الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
العنف
في نطاق الأسرة
إعداد
الدكتور محمد رأفت عثمان
عميد كلية الشريعة والقانون الأسبق
وأستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر بالقاهرة
عضو مجمع البحوث الإسلامية
عضو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الأول
أهمية بناء الأسرة في الإسلام
يتكون أي مجتمع إنساني من مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه وهؤلاء الأفراد جميعا نشأوا في أسر أساسها زوج وزوجة، إلا في الحالات القليلة جداً التي يكون فيها الأولاد نتيجة لقاء غير شرعي بين رجل وامرأة، والأسر في حقيقتها كوحدات البناء في الأبنية المحسوسة التي تحيط بنا أو نسكن فيها، ولاشك أنه إذا كانت الوحدات التي يتكون منها أي بناء قوية متماسكة فإن ذلك ينعكس علي البناء نفسه بالقوة والتماسك بعكس ما إذا كانت الوحدات ضعيفة هشة التكوين فإن هذا يؤدي إلي ضعف البناء وهشاشته.
وقد أبان أهمية بناء الأسرة ما جاء من نصوص شرعية تحث علي أن يراعي الجانب الخلقي الديني عند تكوينها، فوجدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ينصحنا عند الرغبة في تكوين أسرة أن يتخير الرجل المرأة ذات الدين، فبعد أن بين أن رغبات الرجال تتجه عند إرادة الزواج إلي المال الذي يكون تحت يد المرأة – ومثله ما سيئول إليها -، أو إلي حسبها، أو إلي جمالها، أو إلي دينها، أمرنا بأن يتجه الاختيار إلي المرأة المتمسكة بدينها، قال صلي الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع، لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك (1) رواه السبعة : أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (2) .
__________
(1) ... كلمة " تربت يداك " جاءت في كلام العرب علي صورة الدعاء،لكن لا يراد بها الدعاء، بل المراد الحث والتحريض علي فعل الشيء.
(2) ... سبل السلام، للصنعاني ج3 دار إحباء التراث العربي.(1/1)
وفي جانب الرجل أيضا نجد حديثا يبين حسن الاختيار عند المرأة وأهلها فيحث علي الزواج بالرجل ذي الدين والخلق المرضي عنهما، وهو ما رواه الترمذي " عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير: " ومع أن هذا الحديث مختلف فيه بين علماء الحديث، فبينما نجد الترمذي يقول فيه " حديث حسن غريب، نجد أن المناوي ينقل عن البخاري – كما بين صاحب الروضة الندية (1) – أنه لم يعده محفوظا،وبين صاحب الروضة الندية أيضا أن أبا داود عدَّه في الأحاديث المرسلة، وكذلك أعله ابن القطان بالإرسال (2)
__________
(1) ... الروضة الندية : - شرح الدر البهية ، صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي ، ج2 ، ص6 . دار الجيل ، بيروت .
(2) ... الحديث المرسل :- حديث لا يوجد في رواته صحابي، بأن يكون التابعي رفعه إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومعلوم أن التابعين لم يلقوا رسول الله صلي الله عليه وسلم، والعلماء متفقون علي انه يجوز الاحتجاج بالحديث المرسل إذا تقوي بأمر من الأمور الآتية:
... أن يوجد مسند يجئ من وجه آخر صحيح أو أحسن، أو مرسل آخر أرسله من روي عن غير شيوخ راوي المرسل الأول بحيث يظن عدم اتحادهما، أو موافقته لقول بعض الصحابة، أو موافقته لفتوى أهل العلم، أو للقياس، أو لفعل الصحابة، أو لعلم أهل العصر.
... وأما إذا لم يوجد معه ما يقويه بلفظه أو معناه فاختلف العلماء في جواز الاحتجاج به علي آراء ثلاثة:
... الأول – رأى الإمام الشافعي، وهو أنه يجوز الاحتجاج به إذا توفرت ثلاثة شروط في راويه التابعي الذي حذف الصحابي، هي أن يكون من كبار التابعين، وأن يكون ممن يروي عن الثقات دائما، وأن يكون ممن يوافق الحفاظ في أحاديثهم إذا شاركهم، لا يخالفهم إلا بنقص لفظ من ألفاظهم لا يختل به المعنى.
... والرأي الثاني - يراه الأئمة مالك وأحمد في المشهور عنهما، وأبو حنيفة، وأتباعهم من الفقهاء والأصوليين والمحدثين أنه يجوز الاحتجاج بالمرسل مطلقا.
... والرأي الثالث - عدم جواز الاحتجاج بالمرسل مطلقا وهو ما يراه جمهور علماء الحديث. انظر كتاب الشهاوي في مصطلح الحديث، للدكتور إبراهيم دسوقي الشهاوي صفحة 30 – 33 - سنة الطبع 1386هـ - 1966 م، ولم يبين اسم المطبعة.(1/2)
وضعف راويه،كما بين أن راويه أبا حاتم المزني يعد من الصحابة وقال " ولا يعرف له عن النبي صلي الله عليه وسلم غير هذا الحديث" (1) .
نقول: مع أن حديث " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " مختلف فيه كما بيَّنا فإن المعني صحيح، سواء أكان هذا الحديث ثابتا أم لا، ولعل من ما يؤكد معناه أنه جاء في معني مشابه له في جانب المرأة، ففي جانب المرأة ثبت حديث " تنكح المراة لأربع، لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " والرجل في هذا الجانب نظير للمرأة التي ثبت حديث يأمر بالظفر بها إذا كانت ذات دين، ومعروف أن النظير يتساوى في الأحكام مع نظيره.
وتظهر أهمية الاختيار الأفضل من الناحية الخلقية والدينية لكل من الزوجين بالإضافة إلى الأحاديث الشريفة ما أثبتته الدراسات البيولوجية، فإنه كما أن من الثابت تأثير المورثات (الجينات) من الناحية الجسمية فقد بينت بعض الدراسات أيضاً أن للمورثات تأثيراً في سلوك الإنسان وشخصيته، ورأى عدد من الدراسات التي أجريت في هذا المجال أن السلوك الإنساني المعقد يمكن أن تصوغه مورثة واحدة، ومن أكثر الأمثلة دلالة على هذا هو الدراسة التي أجريت على إحدى العائلات الألمانية التي تميز أفرادها بالسلوك العدواني، وارتكب رجالها بشكل منتظم جرائم الاغتصاب، وإشعال الحرائق، فأظهرت الدراسة أن لديهم طفرة في مورثة مسئولة عن ناقل عصبي يسمى (مونو آمين أوكسيداز)، وهي طفرة نادرة جداً، لكن أهميتها دعمت بدراسات أخرى قام بها العلماء على مجموعة من الفئران التي تفتقد المورثة المقابلة لها (2) .
__________
(1) ... الروضة الندية: مصدر سابق ج2 ص6.
(2) ... كسر شيفرة المورثات – الجينوم – كيفن ديفس – ترجمة د/ ياسر العيني، صفحة 328.(1/3)
وقد قام علماء البيولوجيا بأبحاث حول تأثير البيئة التي ينشأ فيها الإنسان، والجينات التي يرثها عن أبويه في سلوكه وأخلاقه، وكان هناك اتجاهان بين العلماء، فبعضهم يرى أن بعض الصفات الكبيرة التي لها أهمية في حياة الإنسان كالسلوك، والذكاء والمزاج ترجع أساساً إلى الجينات التي يرثها الإنسان من والديه، وبعضهم يعتبرها راجعة إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان.وثبت علميّاً أن الناحيتين يتأثر بهما الإنسان.
وقد وجد البيولوجيون صعوبة في الوصول إلي أي الناحيتين له التأثير الأكبر في سلوك الإنسان، بعكس الأبحاث والتجارب علي الحيوان،فإن من الممكن أن تجري التحليلات الأكثر دقة في هذه الأبحاث والتجارب، وذلك بالحد كثيرا من الاختلافات البيئية، فتكون الاختلافات بين الحيوانات التي تجري عليها الأبحاث والتجارب ناتجة فقط عن العوامل الوراثية، وفي إمكان البيولوجيين أيضا أن يجروا أبحاثهم ودراساتهم علي الحيوانات التي يربونها داخليا لدرجة كبيرة لكي يحدوا بشكل أكبر من التغيرات الوراثية.
لكن الإنسان يختلف عن الحيوان في كل منهما مجالا لهذه الأبحاث، فمن غير الممكن أن يوضع أفراد الإنسان في ظروف بيئية واحدة تماماً، ومن الأمور الصعبة بل بالغة الصعوبة – كما يقرر العلماء – تقييم الدور النسبي لكل من المورثات التي ورثها الإنسان من أبويه والبيئة التي وجد بها، سواء كانت البيت أو المدرسة أو الرحم في تحديد سلوك الإنسان وشخصيته (1) إلا أن قيام العلماء بإجراء أبحاثهم علي التوائم ساعدهم في أن يجدوا المادة التجريبية الطبيعية التي تبين مدى التأثير النسبي لكل من الوراثة والبيئة (2) .
__________
(1) ... كسر شيفرة المورثات – الجينوم – كيفن ديفس – ترجمة د/ ياسر العيني – صفحة 327.
(2) ... مقدمة في علم الوراثة، دكتور جمال الدين صفوت، دكتور عبد الرءوف سليم ص120 – دار الفكر العربي – بمصر.(1/4)
ومن المهم هنا أن نبين أن العلماء يذكرون أن المورثات والبيئة لا تعمل كل منهما مستقلة عن الأخرى، فهما يتفاعلان بعضهما مع بعض ليس بعد ولادة الطفل فحسب وإنما تفاعلهما يبدأ من وقت حدوث الحمل، ولهذا فإنهم يصرحون بأنه لا يمكن أن تفصل بين تأثير الوراثة وتأثير البيئة (1) .
وننتهي من ما ذكرناه إلى أن الدراسات البيولوجية أثبتت أن لكل من الوراثة والبيئة تأثيراً في سلوك الإنسان، كما بينت أيضاً بعض الدراسات تأثير الأم على وجه الخصوص في أطفالها من ناحية الدين، وسواء ستثبت الدراسات والبحوث المستمرة في هذا المجال أن الوراثة والبيئة يؤثران بصورة متفاوتة، أو بصورة متساوية فإن هذا ما يتفق والحديث الذي ورد في هذا الشأن وهو حديث: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وأيضاً حديث "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" وهي أحاديث أرشدت كلاً من الزوجين إلى أن يختار الاختيار الحسن لشريك حياته، وهو ما سينعكس إيجابياً على تكوين الأسرة التي لا يكون الأطفال إلا ثمرة طيبة أو غير طيبة.
المبحث الثاني
طبيعة العلاقة بين أفراد الأسرة في الإسلام الزوجين، والأولاد، والآباء، والأمهات
__________
(1) ... الوراثة ما لها وما عليها، د/ شيخة سالم العريض، صفحة 300، دار الحرف العربي، الطبعة الأولى 1424هـ - 2003م.(1/5)
صورة العلاقة بين أفراد الأسرة في الإسلام ترسمها مجموعة من الحقوق والواجبات، بينتها نصوص الشرع في القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما استنبط منهما من قواعد عامة تنظم هذه العلاقة ولو مارس كل من أفراد الأسرة أمور حياته داخل الأسرة بالشكل الذي وضحته نصوص الشرع، ملتزماً عدم التجاوز في هذه الممارسة فإن ذلك يؤدي إلى سد باب من أهم أبواب العنف الأسري، وسنلاحظ من هذه الحقوق والواجبات الأسرية أنها سبيل إلى تحقيق المودة والرحمة بين أفراد الأسرة جميعاً، وإلى إشباع الحاجة الفطرية بين الزوجين حتى يبقى النوع الإنساني، مع الحفاظ على الحياء واحترام خصوصية علاقتهما.
أولاً: العلاقة بين الزوجين:
العلاقة بين الزوجين، تنظمها حقوق مشتركة بينهما، وحقوق خاصة بكل منهما، ومن الواضح أن أي حق يثبت لأي من الزوجين هو واجب على الزوج الآخر، وسنبدأ ببيان الحقوق المشتركة، ثم ببيان حقوق كل من الزوجين استقلالاً:
الحقوق الزوجية المشتركة:
الحق الأول: حق الاستمتاع:
لكل من الزوجين الحق في أن يستمتع بالآخر بكافة صور الاستمتاع المختلفة، بالنظر، وباللمس، وبالاتصال الجنسي في كل الأحوال إلا ما استثناه الشرع.
وقد أجمع العلماء على أن الزوجة لو اشترطت على زوجها في عقد الزواج أن لا يتصل جنسياً بها. لم يجب على الزوج أن يفي بهذا الشرط (1) .
وهناك آداب لهذا الحق المشترك، منها وجوب التستر عند اللقاء الجنسي، روى الترمذي عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "قلت يا نبي الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله، إن كان القوم بعضهم في بعض، قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يراها" (2) .
__________
(1) ... المغني، لابن قدامة ج7، صفحة 163، دار المنار.
(2) ... نيل الأوطار، للشوكاني ج6 صفحة 219، مطبعة مصطفي البابي الحلبي.(1/6)
ومنها وجوب إجابة الزوجة لزوجها إذا دعاها إلى فراشه، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصيح" (1) .
ولعل السبب في التشديد على الزوجة وإيجاب أن تجئ إلى زوجها إذا دعاها إلى فراشه أن الرجل أضعف من المرأة في الصبر على ترك الاتصال الجنسي إذا اشتدت به الرغبة، قال بعض العلماء: إن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح، ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك (2) .
ومن الآداب أيضاً أنه لا يجوز للزوجين إفشاء ما وقع بينهما من أمور الجماع، روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى، فلما سلم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم، هل منكم الرجل إذا أتى أهله، أغلق بابه، وأرخي ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا، وفعلت بأهلي كذا؟ فسكتوا، فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ فجثت فتاة كعاب (3) على إحدى ركبتيها، وتطاولت ليراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمع كلامها، فقالت: إي والله، إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة، فقضى حاجته منها والناس ينظرون.
