيل الستر والبراءة، كما كان التابعي الجليل كعب بن سور رحمه الله، فإنه لما حدث الخلاف بين الصحابة، وجر إلى القتال:
(دخل في بيت، وطين عليه، وجعل فيه كوة يناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة)(1).
ومن لم يخبر التربية يظن ذلك تكلفا يهيجه الرياء، وربما سارع إلى رمي كعب بقلة العقل، ولكنها التربية بالمنظر العملي، يفعل ذلك ليراه المتورط المستدرج والمدعو المغري فيكون ثم سؤال من أنفسهما لأنفسهما ومراجعة وتحقيق وتدقيق، لعل القلوب تسكن وتهدأ فترجع إلى العقول فكرتها وتنظر الأمور مع عاقبتها، وتتجاوز رؤية يومها إلى مصيرها في غدها.
وإنما يكون هذا الاعتزال إذا كان ثمة إشكال، أو إرهاق ودماء.
أما حين تتوافر الأدلة على شرعية أمير، فليس غير الطاعة، مهما نازعه الناكثون.
[3] التأويل المستدرج
ما برح مقدار إدراك معنى الأخوة يميز ويفاضل بين الدعاة. ولن يرتقي داعية إلى أوج الوعي إلا إذا اعتبر إبراز خلق الأخوة الإيمانية وتعليم موازين الإخاء هدفا أساسيًا من بين أهداف الدعوة الإسلامية، وإلا إذا أدرك أن إحلال هذا الخلق في التعامل الواقعي بين المسلمين، وتجسيده في صورة جماعة عمل متآخية، يخول الدعوة دعاء النجاح، ويمنحها لوحدة مسوغ الوجود حتى ولو لم تصب سرعة التأثير، أو صد عنها جمهور سذج الناس صدودًا.
أخوة العمل لله
إنها أخوة العقيدة التي يكفي تمثلها في فئة قليلة، تورثها بالتعليم إلى خلف يواصل إحياءها.
__________
(1) طبقات ابن سعد 7/92.(1/13)
وإنها أخوة العمل التي تتخطى الألوان والأقوام، وتمزج العاملين معًا، لتفني خصائصهم، وتكون ثم سبيكة تجيب طارقها برنين واحد متجانس:
إن يبل مصطنع الإخاء فإننا ………نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ………عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ………عمل أقمناه مقام الوالد
إفاء، ووصال وعمل.
نبضات تعني أمل الحياة.
ونغمات تسلي القافلة السارية نحو فجر جديد.
فمن عرف فضل الحادي، واستحلى الإنصات لنبضات قلبه، تشعره استمرارية الحياة حين سكون الجسد، لا شك يسوؤه التشويش، وتقطع لذته الهزة.
وبمقدار ما يكون إدراك مغزي الإخاء وما يؤدي إليه من فقه الطاعة ساميًا، يكون تلبيس التشويش، وما يؤدي إليه من الافتراق، ويذهب الواقف بإزاء كل منهما بنصيبه وحظه، هذا بسموه وما نال، وهذا بتيهه وما فقد.
ولقد قالها الشيخ حامد عسكرية رحمه الله في أنفار شوشوا على الإمام رحمه الله، وأشار إليهم أن:
( هؤلاء لا خير فيهم، فقد فقدوا إدراكهم لسمو الدعوة، وفقدوا إيمانهم لطاعة القيادة، ومن فقد هذين فلا خير فيه في صفنا)(1).
بل وأكثر من مجرد حرمان الصف من خيرهم، فإن الفتنة إذا بدأت مبكرة في المجموعة العاملة، أو جددت وأحيت ما كان قد قطع من جذور فرقة قديمة، فإنها توفر مناخا نفسيا دائما في الأجيال اللاحقة يسمح بتكرار الافتتان، وربما عذر المقلد، وناء الرائد بإثمه، بما سن من بدعة تغري المتأخر وتستجيش.
بداية الفتنة تأويل
وسبب ذلك أحيانًا: أن القلب كالعين في إبصارها، فتجد عينا لا تبصر البعيد، وأخرى لا تبصر بمجرد ضباب طفيف أو غبار خفيف فضلا عن أن تكون في ظلام.
__________
(1) مذكرات الدعوة والداعية/113.(1/14)
فإبصار القلب تابع لقوة الفقه ونور الإيمان ومقدارهما، وكلما كان الأمر المختلف يه من سياسة الدعوة لا يضبطه نص واضح، ويلزم فيه الرجوع إلى القواعد العامة وقواعد جلب المصالح وسد المفاسد وأبواب الشبهات: كان استنباط الفقه فيه أصعب، والفتوى به تحليلا وتحريما، أو استحبابا وكراهة: أشد صعوبة، لأن التأويل له مجال في الحكم آنذاك، ولو نظرنا إلى فقهاء القرون الأولى لوجدنا أنهم ألزموا أنفسهم باحتياطات كثيرة في هذه الأبواب من السياسة الشرعية، ومع ذلك أخطأ بعضهم وأتي بالغريب الذي يأباه جمهور الفقهاء، فكيف بنا نحن في هذا الزمن المتأخر؟
ثم أتم الإمام البنا رحمه الله فقه الأوائل، فوضع أصولا صحيحة لسير الدعوة ومراحلها، ومفاهيم عامة تحدد إطار الفكرة وأساليب التعبير، وتلبس الرعيل الأول الذين معه بكل ذلك، وبإرشاده: أطالوا مرحلة التربية، وجردوا الدعوة على أساس عقائدي، وابتعدوا عن التحالف مع الأحزاب، وحذروا أن يقعوا في هيمنة الكبراء. غير أن البعض دخلوا باب التأ,يل تدريجا، ومالوا عن التربية الأصيلة المعهودة إلى استعجال يضطرون معه إلى تساهل في توثيق الرجال، فأبعدتهم تأويلاتهم عن جوهر الدعوة الذي عرفت به، كما أبعدت سلفهم في صدر الإسلام عن جوهر الإسلام، مع غلبة الورع آنذاك.
ومثلما رأينا انتصار صاحب كل تأويل إلى تأويله حين أنكر عليهم جمهور التابعين والفقهاء، فنشأ القول بالقدر والتجهم والاعتزال والإرجاء والخروج، نرى اليوم تواصيا لمتأولة، ونشوء فقه غريب يجيز باسم مصلحة الدعوة تجهما في الوجه، وتهجما في اللسان، واعتزالا للعمل، وخروجا عن البيعة، لا يدرون أن ذلك ما هو بالجديد.
سواد ينتشر
ولتحذير هذا المعدن الأول الآخر، القديم، الجديد: ضرب الله مثلا، فأمرنا أولا بالوفاء فقال:(1/15)
" وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ".
(والوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للرسول -صلى الله عليه وسلم- ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله) (1).
ثم قال لمن له قلب يحذر:
(وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ).
(فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها، ثم تنقضه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة)(2).
ويجئ كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين أمثال الله تعالى التي يضربها للناس، ويوضح أنها مسألة استعداد في بعض القلوب لقبول الافتتان، فمن الناس من جعل الله فيه فطرة صالحة تنكر الفتن، ومنهم من يأبى بعض الهداية فيضله الله، فمن أباها ابتداء: أباها انتهاء،÷ ومن رحب بها ابتداء: طبعت في قلبه سوادًا يظل يتسع حتى يتم أسوداده مع نهايتها، كما ورد في الحديث الصحيح عند مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(تعرض الفتن على القلوب كالحصير، عودا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبيين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًأ، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه)(3).
__________
(1) الظلال 14/93.
(2) الظلال 14/94.
(3) صحيح مسلم 1/89، وقوله: أسود مربادًا، أي شدة البياض في سواد، وقوله: مجخيا، أي منكوسا، وفي زهد ابن المبارك 504 قوله لعلي رضي الله عنه يقرب من هذا الحديث.(1/16)
وربما يملك القلب الاستعداد للفتنة، لكن وقت الرخاء والعافية لا يفضحه ويتستر عليه، فإذا اكتنفته الشبهات، وهيجته المهيجات، انفضح وانكشف.
وشبهوه في ذلك بصاحب الصدر المريض، ما أحسن تنفسه أيام الصفاء، فإذا أثارت الريح الغبار: لهث، وضاف نفسه، واختنق.
أو كحوض ماء راكد، ترسب الطين في قعره، تلقي فيه حجرًا صغيرًا فيختلط كله وقد كنت تظنه زلزلا، أما الحوض النظيف، فإن إلقاء الحجر فيه يزيده جمالا، بما أحدث من دوائر الأمواج التي تعكس ظلال الأغصان الخضراء.
انظر آثار حجر الفتنة في القلوب تحكم عليها، ولا تغترن بظاهر من الركود موهم، ولا تستكبرون وصفنا للمفتتن أنه كالكوز المنكوس، فكم رأينا من انتهت به أيامه إلى ترك الصلاة.
الدعوة محفوظة
واعلم أن من أبي: لن يضر الدعوة شيئا، فإنها محفوظة، وليس لما تبني يد الله هادم، وأن قول المخلص يخلص صدقه، وتأبي فما تزكو لباغ بواطله.
وكما قال عبد القادر عودة رحمه الله:
(إنها دعوة الله وليست دعوة أشخاص، وإن الله علم المسلمين أن الدعوة ترتبط به ولا ترتبط بالدعاة إليها، وأن حظ الأشخاص منها أن من عمل لها أكرمه الله بعمله، ومن ترك العمل لها فقد أبعد الخير عن نفسه، وما يضر الدعوة شيئا)(1).
بل لاحظ الإمام البنا رحمه الله حدوث النفع للدعوة، فروى أنه لما أصدر أحد المخالفين كراسا يهاجم فيه القائمين بأمر الدعوة، ورد عليه القائمون، (ما كاد هذا الرد ينشر حتى تلقفه الناس، ولفتت هذه الحركة أنظارهم إلى الدعوة، وأخذوا يهتمون بكل ما يتصل بالجماعة، فكانت تلك الحركة من أكبر العوامل على انتشار وانضمام عناصر كثيرة من الناس(2).
النسافات
ولهذا أشفق الأولون على أهل الفتن، وحذروهم سوء العاقبة فكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول:
(إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص إليها أحد إلا نسفته، كما ينسف السيل الدمن).
__________
(1) مجلة (الدعوة) العدد 52.
(2) مذكرات الدعوة والداعية /117.(1/17)
ويصور لنا قتادة بن دعامة رحمه الله، وهو أحد أجلاء التابعين، تجربة فتنة رآها، ويضع أمامنا نتائجها التي رآها فيقول:
(قد رأينا والله أقوامًا يسرعون إلى الفتن وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت: ذا الذين أمسكوا أطيب نفسا، وأثلج صدورًا، وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها. وأيم الله! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذا أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير).
ووالله قد رأينا ما رأى قتادة، وعرفنا بعض من شارك في الفتن تكاد أجسادهم تتهدم وقلوبهم تتقطع كلما ذكروا ما كانوا فيه من العز، وما آل إليه أمرهم بعد من الإنغمار.
ولا ينجو من هذه الفتن إلا السيد، صاحب أخلاق السيادة، الحليم، المحب للتوبة، فإنه قد ينخدع بزخارف يصوغها المفتتن، لكنه سرعان ما يرجع إلى رشده وصوابه، وهو ثالث الثلاثة الذين عددهم حذيفة حين قال:
(إن الفتنة وكلت بثلاث:
بالحاد النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف.
وبالخطيب الذي يدعو إليها.
وبالسيد.
فأما هذان فتبطحهما لوجوهما.
وأما السيد فتبحثه، حتى تبلوا ما عنده).
فالحاد النحرير ليس له رجاء النجاة.
والخطيب فيها صاحب سيف أيضًا، كما قال ابن عباس في بعض ما يؤثر عنه: أن سيفه لسانه، فهو مع صاحبه.(1/18)
إلا السيد، فإن الفتنة هي امتحان له، فإن كانت أخلاق السيادة فيه أكثر ميزها، وإن كانت أقل جرفته، فقد يفيق في أولها، وقد يفيق في وسطها، وقد يفيق وهي على مشارف نهايتها، بمقدار ما فيه من النبل، وبمقدار ما عنده من العلم، فإن (الفتنة إذا أقبلت: عرفها كل عالم، وإذا أدبرت: عرفها كل جاهل) كما يقول الحسن البصري سيد التابعين(1)، فإن كان علمه كاملا: أبصرها قبل مجيئها ورأى نتائجها وكأنه يهتك حجب الغيب، ويتأخر وقت إدراكه لضررها كلما كان علمه أقل، فإذا انتهت فلا فضل له في رؤية تشتت دعاتها وإفلاسهم، فإنها تكون مشاهدة بصر لا إدراك قلب، يتمكن منها من لا عقل له أيضًا، وعندئذ لن تنقذه إلا توبة نصوحة جازمة تبعده عن فتنة مقبلة أخرى، يتزود لها التقوى، ويأتم بالدليل، ويسلك الصراط، ويدور بعدها ضمن نظام الجماعة وخطتها وأعرافها.
[4] سلاسل العيوب
كل صادق في إسلام وجهه لله تعالى، يدرك -مع أول خطوة- أنه مهاجر إلى الله وحده، فار إليه، فلا يزال متعجلا مشتاقًا.
وهو مع أول فراره هذا، يدرك علو مدرجه، ويعلم أنه طبقات، فلا يزال مرتقيا صاعدًا، موقنا أن مرتبة الجنة العليا تقتضي علوا في نيته، وترفعا في مسلكه، عن الخلط والنقصان.
فهو يريد استكمال عناصر الإيمان كلما علم أن هناك ثمة ثلمة، ويعزم لذلك عزمة، فإذا شرع في الاستكمال: أدرك ضرورة الصفاء فيه، وأن يرفأ ويرتق بجنس ما وهبه الله من خير آنفا، ألا يفضحه النشاز، فيعزم لذلك عزمة أخرى، فثالثة تستدعي رابعة، في نهضات متواليات، حتى يصيب مراده.
وأما من خلط: فقد غلط، لا يستطيع تناوش الاستكمال من مقعد تخليط بعيد، ولا الإرتواء من كأس ممزجة مشوبة ليس فيها الصريح.
ذو العيب يحتاج الدعاية
ولقد شبهوا المستكمل النقي ببدر تمام كيف أنه استدار، لم يتربع ولم يتطاول!.
__________
(1) تاريخ البخاري الكبير ج2/ق2/322.(1/19)
فالبدر تمدحه خاصة الشعراء، حتى امتلأت دواوينهم بوصف بهائه، وهو صامت ساكت، بعلوه وقار الاطمئنان، أنه لن يغفل عن روعته أحد، فمن ملتذ برؤيته في صمت أيضًا، ومنبه اللسان.
قالوا: أما الناقص، المفضوح بفتوق لا رتق لها، فهو كالقمر حين يخسف، يخرج عن سكينته وصمته ويحتاج لضجيج الطبول، ومدائح الأطفال، ويستجيش حماسة العجائز، يهيب بهن أن ينكرن على حوت ابتلعه واعتدى على حقه وجماله.
الإتمام الصامت
ولذلك كانت وصية السلف أن: التمام التمام.
أرسلها أبو بكر رضي الله عنه من وراء الصحراء إلى خالد بعد انتصاراته في العراق، أن:
(ليهنك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم: يتم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء...)(1).
يطلب منه الإتمام الصامت في غير وقوف عن السير حتى يكون كذلك البدر.
ثم ورثها عن خالد أحمد بن حنبل، فما وقف، حتى قال صاحبه المحدث إبراهيم الحربي:
(لقد صحبته عشرين سنة، صيفا وشتاءًا، وحرًا وبردًا، وليلا ونهارًا، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس)(2).
لم يعرف الوقوف فضلا عن التخلف ورجوع القهقري، إنا هو المرتقى المتعجل المتمم.
تثبيت وتثبيط
ولبثوا في التقدم الجرئ حتى دخلوا السباق، كل يحب أن يقرب من الكمال أدنى، حتى ليأتي أحدهم الديار البكر، ويرتاد كل يوم منزل فضل لم يعرف لأحد قلبه، ويأتي في التنافس بجديد، لم يكن له ولا لغيره بالأمس، وحتى راح الشاعر يتساءل ويبدي دهشته مخاطبا أحدهم:
عجبا بإنك سالم من وحشة ……في غاية ما زلت فيها مفردًا
يتعجب كيف لم يرجف فؤاده وهو المتوحد بلا أنيس معه يشاركه خلقه الذي هو فيه، كأنه طليعة جيش...
فأما الموفق فيمضي قدمًا، ملتذًا بتفرده هذا، ثابتا بتثبيت الله تعالى:
__________
(1) تاريخ الطربي 3/385.
(2) مناقب أحمد لابن الجوزي /140.(1/20)
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا..).
(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ).
وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه:
(وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً).
(فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت)(1).
وأما الراجف فيعلن برجفته للشيطان عن ضعفه فيأتيه ي صورة الأنيس، يحاوره، ويسارره، حتى يجد فرصة إلقاء كلمة التثبيط...
إنها رجفة المتوغل الضعيف، توقف ولا تؤخر، والعاصم منها إنما هو الصدق.
(فأثبت الناس قلبا: أثبتهم قولا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب.
فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة، ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتًا، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة)(2).
ولهذا كان دواء الضعيف إن أراد الوقاية من هذه الرجفة أن يكون صادقا، وهو الدواء الذي عصم به أبو ذر رضي الله عهه نفسه منها لما عرف ما هو عليه من الضعف فقال:
(يا رسول الله: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)(3).
فكف شره ولم يفتتن زمن الفتنة، يعينه صدقه، إذ لم تقل الغبراء ولم تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) إعلام الموقعين 1/177 طبعة محمد محيي الدين.
(2) إعلام الموقعين 1/177.
(3) صحيح مسلم 1/62.(1/21)
لكن المفتقر إلى درجة أبي ذر في الصدق يدخل في الشر بمقدار فقره، فلا ترى ضعيفا بعده إلا وهو بخيل في التصدق على نفسه يلفه الشح الشديد المفضوح، أو يحرمها من الطيبات فحسب، بمقدار قربه من الكذب أو بعده عنه.
للعيوب نقاط انطلاق
ولو سلم بعد هذا البخل لهان خطبه، ولكن العيب من شأن أن يتتابع بشكلين مزدوجين: عدوى وتنوعا، فيكون كثيرة تقعد بصاحبها وتسري إلى غيره كعدوى المرض.
أما العدوى: فإن وحشته الأولى قد أوقفته عن التقدم بما رجف فؤاده، لتفرده في خصلة خير قد زهد فيها غيره، ثم يخطئ ويأتي عيبا، ومن شأن البشر الخطأ، فيربا بنفسه ثانية عن التفرد في الخطأ ويعتاد طلب الأنيس، وينسى طريق التوبة القريب، فيكون داعيا للخطأ، كما قال زهير ابن نعيم:
(يخطئ فيحب أن الناس قد أخطأوا) فيصبح بالفتنة في كل واد، ينشرها أفقيًا، ويصير راجفا مرجفًا.
وأما التتابع النوعي: فلأن العيوب مترابطة، بعضها يستلزم البعض، مثل ترابط أخلاق الإيمان، وهو ما قرره الفضيل بن عياض حين قال:
(من أراد أن يسلم من الغيبة فليسد على نفسه باب الظنون، فمن سلم من الظن: سلم من التجسس، ومن سلم من التجسس: سلم من الغيبة).
ولا شك أن الفضيل قطع ذكر التوالي استفزاز لنباهتك، فإن العيوب تترى، بعضها يردف بعضا فآخر ما ذكره الفضيل، وهي الغيبة: هي أول سلسلة أخرى، فإن الغيبة تقود إلى الحسد، والحسد يقود إلى النميمة، والنميمة تقود إلى الكذب، ومن استجاز الكذب لم يتورع عن النزاع، إلى مائة عيب.
وهذا ما يقرره الأستاذ المرشد الهضيبي، فإنه يري أن أكثر الشرور تبدأ بالغيبة ويقول:(1/22)
(وليعلم المسلم أنه لا يكون مسلمًا حقا إلا إذا أصبحت عقيدته جزءا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه، فيكون عادلا مع الناس جميعا ويحذر نوازع الهوى أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب الناس إليه، فلا يذكر إخوانه بسوء ولا بغتابهم، ولا يلمزهم، فإن أكثر الشرور إنما تنشأ عن مثل ذلك)(1).
ورأس هذه الشرور في مشاهدات الفضيل: ارتفاع الأخوة.
يقول رحمه الله.
(إذا ظهرت الغيبة، ارتفعت الأخوة في الله.
إنما مثلكم في ذلك الزمان مثل شيء مطلي بالذهب والفضة، داخله خشب، وخارجه حسن).
هي سلسلة طويلة من العيوب، كل يكشف بعض الحلقات المتقاربة منها، وكما وصف الفضيل بعضها، كشف الرجال الصالح أبو بكر الحكيم الوراق بعضا آخر منها، فقال:
(إذا غلب الهوى: أظلم القلب، وإذا أظلم القلب، ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر: ساء الخلق، وإذا ساء الخلق، أبغضه الخلق).
توالد مستمر:
وكما كانت الغيبة وكان الهوى نقاط انطلاق لعيوب كثيرة: يكون الانتصار للنفس نقطة تنطلق منها أيضا جملة وسائل ملتوية.
(ويظهر أن النفس الإنسانية إذا ألح عليها معنى الانتصار ولو بغير الحق لم تعد تفكر فيما عداه وإن ساقتها وسائلها الملتوية إلى الهزيمة المتكررة حتى تصل إلى الهزيمة التامة) (2).
وكل ذلك يصبح مجتمع الدعاة الصغير كما يصيب مجتمع المسلمين الكبير إذا اعترتهم الغفلة. ومن مرت أمام نظره فتنة سلمه الله منها: عرف مقدار صواب الفضيل والوراق والهضيبي، والمجادل ينكر احتمال تعرض الدعاة لغيبة، يسميها النقد الذاتي، وينكر تلبس الداعية بالهوى، يسميه الاجتهاد والوعي الجديد وما شاء من الأسماء، وما دري أنه من جهله في إغواء، ومن هواه في إغراء.
[5] سهام الشيطان
هي سلاسل مقيدة موثقة، كما أنها سلاسل متتابعة متوالدة، تلك العيوب الثالمة الثالبة، تشل صاحبها عن حيوية في الخير وحراك، وتشده إلى أرض الجمود.
لها تزين وتزيين.
__________
(1) مجلة (المسلمون)، 1/420.
(2) مذكرات الدعوة والداعية/112.(1/23)
ولسان طويل وترهيب.
لكنها جبانة عند لقاء المؤمن، تخاف انتباهه.
لا قليل من الإثم
لذلك كان التخلص من سجن العيوب الخلقية وأسرها يمثل المرحلة الضرورية الأولى في الصياغة التربوية للداعية المسلم، نحرص على التحرير قبل إعطاء الوعي وتعليم الفقه والتدريب على كسب الأنصار، لا نهتم قبل تقطيع وتكسير حديد سلاسل العيوب بشيء.
فمن تجاوز هذه الخطوة في البداية الصحيحة فكأنما هو مراوح في مكانه، لم يبرح موضعه، وإن قطع المسافات بدونها، وأقام الشهود على قدم الانتساب، وليس هو إلا في تكرير وتقليد لذاك الرجل الذي جاء إلى الزاهد أبي علي الدقاق، يشتاق إلى مواعظه، فقال:
(قد قطعت إليك مسافة).
أي سافر إليه من بلاد بعيدة يبتغي أن يكون له تلميذا وصاحبا، يظن أن طول رحلته يمنحه أولوية على غيره في القرب من أبي علي.
فقال له أبو علي:
(ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة: يحصل لك مقصودك).
وهذه هي النفس الأمارة بالسوء، ذات العيوب، عناها أبو علي، لن يحصل مقصود الدعوة في الداعية حتى يفارقها بخطوة تكون دليلا على أنه قد حل وثاقها له.
أي وثاق كان، بسلاسل غلاظ أم دقاق رفاع، ما دام منهن تكتيف وإقعاد.
وهذا هو الذي أدركه عمر بن عبد العزيز بثاقب بصيرته الإيمانية، فطفق يلح على الواحد من ولاته على الأقاليم أن:
(لا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم)(1).
يراه كله قيدًا، قليله وكثيره، هذا الإثم.
فلما تخلص عمر والذين معه من قليله، واهتزت الأرض لذلك وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، أيقنها الناس نظرية لعمر في طلب كل خير وصاغها شاعرهم وصية:
خل الذنوب صغيرها……وكبيرها فهو التقي
واصنع كماش فوق أر……ض الشوك يحذر ما يري
لا تحقرن صغيرة ……إن الجبال من الحصى
__________
(1) تاريخ الطبري 6/569.(1/24)
وتمثيل التقوى بحذر الماشي فوق أرض كثيرة الشوك يؤثر عن الفاروق رضي الله عنه، وبذلك جمع الشاعر بين خلاصة فقه العمرين، ومن عرج ساعة لشوكة شيكها، حتى وجد منقاشا، ثم استخرجها ضاحكًا من شدة صغرها كأنها ذرة، عرف أ، لا قليل من الإثم حقا.
نحو براءة عمرية
ولولا أنهما أول المبادرين إلى تطبيق حكمتهما لما خلدت، لكنه هو الفاروق لما مات رثته ابنة أبي خيثمة فصاحت:
(واعمراه...
أمات الفتن، وأحيا السنن، خرج نقي الثوب، بريئا من العيب)(1).
بكل معنى البراءة والنقاء.
أفرأيت كيف انتبهت إلى سر مناقبه!
إنه سر براءة الداعية من العيب يفعل لدعوة الإسلام أفاعيلها وفتوحها، وكفي به من سر وسلاح.
وأحدنا اليوم تخالط قلبه أدران الغرور، ويوهمه خيره القليل، فيغتر إدلالا، وبتوقف عن الاستزادة امتنانًا، آمنا غير وجل، وقانعا غير طامع.
ولو أنا ذكرنا ما كان عليه أمر العمرين والسلف، ثم أجرينا المقارنة والمقايسة، لتجدد لنا الخوف، وانبعثت الرغبة، وحصل الحث، وعرفنا قدر نفوسنا.
ولكن خلف نخشى الفضيحة.
قالها صادقة صريحة الرجل الزاهد عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله، واعترف بأننا:
(إذا ذكرت أحوال السلف بيننا: افتضحنا كلنا).
كلهم في القرن الثالث، فأي فضيحة لمن في القرن الخامس عشر؟.
لا ترفع سعرك....
يفضحنا العجب بالنفس.
والمعجب مفضوح ولا شك بفضيحتين:
بفضيحة الزلل والسقوط أرضًا، إذ ما زال القدماء يقولون عن فلان:
(إن العجب أخذ برجله فزل)، كمن يهمل النظر في السوق إلى موضع قدمه، فيزلق بقشر أو يعثر بحجر، فمن راث لحاله وشامت، ويقوم متهمًا، تأتيه النصائح من كل جانب، وما هو بحاجة إليها بعد ارتجاج عظامه.
أو يغالي: يطلب لنفسه السعر العالي، فيفضحه الشافعي، وينادي في السوق:
(من سامي بنفسه فوق ما يساوي: رده الله تعالى إلى قيمته).
وسبب العجب أن المعتقد له يستصغر ما علم من ذنوبه، وينسى كثيرًا منها.
__________
(1) تاريخ الطبري 4/218.(1/25)
فبشر بن الحارث الحافي يعرف العجب بأنه:
(أن تستكثر عملك، وتستقل عمل غيرك).
وهذا الجانب من الاعتداء والازدراء هو الجانب الأظهر في العجب حين فحصه سفيان الثوري، حتى كأنه قصر تعريف العجب فيه، فحذرك:
(إعجابك بنفسك حتى يخيل إليك أنك أفضل من أخ لك، وعسى أن لا تصيب من العمل مثل الذي يصيب، ولعله أن يكون هو أورع منك عما حرم الله، وأزكي منك عملا).
وكأن الفضيل بن عياض رآه رؤية الثوري، فجعله مستقلا عن جانب الاستكثار الذي ذكره بشر، ومستقلا عن نسيان الذنب، فقال:
(إذا ظفر إبليس من آدم بإحدى خصال قال: لا أطلب غيرها: إعجابه بنفسه، واستكثاره عمله، ونسيانه ذنوبه).
وهذا يعني أن هذه الثلاث، الجامعة لأوصاف العجب حين رآه الصالحون من زواياه المختلفة، هي رأس السوء عند الفضيل، بحيث أن إبليس يضمن بعدها كل عيب يحبه.
أي أن العجب أصل كل بلاء وفتنة عنده.
يجدد بذلك ما نقل له عن عيسى عليه السلام لما قال:
(كم من سراج قد اطفأته الريح، وكم من عبادة قد أفسدها العجب).
فالعمل الصالح ضياء ونور، يتحول إلى ظلام إذا هبت ريح العجب عليه، هكذا بهبة واحدة.
صرعي المدائح الخمس
قال الثوري:
(فإن لم تكن معجبا بنفسك فإياك أن تحب محمدة الناس، ومحمدته أن تحب أن يكرموك بعملك، ويروا لك به شرفا ومنزلة في صدورهم).
* وهذا هو السهم الثاني من سهام الشيطان بعد العجب، يعمل أحدهم عمله وهو يريد المكانة به.
وصرعى هذا السهم كثيرون أيضًا، يأتيهم ما يأتي من جهة حب المحمدة العملية.
* فمنه هذا، ومنه ما يأتي من جهة حب محمدة الناس القولية، يحربون في مدحه بلاغتهم لأغراض في نفوسهم، وهو أدرى بما بين جنبيه لو أذكر، لكنه ينسى فيغتر، ويعرض عن ناصح أمين يعلمه أدب الدنيا والدين من قريب:
يا جاهلا غرة إفراط مادحه……لا يغلبن جهل من أطراك علمك بك
أثنى وقال بلا علم أحاط به……وأنت أعلم بالمحصول من ريبك(1/26)
لكنه إن لم يعرف هو منزلته فإن الفضيل بن عياض قد وضع في يدك ميزانًا تشخص به فصيلته، فقال:
(إن من علامة المنافق أن يحب المدح بما ليس فيه، ويكره الذم فما فيه، ويبغض من يبصره بعيوبه).
فتراه لو مدحه أحد ينتفخ صدره في الحال، ويطرب، وتسبح الخيالات في بحار من اللذة الغامرة، فإذا جاء آخر ناصحًا له: أتقلب بسرعة إلى حالة غريبة، يضيق فيها صدره، وتتسارع أنفاسه، وينفلت لسانه بكل لفظ خشن.
إن ستر الله تعالى لكثير من زلاتنا وعيوبنا إنما هو نعمة كبرى، وكل منا أدرى بحقيقة نفسه من غيره، وما تزكيه الغير لنا إلا من شباك الاستهواء التي ينصبها الشيطان.
ولقد تأمل خالد بن صفوان في أحوال الناس فحذرك:
(أن أقوامًا غرهم ستر الله، وفتنهم حسن الثناء، فلا يغلبن جهل غير بك علمك بنفسك).
* ومنه نوع ثالث، وهو مبادرة الناقص لمدح نفسه بلسانه، ذكره الله تعالى فقال: (فلا تزكوا أنفسكم)، وجعله رباح القيسي سبب فساد الأعمال لما سئل:
(ما الذي أفسد على العمل أعمالهم؟
فقال: حمد النفس، ونسيان النعم).
واستدل به الشاعر على وجود المعايب فقال:
عجبا لمادح نفسه لا يهتدي……لتنقص يبديه فيه مدحها
مدح الفتى عند التحدث نفسه……ذكرى معايبه فيدري قبحها.
* ومنه نوع رابع غريب، فإن بعض من يتمكن منهم العجب، ويرون افتضاح أمرهم، يلجأون إلى ذم أنفسهم أمام الغير، ظنا منهم أن الذم سيؤدي إلى اعتقاد المقابل بعدهم عن العجب وما دروا أن التواضع منحة ربانية لا تفتعل افتعالا، وإنما تتنزل على من يعلم الله صدق توجهه، وقد كشف الحسن البصري أمر هؤلاء، وأكد لنا أن:
(من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها، وذلك من علامات الرياء).(1/27)
ومنه نوع خامس أكثر غرابة، إذ يسخر الشيطان لعاشق المدح من يقوم بدور متوسط، فهو لا ينصحه، يخاف أن تتجدد ثورته، ولا يمدحه، يخاف أن ننكر عليه، بل يلجأ إلى ذكر عيوب أقرانه الآخرين، يرمي زيدًا بالسذاجة، وعمرًا بالدنيوية والكسل، فتهدأ النفس الثائرة، وتطرب من جديد، ونرى فيها صورة واقعية تصدق الفضيل حين يقول:
(إن من علامة المنافق أن يفرح إذا سمع بعيب أحد من أقرانه).
كفى بالله مزكيا
لكن الكيس من دان نفسه دائمًا، واتهمها بالتقصير، ورأى أن ما يعمله مهما كثر قليل بجانب حقيقة شكر الله.
وأحد السبعة الذين يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل تصدق بيمنه صدقة لا تعلمها شماله، ومثله الذي يفتح الله على يديه بالأعمال الصالحة لا يعلمها إلا قليل، ويراها المسلمون فلا يعرفون صاحبها والدعاة يهتفون من أول يومهم أن: الله غايتنا.
فما ضرهم أن يحشروا مع قتلى نهاوند الذين لا يعرفهم الناس، بل الله يعرفهم.
يقول مدرك بن عوف الأحمسي:
(بينا أنا عند عمر رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رسول النعمان مقرن، فجعل عمر يسأله عن الناس، فجعل الرجل يذكر من أصيب الناس بنهاوند، فيقول: فلان بن فلان، وفلان بن فلان، ثم قال الرسول: وآخرون لا نعرفهم.
فقال عمر رضي الله عنه: لكن الله يعرفهم)(1).
وفي لفظ آخر:
(ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم)(2).
وإنما يسد باب الفتن في الدعوة بمثل هؤلاء الجنود الذين يجردون عملهم الله، ولا يحفلون بمعرفة غيرهم أو جهلهم لما يعملون، وإلا فإنها سام الشيطان قاتلة.
[6] الهوى الناقض للبدء النابض
إن الله جميل يحب الجمال.
يحبه لعبده، يريده أن يكون جميلا.
وأجمل الجمال: تجريد العبودية لله تعالى، خالصة، نقية، من غير خلط.
ليس للجمال الذي يحبه الله ترجمة أرفع من هذه.
عيش مع جمال موازين الإسلام.
ومع جمال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) الخراج لأبي يوسف/35.
(2) مجلة (المسلمون)/35.(1/28)
ومع جمال فقه ورثته من المجتهدين.
ومع جمال سيرة أئمة المؤمنين، من مجاهد وزاهد، وجندي وقائد باستقلال.
فمن خلط المعية فقد شان الولاء وغلظ.
ولكن يجرده، على الذي لنا من مذهب أبي القاسم الجنيد البغدادي.
قال أبو بكر الكتاني:
جرت مسألة في محبة الله تعالى بمكة، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي.
فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثم قال:
(عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر به، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه.
فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله.
فهو بالله، ولله، ومع الله)(1).
مع الله في كل حال...
*مع الله في سبحات الفكر:
يسيح فكره في خلوات الليالي مع عظيم صنع الله، يتدبر خلق الأرضيين والسماوات وما فيهن من جمال وكمال، وتجول خواطره مع ما يوجبه الله عليه من النذارة والدعوة إليه.
*مع الله في لمحات البصر:
يرى الآيات التي تدل على أنه واحد، ويطالع دلائل إعجازه، ويشاهد واقع الناس، ما بين محبوب مطمئن أنزل الله سكينته عليه وألبسه رداء المهابة، وقلق مذموم ملعون، قد حلت نقمة الله فيه.
*مع الله حال احتدام الخطر:
يوقن أن الله لا يخذله عند وقوع الأذى وتصاعد الصراع، وأن فوق عسر المحن يسرًا ربانيًا، يستجلبه بوحدة يحرص عليها مع إخوانه المؤمنين، يراغم الشيطان بها عند اختلاف الاجتهاد، وتزيينات الانفراد.
*مع الله في الرهط والمؤتمر:
يستمتع بجمال زحف النبي بعد النبي، يقاتل معهم من أرهاط الربيين كثير، ويعرف ما يحبه الله من ضوابط العمل الجماعي والتآمر بالمعروف، وأنه لا مؤتمر إلا واحتمال تباين الرأي قائم خلال محاوراته، وأنه لا خطر في التباين إذا لم يكن ثم انتصار للنفوس.
*مع الله في حب أهل التقي:
يغبطهم على حكمة أوتوها، ومزيد عمل وفقوا له، فيشغفهم ودًا، ويتملق لهم لما يرى كلمتهم مجتمعة، وخطتهم واحدة، عساهم يدخلونه الزمرة.
__________
(1) مدارج السالكين 3/16.(1/29)
*مع الله في كره من قد فجر:
يفاصلهم في استعلاء، ويتميز بعزة، ويتطهر عن تشبه، ويستصغر كيدًا ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن القدير.
فكذلك يكون في كل حال... مع الله
مع الله في سبحات الفكر……مع الله في لمحات البصر
مع الله حال احتدام الخطر……مع الله في الرهط والمؤتمر
مع الله في حب أهل التقى……مع الله في كره قد فجر(1)
ومع حقيقة الإنسان ومصيره
ثم يتم واقعيته، فيرى حقيقة ضعف الإنسان وقصوره، ويرثي حاله بألفاظ الحسن البصري، يقلب كفيه، ويرسل دمعته عليه، ويقول معه:
(مسكين ابن آدم..
محتوم الأجل، مكتوم الأمل
أسير جوعه، صريع شبعه، تؤذيه البقة، وتقتله الشرقة) (2).
يطيل التأمل في هذا الأجل الذي يطوق الإنسان، ويخوف نفسه بحقيقة الموت الآتي المحتوم، ويعير سمعه إلى الفقيه القادري العلوي، إن أعوزته البلاغة، وهو يعظه:
الدهر عن طمع يغر ويخدع………وزخارف الدنيا الدنية تطمع
وأعنه الآمال يطلقها الرجأ………طمعًا، وأسياف المنية تقطع
والموت آت، والحياة مريرة……والناس بعضهم لبعض يتبع
واعلم بأنك عن قليل صائر……خبرا، فكن خبرا بخير يسمع(3)
ويظل يرتقي في المشاهدة حتى يستشعر الآخرة من بعد الموت، وتكون رؤيته القلبية لها كالرؤية العيانية، مثل رؤية المحدث الزاهد عبد العزيز بن أبي رواد الذي كان: (كأنه يطلع إلى القيامة) (4)، فيتردد قلبه بين بشاشة الإطلال على الجنة، ولذعة الإطلاع على النار، حتى يرتجف بدنه طمعًا وخيفة، فيعتقل لسانه عن ذكر الأموال، والقصور والمناصب والنساء، وتصير مجالسه كمجالس الإمام أحمد:
(مجالس آخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا) (5).
المرتقى يخاف السقوط
__________
(1) للأميري في ديوان مع الله/29، من قصيدة طويلة ألجأنا هذا المقدار الذي اقتبسناه منها إلى بعض التجوز في العروض في البيت.
(2) أدب الدنيا والدين للمارودي /73.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/429.
(4) تهذيب التهذيب 6/339.
(5) مناقب أحمد/214.(1/30)
فما يزال بعد ذلك محاصرًا بمشاهد القيامة، وحقيقة الموت القريب، وفضيحة الضعف البشري، فيفر يطلب فهما لحكمة الله أسمى، ويجدد التجرد، يبغي زيادة سكينة تحميه هول المشاهد والحقائق والفضائح، ثم يطلبه أخرى، فأخرى، في تجديد نيات وتوبات، حتى يحلق عاليا، ويبلغ ذروة العيش مع أوامر الله.
هنا: يميل بصره إلى أدنى، فيهوله احتمال السقوط بدفعة من شيطان عدو، فيحذو ، ويخشى هوى يهوي به نزولا وتدحرجًا، فيشرع يدرس أوصاف هذا الهوى، من قبل أن ينقض عليه في أعالي جوه وهو لا يعرفه، ويسأل فقهاء القلوب، من زاهد وشاعر، ينعتونه له.
فإنما سمى الهوى (لأنه يهوى بصاحبه) كما يقول الشعبي، التابعي الكوفي(1).
أي أنه مشتق من السقوط.
وقول الله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) معناه: سقط وجنح للغروب.
فالذي يتمكن منه الهوى، ويخالف دلالة القرآن والحديث ووصايا الفقهاء: لن تراه إلا في تعثره ووقوع يكبه على وجهه، لا يعرف اتزانًا ولا صعودًا.
سبب الهوى
وسببه: وسخ يكون في القلب، من طمع وحسد وانتصار للنفس، يحجب الرؤية أو يشوشها، كالذي ينظر من وراء زجاجة سوداء.
أو يضاف إلى ذلك: ضعف عين الهاوي، تكون مقلته شوساء، متقاربة الأجفان، ضيقة المجال، فتزداد صورة الحق الشرعي عنده غبشا ولا تتكامل.
ولذلك أوصاه الشاعر أن:
انظر أوصاه الشاعر أن:
انظر، وإياك الهوى، لا تمكنن
سلطانه من مقلة شوساء
فجراثيم تلك الأوساخ تغزو المقلة الشوساء، فتلتهب، فتعمى إن لم تعالج، كما أن تلك الجراثيم تكثر في نفس القلب، حتى يقف نبضه، فيكون الهوى ناقصا لحيوية البداية النابضة.
الهوى أسر وقيد
ومع أن ابن آدم محتوم الأجل، وأنه:
(أسير عمر يسير)(2).
فإنه يضع نفسه في أسر آخر يختاره، لو خلا إلى نفسه لعجب كيف اختاره.
__________
(1) أدب الدنيا والدين/14.
(2) أدب الدنيا والدين/104.(1/31)
كذلك وصفه ابن تيمية، فإنه لما سجن لم يظهر حزنا، وقال: (المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه)(1).
فجعل الهوى أسرًا.
مع ذلك ترى الناس يقعون فيه مرة بعد مرة، لما فيه من إغراء، والعاقل يقيد نفسه عنه إن جربه مرة، ألا يسهو فيستجيب ثانية للإغراء، فيكون كحر لم يصب أصل الحرية واعتنى بصورتها، فمد يديه لقيد الهوى، أو كعبد استخذى لتعبيده لما خدعوه وبدلوا أسماء القيود، وجاءه الناصح الأمين الصريح بقيد يحوطه عن مشيه إلى الهوى، فرفضه.
وهما من تعجب عبد الوهاب عزام لقلة معرفتهما، فقال:
قيد الحر نفسه برضاه……وأبي في الحياة قيد سواه
وترى العبد راضيا كل قيد…غير تقييد نفسه عن هواه(2)
والحقيقة أن هذا القيد الثاني الذي يمنع الانفلات إلى الهوى ليس بقيد وإن استعار اسمه، وإنما هو محض ارتباط بالله وأمره ونهيه، يظن القلب الساذج أنه من جنس القيود، فيطلب التحرر منه، فيستدرجه إغراء الهوى، فيكوب ميادينه وعرصاته، يحسب أنه المتحرر، وبئست حرية الأهواء.
جزم وليد الأعظمي بذلك، ولم يجعل بين الحالتين إلا حدًا واحدًا، فقال:
والقلب ما لم يكن بالله مرتبطًا……فإنما هو بالأهواء جواب(3)
حرية اسمها: الارتباط
أو تقلب ودوران اسمهما: الحرية.
