العلوم في الإسلام
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
تلمست فى المأثور من الكلام الجاهلي, شعره ونثره, الوقوع على أي جملة أو كلمة تتضمن تنويها بالعلم وأهميته, فلم أعثر من ذلك على شيء... !...
ولن يغيب عنكم أن ورود اشتقاقات كلمة " العلم " لايدخل فى معني التنويه بأهميته, ولاحتي التذكير بحقيقته. فليس من قبيل ذلك فى شيء لفظ " علمتم " مثلا فى قول زهير بن أبي سلمي فى معلقته.
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... ... وما هو عنها بالحديث المرجم
وهو الأمر الذي يدل على أن الفكر العربي, في العصر الجاهلي, كان غير عابئ بهذا المعني المرموق والمقدس لكلمة " العلم " فلما أشرقت الجزيرة العربية ببعثة محمد صلي الله عليه وسلم, وبدأ القرآن يتنزل عليه, اتجهت مشاعر العرب, باديء ذي بدء, إلى جرسه الأخاذ, وبيانه الذي لاعهد لهم بمثله من قبل. ثم إنهم سبقوا من خلال ذلك إلى الوقوف عند مضامينه, وتدبر معانيه, فكان فى مقدمة المعاني التى استوقفتهم ولفتت أنظارهم, حديثه عن العلم وأهميته, وتقريره المتكرر بأن تعامل الإنسان مع الكون والحياة, لايتم على وجهه الصحيح إلا بالعلم, وبأن أي تحول من ضعف إلي قوة ومن فقر إلى غني ومن تدابر إلى ألفة لايتم إلا بالعلم.
فكان أن جذبهم إلى العلم والاهتمام به, جاذبهم القرآن الذى هيمن على مشاعرهم ببلاغته, ثم سرت معانيه إلى عقولهم بمنطقه وعقلانيته... ثم اتجهت منهم الأنشطة إلى تحصيله, أي العلم, بكل الوسائل والأسباب.
ولكن عن أي أنواع العلم يتحدث القرآن, إذ ينوه بأهميته وسمو قيمته?..
فى الناس من يصر على أن القرآن نظرا إلى كونه المصدر الأول للإسلام, وإلي كونه البيان المعرف به, واللسان الناطق بأهميته, والداعي إليه, ينبغي أن يكون مقصوده بالعلم, إدراك حقائق هذا الدين, بدءا من اليقين بالله ووحدانيته, وما يتبعه من الإيمان بالنبوات والرسالات الإلهية, وانتهاء بمعرفة السنة وضوابطها, والشريعة وأصولها.(1/1)
إذ إن أهمية العلم تكمن فى كونه مقربا إلى الله, وإنما يقرب الإنسان منه الى الله عز وجل, نوع واحد, هو العلم بالله وشرائعه وأحكامه. ولربما كان كل ماعداه شاغلا عن الله وصادا عن سبيل التقرب إليه !....
فهل المراد بالعلم الذى ينوه القرآن بأهميته, ويدعو إليه, هذا النوع وحده, من كل ما تشمله كلمة العلم?...
أولا: لقد عدت إلى السور التى يمجد فيها القرآن العلم ويدعو إليه, فرأيت أن كثيرا من هذه السور نزل فى مكه, أي قبل هجرة رسول الله إلى المدينة, وفي مقدمتها الآيات الأولي, من سورة العلق إقرأ باسم ربك الذى خلق .
ومن ذلك قوله تعالي فى سورة الزمر " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون وقوله عز وجل فى سورة سبأ "ويري الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقوله تعالي فى سورة النجم ذلك مبلغهم من العلم, إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدي ومن أبلغ التعابير الممجدة للعلم إحالة تخبط المتخبطين فى الباطل إلى سبب رئيسي هو ابتعادهم عن العلم.