ومن الآداب أيضاً أن لا يجامع الرجل إحدى زوجتيه أمام الأخرى، لما في هذه الصورة من الدناءة، والسخف، وسقوط المروءة (4) .
الحق الثاني: حسن العشرة:
__________
(1) ... فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني ج9 صفحة 238.
(2) ... فتح الباري ج9 صفحة 238.
(3) ... كعاب – بفتح الكاف – على وزن سحاب، أي فتاة مكعب، أي نتأثدياها.
(4) ... المغنى، لابن قدامة ج7 صفحة 300.(1/7)
حسن العشرة من الحقوق المشتركة بين الزوجين، فأحد الواجبات التي أوجبها الشرع على الزوج أن يحسن عشرة زوجته، ونفس الواجب على الزوجة أن تحسن عشرة زوجها، قال الله عز وجل: "وعاشروهن بالمعروف" (1) وقال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (2) .
قال بعض أهل العلم: التماثل ها هنا في تأدية كل واحد منهما ما عليه من الحق لصاحبه بالمعروف، ولا يمطله به، ولا يظهر الكراهة، بل ببشر وطلاقة، ولا يتبعه أذى ولا منّا، لقول الله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" وهذا من المعروف.
فمطلوب من كل واحد من الزوجين أن يحسن أخلاقه مع الآخر فلا يلجأ إلى العنف في معاملته فيرفق به، وأن يتحمل أذاه، لقول الله تعالى: "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب والصاحب الجنب" (3) فقد روى على بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود أنهما فسرا قوله تعالى: "والصاحب بالجنب" بأنه المرأة، أي الزوجة (4) .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى الرجال بالنساء خيراً، ودعاهم إلى الاحتمال لهن، والصبر على ما قد يضايق الأزواج من أخلاقهن، فقال عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه، إذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً" (5) .
ففي هذا الحديث كما يقول الشوكاني – الإرشاد إلى ملاطفة النساء، والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب، ولا ينجح عندها النصح، فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة، وترك التأديب والمخاشنة.
__________
(1) ... سورة النساء، من الآية 19.
(2) ... سورة البقرة، من الآية 228.
(3) ... سورة النساء، من الآية 36.
(4) ... تفسير ابن كثير ج1 صفحة 495.
(5) ... سبل السلام، للصنعاني ج3 صفحة 138.(1/8)
وأرشد صلى الله عليه وسلم الأزواج إلى حسن العشرة، ونهى الزوج عن أن يبغض زوجته بمجرد أن يكره خلقاً من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن صفة من الصفات التي يرضى عنها زوجها، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يفرك (1) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، رواه الإمامان: أحمد ومسلم (2) ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الزوج – إذا كان في مقام تأديبه لزوجته عن أن يضرب وجهها، أو يسمعها ما تكره من الكلمات القبيحة، فقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام سئل: ما حق زوج أحدنا عليه؟ فأجاب تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" (3) .
ومما يدل على أن المرأة أيضاً يجب عليها أن تحسن عشرة زوجها، أنه ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها" (4) .
الحق الثالث من الحقوق المشتركة: ثبوت نسب الأولاد إليهما:
من الحقوق التي يشترك فيها الزوجان ثبوت نسب الأولاد إلى كل من الزوج والزوجة، فالأولاد كما هم أولاد الزوج هم أيضاً أولاد الزوجة، ويثبت لكل من الأب والأم ما يترتب على ثبوت الأبوة أو الأمومة من حقوق، كالنفقة، والحضانة، والولاية والميراث.
الحق الرابع: التوارث:
من حق كل من الزوجين أن يرث الآخر إذا مات قبله، فالزوجية أحد الأسباب التي تثبت حق الإرث، وما دامت الزوجية قائمة إلى حين وفاة أحد الزوجين فللآخر حق ميراثه، سواء كانت الزوجية قائمة حقيقة أو حكماً، والزوجية القائمة حكماً كما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق رجعي ومات زوجها وهي في العدة، فإن من حقها أن ترثه.
الحقوق الخاصة بكل من الزوجين:
__________
(1) ... لا يفرك بفتح الراء، أي لا يبغض، والفعل الماضي (فرك) بكسر الراء بوزن سمع، القاموس المحيط للفيروز أبادي.
(2) ... نيل الأوطار ج6 صفحة 208.
(3) ... سبل السلام، للصنعاني ج3 صفحة 141.
(4) ... نيل الأوطار، ج6 صفحة 208.(1/9)
لكل من الزوجين زيادة على الحقوق المشتركة بينه وبين الآخر، حقوق خاصة هي في نفس الوقت واجب على الطرف الآخر.
وحقوق الزوجة الخاصة هي: المهر، والنفقة، والكسوة، والمسكن، قال الله عز وجل: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (1) وقال سبحانه وتعالى: "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق من ما آتاه الله" (2) .
وروت عائشة رضي الله عنها أن هنداً بنت عتبة، قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (3) .
ومن حق الزوجة أيضاً إذا كان زوجها متزوجاً بأكثر من واحدة أن يعدل بينها وبين الأخرى، بأن يسوى بينهما في النفقة والكسوة والمسكن والمبيت، وليس من الواجب أن يسوي بينهما في الميل العاطفي، لأن هذا خارج عن إرادته، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي في ما أملك فلا تلمني في ما تملك ولا أملك (4) ، قال الترمذي راوي الحديث: يعني به الحب والمودة (5) .
وأما حقوق الزوج الخاصة فهي:
أولاً: الطاعة في غير معصية:
__________
(1) ... سورة البقرة الآية 223.
(2) ... سورة الطلاق، الآية 7.
(3) ... فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج9 صفحة 408 – 409.
(4) ... نيل الأوطار، للشوكاني ج6 صفحة 212.
(5) ... فتح الباري ج9 صفحة 252.(1/10)
للزوج على زوجته حق الطاعة في كل أمر ليس فيه معصية لله عز وجل، وأما إذا أمرها زوجها بأمر فيه معصية فلا يجوز لها أن تطيعه، فإذا أطاعته أثمت هي الأخرى، كما أثم هو بأمرها بالمعصية، وذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما هو المستقر في أحكام الشريعة، ومثال ذلك أن يأمرها بأن لا تؤدي فرضاً من فروض الله عليها، كصوم رمضان، أو أمرها أن تخرج من بيتها وهي كاشفة من شعرها أو صدرها أو غير ذلك من ما هي مأمورة بستره وهو ما عدا وجهها وكفيها على الرأي المختار في هذه الناحية.
ومن ما يدل على أن طاعة الزوجة لزوجها واجبة أن الله عز وجل أمر بتأديب الزوجة عند عدم إطاعتها لزوجها، ونهى عن إيذائها عند الطاعة، فقال عز وجل: "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" (1) وفي هذا دليل على أن التأديب كان لعدم وجود الطاعة، فدل على أن الطاعة واجبة للزوج (2) .
ومن الطاعة الواجبة للزوج أن تجيبه إذا دعاها إلى فراشه، فإذا امتنعت منه كانت آثمة إذا غضب من امتناعها، يشهد لهذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصيح" (3) .
قال الشوكاني عند شرحه لهذا الحديث: "المعصية منها تتحقق بسبب الغضب منه بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فلا تكون المعصية متحققة، إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك" (4) .
ثانياً: عدم الخروج من البيت إلا بإذنه:
من حقوق الزوج على زوجته أن لا تخرج من المسكن الذي أسكنها إياه إلا بإذن منه، بشرط أن يكون المسكن لائقاً بها غير مسبب لها ضرراً.
__________
(1) ... سورة النساء، الآية 34.
(2) ... بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني ج2 صفحة 234.
(3) ... فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني ج9 صفحة 237 ونيل الأوطار للشوكاني.
(4) ... نيل الأوطار للشوكاني، ج6 صفحة 362.(1/11)
ثالثاً: التأديب:
إذا نشزت الزوجة أي خرجت عن طاعة الزوج، كأن خرجت دون إذن منه إلى مكان لا يحب لها أن تخرج إليه، أو تركت حقاً من حقوق الله تعالى، كأن كانت لا تتطهر أو لا تصلي أو لا تصوم، أو أغلقت بابها دونه فمنعته من الدخول إليها في حجرتها وغير ذلك، فما الذي يفعله الزوج حينئذ؟ أعطاه الشارع الحكيم حق تأديبها، وبيَّن له ثلاث وسائل في قول الله عز وجل: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" (1) .
وسنعود إلى الكلام عن هذا الحق للزوج عند الكلام عن التأديب في نطاق الأسرة، مشروعيته، وشروطه، وضوابطه.
رابعاً: من حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، فإذا أرادت صوم رمضان فلا يجوز له أن يمنعها من ذلك إلا إذا كان هناك عذر جعله الشرع مبيحاً للإفطار، فإذا لم يوجد عذر ومنعها من صوم رمضان كان آثماً وكانت هي أيضاً آثمة إذا هي استجابت له في ذلك طواعية.
وأما صوم التطوع فيلزمها أخذ الإذن من زوجها في ذلك، وإذا صامت من غير إذنه فإن الفقهاء بينوا أن من حق الزوج حينئذ أن يقطع صيامها (2) .
خامساً: أن لا تأذن لأحد بالدخول في بيت زوجها إلا بإذنه، روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" (3) .
وروى عمرو بن الأحوص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم من تكرهونه، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" (4) .
__________
(1) ... سورة البقرة الآية 34.
(2) ... كفاية الأخبار، لتقي الدين أبي بكر بن محمد الحصني ج2 صفحة 92.
(3) ... فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج9 صفحة 238.
(4) ... نيل الأوطار، للشوكاني ج6 صفحة 210.(1/12)
طبيعة العلاقة بين الأولاد والآباء والأمهات:
العلاقة بين الأولاد وآبائهم وأمهاتهم تنظمها نصوص شرعية في القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلة الله عليه وسلم، فتبين فيها ملامح الرأفة والرحمة والمودة والرعاية من كل من الجانبين، سواء جانب الآباء والأمهات أو جانب الأولاد، ومن الطبيعي أن تبدأ حقوق الأولاد قبل آبائهم وأمهاتهم، ثم يجئ الدور على الأولاد بعد أن يشبوا ويتحملوا مسئولية التكليف فيتحملوا هم أيضاً حقوقاً يجب أن تؤدي إلى الآباء والأمهات.
أبرز حقوق الأولاد على الآباء والأمهات:
الحق الأول ... : تبدأ حقوق الأولاد على آبائهم وأمهاتهم من أولى خطوات تكوين الأسرة، والخطوة الأولى هي اختيار كل من الزوجين للزوج الآخر الاختيار الأمثل، وهو ما يكون ملاحظاً فيه الجانب الخلقي الأفضل كما بين حديث: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" عند اختيار الرجل لزوجته، وكما بين حديث: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" عند اختيار المرأة لزوجها، وقد بينا في ما سبق أنه مع كون هذا الحديث مختلفاً فيه فإن معناه صحيح سواء أكان ثابتاً أم غير ثابت.
وقد بينا سابقاً أن الأبحاث البيولوجية أثبتت تأثر الأولاد بالبيئة التي ينشأون فيها، بل هناك من البحوث التي تجرى الآن من علماء البيولوجيا بدافع التعرف على تأثر الأولاد سلوكياً بالجينات التي تنتقل إليهم من آبائهم وأمهاتهم.
الحق الثاني ... : حق الرعاية بعد الولادة، من تغذية الطفل وتنظيفه وغسل ثيابه، وتعهده في يقظته ونومه والعمل على حمايته من الأمراض ومن كل ما يؤدي إلى حصول الضرر له، وحسن التربية التي تؤهله ليكون إنساناً نافعاً في المجتمع سوي السلوك، لا يعتدي على حقوق غيره وغير ذلك من ما يحقق مصالحه، وهو ما يعبر عنه بحق الحضانة، فكما أن الحضانة حق للحاضن فهي في نفس الوقت حق للمحضون.(1/13)
ومن أجل حمايته من أي ضرر يلحق به، أباحت الشريعة لأمه أن تفطر في نهار رمضان إذا هي خافت عليه وهي تحمل به، وأباحت لها كذلك أن تفطر إذا خافت عليه رضيعاً، وإذا تأكد حدوث الضرر لو لم تفطر بقول طبيب ثقة أو بما عهدته من نفسها في حياتها تحول حكم الإفطار من الإباحة إلى الوجوب.
الحق الثالث ... : حق الانتساب إلى أبويه، وقد بينت بعض الأحاديث عظم الذنب في الغش والكذب في الأنساب، روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه (أي يعلم أنه ولده) احتجب الله عنه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" صححه ابن حبان (1) .
الحق الرابع ... : معاملة الطفل باللطف والرفق به، فنجد الآباء والأمهات في علاقاتهم بأبنائهم وبناتهم مأمورين بالرفق بأولادهم من ناحيتين، الناحية الأولى: ناحية النصوص الشرعية التي طلبت طلباً عاماً من كل المكلفين التعامل بالرفق وذمت العنف، فيكون الآباء والأمهات مكلفين بالرفق بأبنائهم وبناتهم دخولاً في هذا الأمر العام، قال صلى الله عليه وسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير" وفي رواية إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه، وفي رواية لا يكون الرفق في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، وفي رواية عليك بالرفق (2) .
__________
(1) ... سبل السلام، للصنعاني ج3 صفحة 195.
(2) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج16 صفحة 145.(1/14)
والناحية الثانية: ما بينته كتب السنة أن الرفق مطلوب في معاملة الأطفال، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "أتقبلون صبيانكم، فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من لا يرحم لا يرحم، وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل (1) .
وبلغ من شفقة الكبار على الصغار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو يحمل بنت بنته، روى البخاري بسنده عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها (2) .
وفي رواية عن أبي داود: (حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده قام وأخذها فردها في مكانها.
وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث، والذي دفعهم إلى هذا أن فيه عملاً كثيراً، فحكى عن مالك أن ذلك كان في صلاة النافلة، قال ابن حجر العسقلاني: وهو تأويل بعيد، فإن ظاهر الأحاديث أنه كان في فريضة وثبت في صحيح مسلم. (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة على عاتقه) قال المازري: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة.
