مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، _صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيراً_.
أما بعد:
فإن العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليه حياة الأمة بمجموعها وآحادها، فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها، بحيث لو فاتت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد، ولحادت عن الطريق الذي أراده لها الشارع. (1)
يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: "والحفظ لها – أي: للمصالح الضرورية - يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك بمراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم" (2) .
والعلم - بلا ريب - يسلك في هذه المصالح الضرورية التي تجب مراعاتها من الجانبين المذكورين، وذلك للأسباب التالية:
أسباب كون العلم ضرورة شرعية
1- لأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء، إذ به قوام الدين والدنيا.
2- لأن المستعمرين - بل المحتلين الحاقدين - إنما احتلوا بلاد المسلمين لأسباب كثيرة، بيد أن من أهمها جهل المسلمين.
3- انتشار المذاهب الهدامة، والنحل الباطلة، وما حدث ذلك إلا لأنها وجدت قلوباً خالية، فتمكنت منها، فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم الشرعي، تكون عرضة للانخداع بالضلالات، والوقوع في الانحرافات.
__________
(1) - أصل هذه الرسالة محاضرتان ألقاهما المؤلف ثم سمح لنا بإخراجهما مطبوعتين فجزاه الله خيرا.
(2) - الموافقات 2/8.(1/1)
وهنا أنبه إلى أن الصحوة الإسلامية اليوم بحاجة إلى طلاب العلم، فلقد التقيت بكثير من الشباب الأخيار، في هذه البلاد وفي غيرها، فآلمني أن العلم الشرعي ينقص كثيراً منهم. بالرغم من حرصهم على الخير، وحماسهم للدعوة، وغيرتهم على الدين.
ومن ذلك: أنني ذهبت إلى بلد من البلدان، فوجدت فيها صحوة إسلامية مباركة، فسرني ذلك وأفرحني، ولكن ساءني كثيراً أني وجدت هناك جرأة على الفتوى، وألفيت قيادات كثير من الشباب هناك بعيدة كل البعد عن العلم الشرعي!! فتساءلت: هل تقاد الدعوات بقيادات غير متمكنة من العلم الشرعي؟! وما مصير تلك الجماعات والحركات؟!
لا شك أنه لا يصح أن تقاد الدعوات بأولئك، وأن جهود هذه الدعوات وآمالها سوف تذهب هدراً ؛ لأن القيادة عندما تكون جاهلة بأمر دينها، جاهلة بكتاب ربها، وسنة نبيها؛ فإنها تعجز عاجلاً أو آجلاً عن القيام بواجبات الدعوة.
إن من العجيب أن يتفق الناس على أنه لا يمكن لأحد أن يصمم بيتاً إلا أن يكون مهندساً، عالماً بهذا الفن، في حين يتساهلون في أمر في غاية الأهمية، وهو: أمر الدعوة، فيقودها رجال ينقصهم العلم الشرعي!!
4- إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
لعل هذه هي أهم الأسباب التي تجعل العلم ضرورة شرعية -بإيجاز-.
أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر
يمكن تلخيص تلك الأسباب فيما يلي:
1- غياب تأثير المسجد: فإن المسجد في كثير من بلاد المسلمين اليوم تؤدى فيه الصلوات الخمس فحسب، بل لقد رأيت في بعض المساجد أن المؤذن يؤذن قبل أن يفتح المسجد، وإذا أراد أحد أن يتنفل كثيراً بعد الصلاة قال له المؤذن: جزاك الله خيراً، صل في بيتك.
هكذا أصبح المسجد لأداء هذه الركعات فقط، فغابت مهمة المسجد عن حياة الأمة، فوصلت الأمة إلى حال يرثى لها، على حين كان المسجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هو منطلق القيادة، والريادة، والتخطيط، والعلم والتعليم.(1/2)
2- قلة العلماء العاملين: الذين ينذرون أنفسهم لبذل العلم ونشره، إنك اليوم تجد في كل بلد من بلاد المسلمين آلافاً من حملة المؤهلات العليا (الماجستير، والدكتوراه)، في التخصصات الشرعية، ولكن عندما تبحث عن العلماء العاملين المبلغين، الذين يجاهدون بعلمهم في سبيل الله ، لرفع الجهل عن الأمة، فإنك تجدهم قلة يعدون على الأصابع.
بل إنني لم أجد في بعض بلاد المسلمين ما أعده على الأصابع من أولئك العلماء، فلقد سألت عن العلماء هناك، فقيل لي: هنا العالم فلان، والعالم فلان، و...، فذهبت إليهم - وليتني لم أذهب، "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!!"- وجدت فيهم إخلالاً وعدم التزام، وضحالة وضعفاً، حقا إن أحدهم قد يحفظ بعض النصوص، لكننا لسنا بحاجة إلى حفظة نصوص، ولسنا بحاجة إلى العلماء الذين اهتموا بالمناصب، وأهملوا العلم الذي تعلّموه، وإنما نحن بحاجة إلى العلماء العاملين الأكْفَاء المجاهدين.
3- سوء خطط التعليم في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية: فإن خطط التعليم في كثير من البلاد الإسلامية سيئة للغاية: إما خطط علمانية،أو يسارية، مستوردة من الشرق أو الغرب، والقليل منها ما يوجد في خططها بصيص من نور.
4- ضعف الهمم والعزائم: فتجد أن الشيخ يبدأ في درس من الدروس العلمية ومعه عدد كبير من الطلاب، ثم يأخذ العدد في التناقص، حتى لا يبقى مع الشيخ إلا قلة يعدون على أصابع اليد.
والعلة في هذه الظاهرة أن الحماس هو الذي يطغى على حياتنا، ويحكم تصرفاتنا، وقل بيننا من يتصف بالثبات، وبعد النظر، وسعة الأفق، والتصرف عن اقتناع وتأمل مع الجدية وتحمل المصاعب.(1/3)
5- انفتاح الدنيا، والانشغال بملذاتها وحطامها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم " (1) فأصبح الكثير يحزن لما يصبه في دنياه أكثر من حزنه لما يصيب آخرته.
6- كثرة وسائل الترفيه واللهو ونحوها من المعوقات التي تقعد بالمرء عن معالي الأمور، وتشغله عن الغايات السامية.
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده
7- التخصصات الجزئية التي أضعفت العلوم الشرعية: لقد كان العالم في السابق عالماً بعامة فنون الشريعة: من تفسير، وحديث، وعقيدة، وأصول، وفقه...، أما الآن فالفقه -مثلاً- ينقسم قسمين: فهناك متخصصون في الفقه، ومتخصصون آخرون في أصول الفقه، وعلى هذه الشاكلة فصلت علوم الشريعة بعضها عن بعض، وأصبحت الجامعات تخرج لنا أنصاف متعلمين، تسأل أحدهم، فيعتذر عن الإجابة بأن ذلك ليس من تخصصه، والمصيبة أن ذلك صار أمراً مستساغاً مسلماً (2) .
فلنلق نظرة خاطفة إلى ما كان عليه بعض علماء الأمة السابقين، كالطبري -مثلاً- الذي إن نظرت إليه في التفسير فهو في القمة، أو في الحديث فهو في الذروة، أو في اللغة فهو قوي العبارة، سليم الأسلوب، وهكذا.
وكابن تيمية الذي نجد كتبه تحقق في أقسام مختلفة من أقسام الكليات الشرعية، فبعضها في قسم التفسير، وبعضها في قسم الحديث، وبعضها في قسم العقيدة، وبعضها في قسم الفقه، وبعضها في القضاء، وفي الدعوة، وفي التاريخ، وفي السياسة الشرعية.
فتأمل وقارن بين علم هؤلاء وعلم أولئك.
__________
(1) - البخاري 2988 ومسلم 2961.