فكيف يستقيم أن يكون المعني بالعلم فى هذه الآيات وأمثالها, العلم بشرائع الله تعالي وأصولها وبالسنة النبوية وضوابطها, مع أن هذه المعارف لم تكن قد ظهرت أو ولدت بعد, إذ إنها بدأت تظهر متنامية, بعد أن هاجر رسول الله إلى المدينة, ففيها ظهر التشريع, وفيها تكاملت السنة, وفيها توالت سلسلة علوم القرآن.(1/2)
أضف إلى هذا أن القرآن إذ يحاكم العرب إلى العلم, منبها إلى أهميته وضرورته إنما يدعوهم إليه, ليقوم أمامهم منه البرهان الساطع والدليل المقنع على صدق رسول الله فيما عرف ذاته وعلى صحة ما قد جاءهم به, وعلي ضرورة أخذهم بالشرعة التى سيخاطبهم بها... والدليل العلمي لايستقيم إلا إن كان مستقلا عن المدلول, ذا وجود حيادي عنه وسابق عليه... فكيف يدعوهم الله إلى أن يحتكموا مع رسول الله إلى العلم الذي سيكشف وجه الحق فيما قد جاءهم به, إذا كان المقصود بالعلم هو ذاته الحق الذي جاءهم به والذي هو محل البحث والنظر?. كيف يستقيم أن يكون الدليل والمدلول شيئا واحدا ?
ثانيا: إذا احتكمنا إلى قواعد تفسير النصوص, فى فهم المعني المراد بكلمة "العلم" حيثما جاء الأمر بها أو التنوية بأهميتها فى القرآن, فإننا نجد أنفسنا أمام القاعدة القائلة "اللفظ المطلق يجري على إطلاقه" والقاعدة القائلة "اللفظ العام يجري على عمومه" حتي يواجهه مقيد أو مخصص صادر من صاحب اللفظ العام ذاته.(1/3)
وكلمة "العلم" حيثما جاء التنوية بأهميتها فى القرآن, تأتي دائما عامة أو مطلقة, مثل قول الله تعالي يرفع الله الذين آمنوا منكم وال ذين أوت وا العلم درجات (المجادلة/ 11) وقوله تعالي والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وقوله عز وجل وتلك الأمثال نضربها للناس,وما يعقلها إلا العالمون (آل عمران/ 7) ونبحث عن مخصص أو مقيد لهذا اللفظ العام أو المطلق, فلا نعثر عليه فى أي من القرآن والسنة. وليس فى العلماء من أجاز ابتداع مقيد أو مخصص من خلال مزاج أو اجتهاد—إذن فلا بد أن يبقي اللفظ المطلق على إطلاقه والعام على عمومه. ويصبح المراد بالعلم عندئذ جنس العلم من حيث هو, بقطع النظر عن أصنافه وأنواعه. ويكون معني التنويه بأهمية العلم أنه الشأن الذي لاتنفك حاجة الإنسان إليه, في كل توجهاته وتقلباته, إذ هو المصباح الذي يبصر بالطريق, أيا كان الهدف المرسوم من ورائه.
ولكن أفيتفق هذا الذي قلناه, مع ما قد ذكره العلماء في تفسير العلم الذي يمجده القرآن وينوه بأهميته ويدعو إليه?
وأقول فى الجواب: على الرغم من أن العلماء متفقون على أن أشرف العلوم ما ابتغي به معرفة الله وقام به الدليل على وجوده ووحدانيته, وعلى الوظيفة القدسية التى خلق الله الإنسان لأدائها, فإنهم متفقون أيضا . فيما رأيت . على أن العلم, من حيث هو, بقطع النظر عن أنواعه الكثيرة, شريف ومطلوب.
وأظن أن حجم هذا البحث لايتسع لاستعراض ما أكده العلماء في بيان هذا الذى اتفقت آراؤهم عليه. لذا فسأكتفي بالرجوع إلى ما قد قرره فى ذلك اثنان من أجل علماء الشريعة الإسلامية, وأحسب أن اتفاقهما على رأي في هذه المسألة يعد, بحق, مرآة لاتفاق بقية العلماء على الرأي ذاته فيها.
