العدالة في نظام العقوبات
في الاسلام
تأليف
الدكتور محمد عبد الغني
??? الفصل الخامس : العدالة في نظام العقوبات في الإسلام ... 433
المبحث الأول : قواعد رئيسية في نظام العقوبات ... 324
القاعدة الأولى : ... كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته ... 435
أ- درء الحدود بالشبهات ... 436
ب- الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة ... 439
القاعدة الثانية : ... لا جريمة ولا عقوبة بلا نص ... 440
أ- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود ... 443
1- جريمة الزّنا ... 443
2- جريمة القذف ... 445
3- جريمة شرب الخمر ... 445
4- جريمة السرقة ... 446
5- جريمة الحرابة ... 447
6- جريمة البغي ... 447
7- جريمة الردّة ... 448
ب- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والديّة ... 450
1- القتل العمد ... 450
2- القتل شبه العمد ... 451
3- القتل الخطأ ... 452
4- الجناية فيما دون النفس ... 452
ج- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير ... 459
- عقوبات التعزير في الشريعة الإسلامية :
القتل – الجلد – الحبس – النفي – الهجر – الصلب - الغرامة
اتلاف المال- التغيير في عين المال- التهديد الصادق - الوعظ
الحرمان – التوبيخ – التشهير
القاعدة الثالثة : ... ليس لولي الأمر حق منح العفو العام أو الخاص إلا في جرائم التعازير ... 463
أ – العفو في جرائم الحدود ... 463
ب- العفو في جرائم القصاص والديّة ... 465
ج- العفو في جرائم التعزير ... 466
القاعدة الرابعة : ... التكافؤ والمساواة في تطبيق العقوبة ... 468
- التكافؤ بين الولاة والرعيّة
الموضوع
الصفحة
المبحث الثاني : خصائص العقوبة في الشريعة الإسلاميّة ومثاليتها ... 473
المطلب الأول : ... المقياس الذي تحدد به الجريمة ... 474
المطلب الثاني: ... حفظ مصالح الجماعة ... 475
المطلب الثالث: ... العقوبة رحمة ... 475
المطلب الرابع: ... العقوبات زواجر وجوابر ... 488
المطلب الخامس: ... تفاوت مراتب العقوبات تبعاً لتفاوات مراتب الجنايات ... 490
المطلب السادس: ... بطلان قياس الشريعة بالقانون الوضعي ... 494(1/1)
المبحث الثالث : القوانين الحديثة والعقوبات الجسدية ... 498
المطلب الأول : ... هل نجت العقوبات القانونيّة في محاربة الإجرام ... 499
- عقوبة الإعدام ... 501
- عقوبة الحبس ... 502
1- إرهاق خزانة الدولة ... 503
2- تعطيل الإنتاج ... 503
3- إفساد المجرمين ... 504
4- انعدام قوّة الردع ... 504
5- وقوع الضرر على الصحّة ... 504
6- قتل الشعور بالمسؤولية ... 504
المطلب الثاني : ... الإجرام في الغرب بالوثائق والأرقام ... 506
1- الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكيّة ... 507
2- الجريمة في فرنسا ... 508
3- الجريمة في الاتحاد السوفياتي (سابقاً) ... 509
المطلب الثالث : ... حركة الدفاع الاجتماعي ... 510
- جراما تيكا والدفاع الاجتماعي
- مارك أنسل والدفاع الاجتماعي
المطلب الرابع : ... المعاهدات والمؤتمرات الدوليّة لمكافحة الجريمة ... 515
1- مؤتمر ستوكهولم ... 516
2- مؤتمر بودابست ... 516
3- مؤتمر كيوتو باليابان ... 516
4- مؤتمر جنيف ... 516
5- مؤتمر بسيوني ... 517
المطلب الخامس: : ... الغرب عنوان الإجرام عبر التاريخ ... 518
المطلب السادس: ... استنتاجات حول مكافحة الجريمة في الغرب ... 530
ويشتمل على ثلاثة مباحث
1- المبحث الأول ... : قواعد رئيسة في نظام العقوبات.
2- المبحث الثاني ... : خصائص العقوبة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة
ومثاليتها.
3- المبحث الثالث ... : القوانين الحديثة والعقوبات الجسدية.
1- القاعدة الأولى ... : كل إنسان برئ حتى تثبت إدانته.
... ... ويتفرع عنها قاعدتان:
... ... ... أ- درء الحدود بالشبهات.
... ... ... ب- الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
2- القاعدة الثانية ... : لا جريمة ولا عقوبة بلا نص.
... ... ويتفرع عنها ثلاث قواعد:
... ... ... أ- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود.
... ... ... ب- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية.
... ... ... ج- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير.
3- القاعدة الثالثة ... : ليس لولي الأمر حق منح العفو العام أو الخاص إلا
في جرائم التعازير.
... ... ... - العفو في جرائم الحدود.
... ... ... - العفو في جرائم القصاص والديّة.(1/2)
... ... ... - العفو في جرائم التعزير.
4- القاعدة الرابعة ... : التكافؤ والمساواة في تطبيق العقوبة.
? القاعدة الأولى :
« كل إنسان برئ حتى تثبت إدانته »
... من الأصول المقررة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، أن الإنسان لا يسأل إلا عن فعله، ولا يتحمل إلا نتيجة عمله، قَالَ الله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (1) وقَالَ تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } (2).
... وهذا يقتضي خاصة في نطاق العقوبات التي تمس كيان الإنسان ووجوده التأكد من نسبة الفعل المحرم إلى الإنسان المتهم به بشكل قاطع لا يدع مجالاً للشكّ.