(2) - وليست المشكلة في اعتذاره عن الإجابة، ولكن بتخريج أشباه طلاب علم.(1/4)
8- الانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى التخصصات الشرعية نظرة دونية: فمثلاً يجتمع بعض الشباب في مجلس، ويسأل بعضهم بعضاً: أين تدرس؟ فيقول بكل زهو وافتخار: أدرس في كلية الطب، ثم يرفع الآخر رأسه، ويقول: أدرس في كلية الهندسة، ثم يطأطئ الثالث رأسه، ويقول: معدلي ضعيف؛ فدخلت كلية الشريعة (1) .
هذه مأساة لا بد أن نعترف بها في واقعنا المؤلم في أغلب بلادنا الإسلامية.
لقد كنت أتحدث مع عدد من المتخصصين، فكان مما قالوا: من المآسي التي رأيناها أن بعض علماء الأزهر يفتخرون أن أبناءهم يدرسون في كليات الطب والهندسة، وهذا نابع من خلل في نفوسهم، وانهزام في قلوبهم، ووهن في نظرتهم إلى انتمائهم وتخصصهم، فقد تسأل بعضهم عن أبنائه، أين يدرسون؟ فيقول: أحدهم في الطب، والثاني في العلوم، والثالث في الطب أيضاً، والرابع في الحقوق.
ومن عجائب انقلاب المفهومات أنك تسأل بعض المتعلمين: أين تخرجت؟ فيقول: تخرجت في أمريكا - يقولها بكل اعتزاز - وتسأل الآخر السؤال نفسه، فيقول: لم يسمح لي أبي، فدرست في داخل بلدي - يقولها بمرارة -.
هذا كله ناجم عن الهزيمة النفسية التي أدت إلى تشوه التصورات، وتحول النظرات، فصرنا إلى حال من الضعف والتأخر يرثى لها.
إن العزة كل العزة في دراسة العلوم الشرعية، والعناية بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولكن الطعنات النُّجل التي وجهتها وسائل التغريب إلى جسد الأمة، التي ما زالت ترجع القهقري عن مقومات عزها، وأسباب ريادتها؛ أقول: إن هذه الطعنات أدت إلى الهزيمة النفسية المقيتة؛ فأفرزت ما أفرزت من الويلات.
أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم
العلم الشرعي ثلاثة أقسام:
__________
(1) - وهذا في غير هذه البلاد، لأن كليات الشريعة عندنا لا تقبل إلا من معدله مرتفع، وطالب الشريعة في بلادنا يرفع رأسه عاليا، وله مكانته الاجتماعية الرفيعة.(1/5)
أولها: فرض العين: وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب -الذي يتعين عليه فعله- إلا به، كأركان الإسلام والإيمان ونحوهما.
ثانيهما: فرض الكفاية: وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة أمور دينهم ودنياهم، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
ثالثها: المستحب: وهو التبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، ومن تخصص في علم وجوباً، أصبح غيره من العلوم له نفلاً.
نصوص في فضل العلم وأهله
قال الله _تعالى_: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" (طه: من الآية114). "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر: من الآية9). "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: من الآية11). "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: من الآية28).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه (1) .
وإن في هذا الحديث لدحضاً للمفهومات الخاطئة تجاه العلوم الشرعية لدى كثير من شباب المسلمين المصابين بالهزيمة النفسية.
ويقول صلى الله عليه وسلم :" بلغوا عني ولو آية " (2) ، ويقول: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة " (3) .
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (4) .
__________
(1) - البخاري في كتاب العلم: 10، وفي الخمس: 7، ومسلم في كتاب الإمارة جـ3 برقم175.
(2) - رواه البخاري في كتاب الأنبياء: 5.
(3) - رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء جـ4 برقم 38.
(4) - رواه مسلم في كتاب الوصية جـ3 برقم14.(1/6)
ويقول: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1) . ويقول -صلوات الله وسلامه عليه-: " ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله - تعالى - وما والاه، وعالم أو متعلم " (2) ويقول: " من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " (3) .
ويقول: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال: " إن الله وملائكته وأهل السماء والأرض، حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير " (4) .
ويقول صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر " (5) .
طلب العلم في الصغر، وبعض أقوال العلماء فيه
إن من أنفس النصائح التي نقدمها للشباب أن نحثهم على الإقبال على العلم في هذه السن، فإنها فرصة حري بالعاقل اغتنامها، فقد يعجز في المستقبل عما يستطيعه اليوم.
وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، توحي بأهمية الطلب في الصغر، وتميزه عن الطلب في الكبر. قال الحسن: "طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر" (6) .
وقال علقمة: "أما ما حفظت وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاسة أو ورقة" (7) وذلك من قوة حفظه له.
__________
(1) - ابن ماجة، المقدمة 1/224، وهو حسن بطرقه.
(2) - رواه الترمذي 4/2322 وقال: حسن غريب.
(3) - رواه الترمذي 5/2647 وقال: حسن غريب.
(4) - رواه الترمذي 5/2685 وقال: حديث حسن غريب.
(5) - رواه الترمذي 5/2685.
(6) - المدخل إلى السنن الكبرى رقم 640 وقال المحقق: رواه ابن عبد البر في بيان العلم 1/82.
(7) - المدخل إلى السنن الكبرى رقم 642 وعزاه المحقق إلى ابن سعد في الطبقات 6/87 عن الحماني.(1/7)
وقال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: "تعلموا العلم، فإنكم إن تكونوا صغار قوم تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ فليكتب" (1) .
العلم صيد والكتابة قيده ... قيد صيودك بالحبال الواثقه
فمن الحماقة أن تصيد غزاله ... وتتركها بين الخلائق طالقه
وقال عروة بن الزبير لبنيه: "هلموا إلي فتعلموا مني، فإنكم توشكون أن تكونوا كبار قوم. إني كنت صغيراً لا ينظر إلي، فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني، وما شيء أشد على امرئ من أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله" (2) .
وروي عن لقمان أنه قال لابنه: "يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء" (3) .
وقال: "يا بني لا تتعلم العلم لتباهي به العلماء، وتماري به السفهاء، وترائي به في المجالس، (4) ولا تدع العلم زهداً فيه، ورغبة في الجهالة، يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك جاهلاًَ يعلموك، ولعل الله يطلع عليهم برحمة فتصيبك معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك جاهلاً يزيدوك غياً" (5) .
__________
(1) - المدخل إلى السنن الكبرى (632) وعزاه المحقق إلى ابن عبد البر 1/82 بسنده عن عبد الله بن الإمام أحمد.
(2) - بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
(3) - المدخل إلى السنن الكبرى (445) وعزاه المحقق إلى ابن عبد البر في بيان العلم 1/106.
(4) - ما مضى من هذا الأثر معنى حديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتتحدثوا به في المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار". رواه الحاكم في المستدرك 1/86، وروى أوله ابن ماجة المقدمة 1/254، وقال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. ورواه ابن حبان في صحيحه.
(5) - جامع بيان العلم وفضله.(1/8)
وقال: "يا بني إن الحكمة أجلست المساكين في مجالس الملوك" (1) .
وهذا القول الأخير واضح تماماً لمن قرأ التاريخ وسير العلماء، فإن أكثرهم كانوا من المساكين والضعفاء الذين لا يؤبه لهم، ومع ذلك جلسوا في مجالس الملوك، فلئن جلس الملوك بالقوة الحسية، فقد جلس العلماء بالقوة المعنوية على قلوب الناس.
وقال: "كما ترك الملوك لكم الحكمة – أي: العلم - فاتركوا لهم الدنيا" (2) .
الرحلات في طلب العلم
الرحلة في طلب العلم أمر معروف عبر التاريخ، وبخاصة في هذه الأمة، وعلى وجه أخص عند السلف - رضي الله عنهم -.