__________
(1) ... المصدر السابق ج15 صفحة 76، 77.
(2) ... فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني ج1 صفحة 703، دار الريان للتراث.(1/15)
وروى أشهب عن مالك أن ذلك للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها، وروى عنه أيضاً أن الحديث منسوخ، وقال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة، وأجيب عن ذلك بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ويرى البعض أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم لكونه كان معصوماً من أن تبول عليه وهو حاملها، وأجيب عن هذا بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص بالرسول في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك، وحمل الحديث أكثر أهل العلم على أنه كان عملاً غير متوال، لوجود الطمأنينة في أركان صلاته.
وقال النووي: ادعى بعض المالكية أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكل ذلك دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفو عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك) (1) .
وثواب الشفقة في الإحسان إلى البنات الصغيرات يظهر من ما رواه مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها (أي فمها) تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها من النار (2) .
حق الوالدين على الأولاد:
__________
(1) ... فتح الباري ج1 صفحة 705.
(2) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج16 صفحة 179، 180.(1/16)
إذا انتقلنا إلى بيان حق الوالدين على أولادهما بنيناً كانوا أو بنات نجد نصوص الشرع تأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما، والبعد عن كل مظاهر العنف، ففي القرآن الكريم نجد قول الله عز وجل: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً" (1) وقوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً" (2) وقوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً" (3) وقوله تعالى: "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً" (4) وبلغ الحث على التعامل مع الوالدين بالرفق وعدم العنف أن وجدنا الله عز وجل ينهى أن يقول أحد الأولاد لأحد والديه كلمة تحمل إيذاء نفسيّاً قليلاً، وهي كلمة (أف) التي تعني التضجر والتكرُّه، وينهى عن نهرهما، وأمر عز وجل بأن يقول الولد لوالديه قولاً كريماً، قال تبارك وتعالى: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً" (5) .
وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد في كتب السنة أيضاً ما يوجب أن يبعد الإنسان نفسه عن العنف في التعامل مع والديه فقد ثبت أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك" (6) .
__________
(1) ... سورة البقرة من الآية 83.
(2) ... سورة النساء من الآية 36.
(3) ... سورة الأنعام من الآية 151.
(4) ... سورة الإسراء من الآية 23.
(5) ... سورة الإسراء، الآية 23، 24.
(6) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج16 صفحة 102.(1/17)
وقد بينت بعض الأحاديث عظم فضيلة بر الوالدين وأن برهما آكد من الجهاد في سبيل الله، فعن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد" وفي رواية أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" (1) .
ونجد حديثاً يبين أن البر بالوالدين عند كبرهما وضعفهما بخدمتهما أو الإنفاق عليهما أو غير ذلك من ألوان وصور البر سبب لدخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة (2) .
المبحث الثالث
التأديب في نطاق الأسرة، مشروعيته، شروطه، ضوابطه
تمهيد:
كلمة التأديب مصدر للفعل أدب، وإذا قلنا أدب إنسان غيره فإن معنى العبارة هو أنه علمه رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل (3) .
ومن الأمور الواضحة أن التأديب لا يكون إلا ممن له الولاية على من يراد تأديبه، وعلى هذا فإن التأديب في نطاق الأسرة سيكون موكولاً إلى الرجل، بوصفه زوجاً وبوصفه والداً، فكل من صفتيه تعطيه حق الولاية الآذن بالتأديب قبل الزوجة وقبل الأولاد عندما يستدعى الأمر ذلك.
لماذا كانت الولاية في البيت للرجل؟ يحتاج إثبات الولاية للزوج على أسرته – زوجة وأولاداً – إلى شيء من الإيضاح.
__________
(1) ... المصدر السابق صفحة 103، 104.
(2) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج16 صفحة 109.
(3) ... المصباح المنير، لأحمد بن محمد بن على المقري الفيومي، مادة أدب.(1/18)
فمن الأمور التي لا تحتاج إلى تأكيد أن هناك فوارق خلقية – بكسر الخاء – بين الرجل والمرأة، أو بعبارة أخرى بين الذكر والأنثى، ولا يتصور في العقل السليم أن يعامل الذكر باعتباره أنثى أو تعامل الأنثى باعتبارها ذكراً، ومن الطبيعي أن تختلف الوظائف التي تقوم بها الأنثى عن الوظائف التي يقوم بها الذكر، والإسلام بأحكامه العادلة الحكيمة راعي هذا الاختلاف الخلقي، لأنه شريعة الله عز وجل، قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (1) فلأن المرأة بحسب خلقتها الأنثوية أضعف في تكوينها الجسماني – في الغالب – من الرجل جعل لها الشرع من أنواع الرعاية ما هو داخل في الواجبات التي يكلف بها الرجل، فجعل من واجبات الرجل أن ينفق على بناته ضمن واجب الإنفاق على جميع أولاده، سواء كانوا بنيناً أو بنات، فإذا بلغت الفتاة مبلغ الصلاحية للزواج وتزوجت، انتقل واجب الإنفاق عليها إلى رجل آخر هو زوجها المكلف شرعاً بأن ينفق عليها، ويهيئ المسكن المناسب لها ما دامت قدرته المالية تساعده على ذلك، بل هو مكلف بأن يجئ لها بخادمة إذا كانت زوجته لها خادمتها أو يخدم مثلها قبل أن تتزوج، فإذا حدث فراق بينها وبين زوجها بالطلاق أو بالموت ولم تكن تملك ما يكفي لتعيش حياة كريمة لائقة بها، رجعت مسئولية الإنفاق عليها إلى ولي أمرها أباً كان، أو جداً، أو أخاً، أو غيرهم من سائر عصبتها.
فإذا انتقلنا إلى جانب الرجل فإننا نجده مكلفاً بأن يدفع مهراً لمن أراد الزواج بها، وإذا تم الزواج كان مكلفاً بإعداد المسكن المناسب لزوجته، والإنفاق عليها بما يتلاءم مع مستواه ومستواها.
__________
(1) ... سورة الملك الآية 14.(1/19)
ووجود الفوارق الخلقية بين المرأة والرجل، وعدم التساوي بين مسئوليات المرأة المالية ومسئوليات الرجل يبرر أن تكون القيادة للرجل في البيت، والقيادة هي القوامة التي يبينها القرآن الكريم في قول الله عز وجل: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم".
والقوامة ليست تحكماً وتسلطاً واستبداداً بالرأي، وإنما هي نوع من القيادة وتحمل مسئولية التوجيه والأعباء في الأسرة، وهذا يقتضي التحرك كثيراً في مجال أنشطة المجتمع، وبذل الطاقة وكفالة أفراد الأسرة جميعاً بمن فيهم الزوج الآخر ورعايتهم من حيث حاجاتهم إلى الأكل والشرب، والمسكن والملبس، والتعليم، والعلاج، والتوجيه الأخلاقي، وكافة أشكال الرعاية، وهذا بعض من واجبات القيادة أي القوامة في الأسرة، وهو عبء تظلم المرأة إذا كلفت بالنهوض به، لطبيعتها الأنثوية الرقيقة الضعيفة المباينة لطبيعة الرجل المؤهلة لتحمل المشاق، كما نفهم من قول الله عز وجل في قصة آدم وحواء، ونهى الله عز وجل لهما عن أن يستجيبا لإغواء الشيطان لهما فيشقى آدم قال الله عز وجل: "فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى" (1) .
وتتلاءم القوامة للرجل مع طبيعة تكوينه وسرعة حركته في المجتمع وحريتها بالنسبة إلى حركة المرأة وحرية تصرفاتها، وعدم احتياجه للحماية في حركاته الكثيرة في المجتمع لكسب المال.
فلهذا الواجب الذي أناطه الشرع بالرجل كان من العدل والحكمة أن تكون له القيادة لكي يستطيع أداء واجباته بشكل يكون مسئولاً عنها.
وننتهي من ما ذكرناه إلى أن سلطة التأديب في الأسرة يجب أن تكون موكولة إلى من له القوامة أي القيادة وهو الرجل.
مشروعية التأديب:
__________
(1) ... سورة طه الآية 117.(1/20)
بينت نصوص القرآن الكريم مشروعية تأديب الزوج لزوجته، في قول الله عز وجل: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً" (1) .
ونشوز المرأة معناه استعصت على زوجها فالنشوز هو العصيان، وهو مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض، وقال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه، وقال ابن فارس: نشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها. وقال صاحب المصباح: نشزت المرأة استعصت على بعلها وأبغضته.
وأصل النشوز الارتفاع، يقال: نشز من مكانه نشوزاً إذا ارتفع عنه فمعنى (واللاتي تخافون نشوزهن) أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عن ما أوجب الله سبحانه وتعالى عليهن من طاعة الأزواج (2) .
__________
(1) ... سورة النساء، الآية 35.
(2) ... القاموس المحيط، للفيروز أبادي، ومختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي، والمصباح المنير للفيومي، مادة: نشز والجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد القرطبي.(1/21)
والنشوز في الاصطلاح الفقهي عرفه بعض فقهاء الحنفية بأنه خروج الزوجة من بيت زوجها بغير حق، وعممه المالكية والشافعية والحنابلة فلم يقصروه على خروج الزوجة بغير حق، وقالوا في تعريفه: خروج الزوجة عن الطاعة الواجبة للزوج، ويرى بعض الفقهاء أن النشوز بمعناه الاصطلاحي لا يكون إلا من جانب الزوجة ولا يكون من جانب الزوج، ويرى البعض الآخر أنه كما يكون النشوز من الزوجة يكون من الزوج، قال الشرقاوي: إن النشوز يكون من الزوجة ومن الزوج وإن لم يشتهر إطلاق النشوز في حق الرجل، وقال البهوتي: يقال نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة وناشز، ونشز عليها زوجها: جفاها وأضَّر بها (1) .
وقد بينت الآية الكريمة ثلاث وسائل لتأديب الزوج زوجته إذا حاولت الخروج على ما أوجبه الله عز وجل من حقوق لزوجها عليها والنشوز عن طاعته وعصيانها له وهذه الوسائل:
1- الوعظ، كأن يذكرها بالله عز وجل في الترغيب في ما عنده من الثواب إذا هي وفت بالحقوق التي بينها الشرع لزوجها، وأن ما يصدر عنها من أفعال يتناقض مع حسن العشرة الواجب بين الزوجين، وحقه عليها.
__________
(1) ... الموسوعة الفقهية الكويتية، ج40 صفحة 284، وذكرت المصادر: الدر المختار لمحمد علاء الدين الحصكفي، ورد المحتار لابن عابدين ج2 صفحة 646 وقواعد الفقه للبركتي، والشرح الكبير، لأحمد الدردير بهامش حاشية الدسوقي ج2 صفحة 343، والشرح الصغير لأحمد الدردير ج2 صفحة 511، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على منهاج الطالبين للنووي ج3 صفحة 299، والمغني، لابن قدامة ج7 صفحة 46.(1/22)
2- إذا لم تجد هذه الوسيلة الأولى انتقل إلى الوسيلة الثانية، وهي الهجر في المضجع إلى أي مدة يراها، وأما الهجر بالكلام فلا يجوز لأكثر من ثلاثة أيام، لما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، إلا إذا كانت الزيادة لإصلاح دينها ومن المستحب أن يحاول إرضاءها فيستميل قلبها بهدية يهديها إياها ونحو ذلك. وللعلماء أربعة أقوال في صورة الهجر كيف تكون؟:
القول الأول ... : ما نقل عن ابن عباس أنه يوليها ظهره في فراشه.
القول الثاني ... : أنه لا يكلمها وإن اتصل جنسياً بها، قاله عكرمة، وقد علق ابن العربي على هذا القول بقوله: إذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة (1) .
القول الثالث ... : لا يجمعها وإياه فراش ولا جماع، حتى ترجع عن نشوزها، نقل هذا عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وقتادة، والحسن البصري، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك.
القول الرابع ... : وهو قول غريب – إن له أن يكلمها ويجامعها ولكن بقول فيه غلظ وشدة، وهو منقول عن سفيان، وعلق ابن العربي على هذا القول قائلاً: هذا ضعيف من القول في الرأي، فإن الله سبحانه رفع التثريب (2) عن الأمة (الجارية) إذا زنت وهو العقاب بالقول، فكيف يأمر مع ذلك بالغلظة على الحرة (3) .
3- فإذا لم تصلح الوسيلة الثانية فإن من حقه أن يضربها ضرباً غير مبرح، أي غير شاق عليها ولا مؤذ لها، وأما الضرب المبرح فلا يجوز حتى لو علم أنها لن ترجع عن ما هي عليه إلا بهذا النوع من الضرب.
__________
(1) ... أحكام القرآن، لمحمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المجلد الأول - صفحة 419.
(2) ... يقال: ثربه وأثربه أي لامه وعيرَّه بذنبه. القاموس المحيط.
(3) ... أحكام القرآن، لابن العربي – المجلد الأول – صفحة 420.(1/23)
فلو تمادي الزوج وضربها ضرباً مبرحاً، فقد أفتى الفقيه أحمد الدردير أحد فقهاء المالكية المشتهرين بأن الزوج يصير في هذه الحال جانياً، وللزوجة الحق في طلب التفريق بينهما والقصاص من الزوج (1) .
بعض العلماء يرى عدم الضرب: حكي ابن العربي عن عطاء أنه قال: لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن يغضب عليها.
قال ابن العربي: قال القاضي: هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب ها هنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زمعة : "إني لأكره للرجل بضرب أمته عند غضبه، ولعله أن يضاجعها من يومه".
والملاحظ أن هذا في أيام الجواري، فكيف إذن بحال الحرة؟!.
وروى ابن نافع عن مالك عن يحيي بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استؤذن في ضرب النساء، فقال:اضربوا، ولن يضرب خياركم، فأباح وندب إلى الترك، وإن في الهجر لغاية الأدب" (2) .
__________
(1) ... الشرح الصغير، لأحمد الدردير ج2 صفحة 292.