أحدهما الإمام المحدث الفقيه سلطان العلماء العزبن عبد السلام المتوفي عام 660 ه يقول فى كتابه " قواعد الأحكام فى مصالح الأنام, تحت عنوان: فصل فيما يثاب عليه من العلوم " يقول:
[(1/4)
كلها شريفة, وتختلف رتب شرفها باختلاف رتب متعلقاتها فما تعلق منها بالإله وأوصافه كان أشرف العلوم, لأن متعلقه أشرف من كل شريف].
ثانيهما:حجة الإسلام الإمام الغزالي المتوفي عام 505 هـ فقد عقد فى أول كتابه إحياء علوم الدين بابا فى فضيلة العلم وأنواعه, أفاض فيه الحديث عن جوهر العلم وأنواعه, وأشرفها ومراتبها بوسعي أن ألخصه فى السطور التالية:
ذكر أن العلم من حيث هو إدراك الشيء علي ما هو عليه, لايكون إلا محمودا وشريفا , إذ هو الغذاء المتفق مع حاجة العقل الذي ركبه الله فى كيان الإنسان حتي السحر والتنجيم وأمثالهما, من حيث إنه ثمرة كشف لواقع كوني يدركه العقل ويختزنه لديه, لايكون إلا محمودا , وإلا لما كان العقل بحد ذاته ذا مزية محمودة, في حياة الإنسان. ولكن العلم, أيا كان, تعلو وتهبط قيمته من خلال ما قد يستغل ويوظف له من خير وشر....
ومن هنا ينقسم العلم إلى ما هو فرض عين يتعين على كل فرد من الناس معرفته وإلي ما هو فرض كفاية, يتعلق وجود معرفته بالقدر الذى يقع موقع الكفاية فى نيل الحاجة الضرورية منه, وإلى ما تقف قيمته عند حد الفضيلة العامة, وهو ما لاتتوقف عليه مصلحة كل فرد من الناس على حدة, ولاتتوقف عليه مصلحة المجتمع أو الأمة.
وانتهي الإمام الغزالي فى تحديد ما هو فرض عين إلى أنه ما يكشف عن المعتقدات والأفعال والتروك, التي كلف الله الإنسان بها... أما فرض الكفاية منه, فهو "كل علم لايستغني عنه فى قوام أمور الدنيا, كالطب والحساب وأصول الصناعات والفلاحة والسياسة " على حد تعبيره. فلو خلا البلد عمن يقوم بدراسة هذه العلوم بالقدر الذي تحتاج إليه البلدة, أثم أهلها أجمعون.(1/5)
أما العلوم التى تتسم بالفضيلة المطلقة, فهي كل ما تجاوز حد الوجوب العيني والكفائي منها, كالتوسع الذي لاحاجة ماسة إليه فى تلك العلوم الواجبة ذاتها, وكالاستزادة من علوم لم يستبن وجه الحاجة إليها. فهي على كل حال, لاتنزل في قيمتها عن مستوي الفضيلة العامة, ولكنها جميعا قد تتحول إلى علوم مذمومة باستخدامها فيما يسيء إلى مصالح الفرد أو الجماعة. (1).