تنازع يقود إلى البطالة
وللهوى أربع مضرات أخر سوى هذا الأسر، رآها ثقات الأطباء عند أهل الهوى وأحصوها:
منها: أنه يصد عن الحق، بحيث تأتي بالدليل والحجة، فيجحدهما الهاوى، وكان أعظم تخوف أمير المؤمنين علي رضي الله عه من ذلك، فقال متشددًا:
(إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين:
طول الأمل، واتباع الهوى.
فأما طول الأمل فينسي الآخرة.
وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق) (4).
ومنها إفساد العقل، فتكون اجتهاداته معيبة غير موزونة.
فخذ بمنهج من يعصي هواه وقد أطاع أهل الحجا في كل مؤتمر
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 2/402.
(2) ديوان المثاني/147.
(3) مجلة التربية الإسلامية/494.
(4) الزهد لأحمد/130.(1/32)
إن الهوى يفسد العقل السليم ومن يعص الهوى عاش في أمن من الضرر
ومنها التنازع بين الإخوان، وتطوير اختلاف وجهات النظر إلى تخالف بين القلوب.
وقد استقصى سيد قطب أخبار المختلفين، فتبين له أنه: (ليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق في غيرها، وإنما هو وضع الذات في كفة، والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداء)(1).
ومنها –وليس بآخرها-: البطالة، وترك الجماعة، والقعود عن العمل والمشاركة في أبواب الخير التي يطرقها الدعاة، حتى ينسى معنى النشاط ومغزى الدعوة، فإنها:
ثلاث مهلكات لا محاله……هوى نفس يقود إلى البطالة
وشح لا يزال يطاع دأبا……وعجب ظاهر في كل حاله(2)
ضرورة علاج الهوى
وأضر من هذه الأضرار كلها: أن يكون المرء متماديا لا يعالج هواه، غير مسرع إلى مخالفته، حتى أن مثل أبي العتاهية يضجر ويتأفف من برودة صاحبه في ذلك، فيخاطبه:
خالف هواك إذا دعاك لريبة……فلرب خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوى، يا صاحبي……حتى متى؟ حتى متى؟ وإلى متى؟
ويتعجب ثانية لفتوره وعدم المسارعة إلى الإصلاح فيقول:
سبحان ربك كيف يغلبك الهوى ……سبحانه، إن الهوى لغلوب
سبحان ربك ما تزال وفيك عن……إصلاح نفسك فترة ونكوب
وكان صاحبه كان كبعض من نراهم اليوم، ينكرون تلبسهم بالهوى، لا يكتشفونه، فيقعدون عن تداو وعلاج، ولكن الطبيب الماهر يكتشف وإن لم يحسوا به.
ومن يطع الهوى يعرف هواه…… وقد ينبيك بالأمر الخبير
فالخبير، ومن عنده علم الفتن وصفات الشر: يعرف الهوى الكامن المستقر من آثاره الظاهرة لا محالة.
ولذلك يجب الإصغاء لطبيب خبير من السلف طلب منا إضعاف هذا العدو فقال:
(الهوى لا يترك العبودية تصفو، وما لم يشتغل السالك بإضعاف هذا العدو الذي بين جنبيه لا تصح له قدم، ولو أتى بأعمال تسد الخافقين.
__________
(1) الظلال 10/26.
(2) نفح الطيب 8/59.(1/33)
والرجل كل الرجل من داوى الأمراض من الخارج، وشرع في قلع أصولها من الباطن، حتى يصفو وقته، ويطيب ذكره، ويدوم أنسه).
سماها رجولة، ووافقه مصطفى صادق الرافعي في ذلك، فقال:
(إنما الرجولة في خلال ثلاث:
عمل الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلها قبل أن يكون في هواه.
وقبوله ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم.
والثالثة: قدرته على العمل والقبول إلى النهاية)(1).
ولو استقام العاملون على هذه الثلاث لما وجدت فتنة مجالا للظهور أبدًا.
أداء الواجب، بانتظار الأجر الرباني لا الثناء العاجل ولا الرئاسة.
والثابت على ذلك.
نعم، هو علاج صعب... لكنه لذيذ.
صعب وشديد، كما قال أبو العتاهية:
أشد الجهاد جهاد الهوي……وما كرم المرء إلا التقى
وأخلاق ذي الفضل معروفة……ببذل الجميل، وكف الأذى
أي كف أي ظنونه وأذى لسانه، عن المؤمنين، ويزداد شدة إن أطال الإهمال فيما قرر المحدث الثقة الزاهد الكوفي محمد بن كناسة في قوله:
إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى
فإن فطام النفس عنه شديد(2)
لكن صعوبة هذا العلاج تخف بعد المباشرة فيه، ويأتيه المدد نم رب رحيم.
وحين ذاك، ومع كل جولة ينتصر فيها على هواه، ينتشي ويلتذ لذة ليس كمثلها لذة، كلذة من يرتقي قمة صعبة ويعلوها، فإن:
(في قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة).
كما يقول ابن الجوزي(3)
وإنما نعني بعلاج الهوى: مناقضته ومخالفته، والعمل بضد ما ينادي، كما ورد في قول الشاعر:
هي النفس إن أنت سامحتها……رمت بك أقصى مهاوي الخديعة
فإن شئت فوزا فناقض هوها……وإن واصلتك أجزها القطيعة
ولا تعبأن بميعادها………فميعادها كسراب بقيعة(4)
بل ربما ذلك لا يكفي، فإنه يراوده مرة أخرى، ولكن نحتقره على طريقة سيد الزهاد إبراهيم بن أدم حين وصفه ابن أخته محمد بن كناسة:
__________
(1) وحي القلم 1/368.
(2) الأغاني 13/342.
(3) صيد الخاطر/58.
(4) نفح الطيب 7/362.(1/34)
*أهان الهوى حتى تجنبه الهوى*(1)
فنزدريه، ونهزأ به، ونضحك عليه، حتى يولي مدبرًا، يتجنب المرور عبر دربنا بعدها أبدا.
[7] تأليف الأرواح
أصبحت علامة السالك، الصادق في هجرته إلى الله تعالى، علامة واضحة يتعرف إليها الداعية الذي أرهبته أهوال وصف الهوى الناقض لحيوية الابتداء المتحرك الدفاق النابض، تعرفا سريعًا لا يحتاج إلى مزيد فراسة وتجربة.
فليس من عجب إذن أن يسرع أبو علي الروذباري الإشارة إليها لما سألوه عنها، ولا عجب ثانية للبلاغة التي انبغت له وكانت بين يديه، حين طفق يمنح هوية العمل وفق شروط ثلاثة، ويحكر صادق السلوك علي:
(من سلك طريق المصطفى.
وأطعم الهوى ذوق الجفا.
وكانت الدنيا منه على القفا)(2).
ليس لمقبل على دنيا، أو صريع هوى معهم نصيب.
عصبة العزم باقية
إنه سلوك طريق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أول الشروط، بل البديهية التي قد لا يرى البعض حاجة لذكرها، ولكن من يعلم أن بعض آيات الله هن أم الكتاب وآخر يعدلن الثلث: يعلم أيضا أن بعض كلمات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- المحددة لطريقه الذي ندب لنا الروذباري سلوكه: هن أمهات الحديث، يضعن الموازين، ويرسين القواعد، ويجمعن المتفرق، وإياهن يعني الروذباري قبل أن يكون عني الجزئيات، وعليهن يؤكد.
ولقد تحدث -صلى الله عليه وسلم- عن أمة حزم ضمن أمته العظمى التي تنتسب إليه، لا تترخص مع المترخصين، ولا تغفل مع الغافلين، بل تأخذ القرآن والسنة بعزم، ثم جعل لها علامة صارت ميزانا إسلاميا، فقال:
(لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
__________
(1) شطر في الأغاني 13/337.
(2) تاريخ بغداد 1/332.(1/35)
أي أن الداعية المسلم حيث يبحث مستقبل الدعوة الاسلامية عليه أن لا يفترض مجرد افتراض بقاء وثبات المجموعة الحازمة ضمن الأمة الإسلامية الواسعة ثبات استمرار على مر العصور، إذ تقنع بمثل هذا الافتراض كل نفس مليئة بالأمل، ولكن يتيقن الداعية ذلك يقين عقيدة.
تكامل يتبادل الخير
وذو النظر الجزئي يصرف المقصود بهذه الأمة إلى صنف من العاملين يبهره خيره وفضله، فمن قائل أنهم أهل الحديث، ومن قائل أنهم الفقهاء، أو ثالث يرى أنهم الزهاد، أو الأمرة النهاة عن المنكر.
والصواب أنها الأمة المتكاملة الاختصاصات، التي يعطي وجودها صورة حركية بحاجات الإسلام المتعددة، كما رآها الإمام النووي:
(فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى، من مجاهد وفقيه، ومحدث وزاهد، وآمر بالمعروف، وغير ذلك من أنواع الخير ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد، بل يجوز أن يكونوا متفرقين)(1).
يعني تفرق المكان، الإنبثات والانتشار، لا تفرق الكلمة والبعد عن التشاور وإهمال الأسلوب الواحد.
وهذا من فقه النووي في العمل ومعاني الدعوة.
أما من قصرها على طائفة معينة فإنما يصيب بمقدار ما في الواحد النموذج من أفراد تلك الطائفة من كمال في الصياغة التربوية والعملية، كالإمام أحمد بن حنبل حين ذكر أنهم أهل الحديث، فإنه رأي شخصية المحدث جامعة لرواية الحديث المسند والفقه في متونه، والزهد ومكارم الأخلاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، فقصر الوصف عليهم وأصاب، ثم خلفه على توالي القرون خلف أخذوا من تفسيره حروفه، ولم يلتفتوا إلى الواقع الموصوف وكمال صياغات الدعاة نم المحدثين الذين عضدوه في جولته مع الجهمية والمعتزلة، فعكفوا منفردين على ألفاظ من الحديث مجردة، وتركوا المجتمع يربيه من لا دين له، والسياسة يمارسها كل عميل وفاسق، يظنون أنهم الأمة القائمة على أمر الله.
__________
(1) فتح الباري بشرح البخاري 1/174 طبعة الحلبي.(1/36)
ولا شك أن جماعة من أفراد تكاملت صياغة كل واحد منهم فقرن العلم بالجهاد والأمر والنهي بالزهد: أرفع من جماعة أخرى يكمل اختصاص الواحد منهم اختصاص الآخر.
وهذا ما يضع الجماعة المتصدية للقيام بأمر الله أمام واجب التربية الجماعية التي تأخذ من خير هذا ليشاركه هذا، ومن خير هذا فتفيضه على هذا، فيبطل أمر من خالفهم، بما سدوا من ثغرات، قد ينفذ منها هذا المخالف إلى أحدهم فيضرهم.
واجب تربوي لا تظنن أن السلف غفلوا عن إدراكه أو تلبية متطلباته، بل لا تزال قصص حياة بعضهم تنتظر من يفيد منها من دعاة الإسلام اليوم اقتداء واتباعًا، من بعد ا بنت جيلا من الدعاة في يومها الماضي، أصلحوا ما أفسد الضعفاء، وقوموا ما حرفه الدنيويون.
نظرية الأشكال المؤتلفة
يبرز منهم في الصدر الأول: التابعي المحدث الفقيه المربي الشاعر:
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، حفيد أخي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأحد فقهاء المدينة السبعة، ومن رؤوس العلم والنباهة الذين تلمذوا لعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة والنعمان بن بشير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعنهم أجمعين(1).
نهج عبيد الله منهجا تربويا سماه: (التأليف بين الأرواح)، وخلد عنوانه شعرا فقال:
وما يلبث الفتيان أن يتفرقوا……إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل(2)
ظاهرة بيت شعر تحركت به شفقة شاعر ليطرب قلوبا يبهجها الحرف البليغ، لكنه لمن عرف خلفياته يمثل خلاصة تجربة تربوية انسابت عبر سيرة مرب مصلح لتغذي قلوب يلذعها تفرق المسلمين.
يجزم أنه إحلال الألفة بين الأرواح، أو هو الاختلاف المشتت.
يعني ذلك أن مذهبه التربوي لا يبدأ ولا يكتفي بإعطاء العقول ما تحتاجه من علم شرعي، وتربية فكرية، وخبرة سياسية، ودراسة واقعية، بل يعتني بالقلوب أولا يجعلها متشاكلة، ويظل يواصل عنايته بها إن التفت إلى العقول بعد.
__________
(1) تهذيب التهذيب 7/33.
(2) الأغاني 9/144.(1/37)
فمغزى نظريته أنها تعطي للتربية الروحية الأولوية.
وربما أعطت نظرة سريعة لحديث عبيد الله بن عبد الله في صحيحي البخاري ومسلم صورة قريبة من التفصيل لما كان يربي أصحابه عليه، ولكن التفصيل كل التفصيل تفهمه إن علمت أن تربيته أنتجت عمر بن عبد العزيز رحمه الله، مثال المتجرد، ونموذج الحاكم العادل، إذ كان هو مؤدبه الخاص ومربيه الذي لقنه معاني الإيمان.
فمن بهرته شخصية عمر: عليه أن ينظر من صاغ عمر وكان وراءه، ويفحص نظرية التأليف التي ألفت بين قلبه وقلوب عصبة الخير التي عاونته في إشاعة العلم والعدل في الأمصار، ممن صقلتهم صحبة عبيد الله بن عبد الله، من أمثال: أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أحد فقهاء المدينة السبعة ووالي عمر على المدينة، والزهري زعيم المحدثين، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعراك بن مالك القاضي، وصالح بن كيسان.
فلقد علمهم عبيد الله أسس السلوك في عصر الفتن الذي عاشوه، واستطاع بنظريته التربوية أن يوجههم لتأسيس مجتمع السلام والعلم من بعد ما كادت الخلافات تستهلك ما عند الناس من خير، وأداه صدق نيته في مسعاه، وتركيزه على تربية عمر بن عبد العزيز من بعد، ووعيه للاحتمالات التي تكتنف مستقبل عمر، إلى تأييد رباني رفع عمر إلى السلطة، ليعلم الناس علم الآخرة من مركز القوة المهاب لا من زوايا المستضعفين المنسية.
نعم، حال السلم بين عمر والإتمام، وشوش أبو مسلم الخراساني فيما بعد على تلامذة جيل الإصلاح الذي وعي نظرية تأليف الأرواح، لكنها كانت بارقة ولا زالت تنير طريق الدعاة السائرين، وكلمة باقية في عقب عبيد الله من حزب تأليف الأرواح.
مع السراب في النشيد
فلقد ظل وميض البارقة يتوالى، حتى استنار به إقبال من بعد القرون، فجدد حكمة عبيد الله، وراح يترنم في رياض لاهور، تتهادى نغمته، تعلم المسلم الجديد:
كل من أوتى حظا من حياة……في سوى بيئته يلقي رداه(1/38)
بلبل أنت، ففي الروض أمرح……ومع السرب بلحن فاصدح(1)
فليست الدنيويات بيئة المسلم، ولا مجرد الفكرة تعصمه، ولا الأهداف الجزئية تهبه الحياة، بل مؤتمر المؤمنين الشامل الايات ومجمعهم المتكامل الذي يتهادى الخير.
يريد إقبال أن لا ننفرد، ولا نأتي بنغمة نشاز تسلب اللحن جماله.
يريدنا سرب لسان واحد بعد ما كنا زمرة قلب واحد، نمرح مرح الآمال، لا نحزن حزن اليأس.
يريد تشذيبا في نفوس الجميع، نبتر به كل نتوء زائد فيهن، ليتسق خطهن المستقيم، أي: محاسبة النفس وعتابها، فإن لم تستح فتقريعها.
علمك بالفساد صلاح
فلقد كاد أمية بن أبي الصلت –وظلام الجاهلية من حوله- أن يسلم بهذه المحاسبة ومثيلاتها، يوم قال
عبد دعا نفسه فعاتبها……يعلم أن البصير رامقها(2)
فسنها أمية سنة فطرية قبل أن تكون أمر شرع، تبكت من لم يأخذ الكتاب بقوة، أن شاعرًا جاهليا سبقه في الفقه، فأيقن أن يصيرا عليما يراقب خلجات النفوس من فوق سبع سماوات ويحصيها ويعدها عدا، وراح يلوم نفسه ويدقق في النقاش.
والمسلم الصادق يزيد على ذلك، فينظم نداء الفطرة بإرشاد القرآن، وتفزعه احتمالات النفس وزخارف تمنياتها، فيلجأ إلى الله رأسا وبلا إبطاء، يردد خلف تلميذ الثوري يوسف بن أسباط دعاءه:
(اللهم عرفني نفس).
فإن في النفس من الأسرار والخفايا ما لا يكشفه إلا عون الله لنا، حتى أستاذا في علم النفس مثل سهل بن عبد الله التستري الزاهد يجزم بأن:
(معرفة النفس أخفى من معرفة العدو),.
أي أن عيوبها تتستر وتموه أمرها كما يتستر العدو ويخادع، لكنه خفاء لا بد من اقتحامه واستجلائه إذا أردنا النفس الزكية، وتعيين مكان العلة يسبق مقص الجراح.
إن بحث الطيب عن داء ذي الداء …لأس الشفاء قبل الشفاء
أو كما قال زاهد مكة الثقة وهيب بن الورد:
__________
(1) ديوان الأسرار والرموز/120.
(2) عيون الأخبار 2/375.(1/39)
(إن من صلاح نفسي: علمي بفسادها، وكفي للمؤمن من الشر أن يعرف فسادًا لا يصلحه)، وكقول حسن البصري: (لا يزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عليه عمله) (1).
فلا يزهدنك فيها أنها معرفة عيوب وتأمل سالب، بل أنظرها على أنها خطوة ضرورية في طريق الإصلاح كما نظرها وهيب.
وأنظرها على أنها صفة لا غنى عنها للداعية إن أراد أن يتحقق في الدعوة، فإن من لم يعرف نفسه وينكر عليها منكرها: لا يستطيع أن يعرف نفس غيره ويقوم اعوجاجها.
تلك مادة في قانون العمل عند الكيلاني تقول:
(إذا كنت منكرًا على نفسك: قدرت على الإنكار على غيرك.
على قدر قوة إيمانك تزيل المنكرات، وعلى قدر ضعفه تقعد في بيتك وتتخارس عن إزالتها.
أقدام الإيمان هي التي تثبت عند لقاء شياطين الإنس والجن) (2).
إنها حروف ليست كغيرها أن يقول الكيلاني:
(تقعد في بيتك وتتخارس).
جرسها مخيف.
إنها حروف هجاء مر في لغة الدعاة.
ويا له من عار يأنف منه كل عزيز نفس، والغيور لا ينسى هذه الجملة، كأنه يرى وجه الكيلاني يطل عبر القرون، يهتك عليه ستار النافذة، يعيره تواريه بالبيوت، وتلبسه بعيوب تقود إلى قعود.
تنقية وصفاء
وتسميها اللغة عيوبا وأخلاطًا، ولكننا عرفنا الغيبة وحب المدحة والهوى: سلاسل مقيدة وسهام شيطان، ونواقض بدايات نابضات.
فلا جرم أن يسمى الثورى الرياء بعد ذلك فسادًا حين يوصي أخاه ويقول:
(إياك وما يفسد عليك عملك، فإنما يفسد عليك عملك الرياء).
يمر عليه هكذا ولا يعرفه، غير ناس ولا عاجز، بل لأنه أمام معنى لا يمكن تعريفه، إنما يعرفه البرئ منه فقط، كما يقرر الفضيل بن عياش حين يقول:
(لا يعرف الرياء إلا مخلص)
فمن ذاق حلاوة الإخلاص: عرف مرارة الرياء، ليس من طريقة أخرى.
يكن مخلصا ثم كفي، وسلام على عباد الله المخلصين.
آخرك نتن يا هذا...
__________
(1) كتاب الزهد، لابن المبارك/528.
(2) الفتح الرباني/30.(1/40)
وإلا فإن الرياء يولد عجبا، ينسى معه أن الناس تراب وماء، وينسى منة الله عليه إذ جعله مسلمًا، فيتبختر، ويتصنع ويتكلف المظاهر والفصاحة، ويستأجر له حاشية تحيطه بهيبة عارية.
ولو درى أوله وحاضره ومنتهاه لوقف مكان الشاعر الذي يصفه متعجبا، ولزاد تعجبا!!
فضائح مزرية نسيها المعجب فضحك منها الشاعر:
عجب من معجب بصورته……وكان بالأمس نظفه مذره
وفي غده بعد حسن صورته ……يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته………ما بين ثوبيه يحمل العذره(1)
ولذلك منع الثقات إسماع الثقة مثلهم كلمة مدح فيه، بسبب قرب قميص العجب من النفوس، ألا تتناوله يد الممدوح فتلبسه، حتى خشي عمر بن الخطاب على مثل أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ما قد يولده المدح من غرور في نفسه فقال لأنس رضي الله عنه يصف أبا موسى: (أما إنه كيس، ولا تسمعها إياه)(2).
فإن وقع أحد في العجب، وعاون الثقات الشيطان على أخيهم بمدحهم له في الوجه على حين غفلة من أنفسهم: تطور العجب إلى كبر فيه غمط حق الآخرين، ونسي التواضع.
نعم، كما قال يونس بن عبيد:
(ليس في هذه الأمة رياء خالص، ولا كبر خالص.
فقيل له: لماذا؟
فقال: لا كبر مع السجود، ولا رياء مع التوحيد).
ولكن هذا السجود يحقق المنزلة الواطئة الدنيا من الفضل، وفوقها درجات من الفضل تتصاعد حتى تسمو، وقد أمرنا بالإتقان والمزيد، وإنما ذلك دين المتكاسلين، أن يرضوا بالقليل وينفذوا الضروري الذي يرفع عنهم شبهة الكفر والنفاق.
وماذا على داعية الإسلام لو أشبع نفسه بدل ذلك باستعلاء على نموذج الناس المنحرف، وجمع في الوقت نفسه تواضعًا لأخيه؟ ويبين مذهبه لمن يظن أنه في تناقض فيقول:
أنيه على كل الأنام نزاهة……وأشمخ، إلا للصديق، تأدبا(3)
__________
(1) أدب الدنيا والدين/210.
(2) طبقات ابن سعد 2/345.
(3) ديوان البهاء زهير/35.(1/41)
فهو شموخ النزاهة، يسع الداعية، يغنيه عن الكبر، وهو تواضع الأخوة يتأدب به الداعية بلا تهمة خنوع، بل يلحق برعيل من دعاة خمسمائة سبقوه، قص الإمام البنا علينا في مذكرات الدعوة والداعية قصة رضاهم بعامل نجار أميرا عليهم لما عنده من الفقه والصلاح والتضحية، وإعراضهم عمن يحمل شهادة الأزهر العالمية.
ولذلك ثبتوا، وغشيت قلوبهم السكينة في ظلال الدعوة؟
(ألا ترى أنه من شمخ برأسه إلى السقف شجه، ومن تطأطأ: أظله وأكنه)؟
[8] الجندية طريق القيادة
حين تدعي نظرية ما دعواها، فإن اللحظات الحرجة وحرارة التحديات هي التي تكذبها آنذاك أو تصدقها، فيرسخ مدلولها أو يهمل، ويصير أساسا في التعامل والتفاضل أو يعرض عنه.
وحين أدلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بنظريته في الأشكال الروحية المؤتلفة، وجربها في أصحابه وتلامذته: كان عليه أن ينتظر يوم فصل يؤيد مذهبه أو يخونه، فيتكفل بنقله للأجيال اللاحقة، أو يسلمه النسيان.
الإمارة حمل ثقيل
ولقد كان يوم خلافة تلميذه عمر بن عبد العزيز هو ذاك اليوم الفصل، فلئن لم يكن ثمة جيش عاص يتحدى تلميذه وراء أسوار دمشق، فإن هناك تحديات نفس مقبلة على إغراءات الرياسة، وبطرًا اجتماعيًا، ورخاوة خلف لسلف الهمة والجهاد.
ومع كل خطوة لعمر حين كان يرتقي المنبر ليخطب خطبته الأولى:
كانت ترتجف قلوب الذين يظنون أن عبيد الله قد أحيا فيهم فقها كاد ينحرف بالتأويل، وتزداد دقات قلوبهم مع استدارة عمر، يخافون أن تغلب شهوة تنفر الناس عن مذهبهم التربوي، وتزهدهم فيه.
إنها رجفة الحاسم، لا الشك في الفقه المسند، إذ ربما كان للخوف معنى لو كان لسان عمر يتكلم أو عقله المجرد، لكنها كانت دموعه ثم، وكان قلبه...
كان فوق المنبر خريج مدرسة يحاول أن يفي لأستاذه، ويطمئن أشكاله ويحزن متواضعا لفتيان لم يعرفوا ما عرف تفرقوا، فانطلق يعلن انتصار عبيد الله.(1/42)
(ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملا) (1).
وهذا الشعور هو أدنى ما تحس به الأرواح المؤلفة وتتميز به عن غيرها، فحين تزول المزايا المصطعنة، والطباع المتكلفة، ويحل التواضع، وتسود الأخوة: لن يبقي من معنى الإمارة والرئاسة إلا ثقلها الثقيل.
عمر يطور مذهب التأليف
لقد أبرد عمر حقا بكلماته هذه قلوبا طال همها واشتياقها إلى رؤية واقع يظنه الضعاف خيال مثاليات، وتحليق تمنيات.
نعم، كانت كلمات عمر وعدًا لمستقبل، وإخبارًا عن شعور متوار في كامن الصدر، ولكن كفى بوعود الأحرار ضمانًا، وبأخبارهم صدقا، ولذلك أسلس له الناس القياد، وحصل منهم تجاوب سريع معه، أحسن عمر استغلاله أيما إحسان، فطور نظرية أستاذه في التأليف، فجعل ابتداء التربية ينطلق من معالجة أعقد عقدتين في الجماعات: عقدة الفراغ، وعقدة حب الرئاسة والتنازع عليها.
فالمطالع لسيرة عمر يجد بشدة اهتمامه بعلاج هذين العيبين واضحًا وظل تأثيره في ذلك ينطق الشاعر بعد الشاعر، والحكيم بعد الحكيم يستمدون من تجربته معاني الإصلاح.
عرف عمر سيئات الفراغ، فأوجد للناس شغل خير ألهاهم، إن لم يكن عملا عمرانيا وسعيا في مصالح المسلمين، فشغلا تأمليا مع النفس، وفكرا في القلب، يفيضان من بعد عزمات فنهضات.
لقد أخرجهم من الغفلة والإهمال والبرود، إلى التذكر والفحص والاستدراك، وكفى بهذا الإخراج نجاحًا عند من يعرف تربية الجماعات، وفي خطبة وكلمات كلها تسمية وإشارة إلى عيوب النفوس، وطرق إصلاحها، وترقب الموت، ورجاء رحمة الله، وخوف عقابه، ثم زاد فاستقدم الخوارج إلى دمشق، وأمرهم بإنهاء تفردهم ولزوم الجماعة، وذكرهم ضرر الفرقة، فبات جميع الناس في شغل وادكار، بمثلهما انتفع أبو العتاهية من بعد، فاتضحت له مثالب الفراغ، فقال:
ما أحسن الشغل في تدبير منفعة……أهل الفراغ ذوو خوض وإرجاف
__________
(1) طبقات ابن سعد 5/340.(1/43)
فالمشتغل جاد فيما هو فيه، يربي قلبه، ويعلي همته، والفارغ الكسول يفتش في الفتن عن لهو يؤنسه.
ثم دعا عمر ثانية إلى زهد في المناصب هو أهم من الزهد في الأموال، واستخلص من الفتن التي حدثت في الصدر الأول دروسًا، ووعظ المستشرقين للرئاسة مواعظ أماتت فيهم حبها، بمثلها انتفع أبو العتاهية مرة أخرى، فحذرك:
أخي: من عشق الرئاسة خفت أن…يطغي ويحدث بدعة وضلالا
وتخوفه هذا صواب لم يبالغ فيه، فإن شرع الله وعرف المؤمنين ينفران عن طلب الرئاسة، فمن طلبها تمحل لذلك ولابد، فيزين الذميم، فتكون البدعة، ويقمع المخالفة لها ويعاديه، فتكون الضلالة، ومن نظر إلى عهد ما بعد عمر: أدرك ذلك، فإن القلوب عزفت عما قبحه وآمنت، إلا قلبا واحدًا من قلوب أقربائه، عشق الرئاسة، فسقاه السم، فمات عمر، فكان عصر الضلالة، والسنوات العجاف.
مدرسة الثوري تواصل التربية
ولما هالت المربين تلك الضلالة التي عكرت صفاء تاريخ المسلمين بعد عمر: أصفقوا على دم التنازع على الرئاسة وتحذير الأجيال اللاحقة منه، وجعلوه أصلا مستقلا من أصول التربية الإسلامية، يتجاوز أن يكون مجرد علاج واقع أرهق الذين بعد عمر.
فللثوري كلام كثير جزل في ذلك تصدر به المربين، يبذؤه بتقرير واقع الناس، فيقول:
(ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة).
ورؤياه هذه ظلت تؤرقه، حتى أمسك بقلمه يكتب رسالته المشهورة، إلى صاحبه عباد بن عباد، وإلى كل عباد من الدعاة في كل الأجيال، أن:
(إياك وحب الرياسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد نفسك، وأعمل بنية).
ثم جسد حقيقة ينساها طلاب الرئاسة، فذكرهم أن:
(من طلب الرياسة قبل مجيئها: فرت منه).
أي: يبقى عليه وزر الشوق الآثم، وزفرة الصدر الراغم، ليس إلا، ويرجع صفر اليدين، وبخفي حنين، لم يذهب لأبعد من فضح نفسه أمام جمهور العاملين.(1/44)
*وكما كانت نظرية الأشكال المؤتلفة مذهبا لعبيد الله بن عبد الله جسده في جماعة عمل متآخية استدركت التفرق: كان نداء الحذر في طلب الرئاسة مذهبا للثوري جسده في جماعة زهد محتسبة استدركت تفرقا آخر، ولانت لا نفس هارون الرشيد، فشغل الناس معه بحج أو بغزو، سنة فسنة.
*وعل الفضيل بن عياض هو أهم أركان تلك الجماعة التي عضدت الثوري في شرح مذهبه من بعده، إذ صحبه وأخذ علمه، وتأخرت وفاته عنه قرابة ثلاثين سنة، كان يكثر خلالها ذم التكلف في طلب الرياسات وعلى الأخص تركيزه على كشف النفسية المعقدة الغربية التي يحملها طالب الرياسة.
يقول الفضيل:
(ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحدًا عنده بخير، ومن عشق الرياسة فقد تودع من صلاحه).
ومن لم يجرب الأعمال الجماعية يستغرب مثل هذا أو يستبعده، ولكن الممارس يحفظ قصصا تصدق الفضيل أيما تصديق، فإن العمل الإسلامي حين يدع الانتقاء، ويلهيه التكاثر بالأعضاء: يدخله أصحاب التخليط ويظهر في محيطه مثل هذا الذي وصفه الفضيل.
فمن لم يزهد في الرياسة صار ميؤوسا منه عند الفضيل، أي وإن زهد في الأموال وأطيب الطعام وجمال النساء، لأن (الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا)، كما يقول صاحبه وصاحب الثوري، الزاهد يوسف بن أسباط.
كلام لا يقولونه اعتباطًا، بل كانت تأملاتهم في مصائر الجيل الذي عرفوه تعمل كعمل دوائر الإحصاء الحديثة، يحصون من كمل ونقص، ومن وصل ومن خانته قدمه، والعثرة التي عثرها، إن كانت في أول الطريق، أو عند الوسط، أو لما كاد أن ينتهي ولم يبق له إلا خطوة الفوز، ثم يعطونك نتائج الإحصاء في أقوالهم هذه.
تجريب وتدرج...(1/45)
وأخذ الشعر أيضًا دوره في التحذير آنذاك، ولفت الشعراء أنظار المتنازعين إلى كثرة الأعداء من حولهم، وشماتتهم بالذي يحص ل بين المؤمنين، وانتفاعهم به نفعا مباشرا في عمل جاد إيجابي يستغل فرصة انشغال المؤمنين بأنفسهم، فأرسلها شاعر ذاك العصر زفرة ألم:
إن التنازع في الرئاسة زلة………لا تستقال، ودعوة لم تنصر
أو ما ترون الشامتين أمامكم………ووراءكم من مضمر أو مظهر
وهذا في الحقيقة هو الوصف الدائم لظروف وآثار كل نزاع، بل إن كثرة الأعداء اليوم، وخططهم المنظمة، تجعل المحنة الحالية أعنف محنة مر بها الإسلام في تاريخه، وتستدعي أقصى درجات الوحدة الإيمانية بين العاملين.
والنجاة من فتن اليوم لن تكون إلا باللجوء إلى الشرط الذي وضعه سلفنا بالأمس وأودعوا فيه خلاصة تجربتهم في اكتشاف مسلك الوصول الصحيح إلى الرئاسة، فإنهم لم يعترفوا إلا بالطاعة طريقا إلى القيادة، وجزموا بأن من لم يكن في آخر الصفوف، تغمره عجاجة المتقدمين، فلن يستطيع أبدًا قيادتهم إن شغر المكان واحتيج إليه.
ولذاك كانوا لا يرأس منهم……من لم يجرب جزمه مرؤوسا
من لم يقد فيطير في خيشومه……رهج الخميس فلن يقود خميسا
قانون تدج، ومرحلة اختبار، إذا أساء خلالها العامل أدب الجندية، و استعجل، وتطاول: جوزي بالحرمان، ودعوى إلى التوبة، وأرجع إلى محل البداية يستأنف المحاولة.
لا.. يا عباد الرحمن
ليس في هذا القانون اعتداء، ولا احتكار أو تجبر، وإنما هو صياغة تجريبية لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في اختيار الأمراء، فإنه كان يقول:
(إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه)(1).
أي هذا الأمر من شؤون المسلمين.
وشدد في النصيحة الصريحة لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، فقال له:
(يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)(2).
__________
(1) صحيح البخاري 9/80.
(2) صحيح البخاري 9/79.(1/46)
مع أن عبد الرحمن نم صالحي صحابته وشجعانهم، ويكفيه أنه لما التزم وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه صار قائد جيش المسلمين الذي كلف بفتح كابل عاصمة الأفغان، وكان حصنها من أمنع الحصون، وسقط عنده من شهداء المسلمين ما لم يكن في معركة أخرى.
سيد يشرح...
ولا يظنن أن هذا المنع عن طلب الإمارة سيفوت فرصة الإلتفات إلى خير صاحب الكفاية الصامت، فإن العمل اليومي يكشف ولابد كل قابلية لدى الدعاة، وهي ظاهرة يؤكدها سيد قطب تأكيدًا، فيتساءل:
(لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة)؟.
ويجيب:
(إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم، كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدًا بالتزاحم عليه –اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى- ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم، وهؤلاء يجب أن يمنعوها.
ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضًا.
إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع، فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية...
أولا: تجئ العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله –على عهد النبوات- أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله- على مدار الزمان بعد ذلك- فيستجيب للدعوة ناس، يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة لسائدة في أرض الدعوة، فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه، فيقضي نحبه شهيدًا، ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق.(1/47)
هؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستارًا لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له، ليقيم مملكة الله في الأرض –أي لينفذ حكم الله في الأرض- ليس له من هذا النصر والتمكين شيء، إنما هو نصر لدين الله، وتمكين لربوبية الله في العباد.
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة، ولا عند حدود جنس معين، ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا الإنسان، كل الإنسان، في الأرض، كل الأرض، من العبودية لغير الله، وليرفعوه عن العبودية للطواغيت، أيًا كانت هذه الطواغيت.
وفي أثناء الحركة بهذا الدين –وقد لاحظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم –تتميز أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية، الجميع يتعارفون عليها، من البلاء في الجهاد، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق، والقدرة والكفاءة، وكلها قيم يحكم عليها الواقع، وتبرزها الحركة، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها، ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم، ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية...(1/48)
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية –كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين، ثم الأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل- ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام، في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين – مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع –وعندئذ تنتفي الحاجة- من جانب آخر – إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية.
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية، ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة.. لن يوجد اليوم أو غدًا إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد، وإخراجهم من الجاهلية لتي صاروا إليها.. وهذه نقطة البدء، ثم تعقبها الفتنة والابتلاء- كما حدث أول مرة- فأما ناس فيفتنون ويرتدون، وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء، وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام، يكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار، حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكن لهم في الأرض –كما أمكن للمسلمين أول مرة- فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي.. ويومئذ تكن الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية، وفق الموازين والقيم الإيمانية... ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم.
ولقد يقال بعد هذا: ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى، فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟
وهذا السؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين، إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة.(1/49)
...يتحرك لتحرير الإنسان.. كل الإنسان في الأرض... كل الأرض من العبودية لغير الله، وليرفعه عن العبودية للطواغيت، بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة.
وإذن، فستظل الحركة –التي هي طبيعة هذا الدين الأصلية- تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب، ولا تقف أبدًا ليركد هذا المجتمع ويأسن- إلا أن ينحرف عن الإسلام- وسيظل الحكم الفقهي –الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أسا هذه التزكية- قائمًا وعاملا في محيطه الملائم... ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه...
ثم يقال: ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا، ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة في إعلان عن أنفسهم وتزكيتها، وطلب العمل على أساس هذه التزكية.
وهذا القول كذلك وهم ناشيء من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة، إن المجتمع المسلم يكون أهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين- كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه والالتزام في المجتمع المسلم- ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم، موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية، فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية، سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية، أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام –الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد، أو أهل الشورى له- يختار لها من بين مجموع الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة، والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم، والجهاد ماض إلى يوم القيامة)(1).
وهذا الكلام لسيد كلام صحيح صائب، يظهر صوابه على الأقل في الجماعة الإسلامية الحركية إن لم نوافقه على احتمال حصول هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي العام المحكومة بحكومة إسلامية.
__________
(1) في ظلال القرآن جـ13 ص14.(1/50)
بل إن أزمة الحركة الإسلامية الحاضرة إنما هي أزمة قلة المربين والإداريين من أصحاب القابليات الممتازة والصفات العالية، ولن يغفل قائد عن ذي علم وتقوى متحمس في وقت يمسك فيه بالعدسة المكبرة يفتش عنهم تفتيشا، ولكن تجارب القادة تكره بعث وتأمير المتكلف المستشرق المغرور، فنظن نحن أنهم قد غفلوا عنه، وما هي بالغفلة.
الاستثناء لا يقلد
أما قصة الصدائي رضي الله عنه حين طلب الإمارة وأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما هي استثناء اقتضته المصلحة وأوجبته الظروف، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل بعثا إلى اليمن ليحارب بني صداء، فشفع فيهم أحدهم، وأسلم، وجاء بوفد منهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلنين إسلامهم، وكان هذا الشفيع مطاعا فيهم، فطلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤمره عليهم، فأجابه إلى ما طلب ففي ذلك كما يقول ابن القيم:
(جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفؤا، ولا يكون سؤاله مانعًا من توليته، ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر: إنا لن نولي على عملنا من أراده، فإن الصدائي إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة، وكان مطاعًا فيهم محببا إليهم، وكان مقصده إصلاحهم ودعاءهم إلى الإسلام، فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مصلحة قومه في توليته، فأجابه إليها، ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها، فولي للمصلحة ومنع للمصلحة فكانت توليته لله، ومنعه لله)(1).
فها أنت ترى أنه هو الذي استتابهم، وأنهم بلاد بعيدة منزوية ليس فيهم لو رجعوا أصلح منه، فأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على طلبه، ولا نحفظ في السيرة قصة أخرى مماثلة لها.
يوسف والخزائن
كذلك قول يوسف عليه السلام للعزيز:
(..اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
__________
(1) زاد المعاد 3/53.(1/51)
فإنه (كان حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أ,قات الأزمة، وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره، طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا شرع، فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه، فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد أنه غنيمة، إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم) (1).
وقد فهم الفقيه الأندلسي أبو بكر الطرطوشي من قول يوسف:
(أن من حصل بين يدي ملك لا يعرف قدره، أو أمة لا يعرفون، فخاف على نفسه، أو أراد إبراز فضله: جاز له أن ينبههم عن مكانه وما يحسنه، دفعا للشر عن نفسه، أو إظهارًا لفضله فيجعل في مكانه).
قال: (وفيه فائدة أخرى: وهو أنه إن رأى الأمور في يد الخونة واللصوص ومن لا يؤدى الأمانة، ويعلم من نفسه أداء الأمانة مع الكفاية: جاز له أن ينبه السلطان على أمانته وكفايته.
ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي: من كمل فيه الاجتهاد وشروط القضاء: جاز له أن ينبه السلطان على مكانه ويخطبه خطة القضاء.
وقال بعضهم: بل يجب ذلك عليه إذا كان الأمر في يدي من لا يقوم به)(2).
وما ذهب إليه ظاهر الصواب، أي في مواجهة الظالم والضعيف، وعلى ذلك يحمل قول أصحاب الشافعي، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن يوسف كان يخاطب ملكا كافرًا، وأنه لم يطلب ما طلب إلا من بعد تعريض ظاهر بتأميره من قبل العزيز، على ما يدل عليه سياق السورة، فإن العزيز قال: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ).
__________
(1) في ظلال القرآن جـ13 ص11.
(2) سراج الملوك/79.(1/52)
فطريقة الإيجاز البلاغي القرآ،ي حذفت ما يفهم ضمنا، فإن رسول الملك قال ليوسف فيما يبدو: إن الملك يدعوك، وقد سمعناه يفصح عن رغبته في استعمالك وتأميرك، وتأكد ذلك ليوسف في الإشارة الواضحة في خطاب الملك له حين وصفه بالتمكين والأمانة.
وعليه: فإن تجزئة تفسير قول يوسف وجعله نسبيا واجب، بالتضييق على أناس في تقليد يوسف، والتوسعة على آخرين.
فمن كان من الدعاة مقربا من القائد، مستعملا في عمل مهم يدل على أن القائد وثقه وقواه وأمنه إلى درجة سمحت له باستعماله وجعله من أعوانه، فإنه يسعه –إذا آنس من نفسه بعدًا عن الغرور- أن يشير على القائد أن يستعمله في عمل آخر قريب في أهميته مما هو فيه، هو أكثر اتقانا له، أو يرى أن مصلحة ما توجب تلك خفيت على القائد. ويلجأ خلال ذلك إلى التعريض دون التصريح ما أمكنه وعيرض رأيه بأدب كامل ولفظ رقيق.
وأما من كان من الدعاة غير مستعمل في عمل من أعمال الدعوة، ويرويد أن يطلب نوع عمل مهما صغر، أو مستعملا في عمل صغير ويريد أن يستعمل في عمل كبير لا يقاربه، فالباب ضيق أمامه ضيقا شديدًا، وتقييده بالأحاديث الصحيحة الواردة في المنع أصوب حتى ولو وجد في نفسه قوة وكفاية، والله أعلم.
في التأني السلامة...
وخير له من ذلك أن يتأنى في تحديث نفسه بالإمارة، فإن التأني زين كله.