ومن أقوى الرحلات التي خلدها القرآن الكريم، رحلة موسى -عليه السلام- إلى الخضر، كما في سورة الكهف.
ومن النماذج الرائعة في هذا الباب:
رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى بلاد الشام مسيرة شهر؛ ليسمع حديثاً واحداً من عبد الله بن أنيس، وهو: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً " (3) .
رحلة أبي أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن عامر بمصر؛ ليسمع حديثاً واحداً، وهو: " من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " (4) .
وسمع الحديث فور وصوله إلى مصر، ورجع مباشرة إلى المدينة.
وقال بسر بن عبيد الله: "إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد".
وقال أبو العالية: "كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم"، وذلك لإرادة علو الإسناد.
واليوم لو دعي بعض طلبة العلم إلى محاضرة لقالوا: يكفينا أن نذهب إلى محلات التسجيل، ونشتري المحاضرة بعد أن يتم تسجيلها.
فليقارن طلبة العلم اليوم حالهم بحال أولئك الأفذاذ، أولي الهمم العالية، فلعله أن يكون في ذلك حافز لهم على الجد والتشمير.
حال السلف الصالح في طلب العلم
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله.
(2) - جامع بيان العلم وفضله.
(3) - رواه مسلم 2859.
(4) - رواه البخاري 2310 ومسلم 2580.(1/9)
لقد كان حال سلف الأمة في طلب العلم حالاً عجيباًاستثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم؛ فحصلوا منه ما يدعو إلى الدهشة، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم.
قال أبو زرعة: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث (أي: مليوناً)، فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب" (1) .
وأنا أسأل: كم منا من يحفظ ألف حديث؟!
بل كم منا من يحفظ الأربعين النووية حفظاً دقيقاً؟!
وقال سليمان بن شعبة: "كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث، وليس معه كتاب".
وقال أبو زرعة الرازي: "أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" (الإخلاص:1)، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث" (2) .
وألف الإمام أبو بكر بن العربي تفسيره الكبير في ثمانين جزءاً، وله عدة مؤلفات: كـ (شرح الترمذي)، و(الموطأ)، و(أحكام القرآن الكبرى والصغرى)، و(العواصم من القواصم)، و(المحصول في الأصول)، وكلها تصانيف من أعلى طبقة.
وترك ابن أبي الدنيا ألف مؤلف.
وألف الحاكم - صاحب المستدرك - ما يزيد على ألف جزء.
وألف ابن عساكر تاريخه في ثمانين مجلداً.
وقال عنه أبو المواهب: لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه؛ من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة.
وسمع محمد بن إسحاق من ألف وسبعمائة شيخ، وقد رحل في طلب العلم وعمره عشرون سنة، ورجع وعمره خمس وستون سنة.
أما الإمام البخاري فقد رحل إلى كثير من البلدان، وسمع من أكثر من ألف شيخ. وكان يستيقظ من النوم، فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم ينام، ثم ينتبه حتى إنه في بعض الليالي يعمل هذا عشرين مرة.
وأما ابن تيمية فيكفي ما قال عنه الذهبي: إنه أشهر من أن يُعرَّف به.
__________
(1) - صفة الصفوة 2/337.
(2) - صفة الصفوة 4/88.(1/10)
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي، عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: "كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة، كان يقول: إني لا يَحِلُّ لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة؛ أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين ما كنت أجد وأنا ابن عشرين سنة".
ونحن إذا بلغ أحدنا ستين سنة قيل له: "مت قاعدا".
وكان ابن عقيل هذا يقول: وإن أَجَلَّ تحصيل عند العلماء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيه الفرص، فالتكاليف كثيرة.
وقد ألف - رحمه الله - كتابه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وله كتاب صغير في عشرين مجلدا!!
وقال ابن عقيل الوراق: "إن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه وتلاميذه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال لهم: أتنشطون لكتابة تاريخ العالم من وقت آدم -عليه السلام- إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فردوا بمثل ذلك. فقال: إنا لله... ماتت الهمم. فاختصره في نحو ما اختصر التفسير".
فإن كان تلاميذ ابن جرير الطبري قد ماتت هممهم، فهل نجد في القاموس وصفا معبرا نطلقه على طلاب اليوم؟.. طلاب اليوم الذين إذا كتب الأستاذ وريقات معدودة تكاسلوا عن الكتابة معه، ومتابعته وتدوين شرحه، ثم إذا جاء آخر السنة صوروا ما اجتمع ببضعة ريالات، ثم حفظوه في بضع ساعات، وألقوه في أوراق الامتحانات، وهذا آخر عهدهم به - إلا من وفقه الله -
قال الخطيب: "وسمعت السمسمي يحكي أن أبا جعفر الطبري مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة".(1/11)
وهذا الذي يكتبه علم قوي عميق، قد نظل في فهم بعض عباراته أوقاتا طويلة، في حين أن عامة طلبة اليوم - برغم تفرغهم - يكتب أحدهم في أربعة أشهر أربعين ورقة، نقلا ضعيفا مهلهلا.
ويقول محمد كرد علي في كتابه (كنوز الأجداد) في ترجمة ابن جرير: "وما أثر عنه أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الإفادة والاستفادة".
والبرهان على ذلك ما رواه المعافى بن زكريا عن بعض الثقات أنه كان بحضرة ابن جرير قبل موته، فذكر له دعاء عن جعفر بن محمد، فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبه، فقيل له: أفي مثل هذه الحال؟ فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الممات، ثم توفي بعد ذلك بنحو ساعة أو أقل منها - رحمه الله -.
فقارن هذه الحال بحال بعض طلبة الجامعات عندنا اليوم، فإن أحدهم إذا أصيب بزكام طلب إجازة ثلاثة أيام، فإذا جاء آخر السنة فوجئ الأستاذ بالأعذار الشرعية، وغير الشرعية، تنهال عليه من الطلاب، يعتذرون عن طلب العلم، وفي كليات شرعية لأسباب واهية.
وقال الفارسي: سمعت أبا المعالي الجويني يقول: أنا لا أنام ولا آكل عادة، إنما أنام إذا غلبني النوم، ليلا كان أم نهارا، وآكل إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان، وكانت لذته ونزهته في مذاكرته للعلم، وطلب الفائدة، من أي نوع كان.
وأذكر في ختام هذه النماذج مثالا من حياة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - كما كتبها أحد تلاميذه: (1)
كان - رحمه الله - يشغل جل وقته في تعليمه، وتلقينه لطلابه، على اختلاف مراتبهم، وتباعد درجاتهم.
فكان يجلس في مسجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بعد صلاة الصبح لصغار الطلاب، فيدرسون عليه مبادئ النحو في (الآجرومية)، ثم يأتي بعدهم المتوسطون في العمر، ثم يأتي من بعدهم الكبار بالألفية.
وكل واحد من هذه الطوائف الثلاث يعطى ما يناسبه من المسائل، والبحث، والدروس.
__________
(1) - وهو الشيخ: عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء.(1/12)
فإذا انتهت دروس النحو شرع في دروس الفقه، فأخذ الطلاب يقرءون عليه (مختصر المقنع)، عن ظهر قلب، ثم يشرع في شرحه وبيان معانيه، ثم يعيدون الدرس بعد شرحه بقراءة أحدهم، واستماع الباقين.
وبعد انتهائهم من درس الفقه، يشرعون في درس الحديث، والكتاب المفضل لديهم هو (بلوغ المرام)، لمطابقته لكتب الأحكام، وسيره معها، فهو دليلها ومستمد أحكامها، ومستند تفريعها، فيوضح ألفاظه، ويبين أحكامه، ويبرز فوائده.