أي فالذم لايتعلق بجوهر العلم ذاته, وإنما يعرض له الذم بسبب سوء استعماله أقول: ومن أبرز ما يؤكد أن العلم بحد ذاته, أيا كان متعلقه, من المزايا الحميدة التى متع الله الإنسان وميزه بها, قول الله تعالي فى مجال إبرازه جل جلاله لمظاهر تفضله على الإنسان " علم الإنسان ما لم يعلم " فلو لم يكن العلم بمعناه المطلق الذى هو نقيض الجهل خلعة من السمو والإكرام ميز الله بها الإنسان, لما امتن عليه بها معبرا عنها ب " ما " التي هي أداة عموم عند جميع العلماء... هذا بالاضافة إلى أن الجهل إذا كان مذموما من حيث هو, كما هو المتفق عليه, ونقيصة يجدر بالإنسان أن يترفع بنفسه عنها, فإن المنطق يقضي بأن يكون نقيضه, وهو العلم, منقبة ومزية يجدر بالإنسان أن يتسامي إليها, بقطع النظر عن نوع المجهول هناك ونوع المعلوم هنا, مع الاحتفاظ بتفاوت رتب المعارف والعلوم فى الفضيلة والأهمية, كما تتفاوت أنواع المجاهيل في المذمة والنقيصة.(1/6)
دعونا الآن نصغي إلى مايراه بعض الكاتبين من أن ما يسمي "علما " هو القانون الثابت الذي يستعصي على الطبيعة والعوامل المختلفة أن تبدل فيه أو أن تطور منه. ومن شأن هذا التصور لمعني العلم أن يسقط منه كل ما يدرسه الباحثون اليوم من ظواهر الطبيعة على اختلافها وتنوع أسمائها, إذ إن كل ما قد يكتشفه الباحث منها, عرضة للتبدل والتغير. هذا إذا تجاوزنا احتمالات الخطأ فى الإدراك والتحليل, وهي احتمالات يدعمها الواقع الذي يفاجأ به الباحثون بين الحين والآخر... وربما استرسل هؤلاء الكاتبون أو الباحثون.
فقالوا: إن العلم يجب أن يحصر فيما أخبر الله به, بنصوص بينة واضحة من الوقائع الكونية السالفة, أو الأحداث الغيبية المقبلة. فهي وحدها التى لاتقبل طروء أي تبدل أو اختلاف عليها. ليقيننا العلمي بأن خبر الله, أو ما يمكن ان نسميه خطاباته الإعلامية, لايمكن أن يلحقه أي كذب أو خلف.
وأقول: إن هذا الذي يلح عليه بعض الباحثين العلميين والإسلاميين أيضا, يعوزه قدر كبير من الدقة... إن الأشياء التى تخضع لاستمرارية التطور, لم تكن متأبية يوما ما على القرار العلمي أو شاردة عنه, بحيث يمكن القول إنها لاتصلح أن تكون من مقولات العلم.
إن أشياء المادة كلها خاضعة لقانون الصيرورة المستمرة, إذن فهي لن تندرج يوما ما تحت مقولات العلم وموضوعاته, حسب هذا التصور الذى ينادي به هؤلاء الناس !... غير أنا نعلم أن دراسة قانون الصيرورة أي مبدأ التطور الذاتي للشيء, قانون علمي مدروس بحد ذاته. أي فكما أن إدراك كون الثوابت من دنيا المادة حقائق ثابتة, يعد بدون شك علما , فكذلك إدراك ما هو متطور وخاضع لنظام الصيرورة المتبدلة, يعد بدون شك علما ثم إن المطلوب من العالم أن يلاحق بمداركه العلمية معلوماته المتطورة التى يتابعها, فلايوقف حركة درايته العلمية, فى الوقت الذى تستمر حصيلة المعلومات فى تطورها الدائم.(1/7)
على أنا لو أذعنا لهذه الرؤية, واستبعدنا دخول كل ما هو متطور عن دائرة العلم, لكان دعوة الله الناس إلى أن يكشفوا غوامض الكون, وأن يتأملوا بعقولهم ماتزخر به السموات والأرض, دعوة إلى عبث لا طائل من ورائه, وهذا ما يجب على كل عاقل أن يبريء القرآن منه.