(2) ... أحكام القرآن، لابن العربي – المجلد الأول – دار المعرفة – صفحة 419.(1/24)
ويبدو من كلام الشوكاني أنه يرى أنه يرى أن هجر الزوج لزوجته وضربها لا يجوز إلا إذا أتت بفاحشة مبينة (1) ، فعند شرحه للحديث الذي رواه عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: "استوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرِّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" الحديث قال الشوكاني: "وظاهر حديث الباب (يعني حديث عمرو بن الأحوص) أنه لا يجوز الهجر في المضجع والضرب إلا إذا أتين بفاحشة مبينة لا بسبب غير ذلك، واستمر الشوكاني فقال: وقد ورد النهي عن ضرب النساء مطلقاً، فأخرج أحمد وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذؤاب مرفوعاً بلفظ: "لا تضربوا إماء الله"، فجاء عمر فقال: "ذئر النساء على أزواجهن (2) ، فأذن لهم فضربوهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير، فقال: "لقد أطاف بآل رسول الله سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم" ولفظ أبي داود: "لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم" (3) .
__________
(1) ... بين العلماء أن المراد بالفاحشة المبينة أن لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم، وأنه ليس المراد بذلك الزنا، لأن ذلك محرم ويلزم عليه الحد، بين ذلك القرطبي ثم قال: "وقد قال عليه السلام: "اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضرباً غير مبرح، قال عطاء: فقلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 صفحة 159 – 160.
(2) ... ذئر النساء – بفتح الذال وكسر الهمزة – أي نشزن، وقيل: عصين نيل الأوطار ج6 صفحة 365.
(3) ... نيل الأوطار ج6 صفحة 365 وسنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ج2 صفحة 252.(1/25)
وحكى الشوكاني عن الشافعي أنه يرى أن من المحتمل أن يكون اشتراط الإتيان بالفاحشة في إباحة الهجر والضرب قبل نزول الآية بضربهن يعني قوله تعالى: (واضربوهن) ثم أذن بعد نزولها فيه، هذا ما حكاه الشوكاني عن الشافعي ويمكن أن يجاب بأن هذا كان في حجة الوداع.
ويبين العلماء أن الضرب إنما يكون تأديباً إذا رأى من زوجته ما يكره في ما يجب عليها فيه طاعته، وأن من الأفضل أن يكتفي بالتهديد ونحوه وأنه كلما كان من الممكن أن يصل الزوج إلى غرضه بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، لأن وقوع الفعل يؤدي إلى حالة النفور، وذلك مخالف لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله عز وجل.
ويذكرون في هذا المجال ما رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادماً قط، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا في سبيل الله أو تنتهك محارم الله فينتقم لله، وما رواه البخاري ومسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم) وفي رواية (من آخر الليلة) (1) .
أمور لابد من التزامها في التأديب في نطاق الأسرة:
ننتهي من الكلام في التأديب في نطاق الأسرة إلى ما يلي:
أولاً ... : الزوج له سلطة التأديب على الأولاد والزوجة، لما له من القوامة التي أسندها الله عز وجل إليه في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) (2) وإذا كان له القوامة على زوجته فمن باب أولى له القوامة على أولاده حتى يبلغوا سن التكليف، ويؤكد هذا ما ورد في الحديث الشريف: (والرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته). والقوامة تستلزم رعاية الأسرة زوجة وأولاداً، والبعد عن التعامل معها بأية صورة من صور العنف والقيام بمصالحها، وليست استبداداً ولا يجوز التعسف من الزوج في استعمال هذا الحق.
__________
(1) ... نيل الأوطار، للشوكاني ج6 صفحة 365.
(2) ... سورة النساء من الآية 34.(1/26)
ثانياً ... : لا يجوز للزوج أن يسمع زوجته كلاماً قبيحاً.
ثالثاً ... : الأفضل أن يكتفي الزوج بالتهديد بوسائل التأديب الشرعية إذا كان ذلك مؤدياً للغرض.
رابعاً ... : التأديب بالهجر بالكلام لا يزيد عن ثلاثة أيام.
خامساً ... : التأديب بالهجر في الضجع لا يجوز – عند القرطبي – أن يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضربها الله أجلا عذراً للمولى.
سادساً ... : الأمر في قول الله عز وجل: (واضربوهن) لا يفيد إلا مجرد الجواز، فلا يفيد الوجوب، بل ولا يفيد الاستحباب، كما بينت بعض الأحاديث الشريفة.
سابعاً ... : حال جواز الضرب قاصرة على الإتيان بالفاحشة المبينة، وقد بيَّن القرطبي معناها وهو إدخال الزوجات منازل أزواجهن أحداً ممن يكرهه الأزواج من الأقارب والنساء والأجانب، وليس المراد بالفاحشة المبينة الزنا، فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد.
ثامناً ... : الضرب المباح لا يجوز إلا إذا كان ضرباً غير مبرح، وذلك لأن المقصود من الضرب الصلاح لا غير، ومثل له القرطبي باللكزة ونحوها، فإن ضربها ضرباً مبرحاً فإنه يستحق العقوبة وعند بعض الفقهاء لها حق الطلاق للضرر.
تاسعاً ... : لا يجوز للزوج أن يضرب وجه زوجته.
عاشراً ... : ينتقل الحكم من الإباحة للضرب إلى المنع إذا كان الزوج يغلب على ظنه أن الضرب لا يفيد.
حادي عشر ... : إذا لم تفد الوسيلة التي لا يلجأ إليها إلا بالشروط التي بيناها، وهي وسيلة الضرب، فالخطوة الأخيرة هي تحكيم حكم من أهله وحكم من أهلها فينظران ممن الضرر، قال الله عز وجل: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً) (1) .
على خلاف بين العلماء في المخاطب في قوله عز وجل: (وإن خفتم) فيرى البعض أنهم الحكام. وعلى هذا يرفع الأمر للقضاء، ويرى البعض أن الخطاب للأولياء.
__________
(1) ... سورة النساء الآية رقم 35.(1/27)
والخلاف أيضاً في المراد بقول الله تبارك وتعالى: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما) فيرى ابن عباس ومجاهد وغيرهما أنهما الحكمان، ويكون المعنى على هذا الرأي إن يريد الحكمان إصلاحاً يوفق الله بين الزوجين.
وهناك رأى آخر أن المراد الزوجان، فيكون المعنى على هذا الرأي إن يرد الزوجان إصلاحاً وصدقاً في ما أخبرا به الحكمين (يوفق الله بينهما) والحكمان لا يكونان كما نصت الآية الكريمة إلا من أهل الزوج والزوجة، لأنهما أعرف بأحوال الزوجين، ويكونان متصفين بالعدالة وحسن النظر ولهما دراية بالفقه.
فإذا لم يوجد من أهلهما من يصلح لهذه المهمة اختير عدلان عالمان غيرهما وذلك – كما قال القرطبي -: إذا أشكل أمرهما ولم يُدْر ممن الإساءة على إزالة الضرر. انتهي كلام القرطبي (1) .
المبحث الرابع
خصائص العنف في نطاق الأسرة
تمهيد:
شاءت إرادة الله – عز وجل – أن يخلق من كل شيء زوجين، قال الله تبارك وتعالى: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) (2) ، وقال تبارك وتعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (3) .
وليس موضع شك أن يكون الرجل والمرأة – بوصفهما ذكراً وأثنى – داخلين في عموم النصوص التي جاءت في القرآن الكريم مبينة زوجية المخلوقات.
ولابد في العقل السليم أن تكون الزوجية في كل الأشياء عاملاً من العوامل التي تؤدي إلى التلاؤم والتناغم بين المخلوقات، وأداء وظيفة كل مخلوق لمهمته على الوجه الأكمل.
ولا يتصور أن تكون الشدة والعنف بين كل زوجين من الأشياء بما في ذلك الإنسان، مثمرة للثمرة المرجوة من خلق الأشياء زوجين، وبعد ذلك يحسن أن نلاحظ هنا أمرين:
__________
(1) ... الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج3 صفحة 161 – 162.
(2) ... سورة النجم الآية 45.
(3) ... سورة الذاريات الآية 49.(1/28)
الأمر الأول: أن اجتماع الذكر والأنثى من أفراد الإنسان تحت السقف الشرعي وهو عقد الزوج، أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى حدوث السكن النفسي بين الرجل والمرأة والمودة والرحمة، وهو نعمة من نعم الله على الإنسان بنوعيه. قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (1) .
الأمر الثاني: أن الرحمة سمة من سمات الشرائع الإلهية التي أرسلها الله تبارك وتعالى لهداية البشر، لتنظيم علاقاتهم ببعض وتنظيم علاقاتهم – قبل ذلك – بالخالق تبارك وتعالى، قال - عز وجل – مخاطباً رسوله – صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (2) وهي صفة سمي الله – عز وجل – بها نفسه، فمن أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم، وليس من المستغرب أن تكون أول عبارة في كتاب الله الكريم هي (بسم الله الرحمن الرحيم).
الرحمة تناقض العنف:
لا تجتمع الرحمة مع العنف، فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى تأكيد أن الرحمة تناقض العنف، لأن العنف ضد الرفق، فإذا قلنا مثلاً: عامل إنسان غيره بعنف فإن معناه عامله بشدة وقسوة، ولا يقتصر التعبير بالعنف على التعامل بقسوة بين البشر، بل يتصف بالعنف أيضاً من عامل الحيوان بدون رفق به، ففي اللسان العربي أن العنيف أيضاً من لا رفق له بركوب الخيل، وكما يكون العنف في الأفعال يكون في الأقوال، فمن معاني العنيف أيضاً هو الشديد من القول (3) .
وإذا كان العنف هو أخذ الغير بالشدة والقسوة، فإن الرحمة بخلاف ذلك، فهي معاملة الغير بالرقة له والعطف عليه.
__________
(1) ... سورة الروم الآية 21.
(2) ... سورة الأنبياء الآية 107.
(3) ... القاموس المحيط، للفيروز أبادي، ومختار الصماح، لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، والمصباح المنير، لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، مادة: عنف.(1/29)
وقد حثت نصوص الشرع على الرحمة، وحببت في التعامل بها حتى مع الحيوان، ويشهد لهذا القصة التي ذكرها الحديث الشريف وهي أن امرأة عذبت في هرة (قطة) حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها من خشاش الأرض، أي من حشرات الأرض (1) .
وإذا كانت الرحمة مطلوبة في التعامل مع المخلوقات حتى الحيوانات، فلابد أن تكون مطلوبة في تعامل الإنسان مع الإنسان، ومن أقوى صور التعامل الإنساني، وأشدها لصوقاً بين طرفين، هو تعامل الرجال مع النساء، وصلاتهم بهن في أطوار وحالات متعددة، فالمرأة زوجة للرجل، وهي ابنة له، أو حفيدته، وهي أمه، أو جدته، وأخته، وعمته، وخالته، وقد دلت النصوص الشرعية على الإحسان بكل هؤلاء، ففي الأم نجد الإحسان إليها مأموراً به في قول الله عز وجل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناُ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً) (2) ، وقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) (3) . والأم هي أحد الوالدين اللذين أمرنا ربنا – تبارك وتعالى – بالإحسان إليهما وعدم الإساءة إليهما ولو بكلمة (أفٍ) التي معناها أتضجر، وفي بقية النساء نجد الشرع يأمرنا بصلة الأرحام ومن الواضح أن الإحسان إليهن هو من صلة الأرحام، قال تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) (4) . وقرن الله – عز وجل – بين صفتين نهانا عنهما في قوله – عز وجل: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (5) .
__________
(1) ... سبل السلام، للصنعاني ج3 صفحة 230.
(2) ... سورة الإسراء الآية 23.
(3) ... سورة النساء الآية 36.
(4) ... سورة النساء من الآية 1.
(5) ... سورة محمد الآية 22.(1/30)
وفي الزوجات نجد الله – عز وجل – يأمرنا أن نعاملهن بالمعروف، قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) (1) . ويحبب إلى الأزواج أن يبقوا على زوجاتهم في عصمتهم حتى لو كرهوا شيئاً منهن، قال تعالى: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) (2) .
ويوصينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالنساء عامة، فيقول: (استوصوا بالنساء خيراً).
خصائص العنف في نطاق الأسرة:
يتميز العنف في نطاق الأسرة بعدة خصائص من أهمها:
1- العنف في الأسرة أكثر وقوعاً منه خارج الأسرة، فيقرر بعض الباحثين أن عدد جرائم العنف التي تقع داخل المنزل يفوق ما يرتكب خارجه، وأن معدلات العنف بين أفراد الأسرة تفوق ما يقع بين الغرباء (3) .
2- عنف الوالدين أو أحدهما في تربية الأولاد يزرع روح الحقد فيهم، وكراهية الأبوين، والخوف، والانعزال عن الناس، والتشرد والهرب من البيت وهذا بدوره يؤدي إلى الانحراف (4) .
ونصوص الشريعة تبين أن الإنسان مطالب بالرفق عامة فكيف برفقه بأولاده، وتبين أن الرفق من جميل الصفات التي تزين مصدره وأن عدم من الصفات المعيبة.
__________
(1) ... سورة النساء من الآية 19.
(2) ... سورة النساء من الآية 19.
(3) ... العنف في الأسرة، عدلي السمري، نقلته عن العنف داخل الأسرة، أسبابه، وأشكاله، وعوامله، وآثاره، للدكتورة آيات محمد إبراهيم، بحث مكتوب بالكمبيوتر صفحة 2.
(4) ... العنف داخل الأسرة، د/ آيات محمد إبراهيم صفحة 3.(1/31)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) رواه البخاري ومسلم (1) ، وتبين الأحاديث أن الرفق من جميل الصفات التي تزين مصدره وأن عدمه من الصفات المعيبة، روى مسلم عن عائشة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق، مالا يُعطي على ما سواه) وروى مسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) (2) .