وكل ما تقدم من دروس النحو، والفقه، والحديث في جلسة واحدة من جلساته، والتلاميذ على حلقته الكبيرة ما بين وارد وصادر، وهو في مجلسه كالنبع الصافي، والمورد العذب الذي لا ينضب، على كثرة الواردين، وازدحام الناهلين، ثم يذهب إلى بيته، فيلبث فيه بقدر ما يفرغ من حاجاته الضرورية، ثم يعود إلى مجلسه في المسجد ضحى، فيأتي كبار الطلاب، ويشرعون في القراءة عليه في الكتب الكبار، والمراجع الضخام، ثم يعود إلى بيته قبل الظهر، ويستريح فيه حتى تحين صلاة الظهر.
وبعد الفراغ من الصلاة يقام الدرس بحضور كبار التلاميذ وصغارهم بأحد الأمهات الست، وبعد الفراغ منها يقرأ عليه الطلاب في كتب العقيدة؛ ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب غيرهما في عقائد السلف.
ويستمر الدرس حتى صلاة العصر، وبعد الصلاة إلى قرب المغرب، وهو في جلسة واحدة؛ لاستقبال الطلاب فوجا بعد الآخر، وهم ما بين الكتب: في التوحيد، أو الحديث، أو الفقه، أو النحو.
وبعد صلاة المغرب يخصص وقتا لعلم الفرائض، فإذا قرب العشاء شرع في درس عام، فقرأ عليه القارئ تفسير ابن كثير، وهو يعلق على التفسير والآيات الكريمات بما يرى الحاجة تدعو إلى ذكره وإلحاقه، حتى صلاة العشاء، وبعد صلاة العشاء يبدأ في استقبال بعض حاجات الناس، ثم ينام، ثم يقوم ليصلي الليل.
وهكذا.. فقد فرغ كل أوقاته، وصرف جميع حالاته؛ في خدمة العلم وتحصيله ونشره.(1/13)
هذا.. واستمر على هذه الحالة من عام 1339هـ إلى عام 1382هـ، إلا في حالات أسفاره، أو مرضه، إلا أنه في السنوات العشر الأخيرة بدأت المسئوليات تأخذ بعض وقته (1) .
فرحم الله أولئك الأفذاذ الذين عطروا تاريخ الأمة عبر عصوره المتلاحقة.
مقارنة بين العلم والمال
عقد ابن القيم - رحمه الله تعالى - مقارنة بين العلم والمال، يحسن إيرادها في هذا المقام، فقد فضل العلم على المال من عدة وجوه، أهمها:
أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله.
أن العلم يزداد بالبذل والعطاء، والمال تذهبه النفقات - عدا الصدقة -.
أن العلم يرافق صاحبه حتى في قبره، والمال يفارقه بعد موته، إلا ما كان من صدقة جارية.
أن العلم يحكم على المال، فالعلم حاكم، والمال محكوم عليه.
أن المال يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، أما العلم النافع فلا يحصل إلا للمؤمن.
أن العالِم يحتاج إليه الملوك ومن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة والحاجة.
أن صاحب المال قد يصبح معدما فقيرا بين عشية وضحاها، والعلم لا يخشى عليه الفناء، إلا بتفريط صاحبه.
أن المال يُعَبِّدُ الإنسان للدنيا، والعلم يدعوه لعبادة ربه.
أن المال قد يكون سببا في هلاك صاحبه، فكم اختطف من الأغنياء بسبب مالهم!! أما العلم ففيه حياة لصاحبه، حتى بعد موته.
سعادة العلم دائمة، وسعادة المال زائلة.
أن العالِم قدره وقيمته في ذاته، أما الغني فقيمته في ماله.
أن الغني يدعو الناس بماله إلى الدنيا، والعالِم يدعو الناس بعلمه إلى الآخرة.
فانظر - يرعاك الله - أي هذين الطريقين تختار !!
آثار الجهل على الأمم وفضائل العلم عليها
إن أمة ترضى بالجهل، وتتقاعس عن العلم، وتنصرف عن العناية به وبأهله؛ إنها لخليقة بأن تدفع الثمن غاليا، والضريبة مضاعفة.
__________
(1) - انظر مجلة البحوث الإسلامية العدد (18).(1/14)
فلقد شهدت السنن الربانية، وسطر التاريخ، ونطق الواقع، بأن للجهل آثارا ضخمة وخيمة على الأمة، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع، ومن أبرزها:
1- ضعف الإيمان وقلة التقوى، فإن الجاهل لا يدري ماذا يتقي، ولا يعلم الطريق إلى نجاته على بصيرة.
2- ازدياد المعاصي، وانتشار الفواحش والفتن والحسد وعبادة الدنيا، وظهور سائر الآفات.
لقد اطلعت على تقرير عن إحدى المؤسسات الإصلاحية، وفيه إحصائية عجيبة عن نزلاء تلك الإصلاحية - وكلهم ممن ارتكب جرما أخلاقيا أو نحوه - فوجدت أغلبهم من العوائل التي يكثر فيها الجهل، في حين وجدت أن بعض الأحياء التي فيها نسبة عالية من المتعلمين تقل فيها الجريمة، بل إن الجرائم التي تحدث فيها غالبا ليست من أهلها.
3- الجهل يؤدي إلى ضعف الهيبة أمام الأعداء، ويقود إلى الحاجة إليهم، وإلى ما يحملونه من انحرافات في الفكر والسلوك.
4- الجهل يقيد الأمة بأغلال التخلف في جميع المجالات: العقدية، والأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصناعية... وغيرها.
5- وبسبب الجهل تكثر المشكلات الأسرية، وتضعف التربية، ويضيع الأبناء، ويجني المجتمع ثمارا شائكة مرة من جراء ذلك.
6- الخمول والكسل وضعف الهمم والقصور عن إدراك المعالي وهي نتائج حتمية للجهل.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
أما الأمة التي تولي العلم وأهله عناية فائقة، فتقبل على التحصيل، وتسخر طاقاتها في سبيله، وتجعل من أهل العلم موجهين لها؛ فإنها تعيش في ظلال العلم الوارفة، وتتقلب في رياضه الغناء، ممثلا ذلك في:
1- الإيمان بالله، المبني على العلم والعمل بمقتضى الدليل.
2- معرفة الله حق المعرفة، وخوفه ورجائه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
3- اجتناب المنكرات؛ للعلم بعواقبها الوخيمة، وآثارها الأليمة عاجلا وآجلا، وإنقاذ الأمة من الهلاك، مع الالتزام بالطاعات والقربات.(1/15)
4- القيام بحقوق كل ذي حق: من الوالدين، والأرحام، والجيران، وغيرهم؛ لأن العلم بحقوقهم يحمل المرء على أدائها والوفاء بها.
5- السعادة النفسية، واللذة الحسية، الدنيوية والأخروية.
6- تحكيم شريعة الله في جميع شئون الحياة: فشتان ما بين أمة عالمة، بصيرة، وأمة جاهلة، حقيرة.
وسائل التعلم
1- تقوى الله - سبحانه وتعالى - قال الله عز وجل (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: من الآية282). وهي أهم الوسائل وأعظمها، فبدونها لا تجدي الوسائل الأخرى.
2- ملازمة العلماء والمشايخ في المساجد والبيوت، وإني لأحث طلاب العلم على العناية بهذه الوسيلة، واغتنام فرصة كثرة العلماء، وطلاب العلم الكبار في هذا البلد، فلقد كنا منذ نحو عشرين عاما نتمنى أن نجد هذه الأعداد من العلماء الذين جلسوا للتعليم، فلا نجد في الرياض مثلا إلا اثنين أو ثلاثة.
ولقد ذهبت إلى كثير من بلدان المسلمين فلم أجد للعلماء حضورا مذكورا في الساحة، وإن وجد قلة منهم، فقد تُلفِيَ لديهم خللا في العقيدة، وخللا في السلوك (1) .