*يتأني أولا إلى حين اكتمال فقهه ووعيه، ينفذ وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال:
(تفقهوا قبل أن تسودوا) (1)
فيجب على الداعية أن يتفقه، لسيادة وقيادة من يأتي بعده من أفواج الآيبين إلى الإيمان.
*ويتأنى ثانيا إلى حين اكتمال رجولته وتجربته الحياتية، فإن الأيام لا تزال تزيد المرء تجربة وعلما كما زادت الشاعر الذي خاطبك:
أخي عندي من الأيام تجربة……فيما أظن وعلم بارع شاف
فينفذ وصية الإمام الشافعي حين يقول:
(إذا تصدر الحدث: فاته علم كثير)(2).
__________
(1) صحيح البخاري 1/28.
(2) فتح الباري 1/175.(1/53)
*ويتأنى ثالثة فيث ذلك أيام الفتن على الأخص، ويكون متوقفا حذرا، ينفذ وصية أبي العتاهية هذه المرة:
إصبر على الحق تستعذب مغبته…… والصبر للحق أحيانًأ له مضض
وما استربت فكن وقافة حذرًا……قد يبرم الأمر أحيانًا فينتقض
وأقل ما في الفتن أنها ريبة كلها، وقد ترى الفتنة أنها قد أبرمت أمرها وأحكمت خطتها، فينقضها وعي الدعاة المؤمنين.
نكلها إلى القادة أفضل..
والداعية المتواضع الثقة قد تعزف نفسه عن الإمارة، لكنه يقع في اختلاف مع غيره عند ترشيحه للآخرين لبعض الإمارات، فيسرع المختلفان إلى التعصيب لاجتهادهما، في فورة من الحماة، ويجزم كل منهما بتخطئة صاحبه، أو الاعتقاد بأنه يخالفه لنوع هوى ومن باب التعسف.
ومثل هذه الظاهرة خطر ولا شك، لكنها تستحيل بسرعة إلى مجرد هاجس عابر خال من الضرر إذا انتبه كل منهما إلى وجوب مراعاة الآداب الشرعية في علاقات الدعوة، كما أسرع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى مراعاتها حين:
(قدم ركب من بني تميم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمر القعقعاع بن معبد بن زرارة.
قال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس.
قال: أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.
قال عمر: ما أردت خلافك.
فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)(1).
ولا شك أن تذكر الدعاة دوما لهذا الأدب، والتطلع لقول قادتهم وإنفاذ اختياراتهم: يجرد مثل هذه الخلافات من كل خطر بتاتًا.
فإن تشدد القادة، وأقصوا عن المسؤولية عن الجماعة من لان أو انحرف أو خالف: فبالحزم أخذوا، ليس في ذلك ضير.
وإن تساهلوا، وعفوا وتجاوزوا، فبسد الذريعة وقواعد لم الشمل أخذوا، ليس في ذلك ضير آخر.
كل ذلك صواب في أعراف سياسة الجماعات، تؤيد الظروف النسبية المختلفة هذا المسلك أو ذاك، ما لم يكن ثمة هوى.
ورحمة الله على من تجرد وغلب هواه، قائدًا أو جنديًا.
__________
(1) صحيح البخاري 5/213.(1/54)
[9] أنوار الفطنة تبدد ظلمات الفتنة
الجندية طريق القيادة، ويوجد ثمة غرور عند البعض وتجاوز يجب تشذيبهما.
كذلك مضى فقه الدعوة صريحا حاسمًا.
إنها صراحة والله، لا تظنن أنها خشونة فتهرب منها وتعافها نفسك، فإن أصررت على وصفها بأنها خشونة، فإنما هي خشونة التربية التي سلكها عبد القادر الكيلاني من قبل، فظنوا كما ظننت، فقال لهم:
(لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل) (1).
ونقول لدعاة اليوم كما قال: لا تهربوا من خشونة كلامنا وصراحته، فإن الكلمات الدبلوماسية لا تنفع في تربية الدعاة، ولا أساليب الإيماء، بل هي الإشارة الواضحة فحسب تربي، بلا اعتداء وجرح.
أثناء التأني يكون الحساب
وأولى للداعية المسلم أن يكون صريحا مع نفسه قبل ذاك، يخلو خلال تأنيه في الفتن، وخلال انتظاره اكتمال فقه، فيحاسب نفسه بعاتبها، ألا يقع في الشبهات.
فمن لم يحاسب نفسه في أموره
يقع في عظيم مشكل متشابه
فإن مهمل نفسه تزدريه الشبه، فلا تقنع منه بطفيف، وإنما تأتيه الشبهات كبيرة، عظيمة الإشكال، خفية التوريط، توهم القلب، فيتعكر الشعور، أو تؤلب اللسان، فيلحن النطق. أو تميل بالأذن، فيتشوش السمع، أو تغلق الأجفان، فيغبش النظر.
ولابد لطالب الفقه من حساب وعتاب.
ازدواج... والقلب واحد
يعاتب القلب: لم يكبح؟ ولم يريد قطع استرساله مع معاني الخير وعزمات العمل، ويأذن لإغراء الدنيويات أ، يسامره؟
إنها ساعات التخليط أصبحت تطول في يوم الدعاة، وكأن سمت الأمس قد تغير.
ولو صدق أحدنا نفسه، وأفصح عن حقيقته، لاعترف بالذي اعترف به أبو العتاهية حين قال:
تزاهدت في الدنيا، وإني لراغب
أرى رغبتي ممزوجة بزهادتي
فأكثرنا يقع في هذا التخليط: قدم في الدعوة، وقدم في الدنيويات والرغبات والآمال العراض.
لم نتمحض.
وقد أتعبنا الذين يربوننا وأرهقناهم.
__________
(1) الفتح الرباني لعبد القادر /162.(1/55)
فلا نحن ممن ييأس العمل منهم فيتركهم وهو في مأمن من اللوم، لقدم الدعوة ذاك، ولا نحن بالمشمرين حق التشمير فنريحه، بل يعوقنا قدم الدنيا عن سرعة انطلاق عرف بها جيل الدعوة الأول إلى أ‘لام لا زالت مرفوعة والله لنا كما رفعت له.
وما هي إلا ساعة عتاب واحدة تنهي تعدد الولاء لو تدبرنا.
هزة إيقاظ، لكتف غفلة، من لسان صراحة يعرف كيف يقول:
تيقظ، تيقظ.. تيقظ
تيقظ، فإنك في غفلة
يميد بك السكر فيمن يميد
تنافس في جمع مال حطام
وكل يزول، وكل يبيد
كأنك لم تركيف الفنا……
وكيف يموت الغلام الجليد
وتنقص في كل تنفيسة
وأنك في ظنك قد تزيد
فهي الأحلام وأضغاثها تخدع... توهمنا أننا نريد، وإنما هي الأنفاس تواصل نقصها، والسكر بالتكاثر يميد بنا فيمن يميد.
مصاعب.. ولا صمت لها..
ويعاتب الداعية من بعد لسانه: لم يستحل اللحن والهذر والجدال؟ ولو فقه المرء لأدرك أن صدق الاندفاع يغني عن صدق اللسان أصلا، فهو في غير حاجة إلى كثرة كلام لو كان صادقا.
والداعية يسبق بفعله قبل أن يفصح بلسانه، يقتدي في ذلك بأبي الفضل بن مالك لما وصفه تلميذه الجنيد فقال: (يسبق فعله قوله)(1).
فإ، قال واحتاج إلى النطق: فهو القول الواحد الذي لا يتبدل، وهو القول الواضح الذي لا تلعثم فيه.
إذا اختلفت سبل الرجال وجدته
مقيما على نهج من القول واضح
نهج واحد، بوضوح كامل، يكشفان عن قلب في الصدر واحد، لا قلوب موزعة، وعن ثبات في صفاء، لم تكدرهما رجرجة ولا أخلاط، فإن اللسان ما زال يترجم للقلب، ولم تزل عفتهما سواء، ولهما شرف وعرض مشترك، وإنما فسق الألفاظ من فسق الشغاف، وما الألسن إلا مغارف للأفئدة، تماما كما رآها البارحة يحيي بن معاذ على حقيقتها، فوصفها لك، ونبهك إلى أن:
__________
(1) تاريخ بغداد 14/422.(1/56)
(القلوب كالقدور في الصدور، تغلي بما فيها، ومغارفها: ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه، من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه: اغتراف لسانه).
تشبيه قد يكون ساذجًا كما يبدو لأول وهلة، لكن فيه روعة الحقيقة، وصدق الوصف. اغتراف اللسان يذيقك طعم القلب، ما كذب والله وما غلط، ولم يتقدم بين يدي الله المستأثر بعلم ما في الصدور، لكنها فراسة الإيمان: تسمع حركات اللسان وتميز نغماته، فترى الذي يجيش بين الضلوع.
ثم يأتيك صحب من دعاة بعد هذا، يملأون ليلهم رئاء ومراء، وتشقيق كلام وتدقيق ألفاظ، والفرص تمر من بين أيديهم ومن خلفهم، يرقبون أن تتدلى لهم عجيبة الدنيا الكبرى في استئناف الحكم الإسلامي بحبل تدليا، ويحملون بقطاف لم يتقنوا سقي ثمره، ينسون أن الدهر لا يأتي بالعجائب، وإنما هي تضحيات، الرجال وخالصات الفعال، لا اللغو، ولا تقليب الكفوف والمناحة على واقع المسلمين.
وصحاب في جدال
ومضي غير صائب
يرقبون الدهر أن
يأتي عنهم بالعجائب
فإذا واتتهم الأيام
فالربآن سائب
وتضيع الفرصة المثلي
ولا تجدي المنادب
ضل من يأمل أن
يقهر باللغو المصاعب(1)
ولئن سألتهم: لم التشقيق والتدقيق؟
ليقولن نريد الفقه، ونبغي الوعي، ونتقن التخطيط، وهم بذلك قد أخطأوا من حيث أصابوا، واختلط الحق الذي ذهبوا إليه بباطل من مخالفة أحكام التفاضل، فإنهم تمسكوا بفرع على حساب أصل، ودندنوا حول سنن قد تفوت معها فرائض الأخوة، ووعي قد تنسى الأرواح بعده دروب التأليف.
ولو تأملوا بهدوء وحسبوا ووازنوا، لعرفوا أن لقاء الدعاة الهادئ، تحت جناح التحابب والاحترام المتبادل: خير من طلب صاخب للوعي، فإنه لو لم يكن في اللقاء إلا تثبيت بعض الدعاة لبعض، وإلا السناد النفسي في مثل هذه المحن الشديدة والضراء الطويلة، لنال لقاؤهم وصف النجاح، لكنهم صحب يستعجلون.
لماذا الجفاف يا عين؟
__________
(1) للأميري في ديوان ألوان طيف/400.(1/57)
وعبر عتاب سريع من الداعية لأذنه، يلتفت خلاله إلى مناد يناديه أن: (يا أيها الرجل: لا تكن كالمنخل، يرسل أطيب ما فيه، ويمسك الحثالة)(1).
ويتعهد له أن يشيع أطيب ما يسمع، ويستر لفظ المستعجل النادم، وخيالات الحالم النائم:
ينتقل رابعا إلى عتاب طويل لعينه. يسألها أولا: لم تخطئ فتختار الجفاف وتقحط؟
وصواب من مقلة: أن تصوبا.
كما يقول الشاعر:
فصوابها أن ترسله وابلا صيبا على أرض الأخطاء، بين يدي رب غفور يحب أن يتملق له عبده بالدمع، ويحب أن يسمعه، في الثلث الآخر من الليل، وبالعشي والإبكار، يحاسب نفسه ويلوم، ويكرر مع ابن القيم يخاطب نفسه أن:
(لله ملك السموات والأرض، واستقرض منك حبة، فبخلت بها. وخلق سبع أبحر، وأحب منك دمعة، فقحطت بها عينك)(2). ويظل يرددها حتى يظن أنه قد استوفى إنذارها.
لا تظلم نفسي باختيار الظلام..
ثم يعاتب عينه من بعد ثانية: لم تنظر ضياء العمل الإسلامي ظلاما؟ ولم تتشاءم بدل أن تتفاءل لدعوة الإيمان بالخير؟
نعم صعب هو الوصول لدولة القرآن، ولن يأتي ادهر بعجيبة من دون جد.
لكنه ضياء كله العمل لها، ليس بظلام، وإن ظن المستعجل وجود تباطؤ أو تعثر.
وهل أسطع من ضياء النية، وضياء الأجر، وضياء الأخوة؟ إن طول الطريق لن يعدم هذه الأضواء أبدًا، ولئن يرجع الداعية بها وحدها خير له من قعود يوسوس به التشاؤم.
ولكن بعض الدعاة يظلمون أنفسهم بنظرة متشائمة إلى مستقبل الدعوة، ويتهمون التخطيط والقادة والرعيل، فيعتزلون مجالات العمل الوضاءة وهي من حولهم تنادي وتهيب.
وإنما الظلام ظلام المتشائم فحسب، إذ حبس نفسه عن الضياء، والأضواء تنير درب غيره.
وتفهيم المتشائم بهذه الحقيقة معضلة صعبة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يستطيع تصور ما نقول والتصديق بوجود الأضواء.
__________
(1) سراج الملوك/14.
(2) الفوائد لابن القيم/67.(1/58)
لكن عبد الوهاب عزام ضرب مثلا تشبيهيا انتقل منه إلى التفهيم فأجاد، فافترض للمتشائم أنه في حجرة مقفلة سوداء، أليس يبقى من حولها ضوء الشمس؟
حجرة ملؤها الظلام حوتني
وحوتها أشعة القمراء
فلما أثبت هذه الحقيقة: قاس للمتشائم حالة عليها، فقال معقبا:
رب نفس تلفها ظلمات
وهي في عالم كثير الضياء(1)
أي كذلك النفس أحيانًا، تضع نفسها في الظلام باختيارها والضياء من حولها كثير وافر، حتى تنسى تدريجيًا أن هناك ثمة ضياء عافته، فتنكر وجوده، فيعجب المستنيرون، فيزداد المحبوس الواهم إنكارًا، ويظن العجب تكلفا وملاحاة، فيفتتن، ويصرخ في حجرته المغلقة السوداء، فلا يجد إلا صدى الظلمات، فيزداد فتنة، يظن الصدى تأييدًا.
لكن الذين فطنوا لمثال عزام في الساحات وعرصات العمل ماضون، تغمرهم أنوار الفطنة، وتغشاهم السكينة.
إنه الخبر القديم الحديث لأنوار الآمال وظلمات الفتن، ليس هو خبر من نراهم اليوم فحسب، فإن عبد القادر الكيلاني صادف المستظلمين، فوضع لهم معادلة قصيرة سهلة، لو أدركوا لخرجوا من تيههم، فقال:
(إذا خرج الزور: دخل النور) (2).
زور سوء الظنون في القلب، المسبب للتشاؤم وعبوس الوجه، فالظلام.
ابتسامة الحياء مفتاح الأنوار
وخروج الزور يكون بالابتسامة وبانشراح الوجه عند اللقاء، فإن فيهما حماية أكيدة من الوقوع في أخطاء الظنون والتعرض لسهام الوسوسة، وما أكفهر وجه وعبس إلا ترك في نفس المقابل من التصارح والتناصح.
أفلا ترى أن الطلاقة جنة
من سوء ما تجني الظنون ومعقل؟
ولا يطاوع الابتسام الفم إلا بلزوم حسن التأويل، يرى الداعية الخطأ والاجتهاد المخالف فيسبق صاحبهما إلى تلمس العذر والتبرير، ويميل إلى أجمل تفسير، ثم يحرص على أن يقرن الابتسامة والطلاق بحياء لتتميز عن ابتسامة الاستصغار، التي قد يزينها الشيطان بل يتخلق بخلق البهاء زهير حين فخر فقال:
__________
(1) ديوان المثاني لعزام/69.
(2) فتوح الغيب لعبد القادر/37.(1/59)
إذا قلت قولا كنت للقول فاعلا
وكان حيائي كافلي وضميني
تبشر عني بالوفاء بشاشتي
وينطق نور الصدق فوق جبيني
فهما حياء وبشاشة، يبدوان معًا.
أو: هي الفطنة، مفتاحها: ابتسامة الحياء يبتسمها الداعية، فتتوالي الأنوار، وتفيض تباعًا، وتتكامل، يعضد بعضها بعضا، لتبدد ما هنالك من ظلمات الفتنة وتعصم من قواصم الإغواء...
إنها مصادر نور أوقدها فقه الدعوة من قبل، لا تزال قائمة تضيء، تنتظر من يلوز بها من المحتاطين الحذرين، والمستدركين التائبين، لتريهم درب السلامة الصحيح يوم تغزو الفتن زمرة القلب الواحد، ويستدرج التأويل الدعاة، وتولد الغيبة سلاسل العيوب، ويرمي الشيطان بسهام الغرور والهوى والكبر وحب المدح، فتفترق الأرواح بعد تأليف، ويحتد التنازع في الرئاسة.
النور الأول:
الاستعاذة بالله من الفتن
فأول قبس يتناوله الذي يري الفتنة مقبلة: قبس الاستعاذة بالله منها، كما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين لقننا التعوذ منها بإطلاق، وكما فعل عمار بن ياسر رضي الله عنه لما تعوذ من فتنة الخلاف بين المسلمين، فقال: -فيما أخرجه البخاري- حين بدت بوادرها: (أعوذ بالله من الفتن).
مع أن عمار قد شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه من فئة العدل، وتقتله الفئة الباغية.
قال ابن حجر في الفتح:
(فيه دليل على استحباب الاستعاذة من الفتن ولو علم المرء أنه متمسك فيها بالحق، لأنها قد تفضي إلى وقوع ما لا يري وقوعه)(1).
فقل مع عمار أيها الداعية وردد: أعوذ بالله من الفتن، وأكثر منها في كل أحوالك: يعيذك الله منها ويقبلك ويعصمك وإن كنت ساذجا، فإنه سبحانه معين معيذ يرحم رجفة الخائف، وذلك الظن به عز وجل دومًا، فإن تجربة المستعيذين تجزم بأنه:
إذا اعتصم المخلوق من فتن الهوى …بخالقه: نجاه منهن خالقه
__________
(1) فتح الباري 2/89.(1/60)
ولكن انتبه: ليست الاستعاذة العابرة تجزيك بل أقرع باب الله بإلحاح، واهجر من يأبي القرع معك وتجنب صحبته، واطرح نفسك على عتبة ربك العزيز بذل، حتى تسمع نداء الأمان.
تلك وصية الناصح الحكيم، إليك وإلى الزاهد يوسف بن الحسين، لما شكا له يوسف من نفسه أخلاقا لا يرضاها، وركونا إلى الدنيا يفتنه، فكتب إليه أن:
(بسم الله الرحمن الرحيم : وصل كتابك وفهمت ما ذكرت، ومخاطبك أكرمك الله شريكك في شكواك، ونظيرك في بلواك، إن رأيت أن تديم الدعاء وقرع الباب، فإن من قرع الباب ولم يعجز عن القرع: دخل، وإن تهيأ لك ما تريد من الصفاء والطهارة فدع ما أنت فيه من البلاء واقتراف مساوئ لا تجدي منفعة في دينك ولا دنياك، وتجنب قرب من لا تأمنه على نفسك في مواصلة الغفلة والبطالة، واستعن على ذلك كله بالقناعة والتجزي، وسله أن يمنك عليك بتوبة).
[10] تناصح وتغافر
والله، إن أمر قرآننا لكما أقسم الله:
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ).
دور فصل جاد، أراده الله تعالى للقرآن.
وسيرة مفاصلة جادة، ليس معها هزل، فرضت تبعا لذلك على من يختار الانتساب إلى سرايا رجال القرآن.
وجد مقابل ليس بمستغرب، مازال يتداعي إليه الباطل، حفاظًا على نفسه، ودفاعا عن مصالحه، يرد به على جدنا.
وإذا بأمر دعوة الإسلام كله جد أني نظرته، لا يستطيع فيها الداعية السملم أن يتمنى أمنية من أماني الهزل، ولا تنبغي له، وإلا: فقد الثبات، وتدحرج أمام الجد الهادر السائر.
نرى الدهر قد جد في أمرنا
فياويل تدبيرنا إن هزل
وهذا ما يلقي على عاتق كل جيل من الدعاة، يشرفه الله تعالى بكاية حاجة مرحلة متميزة من مراحل المعركة المستمرة عبر القرون، واجبا من التربية الصعبة، وسمتا من التشدد في الاختيار، يكفل بهما تقاء المجموعة وتماسك البناء.
إذا اختل شيئا بناء الأساس
تضاعف في الصرح ذاك الخلل(1/61)
وإنما ثمن هذا الأساس المتين: أن يرفع الدعاة القواعد من التنظيم بشمول محيط وميزان، وأن يرمموا ما استهلكته الشبهات حين كانت تمر في ثنايا الأيام.
فلا بد من رأب كل الصدوع…
وجمع الصفوف، ودرء العلل
ولابد من قصد ذات الإله
وحشد القوى، ليصح العمل(1)
ومعنى ذلك: أن نلجأ دوما إلى تربية تسلك بنا في مسارين دائمين، وخطين متكاملين:
مسالك التجرد الإيماني، ونيل الرضا الرباني، باطراح شهوة النفس، وتعليم تمييز الإلقاء الشيطاني، من خلال تأسيس تكتل ينوي عملا حركيا فكريا سياسيًا، يتجاوز أشكال التعاون الاجتماعي الخيري.
ومسار الاستدراك بعلاج ما هنالك من عيب طرأ بعد صحة، أو نقص فضح المنظر بعد كمال، من خلاف، أو تخطيط، أو سير بلا تحديد تخطيط. وأنوار الفطنة التي أضاء منها أول ما أضاء نور الاستعاذة بالله من الفتن، هي أنوار أوقدت لتنير مراحل من كل هذين المسارين، فهي تؤنس المؤسس الرائد، كما تهدى العاثر المنيب.
فالعائذ بالله المستغفر يتوغل في دربه على ضوء:
النور الثاني، وهو:
تنقية النية مما علق بها من شوائب
نور أناره خالد رضي الله عنه يوم احتدمت اليرموك فقال:
…(إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده)(2).
ونقول بالذي قال:
(إن أيامنا هذه التي نصاول فيها جاهلية القرن العشرين لاستئناف الحياة الإسلامية إنما هي من أيام الله التي لها ما بعدها، فإنه لا ينبغي للداعية أن تجره فتنة إلى فخر وتطاول على أصحابه، ولا إلى بغي وعدوان على ذي إمرة قد بويع.
__________
(1) هذه الأبيات الأربعة للأميري في ألوان طيف/99.
(2) تاريخ الطبري 3/395.(1/62)
إخلاصا يتجاوز معناه الوعظي العابر الذي تلوكه السن القصاص، إلى تأمل استقرائي صامت، يحصي ما جنته النيات المشوبة الممزجة من موبقات وكبائر أضرت بسير الحركة الإسلامية الحاضرة، وهزته وأرادت له الحيدة عن خطة المستقيم، لولا أن الله عصم القادة، ومن عليهم بثبات وسكينة.
من أجل ذلك أوصى فقه الدعوة أن من لم يتعظ فيسارع إلى تنقية نيته: سارعنا نحن إلى تنقية الجماعة منه.
بها جزم الإمام البنا فقال:
(إن الإخلاص أساس النجاح، وإن الله بيده الأمر كله، وإن أسلافكم الكرام لم ينتصروا إلا بقوة إيمانهم وطهارة أرواحهم، وذكاء نفوسهم وإخلاص قلوبهم، وعملهم عن عقيدة واقتناع جعلوا كل شيء وقفا عليها، حتى اختلطت نفوسهم بعقيدتهم، وعقيدتهم بنفوسهم، فكانوا هم الفكرة، وكانت الفكرة إياهم، فإن كنتم كذلك ففكروا، والله يلهمكم الرشد والسداد، واعملوا، والله يؤيديكم بالمقدرة والنجاح، وإن كان فيكم مريض بالقلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي، فأخرجوا من بينكم، فإنه حاجز للرحمة، حائل دون التوفيق) (1).
أنظر قوله: إنه حاجز للرحمة، ودقق في تاريخنا القريب: كم من قصة وواقعة لها لسان يتهم الشرط المتساهل في التجميع بحجز أشكال الرحمة المتعددة، من نصر و تمكين، وسكينة وطمأنينة، ووحدة ووفاق؟
إن الكثير من عثرات السير مردها إلى أهل الشوائب الذين احتضنتهم الجماعة على سذاجة منها، وفي غفلة من نفسها.
وقديما قال ابن الجوزي صادقا:
(إنما يتعثر من لم يخلص)(2).
وهو إن كان يعني بذلك الفرد، إلا أن للمجموعة أيضًا قلبا واحدا مشتركًا يضره مرض البضعة الصغيرة منه كما يضر مرض بعض قلب الفرد ذاك الفرد، فإذا مرض داعية برياء: تضررت جماعة الدعاة كلها بمرضه، وتعثرت ومرض قلبها، حتى يتخلص منه بتوبة، أو تتخلص منه بإبعاد.
وقبل ابن الجوزي بقليل كان الكيلاني ينادي:
__________
(1) مجلة (الدعوة) عدد 50.
(2) صيد الخاطر/355.(1/63)
(يا غلام: فقه اللسان بلا عمل القلب لا يخطيك إلى الحق خطوة. السير سير القلب) (1).
ومعناه الجماعي كذلك أيضًا، فإن مما يخشى على الدعوات أن تطيل لسانها، فتكثر تأليف الكتب، وتتخذ لها من الصحف ميدانًا، وتتعب درجات المنابر بخطبائها، وتترك تأليف الأرواح وتربية القلوب، فتقف لا تخطو نحو التمكين خطوة، كوقفة غلام الكيلاني.
وربما كان الضرر أبلغ من ذلك، فإن التعثر يبقى السير معه مستمرًا، والوقوف يحفظ الجماعة سالمة قائمة على الأقل، لكن تلبس الجماعة كلها بالرياء قد يدفعها في طريق الاضمحلال الذي شاهده التابع الربيع بن خثيم في أعمال الآحاد فقال:
(كل ما لا يراد به وجه الله: يضمحل) (2).
فرياء الجماعات ليس بغريب، بل شوهد في التاريخ الفكري والسياسي مرارًا، متلبسا شكلا من التكلف للاصطلاحات، ومن التبني للاجتهادات الشاذة التي ربما زل بها لسان الفقهاء الأقدمين والمحدثين، أو مندفعا في طريق التكاثر بالأعضاء على حساب النوعيات.
والظلام يزحف تدريجيًا مع أشكال التراجع الثلاث هذه، فإن العاثر حين عثرته يكون رأسه أقرب إلى الأرض، ملتهيا بتخليص نفسه من هوية، فينقطع عن رؤية المنار حينا، والواقف يخدره السكون فتأتيه سنة أو نوم، فيغتمص جفنه، وشأن المضمحل أوضح، وبذلك يتحقق كون الرياء من ظلمات الفتنة، وكون الإخلاص من أنوار الفطنة.
وبسبب ظلمته هذه وصف زاهد الصحابة شداد بن اوس رضي الله عنه الشهوة التي تقترن به بأنهاخفية، فإنه، حين حضرته الوفاة وطلبوا منه وصية يودع خلالها خلاصة فقه في العمل قال:
(إن أخوف ما أخاف عليكم، الرياء، والشهوة الخفية) (3).
أي أنها تتسلل مستغلة ظلام الرياء.
ومع هذا فإن الاستدراك في هذا الباب بسيط جدًا، فقد سئل التابعي طلحة بن مصرف عنه، فأرشد المرائي إلى أن يقول:
(اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي).
هذا فقط من لسان ندم.
__________
(1) الفتح الرباني/39.
(2) طبقات ابن سعد 6/186.
(3) زهد ابن المبارك/ 393.(1/64)
فاستغفر مما كان من رياء لا تعلمه من نفسك، الله يعلمه، وأبدأ صفحة جديدة بيضاء، ثم سلام عليك إذ تقتبس لأهلك قبسا من:
النور الثالث، وهو:
قبول النصيحة وطلبها من الخبراء
وكان الحسن البصري ملحاحا في الحث على هذا الخلق، لهاجًا في تزيينه، حتى جعله ثلث العيش، فقال:
(لم يبق من العيش إلا ثلاث:
أخ لك تصيب من عشرته خيرًا، فإن زغت عن الطريق: قومك.
وكفاف من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة.
وصلاة في جمع، تكفي سهوها، وتستوجب أجرها) (1).
فزينة الحياة عنده، في جيل التابعين ذلك، كانت ترتفع عن الأرض وتتناقص، حتى لم يبق منها مما يري إلا هذه الثلاث التي يتقدمها الأخ الناصح المقوم لاعوجاجك، فكم ثمن بقية الزينة هذه في يومنا هذا؟
ثم جعل الحسن التقدم بالنصيحة خصلة ضرورة للمؤمن الذي:
(هو مرآة أخيه، إن رأى منه ما لا يعجبه: سدده وقمه ووجهه، وحاطه في السر والعلانية) (2).
فالعين تنظر منها ما دنا ونأى…
ولا ترى نفسها إلا بمرآة
وعند عمر بن العزيز هو: من إحسان الصلاتن الإخوانية وواجباتها، وذاك قوله:
(من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه) (3).
ومثل التقدم بالنصيحة، قبولها:
فالصادق يفرح بها، ولكن (وصف الله تعالى الكاذبين ببغضهم للناصحين، إذ قال: ولكن لا تحبون الناصحين) (4).
وللناصح الحق في أن يسقط من عينه من يرد نصيحته، وأن يستن بسنة الشافعي التي بينها في قوله:
(ما نصحت أحدًا فقبل مني إلا هبته واعتقدت مودته، ولا رد أحد علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته).
اتخذ صاحبا يحصي عليك
ولكن، إن عاش الشافعي حتى رأى من يرد نصيحته، فإن التابعين في الجيل الذي قبله، كانوا يبادئون بالسؤال مبادأة، يرجون الإصلاح.
فعمر بن عبد العزيز كان يقول لمولاه مزاحم:
__________
(1) تاريخ بغداد 6/99.
(2) زهد ابن المبارك/232.
(3) تاريخ الطبري 6/572.
(4) إحياء علوم الدين 2/183.(1/65)
(إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعالا لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه) (1).
وكان سيد تابعي الشام بلال بن سعد يقول لصاحبه عبد الرحمن بن يزيد:
(بلغني أن المؤمن مرآة أخيه، فهل تستريب من أمري شيئا؟)(2)
وأصرح منهما: ميمن بن مهران قدوة أهل الجزيرة، فإنه عرض نفسه على جمع من أصحابه وقال لهم:
(قولوا في ما أكره في وجهي، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهة=ه ما يكره).
هذا فعل الصالحين.
هو.. أو السماح للعيوب بالتراكم.
ولداعية اليوم في فعلهم موعظة ونور وبلاغ، ولا بد له أن يخرج من الفتن التي من حوله بأسئلة عمرية ميمونة، تبعث سمت الاتباع ذاك وتعيده حيا، فأنه لولا كبر واعتداد رأيناهما لعقل مقدمات الفتن المندرسة جيل من المغرورين كثير عددهم، بطحتهم لوجوههم تباعًا، وأخذتهم أخذة رابية، وكان من الممكن أن ينجوا منها لو أعطوا نم أنفسهم أذنا صاغية، لكنهم كانوا قوما يصدون.
وذهبت فتنتهم، وثبت الأجر للثابتين، وبقي طريق العمل الواسع اللاحب، وبقيت أنوار الاستعاذة والإخلاص والتناصح، تقود المسالك إلى:
نور رابع وهاج، هو:
نعليب نفسية التغافر
أوقده الزاهد ابن السماك واعظ هارون الرشيد لما: (قال له صديق الميعاد بيني وبينك غدًا نتعاتب) كأنها كانت هفوة من ابن السماك أو زلة تعكر لها قلب صديقة.
فقال له ابن السماك رحمه الله تعالى:
(بل بيني وبينك غدًا نتغافر).
وهو جواب يأخذ بمجامع القلوب، ملؤه فقه وواقعية، يشير إلى وجود قلب وراء هذا اللسان يلذعه واقع المسلمين، وتؤلمه أسباب تفرقهم.
وكذلك يكون استدراك الوازن لتسرع الحساس.
فلماذا التعاتب المكفهر بين الإخوان؟ كل منهم يطلب من صاحبه أن يكون معصومًا.
أليس التغافر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟
__________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة 2/18.
(2) زهد ابن المبارك/485.(1/66)
أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: رب اغفر لي ولأخي هذا، ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟
أو ليس عبوس التعاتب تعكيرا تصطاد الفتن فيه كيف تشاء؟
بلي والله.
ولقد كان شاعر أسبق من دعاة يدعون الفقه، فراح يمرح ويتغنى...
من اليوم تعارفنا
ونطوي ما جرى منا
فلا كان ولا صار
ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولابد
من العتب فبالحسنى
ثم يأبى إلا أن يزيد مرحه، فيبدل نغمته:
تعالوا بنا نطوى الحديث الذي جرى
ولا سمع الواشى بذاك ولا درى
تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضا
وحتى كأن العهد لم يتغيرا
لقد طال شرح القال والقيل بيننا
وما طال ذاك الشرح إلا ليقصرا
من اليوم تاريخ المحبة بيننا
عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى
ثم يبدل نغمته ثالثة، ويتملق أصحابه ليديم محبة أخوية لذيذة قد ذاق طعمها الفريد، فيقول:
تعالوا نخل العتب عنا ونصطلح
وعودوا بنا للوصل والعود أحمد
ولا تخدشوا بالعتب وجه محبة
له بهجة أنوارها نتوقد
فلا تخدش أيها الداعية، بالله عليك، وجه محبة منيرة لا زالت فذا فيها والناس من حولك تستهلكهم العداوات، وإلا وضعت نفسك على شفير الاستهلاك... إن التغافر خير.
[11] شرط بشرط
دليل ماهر رفيق، عالم بديار آبائه وأجداده وشعابها، بينا هو يمشي معه سلاحه، في ليلة غياب القمر، بعيدًا عن العمران: رأى تائها هائما في الظلام، لا يميز معاني مواقع النجوم، أيتركه يهيم بين يدي الذئاب؟ فكذلك الداعية المجرب الذي لقنه المحنكون أصول الدعوة، ينكسر قلبه شفقة ورحمة كلها رأى هائما في ظلمات الفتنة بين يدي أصحاب المطامع والأغراض فيامنه ويوصله أهله، ويؤنسه أثناء الطريق بدروس في مواقع النجوم وأبراج السماء ودلالتها على الجهات كي لا يضل ثانية، ويوصل غيره لو رآه تائها.
وأنوار الفطنة هذه هي: الكواكب الدراري في سماء الدعوة، تزداد بريقا ولمعانًا كلما زاد الظلام لتزيل وحشة المنفرد وتهدي التائه الطريق.(1/67)
عتاب بمقدمة تفسير وخاتمة ابتسام
وللتغافر الذي أصر عليه ابن السماك وتنوعت له ألحان الشاعر: أهمية خاصة كأهمية نجم قطب الشمال بين نجم السماء، فان الكثير من حوادث نكوص الدعاة ترجع إلى فلتة لسان أو هفوة تعامل لم يغتفروها، والغفران منهم قريب. أو إلى ظن يتوهمون معه حصول تعد تجاههم أو تقصير، وتمحيص الأخبار أو طلب التعليل منهم أقرب.
ولو أنهم عتبوا بلسان خفيض نم غير استفزاز لكان خيرًا لهم، ولوجدوا من يثني على طيبهم كثناء الشاعر على أصحابه حين أسر عتبهم قلبه فقال:
عتبتم فلم نعلم لطيب حديثكم
أذلك عتب أم رضى وتودد
وأظهر من ذلك خيرًا لو قدم المستعتب بين يدي عتبه مقدمة تفسير، فيطمئن صاحبه أنها جلسة تصارح وتغافر، لا معركة تناحر، وأنه يريد أن يفرغ ما في صدره أمام كفؤ له وحبيب، ترويحا للقلوب، وقطعا لمحاولات الشيطان، لا التماسا لسبب هجر، ولا تفكيرًا باتهام.
ثم كم هي إيمانية هذه الجلسة، وكم روحانيتها لو ختما بخاتمة ابتسام يقول معه لأخيه.
قد قضينا لبانة من عتاب
وجميل تعاتب الأكفاء
ومع العتب والعتاب فإني
حاضر الصفح واسع الإعفاء
فهو تعاتب أحباب، يؤتي لجماله، وإكرامًا للذي يتوجه إليه العتاب، ليس فيه نوع انتصار للنفس، وقبول العذر بعده يكون أدعى وآكد وأحرى بالتقديم.
فعذرك مبسوط لدينا مقدم
وودك مقبول بأهل ومرحب
ولست بتقليب اللسان مصارما
خليلي إذا ما القلب لم يتقلب
وهذا هو المهم.
المهم أن القلب لم يتقلب تقلبا دنيويا تحركه الأهواء، وإنما كان يعتقد ما تمليه مصالح الدعوة فيصيب ويأتي الخطأ، ولاجتهاده المصيب أجر بعد أجر، وأما الخطأ فينتظره تغافر بين الإخوان، وغفران من الله أكبر.
فإذا عرفت السالك يسر التغافر، وغلظة الظلام: طمع واندفع نحو:
نور خامس شعاعه:
التقوى في الغضب الهاجم
فلا يتكلم إلا حقا صدقا، إذ: (يروي أن الفتنة لما وقعت قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى..)(1/68)
فهي دواء عام يوصف لكل أعراض الفتن، ولكن خصص بكر بن عبيد الله المزني مذهبين من مذاهب التقوى المتعددة لأصحاب الدرجات العالية، فقال:
(لا يكون الرجل تقيا حتى يكون تقي المطعم، وتقي الغضب) (1).
فالداعية المرتقي لا يكمل إلا بأن يكون غضبه لله، فإن كان: وصل إلى قمة أحمد بن حنبل، وشاركه في الفخر باعتلائها، فإنه كان:
(يغضب لله ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين: اشتد غضبه حتى كأنه ليس هو)(2).
وإنما تتحقق هذه الصورة بإلجام اللسان، فلا يدعه حرًا، وازنًا كل كلمة يفوه بها، ألا يتهم بريئا أو يحتج يظن مجرد أو يستنجد بسخرية وتنابز، فيقطع المحسن إحسانه بسببه، ويعتزل العزيز.
وذو التجربة يعرف ما يكمن في الكلام وطبائع نبراته من إمكانات الإصلاح والإفساد، فيتعود الحذر، ويدقق في وزن حروفه، إذ هاهنا يظهر الورع، فليس غير النادر الشاذ من الناس يستعمل يده ورجله للبطش والأذى، لكنه اللسان اللسان الذي أشار إليه عمر بن الخطاب فقال:
(لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكنه من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل) (3).
طنطنة التفاخر والتفيقه، وأمانة الدعوة، وأعراض الدعاة العاملين.
ولذلك قال يونس بن عبيد:
(يعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم).
واعتبر الشاعر الرد الخاطئ جناية، فقال يصف مجادلة:
أخطا ورد علي غير جوابي……وجني علي فقال غير صواب
وباللسان الطاهر: سبق من سبق، وتقدم أبو بكر بدر بن المنذر المغازلي الزاهد صحبه بمراحل، فقال الإمام أحمد:
(من مثل بدر؟
بدر قد ملك لسانه) (4).
ملكة وسيطر عليه، وتصرف فيه كيف شاء الورع لا كيف ينطلق الهوى.
__________
(1) الغنية للشيخ عبد القادر الكيلاني 1/143.
(2) مناقب أحمد/ 218.
(3) زهد ابن المبارك/ 234.
(4) تاريخ بغداد 7/104، 6/8.(1/69)
وسئل إبراهيم الخواص الزاهد عن الورع ما هو؟ فقال: ( أن لا يتكلم العبد إلا بالحق، غضب أو رضي)(1). فجعله كل الورع.
لا يعني بذلك نفي صورة أخرى للورع، وإنما راعي حاجة السائل وطبيعة الظرف التي راعاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث:
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(2).
فأنوار الورع وافرة، وامتلاك اللسان منها، ومنها أيضًا:
نور سادس، مصدره:
وزن المسلم بحسناته وأخطائه معًا
فنذكر لصاحب الهفوة المستفزة صوابه الذي قد يطغي عليها، ونرى للأميري المجتهد بذله وتاريخه وسابقاته المنتجة وعطاءه المستمر إذا خالفناه في مذاهبه.
والذي يتأمل الأعمال الجماعية يدرك أن معادن الرجال إنما تستبين في المواطن الحرجة التي تستدعي الفقه والقلب المؤمن، وبمواقفه فيها يرجح ميزانه إلى إحدى الكفتين: الجداره أو الضعف، كمواطن الخلاف العارمة التي يطيش خلالها التعامل، والعذاب والمحن التي لا يصبر لها إلا ملئ الهمة، ومواطن الأغراء وتسهيل كسب الأموال والمناصب التي لا يفضل الانغماس في أعمال الدعوة اليومية عليها إلا من يطل ببصره على جنان عريضة. أما الزلات العادية، واللمم، والحرف الغاضب، والنبرة المنفعلة، وكسل يومين، فلم يبرأ منها أحد، ولا يكاد.
والشريعة كلها قد بنيت على مراعاة هذا التكافؤ، واعتبار هذه القاعدة في الترجيح، ورب الناس يزن بهذا الميزان يوم القيامة، ولكن البعض ينسى.
فمن أراد إتقان أدب الإسلام في الجرح والتعديل: عليه أن يعلم أن: (من قواعد الشرع، والحكمة أيضًا، أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويعفي عنه ما لا يعفي عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.
__________
(1) المصدر ذاته والصفحة ذاتها.
(2) صحيح البخاري 1/11.(1/70)
ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وهذا هو المانع له -صلى الله عليه وسلم- من قتل من جس عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه شهد بدرًا، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.
ولما حض النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة، فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال: ما ضر عثمان ما عمل بعدها)(1).
عائشة تطبق الميزان...
وكذلك حال حسان بن ثابت رضي الله عنه: قذف عائشة، وبقي حبه في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأجيال المسلمين من بعدهم، للذي كان عليه من المنافحة بشعره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى أن عائشة ردت على ابن أختها عروة بن الزبير بن العوام لما سبه وقالت:
(يا ابن أختي: دعه، فإنه كان ينافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)(2).
وقريب من ذلك شهادة أخرى لعائشة في أمر زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنهما، فإنه كان بينهما ما يكون بين الضرائر، وكان في زينب من الطباع ما يؤخذ عليها، ولكن ذلك لم يمنع عائشة من إنصافها والثناء على فعالها الإيمانية، فقالت:
(هي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنزلة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب وأتقى لله عز وجل واشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به، ما عدا سورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة) (3).
أي سريعة البرود بعد احتداد غضبها.
وقد وضعتنا عائشة رضي الله عنها هنا أمام نموذجين ينتقلان بنا إلى خطابين:
__________
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/176.
(2) صحيح مسلم 7/163.
(3) سنن النسائي 7/65.(1/71)
نموذج زينب، ونخاطب بمناسبته هؤلاء الدعاة من إخواننا الأحبة الذين نشهد لهم بالدين وصدق الحديث وابتذال أنفسهم في أعمال دعوة الإسلام، لماذا تلازمهم حتى الآن فورات الغضب وحدة الألفاظ ويغلقهم العناد المتحدي؟ أليس البحث الهادئ أولى؟ أو ليس الاقتداء بزينب في الرجوع السريع أجمل؟
ونموذج عائشة نفسها، ونخاطب بمناسبته المتزمت المبالغ في تشدده، الذي يظلم إخوانه، فلا يعترف بفضل ذي فضل واسع إذا هفا، والذي يظلم الدعوة، فلا يدعها تنتفع بذي اختصاص مفيد خلط مع كفايته خصلة يعاب عليها.