... ويظهر حرص الإسلام على هذه الناحية بوضوح من عنايته الشديدة بمسائل الإثبات على اختلاف أنواعها ووضعه القواعد الدقيقة التي تنظمها. وأجلى ما يبين هذا، شدّة الشَّرِيعَة في إثبات جرائم الحدود، فقد أحاطتها بسياج منيع من التثبت حتى لا تكون أداة للتنكيل بالخصوم المعارضين، فشددت في وسائل الإثبات.
... ومن القواعد الفقهية الكلية في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، قاعدة «الأصل براءة الذمّة»(3)وهي تؤكد حرص الإسلام على فكرة أن البراءة هي الأصل حتى تثبت الإدانة.
وتطبيقاً لهذه القاعدة المهمة، نجد في تشريع العقوبات الإسلامي قاعدتين مهمتين تتفرعان عنها، وهما (4):
... أ- درء الحدود بالشبهات.
... ب- الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
__________
(1) الأنعام/ 164.
(2) المدثر/ 38.
(3) لأن الذّمم خُلقت بريئة غير مشغولة بحق من الحقوق.
... انظر: الزرقاء، الشيخ أحمد بن الشيخ محمد شرح القواعد الفقهيّة ، ص(105).
(4) انظر حول ذلك: عودة، عبد القادر: التشريع الجنائي الإسلامي، (1/209).(1/3)
وهاتان القاعدتان أملاهما الحرص على تحقيق العَدالَة والخوف من الشطط في تطبيق النُّصُوص الجزائية الذي قد يؤدي إلى إلصاق تهمة هو برئ منها، كما تساعدان على إيجاد جو من الأمن والطمأنينة في نفس كل إنسان من أن تلصق به تهمة أو فعل لا يدَ له فيه.
... « ولا شكّ أن إقامة الحدّ بالتهم إضرار بمن لا يجوز الإضرار به وهو قبيح عقلاً وشرعاً، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشَّارِع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين، لأن مجرد الحدس والتهمة مظنة للخطأ والغلط وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف» (1).
أ- درء الحدود بالشبهات:
... وأصل هذه القاعدة ما ورد في السنّة من قوله - صلى الله عليه وسلم - :« ادرؤوا الحدود بالشبهات »(2).
« وهذا الحديث وإن كان موقوفاً، فله حكم المرفوع ولأن الحدّ عقوبة كاملة، فتستدعي جناية كاملة ووجود الشبهة ينفي تكامل الجناية »(3) .
__________
(1) الشَّوْكَاني: نيل الأوطار، (7/104).
(2) قَالَ صاحب كشف الخفاء: أخرجه ابن عدي ومسدد موقوفاً على ابن مسعود، أنه قَالَ : ادرؤوا الحدود عن عباد الله عزّ وجلّ. ورواه البَيْهَقِيّ عن عاصم بلفظ : «ادرؤوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم ». وقَالَ أنه أصحّ ما فيه.
(3) الزحيلي، وهبة: الفقه الإسلامي وأدلته، (6/30).(1/4)
... وعن أبي هريرة قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً »(1). وعن عائشة قَالَت : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً، فخلوا سبيله »(2) .
... فالحدّ، عقوبة من العقوبات التي توقع ضرراً في جسد الجاني وسمعته، ولا يحل استباحة أحد، أو إيلامه إلا بالحق، ولا يثبت هذا الحق إلاّ بالدليل الذي لا يتطرق إليه ارتياب، فإذا تطرق إليه الشكّ كان ذلك مانعاً من اليقين الذي تُبنى عليه الأحكام، ومن أجل هذا كانت التهم والشكوك لا عبرة لها ولا اعتداد بها لأنها مظنة الخطأ.
... قَالَ ابن المنذر(3): « أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الحدود تدرأ بالشبهات، فلو زنى بجارية له فيها شرك، وإن قلّ، أو لولده، لم يُحدّ، لقوله عليه السلام: « أنت ومالك لأبيك »(4)، وكذلك لو وطئ في نكاحٍ مختلف فيه أو مكره، أو سرق من مالٍ له فيه حق، أو لولده، وإن سفل من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه، بقدرِ حقه لم يُحدّ»(5)
__________
(1) أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة وهو حديث صَحِيْح ، (2/850) رقم 2545، ومصنف ابن أبي شيبة (5/511).
(2) المستدرك على الصَحِيْحين ، (4/426) ، وقَالَ هذا حديث صَحِيْح ولم يخرجاه. سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/238) ، (9/123)وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/84). مصنف ابن أبي شيبة (5/512) مصنف عبد الرزاق (10/166)، وعلل التِّرْمِذِي للقاضي ، (1/228).
(3) ابن المنذر، هو محمد بن إبراهيم، أحد الأئمة الأعلام، الشَّافِعِي ، نزيل مكة، توفي فيها سنة (319 هجرية). انظر: شَذَرات الذَّهَب ، (2/280)، وطبقات الشَّافِعِية، لابن هداية الله، ص(59).
(4) رواه ابن ماجة (2291) ، (2292). من حديث جابر، و أبو داود (3530). والحاكم بالمستدرك (4/384).
(5) المقدسي، بهاء الدين عبد الرحمن: العدّة شرح العمدة، ص(487).(1/5)
... وقد عرّف الفقهاء الشبهة بقولهم: « هي ما يشبه الثابت وليس بثابت » أو « هي وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته »(1).