كما تبين النصوص الشرعية أيضاً أن من المستحب أن يسلم الإنسان على أهله إذا دخل بيته، قال الله عز وجل: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) (3) . ومما يلفت النظر أيضاً أن كلمة "السلام عليكم" هي نهاية الصلاة وعودة إلى الحياة العادية في علاقة الناس بعضهم مع بعض في الكلام وغيره من سائر ألوان النشاط الإنساني ومن الواضح أن السلام مناقض للعنف ولا يتواءم معه.
3- الطابع السيكولوجي أو النفسي، حيث يستغل أحد الأطراف الحال النفسية للطرف الآخر ليمارس العنف ضده، كأن يمارس الأب العنف على الأولاد الصغار، سواء كانوا أولاده أو أولاد زوجته الذين يكونون في رعايته من رجل آخر قبل الزواج بها، مستثمراً الحب الطبيعي من الأم لأولادها وشفقتها وحنانها عليهم، أو تمارس الزوجة العنف أحياناً على الزوج في حال ما إذا كانت حاضنة في حال الانفصال فيتخذ الزوج سلاح عدم الإنفاق على الأولاد، وتتخذ الزوجة سلاح حرمان الأب من رؤية أولاده في حال كونهم في حضانتها، فيصبح العنف هو أسلوب التعامل بين الزوجين أو بين من كانا زوجين.
__________
(1) ... رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، للنووي - صفحة 215 - دار الحديث.
(2) ... رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، للنووي - صفحة 215 - دار الحديث.
(3) ... سورة النور الآية 61.(1/32)
وأحكام الإسلام واضحة في بيان حق الأولاد في إنفاق أبيهم عليهم بما يتناسب مع مستواه الاقتصادي، فالتهديد بحرمانهم من النفقة أو ممارسة هذا الحرمان بالفعل لا يجوز شرعاً، قال الله عز وجل في شأن المطلقات الحوامل: (فإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهم حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (1) . فقد أوجب الله عز وجل أجرة تعطي للمطلقة مقابل إرضاعها الطفل، وهذا يقتضي إيجاب نفقة الطفل على أبيه (2) .
وقال عز وجل: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (3) فأوجب سبحانه وتعالى نفقة للزوجات على أزواجهن، وعبَّر عن الزوج بالمولود له، تنبيهاً لعلة إيجاب النفقة للزوجة وهي أنها الولادة. وإذا كانت النفقة واجبة للأمهات بسبب الأولاد فإن نفقة الأولاد تكون واجبة على آبائهم بالطريق الأولي (4) .
وأيضاً يدل على وجوب نفقة الأولاد حديث هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فقد قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ قال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك (5) .
4- الطابع الاقتصادي: حيث تمارس الزوجة في بعض الأحيان عنفاً من خلال المطالب الاقتصادية التي تشكل عبئاً فوق طاقة الزوج فتشعره بالضعف أو النقص، وتدفعه في كثير من الأحوال – من خلال هذه الممارسة العنيفة – إلى الانحراف، كالاتجاه إلى الرشوة، أو السرقة إلى آخر الانحرافات في الحصول على المال.
__________
(1) ... سورة الطلاق الآية 6.
(2) ... مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب ج3 صفحة 447.
(3) ... سورة البقرة الآية 223.
(4) ... الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، لزكي الدين شعبان صفحة 646.
(5) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج12 صفحة 7.(1/33)
ويبدأ العنف أحياناً منذ فترة الخطوبة إذا مارست أسرة الفتاة ضغوطاً على الخطيب من خلال الطلبات التي تجعله يستدين لتحقيقها، من تكاليف الزواج والمهر (والشبكة) ومظاهر الاحتفال، ليلة إعلان الخطوبة، وليلة الزفاف، وغيرها من الطلبات.
5- العنف البدني أو الإيذاء البدني: ويتم عن طريق الأقوى بدنياً في الأسرة على الأضعف، مثل ضرب الزوجة أو الأولاد، ويصبح هذا الأسلوب العنيف تهديداً قائماً في الأسرة، وهو ما يسبب كثيراً من حوادث الطلاق، وقد يؤدي إلى هروب الأطفال من أسرهم، فيعرضهم هذا للانحراف.
وقد يكتسب الأطفال سمة العنف بما تربوا عليه من هذا الشكل من الأب أو من الأم، ويشبوا عليها فتبقى صفة العنف في الأسرة على امتداد أكثر من جيل، لما هو ثابت من أن البيئة هي أحد العناصر التي تشكل سلوك الإنسان.
6- الاستحواذ على القرار أو الانفراد به يمثل أيضاً خصيصة من خصائص العنف الأسري، حيث يكون أحد الزوجين ينفذ ما يتراءى له دون مناقشة أو قبول أو احترام للرأي الآخر.
وهذا القهر قد يمارسه أحد الزوجين على الآخر، ويمارس في أغلب الأحوال على الأولاد، حيث نجد الوالدين أو أحدهما يحاول أن يجعل الأولاد نسخاً من شخصيته، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى قتل الإبداع، وحرية الرأي عند الأولاد، كما يمكن جعلهم في حال تبعية للوالدين فيفشلون بعد الاستقلال بحياتهم في اتخاذ القرار، ولا يستطيعون بسهولة الاستقلال برأيهم نتيجة القهر والعنف الذي مورس عليهم طوال فترة التنشئة، ولم يدربوا على اتخاذ القرارات خلال هذه الفترة.
المبحث الخامس
أسباب العنف في نطاق الأسرة، ودوافعه (ذاتية، واقتصادية، واجتماعية)
أسباب العنف في نطاق الأسرة ودوافعه، إما ذاتية، أو اقتصادية، أو اجتماعية.
أولاً: أسباب ودوافع ذاتية:(1/34)
وتتمثل في بعض المورثات (الجينات) التي يرثها الطفل عن أبويه، وتجعله أكثر ميلاً إلى العنف والعدوانية، ويمثل العلماء لهذا باضطراب إفراز هرمون الغدة الدرقية، وزيادة هرمون الذكورة (تستوستيرون) سواء عند الرجل أو المرأة أو الطفل، وهو ما يجعل الإنسان أكثر ميلاًَ إلى العدوانية والعنف، أو نقص (السيروتونين) وهو أحد الموصلات العصبية المهمة التي يؤدي نقصها إلى إحداث حال من الاكتئاب والعدوانية، التي تؤدي بدورها في بعض الأحيان إلى الانتحار (1) .
ثانياً: أسباب ودوافع اقتصادية:
وتشمل الفقر، والضغوط الاقتصادية التي تواجهها الأسرة وعدم الحصول على عمل يتكسب منه الفرد فيها، والظروف المعيشية السيئة كازدحام أفراد الأسرة داخل المسكن الضيق الذي يؤدي إلى الضجر والمشاجرات ويؤدي إلى تولد الحقد والغضب والشعور بالدونية والمرارة وهو ما يؤدي إلى العنف في كثير من الأحوال (2) .
ثالثاً: أسباب ودوافع اجتماعية:
1- أسلوب التنشئة الاجتماعية الذي يتخذه الآباء والأمهات في تربية أولادهم مؤثر مهم في غرس القيم والسلوكيات عند الأولاد فيجعلهم يؤمنون بقيم دون أخرى (3) ومن ما يبين هذا التأثير قبل ما أثبتته الدراسات في علم الاجتماع ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
__________
(1) ... دكتور عبد الهادي مصباح في مقال منشور بصحيفة المصري اليوم القاهرية، العدد الصادر في 9 ذي الحجة 1429هـ من ديسمبر 2008م.
(2) ... د/ عبد الهادي مصباح، مصدر سابق، والعنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق د/ زينب محمود شقير صفحة 59.
(3) ... د/ آيات محمد إبراهيم في: العنف داخل الأسرة – أسبابه – أشكاله – عوامله، مصدر سابق.(1/35)
ومن المشاهد أن التغير الاجتماعي أصبح سريعاً واسع النطاق، وصارت الطفرة هي السمة لهذا التغير، فبعد أن كانت المجتمعات لا يحدث فيها التغير إلا بعد مضي فترة زمنية معقولة، أصبحت المجتمعات تتغير فيها سلوكيات الأفراد بصورة سريعة، وفي هذا التغير ما هو طيب مقبول وما هو سيء مرفوض، وساعد على هذا ثورة الاتصالات المتعددة الأشكال، والتكنولوجيا الحديثة، والانفتاح الثقافي بين المجتمعات، وسرعة انتقال الصورة والمعلومة والصوت، وهي كلها ناقلة للتقاليد والأعراف والثقافات والمفاهيم بين المجتمعات الإنسانية على وجه الأرض (1) .
2- سماح الآباء والأمهات ومساعدتهم لأطفالهم بمكافآتهم بشراء بعض اللعبات ومنها – مثلاً - التي تظهر مطاردة لسيارة أحد المجرمين، ويقوم بهذا الدور الابن الذي يملك سلطة التحكم بالريموت كنترول ويصاحب ذلك انفعالات الابن وصرخاته الحادة مع اللعبة، وكأنه يتقمص شخصية المجرم، وبالتكرار لهذه الألعاب يصبح الطفل مهيأ نفسياً لممارسة هذا السلوك في حياته (2) .
3- ترك الأولاد مع الشغالات والمربيات، فكثير من الأسر يخرج فيها الأب والأم كل منهما إلى عمله، ويترك الأطفال بمصاحبة الشغالات والمربيات، وفي كثير من الأحوال يعامل هؤلاء الأطفال بقسوة وعنف حتى يتعودوا على خشيتهم والتزام الصمت إزاء ما يحدث أمامهم من الشغالات أو المربيات من أمور لو علمها آباؤهم أو أمهاتهم لاستغنوا عنهم، ثم ينقلب هذا إلى سلوك عدواني لتنفيس ما يتلقونه من خوف وكبت للمشاعر (3) .
__________
(1) ... العنف الأسري، قراءة في الظاهرة من أجل مجتمع سليم. كاظم الشبيب صفحة 56.
(2) ... العنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق، د/ زينب محمود شقير صفحة 57، دار النهضة العربية – القاهرة.
(3) ... العنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق، المصدر السابق، صفحة 57.(1/36)
4- الارتفاع في معدلات عدم وجود فرصة للعمل أمام الكثير من أفراد الأسرة، وخاصة الشباب وهذا يؤدي إلى حال متوترة يستثار صاحبها في كثير من الأحوال فيكون العنف تنفيساً وترجمة لهذه الحال.
5- الصراع بين الزوجين، فالأطفال الذين يربون في وسط عائلي يحدث فيه كثيراً صراخ الأب وشتمه أو ضربه للأم أمام أطفالها، أو يصدر منه ذلك نحو أطفاله مباشرة، أو تكثر الشتائم والمشاجرات العنيفة بين الأولاد أنفسهم دون تدخل من الوالدين لفضها بالوسيلة التي تغرس فيهم قيمة الاحترام بينهم، كل ذلك مؤثر خطير في الأطفال، حيث ينظر هؤلاء الأطفال إلى آبائهم وأمهاتهم باعتبارهم المثل والقدوة في السلوك والعلاقات في الأسرة (1) .
6- أثبتت بعض الدراسات الاجتماعية أن انخفاض مستوى تعليم الأبوين من الأسباب التي تؤدي إلى سوء معاملتهما للبنات. وهو ما يؤثر عليهن في الاتجاه إلى العنف.
7- الحرمان الأسري من الوالدين أو من أحدهما، وعلى وجه الخصوص حرمان الطفل من الأم، مؤثر في سلوك الأولاد، واتجاههم نحو العنف (2) .
8- الزيادة السكانية وأزمة الإسكان في بعض المجتمعات، فإن هذا يؤدي إلى نقص الخدمات التي تؤديها الدولة، كالمدارس، والمستشفيات، ووسائل المواصلات، وفرص العمل فتزيد هذه الأمور من إحساس الأفراد بالعجز، وتدفعهم إلى أن يتكالبوا على أن يكتسبوا الأموال فيصابون بالقلق والتوتر، ويصبح سلوك العنف رد فعل لهذا القلق والتوتر، فيظهر استعمال القوة والعنف في التعامل بين أفرد الأسرة الواحدة.
__________
(1) ... العنف داخل الأسرة، أسبابه وأشكاله وعوامله، مصدر سابق، والعنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق، مصدر سابق، صفحة 58.
(2) العنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق، مصدر سابق، صفحة 59 – 62.(1/37)
9- التفاوت الطبقي الشاسع بين أفراد المجتمع، فبعض المجتمعات لا يقل فيها التفاوت بين الطبقات بالقدر المعقول، وإنما تزيد الفجوة بين طبقة الأغنياء الذين يعيشون حياة البذخ والرفاهة، وطبقة الفقراء الذي يعانون من شظف العيش، وهو ما يؤدي إلى إيجاد مشاعر عدم الرضا عند الطبقة الفقيرة، فإذا أضيف إلى هذا زيادة التطلعات والطموحات لأفراد الأسرة، فإن هذا من شأنه أن يجعل بعض أفراد الأسرة في بعض الأحيان يلقي بمسئولية سوء أحواله على أحد أطراف الأسرة، ويزيد من حدة الشقاق والخلاف في نطاق الأسرة الواحدة ويمهد ذلك السبيل إلى استخدام العنف.
10- بطء وطول مدة التقاضي في بعض المجتمعات، فإن هذا يؤدي إلى أن يتراجع الإحساس العام باحترام القانون، والفرد إذا يئس من الحصول على حقه بالوسيلة المشروعة إلا بمشقة وطول انتظار فإنه في كثير من الأحيان يدفعه هذا الوضع إلى تفضيل وسيلة أخرى للحصول على حقوقه، فيسلك سبيل العنف.
11- غياب دور الأسرة، وانصراف الأبوين عن تربية أولادهما تربية سليمة، فالأب منشغل جداً بالمال فيمضي يومه في الحصول عليه، أو يقضي معظم سنوات عمره في السفر والغربة طمعاً في تكوين ثروة، والأم كذلك انشغلت بالعمل خارج بيتها وأعطته معظم وقتها دون أن تخصص من وقتها وقتاً كافياً لرعاية أولادها وملاحظتهم وتوجيههم ونصحهم، فإن كل ذلك هيأ الطريق أمام اكتساب صفة العنف والانحراف في الأولاد (1) .