إن سمت التشدد، وطلب الصفات المتكاملة، إنما يجب للقادة والمربين، وأما ما دون ذلك فإن العمل الإسلامي ينتفع من كل إمكانية خير مهما ضمرت وصغرت، ويدير في فلكه كل متعاطف مهما أقلته العيوب التي لا تعود بضرر على مجمل الدعاة.
وأولى لنا وأصوب أن نقتدي بعائشة رضي الله عنها في إنصافها، وبتلميذها سعيد بن المسيب لما أسرع فهم طريقتها فأوجزها وصاغها بندًا في قانون الجرح والتعديل الإسلامي فقال:
(ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه: وهب نقصه لفضله).
والزم أخاك فإن كل أخ ترى
فله مساوئ مرة ومحاسن
وابتسم بعد الامتعاضة من قول تسرع به أخوك فندم، وأطل ابتسامتك، فإننا نحب أن نراك بها، ونحب أن نسألك عنها، ونحب أن نسمعك تقول:
أتاني مقال من أخ فاغتفرته
وإن كان فيما دونه وجه معتب
وذكرت نفسي عند امتعاضها
محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
فما باله إن لم يكن ذنبا وكان مجرد تدلل وتمنع مما يكون بين الأقران حين تأخذهم نشوة الحمد على الهداية والإيمان إذ يرون أنفسهم –دون الناس- في المحل العقائدي الأعز الأرفع؟
أو: إذا طلبت الأجمل فاستر ولا تخبر، وتخلق بخلق الكرام، واكذب علينا وقل: ما ثم إلا خير ووفاء.
إن الكرام صحبتهم
ستروا القبيح وأظهروا الحسنا(1/72)
وانتظر التلافي، إن الحسنات يذهبن السيئات.
وما الناس إلا من مسيء ومحسن
وكم من مسيء قد تلافي فأحسنا
والتلافي يقتضي التأني، ومنح الفرصة، وغمض جفن، لعل حياءه يغنيك عن لسانك، وعسى أن يرده حليب طاهر رضعه من قبل فيقبل.
أمنية، ولا سعد لها...
فإذا رسخ فيك خلق الإنصاف، ووزنت غيرك بصوابه كما تزنه بأخطائه: كنت أهلا لأن يصارحك أميرك في أمر لعلك تنساه، كما صارح ذاك الخليفة القوى الحجة من الخلفاء المسلمين الأوائل جيل المسلمين الذي حكمه فقال:
(أنصفونا يا معشر الرعية. تريدون منا أن نسير فيكم سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر) (1).
ونقول لك كالذي قال:
أنصف أيها الداعية، وكن عادلا واقعيا، فإنك تريد من القادة إنجاز لعله الآن في مثل صعوبة فتوح أبو بكر وعمر، وأنت لا تهب دعوتك ما وهبه جند أبي بكر وعمر...!
تجمع الأموال، وتخشى الفقر، وتطيل سمرك مع زوجك، وتعطي الدعوة فضول الأوقات، ثم تريد أن ترى المعجزة.
كلا، كلا...
بل شرط بشرط.
من أراد أميرًا كأبي بكر... فليكن كخالد وكسعد.
رضي الله عنهم أجمعين.
ثم ليس أبعد من ذلك، فإن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطقها أبو بكر نفسه، بل قال:
(أيها الناس: لوددت أن هذا كفانية غيري، ولئن أخذتموني بسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ما أطيقها، إن كان لمعصومًا من الشيطان، وإن كان لينزل عليه الوحي من السماء) (2).
ولئن أخذنا القادة بسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما يطقونها، ولكن لنا عليهم الحرص كل الحرص على تحري الأصوب والأصلح، وبذل المجهود في تحري المنافع للمؤمنين.
__________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/9.
(2) مسند أحمد، حديث رقم 80 بسند حسن.(1/73)
[12] إنه... دم الدعوة
يعتبر تاريخ الصدر الأول من السلف الصالح من مصادر فقه الدعوة الرئيسة، فإنهم بأفعالهم وطريقتهم في الحياة كانوا أفصح من خلف ينطلق بقلمه لتدوين فقه الدعوة من تأمل نظري مجرد. وقد حددوا بسيرتهم ما يجب للداعية من صفات، وما يسوغ للدعوة أن تسلمه من أساليب ووسائل.
فبعضهم لم يتكلم بغير حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا جملا يسيرة، ولكنه أرى الناس تطبيقا رائعًا للحديث وأفعالا شدتهم إلى الاقتداء.
وإنما يرجي لدعوة الإسلام النجاح اليوم إذا أدركت هذه الحقيقة القديمة، لا بشيء آخر، فتحرص على أن تنزل ساحة العلمانية كل جوال فعال صامت، يري الأرضيين من نفسه قوة، قبل أن يسمعهم من لسانه تفاصحًا.
ومحمد بن سيرين، التابعي البصري: قدوة من قدوات الصمت الناطق أولئك، وله مذهب في التجرد سماه صاحبه أبو قلابة الجرمي: امتلاك النفس، فقال يفاخر بابن سيرين جمعا من الدعاة:
(إصرفوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعًا، وأملككم لنفسه)(1).
فالداعية يملك نفسه، ومن ثم فهو الذي يخطط لها طريقها ومستقبلها، ولا يدعها تملكه، فإن من لم يملك نفسه: يفقد حريته، وتكون هي المستعبدة له، وإنما هذه دعوة الأحرار والأبرار، يتصدرها كل حر سريع الخطو، ومن رضى أن يكون مملوكا ويرسف في الأغلال والقيود فإنما يكون في آخر القافلة، أو تدعه وتمضى.
ومنذئذ أضيف إلى فقه الدعوة شرط جديد من شروط الدعاة يلزم المتصدي أن يملك نفسه كما ملكها ابن سيرين، وأن يحررها من القيود كما حررها ابن سيرين.
وقد قال ابن السماك من قبل:
(إن الرجاء حبل في قلبك، قيد في رجلك، فأخرج الرجاء من قلبك: تحل القيد من رجلك) (2).
ويقصد بالرجاء: الأمل الدنيوي، فإنه يقيد الرجل عن الانطلاق في أعمال تتطلب التضحية وتضع إزهاق الروح واردًا في الاحتمال.
__________
(1) تاريخ بغداد 5/334/370.
(2) تاريخ بغداد 5/334/370.(1/74)
إنما ذلك الواهم فقط يغريه الأمل، أما الفطن فيدرك أنها قافلة ليست ككل قافلة، ويعلم أنها قافلة النور هو فيها، وأنها تسير في درب كله نور، قد توغلت فيه، فيحل قيود الطمع ويواكبها، ويلازم أهلها إذ يرفعون أبصارهم إلى هالة:
النور السابع، هو:
الالتفات إلى عيب النفس
فينشغل الداعية بإصلاح عيوبه، ويدع إعابة الآخرين، وتسقط زلاتهم.
وكان السري السقطي البغدادي يتخوف خوفا عظيما من سريان مرض تتبع عيوب الناس إلى جماعة السالكين إلى الله، فكثر تحذيره منه، وصنع إحصاءات خلقية اجتماعية لبيان مدى تأثيره السيئ وإظهار تعدد أنواع سلبياته، ووضع تقريرًا طويلا حفظت لنا منه كتب الزهد والرقائق فقرات منه كثيرة، وأجمل في خاتمته نتيجة استقرائه فقال:
(ما رأيت شيئا أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب، ولا أسرع في هلاك العبد، ولا أدوم للأحزان، ولا اقرب للمقت، ولا ألزم لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبد لنفسه، ونظره في عيوب الناس).
فهي سلبيات يعددها، كل منها يكفي لتعكير صفو السكينة الإيمانية.
وقد أشار في مقدمة تقريره إلى أن:
(من علامة الاستدراج للعبد: عماه عن عيبه، واطلاعه على عيوب الناس).
فجعل بدايته: استدراجًا، أي تغريرًا من شيطان، يمني ضحيته بوجود بعض لذة في آخر طريق وعر بعيد ويغريها بنيلها، فتلج، فتنقطع، فينفرد بها بلا نصير أو ظهير، فيقهرها، كما يقهر الجيش أعداءه الضعاف بإظهار تراجع مفتعل يغريهم بالتوغل دون حساب خط رجعة.
ولما نودي على السري بعد ذلك للولوغ في أعراض الناس وولوج مجالس إحصاء عيوب الآخرين ناداهم بأعلى صوته:
(إن في النفس لشغلا عن الناس).
وإنها لصيحة حق لها أن يصرخها كل دعاة الإسلام الآن، والخبير بتلبيس إبليس يدرك مزالق هذا الباب جيدًا.
أسباب مرض الغمز وأعراضه(1/75)
والذين رصدوا أسباب هذا المرض الخبيث يؤكدون أنه ظاهرة دفاع عن النفس ليس إلا، فأصحاب العيوب يتوقعون نقدا لهم من ناصح أمين يظنونه مهاجمًا، فيتداعون إلى أخذ زمام المبادرة وتحويل الهجوم بهمز ولمز من وراء ظهر.
فأجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال: ذوو العيوب
حتى باتت هذه الخصلة فاضحة لكل ذي لسان طويل، مغنية عن الفراسة، فقال السامع للمهذار:
(قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب إنما يطلب بقدر ما فيه منها)(1).
ولذلك كان السلف عموما على أشد الخوف من هذا الخلق الردئ الذي قد يلبسه إبليس رداء النصح والأمر بالمعروف، وصاحب القلب الحي يميز هذا عن هذا بوضوح، لكنها الغفلة التي ابتأس لها التابعي عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود حين كان يساعد أخاه عبيد الله في تطبيق نظرية تأليف الأرواح، فقال:
(ا أحسب أحدًا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه).
فالغفلة سبب ظاهر ولا شك، لولاها لاعتنى بملكه، ولشغله الغرس وجنى الثمار.
أما أهم أعراض مرض الغمز فهو تواصي مرضاه بإخفاء مناقب الغير وفضح هفواتهم.
رآهم كذلك النسابة البكري، فقال لرؤبة بن العجاج:
(ما أعداء المروءة؟
قال: تخبرني
قال: بنو عم السوء، إن رأوا حسنا ستره، وإن رأءا سيئا أذاعوه)(2).
ورآهم الشاعر أيضًا، فتعجب من حالهم وكيف أنهم:
إن يسمعوا الخير: يخفوه، وإن سمعوا
شرًا: أذاعوه، وإن لم يسمعوا: كذبوا
ولا شر عند جماعة المؤمنين والحمد لله، لكن ذلك خلقهم دائما، لا يعجبهم ما عليه المؤمنون من الخير، فإن حدثت هفوة يعلمون ما وراءها من نية صادقة: طبلوا وزمروا.
ومن أعراض هذا المرض أيضًا: التهويل والمبالغة، واستعمال العدسة المكبرة للتفتيش عن صغائر الغير.
ذكر أبو هريرة رضي الله عه ذلك عنهم، فقال لهم:
__________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة 2/14.
(2) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/168.(1/76)
(يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عين نفسه!!)(1). د
ثم رأى الشاعر منهم معاندا بأبي الإنصاف، فجدد له قول أبي هريرة، ووبخه، وقال له:
وتعذر نفسك إما أسأت
وغيرك بالعذر لا تعذر!
وتبصر في العين منه الذي
وفي عينك الجذع لا تبصر!
علاج الهمز برقابة القريب
ولكن ما جعل الله من داء إلا وجعل له من الأدوية ما يذهب به.
وكأي مرض نفاقي آخر فإن الهمز يداوي أول ما يداوي بتذكر رقابة الله، فإنه الدواء العام الخاص، فيعلم أن الله نم قلبه قريب، وعلى لسانه رقيب، ويسكت تائبا، ويعزف عن صاحبه لو أتاه من الغد يدعوه إلى جلسة غيبة، ويشرح أمره، ويحدثه عن النور الذي أناره الله في قلبه فأضاء زاوية كانت فيه مظلمة، ويقول له:
يمنعني من عيب غيري الذي
أعرفه عندي من العيب
عيبي لهم بالظن مني لهم…
ولست من عيبي في ريب
إن كان عيبي غاب عنهم فقد
أحصى ذنوبي عالم الغيب(2)
ويقول صريحة لصاحبه، ويهدده محذرًا:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا(3)
فإن لم يصغ له: تركه، ومضى في طريق الأنوار، يبدد ما قد يكون هنالك من بقايا الظلام بنور النصح مع الله الذي أوقده له زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لما قال:
(إذا نصح العبد لله تعالى في سره: أطلعه الله تعالى على مساوي عمله، فتشاغل بذنوبه عن معايب الناس).
فزين العابدين يجعل معرفة المسلم بعيوبه منحة ربانية، و أنها لكذلك والله.
فإذا قرن التائب سكوته ونصحه لله بدعاء يتضرع فيه: كما نوره السابع.
ويستحب له هنا أن يكون خلف عبد الوهاب عزام، يردد مناجاته ربه:
إن في النفس بغضه لأناس
اصلحني وحببنهم إليا
واغسل الحقد والهوى من فؤادي
واجعلني لكل حق وليا(4)
__________
(1) فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد للبخاري 2/48.
(2) تاريخ بغداد 10/83.
(3) عيون الأخبار 2/18.
(4) ديوان المثاني /97.(1/77)
يقول آمين، وينطلق من فوره بعد ذاك لإتمام أنواره، ويندفع نحو ومضات:
النور الثامن، وهو:
صون الأذن عن استماع الغمز
فيدعها في عافية من بعد ما عافى لسانه من تتبع زلات الناس وانتبه لعيوب نفسه، إذ:
(ليس من جارحة أشد ضررا على العبد –بعد لسانه- من سمعه، لأنه أسرع رسول إلى القلب، وأقرب وقوعًا في الفتنة).
فسمعك صن عن قبيح الكلام
كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند استماع القبيح
شريك لقائه فانتبه(1)
وهذا ما يستدعيه التعجل الإيماني المستحب للسائر في طريق الأنوار، فإن استماعه للهماز يضيع عليه وقته الثمين إن لم يضره، ويفوت عليه الالتذاذ بمنظر شروق:
النور التاسع، الساطع ببريق:
المسارة في نصيحة القادة
فلما لم يعط النبي -صلى الله عليه وسلم- جعيل بن سراقة الضمري رضي الله عنه شيئا من المال، وهو المهاجر المجاهد، وأعطى من هو دونه، وظنها سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه إهمالا لجعيل، وأراد توثيقه: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- مقترحًا:
قال سعد:
(فساررته قلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا) (2).
فذكر ابن حجر أن هذا الحديث يتضمن من الفقه:
(أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان),.
قال:
(وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة) (3).
ولما طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يكلم بعض الأمراء حول أمر ضجروه منه قال:
(إنكم لترون أني لا أكلمه؟
إلا أسمعكم أني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه؟)(4).
فأخبرهم أنه لم يغفل عن ذلك، وأنه كلمه، ولكن في السر، خوفا أن يستغل أهل الأهواء كلامه، فيتخذونه ذريعة إلى الفتن والمفاسد.
فلهذا يسمي هذا النور: نور أسامة، وما زال يتولي إيقاده من دعاة اليوم كل أسامة.
لا تعن سفاكًا!!
__________
(1) أدب الدنيا والدين/257.
(2) صحيح البخاري 2/147.
(3) فتح الباري طبعة البابي 1/88.
(4) صحيح البخاري 4/147.(1/78)
ويصور لنا أبو معبد عبد الله بن عكيم الجهني، وهو أحد قدماء التابعين المخضرمين الثقات ممن أدرك رمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، مبلغ أساه وندمه وحسرته على كلمات تفوه بها زمن عثمان رضي الله عنه نصحه بهن جهارًا، يظن أن فيه مساوئ، وحاشا الراشد الثالث من المساوئ فتلقف كلماته أصحاب الأغراض، واستباحوا دمه الشريف بهن وأمثالهن.
وراموا دم الإسلام لا من جهالة
ولا خطأ، بل حاولوه على عمد
ففي حلقة دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام المكلف باستدراك ما صنعته الفتنة: حاضر عبد الله بن عكيم، وطفق يلخص لهم تجارب المخلصين فقال:
(لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان).
وكانت كلمة مثيرة منه حقا.
وتأخذ الجميع إطراقة، فما ثم إلا عيون تتبادلا لنظر مستغربة ما يقوله الرجل الصالح.
ما لهذا الشيخ البرئ المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفا أبدًا يتهم نفسه ويلومها على ما لم يفعل؟
وينبري جزئ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أو أعنت على دمه)؟
فيقول:
(إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه)(1).
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنه وقام في نفسه من أنه الحق قد أدى إلى استغلال الرعاع له حين يتكلم به، وكيف طوروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه.
إنها حساسية النفس الصادقة في توبتها ينطق بها ابن عكيم، مع أنه ما كان يكره عثمان حين تفوه بتلك الكلمات، فإن ابنه يقول:
(كان أبي يحب عثمان)(2).
وهذا يقتضي أنه قال كلماته الناقدة بلهجة المحب وما فيها من الرفق واللين، ومع ذلك نتج عنها من المفاسد ما نتج، فكيف لو أنضاف إلى علانية النقد لفظ ردئ، وعبرت عنه لهجة عنيفة؟
__________
(1) رواه البخاري في تاريخه الكبير جـ1/ق1/32 بسند صحيح، وابن سعد في الطبقات 3/80.
(2) تهذيب التهذيب 5/324.(1/79)
إن الجيل الجديد من رجال دعوة الإسلام الحديث -إذ هو يتفقه اليوم في حلقاته الدراسية لاستدراك ما صنعته فتن الأمس- مدعو إلى ملاحظة المغزى العظيم المهم لقصة عبد الله بن عكيم، وتجربته الصادقة.
لا تكن ساذجًا أيها الداعية، فإنها تحريشات من حولك لسفك دم الدعوة.
احذر، والتفت إلى عيب نفسك، وصن سمعك وسارر بنصيحتك ونقدك، ولا تعن بلسانك.
إنه دم الدعوة.
[13] دعوة القول الطيب
منظر جميل في كل بدل منظر أولئك البسطاء المتواصعين من أهل الأرياف والقرى حين يجتمعون يوما في الأسبوع يقيمون سوقهم فيما بينهم، فيتبادلون إنتاجهم مقايضة، ويبيعون للغريب ما جمعوه جملة، بلا ميزان مدقق أو حساب طويل، يبنون تعاملهم وبيوعهم على النيات البيضاء، والحياء، والقناعة، وأسس الكرم، وشكر الله على ما يمنحهم من رزق، حتى إن أحدهم ليذهب من سوقه ليبذر بذره، فيقول مع كل حفنة حبوب ينثرها على أرضه: للطير وما قسم الله، يرى للطير حقا في كرمه.
لكنا لتعقيد والتدقيق إنما يكون في أسواق المدن، ونيات التطفيف تجدها عند كثير ممن يبيع أو يشترى من أهلها، يريد البائع أعلى ربح، ويريد المشتري أرخص ثمن، ولذلك احتاجوا إلى الموازين واعتبروها حكما بينهم، وباتت تبعد شبهة التطفيف والمخادعة عن الطرفين، فلا تبقى أحدهما قلقا، كما أصبحت تمنع شهوة التطفيف بعد ذاك، يستطيع أحدهما التحايل، خوفا أن يفضحه الميزان.
وأنوار الفطنة هذه التي لا زلنا نمشى في أضوائها إنما هي موازين أيضا، ترد الشبهات وتجليها، وتبرد الشهوات وتسكنها إذا لف التعقيد مجتمع الدعاة، واستعرت الفتن أو اقترب ظلامها، ولذلك كان ابن تيمية كثيرا ما يصف المؤمن بأنه صاحب " بصر نافذ عند ورود الشبهات، وعقل كامل عند حلول الشهوات"، وركز على وجوب غلق هذين البابين اللذين تقتحتم الفتن منهما حصن الجماعات: الشبهات والشهوات.(1/80)
لكن، لو تعامل الدعاة بالنيات، والقناعة، والتواضع، والشكر على نعمة الإسلام والانتساب للدعوة، لوهبهم الله صواب الخطو بلا تكلف، ولما احتاجوا إلى ميزان وتدقيق، ولغشيتهم السكينة التي ينام أهل الأرياف في ظلها، غير أن فيهم نفرًا يطففون.
حقيقة يجب أن نعترف بها.
لقد تعقدنا بعض التعقيد، وتركنا سمت البساطة، ومازج التكلف طبيعتنا المنسابة المنسرحة الهينة اللينة التي أودعها الرعيل الرائد فينا، ولابد من علاج بمتابعة طلب هذه الموازين الأنوار.
شبهة معترضة
ولقد وصف النور التاسع بأنه ساطع، لما للمسارة في نصيحة القادة من بريق لامع يحرم الفتن من بيئتها الطبيعية التي تتوالد فيها، ولكن ربما ظن داعية أن المسارة في النصيحة تنافي طبائع الإسلام وسمته في الحث على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأى في إنكار المرأة على عمر رضي الله عنه في المسجد جهارًا دليلا ينفي نورانية المسارة.
والأمر ليس كذلك عند من عرف مقاصدنا، إذ لو افترضنا صحة قصة إنكار هذه المرأة على عمر –التي يضعفها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني- وفحصنا فحواها، لما وجدنا لها علاقة بسياسة أو عقيدة أو موقف عام جماعي، وإنما تتناول أمر مهور الزوجات، أو أمر توزيع بعض العطايا على من له حق في بيت المال، في قصة أخرى تروى، فضلا عن أن العامي المجهول الذي اعترض أو المرأة المجهولة، لا يصلح عملهما أن يناهض الأدب الذي اختاره سعد بن أبي وقاص أو أسامة، وهما على ما يعرف عنهما من الفقه والتجربة، ولا أن يكون مصدرًا لأصول الدعوة وابن حجر يفتيك بعد ابن عكيم بوجوب الإسرار عند خوف المفسدة.(1/81)
إن نصيحة قادة العدل الذين يتحرون السير على موجب فقه الراشدين غير مواقف العلماء الجريئة في الإنكار على الظلمة والمبتدعة، وإنما ندعو نحن إلى مسارة لا في مثل هذه الأمور التي يحتاجها الناس في أمر معاشهم اليومي، بل فيما يتعلق بسياسة الجماعة الداخلية والخارجية ومواقفها العامة، وفي أيام الفتنة خاصة، خوفا من استغلال أصحاب الأغراض للنقد المعلن، أو اغترار المخلصين السذج وأصحاب التجربة القليلة بظاهرة، إذ تصبح النصيحة في موطن يوجد فيه مثل هؤلاء مترددة بين مصلحتين: مصلحة علانية النقد، ومصلحة عدم إتاحة فرصة لاستغلال المغرض أو لاغترار الساذج به. وبين ضررين: ضرر الاقتصار على إسماع النصيحة لنفر قليل فقط، وضرر الاستغلال والإغترار، فيعمل بالقاعدة الفقهية العامة في دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وجلب أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وهي قاعدة أجمع الفقهاء على اعتبارها ويقرها العقل، وتوجبها التجارب الوافرة في تاريخ الإسلام القديم والحديث.
بل وإن عمر رضي الله عنه قد أسرع هو نفسه قبل غيره إلى الامتناع عن بحث الأمور العامة أمام الجمهور الواسع الذي قد يضم المغرضين والسذج، واقتصر على إسماع من يظن فيه الفقه والنبل فحسب، وذلك حين أراد أن يقوم في مكة أيام موسم الحج خطيبا ليفند لغطا لغط به بعض الجهال حول بيعة أبي بكر رضي الله عنه وأحداث يوم السقيفة، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
(يا أمير المؤمنين: لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على موضعها.(1/82)
فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة)(1).
فها قد تضافر لدليلنا من جديد: رأي ابن عوف، وفعل عمر، رضي الله عنهما.
وهكذا الداعية: لا يضع كلامه إلا عند من هو أهل لوعيه، وليعتبر بما رأينا في الفتن، فإنها تكون أول ما تكون خفيفة، ثم يتلقف أصحاب شهوة الرياسة نقد الثقات، ويزيدون فيه عشرة أمثاله، فيكون هدمًا.
إن الداعية الفطن الكيس إن كان عنده قول يري أن لا بد من قوله لغير قادته فإنما يقوله لأهل الفقه من الدعاة وأشرافهم الذين تأدبوا بآداب السنة طويلا، ويسارر به، لا يوزعه هاهنا وهاهنا.
يسارر، أو يتحرى الحلماء النبلاء العقلاء القدماء، أصحاب الأقدام المنظور المأثورة، ثم يسرع بعد أن ألقى التبعة نحو:
النور العاشر، وهو:
الإقلال من الكلام
فإنما يسألك الله عن فصاحة قلبك لا فصاحة لسانك، ولا شك أنها مسألة نسبية مسألة اللسان، فليس أحسن وأبلغ من سكوت إذا كثر اللغط، ولا أجمل من كلام الناصح الآمر بالمعروف إذا أصلح.
فالمؤمن:
(يحسبه الجاهل صميتا عيبا، وحكمته أصمتته، ويحسبه الأحمق مهذارًا، والنصيحة لله أنطقته).
وهو ذاك النموذج الذي رآه الشاعر:
ضحوك السن: إن نطقوا بخير
وعند الشر: مطراق عبوس
تكلم وسدد ما استطعت فإنما
كلامك حي والسكوت جماد
فإن لم تجد قولا سديدا تقوله
فصمتك عن غير السداد سداد
وهذا هو عين الصلاح الذي أراده الصالحون لكل لسان، فمن صلح لسانه عندهم، أي نطق بالخير وسكت حين الفتن: صلح عمله كله، وفي ذلك كان التابعي يونس بن عبيد يقول:
(خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما: أمر صلاته، ولسانه).
ثم زاد فقال:
(ما صلح لسان أحد إلا وصلح سائر عمله) فهو المفتاح المبارك، ولود الخيرات، من أصلحه تفتحت فيه البصائر، وهجر الكبائر والصغائر.
الكلمة الطيبة ترفع درجات
__________
(1) صحيح البخاري 8/209.(1/83)
ولذلك كثير كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان أهمية اللسان، وجعل سكوته في موطن الشبهة ترجمة الإيمان، فقال:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) وفي لفظ: (أو ليسكت) (1).
فقول الخير من الإيمان، حتى أن الكلمة الواحدة لترفع صاحبها درجات، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات) (2).
ومن اجل ذلك رغب في هذه الكلمات الخيرة، فقال: (أطيبوا الكلام) (3).
يدلهم على باب الدرجات، وسلم العلو، إذ ليس أروع من كلمة حق منك، أو إصلاح، حين يفتتن لسان غيرك:
فإن عجز المرء: فإنه السكوت، إذ ربما تبدل الكلمة الواحدة ميزانه فيردي، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن العبد ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا، يهوي بها في جهنم) (4).
والميزان في هذا، هنا في الأقوال كما في الأعمال، هو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(إذا حاك في نفسك شيء فدعه) (5).
فإن (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)(6).
فلينظر داعية نفسه، وليرفق بها، وليلزم الجمل المفيدة، وحروف البناء، وليطب كلامه، يكون طيبا، فإن نصف التربية قول موجه، وليدع حرفا حاك في الصدر، فإن الشيطان يؤز، يحرف النفس إلى طلب انتصار وغلبة، فتكون الوخزة، والتهمة المتسرعة، والنبزة. أو بشجعها على طلب سلامة ودعة، فتكون حروف اللين.
والطريق الأقرب لهذا الرفق الطيب: أن يتشبه الداعية بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقلده لتشمله دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين دعا له فقال:
(اللهم اهد قلبه وثبت لسانه) (7).
فلم يتقلب لسان علي.
__________
(1) صحيح البخاري 8/125، صحيح مسلم 1/5.
(2) صحيح البخاري 8/125.
(3) صحيح الجامع الصغير للألباني 1/340.
(4) صحيح البخاري 8/125.
(5) صحيح الجامع الصغير 1/191.
(6) صحيح الجامع الصغير 1/385.
(7) طبقات ابن سعد 2/337.(1/84)
فانظر: لم يكتف حتى ذكر اللسان، وبين أن ثبات اللسان قرين هداية القلب أو نتاجها!
وإلا، فإن لنا حين نرى لسانًا قلقا لاحنا أن نتهم القلب الذي تحته بعدم استكمال الهداية، وأنه بحاجة إلى الواعظ الناصح الذي يعلمه الفصاحة في الحق، ويدق له وتدا يثبته في تيارات الأهواء.
وإنما هو نموذج دعاء حفظه الرواة فروه لك، تعليما للغة الدعاء وتلقينا، كي تقول لأخيك يوم ترى بوادر الفتن: (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه).
تقولها بعد قولك.
(اللهم اغفر لي، ولأخي هذا).
معًا، مرة بعد مرة، كلما لقيته.
صواب القول من صواب العمل
وبهذا تكون قد أديت واجبك، وأحسنت أجمل الإحسان الأخوي.
أما فقه الدعوة، فمن واجبه أن يستمر في عرض غرر النصائح، لعل حريصا ينتفع، أو جريئا يتأنى، ليتأمل وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ يقول له:
(أقلل من الكلام، فإنما لك ما وعي عنك)(1).
أو وصية عمر الفاروق رضي الله عنه إذ يترحم فيقول: (رحم الله امرءا أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل)(2).
أو وصية أبي الدرداء رضي الله عه لما ذهب في الصراحة لأبعد منهما فقال:
(أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعل لك أذنان اثنتان وفم واحد، لتسمع أكثر مما تقول) (3).
تلك وصاياهم.
كانوا جيل جهاد وبناء، ربته المعاناة والممارسة، وصقلته الشدائد، وعرفوا من خلالها قدرة البذل الصامت على تناوش الغايات، فخافوا أن يقطع هذر ما نصرهم المسترسل في سيره.
إن اللغو شين كله، وضرره أيام التمكين ليس أقل من ضرره أيام المحن.
__________
(1) عيون الأخبار 1/109.
(2) عيون الأخبار 1/330.
(3) عيون الأخبار 1/177.(1/85)
وعلى دعاة الإسلام أن ينطلقوا اليوم من هذه الحقيقة، فينطقوا فيا بينهم بالخير الواسع، والمعني الكبير، والفقه المفيد، في عبارة ضيقة المبنى موجزة، فإن الإكثار مظنة الخطأ، من غيبة، أو تهمة برئ، أو اضطرار لاستعمال دليل ضعيف، ومن وجد في نفسه بقية شوق إلى تحريك اللسان فدون القرآن، ومزيد التسبيح، والحمد. ودونه مجالس الواهمين والدنيويين، يصدع فيها بحق الإسلام ما شاء.
نمط تربوي لابد منه لجيلنا، كي تتهيأ الجوارح لفضل فائض من العمل بمثله أمات عمل الفتن في جيله، فانبغت له الفتوح.
وفتحنا المنتظر رهن بطريقة عمر.
هذا، أو التردي المعاكس الذي لا يقف، بل يستمر نازلا هاويا، فإن القول والعمل مرتبطان، فإن أخطأت العمل: احتاجت نفسك إلى ستر الخطأ بخطأ من القول آخر زورًا.
ذلك ما لاحظه أحد الصالحين فقال:
(لن يضيع امرؤ صواب القول حتى يضيع صواب العمل)(1).
هكذا، في متوالية رديئة، تقدم ستر الفضيحة على قول الحقيقة، والتسويغ المدلس على التوبة والاعتذار، في ظن بعيد من الانتصار يراه قريبا، واللحن يهتك حجابه.
وذهب الصمت عرفا !
وكان نتاج ذاك الحرص الراشد على الصمت الفعال فوجا آخر من التابعين يترادفون على درب العمل ويجددون النصح التربوي بإقلال الكلام.
منهم التابعي المهلب بن أبي صفرة الأزدي حين يقول:
(يعجبني أن أرى عقل الرجل الكريم زائدًا على لسانه) (2).
كلمة تستوى في ظاهرها مع ما نسمع من طرف لسان أكثر الوعاظ، لكنها عند من يعرف المهلب قائدًا متحمسا لقتال الخوارج تمثل حساسية روح وخزها شذوذ الخوارج عن إجماع المسلمين، ولذعة قلب كواه تفاصحهم وتبجحهم الزائد إزاء عقل يناديهم باجتماع تتمكن معه جيوش الإسلام من مواصلة الزحف على معاقل الكفر بدل تطاحن داخلي بين طرفين كلاهما موحد.
*ثم عمر بن عبد العزيز الذي يقول:
__________
(1) سراج الملوك للطرطوشي/375.
(2) تاريخ بغداد 9/300.(1/86)
(من عد كلامه من عمله: قل كلامه) (1).
يذكرك، لعلك نسيت، أنك تحاسب على الكلام حسابا مثل الذي على عمل الجوارح.
وانظر الترابط بين مشاهدته الواضحة لهذه الحقيقة، وبين رشده وعدله وطبيعة حكمه الفذة.
حتى إن المطالع لكتب المواعظ ليكاد يرى تواطؤا بينه وبين أساتذة التربية الذين عضدوه على إقرار الإقلال من الكلام خطا تربوية للمجتمع، ومن أبرز هؤلاء: الحسن البصري، وميمون بن مهران، وعبيد بن عبد الله بن عتبة، وبقية فقهاء المدينة.
*ونقلة قريبة إلى الجيل الذي بعدهم ترينا استمرار هذا السمت عند الثقات، ففي مرثية المحدث الثقة محمد بن كناسة الكوفي لخاله الزاهد المشهور إبراهيم بن أدهم إشادة بهذا الخلق وبيان تكامله مع الصفات الإيمانية الأخرى وارتباطه بها، فيقول:
زهود يري الدنيا صغيرا عظيمها
وفي لحق الله فيها معظما
وأكثر ما تلقاه في القوم صامتا
فإن قال: بذ القائلين وأحكما
فاستصغار الدنيا، والوفاء، لا يبدو جمالهما الكامل إلا إذا اقترنا بصمت.
*ثم أستاذ الزهد في الجيل التالي: بشر بن الحارث الحافي، عضيد أحمد بن حنبل.
قالوا:
(ما أخرجت بغداد أتم عقلا، ولا أحفظ للسانه من بشر)(2).
فأبانوا -من وجه آخر- ارتباط حفظ اللسان بالعقل، فهو قد حفظ لسانه من اللغو، فوهبه الله لسانا جريئا في موقف صدق إزاء أمير خدعته البدعة، فكان يجوب شوارع بغداد يوم تعذيب الإمام أحمد. ينتصر له، ويثبت الناس ويقود جمهور محبيه المتكتل أمام قصر المعتصم.
وهذا اللسان -لعمرو الله- هو اللسان الذي يجب أن يحرص عليه الدعاة، وبه يفخرون.
لسان اللهج بحديث في مسند أحمد، والترويج لعقيدة أحمد، وقيادة من يقتفي طريقة أحمد وطرق من سبق أحمد ومن خلفه من أئمة الفقه والفضل، لا لسان التثبيط والتخذيل.
ورحم الله داعية أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل.
كلمة قالها عمر..
ولم نبتدعها نحن.
[14] خير يعاف الصاخبين
__________
(1) الزهد لابن مبارك /129.
(2) تهذيب التهذيب 1/445.(1/87)
بذل لذيذ، ونصر يتوالي.
عنوان صادق للسنوات الأخيرة من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عكس طابعه الكامل على المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، فتركهم يتقلبون في أنواع من الفرح غامرة، يستشعرون حمدا من أحكام الفروض والمندوبات والحرام والمكروهات ينزل به جبريل عليه السلام من السماء كل يوم، أو ينطق به النبي -صلى الله عليه وسلم- فينحسر مع كل نزول ونطق خلق من الجاهلية بشع، ويكتب عليه الجلاء ويزاح، ليتاح لهم مجال أن يسألوا عن مكملات الخير الذي هم فيه.
إلا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، كان لا يقنع، فما أن يشارك إخوته من الصحابة فرحهم هذا حتى تلذع ابتسامة قلبه تخوفات من احتمالات شر مبهم يراه مقبلا، يجهل صفته وعلامته، فيظل وجلا، حتى ينعته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويذكر له بوادره ومقدمات التي شتنبهه يوما ما إلى الاحتياط ورفع صوته بأذان التحذير.
كان يريد علما يكمل علم الخير، فصار يحرص على أن يخلو برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله:
يقول حذيفة:
(كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني) (1).
فأتقن علم الشر بهذا الحرص، وأحاط خبرا بما سيكون من فتن وسوء ونفاق، حتى احتاج إلى علمه كبار الصحابة، وطفق مثل عمر رضي الله عنه يسأله ويستشيره.
والمغزى الأكبر هنا يكمن في استجابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة، وجوابه له، وقبوله تعليمه علم الشر.
لم يقل له: إننا في خير، ونسير من نصر إلى نصر، فاصرف عنك الهواجس، بل أجابه وأعلمه.
وإنما تستمد نحن مسوغات تطرق بحوث فقه الدعوة لعلم الفتن والقواصم، وما ينجي منها من الأنوار والعواصم، من مواطأة النبي -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة وتزويده له بما أراد.
نتعلم علم الشر كي نراه ونميزه قبل أن يغزونا.
__________
(1) صحيح البخاري 9/65.(1/88)
ففي الزمن النبوي الكريم لم تكن هناك فتنة عارمة غير فتنة النفاق التي تتابعت آيات القرآن تجزم أنها غير ضارة مسيرة الإسلام، فكان الصحابة يواجهونها وهم على يقين تام من التغلب عليها، يرونها شوكة في الطريق ليس غير.
لكن من شأن الجماعات العاملة أن يكون فيها خلاف في وجهات النظر واجتهاد متباين، وأن يندس فيها الضعيف الطامع، والعدو المخرب، فأراد حذيفة أن يحتاط، فقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- احتياطه، فحدثه وشرح له، لننقل نحن لدعاة الإسلام اليوم حديثه، وحديث من شرح حديثه من فقهاء العمل، ونتأمل فيما تحقق منه ووعته الأمة تجربة من تجاربها، فنقيس عليه، ونستخلص منه العبر.
قافلة السكينة تتهادى
ومن طبيعة أنوار الفطنة أنها مستمرة الإشعاع، ولذلك نرى نور الإقلال من الكلام يرسل حزم ضوء هادية أخرى تستهل بسبب ثان يدعو عمر بن عبد العزيز إلى السكوت، فيقول: (إني لأدع كثيرا من الكلام مخافة المباهاة)(1).
وهذا من أخفى الأبواب التي يقتحم منها الشيطان على الداعية، إذ تأتيه بعض البلاغة، سليقة أو تكلفا وتصنعًا، فتعجبه، فيقول من غير نية تعليم أو نصح، فلا يبارك الله بها، ولا يأبه أصحابه لها بالا، فيتعصب لها، ويجد في قلبه شيئا تجاههم يضعف مشاعره الأخوية.
* وتظل مسوغات الصمت الأخرى من بعد هذا تستجلب لها خيارًا آخرين، كما ا ستجلبت المهلب وبشرًا لحافي، فيقول التابعي الكبير عطاء ابن أبي رباح:…
( إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا ثلاثًا:…
كتاب الله أن يتلوه.…
أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر.…
وأن ينطق بحاجته التي لا بد منها).
* ويضر الحسن البصري –إذ يختار لنفسه الصمت- مثلا للمفكر والمهذار يقول فيه:
__________
(1) طبقات ابن سعد 5/368.(1/89)
(كانوا يقولون: إن لسان الحكيم من وراء قلبه، فإذا أراد أن يقول: يرجع إلى قلبه، فإن كان له: قال، وإن كان عليه: أمسك وإن الجاهل قلبه في طرف لسانه لا يرجع إلى القلب، فما أتى على لسانه تكلم به)(1).
* ويتولى علم السير تعريفنا بحكيم من هؤلاء الذين عناهم الحسن، يعرض كلامه على قلبه، فلا ينطق قبل أن يعد لنفسه جوابًا.
اسمه: حاتم الأصم، زاهد قديم رأوه قليل الكلام، فسألوه، فقال: (إني لا أحب أن أتكلم كلمة قبل أن أعد جوابها لله، فإذا قال الله تعالى لي يوم القيامة: لم قلت كذا؟ قلت: يارب: لكذا) (2).
*وعد الفضيل بن عياض كثرة الكلام خصلة من ثلاث خصال تقسي القلب، وزاد فجعله مرة أخرى علامة من علامات النفاق إذا اقترن بقلة العمل، فقال:
(المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل).
فطلب من حملة القرآن، من أجل ذلك، أن يقفلوا أفواههم إلا من حديث خير، فإن:
(حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا أن يلهو مع من يلهو، ولا أن يسهو مع من يسهو).
وليس أوعظ من أن يتصور أحدنا نفسه مع أولئك اللاغين الازحين من طلبة الحديث المخالفين لأعراف شيوخهم، والفضيل يشترط غضبا وينادي:
(مهلا يا ورثة الأنبياء، مهلا يا ورثة الأنبياء، إنكم أئمة يقتدى بكم).
وإنها لحقيقة يذكرنا بها الفضيل يجب أن لا تغيب عن بالنا.
إن مجرد حملنا للقرآن، وطلبنا للحديث يضعنا في مقام القدوة والإمامة، ولابد من وفاء حق هذا المقام.
*ويمر بنا طريق الصمت على آخر من الزهاد اسمه:
داود الطائي، زاد فاشترى من الناس بصمته شهادة خير تنطق يوم يسأله الله، سلمه إيها ابن السماك يوم موته، في وقفة على قبره، حين فرغوا من دفنه، فناداه أمام الجمع المحتشد:
(يا داود:
كنت تسهر ليلك إذ الناس ينامون.
وكنت تربح إذ الناس يخسرون.
__________
(1) الزهد لابن المبارك/131.
(2) تاريخ بغداد 8/243.(1/90)
وكنت تسلم إذ الناس يخوضون) (1).
فاستغفر له من حضر، فهي في يمينه حجة يوم اللقاء، وهي في الكتاب موعظة لأولى الألباب تحركهم إلى شراء السلامة من وريث لابن السماك.
*وعلى درب الصمت نفسه سار الجواليقي اللغوي، صاحب إعراب القرآن، وأحد أعيان ثقات فقهاء الحنابلة ببغداد، فكان:
(طويل الصمت، لا يقول الشيء إلا بعد التحقيق والفكر الطويل) (2).
صمت السندان!
*وتلاه الشيخ العارف عبد القادر الكيلاني، قدوة الحنابلة بالعراق في القرن السادس، والمربي المستدرك، فقد عرف خبر من تقدمه، ورأى أثر منقبتهم، ثم التفت فرأى واقعا يعبث فيه اللهو فسادًا، وبقايا أنصار البدع البويهية وفلول المعتزلة تتربص لاغتنام فرصة عودة إلى التسلط، فصار يركز في تربيته للألوف التي تحضر مواعظه على ضرورة العمل الصامت.
(أريد منكم أعمالا بلا كلام.
العارف العامل لوجه الله سندان يدق عليه وهو لا ينطق.
أرض يمشى عليها تغير وتبدل وهو أخرس) (3).