ومن هنا فإني أخص الإخوة المقيمين في هذا البلد من طلاب العلم بالحض على اهتبال الفرصة، واستغلال فترة وجودهم في هذا الجو العلمي العاطر.
3- المدارس والمعاهد والجامعات، وأخص الشرعية منها.
4- القراءة مع الزملاء والأصدقاء وطلاب العلم.
5- كثرة الاطلاع والقراءات الخاصة المرتبة المنتقاة، والاسترشاد في هذا السبيل بآراء ذوي العلم والرأي، مع الحزم في التنفيذ والمتابعة.
6- إعداد البحوث الدقيقة التي يتم فيها تحرير المسائل، واستخلاص النتائج، وسبر أغوار القضايا.
7- المحافظة على الأوقات، وحسن ترتيبها، والحرص على استغلالها، بحيث يعطى كل ذي حق حقه، بدون غلو ولا جفاء.
__________
(1) - وهذا لا يعني عدم وجود علماء أجلاء، مع سلامة في العقيدة والمنهج، ولكنني أتحدث عن الحالة الغالبة.(1/16)
8- الاستماع إلى ما في أشرطة التسجيل من محاضرات وندوات ودروس علمية، فهي وسيلة معينة على طلب العلم، وإن كانت غير خاصة به.
هذه الوسائل بمجموعها يمكن بها تحقيق طلب العلم، وأما الاقتصار على بعضها فقد يكون غير كاف لتحقيقه على الوجه المطلوب.
بعض صفات طالب العلم
الإخلاص لله - تعالى - وذلك بأن يبتغي بعلمه وجه الله والدار الآخرة، لا أن يبتغي به الرياء، أو السمعة، أو عرضا من الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة " (1) (2) .
وعلى طالب العلم أن يقرن الإخلاص بتقوى الله ومراقبته، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: من الآية282).
الصبر وتحمل المشاق وسعة الصدر فإن العلم جهاد لا شهوة، وما أحسن ما قال الشاعر:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي متى؟!
التواضع في طلب العلم، والحذر من الكبر والغرور، فإنه لا ينال العلم مستح ولا مستكبر.
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة ... تجرع كأس الجهل طول حياته
التفرغ للعلم، والإقبال عليه، والانصراف إلى تحصيله؛ فإن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
توقير العلماء، وحفظ مكانتهم، وعدم تجريحهم، أو انتقاضهم (3) .
أن يكون شعار الطالب: "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها".
التأدب مع مشايخه ومدرسيه، وحسن الإصغاء والتلقي، ولباقة النقاش وإتقانه.
البعد عن الجدال والمراء العقيم، " لا جدال إلا بالحق".
واجبات طالب العلم
__________
(1) - عرف الجنة: ريحها.
(2) - رواه ابن ماجة، المقدمة 1/252 وأحمد في المسند 2/338.
(3) - وهناك من جعل من انتقاص العلماء وتجريهم ديدنا له، وسلما لشهرته، وهذا ليس له من خلاق، وانظر رسالة المؤلف: لحوم العلماء مسمومة.(1/17)
1- الورع والتقوى والعمل بالعلم: يجب على طلاب العلم بصفة خاصة أن يكونوا ورعين، تقاة بررة، وأن يعملوا بعلمهم، ويلتزموا بالإسلام عقيدة وسلوكا، قولا وعملا.
وعلى الرغم من وجوب كثير من طلاب العلم الذين يعملون بعلمهم، ويلتزمون الاستقامة في سلوكهم، فإن هناك بعض الطلاب الذين لا يحرصون على الالتزام الصحيح بالدين، فترى المخالفات الشرعية في هديه الظاهر، وفي بيته، وفي كثير من تصرفاته. وهذا الفصام النكد لدى هذا الصنف من الطلاب لن ينتج للأمة علماء عاملين مؤثرين.
2- بذل العلم للناس عامهم وخاصهم، وتوعيتهم بأمور دينهم، ونشر الخير بينهم، فإن كتم العلم وحجبه عن الأمة أمر خطير، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " (1) .
3- الدعوة إلى الله على بصيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب على طلاب العلم الدخول فيها مجالات كثيرة، يطول الحديث عنها، فليرجع إليه في مواضعه. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
4- القدوة الصالحة، فإن الناس ينظرون إلى طالب العلم نظرة خاصة، فعليه أن يجعل من نفسه مثالا رائعا، وألا يكون سببا في ضلال الناس، فلئن كانت المعصية في حق غيره واحدة، فهي في حقه عدة معاص، لأن الناس يتأسون به، وكم يسمع الناس من احتجاج العوام لاقتنائهم مثلا أجهزة الفساد كالفيديو وغيره بأن طالب العلم الفلاني يقتني في بيته هذا الجهاز، سواء كان ذلك حقا أو باطلا. فليتفطن طلاب العلم لذلك، فإن كانت زلة العالم مضروبا بها الطبل، فإنهم قريبون من ذلك.
__________
(1) - رواه أبو داود في سننه، كتاب العلم 4/9 وابن ماجة، المقدمة 1/264.(1/18)
5- الاستمرار في طلب العلم حتى الممات، والحذر من الشعور بالاستغناء والاكتفاء والاستعلاء، ولنا في سلف الأمة خير مثال في هذا الباب، فإن الإمام الطبري - كما مر معنا - لم يتوقف عن طلب العلم حتى قبل موته بلحظات. هذا في حين أن بعض المنسوبين إلى طلب العلم إذا حصل على شهادة عالية توقف هنالك، وانصرف عن الطلب، ومن نماذج ذلك أن أحد طلاب العلم لما أنهى رسالته العلمية باع كتبه، وهذه مأساة ورجوع إلى الوراء، وفهم سقيم لحقيقة العلم.
كما أن بعض طلاب العلم إذا حصل مثلا على شهادة (الدكتوراه) شعر بالاستعلاء على غيره، وهذا شعور مهين، يوحي بمرض القلب، وينم عن شخصية ناقصة، واحتقار للآخرين.
6- الجرأة في الحق: وهذه صفة عزت في الأمة، وندر أهلها، فعظمت الحاجة إلى الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يخافون على أنفسهم، ولا أموالهم، ولا غيرها، في ذات الله - تعالى - أمثال أبي سعيد الخدري، الذي أنكر على مروان بن الحكم - وهو الخليفة - تقديم الخطبة على الصلاة يوم العيد، وذلك أمام الناس.
وأمثال سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وما أكثر مواقفه في الصدع بالحق، كموقفه يوم أمسك بلجام فرس السلطان في السوق، ونهره وأنكر عليه وجود الخمر في البلاد، وقال له: أبوك خير منك، فلم نر الخمر في عهده، وشدد عليه النكير أمام الناس، والسلطان لا يزيد على أن يعتذر إليه، ويعده، ويطلب منه أن يفلته، فلم يفلته إلا بعد أن أصدر أمرا بإغلاق جميع الحوانيت.
فلما أطلقه قال له الناس: يا عز هذا ملك جبار ظالم، ألم تخش بطشه؟! فقالها العز مدوية تملأ سمع التاريخ: إنني تصورت عظمة الله - سبحانه وتعالى - فأصبح بين يدي كالقط.(1/19)
وأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، صاحب المواقف الكثيرة أيضا، كموقفه مع (قازان) ملك التتار لما قدم لغزو دمشق، حيث خرج إليه شيخ الإسلام، وقال له: إنك تزعم أنك مسلم، ومعك قاض، وإمام ومؤذن، وها أنتذا تغزونا؛ وأبوك وجدك كانا كافرين، وما فعلا فعلك، بل عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت.
فانكسر الملك، وطلب من الشيخ أن يدعو له، وانصرف عن غزو المسلمين.
وكان الناس يتصورون أنه سوف يبطش بالشيخ.
فما أحوج الأمة اليوم إلى هذه الأمثلة الرائعة، ما أحوجها إلى الذين يجهرون بكلمة الحق، ولا يبالون بجور الظالمين، ولا ببطش المستكبرين.