ومن الأمثلة على الشبهة(2):
1. شبهة الملك في سرقة الملك المشترك، فمن سرق مالاً يشترك فيه مع آخر يدرأ عنه الحد، لأن السَّرِقَة هي أخذ مال الغير خفية ولأنه لم يأخذ مالاً خالصاً للغير وإنما أخذه متلبساً بماله.
2. شبهة الملك في سرقة الأب من ابنه، فالأب حين يأخذ خفية من مال ولده ينطبق عليه تعريف السَّرِقَة ويستحق عقوبة القطع، ولكن الحد يدرأ عن الأب لشبهة تملك مال الولد، وهذه الشبهة أساسها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « أنت ومالك لأبيك » وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا(3) على درء الحدود بالشبهات فهناك ما يراه البعض شبهة صالحة للدرء، بينما لا يراه البعض الآخر شبهة، ومن أمثلة ذلك:
نكاح الخامسة ، أو المتزوجة، أو المعتدة، أو المطلقة ثلاثاً، فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يدرأ الحد فيه ولو كان عالماً بالتحريم، لأن العقد في رأي الإمام أبي حنيفة شبهة، والشبهة تدرأ الحد.
__________
(1) ابن قُدامة ، المُغْني (8/182) الخطيب الشربيني: مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (4/145،146) الشيرازي : المهذب في فقه الامام الشَّافِعِي (2/268).
(2) انظر: عودة، عبد القادر: التشريع الجنائي الإسلامي، (1/209).
(3) انظر: الشرح الكبير (4/313)، الشرح الصغير (4/448)، الكاساني :بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/36)، ابن الهمام : فتح القدير شرح الهداية (4/141) ، الخطيب الشربيني : مغني المحتاج الى معرفة الفاظ المنهاج .
(4/144)، البهوتي : كشاف القناع (6/97) وما بعدها.(1/6)
وتطبيقاً لقاعدة درء الحدود بالشبهات، روي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنه قَالَ : « لئن أعطل الحدود في الشبهات خير من أن أقيمها في الشبهات »(1) وروى سعيد، قَالَ : « حدثنا هاشم أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطَّاب ليس لها زوج وقد حملت. فسألها عمر، فقَالَت : إني امرأة ثقيلة الرأس وقع عليّ رجل وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحدّ » .
وروى البراء بن صبرة عن عمر أنه أُتي بامرأة حامل فادعت أنها أكرهت، فقَالَ : « خلّ سبيلها، وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يقتل أحد إلاّ بإذنه ».
وروي عن علي وابن عَبَّاس أنهما قَالا: « إذا كان في الحدّ لعل وعسى فهو معطل » وروى الدَّارَقُطْنِيّ بإسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر أنهم قَالَوا: «إذا اشتبه عليك الحدّ فادرأ ما استطعت »(2) وبهذا استدل الجمهور من الحنابلة والشَّافِعِية والحَنَفِيَّة على أنّ المرأة إذا ظهر بها حمل ولا زوج لها لم يلزمها بذلك الحدّ »(3).
__________
(1) أبو يوسف: كتاب الخراج ، ص(513) والحديث في مصنف ابن أبي شيبة (5/511) رقم 28493.
(2) ابن قُدامة المقدسي : المُغْني مع الشرح الكبير (10/192-194).
(3) ابن قُدامة: المُغْني (10/192-194).(1/7)
فدرء الحدود بالشبهات مما يؤكد أن الأصل هو براءة المتهم وأن إدانته تحتاج إلى إثبات قوي لأنها خلاف الأصل، ولذلك تنهار التهمة لأدنى شبهة « ولذلك قرر الأصوليون قاعدة « البراءة الأصلية » إعمالاً لاستصحاب الحال، فالأصل بقاء ما كان حتى يثبت ما يغيره والأصل ما يغيره والأصل في الإنسان البراءة ومهما قيل في تأصيل « الاستصحاب» وما إذا كان مصدراً شرعياً أو مجرد حجة وأنه حجة دفع لا حجة إثبات كما قرر الأحناف لأنه حجة بقاء ما كان على ما كان ودفع ما يخالفه حتى يقوم دليل على المخالفة وأن الحجة في الحقيقة هي ما ثبت بها الحكم السابق لأن الاستصحاب هو استبقاء دلالة هذه الحجة على الحكم المستند إليها(1) فإن البراءة الأصلية تبقى قاعدة لها أهميتها سواء استندت إلى مصدر شرعي أو كانت مجرد حجة وسواء أكانت الحجة حجة إثبات أو لمجرد الدفع »(2).
__________
(1) خلاف، علم أصول الفقه ، ص(92-93).
(2) عثمان، د. محمد فتحي: من أصول الفِكْر السياسي، ص(272).(1/8)
هذا وإن درء الحدود بالشبهات قد يأتي نتيجة تحقيق القاضي لظروف المتهم الفردية، وقد يأتي نتيجة تحققه من وجود ظروف اضطرارية طارئة عامة، ذلك أن من الأصول الشَّرْعية أن الضرورات تبيح المحظورات(1)، وقد قَالَ تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (2) وقَالَ تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } (3) وقَالَ تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (4) وقاعدة الشَّرِيعَة في كلّ أحكامها أنها تتبع الوسع والاستطاعة على أن يكون تقدير ذلك بإخلاص وأمانة ومراقبة لله الذي لا تخفى عليه خافية، وقد قَالَ تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (5) وقَالَ تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (6) وقَالَ تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَاهَا } (7) وقد أعفى عمر بن الخطَّاب من الحد غلاماً عند قومٍ من مزينة أتهم بالسَّرِقَة تأسيساً على أن المعروف عن قومه أنهم يجيعون غلمانَهم، حتى إن أحدهم لو أكل ميتة لحلّت له وأغرم المزني ( وهو المجني عليه المسروق منه ) غرامة توجعه.