المبحث السادس
آثار العنف على الفرد والأسرة والمجتمع
تمهيد:
الأسرة كما هو معروف هي اللبنة الأولى في تكوين المجتمع، ولهذا فإنه إذا حدث الخلل فيها أدى ذلك إلى وجود الخلل في المجتمع، وأحدث الكثير من المشكلات فيه.
__________
(1) مؤسسات التنشئة الاجتماعية والعنف الأسري، د/ آيات محمد إبراهيم، مكتوب بالكمبيوتر صفحة 7.(1/38)
وإذا وجد العنف في الأسرة من فرد فيها أو أكثر فإنه قلما ينجو عضو من الأسرة بحسب العادة من آثاره، بحيث إن جميع أفراد الأسرة – عادة – يصبحون ضحايا له، بصور ودرجات قد تكون متباينة، وتكون النتيجة إعاقة حركة الأسرة، ويكون من الصعب عليها أن تقوم بوظائفها (1) .
وآثار العنف كثيرة بحيث يصعب استيعابها فلا يترك منها أثر يذكر عند الكلام عنها، وسنذكر هنا بعض الآثار الواضحة المتكررة عادة في الأسر، المترتبة على العنف التي يعاني منها أفراد الأسرة، ويعاني منها المجتمع.
1- يؤدي العنف في تربية الأسرة لأولادها إلى بذر بذور الحقد وكراهية الأولاد لوالديهم.
2- العنف في التربية للأولاد في الأسرة يربي فيهم الخوف والانعزال عن الناس.
3- يؤدي العنف في الأسرة إلى اتجاه الأولاد نحو التشرد والهروب من البيت وهذا بدوره يؤدي إلى الانحراف (2) ، فالتشرد والهروب من البيت هو أحد الموارد التي يجئ عن طريقها ما يسمون بأولاد الشوارع وتلصق بهم صفة الانحراف.
4- إعاقة العنف للنمو الاقتصادي للمجتمع، حيث يؤدي إلى إضعاف رأس المال البشري فيه، وينتج عن هذا قلة الاستثمار وضعف الاقتصاد (3) . وتكون المحصلة النهائية هي ضعف الخدمات التي تقوم بها الدولة لأفراد المجتمع.
5- الأشخاص المتصفون بالعنف يكونون أكثر من غيرهم شعوراً بعدم الأمان.
6- يؤدي اكتساب كثير من الأفراد لصفة العنف إلى انحرافات اجتماعية كثيرة، كالقتل، والنهب، والضرب، والاعتداء على الآخرين، وإتلاف الممتلكات، وتعاطي المخدرات، وغير هذا من انحرافات في السلوك.
7- الشخصية العنيفة يظهر فيها روح الاندفاع والتهور، وعدم النضج الانفعالي والاجتماعي.
__________
(1) ... العنف داخل الأسرة، د/ آيات محمد إبراهيم، مصدر سابق.
(2) ... العنف داخل الأسرة، أسبابه – أشكاله – عوامله – آثاره، د/آيات محمد إبراهيم، مكتوب بالكمبيوتر.
(3) ... المصدر السابق.(1/39)
8- يغلب على كثير من الشخصيات العنيفة العجز عن التفكير في أنفسهم كأفراد، أو في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تسود مجتمعهم.
9- يميل الشخص العنيف إلى الشغب والمشاكسة.
10- يسهل على الشخص العنيف أن يرتكب جريمة السرقة حتى من أقرب المقربين إليه كالوالدين والأخوة وسائر القرابات (1) . بل وتؤدي نزعته إلى السرقة إلى ارتكاب جريمة القتل في بعض الأحيان لهؤلاء الأقارب، ويشجعه اتصافه بالعنف على أن لا يبالي بالقرابات وحرمة التعدي على صلات الأرحام فلا يكون لها مراعاة عنده، قلا يزعه وازع الدين أو صلة الرحم عن ارتكاب جريمته، كما هو واضح في بعض الجرائم التي تنشرها وسائل الإعلام.
11- يؤدي التعرض للعنف إلى آثار متعددة فسيولوجية وبدنية ضارة، فإن معدَّل نبض القلب وإفراز هرمون (الكوريتزول) وبعض الهرمونات الأخرى يزيد نتيجة للنزاعات التي تحدث بين الزوجين وخصوصاً في الربع ساعة التي تلي النزاع، وتبين الدراسات أن النساء أكثر تأثراً من الرجال في هذه الناحية.
كما أن ضحية العنف في بعض الأحيان يتعرض للانتحار نتيجة للعنف الواقع عليه، واليأس من تغير الحال السيئ سواء في ذلك الأولاد، أو الزوجة.
12- من آثار العنف الاجتماعية والنفسية السلبية حدوث الطلاق، وهو أحد الأسباب الخطيرة المؤدية إلى تفكك الأسر، فتضعف العلاقات الاجتماعية داخلها (2) .
__________
(1) ... العنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق، مصدر سابق، صفحة 55 – 56.
(2) ... العنف داخل الأسرة، أسبابه، أشكاله، عوامله، آثاره، مصدر سابق.(1/40)
13- العنف الأسري أحد عوائق خطط التنمية في الدولة، فإن مشاكل الأسرة هي إحدى المعوقات المستمرة والمتزايدة في هذه الناحية، فمن المعروف أن المجتمع يتكون من الأسر، وإذا كثرت الأسر التي يسود فيها العنف فإن ذلك يؤثر في المجتمع كله، فالأسرة هي التي يتكون منها النظام الاجتماعي والحياة الاجتماعية، وقد قدرت الرابطة الطبية الأمريكية في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أن العنف الأسري نجم عنه خسائر بلغت عشرة مليارات من الدولارات، تمثلت في نفقات العلاج الطبي والنفسي، والشرطة، وإجراءات التقاضي، وتوفير المأوى والدعم والرعاية، والتغيب عن العمل، ونقص الإنتاجية.
ولهذا فإن من اللازم لعمليات التنمية التعرف على أسباب العنف الأسري، ووضع الحلول له ضمن الخطط والبرامج التي تهدف إلى تحصيل التنمية واستمرارها (1) .
المبحث السابع
علاج العنف في نطاق الأسرة
1- يحتاج علاج العنف في نطاق الأسرة إلى تضافر جهود جهات متعددة، ومؤسسات مجتمعية كثيرة، ومن الطبيعي أن تكون الأسرة هي البداية في علاج عنف أولادها، فتعمل على غرس القيم الدينية والخلقية فيهم، كما تكثر من مجالسة الأولاد، وإجراء الحوارات المتعددة معهم، وإتاحة الفرصة لشغل أوقات الفراغ عندهم بالأعمال المفيدة، كالرياضة، والرحلات، والخدمة الاجتماعية بتعدد أشكالها في المجتمع الذي يعيشون فيه.
2- لابد من الإشراف الدائم من الأبوين على سلوك الأولاد، وملاحظة ما يتغير من سلوكهم، حتى يمكن تدارك الأمر في مهده بطريقة غير منفرة للأولاد إذا حدث اختلال سلوكي من أحدهم.
__________
(1) العنف الأسري، مصدر سابق صفحة 45.(1/41)
3- يجب أن تكون المناهج الدراسية وافية بإشباع حاجات التلاميذ والطلاب النفسية، والاجتماعية، وتهدف إلى غرس القيم الدينية، والأخلاقية والتربوية كالعدل، والأمانة، وعدم التعدي على الآخرين، والعفة، والشرف، وتحمل المسئولية عند إسناد الأعمال إليهم، واحترام القانون (1) ، وأن تعمل دور التعليم على الإكثار من الأنشطة الحرة، والهوايات، والرحلات، وأن تتخذ كل وسيلة ممكنة يؤمل عن طريقها في إيجاد السلوك المستقيم الذي يجب أن يسلكه الطلاب.
4- التسوية في المعاملة بين الأولاد، سواء كانت هذه التسوية في مجال المال أو غيره، تعالج العنف قبل أن يقع، فتكون بمثابة التطعيمات التي تدرأ خطر الأمراض المعدية التي كانت تؤدي بحياة الملايين من البشر لأن عدم التسوية مثير للأحقاد والضغائن، وهذا من ما يؤدي إلى العنف فالتسوية إذن تمنع سبباً من أسباب العنف، روى مسلم عن النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني (2) هذا غلاماً (3) كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجعه، وفي رواية أخرى عن النعمان بن بشير أيضاً قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عَمْرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة (4) .
__________
(1) ... مؤسسات التنشئة الاجتماعية والعنف الأسري، مصدر سابق صفحة 27.
(2) ... نحلت ابني وهبت له.
(3) ... أي أعطاه عبداً، والرقيق كان موجوداً في عصرهم وشرع الإسلام من الأحكام ما يمكن أن يؤدي إلى القضاء عليه.
(4) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج11 صفحة 65، 66.(1/42)
وقد اختلف العلماء في تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة فجمهور العلماء وفيهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة أن التسوية بين الأولاد مستحبة، فإذا فضل بعضاً من أولاده على بعض آخر فإن ذلك مكروه كراهة تنزيهية وليس بحرام، والهبة صحيحة، وقال طاوس، وعروة ومجاهد، والثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري هو حرام.
واستدل القائلون بتحريم التفضيل بين الأولاد برواية أخرى وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوالد النعمان: (لا أشهد على جور) فعن النعمان بن بشير أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من مالها لابنها، فالتوى بها سنة (أي مطلها، فأجل إجابة رغبتها) ثم بدا له فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم، فقال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور".
وأما الشافعي ومن وافقه في القول بأن التفضيل مكروه كراهة تنزيهية ولا يصل إلى درجة الحرمة فاستدلوا لرأيهم برواية أخرى فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فأشهد على هذا غيري) فعن الشعبي عن النعمان بن بشير في القصة نفسها قال: (فانطلق أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي، فقال: أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟ قال: لا، قال: فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال فلا إذن" فيرى أصحاب هذا الرأي أنه لو كان هذا حراماً أو باطلاً لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام.(1/43)
وقيل أيضاً من ناحيتهم: وإذا اعترض على هذا بأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأشهد عليه غيري) قاله تهديداً فالجواب: أن الأصل في كلام الشارع غير هذا وصيغة (افعل كذا) إذا أطلقت في كلام الشارع فإنها تحتمل الوجوب أو الندب، وإذا تعذر حملها على الوجوب أو الندب حملت على الإباحة.
وانتصر الإمام النووي عالم الحديث وأحد كبار فقهاء الشافعية المشتهرين لمذهب الشافعي ومن معه وهو القول بالكراهة التنزيهية فقط، ورد على ما استدل به للرأي القائل بالتحريم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا أشهد على جور) قال النووي: ليس فيه أنه حرام، وعلل هذا بقوله: "لأن الجور هو الميل عن الاستواء والاعتدال، وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور سواء كان حراماً أو مكروهاً" ثم قال النووي: "وقد وضح بما قدمناه أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري) يدل على أنه ليس بحرام، فيجب تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه" وبين النووي أن الحديث يفيد أن هبة بعض الأولاد دون بعض صحيحة، وأنه إن لم يهب الباقين مثل هذا فإن من المستحب رد الأول، وذكر أن فقهاء الشافعية قالوا باستحباب أن يهب الوالد بقية أولاده مثل ما وهبه للأول، فإن لم يفعل ذلك فيستحب له أن يرد الأول ولا يجب عليه ذلك (1) .
ونقول بعد ما ذكرناه إنه من المستحب التسوية بين الأولاد في الهبة وإذا غلب على ظن أحد الوالدين أن ما يهبه لأحد أولاده مؤد إلى حدوث النفرة بينهم ووقوع الخلاف والعداوة فإنني أرى أن ذلك يكون حراماً، لأنه سيؤدي في هذه الحال إلى الحرام، وبهذا نتحاشى الخطر قبل أن يحدث وهو العنف بين الأولاد، نتيجة زرع الحقد والعداوة بينهم.
__________
(1) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج11 صفحة 65-67 ولزيادة التفصيل في الموضوع يرجع إلى نيل الأوطار، للشوكاني الجزء السادس صفحة 109.(1/44)
5- دور المؤسسات الدينية: للمؤسسات الدينية دورها المهم في تدعيم القيم الدينية والأخلاقية عند الناشئة وغيرهم، فيمكن أن يقوم أئمة وخطباء المساجد بدور لا يستهان به في الدعوة إلى حسن الأخلاق، والبعد عن التطرف في الأفكار، والعنف في علاقات الناس بعضهم ببعض ومن المعروف أن الناس تذهب إلى صلاة الجمعة، وعندها في الغالب الاستعداد لنقبل العظات يلقيها شيوخ المساجد، وتساعد قدسية المكان ومجيء الناس بغرض الصلاة جماعة على إيجاد الاستعداد الروحي للمصلين لاستقبال ما يحث على التخلق بالأخلاق الإسلامية، والبعد عن كل ما يرفضه الشرع.
6- للإعلام بكافة صوره تأثير كبير في حياة الأفراد والجماعات، ويمكن للصحافة أن يكون ضمن أهدافها إشاعة روح الأمن في المجتمع وإبعاد الشباب عن العنف في إبداء الرأي واحترام آراء الآخرين، كما أن القنوات التليفزيونية لها التأثير الكبير بالتمثيليات والبرامج المتعددة دينية واجتماعية وثقافية والبعد في برامج الأطفال عن مناظر العنف، والإكثار من القصص التي تشجع على مكارم الأخلاق، وخاصة قصص الأنبياء والمرسلين والزعماء والعلماء والمصلحين.
ومن المعروف أن من أسباب العنف في الأسرة وغيرها تدني المستوى الاقتصادي للأسرة وعدم الحصول على العمل المناسب ليتكسب منه الشباب، الذين يرغبون في الزواج وتكوين الأسرة، وهو ما ينعكس سلباً على سلوكهم مع أسرتهم ومع أفراد المجتمع، ولهذا فإن علاج العنف في الأسرة ولو لم يوجد بعد، يقتضي أن توجد الدولة فرص العمل أمام الشباب، لإبعادهم عن السلوك العدواني بينهم وبين أفراد أسرهم، وبينهم وبين أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه، وهو أمر تحتمه أحكام الشرع على الحكام الذين ماولَّوا مناصبهم إلا لتحقيق مصالح الناس، ولهذا فإن الدولة ملزمة بأن تعمل على تهيئة الظروف المناسبة للعمل الشريف لكل أفراد الشعب ومنها الظرف المناسب لكي يعمل الناس عملاً شريفاً يتكسبون منه.