7- الوعي الكامل الشامل بواقع الأمة، والتفاعل مع قضايا المجتمع، وعدم الانعزال عن هموم الناس، وإن مما يبعث على الحزن أن نجد كثيرا من طلاب العلم من أبعد الناس عن واقع أمتهم، وهذا يذكرنا بما كان عليه بعض طلاب العلم عندما دخل الاستعمار سوريا، حيث كانوا يتناقشون ويتجادلون: هل يجوز زواج الحنفية من الشافعي أو لا؟! وهل يجوز زواج الشافعية من الحنفي أو لا؟! فبعضهم منع ذلك، وبعضهم أجاز قياسا على الكتابية. والجيوش المدججة الصليبية تبسط نفوذها على بلاد الشام!!
ويحدثني شخص كان في بلد يعاني فيه المسلمون المآسي، من انتهاك الحرمات، ومطاردة الدعاة.
يقول: فذهبت إلى درس عالم من العلماء في ذلك البلد، فجلست في حلقته، فبدأ الشيخ بحمد الله والثناء عليه، ثم قال: مسألة: إذا نبت للمرأة لحية، فهل يجوز أن تحلقها أو لا؟
يطرح الشيخ هذه المسألة، ويناقش هذا الموضوع، والمسلمون في السجون، والنساء تنتهك أعراضهن، والأيتام يعانون آلام الحرمان والقهر، فيا للعجب!!
وإن مما يدعو للعجب أيضا: أن هناك طلبة علم لا يعرفون عن الجهاد الأفغاني شيئا.. ولا يعلمون عن الجهاد في الفلبين شيئا، بل إن هناك من لا يعلم أن ثمة بلدا اسمه (الفلبين)، فضلا عن أن يعلم ما يدور فيه من مآسي المسلمين.(1/20)
وربما قال بعضهم: إننا بحاجة إلى من يحفظ كتاب الله، ويحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتفقه في علم الشريعة، ولسنا بحاجة إلى تتبع ما يدور في الواقع العالمي أو المحلي، وهذا خطأ وفهم سقيم، يعارض ما يدعو إليه القرآن الكريم من معرفة سبيل المجرمين، وما فيه من حديث واضح عن واقع الأمة.
نماذج مما قاله بعض الشعراء في
طلب العلم وفضله
يقول الشاعر:
من قاس بالعلم الثراء فإنه ... في حكمه أعمى البصيرة كاذب
ويقول آخر:
العلم مبلغ قوم ذروة الشرف ... وصاحب العلم محفوظ من التلف
يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه ... بالموبقات فما للعلم من خلف
العلم يرفع بيتا لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف
ويقول آخر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسادهم دون القبور قبور
ويقول آخر:
بالعلم والعقل لا بالمال والذهب ... يزداد رفع الفتى قدرا بلا طلب
العلم كنز فلا تفنى ذخائره ... والمرء ما زاد علما زاد بالرتب
وقال غيره:
الناس من جهة التمثال أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
ويقول أحد العلماء لصاحبه:
أأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي!
ويقول أحد الشعراء:
اصبر على مر الجفا من معلم ... فإن رسوخ العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه ... فكبر عليه أربعا لوفاته
ولا يعني هذا أن ييأس من فاته التعلم في مقتبل عمره، ولكن الموقف الصحيح أن يحاول أن يستدرك ويقارب.
ويقول الشاعر:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمان
ويقول الآخر محذرا:
لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح لفساد آخر يفسد(1/21)
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ويقول الآخر:
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلا ... يغوص البحر من طلب اللآلي
ويقول الآخر مبينا انتفاعه بعلمه:
علمي معي حيثما يممت ينفعني ... قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ملحوظات وتنبيهات حول طلب العلم
أولا: لا بد من الشمول والتوازن في طلب العلم، وعدم الانشغال بالفروع عن الأصول، فيأخذ طالب العلم من التفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه، والأصول، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والوعي بواقع الأمة، ويوازن بين استمداده من هذه الفنون، ولا ريب أن المرء لا يستطيع أن يكون متخصصا في كل هذه العلوم، ولكن له أن يتخصص في واحد منها، ثم يكون في الوقت نفسه على صلة وثيقة بالعلوم الأخرى، أما أن يكون متخصصا في علم وجاهلا في العلوم الأخرى، فلسنا إلى هذا الطالب بحاجة (1) .
ثانيا: التورع في الفتوى، والتأني في إطلاقها، فإني أرى طلاب علم يستعجلون في الفتوى، في زماننا هذا، مع أن الأسلاف - رضي الله عنهم - كانوا يتدافعون الفتوى، ويشفقون من الإقدام عليها، فما بال طلاب العلم اليوم يتناهبونها، ولا يأبهون بخطورتها؟!
جاء رجل من العراق إلى مالك بن أنس - رحمه الله - فسأله عن أربعين مسألة، فأفتاه في ثلاث مسائل فقط - في إحدى الروايات - واعتذر عن سبع وثلاثين مسألة، فقال له السائل: نضرب إليك أكباد الإبل، ولا تعرف إلا ثلاث مسائل!! فقال له الإمام: اركب راحلتك، وقل لمن أرسلك: إنني وجدت مالك بن أنس لا يعلم في العلم شيئاً.
وبهذا التواضع والتورع في الفتوى نال الإمام مالك المنزلة الرفيعة، والمكان المرموق بين العلماء.
__________
(1) - وبخاصة إذا تخصص في علم من علوم الدنيا، أما المتخصص في العلوم الشرعية فلا يلزم أن يتعلم العلوم المادية.(1/22)
ثالثا: أُحذر من أنصاف المتعلمين الذين يحسبون أنهم يعلمون، وهم لا يعلمون، بل هم خراب البلاد والعباد.
وأدعو طلاب العلم دعوة صادقة إلى التفقه في الدين، من منابعه الأصيلة الصافية؛ ليكونوا - بإذن الله - علماء عاملين مخلصين، وليكونوا على الثغور، فيحموا الأمة من الضياع، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسألوهم، فأفتوهم بغير علم، فضلوا وأضلوا " (1) .
فليستثمر الشباب وجود العلماء بينهم، وليطلبوا العلم على أيديهم؛ ليسدوا مسدهم عند رحيلهم، فتلك سنة الله التي لا تتخلف.
اقتضاء العلم العمل
تبرز الحاجة إلى التفقه في هذا الموضوع من خلال ما يلي:
أولاً: حاجة الأمة إلى العلماء المؤثرين العاملين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ثانياً: كثرة المتعلمين وقلة العاملين: إن المتعلمين في هذه البلاد وفي غيرها كثيرون- كما تدل على ذلك الإحصائيات- ما بين متخصصين في العلم الشرعي، ومشتغلين بعلوم أخرى، لكن أكثر هؤلاء المتعلمين يعيشون أمية في العمل، كما قال أبو شقرة: "أمية الحرف وأمية الولاء" (2) .
إن هؤلاء المتعلمين جميعاً - على اختلاف تخصصاتهم - يدركون وجوب الالتزام بأمر الله ، ومع ذلك نجد البون شاسعاً بين الإحصائيات الرسمية لأعداد المتعلمين، وما يوحي لنا به الواقع من أمية في الولاء والالتزام والعمل.
ثالثاً: عدم إدراك كثير من المتعلمين لخطورة إهمالهم لأمر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقصيرهم في الالتزام به، وهانحن أولاء اليوم نتجرع غصص هذا التقصير على مستوى الأفراد والمجتمعات.
__________
(1) - رواه البخاري في كتاب العلم: 34، ومسلم في كتاب العلم جـ4 برقم 13.