كما روى أن عمر اعتبر المجاعة في عام الرمادة شبهة تدرأ حدّ السَّرِقَة لوجه عام عن أي متهم باقتراف الجريمة.
__________
(1) انظر: الزرقاء، الشيخ أحمد بن الشيخ محمد: شرح القواعد الفقهية، القاعدة العشرون « المادة 21» ، ص(185).
(2) الأنعام / 119.
(3) البقرة / 173.
(4) المائدة / 3.
(5) البقرة / 286.
(6) التغابن / 16.
(7) الطلاق / 7.(1/9)
وهكذا يتضح تأكد الشَّرِيعَة لبراءة الإنسان التي هي الأصل، وتحديد الشروط والضوابط اللازمة للإدانة والعقوبة بالحدّ ولا مانع بالطبع من العقاب بالتعزير، إذا رأى القاضي وجود الشبهة التي تدرأ الحد. ...
ب- الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة:
... ومن القواعد المقررة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وأصل هذه القاعدة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
« ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة »(1).
... ومعنى هذه القاعدة: « أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أنّ الجاني ارتكب الجريمة، وأنّ النّص المحرم منطبق على الجريمة، فإذا كان ثمّة شكّ في أنّ الجاني ارتكب الجريمة أو في انطباق النّص المحرم على الفعل المنسوب للجاني وجب العفو عن الجاني، أي: الحكم ببراءته لأن براءة المجرم في حال الشكّ خير للجماعة وأدعى إلى تحقيق العَدالَة من عقاب البريء مع الشكّ »(2).
? القاعدة الثانية :
« لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص »
... إنّ الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة هي أساس الحكم على الجريمة والعقاب، وقد سبق الفقهاء المسلمون غيرهم إلى معرفة قاعدة « لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص »(3) من خلال تقريرهم للقاعدتين التاليتين:
1. « لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النّص ».
__________
(1) المستدرك للحاكم (4/426) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (9/123)، عن عائشة و (8/238) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/84) وهو حديث صَحِيْح ( الجامع الصغير 1/14).
(2) عودة، عبد القادر: التشريع الجنائي الإسلامي (1/217).
(3) انظر:
- ... الزحبلي، وهبة: الفقه الإسلامي وأدلته (4/288).
- ... عودة، عبد القادر: التشريع الجناني الإسلامي (1/115).
- ... حوى، سعيد: الإسلام، ص(569).(1/10)
أي أن أفعال المكلف المسؤول لا يمكن وصفها بأنها محرمة ما دام لم يرد نص بتحريمها، ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها.
2. « الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشَّرْعي».
فالأشياء والأفعال لا يجوز أن تعطى حكماً إلا إذا كان هناك دليل شرعي على هذا الحكم، إذ لا حكم للأشياء ولأفعال العقلاء قبل ورود الشَّرْع، قَالَ الله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (1) وقَالَ تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2) ولأن الحكم لا يمكن أن يثبت إلا بأحد اثنين، إما الشَّرْع وإما العقل، أما العقل فلا محل له هنا لأن القضية قضية إيجاب وتحريم، والعقل لا يمكن أن يوجب أو يحرم، وليس ذلك منوطاً به وإنما هو منوط بالشَّرْع، فتوقف الحكم على الشَّرْع(3).
وبما أنه لا شرع قبل ورود الشَّرْع، فتوقف الحكم على ورود الشَّرْع من الله، أي على مجيء الرسول بالنسبة للشريعة كلها، والدليل الشَّرْعي بالنسبة للمسألة المراد الاستدلال عليها. وعليه، فقبل بعثة الرسول لا يقَال إنّ حكم الأشياء حلال أو حرام لأنه لا حكم لها، وكذلك الأفعال، بل للإنسان أن يفعل ما يريد دون التقيد بحكم، ولا شي عليه عند الله حتى يبعث إليه رسولاً، وحينئذ يتقيد بأحكام الله التي بلغه إياها الرسول حسب ما بلغها له.
__________
(1) الإسراء / 15.
(2) النساء / 165.
(3) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة (3/12).(1/11)
... وأما بعد بعثة الرسول كما هي الحال مع سَيِّدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن رسالته عامة كل شيء ومبينة لكل شيء، قَالَ الله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (1) وقَالَ تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) ، فالشَّرِيعَة لم تهمل شيئاً من أفعلا العباد مهما كان، فهي إما تنصب دليلاً له بنص من القرآن والحديث، وإما أن تضع إمارة في القرآن والحديث تنبه المكلف على مقصدها فيه وعلى الباعث على تشريعه لأجل أن ينطبق على كلّ ما فيه تلك الأمارة أو هذا الباعث، ولا يمكن شرعاً أن يوجد فعل للعبد ليس له دليل أو أمارة تدل على حكمه. لعموم قوله تعالى: { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (3) وللنص الصريح بأن الله قد أكمل هذه الدين(4).