هكذا، كالأرض المعطاءة الخيرة هو الداعية، تخضر، ويعلو نباتها ويحصد، فينفع الناس، منهم الشكور ومنهم الكفور، وهي ساكنة راضية.
وكسندان الحداد، كتلة صلب، تنزل عليه المطرقة مرة بعد مرة، شديدة موجعة، وهو هادئ ، قانع بما يحمل للناس من خير ونفع.
أو: هو كغلام الطبيب جالينوس، فقد كان جالينوس لا يعلم أحدًا، ولا يوظف مساعدًا، خوفا من شيوع أسرار طبه، فتظاهر غلام بالتخارس والسذاجة، فقبله جالينوس واختاره مساعدًا، حتى حفظ علمه على غفلة من أستاذة، فنطق.
(أما سمعت بغلام جالينوس الحكيم كيف تخارس وتباله وتساكت حتى حفظ كل علم عنده؟)(4).
وكذلك العلوم والحكم، تتعزز وتتأبى، تريد من يتملق لها بالوداعة.
__________
(1) تاريخ بغداد 8/355.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 1/205.
(3) الفتح الرباني 46/38.
(4) الفتح الرباني 46/38.(1/91)
*فقارن بين أرض صامتة، وسندان قانع صابر، وبين صوت أزعج الأسد، فأرسل كليلة ودمنة يستجليان الخبر، فوجداه طبلا معلقا في شجرة تحرك الريح غصنا فيقرعه، فشقاه بأظفرهما، فنام ملك الغابة مستريحا!!
*وليكن شعارك أن: لا لغو، ولا أصوات، بل استمتاع بأضواء بعد أضواء.
فالتفت يمينا الآن، تجد مصباح:
النور الحادي عشر، يلمع بفضائل:
الإمساك عن الجدل
ويقال له أيضا: المراء، وهو من لوازم إقلال الكلام وناتجه، ومن مكملاته التي تتم زينه.
فالجدل خلق ردئ كثير السوء، وتتجسم آثاره في الجماعات بشكل أبرز مما يلحق الأفراد منه، فإن الفرد قد لا يتجاوز أن يجد ضيقا في صدره إن تجادل مع صاحب له بمعزل وعلى انفراد، ولكن الجماعة التي يتجادل فيها اثنان، على مسمع من البقية، تحرم من الخير المقترب منها، ولو لم تتعدد فيها جهات الجدل وأعداد المتجادلين، كأن من طبيعة الخير أن يجفل من قليل الصخب، ويأبى الدخول على قوم لا يستقبلونه بسكون، ولو كانوا صالحين.
ففي صحيح البخاري:
(أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحي رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وأنه تلاحي فلان وفلان فرفعت، و عسى أن يكون خيرًا لكم. إلتمسوها في التسع والسبع والخمس)(1).
والملاحاة: هي المنازعة والمخاصمة التي تتضمن جدلا، وفي صحيح مسلم أنهما كانا: (يحتقان) أي يدعي كل منهما أنه المحق دون صاحبه.
وتعبيره -صلى الله عليه وسلم- بعسى: من باب التأويل بالمتسحب، إشارة إلى ما سيكون من زيادة بذل المجهود التماسها، وإلا فإن في الجزم بتعيين ليلة القدر من الخير للأمة الإسلامية في جميع أجيالها ما هو ظاهر لمن عرف قيمة الدعاء.
ولمثل هذا السلب جعله التابعي مسلم بن يسار جهلا يجد الشيطان خلاله مجالا، فقال:
(إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته).
__________
(1) صحيح البخاري 1/20.(1/92)
بل هي أكثر من زلة وأكثر من سوء، فإن الإمام الأوزاعي قد أحصاها فوجدها خمس زلات قبيحات تزيد طرد الخير قبحًا، فقال:
(دع من الجدال ما:
يفتن القلب
وينبت الضغينة
ويجفى القلب.
ويرق الورع في المنطق.
والفعل.).
وهذا إثقال واضح لكفة الشمال من ميزان المتجادل ينبي عن خسارته والعياذ بالله، خسارة يصعب معها الرجاء إذا اقترنت بلجاجة وإعجاب، إذ تتم حينذاك، كما رآها التابعي بلال بن سعد فقال:
(إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته).
قول خبير ليس بكاذب ولا مبالغ.
والمخرج من ذلك سهل بسيط ليس بالصعب عند الموفق، لا يستدعى أكثر من إغلاق وفتح.
يغلق ويقفل باب الجدل، ويرمي بالمفتاح بعيدًا، ثم في حركة سريعة يفتح باب العمل، ليجد نفسه في إطلاله بديعة تأخذ بمجامع فؤاده على ألوان متموجة تفيض من مشكاة:
النور الثاني عشر، وينبعث بشعاع:
المبالغة في الصدق يوم الفتنة
فإن لا طريق أقرب من الصدق.
وحين تاب الله على كعب بن مالك رضي الله عنه لما افتتن فتخلف في الثلاثة الذين خلفوا، قال:
(يا رسول الله: إن الله إنما نجاني بالصدق، إن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت)(1).
فغدا الصدق من يوم اختاره كعب سنة لتوبة المفتتنين، وكفاية لاحتياط الحذرين.
صدقا يتجاوز مقداره العرفي الذي تدين بفضيلته كل الأمم حين يتعامل أفرادها في أسواقهم وزيجاتهم، ويتعداه، ليكون نوعا من الحساسية الإيمانية تستشعر الرقابة الربانية، حين ترسل الفتن المتربصة لغزونا من يوسوس في صدورنا ويشجعنا على الانتصار لنفوسنا عند الخلاف بزيادة كلمة نتأول في إضافتها أنها تفسر كلام المخالف، أو بحذف كلمة بتأويل مقارب، أو باختيار لهجة لرواية الكلام تصرفه عن مقاصده الظاهرة وتحمله ما لا يحتمل من المعاني المعيبة.
__________
(1) صحيح البخاري 6/8.(1/93)
فإني انضاف إلى مثل هذه الكذبة في الزيادة، أو النقصان، أو لهجة الرواية: نشر لها في المجالس، وسفر رسل صاحبها بها في الأقطار والأمصار: خيف على صاحبها أن يكون ذاك الرجل الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في رؤياه المرعبة المخيفة لما أتاه آتيان فانطلقا به، فمر به:
(على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاهن ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى.
قال: قلت سبحان الله! ما هذا)؟.
قالا:
(إنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) (1).
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرى إلا حقا.
فليحذر صاحب الهوى أن يكذب كذبة ينصر بها هواه إلى حين سريع الزوال، فتبلغ كذبته الآفاق، ويحملها البريد، وتنزل بها حروف المطابع، فتزل بها أقدام، فيفعل الزبانية بشدقه ومنخره وعينه مثل ما فعلوا بهذا الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولمثل هذا كان عقلاء الناس دوما يرون للصدق مكانة أرفع من مكانته التي يراها له العامة، مثل إياس بن معاوية بن قرة الذي هو من سادة الثقات ودهاة العلماء، فإنه كان يقول:
(امتحنت خصال الرجال، فوجدت أشرفها: صدق اللسان) (2).
وإن صدقا في مساومة على شراء طعام في سوق لهوى أهون من أن يحفل به هذا النابغة هذا الاحتفال، لكنه كان يريد معنى وراء ذلك، يعرفه الرجال.
صدقا عرفه الحافظ المحدث إسحاق بن راهوية الحنظلي، فتناوله، فأدى به إلى الإمامة وسيادة الآفاق، فقال تلميذه الإمام الدرامي:
(ساد إسحاق أهل المشرق والمغرب بصدقه) (3).
__________
(1) صحيح البخاري 9/56.
(2) تهذيب التهذيب 1/391.
(3) طبقات الشافعية 2/86.(1/94)
وثقات المحدثين الصادقين من أهل زمانه كثير عددهم ألوف بعد ألوف، لكنها المبالغة في الصدق سودت إسحاق عليهم.
والقلب الحي يرى في توبة كعب وطريق إسحاق مواعظ، ودعوة للاقتداء.
وللمفتون ما يختار.
[15] النجوى طريق البطالة
رائع هو فقه الفاروق حقا.
فالحكم العمرية، في إجمال قواعد الإيمان وموازين الإسلام وأصول الدعوة، هي أوضح وأحسن تفسير شامل للقرآن الكريم ولحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويشعر الفاحص لأقواله رضي الله عنه أنها نتاج تأمل، صنف عمر خلاله النصوص التفصيلية وجزئيات الشريعة والعقيدة إلى مجاميع متقاربة في معانيها وعللها، وألحق كل حكم بنظيره وشبيه، ثم رأى من بعد القاسم المشترك الذي ينظم كل مجموعة، فاستل من ذاك القاسم قاعدة أو ميزانًا أو أصلا.
أنه نمط من الاجتهاد الاستنباطي الذي لم يفصح عن خطواته عمر، ولم يسجل مراحله أحد، ولكن من يعاني التفقه يدرك أنه من المفترضات البديهية التي كانت سابقة حتما لنطق الراشد الثاني رضي الله عنه بما نطق، فإن الحكمة تنقدح في قلبه في ساعة تفكر، فتظل تتقلب وتجيش في صدره مدة، حتى تصادف ذروة خشوع في إحدى صلواته، فيرجح عنده صوابها مع ذاك التصاعد، فيدعها بعد انفلاته من صلاته موعظة سائرة على مدى الأجيال لأولى الاعتبار.
كل فقهه وفعله كان كذلك رضي الله عنه، حتى إنه كان يخطط لجيوش الفتوح وهو في صلاته، كما أخبر عنه نفسه.
ولذلك كانت الحكمة العمرية مرقاة المتفقة. ولذلك كان السابق.
ولذلك أيضًا... كان المنتصر...
الفتن بقية جاهلية
ومقالته.
(إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة: إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية).
مقالة جمعت كل ضروب فقهه ذاك، فهي قاعدة إيمانية أن شئت وهي ميزان، كما أنها أصل من أصل الدعوة أصيل.
لابد من معرفة الجاهلية.(1/95)
يسميها الجاهلية، متابعة للقرآن ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي الشر كذلك، والشرك، صغيرًا كان أم كبيرًا، وحكم الطاغوت، وهي المعاصي غير المكفرة صاحبها أيضًا.
كل ذلك يعنيه عمر.
ويشهد لنا في أنها المعاصي أيضًا، لممها وكبائرها، قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين عير بلالا بأمه السوداء:
(إنك امرؤ فيك جاهلية).
فسماها جاهلية، لأنها بقية باقية من خلق الجاهلية وإن لم تنقل أبا ذر وراء حائط الإسلام.
قال البخاري:
(المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي: إنك امرؤ فيك جاهلية)(1).
قال ابن حجر:
(أي أن كل معصية تؤخذ نم ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية) (2).
وهكذا توافق رأي عمر مع فعل حذيفة بن اليمان في سؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الشر والفتن مما عرفناه عنه حين رؤيتنا الماضية لدور الصخب في إجلاء الخير. والفتنة معصية، فهي جاهلية وإن لم تسحب صفة الكفر على مقارفها، ولابد من معرفتنا بها، وتفقيه الدعاة بأوصافها وعلاجها، وإلا نقض الإسلام عروة بعد عروة.
بل الحقيقة أن التفرق والخلاف كان من أبرز ظواهر جاهلية العرب، وأولى المعاصي بتطرق فقه الدعوة لها.
وذلك مسوغ جديد، عمري النسبة، يشجع بحوثنا على فضح أباطيل الفتن والمفتتنين.
والفتن أنواع وضروب، منها التي في العقيدة، ومنها التي في التعامل والسلوك والحلال والحرام. ومنها الطفيفة، ومنها الغليظة. ونحن نتعلم منها هاهنا فتن التعامل الجماعي التي تطرأ على المجموعة المتعاهدة على الدعوة إلى الله، الساعية لإقامة حكم الله، أو الحاكمة به.
يجب أن نعرف جاهلية الخلاف وخلع الطاعة ونكث العهد والتخذيل، وإلا نقضت وهدمت عري الدعوة عروة إثر عروة، وتقاعد الدعاة عن العمل فوجا تلو فوج، وارتفعت معاني الأخوة من ساحتهم.
قال ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) صحيح البخاري 1/15.
(2) فتح الباري 1/92.(1/96)
(وهو كما قال عمر: فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله.
ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عنده الخبير بهم، ولهذا يوجد عند الخبير بالشر وأسبابه – إذا كان حسن القصد عنده- من الاحتراز عند ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عنده غيره.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي)(1).
وعي يفضح المخادع
ومن حكمة عمر في هذا الباب أيضًا قوله:
(لست بخب، ولا يخدعني الخب).
والخب، فتح الخاء وكسرها، هو: المخادع الخبيث الذي يسعى بين الناس بالفساد.
وهذه الدعوة مباركة، تربي أبناءها على أن لا يكونوا أخبابا، بل تؤلف أرواحهم، وتريهم أنوار الفطنة، وتعلمهم النية الصالحة والقول الطيب، وتحذرهم سهام الشيطان، والتأويل المستدرج، ثم توجه الرهط المخطئ منهم نحو تربية تستدرك.
ولكنها دعوة مفتحة الأبواب، قد يختلس الخب فرصة، فيلج على حين غفلة من الحارس، ويتخفى دهرًا.
ولذلك وجب على هذه الدعوة المباركة أن تربي أبناءها أيضا على اكتشاف مخادعة الخب، كل الخب، ونصف لهم لحن قوله، وظلمات دروبه، وخروق استدلالاته.
(فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به) (2).
قالها ابن تيمية ثانية:
ولقد كان الجدل، والكذبة التي تطوف الآفاق، من آخر أساليب الأخباب التي فضحتها أنوارنا، وما زالت الفطنة، العمرية السمت، تتوهج، لتؤنس مسيرتك بلألأة ألوان طيف.
النور الثالث عشر، من شمس
ترك النجوى
__________
(1) مجموع الفتاوى 10/301.
(2) مجموع الفتاوى 10/302.(1/97)
فإن مجالس المؤمنين لم تعرف إلا زيادة الإيمان لها هدفا، وكان ابن رواحة يأخذ بيد أبي الدرداء، رضي الله عنهما، ويقول: (تعال نؤمن ساعة) (1)، فيتذاكران أمر الإيمان، ويتعرفان على مسالك التوبة، ويتآمران بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.
وكان عمر بن عبد العزيز يأمر أبا بكر بن عمرو بن حزم، رحمهما الله، بالجلوس للتعليم، ويقول له:
(ولتجلسوا، حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا) (2).
وجعل أحمد بن أبي الحواري الدمشقي المجالسة دواء قسوة القلب، فقال:
(إذا رأيت من قلبك قسوة فجالس الذاكرين، وأصحب الزاهدين).
فمجالس المؤمن عزيزة، ولا ينبغي أن يجلس إلا بنية أن يؤمن ساعة ثم يقوم، متداولا أية أو حديثا أو وصية حكيم من صالح المؤمنين، وليس من حقه أن يميل بالجالسين معه إلى نقد اجتهادات قادته بما يهاب أن يذكره لهم صريحا.
وكذلك غدوات المؤمنين وروحاتهم، فإنها ثمينة مثل مجالسهم، ومن لم يجد عند الذين حوله فقها فإن عليه أن يسيح طلبا له، كما كان التابعي علقمة بن قيس النخعي الكوفي قول لأصحابه:
(امشوا بنا نزدد إيمانًا، يعني يتفقهون).
أو يذهب إلى من يرجو أن يلين له قلبه إذا ألهاه الصفق بالأسواق وأحاديث الرواتب وفرق الأسعار، كما كان التابعين ميمون بن مهران يذهب إلى سيد التابعين الحسن البصري ويطرق بابه ويقول له:
(يا أبا سعيد: قد آنست من قلبي غلاظة: فاستلن لي منه).
فإن لم يجد الصاحب الجليس الصالح، والمداوي الملين، فإن أمامه خلوة ساعة تذيقة حقيقة اللذة، فإنه ( ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل) كما يقول التابعي مسلم بن يسار.
ثم أمامه المحراب، يذكره به التابعي بكر بن عبد الله المزني ويتساءل:
(من مثلك يا ابن آدم؟
خلي بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت على ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان).
الاجتهاد لا ينمو في الجيوب
__________
(1) كتاب الزهد لابن المبارك /490.
(2) صحيح البخاري 1/35.(1/98)
فأما منصف نفسه فيطلب ذلك، من مجلس أو رحلة أو خلوة لبث بمحراب، يأنس بمخالطة من شاء من أفراد جماعة الإيمان، أو يقتدي بما يروي له من فعل المهتدين.
وأما المشرف على ضلالة، فإنه يتوارى مع صحب له عن العيون، ويكتم سره عن الجماعة، ويبثه لمن يهواه، فيؤز بعضهم الحمية النفسية في البعض الآخر، فيكون حنق، فتثبيط، فتسويغ لا يبرأ من تدليس، فإذا هو افتتان.
تلك التي عرفها عمر بن عبد العزيز فقال:
(ما انتجي قوم في دينهم دون جماعتهم إلا كانوا على تأسيس ضلالة) (1).
وهذه هي بداية كل بدعة في تاريخ المسلمين، تبدأ بالنجوى، ثم يكون الاستدراج.
فالنجوى دون الجماعة في المفاهيم التي هيمن الدين، أو في خلع الطاعة الشرعية التي هي من الدين أيضًا، والتي يسببها سمى الخوارج الخالعون للطاعة: مبتدعة، يقرن ذكرهم بالجهمية والمرجئة، كل ذلك ضلالة داخلة في قول عمر.
ولا تغير النية الصالحة في طبيعة النجوى أو تسحب عليها ذيل الصلاح تبعًا، ولا ادعاء الاجتهاد وطلبه من خلالها، فإن الاجتهاد لا يترعرع سرًا، لاحتياجه دوما إلى التقويم، وإلى الشهادة له أو عليه من قبل الآخرين، وليس بتلك ذلك في أجواء التناجي المتوارى المستخفي الذي يشبه التهامس.
ولقد أظهرت لنا التجارب الكثيرة أن معظم التناجي يؤدي إلى الخروج ونكث البيعة، ولا تتجاوز أن يكون مرحلة أولية للماشي في درب الفتنة، دري أو لم يدر، ولا يتجاوز حجة المتناجي أن تكون هي نفسها حجة الخارج، كلاهما يدعي أنه يريد مصلحة الإسلام، وأنه يمارس ضربا من العبادة، والخطأ يلفهما لفا.
كل الخوارج مخط في مقالته، وإن تعبد فيما قال واجتهدًا وتقريرات سيد قطب رحمه الله لمجالات النجوى المذمومة في القرآن الكريم تلتقي مع هذا الذي نقول: ويذهب لأبعد ممن يتوهم أن الله تعالى قد ذم النجوى في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقط. فهو يعقب على الآية الكريمة.
__________
(1) كتاب الزهد للإمام أحمد/291.(1/99)
(لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
فيقول:
(لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى، وهي أن تجتمع طائفة بعيدًا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة السملمة، لتبيت أمرًا. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبي -صلى الله عليه وسلم- مسارة إن كان أمرًا شخصيًا لا يريد أن يشيع عنه في الناس: أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص.
والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون جيوب في الجماعة المسلمة، وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها، وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرًا بليل، وتواجه به الجماعة أمرًا مقررًا من قبل، وتستخفي به عن أعينها، وإن كانت لا تختفي به عن الله، وهو معهم إذ بيبيتون ما لا يرضى من القول.
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها.
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة لشؤون الحياة، وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحًا، تعرض مشكلاته –التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها، والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن – عرضا عامًا. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء، لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره إلا الذين يتآمرون عليه، أو على مبدأ من مبادئه –من المنافقين غالبا- وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.(1/100)
وهذه حقيقة تنفعنا. فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات)(1).
وهكذا يخرج الموفق من ضيق مجلس النجوى إلى رحاب التشاور الواسعة، وبهجة الإصلاح بين الناس، ابتغاء مرضاة الله، والله نور السماوات والأرض، فيجعل الله له نورًا جديدًا، يزيد قوة إبصاره، ويشجعه على سرعان الفرار إلى الله، فيمر في محاذاة مصباحة، مصباح هذا النور الجديد، ويلتفت إليه ليحصي فضل الله عليه، فإذا هو:
النور الرابع عشر، المتدلي من ثريا:
حمل القلب على استقباح الفتن
فإن المرء مطالب بأن ينكر بقلبه كل أنواع الفتن، وأن يستشعر عيبها، ولو لم يدخل طرفا فيها، فإن الاستحسان يوشك أن يغري صاحبه بالولوج.
لذلك لا يعد أحدنا بريئا من هذه الفتن تمام البراءة إلا بمثل هذا الاستقباح.
وقديمًا أبي شريح القاضي أن يمزج نبله وفضله بشيء من آثار الفتن، فلبث تسع سنين كاملات معتزلا فتنة القتال أيام أرسل عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا ليقاتل عنه ويحكم العراق باسمه، كان شريح خلالهن: (لا يخبر ولا يستخبر) مع أن ابن الزبير كان له من التأويل الصادق أكثر من غيره، فقيل لشريح:
(قد سلمت!
قال: فكيف بالهوى) (2).
وكان هواه مع ابن الزبير.
أي أنه كان يتهم نفسه بعدم البراءة وإن لم يشترك في قتال أو يقف خطيبا مؤيدًا، لأن قلبه كان يميل إلى ابن الزبير.
فإذا كان شأن مجرد الميل القلبي كذلك، فمن باب أولى أن تكون موالاة أهل الفتنة، والتصريح بالرضا عن فعلهم، كالدخول في فتنتهم نفسها، أو منزلة قريبة من الدخول، وإن أبقى الراضي لنفسه صورة الوفاء بالبيعة، ولم ينسب نفسه إلى جمهور المفتتنين.
__________
(1) في ظلال القرآن 5/226.
(2) طبقات ابن سعد 6/141.(1/101)
وخلال سرد الإمام أحمد لأوصاف الزاهد وطبقات الزهاد وعظنا موعظة صريحة، أحيا بها فقه الحسن البصري إمام التابعين فروي استفتاء التابعي عبد الواحد بن زيد للحسن:
قال عبد الواحد:
(قلت للحسن: يا أبا سعيد: أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلب!!
قال: يا ابن أخي ككم يد عقرت الناقة؟
قلت: يد واحدة.
قال: أليس قد هلك القوم جميعا برضالهم وتماليهم) (1).
وابن المهلب هذا هو ابن المهلب بن أبي صفرة البطل مبيد الخوارج، أعجبته نفسه، وغره ما ورثه من جاه أبيه، فعشق الرئاسة، فأعلن الانفصال عن الدولة الإسلامية الفتية.
فالموالاة كالدخول، ليس من فرق بينهما عند رأس فقهاء التابعين بإحسان.
وهي كذلك عند الذين بعده، فجعل بعضهم استئناس المرء وصحبته للمتخلقين بأخلاق المفتتنين مسوغا لنا لتصنيفنا إياهم معهم. فقال:
(دليل وحشتهم: أنسهم بالمستوحشين.
ودليل بطالتهم: صحبتهم للبطالين.
ودليل تخليطهم: صحبتهم للمخلطين).
فالعمل الإسلامي رحب، كله أجر ومثوبة ونور، ولمثله يبتسم العاقل مستبشرًا، فإن استوحش بعض من يدعيه، وعبس وبسر، ثم استأنس بوحشة آخر: فإنه شريكه دون ريب.
وهذه الفتن كلها بطالة وسلبيات، وقعود عن العمل وانزواء، وانحدار تدريجي نحو الركود، ثم سبات وغطيط، وصاحب أصحابها منهم دون ريب.
وهي كلها استعارات، وترقيعات، ومزج للباطل بالحق، وتدخين وتخليط، ومن رضي أن يقعد بباب دكان صاحبه الحداد، لتطربه الأنغام النشاز التي تبعثها مطارق الحدادين، فلا يعجبن إن ظنه الناس حدادًا.
[16] اللهب البارد
مهما عصفت الفتن وآذت، فإن إجالة سريعًا لأبصارنا في محيط هذا الجيل الموفق من الدعاة تترك بسرعة أثرًا من السكينة في قلوبنا تصغر أشباح المفتتنين فيها، بل تدعها بددًا، حتى تخلو من الرهبة لهم تمامًا.
__________
(1) كتاب الزهد للإمام أحمد/289.(1/102)
هذا ما كان مرارًا، كلما شيكت الدعوة بشوكة من صاحب هوى أو عاشق رياسة، وهذا ما سيكون ويستمر، ما بقيت هذه المعادن البيضاء النقية التي تشتد غيرتها على دعوتها، فتبادر إلى إنكار الفتنة على أهلها، وتتناوش الاستدراك من قريب، من حيث يؤشر لها المخضومون نقاط وجوده على خارطة التجارب العملية لتاريخ العمل الإسلامي، القديم والحاضر.
فهذه الخارطة التي لخصت نتائج المسح الشامل لآثار الخطط المرحلية، وأوجزت الخبر اليقين المعلل لمصائر من التحق بالركب على مدار السنين فثبت ونجح، أو غوى فانكبح، هي من أثمن ما يحوزه الداعية المتفقة طالب الوعي، ومن أبرك العوامل التي تضاعف شدة يغرته، وتميزه عن المسلم الفرد الذي يلتمس المصالح للإسلام من خلال دائرته الضيقة وتجربته المحدودة.
مجالس الساعة الإيمانية
ولقد اقترنت إشارات الخطر الحمراء التي رسمتها التجربة على الطريق الانتجائي القائد إلى مفاوز البطالة بإشارات سلامة واضحات تبرز أهمية المجلس والمعية والخطوات المشتركة إلى مناجم الخير.
علامات عتيدة وضعها الصحابة والتابعون على خارطة التجريب القيمة.
إجلس بنا نؤمن ساعة.
تعال نؤمن ساعة.
امشوا بنا نزدد إيمانًا.
اجلسوا، حتى يلم من لا يعلم.
آنست غلظة، فألن لي قلب.
إلى مناجاة في المحراب.
لافتات تطلب منك الدخول.
أو هي هتافات.
سمها كيفهما شئت، لكنها قاعدة في العمل التربوي غنية عن الاسم، تفرض نفسها فرضا على أجيال السائرين في دروب تأليف الأرواح، تذكرهم بأن لزوم مجتمعنا الخاص، والعيش في أجواء الدعاة الجماعية يكفلان حلولا أكيدة للكثير من مشكلات العمل، ابتداء بالفتور الطارئ، وانتهاء بالفتن.
فالداعية سائح جوال، يشغف ارتياد الربوع الخالية حبا، لكنه يجب أن يأوى إلى أجواء الأخاء الإيماني، وركنها الشديد، ليستروح قلبه، ويستشعر السكينة في ظلال جماعية، كما تعود الأطيار إلى وكناتها ومحط سربها مع كل مغيب لتسكن إلى أشكالها.(1/103)
لذلك يجب أن يسود الجماعة عرف بالغ الحساسية يستنكر التناجي، ويتعاهد (مجالس الساعة الإيمانية)، بالإدامة والإحياء، وتعميرها بالفوائد المناسبة لكل مستوى، بحيث يجد فيها القديم المتوغل نوعًا من الأنس والسلوة يقارب ما يجده الناشيء المبتدئ.
مجالسهم مثل الرياض أنيقة…لقد طاب منها الريح واللون والطعم
وعلى مجالس الساعة الإيمانية هذه تعول الخطة التربوية، وعلى سمتها الجدي النظامي يجب أن نحافظ، وأن لا نسمع لذي الاجتهاد الغريب أو المخالف المنازع في الرئاسة باستغلالها لمسارة ونجو وتثبيط.
هجر الكلام الرديء
وقد أرتنا الأيام مجرد مثل هذا الكلام في ذي النجوى لا يقيد المخالف عن الاسترسال في هواه ومحاولة الخلوة مع العاملين ليطلب نصرتهم له، ولكن العنصر الفعال في إبطال النجوات وتضييق المجال عليها إنما هو الداعية الثقة النبه، بأن يقوم بدور السكوت عن التكلم إلى غيره وعدم إشاعة ما نوجي به، ألا يعلق المعني المعيب في قلب ساذج، أو جديد لم يخبر الأمور بعد...
وهي وصية سفيان الثوري في التحذير من رواية المعاني المبتدعة ولو على سبيل الإخبار إذا لم يعلمها أحد، إذ أرشد إلى وجوب كبتها وحصرها فقال:
(من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم).
والبدع بدع عما كما هي بدع اعتقاد، وكلام أهل الفتن يختلط بشيء كثير من هذه البدع التي حذر منها الثوري، وأسلوبهم بحد ذاته بدعة غليظة.
فمن سمع أيام الفتن نوع تشكيك أو اتهام أو طعن يفوه به عاص، وعلم أن غيره من الثقات البعيدين عن العصيان لم يسمعوا بهذا التشكيك وأنهم في عافية منه، فليستره عنهم، فإنه لا يدري ما عسى أن يعلق بقلوب بعضهم من هذا التشكيك بإغراء الشيطان، وليوصل الخبر إلى أميره فحسب، أما إخوانه فيفتح لهم نافذة يستمتعون من خلالها بالنظر إلى بزوغ فجر جديد يبشر يقرب انتشار:
النور الخامس عشر، الذي يوقده:
علمك بأن الله لا يصلح عمل المفسدين(1/104)
كما كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أحد ولاته وصية جامعة من دون تطويل فقال:
(أما بعد: فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين) (1).
وهي جملة واحدة موجزة جمعت الخير من أطرافه، ووضعتك أمام حقيقة فاصلة.
فإذا كان أمر الله هو النافذ في هذه الحياة، وقد كتب الله على نفسه أنه لا يصلح عمل المفسدين، ولا يحب كل خوان أثيم، كان ذلك في الكتاب مسطورًا، فلم خدع النفس؟ ولم تمنيتها بانتصار مبني على أوليات ومقدمات فاسدة بينة العوار، صاحبها أدرى الناس باعوجاجها؟
إن هذا الاستشعار بحتمية قدر الله الذي وعد به، إنما هو نور ساطع يحفف جرأة الجريء على مقارنة الافتتان إذا تذكر به حين يجالسه داعية فتنة في ظلمة يسوغ له المشاركة فيما هو فيه، والمؤمن لا يزني ساعة يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، وكذلك ينكث بيعة وهو مؤمن.
كما أنه قد يقف على باب الإثم فيذكره مذكر بالله فيرجع، كما في حديث البخاري عن المرأة التي أراد ابن عمها السوء معها فذكرته الله، فعف بعدما أوشك وشارف، فوهبه الله بعد دهر استجابة منه لدعائه، ورفع الصخرة التي سدت فتحة الكهف عليه.
وهكذا كهوف التخذيل والإرجاف، قد يجد المرء نفسه حبيسا فيها على غفلة من نفسه، فيدعو بدعاء عمار: نعوذ بالله من الفتن، فتتدحرج صخرة الأوهام عن باب سجنه، ويتنفس الصعداء، ويعود إلى عرصات العمل الفسيحة.
وهذا الباب من أبواب التقوى في الاستسلام لقدر الله بلزوم أمر الله ونهيه، ودلالة ما يحبه الله وما يكرهه، جد مفيد في اتقاء الخلاف خاصة والعزوف عن التفكير بكيد وخديعة.
وضمانته العامة: الإسراع إلى الإصلاح الذي أرشدك إلى سفيان بن عيينة حين قال:
(من أصلح ما بينه وبين الله: أصلح الله ما بينه وبين الناس) (2).
__________
(1) تاريخ الطبري 6/567.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 7/10.(1/105)
فصلح المرء مع الله، بحيث لا يكون مؤذنا بحرب منه، ولا مكروها عنده: طريق لصلحه مع الناس وصلح الناس معه، في رحاب أخوية، بلا خلاف، ولا تطاول، ولا تحديات.
كما أن صلحه هذا مع الله هو من باب ثان بداية توارد الخواطر الإيجابية على قلبه، وتزاحم الأفكار الجدية فيه، التي تخرجه من سكون الكسل، وإيثار الدعة، إلى طلب لذة التضحية وركوب المتاعب، فتتجدد له حالة كان هارون الرشيد، الخليفة الحاج الغازي، على مثلها، فاستوقف جمالها كلثوم بن عمرو العتابي، حفيد صاحب المعلقة سمية، فقال يمدحه:
مستنبط عزمات القلب من فكر
ما بينهن وبين الله معمور
فعزمة القلب الخيرة بنت فكرة تستمد جرأتها من العمران الذي شيده صاحبها بينه وبين الله.
عمران بمعاني التوحيد، والتوكل عليه، والإخبات إليه، والخوف منه، ورجاء نيل رضوانه.
وعمران آخر لدور الأنصار الجدد، في صحراء جاهلية الكفر، أو صحراء جاهلية المعاصي، بتربيته لهم، وإسكانه إياهم فيها ليوقدوا إذا طال على القوافل مداها، فتستأنس بنارهم حينا، وتزول وحشتها، وتلبث سائرة في صحبتها، حتى يبدو لها:
النور السادس عشر، الهادي إلى:
إدانة السوء الظاهر
فإن العمل الخاطئ لا يصح معه ادعاء الصلاح، ولا تسوغه النية الحسنة، والضرر يزال ويتجنب ولو لم يقصد فاعله الإساءة، وكل ناو فله ما نوى.
فمن الدعاة أناس يريدون الخير للدعوة، لكنهم ورثوا سذاجة أصحاب السفينة الذين قص علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبرهم فقال، كما في لفظ البخاري:
(مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي بأسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسًا، فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: مالك؟ قال: تأذيتم بي، ولابد من الماء!! فإن أخذوا على يديه: أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)(1).
__________
(1) صحيح البخاري 3/225.(1/106)
وفي لفظ ابن المبارك أن النعمان بن بشير رضي الله عنه كان إذا أراد سرد هذا الحديث يقول قبله:
(يا أيها الناس: خذوا على أيدي سفهائكم).
فإذا سرده عاد فقال:
(خذوا على أيدي سفائهكم قبل أن تهلكوا) (1).
ولقد صدق الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وصدق النعمان، فكم من مخلص جاهل يسلك سبيل صاحب الفأس هذا في سفينة الدعوة؟
ذاك حمل فأسًا... وصاحبنا يحمل اللسان.
إنه يهدم ويشكك ويثبط ويفرق ويعصي، كل ذلك بدعاوى حسن النية والنقد الذاتي.
إنه يجهل أن القانون على السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه، بل على الشرع فيه، بل توجيه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يفسد السفينة ا دامت ملججة في بحرها، سائرة إلى غايتها.
إن كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، بل معناها البحري، فهناك لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى (أوسع قبر)... في قاع المحيط المظلم، لو ترك هذا الخرق الصغير وشأنه.
وكذا حسن النية، إنه لا يحمل عندنا في علاقاتنا معناه الأخروي الذي يحاسب الله بموجبه عباده، فالإفساد واحد حتى وإن كان بنية حسنة.
أفما رأيت حالة هذه الطائفة التي في (الأسفل) تعمل لرحمة من هم في (الأعلى)؟
إنها قصة القواعد الساذجة مع القيادات العاملة:
عاطفة لتهبة..… …لكنها باردة.
ومشاعر صادقة..…لكنها كاذبة.
ورحمة خالصة..…لكنها مهلكة.
إنهم المصلحون إصلاحا مخروقًا(2).
إمامة الدعوة كإمامة الصلاة
إن تكوين جبهات المعارضة لا تعرفها أخلاق الإسلام، ولا يستنزل الشيطان بهذا الذريعة إلا صاحب الفقه الضعيف.
ونهج إشاعة النقد نهج باطل، لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا سلكه داعية ذكر عنه الثبات على العمل بعد إتيانه.
إنه طريق إلى الفرقة والتباغض.
__________
(1) كتاب الزهد لابن المبارك/475.
(2) اقتباسات نم وحي القلم 3/7.(1/107)
وإن العمل الإسلامي قائم على معني عبادي نحتسب فيه الأجر عند الله كقيام المصلين مع إمامهم في الصلاة يحتسبون فيه الأجر ويؤدون به عبادة مفروضة، يحرصون على إجادة الإمام لإمامته ويعينونه على ذلك، فإذا أخطأ نبهوه برفق يصلح ما أخطأ فيه، لا تشهير معه.
وقيادة الدعوات ليست كراسي حكم يتنازع عليها كما تتنازع الأحزاب الأرضية، ولكنها مسؤولية ضخمة، وإمامة في دين، كالإمامة في الصلاة.
وللشيطان مداخل كثيرة جدً ودقيقة للغاية، قد يقع فيها الداعية، فيختلط عليه التناصح الصافي مع التنابذ العدائي، والحرص على الدعوة مع الحرص على أهواء النفس، إلى غير ذلك من الاختلاطات التي يعرفها من أطال التأمل في دقائق النفس وخلجات الأفئدة، والعاصم من كل ذلك: الالتزام بقواعد العمل الجماعي، وأن يكون النصح للمنصوح في السر أحب إليه في العلن، وأن تكون استقامة المسؤول أحب إليه من وقوعه في الخطأ، وأن يود لو أن غير كفاه مؤونة النصح، فهذه ونحوها من علامات نجاة الداعية من التورط في حبائل الشيطان.
معاني أدركها السلف، فإنه لما روي قول شداد بن أوس رضي الله عنه: (يا بقايا العرب: إن أخوف ما أخاف عليكم: الرياء، والشهوة الخفية).
(قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟: قال: حب الرياسة).
(فهي خفية تخفي عن الناس، وكثيرًا ما تخفى على صاحبها) (1).
فأحدهم ينازع ويخاصم تعبدًا وتقربا إلى الله في ظنه، ولا يدري أن حسن مقصده لا يغير من حقيقة التنازع شيئا.
سيماء السوء واضحة
فإذا كانت الجماعة مطالبة بإزالة الضرر الذي يقع من قبل المخلصين أحيانًا على سذاجة، أو بشهوة خفية، فمن باب آكد أن تسارع إلى إزالة ضر من تسوقهم الشهوة المفضوحة إلى اتباع غير سبيل المؤمنين.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 16/346.(1/108)
ولا تقل: كيف نميز بين الطائفتين؟ فإن الفراسة الإيمانية تتكفل بذلك، كما تكفلت فراسة المحدثين بفضح الحديث الموضوع أحيانًا، فإنك تجد عندهم مثل قول الحاكم النيسابوري في كثير بن عبد الله الناجي: (زعم أنه يسمع من أنس، وروى عنه أحاديث يشهد القلب أنها موضوعة) (1).
فالداعية لا يترك حذره إذا لم ير الدليل الواضح وضوح الشمس، بل تكفيه شهادة قلبه للاحتياط في كثير من الأمور إذا تجنب الهوى.
*فالقلب راء ما لا يرى البصر*
وهذا من المعاني التي تواطأ الناس على تأكيدها، فكان ابن تيمية يقول: (أنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه) (2).
وفي الشعر القديم:
لا تسأل المرء عن خلائقه …… في وجهه شاهد من الخبر
وفيه:
*إن الصدور يؤدي غيبها النظر*
وكان الشعر الحديث أجود في تطرقه لهذا المعنى، فقال عبد الوهاب عزام:
إن يكن في الكلام صدق وكذب
ولدى القلب سره المكنون
فعلي الصدق في العيون دليل
وعلى الوجه شاهد لا يمين(3)
أي نه شاهد لا يكذب.
هذا من مجرد النظر إلى الوجه، فإن انضاف إلى ذلك سماع كلامه: كان الاستدلال أقوى، كما قال الله تعالى:
(ولتعرفنهم في لحن القول)
بل الخبير يعرفهم في لحن السكوت أيضًا، فكم من سكوت يعرف المقابل فيه انطواءه على الغضب، وتربص الفرصة للانتقام والكيد.
فإذا انضاف إلى الكلام فعل، فإن ما في القلب يتضح تمامًا، وإن حلف لك صاحبه ونفي.
ويخبرني عن غائب المرء فعله
كفي الفعل عما غيب المرء مخبرا
وهبه دلس علينا وخدع، أفعلي الله تمر الخداعات؟
وكلا والذي برأ نسمته.
كل مستخف بسر …فمن الله بمرأى
لا ترى شيئا على الله…من الأشياء يخفي
فالله رقيب حسيب، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، والعاقل من اتفاه، وترك شهواته وهواه.
__________
(1) تهذيب التهذيب 8/418.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/272.
(3) ديوان المثاني/ 30.(1/109)
نسميه تركا، وهو أفضل الجهاد، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أفضل الجهاد: أن يجاهد الرجل نفسه وهواه) (1).
ولا تستغربن ذلك، فإن قتال الكفر لا ينفر له عبد رياسة أو درهم ودينار.
[17] مهاجرون يأبون التعرب
كان من خبر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إزاء علم الشر ما قصصناه آنفًا، وعلمنا مقدار حرصه على تمييز الفتن، ومقدار تطلعه لنيل أجر النذارة لقومه، والتيقظ لفضح اقترابها المستتر بأنواع التدليس، والمتخفي بظلام الشبه.
والذي يبدو للمتأمل في تواريخ الفتن وتسلسلها أن (ظلام الشبهات هذا يكاد أن يكون هو الظرف المثالي الذي تفضل اختياره لبدء تغريرها بالمؤمنين، إذ لا يزال ظلام الحرام البين دامسا مخيفا يرهب أقل الناس إيمانًا أن يلج فيه، ولكن ظلام الشبهة أقل أسودادًا، وهو بالغبش أشبه منه بالحلاكة، وربما تخللته ومضة، وخففت منه بقية خيط أبيض، فيتوهم المؤمن، فيلغ، وفي ظنه لا خلابة ثم، حتى يستغلق الظلام من حوله فيؤرب ناجيا بمشاقه وقلب راجف واجف، أو يرهب الأوبة بعد إذ قطع الظلام عليه طريق رجوعه واستوى ما هو قدامه وخلفه، ولا يبدع أن يعتاد وحشة الظلام، ويألفها، ويترك التفكير بعودة.
مثل صريع الإغراء في ذلك مثل التاجر الماشي في سفر ومعه راس ماله، فإن كان نبها، وقارب مصرًا آهلا حين الغروب: بات فيه واستأنف مع وضح النهار، وإن لم يكن كذلك، وكان محروما حاسة الاحتياط والحذر، فإن الشفق يشدهه، ولا يفطن لما بعده من عتمة، فيظل سائرًا، حتى يتوسط القفر، ويصعب عليه التقدم أو الرجوع، فإذا كان معه لص في خطوه الأول يهيج غرامة بالشفق، ويأتيه بأبلغ أقوال الأدباء في جماله، ويرغبه بنيله قبل اعتداء الأفق عليه: فإن اللص ينفرد به بعد، ويسلبه ثروته.
سراج وقوده التوبة
__________
(1) صحيح الجامع الصغير للألباني 1/361.(1/110)
ولذلك انتهت دراسة حذيفة رضي الله عنه لمثل هذه التغريرات إلى الجزم بأن هناك نورا إيمانيا في قلب المؤمن ينير له طريقه في الظلمات التي استدرج إليها، تفشل معه خطط اللصوص هؤلاء، ويستطيع الرجوع على ضوئه، فقال:
(إن في قلب المؤمن سراجًا يزهر)(1).
فهو يزهر كما يقول، أي يتألق ويسطع سناه.
والإيمان يزيد وينقص، فربما خفت السراج في ساعة جزر، فيستدرج المؤمن، لكنه سرعان ما يعود إلى الإزهار مع المد الإيماني، طالما أن أصل الإيمان أرجح فيه من أصول الشهوات، فتكون النجاة.