أضيف إلى هذا الذي أقوله أن هناك لبسا يقع فيه بعض الذين يطيب لهم أن يقوموا العلوم الكونية وأن يدلوا فى حقها بهذ1 القرار.لاسيما بصدد الإحجام عن رؤية أي علاقة بين القرآن والعلوم الكونية !.. إن ثمة فرقا كبيرا بين قولنا: " البحث العلمي " وقولنا " القانون العلمي " إن البحث العلمي يشمل كل محاولة يبتغي منها الوصول إلى حقيقة علمية, حتي ولو دخلت فى مجال التجارب الباطلة أو الفرضيات التى لم يؤيدها الدليل العلمي—وهل البحث العلمي . فى أغلب حالاته إلا انطلاق من الفرضيات, فالنظريات, فالحقائق العلمية. ولو لم يستقرئ الباحث الاحتمالات العقلية واحدة إثر أخري لما اهتدي أخيرا إلى ما هو الحق والصواب منها.
أما القانون العلمي " فهو الحصيلة التى تنتهي إليها تجارب البحث العلمي, إذ تخوض الاحتمالات العقلية كلها... إذن فمهما تقلب الباحث فى فرضيات ونظريات باطلة, يسمي عمله "بحثا علميا" ومن ثم فهو جهد مقدس مشكور. فإذا انتهي من دراسته وبحثه وافتراضاته, إلي اكتشاف الحقيقة, فذلك إذن هو "القانون العلمي" ولاريب أن خضوع هذا القانون للتطور, لايلغي منه سمة العلم وقيمته كما لايكون سببا فى زج الباحث فى تهمة الخطأ والضلال, ما دام أنه يتعقب الأوضاع التى يتنقل خلالها ذلك الموضوع العلمي.(1/8)
ثم إن هذه الحقيقة, تسلمنا الى بيان الحكمة من ضرورة ارتباط البحث العلمي بالحرية, الحرية التى متع الله بها الإنسان إلى أقصي حدودها...والحكمة تتمثل فى أن افتراض الاحتمالات المتعددة فى المنهج الاستقرائي, لايتأتي إلا على مساحة واسعة من حرية البحث والنظر... أرأيتم إلى ما يقرره البيان الإل هي من صفة الإعجاز للقرآن, إنه يفتح السبيل, بين يدي هذا التقرير, إلي التأكد من ذلك أمام المرتابين والمفكرين, عن طريق دفعهم (ولا أقول مجرد السماح لهم) إلى افتراض أنه كلام عادي, لايعلو على سائر كلام الناس, وإلي التوجه إلى اختراق هذه الصفة المزعومة فيه, بتجربة السعي إلي تأليف كلام مثله !....
إننا قد ننعت هذا الاعتقاد والعمل المتفرع عنه بالكفر !... ولربما جاء من يحكم عليه بالخطر والمنع, ولكن البيان الإلهي يفتح إلي ذلك آفاق حرية لاحد لها. إذ يقول: وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (البقرة: 23).
ومن الوضوح بمكان أن لافرق بين تجربة أحدنا معارضة القرآن بمثله ومعارضة الخلق الإلهي للإنسان بمثله, ومعارضة العلم الإلهي لغيبه المكنون, بما قد يتأتي للإنسان أن يصل هو الآخر إلي العلم به من ذلك.
صحيح أنه تطاول من الإنسان المخلوق إلى رتبة الإله الخالق, ولكن الله عز وجل متعه بحرية واسعة إلى ذلك, كي يملك التجربة التى هي المنهج الاستقرائي المفضل للوصول الى اليقين بالحقيقة التى يجزم بها بيان الله عز وجل.(1/9)
وحتى عندما يدخل بعضهم فى مجال هذه التجربة, مدفوعا إليها بالريبة أو الجحود, ثم تدعوه عصبيته أو كبرياؤه أو مصلحة ما من مصالحه العاجلة إلى أن يقف عند إحدي الفرضيات التى تروق له, ويسبغ عليها صفة الحقيقة العلمية الثابتة, مؤثرا بدافعه العنادي, أن يحجب بها نفسه عن الحقيقة العلمية التى يخبرنا بها الله عز وجل . أقول: حتي فى هذه الحالة فإن الله عز وجل لايسلبه حريته فى حياته الدنيا التى يعيشها, بل يؤكد حقه فى التمتع بها قائلا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن, ومن شاء فليكفر (الكهف/ 29) وقائلا لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي (البقرة/ 256) وقائلا فذكر إنما أنت مذكر, لست عليهم بمصيطر (الغاشية, 21, 22).