... هذا بالنسبة للأفعال، أما بالنسبة للأشياء وهي متعلقات الأفعال فإن الأصل فيها الإباحة ما لم يرد دليل التحريم، فالأصل في الشيء أن يكون مباحاً ولا يحرم إلا إذا ورد دليل شرعي على تحريمه وذلك لأن النُّصُوص الشَّرْعية قد أباحت جميع الأشياء وجاءت هذه النُّصُوص عامة تشمل كل شيء، قَالَ تعالى: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } (5) « فإنه تعالى جعل الأصل الإباحة، والتحريم مستثنى »(6).
__________
(1) النحل / 89.
(2) المائدة / 3.
(3) النحل / 89.
(4) انظر: الآمدي. الأحكام في أصول الأحكام، ص(84-85). وهرموش : غاية المأمول ، (86-87).
(5) الأنعام / 145.
(6) النَّبَهاني، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسلامية ، (3/19-20).(1/12)
... وهكذا جميع الأشياء التي جاءت في إباحة الأشياء جاءت عامة فعمومها دلّ على إباحة جميع الأشياء، فتكون جميع الأشياء جاءت بخطاب الشَّارِع العام، فإذا حرم شيء فلا بدّ من نصّ مخصص لهذا العموم يدل على استثناء هذا الشيء من عموم الإباحة كقوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } (1) ، وقول - صلى الله عليه وسلم - : « حرّمت الخمرة لعينها »(2) فيكون ما نصّ عليه الشَّرْع من تحريم أشياء هو مستثنى من عموم النص فهو على خلاف الأصل.
... ومن هنا يتقرر أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم والأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشَّرْعي. والأشياء لا توصف إلا بالحل أو الحرمة، بخلاف الأفعال، فإن خطاب الشَّارِع المتعلق بها جعلها قسمين أحدهما خطاب التكليف والآخر خطاب الوضع.
... وعليه، فإنه لا يمكن في إطار العقوبات اعتبار فعل أوترك جريمة بنص صريح يحرم الفعل أو الترك وإذا لم يرد نص يحرم الفعل أو الترك، فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك، فلا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد إنذار، وإنّ الله لا يأخذ الناس بعقاب إلا بعد أن يبين لهم وينذرهم على لسان رسله وأنه ما كان إلا ليكلف نفساً إلا بما تطيقه.
__________
(1) المائدة / 3.
(2) المعجم الأوسط للطبراني (3/375)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (10/213)، والدراية في تخريج أحاديث الهدايّة، (2/251)، ونصب الرَأْية ، (4/299).(1/13)
... وبهذا التقرير لهذه القاعدة يتبين ما تمتاز به الشَّرِيعَة الربانية على القوانين الوضعية التي لم تتعرف لهذه القاعدة إلا في أعقاب القرن الثامن عشر الميلادي حيث أدخلت في التشريع الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقررت لأول مرّة في إعلان حقوق الإنسان الصادر في سنة 1789م، ثمّ انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى غيره من التشريعات الوضعية(1).
... وإذا كانت الشَّرِيعَة تقضي بتطبيق القاعدة على كلّ الجرائم، فإنّ الشَّرِيعَة لا تطبق القاعدة على غرار واحد في كل الجرائم، بل إنّ كيفية التطبيق تختلف بحسب ما إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والديّة، أو جرائم التعازير وهذا يرجع إلى حرص الشَّرِيعَة على تحقيق الغاية من العقوبة، وإلى حماية المجتمع بشكل لا يدع مجالاً للعابثين ولمعتادي الإجرام أن يعيثوا في المجتمع الفساد.
أ- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود: ...
... ففي جرائم الحدود ونظراً لما لهذه الجرائم من أهميّة خاصة، وأثر كبير في المجتمع، ولما يترتب على إقامة الحدّ من نتائج، فإن الشَّرِيعَة طبقت قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» تطبيقاً دقيقاً. وهذا ظاهر بجلاء من تتبع النُّصُوص الشَّرْعية الواردة في هذه الجرائم وهي:
أولاً: جريمة الزِّنَا:
__________
(1) عودة، عبد القادر: التشريع الجناني الإسلامي (1/118).(1/14)
... فالناظر في الأدلة الشَّرْعية يجد أن عقوبة الزِّنَا جلد غير المحصن مائة جلدة عملاً بكتاب الله تعالى حيث يقول عزّ وجلّ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (1) وتغريب عام عملاً بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روي عن أبي هريرة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - « قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحدّ عليه »(2) وعن عبادة بن الصامت(3) قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة »(4) وقد سار الصحابة على ذلك، فجلدوا غير المحصن وغربوه سنة.
__________
(1) النور / 2.
(2) صَحِيْح البُخَارِيّ (2/937) (6/2508) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/222) ومُسْنَد أحمد (2/453).
(3) هو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد، من الموصوفين بالورع، شهد العقبة، وكان أحد النقباء، وشهد المشاهد كلها، أول من وليّ القضاء، في فلسطين مات بالرملة أو بيت المقدس عام 34هـ.
... انظر: سَير أعلام النبلاء (2/5) وتهذيب التهذيب (5/11) والأعلام (3/258).
(4) صَحِيْح مسلم (3/1316) وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/273) وأبو داود في السُنَن (4/142).(1/15)
... إلا أنه ثبت عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه جلد ولم يغرب، فعن أبي داود(1) عن سهل بن سعد « أن رجلاً من بني بكر بن ليث أقرّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة، وكان بكراً، فجلده النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مائة وسأله البينة على المرأة إذ كذبته، فلم يأت بشيء فجلده النَّبِيّ حدّ الفرية ثمانين جلدة »(2) وجاء في حديث آخر عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : « إذا زنت أمة أحدكم فليجدلها »(3) ففيها ذكر الجلد دون التغريب.