والعرف الإيمان يحفظ لكل معصية توبة نسبية خاصة، ما زال المؤمنون يستدركون بهن التفريط، ولكن أكثرهم ما زال يجهل التوبة من طلب الرئاسة وأمثالها من مقدمات الفتن، ففطن ابن تيمية لهذه الغفلة عن هذه التوبة، وطفق يذكرنا بأن:
(باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله، فيتوب الله عليه ويعينه:
إما على إقامة الواجب.
وإما على الخلاص منها) (2).
وتوبة الله على طالب الرياسة بإعانته على القيام بواجبها أثمن من الخلاص منها ولا شك، لتضمنها معنى الستر وأمن الإنفضاح، وإتاحتها للتائب مجال الاكتيال من أجر الإمامة الذي لا يكاد يعدله أجر.
فهذا صحاب السراج، إن لم ينر له نور عصمة: أنار له نور توبة.
أما الذي اطفأت ريح الشهوات سراجه، ففي واد آخر، وشأن مختلف، واضطرب متعب، حتى أن ابن تيمية انكسر قلبه عليه لما رآه في تقلبه:
(يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق) (3).
وهذه ترديات تثير الشفقة دون ريب، وتدعونا إلى تعميم الاحتياط منها، بزيادة إيقاد أنوار الفطنة في قلوب المؤمنين، وتناوش قبس ذكي يجد الدعاة عليه هدى، ويسعى جماله بين أيديهم يدعوه الفقه باسم:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 20/45، 10/578/216.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.(1/111)
النور السابع عشر، ويزين:
اتقاء الغدر
وهو نور يوقده وضوح الإشارة الشرعية والعرفية لقبح إثم الغدر بالبيعة الرضائية.
فعن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما قالا: قال النبي -صلي الله عليه وسلم-:
(لكل غادر لواء ينصب يوم القيامة يعرف به) (1).
وقد فسر ابن عمر هذا الحديث بأنه الغدر ببيعة الأمراء(2)، قاطعًا الطريق على من يريد أن يتأوله:
وكان يقال:
ثلاث من كن فيه: كن عليه:
البغي: لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم).
والمكر: لقول الله تعالى: (لاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ).
والنكث: لقوله عز وجل: (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).
__________
(1) صحيح البخاري 4/127.
(2) صحيح البخاري 9/72.(1/112)
وهذه البيعة المعروفة الآن في الدعوة، والتي توجب حقوقا لمن بويع وبايع بالتبادل، وقفا لشروط تفصيلية، إنما هي البيعات التي يجب الوفاء بها شرعًا، إذ المؤمنون عند شروطهم، وقد ألزم الدعاة أنفسهم بها عن رضا كامل واختيار، وقبلوا الحد من بعض حريتهم في الاجتهاد تمكينا لممارسة عمل جماعي لا تتحقق آمال الدعاة في استئناف الحياة الإسلامية وتحقيق مصالح الأمة إلا بواسطته، ولا يستمر إلا بمثل هذا الحد من حرية المشارك فيه وتفويض قادته صلاحية الأمر ومنحهم الطاعة، وكلام ابن تيمية في أول الجزء التاسع والعشرين من مجموع فتاويه عن القواعد الفقهية العامة التي تحكم شروط المسلمين في عقودهم وبيوعهم ليس فيه ما يمنع من العمل بهذه الشروط الرضائية التي يوجبها الداعية علىنفسه بكامل اختياره طمعا في أجر العمل الجماعي وثوابه، ورغبة فيا لوصول إلى استدراك سريع لحال الأمة يبرد لذعات قلبه اليومية التي تسببها المآسي المتكررة، والفجائع المؤلمة، ابتداء بضياع فلسطين، ومجازر زنجبار وقبرص وأرتريا والفلبين، ومرورًا بصراع القوميات الدموي في البنغال وديار الأكراد، وانتهاء بخطط الماسونية والتنصير وتمكين المماليك.
والحقيقة أن ناكث البيعة يوقع نفسه في جملة أمور رديئة حتى ولو اعتزل ولم يؤذ جماعة العاملين:
فهو واقع في إثم عدم الوفاء بالعهد، وعلى مقربة من خصله من النفاق بغيضة، فإن المنافق إذا عاهد غدر، وأقل ما يقال في هذا العهد الذي أعطاه أنه آكد من النذر الذي ينذره على نفسه، والنذرواجب الوفاء، يشغل الذمة بمجرد النطق.
وهو واقع أيضا في أثم النكوث على العقب، المذموم في القرآن، فليس هو مجرد وقوف سلبي لا يتقدم بوفاء ولا يزداد من الخيرات، وإنما هو رجوع أيضًا يستهلك ما أدخره من حسنات.
كما أنه قد دخل في سنة نافلة تطوع بها إن لم نقل بوجوب العمل الجماعي، والمتطوع بسنة عليه أن يتمها كما يقول جمهور الفقهاء.(1/113)
ثم أن الناكث يقع رابعا في إثم انتصابه قدوة سيئة لغيره يشجع من بعده على تقليده، وتسويغ النكث احتاجًا بسابقته.
نطيع الله في العاصي
ومن هنا كانت عقوبة الناكث بليغة في العرف العملي، ووجب على الدعاة أن لا يأتمنوا ناكثا نقض عهدًا، بل يجردونه مما هو فيه من العمل حتى يحدث لنفسه توبةتصدقها استقامة دهر بعد إعلانها.
لسنا نبتدع ذلك، وإنما هي قاعدة وضعها التابعي الكوفي سليمان بن مهران الأعمش، فقال:
(أعظم الخيانة: أداء الأمانة إلى الخائنين).
فالمشاركة في العمل شرف وأمانة لا تنبغي لغير ملتزم، فضلا عن أن يكون رأسا ووجها، ومنعه هاهنا باب آخر من أبواب التقوى دلنا عليه الزاهد عمر بن ذر رحمه الله فقال:
(إنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه).
فمن عصى الله فينا، ينقض عهده معنا، وإطلاق لسانه فينا، نكافئه بأن نطيع الله فيه ونصنفه في الخالفين.
أم الذين يصدقون الوعد، ويخطون خطو الصعود، فيحتلون القلب احتلالا.
أولئك إخواني الذين أحبهم……وأؤثرهم بالود من بين إخواني
وما منهم إلا كريم مهذب……حبيب إلى إخوانه غير خوان
ومكافأتهم أن نأخذ بأيديهم، لنمضى سوية ومعًا في طريق الأنوار اللاحب، ونمر بهم على:
النور الثامن عشر، لينبهم إلى:
خطأ الاحتجاج بزلات السلف
بل نهدرها هدرًا، فإن العصمة لم تكتب لهم وإن كانوا نجباء، فإن مما أدخل الفساد على الخلق في مشاهدات ذي النون المصري الزاهد إنهم:
(جعلوا قليل زلات السلف حجة أنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم) (1).
وصدق والله، إذ رأينا ما رأى، كأن سمت الناكثين على مدار التاريخ واحد متشابه، وراقبنا فتنة جادل المفتتن فيها أميره، ورد عتبة، فقال:
أنت لست أفضل من عثمان رضي الله عنه حتى تحرم الخروج عليك، ولا أنا وصحبي أفضل من فلان وفلان ممن خرج على عثمان حتى نتنزه عن فعل فعلوه.
__________
(1) الغنية لعبد القادر الكيلاني 2/184.(1/114)
وهذا لعمرو الله هو الفقه الأعوج الأعرج، فإن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولنا ما نكسب، ولا نسأل عما كانوا يعملون، وهذا المجادل لم يفطن إلى أن الخطأ لا يصلح أن يقتدى به، وأن الشر لا يقلد، وأن جمهور المهاجرين والأنصار لبثوا في ساعة العسرة على الطاعة والولاء لعثمان، لكنه منعهم من الدفاع عنه.
ولمثل هذا اشترطوا الورع للفقيه، كي ريه نور ورعه عوار الحجة الكاذبة الساترة لخطلها، وشبهوا نموذج الفقيه الفطن بالتابعي محمد بن سيرين، وذلك حين جزم مورق العجلي أنه لم ير:
(رجلا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقه، من محمد بن سيرين) (1).
فالورع لابد له من فقه يعصم صاحبه من الابتداع ومجانبة السنة، كما أن الفقه لابد له من ورع يبعد المتفقه عن الهوى في الاجتهاد أو الوقوع في تغرير الزلة.
فأفعال الرجال معروفة، منها المنتصبة انتصاب المنار، تدعو المشمرين لاقتداء، فيعرفونها، ومنها المائلة العوجاء.
وذو الصدق لا يرتاب، والعدل قائم
على طرقات الحق، والشر أعوج
فأنظر، إن كان ثمة توسع في التأويل، وإكثار من الغرائب، فإن الفقه يوشك أن يولد كسيحًا، وإن كان هناك الذي تعلمه من صحيحيك، وفكرة تراها ترتقي مدراجك، وتتفيا ظلالك، فإنه فجر جديد يبشر ببزوغ:
النور التاسع عشر: الحاث على:
الاعتبار باستكبار الشرع لتعرب المهاجر
فتكون لنا عبرة وموعظة بما أخرجه البخاري في صحيحه عن التابعي يزيد بن أبي عبيد أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه دخل مسجد الكوفة آتيا من مسكنه في البادية، فقال له الحجاج بن يوسف الثقفي:
(يا أبن الأكوع: ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟
قال: لا، ولكن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أذن لي في البدو) (2).
__________
(1) تهذيب التهذيب 9/215.
(2) صحيح البخاري 9/66.(1/115)
والحجاح يشير هنا إلى حكم شرعي صادق فيه، فإن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- نهى عن رجوع المهاجر إلى البادية والصحراء وعيشه عيشة الأعراب، ولذلك لم ينكر عليه سلمة بن الأكوع قوله هذا، وإنما بين له أنه استأذن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- باستثنائه من ذلك والترخيص له، فأذن له.
قال الحافظ ابن حجر:
(إن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عد من جملة أصحاب الكبائر من رجع بعد هجرته أعرابيًا)ز
ثم قال:
(وقال ابن الأثير في النهاية: كل من رجع بعد هجرته أعرابيًا إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد) (1).
ويشهد لهذا الحكم أيضًا ما أخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو أحد فقهاء التابعين، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول:
(رجعة المهاجر على عقبيه من الكبائر)(2).
ويشهد له أيضًا ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد بسند على شرط صحيحه سوى رجل ثقة اشترطوا لتصحيح حديثه وجود شاهد متابع له، وقد شهد له من ذكرنا، أن أبا هريرة رضي الله عنه عدد الكبائر فذكر منهن:
(الأعرابية بعد الهجرة) (3).
وصرح الفقيه العلائي من الشافعية بأنها كبيرة(4).
وفي سنن سعيد بن منصور، بسند صحيح لكنه مرسل، أن النبي -صلي الله عليه وسلم- نهى: (أن يتزوج الأعرابي المهاجرة يخرجها إلى الأعراب) (5).
فهذه الروايات تتضافر على تصحيح حكم النهي عن تعرب المهاجر وسكناه البادية، منعزلا عن مجتمع الجهاد والعمل.
ولا شك أن حكم الردة أو اعتبار التعرب كبيرة حكم خاص بجيل المهاجرين ذاك، ولكن القلب يدرك أن النهي ما كان إلا ليستمر المهاجرون، من قريش وغيرها، في العمل الجماعي والفتوح وتعليم التابعين وإدارة الدولة المتوسعة.
__________
(1) فتح طبعة بولاق 13/34.
(2) كتاب الزهد لابن المبارك/251.(1/116)
ومن له تأمل في حال الأمة اليوم يرى تجمع الدعاة الحالي، وهجرتهم من التسيب والتفرد والضياع في خضم الحياة الجاهلية الحاضرة إلى دار الدعوة والعمل والانتظام، أشبه ما يكون بتلك الهجرة الأولى.
فمن خرج عن الجماعة، ورضي بأن يكون سائبا، فقد أتى إلى ركن بلا قواعد، ف إن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول:
( من أراد منكم بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد،وهو من الاثنين أبعد) (1).
وإذا كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قد أذن لسلمة رضي الله عنه بالتعرب والرجوع إلى البداوة فمن ذا الذين يأذن اليوم لهؤلاء الذين يخلعون الطاعة وعافون الجماعة؟
لا أحد والله، ولعلها كبيرة كتلك الكبيرة.
فواقع الإسلام لا يأذن.
والفقه لا يأذن.
والقلب الحي لا يأذن.
والمروءة لا تأذن.
ولقد هاجرتم أيها الدعاة إلى مدينة الدعوة، فاحذروا أن يفسد ما أنتم فيه غضب أو هو أو حب رياسة، أو طاعة زوجة، أو حرص على مال.
ألا أنها هجرتكم فاحفظوها.
زادكم الله ثباتًا.
وإنما عهدنا بكم أنكم...
مهاجرون تأبون البداوة...
[18] الصادق الكذوب
ما برحت الأيام تؤكد أن ضخامة حجم معطيات التنظيم الحركي التي جنتها الدعوة الإسلامية الحديثة هي أكبر مما صورته تخمينات رعيل الدعاة الأول.
عرف ذاك الرعيل قابلية التنظيم الذي هم بصدد إنشائه على تجميع الجهود ونقل العمل من أطواره العفوية وارتباطه بردود الفعل الساذجة إلى تخطيط يوضح تفاضلا لحاجات ويكشف المصلحة الكامنة في تجاوز المفضول منها في سبيل إسراع في الوصول إلى هدف أهم. ولم يكن ما سببته المحن المتلاحقة من تأخر في الوصول إلى الغاية النهائية ليثلم صورًا متعددة لأكثر من نجاح حققته الدعوة في الوصول إلى أهداف مرحلية بارزة.
ومع ذلك، فإن هذا الانتقال إلى الانتظام الحركي، شأنه شأن كل خير، قد جاء بفوائد أخرى ثمينة لعلها لم تخطر على بال بعض الرواد الذين بدأوه.
مصفاة الرجال(1/117)
وأجلى اتضاح حاضر للفوائد التي لم تكن مرتقبة أول مرة: يظهر فيما قام به العمل الحركي من استخلاص الصالحين فحسب من بين جمهرة المتصدين للنشاطات الإسلامية.
المتصدون كثرة كثيرة، ولكن مراتب نياتهم وهممهم ووعيهم متعددة، حتى إن بعضهم لينزل إلى مستوى هابط يولد الضرر، من بين مدخول في نيته له إلى المنفعة الشخصية قدم ممدودة، وبادر في همته يتصدر في وقت احتداد فيغفو ويسوف، أو قليل ذكاء لا ينظر ما حوله ولا له في معرفة الواقع نصيب.
وحالة التسيب والتفرد واستقلال شخصيات هؤلاء المتصدين لا يمكنها أن تقدم أبدًا وسيلة للتمييز الضروري بين هذه المستويات المختلفة، إذ التمييز ليس هو إلا نتيجة لممارسة وزن الأشخاص وأعمالهم بميزان معين ونموذج محدد موصوف، وهذا التعيين والتحديد لا يتصور حصوله إلا من جماعة تتواطأ عليه مواطأة اقتناعية من لدن بعض أفرادها، تكتمل بمواطأة أخرى تفويضية يتنازل فيها البعض الآخر عن اجتهادهم المخالف ويتعهدون بالعمل وفق اجتهاد الفئة الأولى وإن قلت، حسبما يكون عليه النظام الذي ارتضوه لتحديد العلاقات بينهم وتمثل كل خطة جماعية في حقيقتها مجموعة هذه المواطآت.
وبذلك تصبح هذه الموازين المتفق عليها، المسماة بالخطة: أداة تمييز بين المتصدين للعمل. من وافقها وكانت له القدرة على تنفيذ جزء منها: حظي بوصف الصلاح. ومن خالفها، أو لم يستطع المشاركة في تنفيذ شيء منها: نحي إلى جانب إن لم يستقم أمره بعد محاولة تربوية وتدريبية معه.
فلولا الانتظام الحركي لما كانت هذه الخطة، ولولا الخطة لما كانت تنقية المتصدين، ولظلت جمهرتهم متناقضة دومًا، وفي هذا ما يشير إلى أن ظاهرة الافتتان إنما هي ظاهرة طبيعية في الحركات، بل ما يشير إلى أنها ضرورة لازمة، لما فيها من تنقية مزيج الرجال المتباين النيات والقابليات والاجتهادات.
وكاد الشاعر القديم أن يقترب من هذه الحقيقة لما مدح صاحبه فوصفه بأنه:
*محض إذا مزج الرجال، مهذب*(1/118)
إذ ليس من الممكن استمرار التباين إذا مزج الرجال، بل لا بد من تمحض المهذب الصالح مع أمثاله وظهورهم دون ما هنالك في المزيج من كدر وشوائب وغثاء.
أفرأيت في الفيزياء كيف تعمل القوة المركزية ند حركة الدوران بمزيج ما على فصل مكوناته حسب كثافاتها؟ فكذلك قوة الخطة الصادرة من مركز التجمع، تفضل من خلال دوران دولاب العمل ومن خلال التحرك اليومي الهادف مزيج الرجال حسب كثافاتهم النوعية، فمنهم الثقيل الراسخ، ومنهم الخفيف الطافي، فطرة الله تعالى التي خلق الناس عليها، كان ذلك قدرًا مقدورًا.
ولكن القدر يصارع بالقدر، والأسباب قريبة ميسورة، ولذلك كانت التربية الرفيقة، والنذارة، من الواجبات المفروضة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة.
وأنوار الفطنة الماضية لم تأت إلا في هذا المساق التربوي، الذي يمد صاحب بذرة الحياة بحيوية نماء ورباء.
وفي نفس المساق يرتفع على سارية التربية التحذيرية:
النور العشرون، واصفا جمال:
تعليق الضحية على أمر القادة
فإن مبادرة الداعية إلى التضحية بروحه، بلا استئذان الأمير، مهدورة القيمة عند الفقهاء، مجردة من الفضائل، وربما كانت إثمًا إذا نتج عنها توريط الدعوة بما لم تحسب له حسابًا، وتكون عندئذ فتنة كبقية الفتن.
فقلة إدراك بعض متحمسة الدعاة لأصول العمل، وجهلهم بالواقع الذي يحط بهم، يؤدي بهم أحيانًا إلى فهم التأني والتربية المرحلية أو الحذر في الانتقاء على أنهما بطء قيادي وخوف وإحجام عن الإقدام، فيخرجون إلى تهورات ومجازفات يؤكد النظر التحليلي فشلها ابتداء، وينفون معنى الافتتان عنهم، لما هم فيه من تعريض أنفسهم إلى مخاطر قد تصل إلى بذل الروح.
وإنما هو ظن بعيد توهموه، ولو أرادوا مصلحة الدعوة خالصة من دون موافقةالخفي من شهوات أنفسهم لأعدوا لعملهم عدته الاستشارية، ولحرصوا على انتماءاته الخططية، ولكنهم قوم يستعجلون.(1/119)
ولقد سئل الفقيه التابعي الجليل نافع المدني رحمه الله، مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ووارث علمه، عن تضحية لا يحركها أمر قائد ولا توجبها خطة، فقيل له:
(هل يحمل الرجل إذا كان في الكتبية بغير إذن إمامه؟
فقال: لا يحمل على الكتبية إلا بإذن إمامه) (1).
وهذا جواب صريح: أن المسلم المنتمي إلى كتبية إسلامية لا يهجم علىكتيبة العدو إلا بإذن قائدها.
وظل هذا الفقه يحكم التضحيات، وينظم صرفها قرونًا طويلة، حتى أخذه ابن قدامة الحنبلي، أحد أعلام الفقه المقارن، فقال:
(لا يخرجون إلا بإذن الأمير، لأن أمر الحرب موكل إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه، لأنه أحوط للمسلمين) (2).
فإذا كان هذا هو الأصل، فمن باب أولى أن يمتنع الذي هفا أول مرة واستعجل وأخطأ فصدر له الأمر بالامتناع، فإنه يظل في استثناء، حتى أن الأمر اللاحق الذي يستنفر الجميع لا يشمله، إلا أن يأذن له القائد إذنا خاصا يلغي منعه الأول، فقد:
(سئل الإمام أحمد عن الإمام إذا غضب على الرجل فقال: أخرج، عليك ألا تصحبني، فنادى بالنفير، هل يكون إذنا له؟
قال: لا، إنما قصد له وحده، فلا يصحبه حتى يأذن له) (3).
فلا يباح للمطرود من صف الجماعة، ولا لعموم الدعاة، أن يتحركوا وفق اجتهادهم أبدًا، لشمول الخطر الناجم عن أخطائهم المحتملة وتعديه إلى كل المسلمين، وكم من مشكلات أتت من قبل صاحب هوى، غوى، فطرد، فأراد التعويض من طريق يظنه قصيرًا، ففشل، فأتعب الناس من بعده.
إن البيعة توجب طاعة الأمير في كل خطوة.
(إلا أن يتعذر استئذانه، لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه، لأن المصلحة تتعين في قتالهم، والخروج إليهم لتعين الفساد في تركهم.
__________
(1) مسند الإمام أحمد، حديث رقم 4873.
(2) المغني 8/364.
(3) المغني 8/364.(1/120)
ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي -صلي الله عليه وسلم- فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجًا من المدينة تبعهم، فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي -صلي الله عليه وسلم- وقال: خير رجالتنا: سلمة بن الأكوع) (1).
فافهم أيها المتحمس، وانتظر، فإنما لك من أجر الرباط مثل الذي تظنه من أجر الزحف، وانظر كمينا نصبوه للسذج، يغريهم ويمنيهم برئاسة زحف موهوم، وأعنهم علىرؤيته بقبس من:
النور الحادي والعشرين
الذي يكشف أن:
قيادة الباطل مثلبة، كما أن جندية الحق منقبة
فقيادة الباطل ليست بشيء، ولا لها في العرف والإسلامي قيمة، وإنما هي مجردة من الفضائل، حتى إن نفس صاحب المروءة لتعافها فطرة، وتعتبر إيرادها موضوع مساومة وثمن تأييد من أكبر الإهانة.
وهذا النور أوقده قاضي البصرة المحدث الثقة عبيد الله بن الحسن العنبري المتوفى سنة 168هـ، فكأنه قد دعى إلى خروج عن الطاعة بتمنية من خلابات الرئاسة، فأبى وقال:
(لأن أكون ذنبا في الحق: أحب إلى من أن أكون رأسا في الباطل) (2).
وما زالت البيعة تميز بين الاثنين هنا، تصف المطيع ومن بويع بالحق، وتضع ناكثها في صف المبطلين.
وإنما ديدن المسلم: الأجر من رب العالمين، والأجر لا يأتيك إلا أن تتملق له بفرض ومندوب ومستحب ومكارم أخلاق، وللوفاء نسب مع كل هذه الدرجات، ولمحاسنة مرايا تعكس إشعاعاتهن جميعًا، فتجتمع الانعكاسات في بؤرة لتولد:
النور الثاني بعد العشرين
وعلى ضوئه نعرف أن:
أقوال الحق الصادقة لا تكفي لتزكية قائلها تزكية مطلقة
فقد يتكلم المبطل بكلام من الحق يريد به باطلا كما قال أمير المؤمنين عي رضي الله عنه، وربما يصدق الكاذب، ولكن المعول عليه: سلوك القائل وتصرفه.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) تهذيب التهذيب 7/7.(1/121)
وكم من كلمة هي من الحق الذي لا شك فيه يوجب الورع السكوت عنها في وقت معين أو تجاه سامع معين، سدًا للذريعة، أو ترجيًا لمصلحة أخرى تزاحمها، من تأليف قلوب، ومراعاة لمستوى الفهم، وغير ذلك.
وفي قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان السارق تأكيد لهذا المعنى الذي نقوله، من اعتبار سلوك القائل في الحكم عليه، فقد أخرج البخاري في مواضع من صحيحه بلفظ المتابعة غير الموصولة عن شيخه عثمان بن الهيثم بسند صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وكله بحفظ الطعام المجتمع من زكاة الفطر في رمضان، فأتاه سارق فجعل يحثو من الطعام، فأمسك به أبو هريرة، فاستدر عطفة، فأطلقه، ثم جاءه ثانية فأطلقه أيضًا، فلما جاءه في الليلة الثالثة قال أبو هريرة:
(لأرفعنك إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود:
قال: دعنى أعلمك كلمات بنفعك الله بها.
قال: أبو هريرة: قلت: ما هو؟
قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، حتى تختم الاية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح.
قال أبو هريرة: فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله.
قال: ما هي؟
قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
وكانوا أحرص شيء على الخير.
فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-:
أما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟
قال: لا.
قال: ذاك شيطان)(1).
قال ابن حجر:
__________
(1) صحيح البخاري 3/126 طبعة صبيح.(1/122)
(وقد وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق إلى عثمان المذكور)(1).
ففي هذه القصة مع طرافتها دليل واضح على أن صاحب الشر المبطل قد يتكلم ببعض ما هو حق ويتستر به ليصل إلى مراده، فيجب على الداعية المسلم المرتقي لمدارج الفضل أن لا ينخدع إذا أتته شياطين الإنس تريد أن تسرق ما معه من عمل صالح وتحثو منه في جعبتها الفارغة لقاء ثمن من الكلمات التي تدلل فيها تلك الشياطين على أن لها بعض الحق، بل يكون متيقظا ناظرًا لما تخفيه من أحوالها الباطلة، وشاعرًا بما تبنيه على ذلك الحق الجزئي من نتائج باطلة، فيمسك الداعية بها من معاصمها بقوة، ويسلمها إلى ولي الأمر، ليمنع شرها عن قافلة الخير، فتستمر في السير على توهجات:
النور الثالث بعد العشرين
الذي ينبهنا إلى أن:
سوء الرؤساء دليل ضرر المجموعة
وهو نور قرشي أصيل، أوقده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما خرج يوما إلى طرقات المدينة، فرأى مالكًا الأشتر وصحبه يحاصرون عثمان بن عفان رضي الله عنه يريدون قتله، فقال:
(والله، إن أمرًا هؤلاء رؤساؤه لأمر سوء)(2).
وهذا ميزان مهم غالبا ما ينساه الذين يتعاملون مع الجماعات، ولو فطن له المخلصون لما انخدع أحد منهم بفتنة مفتتن يرفع عقيرته ببعض الحق الذي يريد من ورائه الباطل، فإن كل حزب أو جماعة أو كتلة سياسية أو فكرية تصطبغ في كثير من سياساتها الاجتهادية بآراء قادتها حتى ولو وجد نظام معين ومفهوم مدون لتلك الجماعة، إذ لا يحصر الأساليب جميعا نظام، ولا يحيط بالمعاني كلها تدوين، ولا بد أن يبقى للاجتهاد الدور الرئيس الأول.
__________
(1) فتح الباري 5/392 طبعة البابي.
(2) طبقات ابن سعد 3/72.(1/123)
كما أن روح التقليد عند الأتباع، المؤدية لاستيعاب الإملاء الذي يملي عليهم تضعهم في حالة انشداد للرؤساء، تتضاعف قوتها طرديا مع قابليات الرؤساء الفطرية، من ذكاء وشجاعة وقوة صبر على كثرة التحرك، ومع العوامل المساعدة لها، من تقدم في السن، أو قصة بطولة سابقة، أو نسب عريق، أو بلاغة لسان وقلم، إن لم يكن هناك شيء من التدليس وتسخير من يبث المدح لهم. ومن أجل هذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقالته المشهورة (أخوف ما أخاف على أمتى من عالم باللسان جاهل بالقلب).
لكل ذلك لم يكن الفصل بين شخصيات قادة تجمع ما وبين تجمعهم كله سهلا ميسورًا وإن عدد له في الفكر بنودًا ودون لعلمه دستورًا، بل الصواب الذي ينبغي على المدعو لمناصرة جماعة ما أو دخولها أن ينظر الرؤساء، فإن وجد ثمة أسواء ومثالب ظاهرة أو يرويها الثقات عنهم:
توقف وتهيب وأخذ حذره، وأعرض عن كلام جميل يدور على ألسنتهم لعل الخدعة تقتضيه، كما اقتضت خدعة الصياد أن يقلد أصوات الطيور ويصفر بمثل صفيرها لتنزل وتحط على شباكه المنصوبة.
وقد يرد العكس على جماعة خير تنادت لصلاح تحت قيادة ثقات، مع أن انفرادها دون جماعة خير سبقتها يعد أمرًا مفضولا وليس فاضلا إن لم يكن لها مسوغ قوي يجيز تفردها، ولكن هذا العكس لا يرد أبدًا على جماعة فتنة، تناجت ونكثت بيعة وانحازت إلى جانب وقدمت بعض أهل الفضل لها صدورًا، إذ المقياس يختلف هنا، ولا تمحو فضائل متعددة هفوة النكث الواحدة، وغاية أمر الصدور: أن نحكم عليهم بأنهم بسطاء سذج وقعوا فيا لخلابة فصاروا لا يصلحون كقدرات وإن لم يتعمدوا الإساءة.
[19] انهيار الضرار
يروي أن عبدًا مهديا داعيا إلى الله تعالى نظر يوما إلى أصحابه من حوله، فأعجبه الذي هم فيه من جمال التعبد والإخاء.
ثم نظر أخرى، متأملا تقلب القلب، فأطرق، وبشعور مزيج من السرور والتخوف قال لهم:
(يا ملح الأرض لا تفسدوا، فإن الشيء إذا فسد لا يصلحه إلا الملح).(1/124)
فكانت منه حكمة صادقة، تشهد حروفها أنها من كلام أهل التربية وممارسيها.
وكأنه ما من مصلح مرب إلا وصى بها أصحابه مرارًا وحين موته.
فجراثيم التسمم، وبكتيريا العفونة، لا تنمو في بيئة ملة. وكذلك أهل الفساد، لا يستطيعون رفع رؤوسهم في بيئة يكون فيها الناهون عن المنكر.
إنه تصوير لواقع القلة المؤمنة من دعاة الإسلام بين الكثرة اللاهية المسترسلة مع أمور دنياها.
بهم يصلح الله كل فساد اجتماعي، فيقومونه من بعد الإعوجاج. وهم الذهيرة للأمة يحفظون لها مصالحها كلما ضيعها شهواني ظلوم، فيرجعونها إلى مكانة العز التي تنبغي لها.
فإذا أعوج الدعاة أنفسهم، وضيعوا رابطة إخائهم، وألفوا بعض المنكر، فنم للأمة يصلحها؟ ومن للمجتمع يزكيه؟
لذلك بات النداء إلى التحابب وإيطاء الأكناف، ثم التواصي بإنكار المنكر، ركنين مهمين في التربية الجماعية الإسلامية، يكفلان تمكن الدعاة من أداء دورهم الواجب في مصادمة الفساد.
فالإخاء: يحفظ المجموعة، ويمنع التسيب، ويكسب الإنكار فاعلية تأثيرية.
والتواصي: ينقل المجموعة إلى الشجاعة في المواجهة والصبر عليها، وبهذين الركنين التربويين تمكنت دعوة الإسلام الحديث من إنتاج (جماعة إنكار متآلفة) أحيت سمت إخاء إيماني انقطع لقرون طويلة، وطفقت تضرب في النهي عن الفساد الأمثال، فشدت قلب يوسف القرضاوي إليها، فراح يصف في سنة 1370هـ حسن نماذجها:
أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم
…………والناس تزعم نصر الدين مجانًا
عاشوا على الحب أفواها وأفئدة
…………باتوا على البؤس والنعماء إخوانًا
الله يعرفهم أنصار دعوته
…………والناس تعرفهم للخير أعوانا(1)
هكذا، ليس غير.
أعوان خير، يقدمون ضريبة نصر الدين، على درب من الحب.
فلا عجب أن يكونوا الخط البارز في صورة الإسلام الحديثة.
__________
(1) مجلة المباحث عدد 30.(1/125)
ولا عجب أن يحرص كل ذي حرص على منع من يريد لهم انفراطًا يحرمهم القدرة على ممارسة الإنكار، ويضع في دربهم أحجار العثرات، فذاك سبب إيقادنا للأنوار.
غيرة على بهاء المنظر ونقاء الصورة من جانب، وكشفا للمتصدي الجريح الضعيف المتكلف لحشر نفسه في فجوات صفوف الصورة من جانب آخر.
فالأعمش تكثر في عينيه أشعة أنوار الفطنة، فتبهره، فيضع كفه على وجهه، ويطلب التواري، والأجهر يكون قريبا من النور وهو لا يبصره.
ولكن سليم العين يلتذ، وربما كان كمن ينظر من خلال عدسة تكبير.
أعمى وأعشى ثم ذو …بصر وزرقاء اليمامة
سبحان من قسم الحظو…ظ فلا عتاب ولا ملامة
قدر وحظ لم يقسما للأعمش والأجهر أن يتمتعا بما سبق أن أوقده فقه الدعوة من أنوار.
أما الموفق فأهل لأن يزداد لذة، وأن نرتقى لأجله ساربة أخرى، لنعلق عليها مصباح:
النور الرابع بعد العشرين، فيتألق بوميض:
الحرص على نجاة النفس
…فإن الإمارة أمر شديد، من لم يستطع الوفاء بلوازمها قد يتعرض يوم الحساب لنقاش دقيق، وكل إنسان خبير نفسه، ويفترض فيه أن يقدر تقديرًا صحيحًا قدرته الفطرية على قيادة قومه ومدى دخل الظروف المحيطة به وظروفه العائلية والمعاشية والصحية في أدائه لدوره، فمن ساق نفسه إلى رئاسة وهو يعلم أن في الجماعة أفضل منه وأمهر، وأنه سيسبب ضياع فوائد، ويعجز عن سد ثغرات محتملة: فقد ظلم.
ولهذا خاطبك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يسألك الرفق بنفسك من غد لا تدري عظيم غضب الله عليك فيه، فقال:
(نفس تنجيها: خير من إمارة لا تحصيها)(1).
…إذ الإمارة تحتاج إلى إحصاء من أطرافها، ورعاية وحسن أداء، وأنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها، ولا يصلح لها من كان على مثل ضعف أبي ذر رضي الله عنه ولو كان على مثل ما كان عليه من صدق اللسان وجمال العبادة.
__________
(1) الفوائد لابن القيم/145.(1/126)
…وهذا المقدار هو من العلم الذي لم نر له في طلاب الرئاسة جاهلا، لكنهم يؤخذون ويفتق عليهم من باب التقليد والمحاكاة، وقول: ليس فلان أفضل مني: فإن أحدهم يرى التنافس في الرئاسة يشغل اقرانه، ويظل يرقب ما يشجر بينهم، حتى ينسى معاني علمه، ويتأثر بمنظر التنازع دون قول فقه الدعوة.
…وإنما كان خبير الفتن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يتخوف من مثل هذا، ويعده باب ما بعده من الإرتكاسات، فقال:
(إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون).
هذا من مجرد الرؤية والمراقبة، فكيف إن اجتمع معها ترغيب وتشجيع ووصف لذات وجدوها؟
لا شك أن مخالفة العلم ستكون أسرع، والاستجابة أكثر احتمالا.
ولذلك دعاك الزاهد يحيي بن معاذ إلى الاعتصام بميزان ثالث في هذا الموطن تميز به صدق الخطيب الذي يدعوك فجزم لك بأنه:
(لا ينصحك من خان نفسه).
فالمنازع في الرئاسة، الملحاح في نزاعه، قد ورط نفسه، وأضعف احتمالات نجاتها، وتلك خيانته لها، فكيف يرتاد لك الخير من بعد؟
فانظر ناصحك، وسائل قلبك: هل خان نفسه ثم أتاك، أم لا زال يكتال الحسنات؟
فإن كان ناصحًا لنفسه: عرضت مفاد نصيحته على أنوار الفطنة لتؤيدها أو تكشف سذاجتها. وإن كانت الأخرى: أعرضت.
وإلا، فإن الزيغة الأولى منك تجلب ثانية رغما عنك، فإنها العقوبة الربانية:
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).
وسعيد بن جبير إمام التابعين ينذرك:
(إن من ثواب الحسنة: الحسنة بعدها، وأن من عقوبة السيئة: السيئة بعدها)(1).
فالزيغ ولود، كما أن الإحسان ولود ودود.
لابد من ذلك، حتى قال فقيه المدينة عروة بن الزبير بن العوام.
(إذا رأيت الرجل يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات. وإذا رأيته يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات) (2).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/11.
(2) تهذيب التهذيب 7/183.(1/127)
فتتوالي عثرات المصغى لخائن نفسه، حتى لقد رأينا في بعض البلاد رأي العين من طلب ذروة الرئاسة على قوم دعاة قد تراجع إلى الخلف بتدريج لما لم يحصل له مراده، فترك الأمر بالمعروف أول مرة، ثم ترك المسجد، ثم ترك نفس الصلاة واكتفى بالجمعة، ثم ترك الجمعة، ثم أفطر رمضان، ثم أصبح يغيظ في نهار رمضان من يمر أمامه من الصائمين ينفث الدخان قرب وجوههم.
أفغير العقوبة أحاطت به؟
وهذا ما يدعوك إلى أن تفقه بدايات الفتن المقبلة من النظر إلى نهايات الفتن السابقة، فإنه قل من نجا من تراجع بعد الإفتتان.
ولذلك فإننا لا نجد أجمل من حرص الداعية على نجاة نفسه، وإلحاحه في طلب:
النور الخامس بعد العشري، المعين على:
تمييز الغايات الصدامية في مساجد الضرار
كما ميزها الذين سبقونا في الانتماء إلى هذه الدعوة المباركة وعاصروا ذروة نشاطها هقبل أن تمتحن ورأوا كيف يعمل أعداء الإسلام على تسقط أبار المخالفين، فيدسوا إليهم من يؤزهم أزًا زائدًا، ويعيب عليهم القعود عن الانتقام، ويحملهم على تجميع كل حانق في كيان منافس يرصد نفسه للمناوشة وتثبيط الجدد، ثم يتم اختيار اسم كبير ضخم لكيانهم يحاولون من ورائه تحويل الانتباه إليه.
وإنما هي مساجد الضرار يعاد بناؤها، بهندسة جديدة ولون مبتكر، لها إلى مسجد الضرار الأول نسب، ومع تاريخه ارتباط.
ويسألون: كيف تكون لنا جرأة على هذا الاتهام ودعوة الإسلام ليست حكرًا على أحد، بل لكل مسلم أن يتجمع ويعمل كيف يشاء؟
ولسنا بحمد الله للعمل حاكرين، ولكن يبطل عجب المتسائلين فحصهم لأطوار عمل من ننسبهم إلى الضرار، إن كان تأملهم لواقع المسلمين يحملهم على مصاولة حركات الإلحاد وأحزاب العمالة وتبليغ معاني الإسلام إلى السائلين اللاهين، أم هم قد عافوا أولئك وحاموا حول دعاة الإسلام ومناصريهم يصادمونهم ويثبطون، ويجادلونهم فيلهون؟(1/128)
إن جماعة تدعي الإسلام، ثم تترك المجتمع الماجن والمنكر المستشري، والشباب الضائع، وتتجه إلى المصلين والملتفين حول دعاة الإسلام تزين لهم الانتساب إليها، وتلح في تهوين أمر الدعاة الآخرين، ورميهم بالاستبداد والافتقار إلى الوعي، لهي أحرى الجماعات باسم مسجد الضرار.
ومن ذا الذي في قلبه ذرة إيمان وألم على المصير الذي آل إليه أمر المسلمين ثم لا يفرح ويهش ويبش لأقوام يعالجون المرض ويستدركون الانفراط، وإن خالفوه في الاسم والأسلوب؟
ولكننا نعيب الصدام، وإلهاء العاملين، وندعو الذي لم يعجبه أسلوبنا واجتهادنا ويحاول العمل في جماعة أخرى إلى أن ينظر: أهي في تبشير وإنذار بمعاني الإسلام في الأوساط العامة وعلى اتصال بأفراد أهملهم الغير، أم تركت أولئك وأوساطهم والتفتت نحو مسلمين يعملون في مقاومة الفساد، تماريهم، وتحصى لممهم وتلبسه لباس الكبائر؟
فإن كان ديدنها الصدام: توقف وأحجم وربأ بنفسه عن أن يشارك في إشغال السائري، وإن وجد خيرًا: نظر الأمر ثانية على أضواء أنوار الفطنة الأخرى، عسى أن يكون الخير مفضولا أو محفوفا بخطر سوء الرؤساء.
إننا نقولها صريحة: إن من الأهمية بمكان أن يعرف كل من يريد المساهمة في النشاط الإسلامي أن المسجد الضرار النفاقي الأول:
(ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين. تتخذ في صورة نشاط ظاهرة للإسلام وباطنة لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير ولا خوف عليه ولا قلق. وتتخذ في صور شتى كثيرة)(1).
__________
(1) في ظلال القرآن 11/37.(1/129)
كذلك فإن من الخطورة بمكان أن يعطي المخلص أذنا صاغية منه لمن كان في مسجد ضرار ولم تشتهر له توبة حتى ولو انفرط عقد أصحابه وانهدم بنيانه وظن المخلص أنه سيتعامل مع فرد لا يستطيع الإضرار، فإن النفس تبقي موتورة خانقة غاضبة.
فيومها لما هدم الله الضرار الأول بأيدي المؤمنين: بقيت ريبته في صدورهم، فقال الله تعالى بعد انهياره:
(لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
وهي إشارة إلى طبيعة أصحاب كل ضرار، في كل زمان، بعدما يهدم الله بنيانهم.
فلقد انهار الجرف المنهار، (ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته. بقي فيها ريبة وشكا وقلقا وحيرة. وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر. إلا أن تقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور.
وأن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار.
تلك صورة مادية، وهذه صورة شعورية، وهما تتقابلان في الواقع البشري المتكر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار)(1).
ومثل هذا العنصر القلق ليس أهلا أن نلتمس عنده النظر العادل حتى نمنحه السمع المصغي، بل نتجاوزه، ونطلب الخير على شعاع.
النور السادس بعد العشرين اللامع بمعاني:
مضاعفة الحذر من فتن آخر الزمان
فنحن أقرب إلى الساعة مما كان عليه المسلمون قبل أربعة عشر قرنا حين نزل قول الله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) وهذه علامات تترى، وليس بآخرها، تطال الحفاة العراة في البنيان، وتوسيد الأمر إلى غير أهله، ولفائف كأسمه البخت المائلة فوق رؤوس الكاسيات العاريات.
وفي الحديث الصحيح أنه:
(لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى) (2).
__________
(1) المرجع السابق.
(2) صحيح مسلم 8/180.(1/130)
وبصري قرب الجولان جنوب دمشق.
وقد تحدث مؤرخ المدينة السمهودي عن نار عظيمة التهبت من باطن الأرض وسالت أيامًا قرب حرة المدينة الشرقية سنة 654هـ حتى جمدت حجارة سوداء، وكان نورها يشاهد من أطراف الحجاز، وشهد رعاة الإبل ببصري أن إبلهم حصل لها التفات غريب لا يدرونه(1).
فإن لم تكن هذه النار هي المقصودة في الحديث فإن نارًا وشيكة الخروج بالحجاز ستصاحب اكتشاف حقول النفط فيها بعد العزم على التنقيب وازدياد احتمالات وجود النفط حاليا قد تكون هي النار التي ستمد لها أعناق الإبل ببصرى، والله أعلم.
وللمحدث الهندي صديق حسن خان كتاب (الإذاعة لما كان وسيكون بيدي يدي الساعة)، جمع فيه علاماتها، وقد أعيد طبعه.