والسبب فى ذلك أمر منطقي يتيه عنه كثير من الباحثين فى هذا العصر, ألا وهو أن الاعتقاد الإيماني الذي كلف الله به عباده, إنما يتمثل فى اليقين الذي لامكان ولا مستقر له إلا فى العقل والإدراك. أما حديث اللسان فعنوان يمكن أن يصدق فى الدلالة على المضمون العلمي المستقر في العقل, وممكن أن لايصدق. وإنما أناط الله الإيمان بالإدراك والعلم, لا بالقول واللسان. لقد قال "فاعلم أن لا إله إلا الله" ولم يقل: فقل إنه لا إله إلا الله.
ومن المعلوم بداهة أن استقرار الحقائق الإيمانية فى العقل, لايتأتي إلا من خلال بوابة واسعة عريضة من حرية البحث والنظر والتمكن من الاختيار واجتياز الاحتمالات, والقدرة على اتخاذ القرار (1).
فإن ذهبت تضيق على المكلف وتجبره على الخضوع القولي للعقائد الإسلامية, قفز فوق الدلائل العلمية التي يجب أن يتعامل معها, وعندئذ لن تملك من وراء هذا الإجبار إلا لسانه الناطق,أما يقينه العقلي الذي هو مغرس الإيمان والمعتقدات فليس لك إليه من سبيل قط.(1/10)
بقي أن نتساءل: أفكان العصر الذهبي الذي تألق فيه الإسلام, معتقدا وشرعة وحضارة, مرآة لهذه الحقيقة التى نزعمها?... أفكان الخلفاء والقضاة والعلماء يجدون العلم من حيث هو, ويفتحون أمام الناس آفاق العلوم كلها? وهل كانوا يعبدون أمام المشتغلين بالعلوم الدنيوية والفلسفية والاجتماعية المختلفة طريق الحرية, أيا كانت النهاية التى من شأن هذه الطرق أن توصلهم إليها?....
إن الجواب عن هذا التساؤل يتضح فى التطور السريع الذى نلاحظه فى حياة العرب نحو العلوم والثقافات والصناعات المختلفة, والذي بدأت انطلاقته مع بزوغ البعثه النبوية, ثم لم تتوقف قط. ولعل أول هذه العلوم ظهورا فى مجتمعهم علم الفلك الذى كان يسمي آنذاك بعلم النجوم أو التنجيم, ثم التاريخ والصناعات المختلفة, وما ينبغي أن ننسي أن الصناعات لايتم الولوج إليها إلا بعد الحصول على مدارك علمية, تعد الأساس النظري لها, كما يقول ابن خلدون (1).
ولا أذكر على مر التاريخ أن قوما تطوروا من البداوة إلى الحياة الحضارية, فى أقصر وأسرع من المدة التى تطور فيها العرب, منطلقين من مناخهم القبلي والبدوي المتخلف إلى حياتهم الحضارية القائمة على التنوع العلمي والثقافي والاقتصادي
والفني !....(1/11)
ففي مجال إبداعاتهم العلمية أحدثوا الرحا الهوائية بالرياح المجمعة المترددة في الصناديق أو بين الألواح المتعددة,وكان ذلك فى خلافة عثمان رضي الله عنه واتجهوا إلى فن الصياغة ونبغوا فيها, ومن أبرز من نبغ فيها أبو رافع الصائغ, واسمه نقيع وكان ذلك فى خلافة عمر..... ونبغوا فى الهندسة, وانطلقوا يخططون لإقامة المدن وتشييدها, وتعد البصرة والكوفة أبرز مثالين لذلك !... إن الذين نظموا الشوارع الرئيسية فيها بعرض أربعين ذراعا والشوارع الفرعية بعرض ثلاثين والأزفة الداخلية بعرض سبعة أذرع, ووضعوا نظاما لارتفاع الأبنية حسب مكان وجودها, هم أنفسهم أولئك الذين كانوا قبل عشرين عاما فقط مضرب المثل فى التخلف ومعانقة حياة البداوة والصحراء !.....