__________
(1) أبو داود، هو سليمان بن الأشعث بن شدّاد، الإمام شيخ السنّة، الأزدي، السجستاني، ولد سنة (202 هجرية) ، وتوفي بالبصرة سنة (275 هجرية). انظر: سير أعلام النبلاء، (13/202-203)، البداية والنهاية، (11/54).
(2) المستدرك على الصَحِيْحين، (4/411)، عن عبد الله بن عَبَّاس ، وقَالَ هذا حديث صَحِيْح الإسناد ولم يخرجاه. والمنتقى لابن الجارود، (1/217). وسُنَن أبي داود (4/159)، وفتح الباري (12/141). وقَالَ الحافظ ابن حَجَرٍ : وقد سكت عليه أبو داود وصححه الحاكم واستنكره النسائي.
(3) مُسْنَد الطيالسي، (1/128-189-328) عن زيد بن خالد الجهمي.(1/16)
... ومن هنا اختلف الفقهاء في التغريب(1) ، فقَالَت الحَنَفِيَّة : « لا يضم التغريب إلى الجلد(2) وقَالَت الشَّافِعِية والحنابلة والمالكية بالتغريب(3) مع الجلد.
... وقَالَ الشَّوْكَاني: «والحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحَنَفِيَّة فيما ورد من السنّة زائداً عن القرآن، فليس لهم معذرة وقد عملوا بما هو دونها بمراحل »(4).
__________
(1) التغريب: هو إخراج الزاني عن موضع إقامته بحيث يعد غريباً. انظر: المالكي، عبد الرحمن: نظام العقوبات، ص(30).
(2) الكاساني: بدائع الصنائع (7/39) إلا أنه أضاف قائلاً «إلا إذا رأى الإمام المصلحة في الجمع بينهما فيجمع » ، والزيلعي: تبيين الحقائق (3/173،174).
(3) انظر: الشربيني: الإقناع (2/225،226) الشَّافِعِي : الأم (7/171) وابن قُدامة المقدسي، المُغْني مع الشرح الكبير (10/133)، الشيرازي : المهذب (2/184) الزرقاوي: على مختصر خليل البناني (8/82).
(4) الشَّوْكَاني: نيل الأوطار (7/89).(1/17)
... وأما دليل عقوبة المحصن فأحاديث كثيرة منها: عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما قَالا : أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ :« يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله، وقَالَ الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« قل » قَالَ : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني الرجم، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، الوليد والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وأغد يا أنيس-لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، قَالَ : فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت»(1).
... وعن الشَّعْبِي أن علياً رضي الله عنه حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقَالَ : « جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله »(2) وعن عبادة بن الصامت قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ... والثيب بالثيب جلد مائة والرجم »(3)
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ (6/2446)، (6/2504)، (6/2508)، ومسلم (3/1325)، والعسيف: هو الأجير المستهان به، ويُقَال: عسف لفلان إذا عمل له. (المعجم الوسيط ، ص(600).
(2) الطَّبراني: المعجم الأوسط ، (2/278)، أبو المحاسن، يوسف الحنفي: معتصر المختصر (2/129).
(3) صَحِيْح مسلم (3/1316) وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/273).(1/18)
... ونتيجة لهذا التعارض اختلف الفقهاء في عقوبة المحصن فقَالَ الظاهرية(1) : « إن عقوبة الجلد تجب مع الرجم للزاني المحصن » (2) وخالفهم بالاتفاق المذاهب الأربعة حيث ذهبوا إلى عدم الجمع بين الجلد والرجم(3).
ثانياً: جريمة القذف:
__________
(1) ينتسب المذهب الظاهري إلى اثنين من العلماء هما: داود بن علي الأَصْبَهَاني مؤسس المذهب، وعلي بن حَزْم الموضح لأدلته. ومن أبرز أصوله: 1- التمسك بظواهر الآيات والأحاديث 2- وعدم العمل بالقياس ما لم تكن العلّة منصوصة في المحل الأول ( المقيس عليه) ومقطوعاً بوجودها في المحل الثاني (المقيس) بحيث ينزل الحكم منزلة ( تحقيق المناط) 3- تحريم العمل بالاستحسان، 4- الاستدلال بإجماع الصحابة فقط، 5- عدم العمل بشرع من قبلنا، 6- عدم العمل بالرَأْي ، 7- تحريم التقليد على العامي والعالم وعلى كل مكلف يقدر على الاجتهاد. انظر: كتابيْ ابن حَزْم: النبذ وأصول الأحكام (1/17).
(2) ابن حَزْم: المحلى (11/236،237).
(3) الزحيلي، وهبة: الفقه الإسلامي وأدلته (6/40).(1/19)
... والقذف في اصطلاح الفقهاء: « نسبة من أحصن إلى الزِّنَا بصراحة أو بكناية»(1) ومن قذف زانية وأتى بشهداء فليس مجرماً. قَالَ الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (2).
... فهذا النّص يحرم القذف ويعاقب عليه بعقوبة أصلية هي الجلد وبعقوبة تبعية هي الحرمان من حق أداء الشَّهادَة وليس للقذف في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة غير هاتين العقوبتين.
ثالثاً: جريمة شرب الخمر:
... فقد حرمت الخمرة بآية المائدة في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (3).