المبحث الثامن(1/45)
التدابير الجزائية للحد من العنف
(تغليظ الأحكام الشرعية، وتخفيفها في القضايا المترتبة على العنف في الأسرة)
التدابير الجزائية التي نحتاج إليها للحد من أشكال العنف في الأسرة تدخل في مجال العقوبات التعزيزية، فمن المعروف أن العقوبات التي من حق القاضي أن يحكم بها في القانون الإسلامي ثلاث عقوبات هي القصاص، والحدود، والتعزيزات، فأما القصاص فهو عقوبة مقدرة وجبت حقاً للآدمي، فقتل النفس عمداً عدواناً يوجب فيه الإسلام القصاص وهو قتل القاتل، والاعتداء على طرف من أطراف إنسان يوجب فيه الإسلام القصاص وهو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه.
وأما الحدود فهي عقوبات مقدرة وجبت حقاً لله عز وجل، وإن كان فيها حق للآدمي (1) . كجلد الزاني غير المتزوج، وقطع يد السارق، وجلد من يرمي غيره بجريمة الزنا من غير وجود أربعة شهود يؤيدون دعواه.
وأما التعزيز فهو كما عرفه بعض العلماء: تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة (2) فهو عقوبة غير مقدرة في الشرع وإنما هي متروكة للحاكم والمجتمع يقرران فيها ما يريانه من عقوبة زاجرة في الجرائم التي ليست من جرائم القصاص والحدود، وذلك كسرقة مقدار من المال أقل من النصاب المحدد في استحقاق عقوبة السرقة وهي قطع يد السارق، وقذف إنسان بجريمة غير جريمة الزنا، وشهادة الزور، والضرب بغير حق ومضايقة الناس، وما أشبه ذلك من المعاصي التي لا حد فيها ولا قصاص.
__________
(1) ... فتح القدير، للكمال بن الهمام ج4 صفحة 113.
(2) ... مغنى المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب ج4 صفحة 191.(1/46)
ومن الواضح أننا عندما نتكلم عن التدابير الجزائية للحد من العنف، أننا لا نقصد العنف المتمثل في جريمة قتل أحد أفراد الأسرة لفرد آخر، ولا نقصد كذلك العنف الداخل في جرائم الحدود، ومنها جريمة قذف الزوج لزوجته بجريمة الزنا من غير أن يوجد معه أربعة شهداء، فكل ذلك إما داخل في عقوبة القصاص أو عقوبات الحدود، ولكن المقصود بها هنا هو التدابير الجزائية للحد من العنف الذي لا تدخل عقوبته في مجال القصاص أو الحدود، وإنما تدخل في مجال عقوبة التعزيز.
ومجال عقوبة التعزيز مجال واسع لم يحدده الشرع كتحديده للقصاص والحدود، فقد يأخذ التعزيز صورة الضرب أو الحبس أو الغرامة المالية، أو التوبيخ أو النفي إلى بلد غير محل إقامته، أو الحرمان من الحقوق السياسية، أو غير ذلك من ما يراه القاضي مناسباً للمخالفة الشرعية التي حدثت في نطاق الأسرة.
والعنف في نطاق الأسرة كما هو متصور الوقوع من جانب أحد الزوجين إما قبل الآخر أو قبل الأولاد، فإنه أيضاً متصور الوقوع من جانب الأولاد قبل أحد والديهم أو كليهما، أو من بعضهم قبل البعض الآخر، فما الذي يمكن جعله جزاء للحد من هذا العنف؟.
إذا كان العنف من جانب الأولاد قبل والديهم فإن باب التعزيز مفتوح، لأنه عقوبة تكون مناسبة للدرجة التي وصل إليها العنف، كالضرب بشرط أن لا يزيد عن عشرة أسواط وهو الحد الأعلى للتعزيزـ كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بردة بن نيار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى" (1) فهذا الحديث يبين أنه يجوز توقيع عقوبة الجلد إلى هذا المقدار لكل من يرتكب فعلاً محرماً ولم يرتكب حداً من حدود الله عز وجل.
__________
(1) ... نيل الأوطار، للشوكاني ج7 صفحة 328، السيل الجرار المتفق على حدائق الأزهار، للشوكاني ج4 صفحة 354.(1/47)
كما يجوز أن يكون الحبس عقوبة من العقوبات التي توقع على الأولاد الذين يتعاملون مع والديهم بالعنف، وقد ثبت في السنة ما يجيز بالحبس على بعض المعاصي التي لا تصل إلى درجة الحدود، فروى بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه (1) .
كما يجوز أيضاً العقوبة بالغرامة المالية إذا كانت رادعة للأولاد عن العنف.
وعقوبة التعزيز بالأسواط لها حد أعلى لا يجوز تجاوزه أو ليس لها هذا الحد، هو موضع اختلاف بين العلماء، وقد ذكر الشوكاني عدة آراء فيها، فبين أن جماعة من أهل العلم منهم الليث بن سعد، وأحمد بن حنبل في المشهور عنه، وإسحاق بن راهويه، وبعض فقهاء الشافعية يرون وجوب العمل بالحديث الذي جعل الحد الأعلى هو عشرة أسواط في عقوبة ليست من عقوبات الحدود، فلا يجوز تجاوزها، وهناك من يرى أنه يكون في كل موجب للتعزيز دون حد جنسه، ومن يرى أن الأمر في التعزيز موكول إلى الحاكم يعاقب بما يراه مناسباً بالغاً ما بلغ، ومن يرى أن أكثره خمسة وسبعون.
ونقل الشوكاني عن الرافعي أنه قال: الأظهر أنها تجوز الزيادة على العشرة وإنما المراعي النقصان عن الحد، قال: وأما الحديث المذكور فمنسوخ على ما ذكره بعضهم، واحتج بعمل الصحابة بخلافه من غير إنكار. انتهي كلام الرافعي.
كما نقل الشوكاني قول البيهقي وهو: "عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزيز وأحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم"، ونقل أيضاً عن ابن حجر العسقلاني قوله: فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل في ذلك فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت، ويصار إلى ما يخالفه من غير برهان.
__________
(1) ... نيل الأوطار ج7 صفحة 328.(1/48)
وردَّ الشوكاني على دعوى النسخ أيضاً بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، ثم قال: والحق العمل بما دل عليه الحديث الصحيح.. وليس لمن خالفه بتمسك يصلح للمعارضة. وقال أيضاً: فلا ينبغي لمنصف التعويل على قول أحد عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
ويرى الشوكاني بعد ثبوت حديث: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" أنه ينبغي أن تزيد عقوبة الضرب بحيث تصل إلى الحد الأعلى في التعزيز وهو العشرة الأسواط في المنتهك لفعل من الكبائر التي لا حد فيها، ويقتصر في ما دونها على الأقل من العشرة، ويكون الحبس أيضاً كذلك، فتغلظ العقوبة في الممتنع من أداء واجب عليه، والمنتهك لمعاصي الله تبارك وتعالى، التي لم يرد فيها حد، ويخفف في ما دون ذلك (2) .
وبهذا الرأي نقول في مجال اتخاذ التدابير الجزائية التي تتخذ للحد من سلوك الأولاد الذين يتعاملون مع والديهم بالعنف، ونقول: ينبغي أن تصل العقوبة إلى عشرة أسواط، لما هو معروف أن عقوق الوالدين من الكبائر، ولا شك أن العنف من أولادهما صورة واضحة من صور العقوق لهما. ولا أرى ما يمنع في الشرع من تغليظ العقوبة التعزيرية التي ستطبق على من يعامل والديه بالعنف، كما يصح أن يجمع في العقوبة بين الضرب في حدود عدد الضربات التي يبينها الحديث وهو الأسواط العشرة وبين الحبس، فلا يوجد ما يمنع في الشريعة من تنوع العقوبة التعزيرية وكذلك لا مانع من تطبيق الحد الأعلى لعدد الأسواط في تأديب أحد الأولاد الذي تعدى على أحد أفراد أسرته من إخوته أو أخواته، أو غيرهم من أفراد العائلة التي ينتمي إليها، ولا مانع هنا أيضاً من الجمع في العقوبة بين الضرب والحبس أو غيره من العقوبات التعزيرية.
الحد من العنف بين الزوجين:
__________
(1) ... نيل الأوطار، ج7 صفحة 328، 330.
(2) ... السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، للشوكاني ج4 صفحة 355.(1/49)
العنف إما أن يكون من جهة الزوجة أو من جهة الزوج، فإذا كان العنف من قبل الزوجة فإن الوسائل الثلاث التي بينتها الآية الكريمة: (واللاتي تخافون نشوزهن) وهي الوعظ، والهجر في المضجع، والضرب بضوابطه يمكن أن تعالج هذا العنف،وكلمة "تخافون" فسرها ابن عباس بأن معناها: تعلمون وتتيقنون (1) ، والعلم هو أحد المعاني اللغوية للخوف كما بينت كتب اللغة (2) . وقيل: هو على بابه (3) . قال سعيد بن جبير: الحكم أن يعظها أولاً، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع (4) ، فإذا لم تنجح الوسائل الثلاث في منع العنف من الزوجة فإن دور الحكمين يجئ هنا، فيختار حكم من أهله وحكم من أهلها لينظرا في الأمر، كما قال الله عز وجل: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً) (5) ، وهذه الآية الكريمة من الآيات الأصول في الشريعة كما يقول ابن العربي المفسر والفقيه المالكي المشتهر (6) ، وللعلماء رأيان في من هو المخاطب في قوله عز وجل: (وإن خفتم) فجمهور العلماء يريدون أن المخاطب هنا هم الحكام والرأي الآخر هو أن المخاطب هم الأولياء.
وكذلك يختار حكمان في حال ما إذا وقع التشاجر بين الزوجين، وجهلت أحوالهما في التشاجر، فلم يعلم المحق من المبطل وقد اتفق العلماء على أمور واختلفوا في أمر واحد.
أما الأمور التي أجمع العلماء عليها فهي:
__________
(1) ... الجامع لأحكام القرآن ج3 صفحة 157.
(2) ... القاموس المحيط للفيروز أبادي، باب الفاء فصل الخاء.
(3) ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 صفحة 157.
(4) ... الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج3 صفحة 161.
(5) ... سورة النساء الآية 35.
(6) ... أحكام القرآن، لابن العربي المجلد الأول صفحة 421.(1/50)
1- الحكمان لابد أن يكونا من أهل الزوجين، أحدهما من قبل الزوج والآخر من قبل الزوجة، إلا إذا لم يوجد في أهله وأهلها من يصلح أن يكون حكماً، فيختار حكمان من غير أهل الزوجين.
2- إذا اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما، فلا يلزم من ذلك شيء إلا إذا اتفق الحكمان عليه، وكذلك يكون الحكم في حالة كل حكمين حُكمِّا في أي أمر من الأمور، وعلى هذا فإذا حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما بمال ولم يوافق الحكم الآخر فليسا بشيء إلى أن يتفقا على رأي.
3- قول الحكمين في الجمع بين الزوجين نافذ بغير توكيل من الزوجين.
وأما الأمر الذي اختلفوا فيه فهو تفريق الحكمين بين الزوجين إذا اتفق الحكمان على ذلك هل تحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك؟.
فيرى مالك وفقهاء المالكية أنه يجوز أن يؤخذ بقولهما في التفريق بين الزوجين أو الإبقاء على الزوجية حتى ولو لم يحدث توكيل الزوجين أو إذن منهما للحكمين، وهو رأي الأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وروى عن عثمان وعلى وابن عباس، والقول الثاني للشافعي.
ويرى الشافعي في أحد قوليه وهو القول الأظهر عند الشافعية من هذين القولين (1) وأبو حنيفة أنه ليس من حق الحكمين أن يفرقا بين الزوجين، إلا إذا جعل الزوج إليهما أمر التفريق وهو ما يراه أيضاً عطاء والحسن البصري وأبو ثور وغيرهم. وهذا بناء على أن الحكمين رسولان شاهدان، ثم الحاكم هو الذي يفرق بين الزوجين إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق.
__________
(1) ... مغنى المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب ج3 صفحة 261.(1/51)
ويحتج لمن يرى أن للحكمين سلطة التطليق دون توكيل من الزوجين، بأن الله عز وجل قال: (فإبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) وهذا – من وجهة نظر القائل بهذا الرأي – نص من الله سبحانه وتعالى بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان، ومن المعلوم أن للوكيل اسم ومعنى في الشريعة، وللحَكم اسم ومعنى في الشريعة، فإذا بيَّن الله كل واحد منهما فلا يصح أن يُركَّب معنى أحدهما على الآخر، وقوي هذا بأثر ورد عن علي بن أبي طالب رواه الدارقطني من حديث محمد ابن سيرين عن عَبيدة في هذه الآية: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) قال: جاء رجل وامرأة إلى عليِّ مع كل واحد منهما فئام (1) من الناس، فأمرهم فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليَّ فيه ولي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به، "ووجه الدلالة من هذا الأثر أنه لو كان الحكمان وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما (أتدريان ما عليكما) إنما كان يقول: (أتدريان بما وكِّلْتما).
ذكر هذا القرطبي ثم ذكر ما احتج به أبو حنيفة وأنه احتج بقول عَليِّ رضي الله عنه للزوج (لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به) فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج، أو بيد من جعل ذلك إليه، وبين القرطبي أن مالكاً ومن وافقه على رأيه جعلوا هذا من باب طلاق الحاكم على العنين والمولين من نسائهم (2) .
وكذا من حجة أبي حنيفة والشافعي أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج (3) .
__________
(1) ... فئام من الناس أي جماعة من الناس.