وغني عن البيان أن الذي جذبهم إلى ذلك التطور, وأقلعهم من عزلتهم القبلية, تلك النافذة التى أطل بهم القرآن منها على علوم الفلك والهندسة والحساب والفلسفة والتاريخ وعلوم الصناعات واللغات وغيرها, وحملهم بأسلوبه التمجيدي والإغرائي على تعشقها.
وما إن اتسعت الفتوحات وامتدت إلى بلاد الشمال شمالا وإلى بلاد فارس شرقا , حتي أقبل الفاتحون إلى المدونات الفلسفية التى وقعت تحت أيديهم يعكفون عليها فهما , ويسرعون إلى ترجمتها إلى لغتهم العربية. وكان ذلك إيذانا بنشأة المعتزلة وظهور فكرهم الاعتزالي الذى جنح بهم إلى مخالفة كثير من المسلمات الاعتقادية فى الإسلام.(1/12)
ثم إن التوجه العارم إلى العلوم بكل أصنافها, أخذ يشتد ويتزايد فى حياة هذه الأمة,إلى أن وصلت منها إلى الأوج فى عهد المأمون, إذ ازده رت فى عصره علوم الطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والموسيقا... ومن أبرز الإنجازات العلمية التى تمت فى عصر المأمون قياس محيط الأرض بالوسائل المتيسرة فى ذلك العصر وقد بلغ محيط الكرة الأرضية فى تقديرهم 24000 ميلا وإذا علمنا أن تقدير محيطها فى العصر الحديث هو 000ر40 كم أدركنا مدي دقة تقدير أولئك العلماء على الرغم من بساطة وسائلهم وبدائيتها. (1).
أما عن الحرية وحدودها المتاحة فى البحث العلمي, فلم تتدان قدسيتها في تقدير المجتمع الإسلامي عن قدسية البحث العلمي فى نظر قادته وعلمائه...
فتن أناس من التابعين بالفلسفة اليونانية وخدعوا منها بكثير من الزيف الباطل الذى يتعارض مع بعض حقائق الإسلام, فاستعانوا بذلك الزيف واتخذوا منه مبدءا ومعتقدا لهم, وهم طليعة الفرق الضالة التى نشأت فى أواخر عصر الصحابة وتكاثرت واهتاجت فى عصر التابعين فلم يضيق عليهم من حرية التعبير عن آرائهم والدعوة إليها والدفاع عنها, أي من الخلفاء أو القضاة أو رجال الحكم. بل إن كلا من مسجدي البصرة والكوفة, شهد من صورة حرية البحث والنقاش, في أدق قضايا العقيدة الإسلامية, ما يندر أن يقف الباحث أو المؤرخ على مثله فى أي من العصور المتأخرة.... وكما سادت تلك الفرق فى ظل حرية البحث, بادت بعد ذلك فى ظل الحوار وحرية النقاش والبحث أيضا.
أما المحنة التي دارت رحاها على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله, بسبب ثباته على الحق الذى كان يعتقده, فلم يكن مصدرها قانونا أو مبدءا ورثه المجتمع الإسلامي من عصر الصحابة أو مما يقضي به الإسلام, وإنما كان مصدرها استبداد رؤوس الاعتزال وتبرمهم بآراء مخالفيهم, وبالحرية التى كان من المفروض أن تكون قسمة عادلة بينهم وبين جمهور المسلمين أهل السنة والجماعة.(1/13)
والعجيب أن فى الباحثين اليوم من ينعتون المعتزلة أيام ظهورهم بنقيض ما كانوا يمارسونه ينعتونهم بحرية الرأي والدعوة إليها والمناداة بها, ناسين أنهم سعوا سعيهم اللاهث لدي المأمون ومن جاء بعده, مطالبين بإكراه الناس على الأخذ بشذوذاتهم وإسكات الاجتهادات المخالفة لهم, في حين أن أيا من الخلفاء أو رجال الحكم لم يضيق عليهم سبيلا للتعبير عن رأي رأوه أو باطل تبنوه.