(2) - أي أن الأميين على قسمين: أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وأميون لا يطبقون ما تعلموا. انظر مجلة كلية أصول الدين العدد الثالث.(1/23)
رابعاً: القصور الواضح في مناهج التعليم، فإن مناهج التعليم في العالم الإسلامي تتحمل مسؤولية عظمى في الفصل بين العلم والعمل، فإنها تخرج لنا قراء مقصرين، ولم تنتج لنا علماء عاملين.
إن مفردات المناهج في جانبها النظري قد تكون جيدة عموماً، وبخاصة في هذه البلاد، ولكن المأساة تأتي من الجانب التطبيقي العملي فيها، فإنك مثلاً تجد تلك المناهج تعلم الطالب كثيراً من الأحكام من الواجب، والحلال والحرام، فهو يتعلم أن صلاة الجماعة واجبة، وأن التدخين حرام، وأن الربا حرام، وأن الإسبال وحلق اللحية حرام، ولو أجاب في الامتحان بخلاف هذه الأحكام لكان مخطئاً.
فإذا جاء التطبيق وجدنا كثيراً من الطلاب لا يصلون مع الجماعة، ويتعاطون التدخين، ويتعاملون مع البنوك الربوية، ويسبلون ثيابهم، ويحلقون لحاهم، ومع ذلك لا يخطئون، ولا يرسبون، وبذلك صارت المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي تخرج حفظة للنصوص فحسب.
دخلت جامعة إسلامية في إحدى بلدان المسلمين فهالني ما رأيت؛ رأيت الطلاب يختلطون مع الطالبات، ورأيت طالبات قد بدت عوراتهن، وتخلين عن حيائهن، في تلك الجامعة الإسلامية، التي تحتوي على كليات شرعية، فأي جيل سوف تخرجه للأمة مثل هذه الجامعة؟!
هذا في حين نرى الكليات التجريبية تعتني بالمزج بين النظرية والتطبيق في مناهجها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
خامساً: إعجاب كثير من طلاب العلم بألقابهم، ونسيانهم لرسالتهم في أمتهم ومجتمعاتهم: فإن كثيراً من الطلاب انشغلوا بالبحث عن الألقاب العلمية، مثل: لقب (دكتور)، ثم لما حصلوا على الألقاب دخلهم الغرور والعجب، فقصروا في تبليغ علمهم بلاغاً مبيناً، فلو أتيت إلى بعضهم، وقلت له: ألا تلقي كلمة في الناس بعد الصلاة في المسجد؟ لقال لك: أنا ألقي كلمة في مسجد!! أنا أكون واعظاً!! أنا الدكتور فلان أنزل إلى هذا المستوى!! وإن لم يبدها لك فقد أسرها في نفسه.(1/24)
نعم.. هكذا يقول بلسان مقاله، أو بلسان حاله.
ولو دعي لإلقاء محاضرة رسمية، فيها الأبهة والسمعة لاستجاب سريعاً.
أين هؤلاء من حال الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين كان الرجل منهم يحفظ بضع آيات، فيرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البوادي ليعلم الناس؟! ولقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلمهم؛ كان يحفظ أربعين أو خمسين حديثاً فقط.
وجوب اقتران العلم بالعمل
إن ارتباط العلم بالعمل قضية كبرى، ومسألة جوهرية في حياة العلماء وطلاب العلم، فإن العمل هو المقصود الأعظم من العلم، وبدونه لا قيمة للعلم، ولا فائدة من ورائه.
ومن هنا جاءت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة تؤكد وجوب ربط العلم بالعمل، وتحذر من الفصل بينهما، وجاءت الأقوال الكثيرة عن السلف، وأنشد الشعراء ما جادت به قرائحهم حول هذه القضية.
أما الآيات:
فقال الله - تعالى -: "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ" (الفاتحة: من الآية7) قال العلماء: المغضوب عليهم: هم الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: هم الذين يعملون على جهل وضلال، هذه آية نرددها في كل يوم عدة مرات، فهل فقهناها وأدركنا المقصود منها؟!
وقال - سبحانه - منكراً على بني إسرائيل: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (البقرة:44).
وقال عز وجل : "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" (آل عمران:187).
وقال - جل وعلا -: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2، 3).(1/25)
وقال - تعالى -: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ" (صّ: من الآية29). قال الحسن: تدبر آياته: اتباعه بعمله.
وقال ابن عباس في قوله - تعالى -: "يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" (البقرة: من الآية121) يتبعونه حق اتباعه.
وقال - عز اسمه - مشنعاً على اليهود: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ" (الجمعة: من الآية5).
هذه بعض الآيات حول الموضوع.
وأما الأحاديث فكثيرة جدا، ومنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " حديث صحيح الإسناد (1) .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: " يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقال: كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " رواه الشيخان (2) .
وعن زيد ابن أرقم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها " رواه مسلم (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة التي تضيء للناس وتحرق نفسها " رواه البزار وصححه الألباني (4) .
__________
(1) - الترمذي 2417 وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/126.
(2) - البخاري 3094 ومسلم 2989.
(3) - مسلم 2722.
(4) - انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/128.(1/26)
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون"، وفي رواية: " ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به" رواه ابن أبي الدنيا، وابن حبان، والبيهقي، وصححه الألباني في: (صحيح الترغيب والترهيب) (1) .
هذه طائفة من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حول موضوعنا، تبين اقتضاء العلم العمل، وتوضح خطورة الفصل بينهما، سواء على مستوى العلماء، أو طلبة العلم، أو كل من تعلم أدنى شيء من العلم.
وأما أقوال السلف فكثيرة جداً أيضاً في هذا المعنى، فلنقف على قليل منها:
قال أبو هريرة: "مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله - عز وجل -".
وقال سهل بن عبد الله: "الدنيا جهل وموات إلا العلم، والعلم كله حجة إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى تختم به".
وقال عمر بن الخطاب: "لا يغرركم من قرأ القرآن، ولكن انظروا من يعمل به".
وقال حبيب بن عبيد الرحبي: "تعلموا العلم، واعقلوه، وانتفعوا به، ولا تتعلموا لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه".
وقال أبو قلابة: "إن أحدث الله لك علماً فأحدث له عبادة، ولا يكن إنما همك أن تحدث به الناس".
وقال الحسن: "همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية".
وقال الفضل بن عياض: "لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً".
وقال مالك بن دينار: "العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا إذا وقع عليه القطر انزلق عنه"، وقال: "تلقى الرجل ما يلحن حرفاً، وعمله لحن كله".
وقال أيوب: "لا خبيث أخبث من قارئ فاجر"، أي: من متعلم فاجر.
وقال الأوزاعي: "أنبئت أنه كان يقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة".
ومن أقوال الشعراء في هذا المعنى:
__________
(1) - صحيح الترغيب والترهيب 1/125،126.(1/27)
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل ... لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زين وتقوى الله زينته ... والمتقون لهم في علمهم شغل
وقال أبو الأسود:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وكتب عبد الله بن المبارك إلى إسماعيل بن علية لما ولي الصدقات:
يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما ... كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فيما مضى ... عن ابن عون وابن سيرين؟
ودرسك العلم بآثاره ... وتركك أبواب السلاطين
تقول: أكرهت فماذا؟ كذا ... زل حمار العلم في الطين
لا تبتغ الدنيا بدين كما ... يفعل ضلال الرهابين
وقال أبو إسماعيل الإلبيري يحث ابنه على العلم والعمل:
وإن أعطيت فيه طول باع ... وقال الناس إنك قد علمتا
فلا تأمن سؤال الله عنه ... بتوبيخ: علمت فهل عملتا؟
وإن ألقاك فهمك في مهاو ... فليتك ثم ليتك ما فهمتا
لقد صاحبت أعلاما كبارا ... ولم أرك اقتديت بمن صحبتا
ويقبح بالفتى فعل التصابي ... وأقبح منه شيخ قد تفتى
ولو وافيت ربك دون ذنب ... ونوقشت الحساب إذن هلكتا
ولم يظلمك في عمل ولكن ... عسير أن تقوم بما حملتا
آفات العلم
ونختم هذه الرسالة ببيان أهم آفات العلم ليكون طالب العلم على حذر منها:
1- المعاصي:
فهي آفة الآفات، وتقضي على العلم كما تأكل النار الحطب، وكم من نظرة محرمة أدت إلى فقد كثير من العلم، أو لقمة من مال مشتبه أو محرم حولت العلم إلى سراب.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يعطى لعاص
وصدق الله العظيم: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: من الآية28).