وليس للمؤمن إلا أن يصدق ويوقن بقرب الساعة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن الأخذ بالأسباب والعمل بظاهر الشرع، فإنه لا يدري ما بين العلامات وبين قيام الساعة من زمن ومدة.
والمهم الذي يجب أن يفطن له الداعية أثناء انتباهه لإحصاء علامات الساعة ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلة الإيمان واضمحلاله عند اقترابها، فيأخذ حذرًا مضاعفًا إزاء كل سبب تواترت عند المؤمنين كثرة تأديته إلى ذاك الاضمحلال.
ومراقبة تواريخ الفتن ومصائر المفتنين يرينا ترديا كثيرًا ما سار فيه الخارج عن الجماعة، ووصل به أخيرًا إلى ترك الصلاة والتنصل من الالتزامات الإسلامية.
ولذلك وجب أن يجفل الداعية من اسم الفتنة، ويقشعر جلده من كل نداء عصيان لأوامر الجماعة وخطتها، ألا يسير في طريق ضمور والإيمان في ظرف مساعد من طبيعة آخر الزمان، حيث (تكثر الفتن) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف لا والنفاق في آخر الزمان يعم الاقطار حتى يغزو نفس المدينة المنورة التي هي معقل الإيمان وداره؟
ففي الحديث الصحيح:
(إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)(2).
__________
(1) رسائل في تاريخ المدينة، نشرها حمد الجاسر.
(2) صحيح البخاري 3/26.(1/131)
ولكن مع ذلك فإن أهلها لا يستطيعون في آخر الزمان الثبات على إيمانهم، فيتركونها استكبارًا ونفاقًا وهي على أحسن ما تكون من وفرة الثمار والعمران، ويأبون أن يجاوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يوصفوا بأنهم من سكنة المدينة، والعياذ بالله.
وقد ورد الخبر الصحيح بذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العواف، يريد: عوافي السباع والطير.
وآخر من يحشر: راعيان من مزينة يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع: خروا على وجوههما) (1).
(وروى مالك عن ابن حماس عن عمه عن أبي هريرة رفعه: لتتركن المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الذئب فيعوي على بعض سواري المسجد أو على المنبر، قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: للعوافي: السباع والطير.
أخرجه معن بن عيسي في الموطأ عن مالك، ورواه جماعة من الثقات خارج الموطأ(2)).
(وروى عمر بن شبة باسناد صحيح عن عوف بن مالك قال: دخل رسول الله المسجد، ثم نظر إلينا فقال: أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عامًا للعوافي)(3).
وعمر هذا ثقة، وهو:
(عمر بن شبة بن عبيدة.. البصري، النجوى الأخباري نزل بغداد.
قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي وهو صدوق صاحب عربية وأدب.
وقال الدارقطني: ثقة.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مستقيم الحديث)(4).
أفرأيت؟
أهناك أشنع من هذه الفتنة وأكثرها منها هولا؟
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الذئب فيعوي عليه! وسواري مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صلى عندها كبار الصحابة وأفذاذ الأعيان يعوي عندها الذئب!
فإذا كانت مثل هذه الفتنة العارمة تحدث في موطن الإيمان ولا يسلم منها مؤمنو المدينة، فكيف بمقدار الخطر الذي تفتحه علينا الفتن في غيرها من البلاد؟(1/132)
إن الداعية يعتبر، ويدع الكثير مما يراه بعيدًا عن البأس خوفا أن يكون بابًا وذريعة توصله إلى ما به البأس.
ولفؤاد البصير رجفة مميزة عند ذكر هذه الأخبار، تلجئه ولابد إلى حذر مضاعف يحفظ به ثروة الأعمال الصالحة التي حازها من خلال نشاطه غاديا ورائحًا في مصالح الدعوة، ألا يبددها في صفقة غابنة، مع صرخة فاتنة.
[20] دماء على المصحف
يرينا استقراء واقع العمل الإسلامي وتاريخه القريب، في كثير من البلاد، أن أي قوة من قوى الحركة الإسلامية وتجمعاتها، حين تنطلق انطلاقا مبدؤه النية الخالصة لنيل رضا الله سبحانه، فإن (شمولية الإسلام) تسهم مفاهيم الحركة بسماتها، مقرونة باتجاه عملي لانتشال أكبر عدد ممكن من الشباب من براثن الضياع. وتظهر هذه الشمولية ورغبة الانتشال واضحة في مفاهيم الجماعة وشروطها، فترى جناسا بديعا بين أحكام الإسلام كلها بارزة في تصرفات دعاتها وسلوكهم، لا تخطئ عين المعامل لهم رؤية ما فيه من بيان وبلاغة تطبيقية، كما ترى خطابها للناس بسيط بعيدًا عن التكلف والاجتهاد الغريب يجعله مفهوما لدى الجميع، مع شرط متشدد في التجميع والتأمير يمنع احتمال الانحراف.
فالجماعة الصحيحة الاتجاه لا تعرف (القصورية)، ولا يفضح مستوى أعضائها التربوي قولها وادعاءها، بل هم يعظون ويبشرون بحكمة، ويجعلون بينهم وبين البدعة سترًا، ويربأون بأنفسهم عن تجزئ يحصر قضية الإسلام في ثانويات يطغي الاهتمام بها على أصول العقيدة وعلى ما تعم بإهماله البلوي على الأمة من الأحكام، مثلما يربأون بها عن الاصطلاح المبهم، والجدل في الفروع، إذ ليس عمل الدعوة محاورات فلاسفة أبدًا.(1/133)
ولذلك كان لابد أن ترفع مثل هذه الجماعة أثناء مراحلها الأولى من خططها احتمال قبول من يخالف سمتها هذا بين صفوفها، وأن تلغي بتاتًا رغبة التكاثر بالأعضاء، إذ أن الهدف الذي من أجله وجدت الحركة الإسلامية أرفع من مجرد التكاثر وأسمى، ولا تحل أزمة المسلمين الحاضرة بكثرة المتجادلين في الجزئيات، فإن الناس تلفهم ظلمات متراكبة، من البدع، أو الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض. كما أن دعاة الإسلام أنفسهم ربما لفتهم ظلمات الرياء والهوى ومحبة الرياسة، والحاجة ماسة إلى إيقاد أنوار إيمانية تجلي الظلام الذي سجى.
فليس دبيب الذر فوق الضفاة في …الظلام بأخفى من رياء ولا شرك
فهما يتسربان بأخفى من مشية النمل فوق صخرة ملساء في ليلة ظلماء.
فأما الشرك الخفي فهو ما يقع فيه الناس اليوم من الاحتكام إلى غير ما أنزل الله تعالى جحودًا وتكبرًا.
وأما الرياء فهو ما يقع بسببه الخلاف بين دعاة الإسلام أحيانًا، فترتفع معه الأخوة ولا ينتهي حتى يقوم شاعرهم يعاتب ويوبخ:
أبعد الصفاء ومحض الأخاء
بقيم الجفاء بنا يخطب؟
وقد كان مشربنا صافيا
زمانًا، فهل كدر المشرب؟
وكل أحد يعلم أنه زلال لم يكدر، ولم تغيره الشوائب، فإسلامنا هو إسلامنا.
ودعوتنا هي دعوتنا.
وأساليبنا تزيد تجارب الأيام صفاء.
ولكن النفوس هي التي تتكدر، فيتغير المذاق، ويصبح الحلو مرًا.
والظلام يلف هذا الشارب المتكدر، مثلما يلف ذاك الكافر المتعثر، وإن اختلف أسوداده.
فمن أحسن قولا، وأوقد نورًا، فهو للصواب قد فعل، ومن خالف وسار عكس الاتجاه: ناديناه أن:
*خل الطريق لمن يبني المنار به*(1/134)
لا لأننا نحتكره، أو نرى ضيقه، بل هو طريق فسيح عريض، ولم تجد الأثرة لها فيه ثغرة لتدلف منها فتسده، ولا يقف التعنت خلف أبوابه ليمنع ولوج مخطئ قد استبد به الحنين، وملك عليه التحذير من الصفقة الغابنة جوانب قلبه، فأطلق منه لسان الاعتذار، وعزم على الأوبة إلى مباهج الفطنة، ولكن لأن الشرع أعطانا حق إزالة أسباب الضرر التي توضع عبر طريقنا، وإنما نحن بناة منارات هدى، ليس لذي معاكسة أن يزاحمنا في طريق مهنتنا التي شغفناها حبا في هذه الحياة، وما من مخلص إلا ومتاعب الأمة تخاطبه أن يساعدنا ويشد أزرنا، أو يدعنا نوقد الأنوار، ونواصل رفع القواعد من:
المنار السابع بعد العشرين، الناشر لإشعاع"
الاتعاظ بالتاريخ
فإن التاريخ يكشف لنا عن دور اليهود في تجريح القيادات المسلمة كلما رأوا نجاحها وفشل أساليبهم الأخرى في محاربة الإسلام، بل أصبح النيل من القادة، ومحاولة تحطيم مكانتهم المعنوية في نفوس المسلمين، هو الأسلوب المفضل عندهم.
إنه (التماسك حول العقيدة القومية والقيادة الأمينة هو الذي يتعب اليهود وأعداء الجماعة المسلمة –في كل زمان- وهو الذي يكلفهم الجهد والمشقة، ومن ثم تتجه جهودهم أولا لتحطيمه)(1).
وتوضح الفتنة التي حدثت زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا الدور والتخطيط اليهودي جليا، ودورانه حول محور واحد هو: إفساد طاعة الجنود لأمرائهم.
فقد كانت لعثمان رضي الله عنه اجتهادات في أمور بسيطة استغلها المغرضون في التشنيع عليه وإلباسها لبوس الإحداث في الدين، مثل إتمامه الصلاة في منى أيام موسم الحج، وحرق المصاحف التي تخالف مصحفه الذي دونه كبار قراء الصحابة بإشرافه، وإنهائه نفي الحكم بن أبي العاص ورده إلى المدينة بعد أن أبعده النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها. وله خطبة أثبتها ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم) بين فيها صواب اجتهاداته هذه .
__________
(1) في ظلال القرآن 4/222.(1/135)
ولكن اليهود رصدوا هذا الاختلاف البسيط في الصف المسلم، فدسوا رجلا منهم تظاهر بالإسلام، اسمه عبد الله بن سبأ، ليطور الخلاف إلى فتنة عارمة.
يقول الطبري في تاريخ:
(كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عنه أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر).
لكنه كان يتسقط خلال رحلته هذه كل سارق وقاطع طريق ومفسد نالته عقوبة من أحد الولاة فتوترت نفسه، ويواعدهم أن يكونوا بالمدينة أيام يكون الناس حجاجًا بمكة، لينقلبوا على عثمان والناس غافلون.
ووضع لهم خطة أوجزها بقوله لهم:
(انهضوا في هذا الأمر، فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تستميلوا الناس، وأدعوهم إلى هذا الأمر)(1).
هكذا، باسم الأمر بالمعروف يكون الهدم.
إنها الخطة الدائمة لكل ذي هوى.
وباسم مصلحة الدعوة تتطور الخلافات اليوم إلى فتن.
ثم كان من ابن سبأ أن:
(بث دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء)(2).
وبهذا فسدت النفوس، وحان يوم انقلابهم، فإذا بهم حول دار عثمان يحاصرونها، ثم دخلوا عليه وانفردوا به ليأتوا بالعجائب!!
__________
(1) تاريخ الطبري، الطبعة الأولى، القسم 6/2946/3018/3020.
(2) تاريخ الطبري، الطبعة الأولي، القسم الأول 6/2943/3018/3020.(1/136)
(فضربه الغافقي بحديدة معه، وضربه المصحف برجله، فاستدار المصحف واستقر بين يديه، وسألت عليه الدماء) (1).
(فسال الدم على المصحف وهم في ذلك يهابون في قتله، وكان كبيرًا، وغشى عليه، ودخل آخرون، فلما رأوه مغشيا عليه جروا برجله، فصاحت نائلة وبناته، وجاء التجيبي مخترطًا سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة، فقطع يدها، واتكأ بالسيف عليه في صدره، وقتل عثمان رضي الله عنه)(2).
(وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات قال: فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى: وأما ست فلما كان في صدري عليه.
وأرادوا قطع رأسه، فوقعت نائلة عليه وأم البنين، فصاحتا وضربتا الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه، وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه، فكسر ضلعًا من أضلاعه)(3).
فبربك: أهذا خلاف بين مسلمين أم مجزرة شيوعية كمجزرة الموصل؟
هكذا أعداء هذا الإسلام دومًا.
يريدون قطع رأس الجماعة، وكسر أضلاع تنظيماتها، والمبرر: (لله) كما قال ابن الحمق!!
وبصيحة (لله) هذه ضاع ألوف من شباب الدعوة بالأمس القريب، وثبطت جموع، وكشفت أسرار، وملئت سجون.
ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركا: (ست لما في الصدر)!!
وأراد أهل عثمان دفنه.
(فلما سمعوا بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وهم يديرون به حائطًا بالمدينة يقال له: حش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما خرج به على الناس رجموا سريره، وهموا بطرحه).
ذلك أنهم منعوا دفعنه بالبقيع وقالوا:
(والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبدًا)(4).
وقتل مع عثمان عبدان دافعا عنه، (فجر بأرجلهما، فرمي بهما على البلادط، فأكلتهما الكلاب)(5).
__________
(1) تاريخ الطبري، الطبعة الأولي، القسم الأول 6/2943/3018/3020.
(2) تاريخ الطبري، الطبعة الأولي، القسم الأول 6/2943/3018/3020.
(3) الكامل لابن الأثير 3/179.(1/137)
فانظر كيف تطور الاعتراض على الاجتهادات إلى قتل، وكسر ضلوع، وتمثيل وطعنات ودفن في مقابر اليهود، وتقديم جثث أعزها الله وكرمها طعامًا للكلاب!!
فهل يأمن المخلصون إذا لم يسلكوا سبيل الاعتراض الصحيح اليوم ومالوا إلى تشهير وافتتان أن تنتهي اعتراضاتهم إلى أضرار كبيرة؟
لا والله، فإن من شأن الفتن دوما أنها تتطور وتفلت السيطرة عليها، والفطن من وعظه التاريخ، وسارع إلى تناوش قبس من:
النور الثامن بعد العشرين، المتوقد بجمال:
الإعراض عن الجاهلين
فإن الخارجين يديمون الاحتكاك بأفراد الجماعة كي يبقوا مادة لتماسكهم، ولابد من تفويت مقصدهم بالسكوت وعدم الالتفات إلى تحرشهم، مع نظرة رأفة ورحمة لهم تقود لسان أحدنا إلى أن يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فمن أخلافه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يغضب لنفسه قط، وهذا يوجب على الداعية إن سمع كلمة تعريض به أن لا ينفعل، إن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وقد قال الله تعالى عن نفسه (وهو يتولى الصالحين)، والإعراض عن الجاهلين معنى من معاني الصلاح قطعًا.
وليعلم الداعية أن مدافعة الخصوم لا تكون أشد من مدافعة الأعداء في ساحات القتال، والمدافعة في ساحة القتال لا تكون بالالتحام دائمًا وإنما هناك الاختفاء والسكوت أيضًا، ولما نادى أبو سفيان المسلمين في معركة أحد بأعلى صوته: هل فيكم محمد؟ هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ لم يجبه أحد، مع أن الجواب كان أبعث للغيظ في قلب أبي سفيان من السكوت، ولكن الموقف كان يستلزم السكوت.
فإذا حصل مثل هذا في سوح القتال فحصوله في الحياة اليومية أولى.(1/138)
إننا أصحاب دعوة أيها الأخوة، ولا يجوز أن ننزل عن مستوى دعوتنا الرفيع إلى حضيض التراشق بردئ الكلام، ولا يعذرنا الله إذا تركنا هذا المستوى العالي الذي أكرمنا الله به بحجة أن غيرنا جرنا إليه، إذ المؤمن لا يترك درجة من درجات إيمانه باستغواء من شيطان أو بجهالة من جاهل، بل من الواجب أن نقول: الله اغفر لنا وله، واهدنا وإياه، ولا تجعل غضبنا لأنفسنا، ولا في عملنا شيئا من أهوائنا.
فإذا قلنا ذلك فإن سكينة غامرة ستتنزل على قلوبنا تزيد متعتنا بأضواء:
النور التاسع بعد العشرين، حين يكشف لنا سبيل:
كتبت الإشاعة
بعدما عاب الله إذاعتها في قوله:
(إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً).
(والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة، لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث، ولم يدركوا جدية الموقف، وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال؟ أو ربما لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر.(1/139)
وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها، حين يتلقاها لسان عن لسان، سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف، فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة، فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو... إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي مهما تكن الأوامر باليقظة، لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر، وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية.
كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة، قد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكًا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف، وقد تكون كذلك القضية.
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه، أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته، أو هما معًا، ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك، باحتوائه طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء، وهذه الخلخة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني.
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح:
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن –بشرط الإيمان ذاك وحده- حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره، لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه، أو بين من لا شانه لهم به، لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر –حتى بعد ثبوته- أو عدم إذاعته) (1).
فمن أرته هذه الأنوار طريقة فهو الموفق، وإلا أوقدنا له:
النور الثلاثين كمحاولة أخيرة:
وهو نور تحذيري أحمر اللون ينذر بالخطر البالغ، ويشير إلى وجوب:
__________
(1) في ظلال القرآن 5/171.(1/140)
خوف تنكر الأرض والمؤمنين للخوالف
فكل امرئ لاقى الذي كان قدما، وكل امرئ يجزى بما كان ساعيا، وجل حصاد المرء من حيث يزرع.
فمن خالف الجماعة فإنه لن يجد إلا وحشة، حتى قال كعب التائب رضي الله عنه: (تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف).
(فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو، ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب) (1).
(والخوف والهم: مع الريبة، والأمن والسرور: مع البراءة من الذنب.
فما في الأرض أشجع من بري ولا في الأرض أخوف من مريب وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع)(2).
وإنه لمما يحرص عليه المؤمن العاقل أن يكثر من يحبه من المؤمنين، ويديم محبتهم له حتى ساعة موتة، ليصلوا على جنازته فيقولوا: اللهم اغفر لحينا وميتنا، اللهم اغفر لنا وله.
وهذا كما حرص عليه كعب بن مالك التائب رضي الله عنه، فإنه وصف نفسيته أيام المقاطعة فقال:
(ما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي -صلى الله عليه وسلم- ، أو يموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي علي) (3).
فالذي لم تعجبه قواعدنا وموازيننا وأنوارنا السابقة، ويتأول لخلافه مع ذلك بعض التأويل، مدعو إلى أن يرهب مقاطعتنا له، ألا يموت من غير مستغفر له من الدعاة.
ذلك أن الفقهاء أجازوا لنا ترك السلام على مقارف الذنب، وترك رد السلام عليه، تأديبا له، وخلع البيعة، ونكث العهد، من أكبر الذنوب.
نعم، يجب أن نوقع هذه العقوبة بحذر بالغ، وبأمر الأمير لا بمبادرة من الأتباع، ولكن الفقه أجازها استثناء من الأمر بإفشاء السلام، لتعلقها بمعنى الردع والتأديب.
قال أبو داود:
(إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا شيء، وإن عمر بن عبد العزيز غطى وجهه عن رجل).
__________
(1) زاد المعاد 3/20.
(2) المصدر السابق.
(3) صحيح البخاري 6/88.(1/141)
قال: (وابن عمر هجر ابنا له إلى أن مات)(1).
وقد خصص البخاري أكثر من باب في صحيحه لبيان جواز ذلك فقال:
(باب: هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيادة ونحوه؟)(2).
ثم أورد حديث الثلاثة الذين خلفوا كجواب على سؤاله، تدليلا على الجواز:
وقال أيضًا:
(باب ما يجوز من الهجران لمن عصى) (3).
وأورد حديث الثلاثة أيضًا:
وعلى ذلك مضى فعل العلماء، وعلى الأخص هجرهم لمن يبتدع.
بل كانوا يهجرون أشقاءهم، كما حدث للمحدث الصدوق الثقة أحمد بن حرب الموصلي، إذ:
(هجرة أخوه على المسألة اللفظ)(4).
أي لقوله: لفظي بالقرآن مخلوق، مع أن قوله هذا تحتمله مذاهب أهل السنة، ولكن جهره به في وقت شاعت فيه بدعة خلق القرآن أجفل أخاه فانكر عليه، وهجره.
وكان إبراهيم بن المنذر الحزامي المدني من ثقات العلماء، ومن شيوخ البخاري وغيره، ولكنه أثناء محنة خلق القرآن لأن وخلط، فذمه أحمد، ولم يرد عليه السلام(5).
ومن مثل هذا استل ابن تيمية مشروعية الجر للمخطئ وإن كان من أهل الفضل في جوانب أخرى(6).
وكل هذا مما فصله الحافظ ابن حجر بتفصيل جيد، فقال: (ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع).
قال: (وقال المهلب -أحد شراح البخاري-: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة).
(وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطي خوارم المروءة، ككثرة المزاج واللهو وفحش القول والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء، ونحن ذلك. وحكى ابن رشد قال: قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء، قال ابن دقيقة العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم، والتبري منهم).
__________
(1) سنن أبي داود 2/577.
(2) صحيح البخاري 9/102.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/277.
(4) صحيح البخاري 8/26.
(5) تهذيب التهذيب 1/23/167.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/277.(1/142)
ثم قال: (وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام، كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك).
قال (وهو مما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام عند الجمهور)(1).
وليس ترك الجماعة والنزاع معها وعصيان أوامرها بأقل من هذه الذنوب التي ذكرها جمهور الفقهاء، والتحلل من الوفاء ببيعة واجبة من أكبر خوارم المروءة فوق كونه حرامًا.
فانظر لنفسك أيها المخالف.
إن كنت تتأول لنفسك وتأبى التغافر والإلتفات إلى عيب النفس، و تلزم النجوى، والجل، ولا تقيس حالك على التعرب بعد الهجرة، ولا تريد الاتعاظ بالتاريخ، ولا تتقى طبائع آخر الزمان، فهلا ترفق بحالك إزاء مؤمنين سوف لا يسلمون عليك ولا يستغفرون على جنازتك يوم موتك؟
فاحفظ مصلحتك، وتواضع، وامش مع القافلة، نحفظ لك حقك ما دمت حيا، ونوصلك إلى قبرك باستغفار، ولا ندع النائحة المستأجرة تنفرد بنعيك!
[21] نهضة العاثر
بلغنا أن زاهدًا كان كثير الوصية والنصح لأصحابه، يروي لهم كل يوم طرفا من تجاربه في الحياة وتأملاته في طبائع النفوس، فلما أنهى حديثه قال له مقدم أصحابه: لو أوجزت أيها الشيخ معناك في جملة تكون لنا شعارًا!
فقال الشيخ: نعم، أفعل.
فقام، وكتب على الجدار الذي يجلسون عنده، بخط كبير:
(لا تمضوا في طريق اليأس، ففي الكون آمال، ولا تتجهوا نحو الظلمات، ففي الكون شموس).
ثم انصرف.
فكانت الشعار.
حكمة تضع نفسها أمامنا مع انتهاء استعراضنا للأنوار الثلاثين المختارة، تشير إلى الاكتشاف الذي لا بد أن يصل إليه كل مشتغل بتربية النفوس ومعامل لها.
حقيقة يراها الجميع.
أن بعض النفوس تستلذ اليأس، وتعشق الظلام، لكن الأمل من حولها واسع، والنور غامر.
ولذلك وجبت هذه الربتة الخفيفة على كتف المطرق المطأطئ الملتف، تنبهه إلى سكينة قريبة منه لو تناوش، وهالة جميلة فوقه لو رفع رأسه ونظر.(1/143)
وهل أسطع من هالة شمس هذه الدعوة التي هو فيها، وأنصع بياضًا، وأشد لألأة؟
بداية شجاعة ملأت الفراغ...
وجهاد يهود والإنكليز...
وشباب حفظته من الضياع...
وفكر إتباعي لم تدنسه بدعة أو فلسفة....
ومحن تجددت فيها سنن الثبات...
ونصر من بعد كل ذلك ينادي، ما كان يوما ما بعيدًا، ولكن اشترط أن تمد له يد العاملين وتسعى إليه صفوف المنتظمين.
فمن لم ير هذه الشموس: تركناه إلى ظلامة وإن كان عفيفا طاهر الجوارح، حفظا لسمعة الصف المستقيم السائر، واتباعا لوصية ذلك الشيخ الفاضل الذي حذر الإمام البنا، منذ أول أيام الدعوة، من (الصالح الذي لا يحترم النظام ولا يقدر معنى الطاعة، فإن هذا ينفع منفردًا، وينتج في العمل وحده، ولكنه يفسد نفوس الجماعة: يغريها بصلاحه، ويفرقها بخلافه).
قال (فإن استطعت أن تستفيد منه وهو بعيد عن الصفوف فافعل، وإلا فسد الصف واضطرب. والناس إذا رأوا واحدًا خارج الصف لا يقولون: خرج واحد، ولكن يقولون: صف أعوج.
فاحترس من هذا كل الاحتراس)(1).
فهذا إذا كان صالحا لا يحترم النظام، فكيف به إن كانت تسيره الشهوات؟
عقل تصرعه الشهوة!
الخطب أعظم حين ذاك، حيث تتعطل القلوب عن وعيها، والعقول عن موازينها.
ولاخطار مثل هذه الحالة: لفت الفقيه الوزير العباسي ابن هبيرة الدوري أنظارنا، فقال: (احذروا مصارع العقول، عند التهاب الشهوات) (2).
وسماه: مصرع العقل، للدلالة على أن مراده يتجاوز مجرد مصرع البدن بالزنا وأمثاله، وأنه يعني ما هنالك من حب رياسة، وهوى انتصار للنفس، تفقد العقول معها فطرتها التي تسوقها إلى تحري المصالح ودرء المفاسد.
وصريع الشهوة لا تنفع معه مجرد تلك الربتة التي ربتناها على كتفا اليائس، وإنما يحتاج إلى هذا، في لوم يوقظه من سنة النوم.
فمن يلق خيرًا: يحمد الناس أمره
ومن يغو: لا يعدم على الغي لائما
__________
(1) مذكرات الدعوة والداعية/88.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 1/275.(1/144)
أول قل: يحتاج إلى النصيحة الصريحة، والتي لصراحتها يراها البعض غليظة.
وليست هذه الصراحة عند ذي اللب والإيمان مما ينكر علينا، وهي عنده من العدوان عليه، بل هي من تمام الحب له والشفقة عليه، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وربما يتغلب شيطان على داعية في ظرف شبهة فيفقده اتزانه، فهو بحاجة من بعد إلى نصح وتذكير بالموازين.
ومن هنا كان خير الدعاة: أبذلهم للنصيحة، وأكثرهم إذاعة بها.
ويقارنه في درجته: أحملهم لغلظة لنصيحة، وأعظمهم قبولا لها.
رسالتان
ولقد كانت يوما ما قصة نصح، عبر رسالة، من صاحب خير من هؤلاء الدعاة، قابلتها قصة صحوة واعتذار، من جواد كانت له كبوة.
وفي القصص لأولى القلوب الحية مواعظ وعبر، وربما تنبه مخطئ إذا روبت له، فيكون له فيها بعض مزدجر.
وتبدأ القصة بهفوة من داعية، بعد دهر من الحب، يترك معها الجماعة، ويخلع البيعة وينشر قيل وقال، فيعاقبه أميره، ويعاتبه، ويذكره بتفاهة الدنيا، ويكتب إليه أن:
(بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين:
أما بعد أيها الأخ هدانا الله وإياك.
فإنه مما أدركنا من كلام السلف الأول أن الله تعالى إذا أراد بعبد من عباده خيرًا: جعل فيه ثلاث خصال:
الفقه في الدين.
والزهادة في الدنيا.
والبصر بعيوبه.
وأود أن نتصارح اليوم ونتكاشف، لعل الله يجعل لك بعد ذلك من أمرك رشدًا ويسرًا، فترجع إلى سربك، وتحفظ ذخيرة أسلفتها من ضياع يهددها.
أدعوك إلى أن ترجع بذاكرتك إن استطعت إلى أول هذا الخلاف الذي تدندن فيه، وأن تخبر قلبك بصدق عما سترى.
سترى أن بداية ما تلح فيه كانت كلمة همس، وضعها واضع في أذنك، فغلي بها صدرك.
وما إخالك تستطيع نسبة شيء من الاجتهاد في أمور الدعوة مما تخالفنا فيه إلى نفسك قبل تلك الهمسة.
افترضي أن تسلب ذاتك استقلالها بهذه البساطة، ثم يضيق صدرك إن ذكرناك وعاتبناك؟
كلا أيها الأخ، كلا.(1/145)
فمن أجل واش كاشح بنميمة…
مشي بيننا صدقته لم تكب
وقطعت حبل الوصل منا، ومن يطع
بذي وده قول المحرش: يعتب
بل لا بد من هذا العتب، ولا نسلمك لشيطانك بسرعة.
وأخبرني:
بأي سنان تطعن القوم بعدما
نزعت سنانا من قناتك ماضيا؟
فأنت قد نزعت رابطة العمل الجماعي من قناتك، وهي ليست سنانا ماضيا فحسب، بل كل سلاحك الذي تصول به وتجول.
أفتخدع نفسك؟
وكيف ترى في عين صاحبك القذي.
ويخفي قذي عيني وهو عظيم؟
فتحاسبنا عن صغائر لا يخلو منها مجتهد، ولو شئنا أن نذكرك بنقص بعد نقص بدر منك لأسكتناك!
ولكنا لسنا بحاجة إلى أن نروي سوابق برودك.
وإنما نقول: أني اعتراك لما خالفتنا هذا الدأب الواضح؟
هلا تناهيت وكنت امرءًا
يزجرك المرشد والناصح!
أو لا ترى ما أنت فيه من الافتتان: إنقاصًا لعدد العاملين، وتوهية لركن كل داعية، وفتا في عضده، وإشماتًا لعدوه؟ فاتئد، وتدبر أمرك.
وإني ذكرك بالله تعالى، فارجع إليه، وخل الهوى.
وثق أن الدنيا بعد الدعوة لا تكاد تعدل جناح بعوضة عند اللبيب الذي ذاق لذة التعب والبذل لها.
أفترى في دنياك النعيم، وتنسى أنه عديم!
أم تحسبها الغناء، وهي عن قريب إلى فناء
أم تظنها سلم الارتفاع، كأنك تجهل ما فيها من قصص الإتضاع!
أم فيها يوم يوثق له بغد!
لا والله.
وإنما نحن وإياك لكما قال الشاعر:
*كلانا عالم بالترهات*
فإنك تعلم رخص ثمن ما أنت مقدم عليه، وأنه ترهات، ولكن الانتصار للنفس يوهمك.
والأمر أهون مما تظن، ومن غشك فأقعدك في بيتك قد ظهر لك تدليسه، فتب: تجد باب الدعوة مفتوحًا، وكل أرضها مدارج، لمن أراد المعارج.
فاستعذ بالله أيها الأخ من الفتن، واطلب نصيحة الخبراء، ونق نيتك مما علق بها من شوائب، واتق الله عند غضبك، وابعد نفسك عن تأويل يستدرج.
ليسعك التغافر، وسارر في نصيحة القادة.
وأحرص على نجاة نفسك، والتفت إلى عيبك، وانظر صواب الدعاة إن نبهك أحد إلى أخطائهم، وعلق تضحيتك على أمر قادتك.(1/146)
وأمسك على الجدل، والنجوى، والغدر، وصن أذنك عن استماع الغمز.
واتعظ بالتاريخ، وباستكبار الشرع لتعرب المهاجر.
وبالغ في الصدق، ولا تحتجن بزلات السلف، واعلم بأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن الجندية هي طريق القيادة.
واحذر طبائع آخر الزمان، وخف تنكر الأرض والمؤمنين للخوالف.
وإلا.. هجرناك.
وأنت، أنت البادئ.
ولا تجزعن من سنة أنت سرتها
فأول راض سنة من يسيرها
ولعلك ستجرب العمل مع من سبقك بالخروج، فلا تجد ثم إلا غليظًا، أو متهورًا، ومبتدعًا.
كلام خبير ناصح أمين أقول لك:
لست أرى واجدًا بنا عوضا
فاطلب وجرب واستقص واجتهد
ولقد كان يكفيك ما أنت فيه من سير في الطريق السهل المشرق، لكنك حملت نفسك مركبا من العبء باهظًا، وسقتها لشغب أنت في غنى عنه أبدًا.
وإنها كلمة نصح أخيرة أقولها لك:
السهل أهون مسلكا
فدع الطريق الأوعرا
واحفظ لسانك تسترح
فلقد كفى ما قد جرى
ولقد نصحتك واجتهد
ت، وأنت بعد تخيرًا).
فلما قرأ المخطئ رسالة أميره هذه، وتدبر ما فيها: استيقظت فطرته، ورجع إلى طرف لسانه طعم حليب طاهر رضعه، فأمسك بقلمه يكتب أن:
(بسم الله الرحمن الرحيم
قد بلغتني الرسالة، فما وجدت فيها إلا حقًا.
ولا أدري ما أقول أيها القائد المطاع، فإني قد أدركت هفوتي منذ أيام ولكن الحياء منعني أن أتوجه إليكم باعتذار.
ولقد أصبحت فجأة لأجد نفسي وحيدًا أتلفت، فإذا مظاهر الجاهلية من حولي ترهبني بعد إذ كنت عزيزًا بانتسابي إلى هذه الدعوة المباركة، شجاعًا مستصغرًا لكل جبار عنيد.
فإن إخوتي حولي، وإذ أنا شامخ، بصافية الأفكار، والنفس في شمم: أتاني الوشي بعد الوشي، فصدقتهم فكانت تلك العثرة مني.
تكنفني الوشاة فأزعجوني
فيا لله للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي
على شيء وليس بمستطاع
كمغبون يعض على يديه
تبين غبنه بعد البياع
وكيف أصف لك شعوري يومها وقد صرت كما صار كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف فقال:(1/147)
(إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم: أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق)(1).
فما من خارج عن الجماعة من قبل، كنت أعلم ضعفه يوم كانت قدمي ثابتة، إلا وأصبح يحتفل بي إذا رآني، ويهش بوجهي، ويبتسم ابتسامة تلذع قلبي.
وإنه لدرس لي، كان، وعفا الله عما سلف، وأحمد الله تعالى على ما هداني إليه أولا، حين كنت ناشئا في هذه الدعوة، وأخيرًا حين زلت قدمي بالأمس فبصرني عيبي ويسر لي التوبة اليوم، ثم أحمده لما كان بين ذلك من حفظ وتربية وتأديب.
أيها القائد المطاع:
أملي أن تقبلوا عذري، مؤكدًا أني الآن قد:
صحا قلبي، وعاد إلي عقلي
وأقصر باطلي، ونسيت جهلي
راجيا نسيان ما حدث، إذ لعلها كبوة جواد، والسلام عليكم ورحمة الله).
تل كقصة عتاب واعتذار.
وهل لهذا القائد غير أن يقبل عذر المعتذر بعد إذ بلغه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم! (2)
صلح ذوي الراحات
لكن الذي يرفض النصيحة: يبقى صريع شهوته، فيفضحه عيبه، فتشير إليه الأصابع، فيفتش عن مثيل، فتتكون جمهرة ناشزة، تبدو من خارج كأنها متآلفة، وعوامل التناقض تتصارع داخلها.
وهذا هو صلح الافتضاح الذي اكتشفه الفضيل بن عياض لما وصف أنفارًأ من الأضداد تحالفوا فقال:
(افتضحوا فاصطلحوا)
فلكل منهم عيوب، فهم مصطلحون على ترك التناصح بينهم، متفقون على تدليس عيوبهم وتغطيتها بلبوس الصفة الجماعية.
وهذه الظاهرة تكشف لمن يعرفها خلفيات كثير من الفتن التي الهت الدعوة، وتبين أصولها انطلاقها وتطورها.
__________
(1) صحيح البخاري 6/5.
(2) صحيح الجامع الصغير للألباني 1/382.(1/148)
وغالبا ما يكون فقدان القدرة على العمل التجميعي والتربوي هو العيب المشترك المؤدي إلى ظاهرة صلح الافتضاح هذه، فإن الضعيف يهوي أن ترتفع منزلته في الدعوة بتناسب طردي مع قدم انتسابه وارتفاع منزلته الوظيفية أو الدراسية أو الاجتماعية، وللدعوة أنظمة وأعراف وشروط تمنع تولية من لا يبرع في أعمالها وتنفيذ خططها، أو من يتواري ويؤثر الراحة أيام التضحية، فتصطدم رغبة الضعيف بالأسباب التي تحول دون تحقيقها، فيكون الافتتان عند ضعف التقوى.
وخطاب الشاعر القديم لبعض المفتتنين يبعثه استشعاره لهذه الحقيقة لما يقول لهم:
فانتهوا إن للشدائد أهلا
وذروا ما تزين الأهواء
فهو يطلب منهم الانتهاء عن الغين ويدعوهم إلى الافصاح عما ستروه من دافع حب الراحة وتجنب المشقة.
وهو نفسه الدافع الذي حكام القرآن عن المخلفين في سورة التوبة إذ يقول الله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).
(إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطرواة الإرادة وكثيرون هم الذين يشفقون من المتابع، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلام الذليلة على الخطر العزيز. وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات، والأشواك، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال)(1).
__________
(1) في ظلال القرآن 10/264.(1/149)
(هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد –في ساعة العسرة- وتخلفوا عن الركب في أول مرة. هؤلاء لا يصلحون لكفاح، ولا يرجون لجهاد، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الديني بعدما تخلوا عنه راضين:
(فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ).
(إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق. والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد، لأنهم يخذلونه في ساعة لاشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب. فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيدًا عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة. والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء: جناية على الصف كله، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير.
(فقل: لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
لماذا؟
(إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
ففقدتم حقكم في شرف الخروج، وشرف الانتظام في الكتبية، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل، فلا سماحة في هذا ولا مجاملة.
(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ).
المتجانسين معكم في التخلف والقعود.
هذا هو الطيرق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبدًا)(1).
فتاوى الفقهاء في تنقية الصفوف
وهو الطريق الذي فهمه أعيان فقهاء الإسلام منذ صدر الإسلام وعلى تعاقب القرون فأرشدوا قادة المسلمين إلى تطهير الصف من المخذل والمثبط والمرجف، والتشدد في انتقاء الجنود.
__________
(1) في ظلال القرآن 10/265.(1/150)
فمثال كلام السلف الأول في ذلك: استعراض الإمام الشافعي في كتاب الأم لحوادث تخلف المنافقين المتتالية عن المشاركة في الغزوات النبوية الكريمة، وتنبيهه إلى أن من يشتهر في أجيال المسلمين بعد ذلك بمثل ما وصف به أولئك المنافقون فإن أمره يقاس عليهم ويعاقب بمثل ما عوقبوا به.
يقول الشافعي:
(غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فغزا معه من يعرف نفاقه، فانخزل يوم أحد عنه بثلثمائة، ثم شهدوا معه يوم الخندق فتكلموا بما حكى الله عز وجل من قولهم: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، ثم غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- بني المصطلق فشهدها معه عدد، فتكلموا بما حكى الله من قولهم: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وغير ذلك مما حكي الله عز وجل من نفاقهم، ثم غزا غزوة تبوك فشهدها معه قوم منهم نفروا ليلة العقبة ليقتلوه، فوقاه الله عز وجل شرهم وتخلف آخرون منهم فيمن بحضرته، ثم أنزل الله عز وجل في غزوة تبوك أو منصرفه عنها –ولم يكن في تبوك قتال- من أخبارهم فقال: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
قال الشافعي: فأظهر الله عز وجل لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أسرارهم خبر السماعين لهم وابتغاءهم أن يفتنوا من معه بالكذب والإرجاف والتخذيل لهم، فأخبره أنه كره انبعاثهم فثبطهم، إذ كانوا على هذه النية، وكان فيهم ما دل على أن الله عز وجل أمر أن يمنع من عرف بما عرفوا به من أن يغزو مع المسلمين، لأنه ضرر عليهم.
قال الشافعي:
فمن شهر بمثل ما وصف الله تعالى المنافقين: لم يحل للأمام أن يدعه يغزو معه، لطلبه فتنتهم وتخذيله إياهم وأن يهم من يستمع له بالغفلة والقرابة والصداقة، وأن هذا قد يكون أضر عليهم من كثير من عدوهم)(1).
واستمر الفقه على هذا حتى استلم رايته ابن قدامة المقدسي فقال:
__________
(1) الأم للشافعي 4/89.(1/151)
(ولا يستصحب الأمير معه مخذلا، وهو الذي يثبط الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه والقتال والمشقة، مثل أن يقول: الحر أو البرد شديد، والمشقة شديدة ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش، وأشباه هذا.
ولا مرجفا، وهو الذي يقول: قد هلكت سرية المسلمين وما لهم مدد، ولا طاقة لهم بالكفار، والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت لهم أحد، ونحو هذا.
ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار وإطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوارتهم أو إيواء جواسيسهم.
ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد، لقوله تعالى: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ). ولأن هؤلاء مضرة على المسلمين فيلزمه منعهم)(1).
وهذا من الكلام الحق الذي لا يستغربه المعالج لسياسة الجماعات.
غرور الفقيه يمنع تأميره
وأما من يستغرب مثل هذا الكلام، ويستصعب قياس أحوال مفتتنة اليوم على أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإننا على استعداد لكي نسير معه مرحلة فقهية أخرى لا خلاف فيها.
فلو تجاوزنا وصية الذي حذر الإمام البنا من الرجل الصالح الذي لا يحترم النظام، مما ذكرناه آنفا، ونصحه له بإبعاده عن الصف، فإننا نجد في فقه عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما يسوغ إبعاد الصادق صاحب الخير عن المسؤولية إذا كان فيه نوع من حب الظهور والخيلاء، سدًا للذريعة، وصيانة له من احتمالات الافتتان والجناية على نفسه وعلى الدعوة.
فقد روى أن الراشد الخامس لما ولي الخلافة أرسل إلى أبي عبيد المذحجي، وكان فقيها ثقة في الحديث، من شيوخ الأوزاعي ومالك، وممن يستعين بهم الخليفة سليمان بن عبد الملك، فقال له عمر:
__________
(1) المغني لابن قدامة 8/315.(1/152)
(هذه الطريق إلى فلسطين، وأنت من أهلها، فالحق بها.
فقيل له: يا أمير المؤمنين، لو رأيت أبا عبيد، وتشميره للخير!!
فقال: ذاك أحق أن نفتنه، كانت فيه أبهة للعامة)(1).
فهي كلمة قالها عمر، وسوغها فعل عمر.
ولقادة الدعوة هذا اليوم أن يقولوا لكل داعية يتطلع للسمعة والجاه والمكانة الاجتماعية المرموقة مثل الذي قاله عمر لأبي عبيد، ويفهموه أن:
قد أخطأت بداية الطريق إلى مرادك، فمررت بديار دعوة التواضع والبذل والالتزام الخططي، وهذه الطريق إلى ديار أشكالك، فالحق بهم.
[22] أخيار ولا فخر!
ومن العوائق: الهزيمة النفسية أمام كثافة نقد المتهجمين، حتى إن الداعية ليظن بنفسه السوء.