أخيرا دعوني أختتم حديثي هذا من حيث بدأت, فأعود إلى تأكيد الحقيقة التى يجب أن لاننساها, وهي أن القرآن هو الذي حبب العلم إلى العرب وشوقهم إليه بطريقته الحكيمة الفذة.
ولقد وقع بعض الباحثين فى هذا العصر, من هذه المسألة, في إفراط, كما وقع فريق منهم فى تفريط. فالفريق الأول يزعم ان مامن قاعدة تنتمي إلى علم ما, إلا وفي الفرقان (القرآن) حديث عنها ونص عليها... والفريق الثاني ألغي صلة ما بين القرآن والعلم, مصرا على أنه ليس أكثر من كتاب وعظ وهداية وتبصير بالشرائع والأحكام والواقع أن القرآن قائم من هذه المسألة بين هذين التصورين المتناقضين.
فالقرآن يضع القارئ أمام عناوين العلوم ومسائلها, ويطل بهم على ظواهرها مشوقا إلى معرفتها والخوض فيها, دون أن يبت فيها بقرار علمي, هذا بالاضافة إلى أنه يحاكم الناس كلهم إلى العلم فى كل شيء, لاسيما الدين. ومن ثم كان القرآن الحافز الأول فى حياة العرب إلى العلم.
إن شأن القرآن مع العلم, كشأنه مع اللغة العربية وآدابها فما هو معلوم بداهة أن القرآن هو الذي حمي اللغة العربية من الضياع, وهذبها وأغناها بمزيد من الأصول وفنون التعبير والسبك والبيان, مع العلم بأنه لايحوي على شيء من قواعد النحو أو البلاغة وشرحها والتعريف بها. إن شأن القرآن مع العلم كذلك.(1/14)
أرأيت إلى خطاب القرآن للناس قائلا سبحان الذى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون. وآية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون, والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم, والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (ياسين: 36و37) ألا تري أن هذا الكلام يحفزهم إلى دراسة الفلك والتربة وطبيعتها وظواهرها?
أرأيت إلى حديثه عن رحلة الاسكندر "والأرجح أنه الاسكندر المقدوني" والحوار الذى نقله البيان الإل هي, بينه وبين أولئك الذين شكوا إليه تأذيهم من يأجوج ومأجوج, وقوله لهم فيما نقله البيان الإلهي عنه: قال ما مكني فيه ربي خير, فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما , آتوني زبر الحديد حتي إذا ساوي بين الصدفين, قال انفخوا حتي إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا , فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (سورة الكهف:95 ـ 97) ألا تري أن هذا البيان الإلهي يحفز إلى التبصر بهندسة السدود وطبيعة المعادن ووجه الاستفادة منها?
أرأيت إلى حديث القرآن عن نشأة الإنسان فى الرحم قائلا: " يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم, ونقر فى الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمي... "الحج:5. ألا تري أن هذا البيان يشوق القارئ إلى معرفة علم الأجنة وما يتبعه من التشريح ثم عموما ما يدخل فى معني الطب?
وهكذا, فإن القرآن مليء بهذه البيانات المشوقة إلى دراسة العلوم بأنواعها وهذا ما آل إليه حال العرب بفضل القرآن. حفزهم إلى العلم بأنواعه, وجعل منه الدليل على ضرورة اتباع الدين الحق; ثم فتح لهم إلى العلوم سبيلا عريضة من حرية البحث والتنقيب والنظر. فهل يحتاج الباحث بعد هذا إلي دليل على أن القرآن ليس إلا كلام الله عز وجل?.(1/15)