2- الكبر والغرور:(1/28)
من تواضع لله رفعه، وما زاد عبد لله ذلاً إلا زاده الله رفعة، والكبر مهلك لصاحبه، مفن لعلمه، ولا يجتمع الكبر والعلم في قلب رجل، وإن حمل أعلى الشهادات وحفظ من الكتب أثقالاً، وروى البخاري في الأدب، وأحمد في المسند؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء ".
3- المراء والمخاصمة والجدل:
روى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المراء في القرآن كفر " (1) .
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عليه باب العمل، وفتح له باب الجدل، وقال إبراهيم النخعي: "ما خاصمت قط"، وقال الجزري: "ما خاصم ورع قط".
فالحذر الحذر من الجهل بعد العلم، والضلالة بعد الهدى، والمجادلة الشرعية هي ما عناها الله بقوله: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: من الآية46).
4- كتم العلم:
لا شيء يزيد بالإنفاق كما يزيد العلم، و"من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (2) .
وكتم العلم يؤدي إلى نسيانه وذهابه، والماء إذا لم يجر أسن، وكذا العلم إذا كتم ذهب، وهذا أمر مشاهد محسوس.
5- الانشغال بالدنيا:
من آفات العلم التهافت على الدنيا والانشغال بها عن الآخرة، يقول أحد السلف: "لو كلفني أهلي شراء بصلة ما عرفت مسألة من العلم".
فكيف بمن همه الدنيا، بها يصبح وعليها يمسي، ورحم الله الألبيري حيث يقول:
وما يغنيك تشييد المباني ... إذا بالجهل نفسك قد هدمتا
جعلت المال فوق العلم جهلا ... لعمرك في القضية ما عدلتا
وبينهما بنص الوحي بون ... ستعلمه إذا طه قرأتا
__________
(1) - انظر صحيح الجامع 6563.
(2) - سنن الترمذي 2649.(1/29)
6- المداهنة في دين الله والسكوت عن الحق وعلى الباطل:
وارتكاب ما يسقط الهيبة ويخرم المروءة لدى العامة، وهذا مما يضر بالعالم ويسيء إليه وإلى علمه، ويعد من آفات العلم المعنوية.
كذلك فإن التعجل بالفتوى يؤثر على سمعة العالم وفتاويه، حتى إنه ولو حسنت حاله بعد ذلك يبقى أثره في أذهان الناس وتصعب إزالته.
7- النسيان:
أعظم آفات العلم، ولذلك امتن الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم فقال: " سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى" (الأعلى:6)، وعلاج النسيان بالمذاكرة وبذل العلم، وترك أسباب ذهابه، كالمعاصي وغيرها.
هذه بعض آفات العلم، فعلى طالب العلم أن يكون على بينة منها حتى لا يجهل بعد الهدى، ويعمى بعد النور.
هذا وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن ينفع به المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعض الأسئلة الواردة في المحاضرة
س1: هل يعني كلامك يا فضيلة الشيخ أن نغفل التخصصات التجريبية، ونتجه إلى التخصصات الشرعية؟
جـ1: أنا لا أدعو إلى ترك التخصصات التجريبية، بل هي من فرض الكفاية الذي تأثم الأمة بتركه، ولكم عانينا المآسي من فقد الأطباء المسلمين الصالحين، وفقد المهندسين وغيرهم، حيث جاءنا أعداؤنا باسم الطب، وباسم الهندسة، وباسم الفيزياء ونحوها، فدخلوا بلاد المسلمين، فأدخلوا تلك العلوم، وأدخلوا معها ضلالهم وفسادهم.
ولكن المطلوب من طالب العلم أن يحيط من العلم الشرعي بفرض العين الذي لا يعذر مسلم بجهله، فإذا تحقق ذلك وجب علينا تحقيق التوازن بين التخصصات، فيكون هناك متخصصون في الشريعة، ومتخصصون في الطب، ومتخصصون في الهندسة، ومتخصصون في الاقتصاد، وفي غير ذلك من العلوم، مع أن على المتخصصين في العلوم التجريبية أن يستثمروا ما يستطيعون من الوقت في الاستزادة من علوم الشريعة.
س2: هل من المعقول أن تكون الصحوة الإسلامية كلها علماء؟(1/30)
جـ2: وهل من المعقول أن تكون الصحوة كلها ليس فيها علماء! إن المؤكد أنه لا يمكن أصلاً أن تكون الصحوة كلها من العلماء، ولكن المراد أن يحصل الجميع الحد الأدنى من العلم، ثم لا بد بعد ذلك من أن يكون في كل بلد عدد من العلماء يقودون الصحوة ويرشدونها، إذ لا يصح - كما أشرت في أثناء كلامي - أن تكون قيادة الصحوة في أيدي أناس غير متمكنين من العلم الشرعي، فهذا أمر خطير وعواقبه وخيمة.
وإن من العجيب أن تجد الناس يستنكرون أن يعمل أحد في الطب أو يتحدث فيه، وهو لا يحمل مؤهلاً طبياً، في حين لا يرون بأساً أن يأخذوا دينهم عن أنصاف المتعلمين أو الجهال.
كما أن من العجيب أن تجد من يتكلم في شؤون الدعوة بكل جرأة وطلاقة، ثم إذا سئل عن أيسر القضايا الفقهية لم يحر جواباً.
س3: أنا طالب في كلية الشريعة، وأريد أن أكون طالباً للعلم الشرعي، ولكن لا أجد أنني حريص على العلم، حيث إننا نطلب من الشيخ أن يحذف عنا أغلب المنهج، فما تعليقكم على ذلك؟
جـ3: هذا يرجع إلى قلة الإخلاص، وعدم الإحساس بحاجة الأمة إلى هذا العلم، فالطالب يشعر فقط أنه بحاجة إلى شهادة، فيسعى لنيلها بأي وسيلة، ولو استشعر أن الله سيحاسبه عن ذلك؛ لما طلب من الأستاذ أن يحذف من المنهج شيئاً، بل لقال للأستاذ عندما يحذف جزءاً من المنهج: يا أستاذ هذه خيانة للأمة، ولقال للأستاذ الذي يشرح بدون إعداد ولا تحضير: لماذا لم تحضر يا أستاذ؟!
ولكن الأساتذة وجدوا طلاباً كسالى، فضعفت هممهم و"كما تكونون يول عليكم".
س4: ما جواب الشيخ عمن يقول: إن طلب العلم يعوق عن الدعوة؟
جـ4: لا خير في دعوة بدون علم، وقد قال الإمام البخاري: (باب العلم قبل القول والعمل)، قال الله - تعالى -: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" (محمد: من الآية19) فجاء العلم قبل العمل في هذه الآية.(1/31)
ولا يعني هذا أن يتخلى طالب العلم عن الدعوة، ويقول: لن أدعو حتى أستكمل العلم، فهذا أيضا خطأ وانحراف، وإنما الواجب أن تتزامن الدعوة مع العلم، فإن الفصل بين العلم والعمل تفريط وشطط، ولقد كان الصحابة يقولون: كنا لا نتجاوز العشر آيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل.
فعلى طالب العلم أن يجمع بين الأمرين، في توازن وتكامل، فإن ذلك هو الفقه عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/32)