__________
(1) الشيرازي: المهذّب (2/289) وانظر: ابن قُدامة : المُغْني (10/210). وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن الألفاظ الصريحة موجبة للحد واختلفوا في ألفاظ الكناية، فالشَّافِعِي ة والحَنَفِيَّة قَالوا : «لا حدّ في التعريض بالقذف إلا إذا علم أن مراده القذف» وأما المالكية والحنابلة فقَالوا: «يجب عليه الحد». انظر: الماوردي: الأحكام السلطانية ص(229) والشَّافِعِي :الأم (5/138-139)، بن أنس، مالك:الموطأ ص(596)، الفراء، الأحكام السلطانية ص(282) وله رأي ثان بأنه لا يجب عليه الحد.
(2) النور / 4.
(3) المائدة / 90-91.(1/20)
وأما العقوبة فيجب الحد على من شرب الخمر لما روى عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « من شرب الخمر فاجلدوه »(1) .
... وقد انعقد إجماع الصحابة على أن للشراب حدّاً وعلى جلد شارب الخمر وعلى أنه لا ينقص عن أربعين.
... والناظر في الأحاديث الواردة عن النَّبِيّ في موضوع جلد شارب الخمر أنها تدل على أنّ شارب الخمر يجلد أربعين، وأنه لا يجوز أن تزيد على أربعين. فقد ثبت عن أبي سعيد: « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بنعلين أربعين فلما كان زمن عمر جعل كل نعل سوطاً »(2) وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ: « أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة »(3) .
... فهذه الآثار صريحة في أن ما عليه الصحابة هو أنهم كانوا على هذين الحدين، فأما الأربعون فثباته بنص الحديث : « جلد النَّبِيّ أربعين » (4)، وأما الثمانون فباجتهاد الصحابة لما فهموه من جواز الزيادة على الأربعين ولأنهم رأوا أن أخف الحدود ثمانون أو لأن الشارب إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجعلوا عليه حد المفترى أي حد القذف ثمانون.
رابعاً: جريمة السَّرِقَة:
__________
(1) صَحِيْح ابن حِبِّان (10/295) والمستدرك للحاكم (4/413) وسُنَن التِّرْمِذِي(4/48) ومجمع الزوائد (6/277)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/313) ومُسْنَد أبي داود (4/164).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (5/503) وشرح معاني الآثار لأبي جعفر الطحاوي (3/157)، وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/310)، وسُنَن الترمذي، (4/47)، ومُسْنَد أحمد (3/32)، ومُسْنَد أبي يعلى (2/415)، وتحفة الأحوذي ، (4/597).
(3) المستدرك للحاكم (4/417) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/320) وموطأ مالك (2/842).
(4) سُنَن الدَّارِمِيّ (2/230) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/316) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/206) وسُنَن أبي داود (4/163).(1/21)
... حدّ السَّرِقَة هو قطع اليد لقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) ولما روى البُخَارِيّ عن عائشة قَالَت : « قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « تُقطع اليد في ربع دينار فصاعداً »(2) ولما روي عن النَّبِيّ أنه قَالَ: « إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه »(3).
ولما روي عن عائشة : « إن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع يد امرأة، قَالَت عائشة وكانت تأتي بعد ذلك فارفع حاجتها إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فتابت وحسنت توبتها »(4).
خامساً: جريمة الحرابة:
... يقول الله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } (5).
... فهذه الآية نزلت في قطّاع الطرق سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، لأنها عامة ولا يوجد ما يخصصها بالمسلمين.
__________
(1) المائدة / 38.
(2) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه عن عائشة أم المؤمنين، باب قول الله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، (6/2492) واللفظ له. وصَحِيْح مسلم، كتاب الحدود، باب حدّ السَّرِقَة، ونصابها، بلفظ « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع السارق في... »، وصَحِيْح ابن خُزَيْمَة (1/9)، وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/309)، وسُنَن التِّرْمِذِي(4/50)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/254)، وسُنَن أبي داود (4/136)، والسُنَن الكبرى (4/337).
(3) صَحِيْح البُخَارِيّ (3/1366) وصَحِيْح مسلم (3/1315).
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ (6/2493).
(5) المائدة/ 33.(1/22)
... وأما قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } (1) فإنها لا تدل على أنها خاصة بالمسلمين، لأن التوبة هنا هي التوبة عن قطع الطريق، وهي تكون في المسلمين وغير المسلمين، فهي عامة ويؤيد ذلك ما ورد من أن سبب نزول هذه الآية قصة العرينيين وكانوا ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الرعاة واستاقوا إبل الصدقة، فبعث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة حتى ماتوا، قَالَ أنس (2) : « فأنزل الله تعالى في ذلك: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ } » (3) .
سادساً: جريمة البغي:
يقول الله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (4).
فأهل البغي هم طائفة من الناس جمعت بين ثلاثة أمور هي:
1. التمرد على سلطة الدَّوْلَةالإسْلاميَّة بالامتناع عن أداء الحقوق وطاعة القوانين أو العمل على الإطاحة برئيس الدولة.
2. وجود قوة يتمتع بها البغاة تمكنهم من السيطرة.
__________
(1) المائدة/ 34.
(2) هو أنس بن مالك بن النضر ، صحب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أتم الصحبة، ولازمه أكمل ملازمة وخدمه إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، وغزا معه وبايع تحت الشجرة ، له (2286) حديثاً وهو من آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة 91هـ. انظر سير أعلام النبلاء (3/395) وتهذيب التهذيب (1/376). والأعلام (2/24).
(3) صَحِيْح البُخَارِيّ (6/2495) ومسلم (3/1296) وأبو داود في السُنَن (4/128).