(2) ... الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج3 صفحة 163، بداية المجتهد لابن رشد الحفيد ج2 صفحة 117.
(3) ... بداية المجتهد لابن رشد الحفيد ج2 صفحة 117.(1/52)
هذا هو اتجاه الفقهاء في هذه المسألة، وأرى أنه من المستحب إذا رأى الزوج أن حياتهما أصبحت شاقة ليس فيها المعنى الذي امتن الله عز وجل به علينا في قوله تبارك: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها) أن يطلقها ما دامت حياتهما بعيدة عن المعاشرة بالمعروف المخاطب بها كل من الزوجين، وإذا كانت الكراهة على نوعين - كما بين النووي - (1) هما كراهة تنزيه، وهي شرعية يتعلق الثواب بتركها وإن لم يعاقب على فعلها، وكراهة إرشادية لمصلحة دنيوية، لا ثواب ولا عقاب في فعلها ولا بتركها، فإن من رأيي أن الإبقاء على الزوجة التي فشلت كل الوسائل لإرجاعها إلى حال السكن النفسي بين الزوجين، والمودة، والرحمة، هذا الإبقاء داخل في الكراهة الإرشادية للمصلحة الدنيوية التي لا ثواب ولا عقاب في فعلها ولا بتركها، وإن طلقها فلعل الله عز وجل يغني كلا منهما كما قال الله عز وجل: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيماً) (2) ويعجبني قول ابن العربي الفقيه والمفسر المعروف: (فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة) (3) .
إذا كان العنف من قبل الزوج:
إذا توقعت الزوجة النشوز من زوجها فلهما أن يتصالحا بأي نوع من أنواع الصلح المباحة، قال الله عز وجل: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير) (4) قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها (5) .
__________
(1) ... المجموع، للنووي ج1 صفحة 89.
(2) ... سورة النساء الآية 130.
(3) ... أحكام القرآن، لابن العربي المجلد الأول صفحة 425.
(4) ... سورة النساء الآية 128.
(5) ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 صفحة 369.(1/53)
وبين العلماء أن الآية الكريمة نزلت بسبب سودة بنت زمعة، روى الترمذي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، قال: هذا حديث حسن غريب (1) .
ويرى الفقهاء أنه إذا خافت المرأة نشوز زوجها أو إعراضه لرغبته عنها، إما لكونها مريضة، أو لكبر سنها أو لعدم جمالها، أو غير ذلك، فلا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها تسترضيه بذلك (2) .
فإذا حدث العنف من الزوج بتعديه عليها بالضرب أو غيره بلا سبب يدعوه لذلك، فقد اجتهد الفقهاء في هذه المسألة اجتهادات مختلفة، فجمهورهم يرون أن للقاضي أو الحاكم أن يأمر بتوقيع عقوبة تعزيرية على الزوج.
وبين فقهاء المالكية أنه لو تعدى الزوج على زوجته لغير مبرر شرعي، بالضرب أو السب أو نحوهما، وثبت هذا التعدي بشهادة الشهود، أو إقرار الزوج بذلك فإن على الحاكم أن يزجره بالوعظ أولاً ثم بالتهديد، قالوا وإذا لم ينزجر ضربه إن ظن إفادته في زجره ومنعه، فإذا لم يظن ذلك فلا يضربه، وهذا إذا اختارت الزوجة أن تظل زوجة له.
__________
(1) ... الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج3 صفحة 369، 370، والحديث الحسن إما أن يكون حسناً لذاته أو حسناً لغيره، فالحسن لذاته هو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط ضبطاً غير تام عن مثله إلى منتهى السند من غير شذوذ ولا علة قادحة وأما الحسن لغيره فهو ما رواه راو ضعيف يكون ضعفه بغير كثرة الخطأ وبغير اتصافه بمفسق، وأن يروي هذا الحديث راو آخر عن شيخ هذا الراوي الضعيف، أو من فوقه بلفظه أو بمعناه، كتاب الشهاوي في مصطلح الحديث، للدكتور إبراهيم دسوقي الشهاوي صفحة 18.
(2) ... الموسوعة الفقهية الكويتية ج40 صفحة 304.(1/54)
أما إذا لم يثبت تعدي الزوج عليها فإنه يعظه فقط ولا يضربه (1) .
وفقهاء الشافعية يرون أنه إذا أساء خلقه وآذاها بالضرب أو غيره دون سبب مبرر لهذا، فإن الحاكم ينهاه عن ذلك ولا يعزره، فإذا عاد إلى إيذائه لها وطلبت زوجته من القاضي أن يعزره، عزره القاضي بعقوبة تعزيرية تليق به.
وقال السبكي أحد فقهائهم: ولعل ذلك لأن إساءة الخلق تكثر بين الزوجين، والتعزير عليها يورث وحشة بينهما فيقتصر أولاً على النهي لعل الحال يلتئم بينهما، فإن عاد عزره وأسكنه بجانب ثقة يمنع الزوج من التعدي عليها.
فإذا اشتد الخلاف والعداوة بين الزوجين، بعث القاضي حكماً من أهله وحكماً من أهلها لينظرا في أمرهما، وهما في أقوي رأيين للشافعي وكيلان وليسا حاكمين، لأن الحال قد يؤدي إلى الفراق بين الزوجين، والاستمتاع بيضع الزوجة حق للزوج، والمال حق الزوجة وهما رشيدان، فلا يولي عليهما، وأيضاً فلأن الطرق لا يدخل تحت الولاية إلا في المولى، وهو خارج عن القياس، وفي رأي الشافعي المقابل للرأي الأقوى أن الحكمين حاكمان موليان من الحاكم، لأن الله عز وجل سماهما حكمين، والوكيل مأذون ليس بحكم (2) .
وأما الحنابلة فيرون أن الحاكم ينظر في ما يحصل بين الزوجين من العنف، فإن تبين له أن الزوجة هي التي يحدث منها ذلك فهي في هذه الحال ناشز، وإذا تبين له أن الزوج هو مصدر ذلك فإنه يأمر بإسكانهما بجانب ثقة يعمل على منع الزوج من الإضرار بالزوجة والتعدي عليها (3) .
__________
(1) ... الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه ج2 صفحة 343.
(2) ... مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب ج3 صفحة 260، 261.
(3) ... المغني، لابن قدامة ج7 صفحة 47.(1/55)
فبان من هذا أن اجتهادات الفقهاء في مسألة تعدي الزوج على زوجته إنما هي في مسألة لم يرد فيها نص، ولهذا أرى أن علاج ذلك يكون بعيداً عن ضرب الزوج، ويوجد عقوبات أخرى كالعقوبة بالمال، أو إبعاد الزوجة عن زوجها فترة يراجع فيها نفسه في ما يسلكه تجاهها من العنف، ولا يعفى من النفقة الواجبة لزوجته، بل يدفعها مع كونها ليست في مسكنه فليس من السهل على الزوجين أن يعيشا معاً المعيشة العادية بين كل زوج وزوجة، مع أن الزوج وقعت عليه عقوبة الضرب، أو الحبس أو غيرهما، ولعل من ما يشير إلى عدم استحسان ذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجانب المقابل وهو ضرب الزوجة، يحث الرسول صلى الله عليه وسلم الأزواج على عدم ضرب الزوجات، فيقول: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم)، وفي رواية: من آخر الليلة (1) .
فإذا كان الشرع يحبب في عدم ضرب الزوجات، فإن المرأة من جانبها أيضاً لا تكون سبباً في إيقاع الضرب على زوجها، وكيف تستقيم الحياة بين الزوجين، ويعيشان معاً في حال طبيعية والزوج ضرب أو حبس بسبب من قبل زوجته. إنه لا فارق بين ضرب الزوجة من زوجها أو ضرب الزوج بسبب من قبل الزوجة، فكل منهما مؤد إلى الإضرار بالعلاقات بين الزوجين التي ينبغي أن تكون مبنية على السكن النفسي، والمودة والرحمة.
إن من المستحسن أن تستمر محاولات الإصلاح بين الزوجين إذا حدث العنف من الزوج، فإذا بان أن معايشة الزوجة لزوجها مؤد إلى الإضرار بها، فإنه يجئ هنا دور الحكمين، ويمكن الأخذ بالرأي الذاهب إلى أن الحكمين حاكمان من سلطتهما التفريق بين الزوجين، كما يرى ذلك فريق من العلماء وأكرر هنا ما ذكرته قبل ذلك من قول ابن العربي: فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة والله أعلم.
د. محمد رأفت عثمان
__________
(1) ... نيل الأوطار، للشوكاني ج6 صفحة 365.(1/56)
أستاذ الفقه المقارن
بكلية الشريعة والقانون
بجامعة الأزهر بالقاهرة
مشروع قرار يصدر عن المجمع
في نهاية البحث أقترح أن يوصى المجمع بما يأتي:
1- يستحب للأزواج أن لا يلجأوا إلى ضرب الزوجات، لأن ضرب الزوجة لا يستحسنه الشرع والأفضل عدمه.
2- إذا كان الأولاد مصدر العنف في الأسرة جاز أن يعاقبوا بإحدى العقوبات التعزيرية، ويجوز أن تكون العقوبة بالضرب الذي يمكن أن يصل إلى عشرة أسواط.
3- إذا كان العنف من جهة الزوجة، ولم تفلح الوسائل التي بينها الشرع في تأديبها، فإن من المستحب اللجوء إلى الخلع.
4- لا يصح أن يكون الضرب أو الحبس وسيلة لتأديب الزوج إذا كان العنف من جهته.
مصادر البحث مرتبة بحسب ورودها فيه
1) القرآن الكريم.
2) سبل السلام، للصنعاني.
3) الروضة الندية، شرح الدرر البهية، صديق بن حسن بن على الحسيني القنوجي.
4) الشهاوي في مصطلح الحديث، للدكتور إبراهيم دسوقي الشهاوي.
5) كسر شيفرة المورثات – الجينوم، كيفن ديفس، ترجمة د. ياسر العيني.
6) مقدمة في علم الوراثة، الدكتور/ جمال الدين صفوت، والدكتور/ عبد الرءوف سليم، دار الفكر العربي بمصر.
7) الوراثة مالها وما عليها، د. شيخة سالم العريض، دار الحرف العربي.
8) المغني، لابن قدامة. دار المنار.
9) نيل الأوطار، للشوكاني، مطبعة مصطفي البابي الحلبي.
10) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني.
11) تفسير ابن كثير.
12) القاموس المحيط، للفيروز أبادي.
13) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني.
14) كفاية الأخيار، لتقي الدين أبي بكر بن محمد الحصني.
15) صحيح مسلم بشرح النووي.
16) المصباح المنير، لأحمد بن محمد بن على المقري الفيومي.
17) مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي.
18) الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد القرطبي.
19) الموسوعة الفقهية الكويتية.
20) الدر المختار، لمحمد علاء الدين الحصكفي.(1/57)
21) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين).
22) قواعد الفقه، للبركتي.
23) الشرح الكبير، لأحمد الدردير بهامش حاشية الدسوقي.
24) الشرح الصغير، لأحمد الدردير.
25) حاشية القليوبي على شرح المحلي على منهاج الطالبين، للنووي.
26) أحكام القرآن، لمحمد بن عبد الله، المعروف بابن العربي.
27) سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث.
28) العنف في الأسرة، عدلي السمري.
29) العنف داخل الأسرة – أسبابه، وأشكاله، وعوامله، وآثاره، د.آيات محمد إبراهيم، مكتوب بالكمبيوتر.
30) رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، للنووي، دار الحديث.
31) مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، شرح منهاج الطالبين، للنووي.
32) الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، زكي الدين شعبان.
33) مقال للدكتور/ عبد الهادي مصباح منشور بصحيفة المصري اليوم القاهرية.
34) العنف والاغتراب النفسي بين النظرية والتطبيق، د. زينب محمود شقير، دار النهضة العربية بالقاهرة.
35) العنف الأسري، قراءة في الظاهرة من أجل مجتمع سليم، كاظم الشبيب.
36) مؤسسات التنشئة الاجتماعية والعنف الأسري، د. آيات محمد إبراهيم، مكتوب بالكمبيوتر.
37) فتح القدير، للكمال بن الهمام.
38) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، للشوكاني.
39) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد الحفيد.
40) المجموع، للنووي.
الفهرست
الموضوع ... رقم الصفحة
المبحث الأول: أهمية بناء الأسرة في الإسلام ... 3
المبحث الثاني: طبيعة العلاقة بين أفراد الأسرة في الإسلام: الزوجين والأولاد والآباء والأمهات ... 7
الحقوق الزوجية المشتركة ... 7-11
الحقوق الخاصة بكل من الزوجين ... 11
حقوق الزوجة الخاصة ... 11
حقوق الزوج الخاصة ... 12
طبيعة العلاقة بين الأولاد والآباء والأمهات ... 14
أبرز حقوق الأولاد على الآباء والأمهات ... 15
حق الوالدين على الأولاد ... 18
المبحث الثالث: التأديب في نطاق الأسرة، مشروعيته وشروطه وضوابطه ... 20(1/58)
لماذا كانت الولاية في البيت للرجل ... 20
مشروعية التأديب ... 22
صورة الهجر للزوجة ... 23
بعض العلماء يرى عدم ضرب المرأة ... 24
الشوكاني يرى أن هجر الزوج لزوجته وضربها لا يجوز إلا إذا أتت بفاحشة مبينة ... 25
أمور لابد من التزامها في التأديب في نطاق الأسرة ... 26-28
المبحث الرابع: خصائص العنف في نطاق الأسرة ... 28
المبحث الخامس: أسباب العنف في نطاق الأسرة، دوافعه (ذاتية واقتصادية واجتماعية) ... 35
المبحث السادس: آثار العنف على الفرد والأسرة والمجتمع ... 39
المبحث السابع: علاج العنف في نطاق الأسرة ... 42
اختلاف العلماء في تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة ... 43
المبحث الثامن: التدابير الجزائية للحد من العنف ... 46
الحد من العنف بين الزوجين ... 50
إذا كان العنف من قبل الزوجة ... 50
إذا كان العنف من قبل الزوج ... 54(1/59)