ذلك أننا مازلنا نسمع بين الفينة والفينة نقدا من الدعاة لأنفسهم، يتخذ أحيانًا عند بعض متحمسيهم شكل تقريع، يتهمون خلاله أنفسهم بأنهم قصروا عن الوصول إلى منازل السلف، وأن بينهم وبين الصفات التي يحكيها التاريخ لنماذج اسلف الصالح الأول من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان رحمهم الله، بونا شاسعًا، وأن الفاحص يتلفت فلا يرى أحدًا سما وعلا في أخلاقه وعبادته وجهاده إلى درجة يماثل بها أولئك النبلاء النجباء.
وقد يتخذ هذا التقريع بعدًا آخر يتفرع منه، يضع الدعاة في موقف المتهم لمناهج التربية الإسلامية الحركية، ويحملها مسؤولية هذا القصور.
ولسنا نشك في أن هذه الظاهرة ظاهرة صحية في مجتمعات الدعاة، وأن فحص النتائج ومعاودة الحساب فضيلة راجحة على السير الجزاف الذي لا يعطف المرء فيه إلى مناقشة العمل.
ولكن جمال هذه الظاهرة لا يكتمل إلا بمناقشة وتقويم من قبل المجربين لما يطرح من تساؤلات وشكوك في هذا الباب، وهذا ما يحدونا إلى أن نطلب من الدعاة مصاحبتنا خلال هذه الفقرات في عملية وزن للقضية، نحاول أن نكون حكما فيها، يكشف حقيقة الرصيد الحاصل، وطبائع النقص الواجب استدراكه.
__________
(1) تهذيب التهذيب 112/158.(1/153)
والذي ندعو له ابتداء أن يرى الداعية الناقد لنفسه فروقا واضحة بين جيلنا وأجيال السلف، وظروفا قد تغيرت، ولا بد من أخذ ذلك بعين الاعتبار حين البحث.
طمع محرك، ورحمة مغرية
فأول ما يبدو هنا من ذلك أن المربي بالأمس غير المربي هذا اليوم، فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون المهديون، ومن وازاهم من قدماء المهاجرين ونقباء الأنصار، هم المربون لذلك الجيل السالف الذي فتح الله تعالى على يديه الفتوح العظيمة. وتلك بركة أنيل لها في خصوصية واضحة، من لدن متفضل لطيف منعم سبحانه لا ينبغي لأحد ممن بعد جيلهم أن يسمح لنفسه في أن يأمل عشرها فضلا عن مثلها. بل لقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الجيل الأوسط من الصحابة رضي الله عنهم أنهم لن يبلغوا نصيف مد أحد من رعيلهم الأول، كما روى مسلم في صحيحه، فكيف بمسلمة الفتح ومن تلاهم؟
فكل متصد للتربية بعدهم ناقص -ولابد- عنهم، وإنما فرضتنا الحاجة التربوية فوضعتنا في مقام الأستاذية بعضنا لبعض طمعا في أن ننال بالتواصي الجماعي بالحق وبالصبر ما يكمن أن ينال من جميل الخصال الإيمانية، ومحاسن الصفات الإسلامية.
فنحن بهذا الطمع نتحرك، من دون تطلع لمنافسة السلف الصالح، فإنهم قد استبدوا بالحظ الأوفر من الفضل، وبالنصيب الأوفى من المحاسن، ومتجرد عن الأدب ذاك الخلف الذي يطيل عنقه تكلفا ليصل برأسه إلى مستوى رفعتهم، ولولا حديث (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) لفترت الهمم، وركت العزائم، ولكنها رحمة الله واسعة، تطمع الطامع وتغريه، فيتشبه بالكرام عسى ولعل.
الهدم الصعب(1/154)
ولو عكسنا رؤيتنا لجابهتنا حقيقة مقابلة لهذه، تفصح عن أن المتربي هذا اليوم هو غير سلفه المتربي، وليس المربي فقط، فاليوم يشهد المجتمع تصارعا بين مناهج تربوية مختلفة، يقف المنهج التربوي الإسلامي في خضم تصارعها، ونجد الفرد الشاب الذي نحاول تربيته مختلط الفكر، موزع القلب، مضطرب النفس، من جراء ما خضع لهذا الحشد الشديد المتناقض من مواد التربية التي تصبها عليه مناهج المدارس والجامعات، وبرامج الإذاعة والتلفزيون، ولغو الصحف والمجلات، ولكلها تأثيرات تصادم كلام المربي المسلم، وتؤثر سلبًا على تلميذه.
أما جيل السلف فكان جيلا بسيطا فطريا، وكان العرب بخاصة في عزلة عن الأمم، وما ثم إلا شركهم بالله تعالى شركا بدائيا غير معقد، يعبدون خلاله الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، وهم أهل صدق في المقال، وعفاف في الجوارح، قد غمرتهم خلوتهم الصحراوية بسكينة افتقدتها الأمم، ولم تكن لهم فلسفية جاهلية تناقض الإسلام الجديد، ولا يعرفون الجدل في ذلك، بل فيهم بقية من الحنفية الإبراهيمية، حتى لقد كان زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله يجهر بالتوحيد عند الكعبة، ويدعو العرب إلى ملة إبراهيم، قبل أربع سنوات فقط من نزول القرآن، فكان صنيعه وصنيع أمثاله من آخر الحنفيين المهديين، إرهاصًا بين يدي دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثابة التمهيد وإثارة تطلع العرب إلى الدين القديم الجديد.
ومن هاهنا، فإن جهود النبي -صلى الله عليه وسلم- وجهود أصحابه رضي الله عنهم، في التربية من بعده، قد أثمرت كلها ولم يتبدد شيء من جهدهم سدى، لجودة معدن المتلقي المتربي، وخلو فكره عما يناقض ما يقال.(1/155)
بينما نبذل اليوم جهدًا كبيرًا لإصلاح ما أفسدته التربيات المختلفة في نفوس تلاميذنا، ونسلك معهم طريقا طويلا لإيصالهم إلى منزلة الحياد، إن صح هذا التعبير، لنبدأ من بعد ذلك بإعطائهم مفردات الإسلام، وهي عملية شاقة، عملية استلال بقايا الجاهلية من نفوس المتربين التلامذة، فبعضهم يحن حنينا إلى شيء من طباعه الماضية وقد كنت تظن أنه قد استكمل الإيمان أو قارب، وكم من حيصة يحيصها المتربي قبل النهاية تعلم المربي ضرورة إطالة النفس في هدم تأثيرات ورذائل التربيات المعاكسة في نفس التلميذ الثاني اللاحق له قبل بناء قواعد الإسلام فيه.
ولا شك أن عملية الهدم والبناء عملية مزدوجة تتم في آن واحد، ولا نريد أن يعترض معترض على ألفاظنا هذه، ولكنها ألفاظ لا بد منها لتوضيح المعنى.
ومما يمكن أن نحتج به ونتخذه دليلا في هذا الصدد، أن الفرس وأمم الهند، كانت لهم فلسفات جاهلية وكتب مدونة، سببت اختلاط إسلام كثير منهم بالبدع حين أسلموا، وعاند كثير منهم، ولم تظهر فيهم نماذج عالية في حياز صفات الإسلام بمثل كثافة ظهورها في العرب أول ما افتتحت الفتوح، مع أن المربي واحد، وإنما شاعر فيهم الخير من بعد دهر طويل نسوا فيه جاهليتهم تلك، واندثرت معالم فلسفاتهم.
وتكررت هذه الظاهرة مرة أخرى في عصر الإسلام الأوسط حين دخلت شعوب جديدة في الإسلام كانت متأثرة بفلسفات الإغريق والرومان، فلم يكثر فيهم النبلاء إلا من بعد دهر.
كذلك نجد صدى هذه الظاهرة جليا لما شاعت في زمن المأمون ترجمات كتب أرسطو وأفلاطون، فضعفت الهمم، وندرت نماذج الخير، حتى أن المتفحص للتاريخ ليجد صدورًا غريبا عن كتب سقراط لا يفهمه لأول وهلة، ولكن عجبه يزول حين يعلم أن سقراط كان أقرب إلى التوحيد من أولئك، فركنوه جانبًا، ولولا وقفة إمام السنة أحمد بن حنبل لضعفت دولة الإسلام، لكن الله رفأ به الفتق وسد الخرق.(1/156)
ومرادنا من كل هذا: التنبيه على أن بعض جهودنا التربوية اليوم تهدر بلا سبب منا، ولا سبب من المتربي، ولكنها جناية الجاهليات المعاكسة على الجيل الحاضر.
الخيرية المتناقصة
ومع ذلك فإن احتمال ظهور نماذج تقابل نماذج السلف ممكن، لكنهم لن يكونوا إلا قلائل، ويجب أن نوقن أن الله تعالى شاء ذلك، وأراده وكتب علينا أن نكون أقل استمتاعًا بجمال الإسلام عما كان عليه السلف، فإن الحديث الصحيح ينطق بأن خير القرون قرنه -صلى الله عليه وسلم- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
ولو جمعنا هذا الحديث إلى حديث شرار الناس من تقوم عليهم الساعة وهم أحياء " المروي ي دواوين الصحيح أيضًا، لتبين لنا أن خيرية الأجيال في تناقص وتقلص مستمر، وأن القدر قد جعل المنافسة من الآخر للأول مستحيلة، لكنها المقاربة والتسديد، من غير أن يدب إلى نفوسنا يأس في حيازة بعضنا لما حازته أجيال السلف من المكارم، فإن عصابة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا تزال ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة، كما نطق الحديث الصحيح، ولا ندري أينا الموفق لأن يكون يها، وعلينا أن نصارع القدر بالقدر، كما أرشدنا إلى ذلك عبد القادر الكيلاني رحمه الله حين ذكر أنه قد فتحت له روزنة، أي فتحة مثل الشباك، فرأى سفينته تجري في بحر القدر تلاطمها أمواجه، فهو يصارع القدر بالقدر، ومما قدره الله لنا أننا في الجيل المتأخر المفضول، فنصارعه بقدر الخير المتمثل بالعمل على الانتساب لهذه العصابة، ونعمل لما يتيسر لنا، مدافعة وتحويلا لقدر الشر المتمثل بتناقض الخيرية.
جمال الفضائل سبب تخليدها(1/157)
ولا يغيبن عن الأذهان أن الكتب التي عرفتنا بأحوال السلف قد أرخت الفضائل بأكثر مما أرخت نقص الناقصين، وما من شك ي أن أساتذة التربية يميلون إلى تاريخ هذا النقص، ليبتعد عنها الموفقون، ميلهم إلى تاريخ الفضائل، ليقتدي بها المشمرون، ولكن في النفس الإنسانية ميلا إلى حب الجمال فطريًا، مقتبس من حبه سبحانه وتعالى للجمال، إذ هو جميل يحب الجمال، كما في الحديث الصحيح عند مسلم، كمثل ما اقتبس الله للإنسان والحيوان شعبة من فيض رحمته الواسعة هو عز وجل، فكانت كتب التاريخ، لذلك أكثر إظهارًا للفضائل، لجمالها، من إظهار العور والنقص والحيصات، فنحن نرى الصورة الفاضلة لمجموع أجيال السلف، وغابت عنا هفواتهم بتأويل من تأول تغيبها، جمعًا للقلوب، وسدًا لباب التناحر والفتن والطعن فيهم، وهكذا أصبحنا نظن أن السلف أصحاب كمال مضاعف عما هو عليه أمرهم حقيقة.
وليس هذا من الطعن بالسلف بحال من الأحوال، فإن قد قدمنا من الكلام ما ينفي هذا الوهم، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف، في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، ونعلم أن الله قد ذكر ذلك لنا إرشادًا وتنبيها وتأديا وتعليمًا، وأن من رجحت حسنات هو الراجح، وقط عظم خيرهم، وفي التأول لهفواتهم مندوحة.
نعم، إنه ليس من الطعن، ولكنها دعوة إلى الواقعية في فهم تاريخنا لابد منها لتوضيح الجواب للذين يلومون أنفسهم، ودليلنا: ما ذكروه من أشياء على سبيل المدح عن آحاد منهم دون سائرهم، من شدة التعبد، وصلاح الباطن، والشجاعة الفائقة، ونحو ذلك، فلو لم يكن المجموع قاصرًا بعض القصور على المستوى المثالي الذي وضعناه فيه، لما تميز هؤلاء بالفعل المذكور عنهم.(1/158)
وهذه الطبيعة في المؤرخين مستمرة تقتضيها صنعة التربية، حتى إننا لو قرآنا بعض الصحف الإسلامية ترثي بعض خيار أموات المسلمين اليوم، من الدعاة والعلماء والمجاهدين والمنفقين، لرأينا أوصافا تصورهم كأنهم السلف، بينما نحن نعرف بحكم معايشتنا لهؤلاء المرثيين هفوات وكبوات أغفل ذكرها من كتب رثاءهم، لا من باب التدليس والتمويه والتزلف، بل من باب تربوي بحت’ غايته إثارة الهمة في الأحياء للاقتداء بمحاسن فعالهم.
فقس ما كان يجري بين السلف من ذلك على ما يجري بيننا من هذا.
التراجع يضعف الهمم
يضاف إلى هذا أننا الآن في فترة اجتماعية وسياسية ميزتها التراجع والتدهور إذا قسناها وفق موازين التمدن، وقد شاهد ابن خلدون في مقدمته، وغيره من علماء الاجتماع، أن أعمار الدول كأعمار بني آدم، وأنها تبدأ بقوة وفتوة، ثم يستوى أمرها على نسق هادئ، ثم يميل إلى التأخر التدريجي حتى تنقضي تلك الدولة، فتتأسس على أنقاضها دولة جديدة تأخذ الأمر بقوة وتستأنف الانتصار.
والإسلام قد مثلته خلال تاريخه دول متعاقبة انطبق عليها هذا الميزان، وكل منها قد أجاد وأفاد، وحمي الإسلام، وفتح الفتوح، فتأججت حماسة المسلمين أبناء تلك الدول في فورات متعاقبة حفظت للإسلام حيويته، كما أنه ليس من هذه الدول دولة إلا وتورطت في هفوة أو تقصير يقابل إحسانها.
وجيل المسلمين الحاضر يعيش فترة تراجع شديد بانقضاء عمر الدولة العثمانية، تولد عنه فراغ، بانتظار قيام دولة جديدة تمثل الإسلام، لابد أنها آتية إن شاء الله. وفي مثل هذا الفراغ تضمحل الحماسة، فتبقى حماسة الأفراد معتمدة على ذاتيتهم المحضة ووعظ الواعظين، تظاهرها أو تعينها الحماسة العامة السائدة في كل دولة فتية، الناتجة عن انتصاراتها المبهجة لنفوس أبنائها.(1/159)
وهذا ما يعطي من باب آخر شبه عذر تعتذر به لجيلنا الحاضر في تخلفه عن بلوغ الدرجات العالية وقصوره عن منازل السلف، ولقد مرت فترات في التاريخ الإسلامي شبيهة بهذه، هي فترات نهايات الدول الإسلامية، فكان الجهل يشيع، وتبرد الهمم، ثم تبدأ صعودًا آخر بمجيئ دولة أخرى يحكمها مسلم موفق عالي الهمة.
وفي الأحاديث التي صححها الشيخ الألباني حفظه الله ما ينبي عن قيام خلافة راشدة في آخر الزمان، كأننا في انتظارها الآن، تجدد حيوية المسلمين و ترفع مستوى جيلهم.
اعتداد بلا غرور
إن هذه الحقائق توجب سلوكين.
السلوك الأول يخصنا نحن أبناء الحركة الإسلامية، خلاصته: لا نسرف في اتهام أنفسنا بأنواع الضعف، وأن نوقن أننا على خير وفير كثير إن شاء الله، وبفضل منه ومنة.
نعم، ما هو بالخير الكامل، ولسنا كمثل السلف، لكننا أهل عزة إيمانية ترجع بنا بعد كل هفوة إلى إصلاح الخطأ، وعلينا أن نعتقد أن سبيل إنماء فضلنا وتكميله ليس هو سبيل التقريع الشديد للنفس، القاتل لها، بل هو سبيل التوبة الشرعية مرة بعد مرة، في أول مسارنا، وفي أواسطه، وفي أواخره، فبالتوبة، وبالتناصح، وبالتواصي بالحق والصبر: نسد ثغرات جدارنا ونكمل بناءنا.
وليس ذلك بغرور، أعاذنا الله منه، ولا هو إدلال بهذا القليل من العمل الذي نؤديه للإسلام، لكنه المنهج التربوي الذي ينبغي لنا ويجب علينا، حذرًا من أن نقع في ما وقع فيه بعض علماء العصر الأوسط من السلف، حين أكثروا التخويف، وتوسعوا في ذكر الوساوس ومحبطات الأعمال، حتى لف الناس اليأس شديد، ولم يفتحوا لهم بابا من الرجاء يقابله.
مجازات المواعظ لا تفهم بجمود(1/160)
ويصدر بعض الدعاة في تضعيف أنفسهم ومن حولهم عن فهم جامد حرفي لكلام الحماسة الذي نعظهم به، ويغفلون عن طبيعة المربين في إيراد المجازات والقصص التي يريدون منها تنويع التذكير والتفنن فيه، ليكون أدعى لدخول القلوب، من دون أن تكون نبيتهم طلب التطبيق الحرفي من قبل التلميذ لما يريدون.
فلقد وصفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه لم يضع لبنة على لبنة، وما أرادوا حرفية ذلك، فإنا نعلم أنه قد كانت لكل زوجة من زوجاته حجرة، ولم يكن يعيش في خيمة أ, في العراء، لكنهم أرادوا عدم تطاوله في البنيان، وتواضعه فيه، وعدم توسيعه مساحة بنائه، ثم يأتي متحمس من الدعاة اليوم يصفق بيديه ويسترجع، حين يرى أخا له يبني له دارًا تستره في مثل هذه المعيشة المعقدة الحاضرة.
وروينا خبر فلان من السلف، لم يكن يميز الدرهم من الدينار، وإنما أرادوا عزوف قلبه عن الدنيا، وشدة انغماسه في العلم والعبادة، ثم يجلس دعاة اليوم، يعيبون أخًا لهم يمارس التجارة، لم تصرفه صفقاته عن واجباته في الدعوة، ولو تأملوا لوجدوا أن عدم معرفة الدينا من الدرهم بالأمس يقابلها جهل أكثر الدعاة، اليوم جهلا مطبقا بما هنالك من مضاربات سوق الأسهم وتركهم ذلك في سبيل الله، مرابطة مع خطط الدعوة، إلا من نفر منهم –لله أيضًا- ليضارب، يبتغي تحويل المال إلى الأيدي المتوضئة.
وكذلك ما تداولناه من قبل من خبر ذلك التابعي الذي بني له ولفرسه حصنا بالكوفة، كأنه يبدي استعداده للجهاد، فيأتي أحد اليوم يقلده في ذلك.
والناظر بعين العقل، المتأني، يعرف أن مقصد ذاك التابعي منصرف إلى تربية الناس بمنظر عملي على معاني المرابطة للجهاد، وإلا فإنه لو كان يريد حرفية فعلته لبني له حصنا في جبهات القتال، وقد تجاوزت الفتوح في عهده بخاري وبلخ.(1/161)
ومثله: ذاك الذي لما حدثت الفتنة وضع الطين على بابه وجعل بيته مقفلا، إلا فتحة صغيرة يتنفس منها ويتناول الطعام، فهو إنما أراد بفعلته هذه أن يذكر الناس بمنظر عملي معنى اعتزال الفتنة كلما مروا به وسألوا عن سر هذا الباب المطين، وإلا فالذي يريد أن يعتزلها يسعه أن يعزم عزمة ويدع أبوابه مفتحة.
فعلى إخواننا أن يثقوا بأنفسهمن ويعرفوا أن الله تعالى قد تفضل عليهم وأسبغ عليهم نغمة من الإيمان والعلم والعمل يجب إظهار شكرهم له عليها، وما ثم إلا دعاء له سبحانه بأن يتم لهم نورهم.
وصحيح أن أحدنا يجب أن تكون نفسه حساسة لأدنى تقصير، وأن نقول مرارًا –اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه- وأن نقول-نبوء بنعمتك علينا ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت-، لكن هذه الحساسية لا تقتضي مقت النفس واتهامها الاتهام المسرف الذي يقتل فيها تطلعها إلى الاقتداء بالسلف المهديين، فإن ذلك من العوائق.
ليست الصغائر مثل الكبائر
إن الكثير من حساب نفوسنا، ووزننا للآخرين من المبتدئين العاملين معًا، نجنح فيهما أحيانًا إلى التشدد الزائد عن حد الشرع.
ففي الشرع حرام محض بالغ الحرمة، وفيه مكروهات وصغئر ولمم، ويمكن تمييز كل فعل ودرجاته من الإثم في ذلك من النص عليه، أو من النظر إلى القرائن والظروف، ولكن البعض يستعظم كل الاستعظام أشياء من الصغائر يقترفها إخوانه لم تأت الآيات وكلمات النبي -صلى الله عليه وسلم- مستعظمة لها بمثل ذلك بمقدار ما أتت تحث على التوبة منها، واتباعها بحسنات تمحوها، من صدقة وصلاة، والنظر إلى رحمة رب رحيم يقبل أوبة المتورط فيها.(1/162)
وانظر الزنا المحض والكذب مثلا، تجد الشرع متشددًا فيهما كل التشديد، ادًأ لهما في جملة الكبائر، واعدًا من يبرأ في حياته منهما بالجنة، وذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري: (من تكفل لي بما بين فخذيه ولحييه: تكفلت له بالجنة). أي تكفل بسلامة فرجه من الزنا الحقيقي الذي يكون في التقاء الفرجين، وبسلامة لسانه من الكذب.
ومفاد ذلك أن النظر الحرام وما وازاه، واللغو والتنابز وأمثالها من الصغائر، إذا خالطت تلك العفة، فإن الجنة تبقى غير بعيدة عن العفيف، لا يلزمه لتمام قربهاغير حسنات يسيرات يكون فيهن تكفير صغائره.
ويتأكد ذلك إذا علمنا أن الله تعالى قد كتب عدم الكمال على كل البشر في هذا الباب المتعلق بالزنا والكذب، قدرًا محتومًا عليهم، يدرك كل إنسان من مقدماتهما والصغائر المشتقة منهما شيئا مهمًا عف فرجه، فإن الحديث المروي في صحيح البخاري يذكر صراحة أن: (كل ابن آدم مدرك حظه من الزنا لا محالة، فزنا العينين النظرن وزنا اللسان المنطق) فلا يوجد البرئ براءة تامة، بل هو مقارف لبعض فروع الزنا والكذب التي يصدق عليها اسمهما مجازًا، لا محالة ولا مفر له من ذلك، وأن ترك تلكما الكبيرتين الحقيقتين، وذلك يوجب علينا أن لا نذهب في التشدد في توثيق مقترف هذه الصغائر إلى حد التزمت وتضعيفه تضعيفا مطلقا، بل نلتزم حد الشرع الذي ميزها عن الكبائر.
هكذا وقس على الزنا والكذب بقية الكبائر وفروعها من الصغائر.(1/163)
ورب ظان يظن أن في مثل هذا الكلام من التساهل والتجريء للداعية على اقتحام اللمم والإكثار منه ما يولد مفاسد كثيرة ويهون أمر المعاصي عليهم فيستجيزونها، وذلك وهم، فإن الكلام التربوي لا يفهم بتجزئ، ونحن لا ندعو إلى ترك هذا التزمت ساكتين عن حقائق الشرع الأخرى، بل تلح إلحاحًا، ونلهج لهجًا، بتزيين الفضائل الإيمانية والدعوة إلى التمسك بها والتنافس في الإكثار منها، وغض البصر وترك اللغو من هذه الفضائل التي تميز الدعاة إلى درجات وطبقات، ما بين متعفف عنها شامخ بعفته، في رنو إلى حوريات الجنة، كأنه يراهن في دنياه رأي عين، فهو في الطبقات العالية، وآخر فاتر الهمة في مقاومة الإغراء، فهو في انشغال قلب ينزل به إلى الدرجات الدنيا. كما نعظ المتساهل مع نفسه وعظًا بليغا، ونذكره بأن النظر وما ماثله من الزنا المجازي قد يجره بالتتابع، وباستدراج من الشيطان، في لحظة شهوة وغفلة، إلى الزنا الحقيقي الذي يحرمه كفالة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة، كما نذكره بأن الذي يتصدى لمرتبة دعوة الناس وتعليمهم غير العامي من المسلمين، فإن الداعية تعظم منه الصغيرة، ويكون بها في صد عن سبيل الله، إذا اقتدى بفهواته المقلدون، وفي صدود بغفلته عن ذكر وتسبيح كان منبغيًا له وتساعده الخطة الجماعية عليه وقت ما ألهته الصغائر، وهذا الصدد والصدود شعبة تقرب من الكبائر بالنسبة إليه، ويظل إثمها على الفرد المتسبب أو العامي دون إثمها عليه بكثير.
وفي قصة جريج العابد، الواردة في صحيح البخاري، مغزى جد كبير. ذلك أنه عصى أمه فلم يجبها، انشغا بصلا نافلة، فدعت عليه بالشر، وكان منتهي دعائها أن يري وجه المومسات، فكانت قصته مع البغي المتهمة له وهو من الزنا بريء، فالداعية المتوغل في طريق الدعوة، المتجاوز لمرحلة الابتداء، مثله مثل جريج في عبادته، يكون من أقصى العقوبة له أن يرى امرأة زانية فضلا عن أن يزني بها، فتدبر وتأمل!!(1/164)
وكذلك يرد هنا في هذا السياق أيضًا التفريق بين المقل والمكثر من هذه الصغائر، والمصر والمستغفر، من باب ما ذكره الفقهاء من أنه (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار).
وأيضًا فإن النظر إلى المرأة المصلية الملتزمة المحجبة، وهو الذي كان أكثر ما يعنيه الفقهاء، غير النظر الذي تتيحه ظروف الحياة اليوم إلى المتبرجات بسبب سيرهن في الشوارع العامة أو أثناء مخالطتهن في الجامعة وأماكن العمل، مما تكون فيه النظرة الأولى جالبة لثانية دون فضول.
وهذا الذكر لهذه الحقيقة الشرعية في أمر الزنا، والدعوة إلى التشدد إزاء مرتكب الكبيرة فيه، والتساهل إزاء مرتكب فروعه من الصغائر، إنما شأنها شأن حقائق شرعية كان ذكرها مفسدة على بعض المسلمين، لما فهموها فهما ابتداعيا مصحوبا بجهل، ولكن وقوع المفسدة لن يغير من نسبة رجحان ذكر هذه الحقائق ونشر علمها بين المسلمين.
فمن ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه، في دخول قائل لا إله إلا الله الجنة، وكيف أحب أن يبشر بذلك الناس، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- منعه خوفا أن يتكلوا ويدعوا الأعمال، فإن أبا ذر أخبر بهذا الحديث عند موته خشية منه أن يقع في إثما كتم العلم، وصار حقيقة شرعية وبندًا في العقيدة يهدى أصحاب القلوب الحية ذات النمط الأوسط إلى العدل في الحكم على الناس والتهيب من تكفيرهم بمجرد ولوغهم في المعاصي، مع أن بعض المبتدعة قد استنبط منه التعويل على كلمة الشهادة وعاف العمل.
وكذلك حديث ذاك الذي لا يزيد على الفروض ولا ينقص، الذي أفلح إن صدق، قد اغتر أناس بظاهرة فاعتادوا ترك النوافل، ولكن ذلك لم يمنع البخاري من ذكره كحقيقة شرعية مقرونة بألوف من الأحاديث الصحيحة معه في الترغيب بالخير الزائد على مقدار الفرض، كما لم يمنع غيره من فقهاء الأمة من النص على فسوق من يهجر السنن المؤكدة هجرًا طويلا.(1/165)
وقس على هذه الأمثال، وتأمل ما سبق ذكره من عوامل الافتراق بين جيلنا الحاضر وأجيال السلف، لينفتح لك باب مفيد من الاقتناع بأهمية الوقوف عند حدود الشرع في التمييز بين درجات المعاصي، وتصنيفها إلى كبائر ولمم، تخرج منه إلى واقعية تجبرك على مصاحبة الذين قصرت هممهم عن التملص من الصغائر، والرفق بهم، دونما إخلال بكلام تربوي واجب تنصحهم فيه، غير متزمت، ولا لهم بظالم.
إن أخذ مجتمع الدعاة بالشدة في ذلك، وإشاعة عرف بالغ الحساسية إزاء الصغائر، ربما يؤدي إلى نفع عظيم في جودة معادنهم، ويوصلنا إلى نتيجة تربوية جيدة، ولكنه بالمقابل يؤدي إلى جفلة الجدد وزهد الشباب في الانتماء، لقصور هممهم عن متابعة التعفف الكامل، وهي مفسدة تعارض تلك المصلحة التربوية، لابد من مراعاتها.
ومن المهم أن تفهم أن الذي نقوله ما هو بتسويغ للتهاون، وإنما هو دعوة إلى الوقوف مع النمط الوسط الممدوح شرعا الذي لا يجنح إلى تفريط، ولا يرهقه الإفراط.
ومما يقارب هذه المسائل، ونستعمل له نفس التسيوغات: أمر التدخين، فقد يكون الشاب معتادًأ له قبل مخالطته لدعاة الإسلام، ثم ينتمي لهم ولا يستطيع الفكاك من أسره، فنتجاوز عنه، والأصوب في أمر التدخين –والله أعلم- أن لا نجزم بحرمته، ولكن نقول بكراته الشديدة، وأن عرف الدعاة لا يستسيغه، وجعلوا تركه شرطًا للعاملين.(1/166)
ومثل ذلك ما اختلف فيه الفقهاء الاتقياء، إذا ملنا لرأي المتشددين منهم فيما اختلفوا فيه، كالتأمين، والبيع والشراء بالأقساط بثمن زائد على ثمن التعجيل، فإن لرأي المجوزين وجها يجعل مخالفهم أميل إلى القول بكراهة ذلك من جزمة بالحرمة الشديدة، وعليه أن لا يسارع إلى تضعيف العامل بإفتاء مخالفيه، بل يقتصر على وعظه بالاحتياط والابتعاد عن الشبهات، إلا الاقتراض بالربا والاستفادة نم قروض البنوك العقارية، فإن الذين ذكروا جواز ذلك قد صادموا النصوص الصريحة، وليس لقولهم وجه، ولا لهم من التقوى نصيب واضح يتقوى به خلافهم.
ويداني هذا الأمور ما يفتي به الداعية الحائز لبعض الفقه نفسه في أبواب الضرورات، فربما أحاطته ظروف صعبة يجرؤ معها على فعل شيء لا يجرو المفتى على الترخيص له به، فيعتمد هو على فقه. وما من شك في أن هذا الأمر دقيق للغاية، ويحتاج لاحتياط مضاعف ولكن حد التمييز بين المسموح لهم بذلك والممنوعين هو مقدار الفقه الذي يملكونه فمن آنسنا منه رشدًا، ودلت سابقات على حصول نصيب له من الفقه، فإنا لا نستكبر منه اجتهاده ونطيل له اللسان، بل نعظه بالتقوى والأخذ بالعزيمة فحسب.
أنصوفنا معاشر النقاد
وأما السلوك الثاني فإنما يتمثل في واجب منتقدينا نحونا، فنحن نطالبهم بمثل هذه النظرة التي تتقبل أحسن ما عملنا، وتتجاوز عن نقصنا، ثم أ، يدعو الله لنا في أن نكون من أصحاب الجنة.
ولقد أسرف بعضهم في الابتعاد عن هذه النظرة، فأحصى ما يظنه من أخطائنا، مما صدر عن آحاد من دعاة حركتنا، حاولوا الاجتهاد، فبعض أصاب، وبعض أخطأ.
ولو أردنا الاستقصاء في الرد على الشبهات التي يوردها المحصون، لوقعنا في المتاهة النفسية التي تراد لنا، ويكون ثمة انشغال عن وجوه النفع التي نحن ماضون فيجلبها وتحصيلها كل يوم.(1/167)
ولسنا نضيق صدرًا بنقد يوجه لنا ولا ندعي أن الله سبحانه قد حكر لنا الصواب، لكننا ننكر الخلفية المتوترة لمثل هذا النقد، الشبيهة بالفتنة.
والأساس في ردنا لكل ملاحظة وجهت وتوجه لما: أن الناقدين يغفلون مناقبنا، وجمالنا، وحسننا، ويجردون الأخطاء تجريدًا عما صاحبها من الإصابة، وقارنها من البذل.
إن للدعوة من خلال انتشارها في الأقطار العربية مناقب كثيرة، أقلها حفظ الشباب من الانجراف في المفاسد وإمدادهم بالسكينة الإيمانية، والطمأنينة القلبية في عصر الاضطراب، ولو لم يكن للدعوة إلا هذه المنقبة لكفاها ذلك فخرًا، كيف وأن مناقبها قد سارت كل مسار، فمن صحف تدافع عن قضايا الأمة، وترد على الملحدين، وكتب منهجية تعين الشباب على فهم الإسلام، وقتال اليهود والمستعمرين في فلسطين والقناة، وسعي في إعانة الناس على نيل العلاج الطبي وضرورات الحياة عبر عمل إغاثي واسع، وتوعية سياسية للأمة تقابل خطط الماسونية والصليبية، وأمر بالمعروف ونهي عن منكر الطغاة الظالمين، وإشاعة للقرآن، وتحفيظه، وتعليم آدابه، وإنشاء للمكتبات والمساجد، حتى أن الدعاة قد تجاوزوا في ذلك بذل أموالهم وأوقاتهم إلى بذل أرواحهم ودمائهم، فنقش الرصاص صدورهم، والتفت الحبال على أعناقهم ولفظت أنفاسهم كريمة تحت السياط، وفي غرف التعذيب.
هذه فعالنا، وهذا تاريخنا، وحاضرنا من بعد مرئي مشاهد فلم، يكون تجاوز هذه الصور الفاضلة، والمفاخر المشرفة لكل مسلم صادق الإيمان، ويسعي الناقدون إلى حصر المسألة في جملة أخطاء رصدوها، على فرض أنها أخطاء فعلا وأن الدعاة ليس لهم فياه تأويل؟
والأصل في ذلك نقاء القيادات، وأهليتها للتصدي لمثل ما تصدت له، وإنا لا نعلم بحمد الله فينا إلا كل قائد نجيب نبيل رفيع.
باب مفتوح لكل طارق(1/168)
أما الاتباع فلا ننكر أن فيهم من قد يخطئ في كلامه أو تصرفه، ولكن لابد من الانتباه إلى مسألة مهمة جدًا حين تقدير ما يصدر عن الأتباع، ذلك أن الدعوة ليست مجمعا للكاملين، وإنما هي مجتمع تربوي يسعى إلى تربية كل وافد إليه إذا كان مبتعدًا عن الكبائر، شريفا في الناس، وإذا قيل: إن فلانا قد صار من جملة شباب الدعوة فليس معنى ذلك أنه قد استكمل الإيمان وحاز العلم من أقطاره، ولكننا حين نصفه بذلك فإننا نعني أنه قد رضي بأن يربيه الدعاة، وأنه قد بدأ السير وفق المنهج الأصح.
وعلى هذا فإن الأتباع، وحتى القادة، متفاوتون في كمية حيازة خصال الإيمان وعلوم الشرع التي تجعل أعمالهم صائبة، فمنهم المبتدئ الذي قد يخطئ، ومنهم المتوسط في ذلك، ومنهم الذي كثف خيره، وعبق عطره.
وليست دلالة القدم أكيدة في ذلك، وإنما هي طاقات مختلفة من التحمل والصبر والذكاء والشجاعة، ولربما تجد القديم في منازل المبتدئين مراوحا إذا لم يكن له مقدار وافر من هذه الخصال الابتدائية، فقد يخطئ في تعامله، أو في كتاباته وأقواله.
وأمر التجميع وقبول الأتباع في الصف يعتمد إلى حد كبير على الفراسة عند المربين والقادة، والفراسة من شأنها أن تصيب أو تخطئ، والقاعدة التي نتبعها: أن نفتح بابنا لكل طارق أمين مهما قل خيره، طالما جاءنا طامعا في أن يقف في صف صلاتنا خلف إمامنا.
نحاسب بالحسني ولا نفضح(1/169)
والحقيقة أن أكثر أخطاء الأعضاء محاسبون عليها، وتشهد على ذلك قصص فيها مفخرة للقيادات في حرصها على الحسبة ونقاء الصف، وتقويم الإعوجاج، ولكنها لا تذيع ذلك أو تنشره، لأن في المقصرين الذين حوسبوا شعبا وأنواعا من الخير لا يراد لها أن تضمحل أ, تموت بالتشهير، ولو أذاعت القيادات محاضر محاوراتها لأمثال هؤلاء المقصرين، معاتبة ومرشدة ومنبهة لهم، لوقعت في الخطأ الذي نعيبه هنا، ولكنه الستر على أهل الخير يستغله الناقدون بلا علم، فيقدمون على الجرح والقدح بجرأة، في موطن تهيبت فهي القيادات واستحسنت الهدوء في معالج الأمر الذي هيج الناقدين.
لا نرضى ببدعة
وفي الواقع أن أكثر الانتقادات التي توجه يمكن ردها بسهولة، ونستطيع أن نقنع المنتقد بوجهة نظرنا إذا كان سليم الطوية، صادرًا عن حب في الإصلاح ما استطاع.
وخذ مثلا في ذلك ما يشاع عن الجماعة من أنها لا تحارب البدع، مع أن كل ناظر إلى سيرة الإمام حسن البنا رحمه الله يدرك صفاء عقيدته، وبدعه عن البدع، ومحاربته لها، وكفاه بالأصول العشرين وثيقة يضعها بين يدي ربه تعالى يحاجج بها ويدلل على قيامه بواجبه السني الاتباعي إزاء الابتداع، وما زالت جماهير المنتسبين إلى دعوته تتدارس هذه الأصول وتشرحها، وتنشرها بين الناس.
السياسة كلها ترجيح بين المصالح
ويتداول حديث عن أخطاء سياسية ترتكبها القيادات، وما هي بأخطاء في حقيقتها لمن أمعن النظر، لكنه تفضيل بين المصالح، واتباع لقاعدة الفقهاء في الحرص على أكبر المعروفين عند تعارضها، ولو بتفويت أدناهما، واحتمال أيسر العارضتين لإبعاد أعظمهما وأكبرهما.
ولقد أطال الإمام ابن تيمية رحمه الله النفس في بيان هذه القاعدة وتصويبها والأمر بالعمل بها، حتى أنه أفتى في هذا الباب بإفتاءات يظنها من لا يخبر السياسة غريبة معيبة.(1/170)
وأغلب هذه المواقف المنتقدة على الحركة مخرجة على هذه القاعدة في الموازنة بين مراتب المعروف والمنكر ودرجات المصالح والمفاسد، فما من تعاون مع حزب معيب، أو تصريح بثناء على فعلة حسنة من حاكم لم يتم إسلامه، أو ما شابه ذلك، إلا وللقيادات فيها تأويل مستخرج وفق هذا الافتاء.
ولا ندعي أن كل هذه التصرفات المعتمدة على هذه القاعدة كانت صوابا دومًا في نتائجها، فإن ذلك ليس ركنا في توثيق المسلم، إنما هو يجتهد في باب السياسة كما في غيرها، فيصيب ويخطئ تبعا لمدى فراسته، وطويل تجربته، إنما الركن المهم هو أن هذا التأويل والاجتهاد يستند إلى أقوال معتمدة في مذاهب أعيان الفقهاء القدماء.
ومع ذلك فلا يمكن للقيادات على طول الخط أن تكشف حوارها حين تقرير مثل هذه الخطوات القائمة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ذلك لأنها قد تعتمد عل أسرار لا يسوغ كشفها، أو تسويغات مضمرة لا تريد أن يتسرب علمها إلى أعداء الإسلام، فيحورون خطتهم العدائية تبعًا لذلك.
وقد جري العرف عندنا على الاستقلال في العمل، والدعوة إلى زوال الأحزاب، ومقارعة الظالمين، ومضت هذه المعاني أصولا في التخطيط السياسي، وأفصح عنها كلها الإمام البنا رحمه الله في رسائله، ولا تكون موازناتنا بين درجات المصالح إلا على ضوء هذه القواعد.
فأنصف أيها الناقد، ذلك خير، وكفاك هذا أيها الداعية، لا تطلب الرد حرفا بحرف، فإنها متاهة والله متاهة الردود... وعوائق.
إن هذه الانتقادات الجزافية هي من جهل الناقدين، وقلة إنصافهم، ولولا أن البعض نم علماء الأمة قد ابتلي بمثل هذا الأذى المعنوي على مر العصور لظننا أنه عقوبة ربانية تحيط بنا، ولكن يبدو أن مثل هذه التشويشات والفتن سنة من سنن العمل الإسلامي، والعاصم منها أن ندعو بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول: ( اللهم إنا نعوذ بك من أن نجهل أو يجهل علينا).
كلمة أخيرة
وبعد أيها الداعية:(1/171)
فإنا قد أطلنا الكلام لك عن الفتن وأسبابها واتقائها، بعدما رأينا ما لها من ضرر على الدعوة الإسلامية يعرقل تقدمها.
والمنتظر نمك أن تخلو إلى نفسك، بعيدًا عن الضوضاء، فتتأمل هذه الجمهرة النافعة المفيدة من الآيات والأحاديث، وأقوال العلماء وأبيات الشعراء، وتعيد قراءتها مرة بعد مرة، وتطابق بينها وبين ما ترى من معاصي المفتونين، لينفتح لك باب عظيم من فقه السلوك.
وإنما هي العرقلة فحسب، ولا تبلغ الفتن أبعد من ذلك أبدًا، ودعوة الله محفوظة سائرة إن شاء الله.
فليس لأمر حاول الله جمعه
مشت، ولا ما فرق الله جامع
ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يرينا نم قصص المفتتنين مصداق ذلك.
فمن أطرف ما يروى في ذلك أن أحد المحررين في المجلة الأسبوعية للجماعة شذ، فنفته الدعوة، فأصدر مجلة أخرى، تحديا وضرارًا.
قال الإمام البنا:
(فدعاها هو "الخلود"، وقضى الله عليها بالفناء، فلم يصدر منها إلا عدد أو عددان، وانتهى أمرها، وكذلك الباطل لا بقاء له، والبغي مصرعه وخيم)(1).
ودعوة الإسلام اليوم تقف شامخة عالية منتصرة في جولتها مع الطغاة.
والدعاة في كل بلاد الإسلام كثير عددهم، نقية عقيدتهم وليس النقص الحاضر نقص عدد ولا نقص إيمان، ولا ذلك هو ما يحول دون الوصول.
لكنه:
العمل الساذج...…ويعالج ببث الوعي
وطول الأمل...…ويقصر بذكر الموت
وظلام العوائق.. …ويبدد بأنوار الفطنة
وتتبلور هذه الأنوار جميعا وتتركز، لتكشف عن أصل رئيس من أصول دعوتنا، يعلن أن:
(القائد جزء من الدعوة، ولا دعة بغير قيادة، على قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب.
"فأولى لهم طاعة وقول معروف"(2).
"فإذا عزم الأمر فلو صدقوا لله لكان خيرًا لهم"....
__________
(1) مذكرات الدعوة والداعية/134.
(2) رسالة التعاليم/ المجموعة/19.(1/172)