(4) الحجرات/ 9.(1/23)
3. الخروج على الدَّوْلَةالإسْلاميَّة وشق عصا الطاعة على الدَّوْلَةمن خلال شهر السلاح في وجهها وإعلان الحرب عليها، على نحو ما يعبر به اليوم من عبارات مثل: الثورة المسلحة أو الحرب الأهلية أو القتال الداخلي أو استخدام العنف في سبيل تحقيق الأغراض السِّيَاسِيَّة التي حصلت الثورة من أجلها(1).
فهؤلاء البغاة مؤمنون بنص الآية السابقة إلا أنهم يُقاتلون بعد مراسلتهم ومحاولة الإصلاح ما بينهم وبين من خرجوا عن طاعته، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : « من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه »(2) ويقول - صلى الله عليه وسلم - : « ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً من كان»(3).
سابعاً: جريمة الرّدّة:
يقول الله تعالى: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (4) .
__________
(1) أبو زهرة الشيخ محمد: الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ، ص(160).
(2) صَحِيْح مسلم (3/1480) ومُسْنَد أبي عوانه (4/412)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/169). وانظر: مشكاة المصابيح (3678) وكنز العمال (14806) والمعجم الكبير للطبراني (17/145).
(3) صَحِيْح مسلم (3/1479) وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/438) ومُسْنَد أبي عوانه (4/411-412-413) ومجمع الزوائد (9/356).
(4) البقرة / 217.(1/24)
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة »(1) .
وروى البُخَارِيّ عن عكرمة قَالَ: أُتي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عَبَّاس، فقَالَ: « لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدّل دينه فاقتلوه »(2).
فهذه النُّصُوص تحرم الردّة وتعاقب عليها بالقتل.
... هذه هي جرائم الحدود، ليس فيها جريمة إلا نصّ على تحريمها ونصّ على عقوبتها والتي هي حق لله تعالى، فلا تقبل الإسقاط لا من الفرد المجني عليه ولا من الجماعة أو ولي الأمر. ومن هنا سميت هذه العقوبات بالعقوبات المقدرة حقاً لله تعالى، إشارة إلى أنها محدودة النوع والمقدار وأنها لازمة فلا يمكن المساس بها.
ب- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والديّة:
...
نهجت الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة ذات المنهج المتبع في جرائم الحدود على أنها حددت الجريمة وحددت العقوبة وطبقت قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والديّة.
__________
(1) رواه البُخَارِيّ في الديات باب قوله تعالى: { إن النفس بالنفس } (6/2521) ومسلم في القساقة باب ما يباح به دم المسلم (3/1302) وابن ماجة (2534) والتِّرْمِذِي(1402) وأبو داود (4352) وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/257).
(2) صَحِيْح البُخَارِيّ، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله (6/2537) والتِّرْمِذِي(1458) كتاب الحدود: باب في المرتد، وأبو داود (4351) كتاب الحدود باب الحكم في المرتد والنسائي (7/104) (7/105) كتاب تحريم الدم: باب الحكم في المرتد وابن ماجة (2535) كتاب الحدود: باب المرتد عن دينه، وأحمد (1/282) من حديث ابن عَبَّاس رضي الله عنه، والمنتقى لابن الجارود (1/214) مؤسسة الكتاب الثقافية.(1/25)
والجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص هي:
... القتل العمد، وكسر عظم السِّن، والجرح العمد في البدن.
أما الجرائم التي يعاقب عليها بالديّة فهي:
جرائم القصاص، إذا عفي عن القصاص أو امتنع القصاص لسبب شرعي ثم قتل شبه العمد، والقتل الخطأ وإتلاف الأعضاء ومنافعها والجرح غير العمد فيما جاء فيه نص. والشجاج في الرأس.
وفيما يلي البيان:
القتلُ العمد:
يقول الله { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } (1) ويقول: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (2) ويقول: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } (3) والقصاص المماثلة، أي قتل القاتل.
وروى البُخَارِيّ عن أبي هريرة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « من قُتل له قتيل فهو بخير النظيرين، أما أن يفتدي وأما أن يُقتل »(4) وعن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ عام الفتح: « من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين : إن أحبّ أخذ العَقْل وإنْ أحبّ فله القَوَد(5)»(6).
__________
(1) الإسراء/ 33.
(2) البقرة/ 178.
(3) البقرة/ 179.
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ (6/2522) ، ومسلم (2/988) وسُنَن التِّرْمِذِي(4/21) ومُسْنَد الشَّافِعِي (1/243-343) وسُنَن أبي داود (4/172).
(5) بخير النظرين: أي بخير الأمرين. والعقل: الدّيّة. والقَوَدْ: القصاص.
(6) قَالَ الألباني عنه: « صَحِيْح »، « صَحِيْح سُنَن أبي داود (3/853). وانظر أيضاً ارواء الغليل (7/276)، (7/279)
وهامش الرسالة للإمام الشَّافِعِي ، تحقيق محمد شاكر، الشيخ أحمد ، ص(453).(1/26)
وروى أبو داود عن أبي شريح الخزاعي قَالَ : « سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« من أصيب بدم أو خبل-والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث:إما أن يقتص أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه»(1).
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول »(2) وأخرج أبو داود عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : « من قتل عامداً فهو قود » (3) .
فهذه الأدلة صريحة الدلالة بأن حكم قاتل العمد القود، أي يُقتل القاتل، أو يأخذ الولي الديّة، أو يعفو.
القتلُ شبه العمد:
__________
(1) سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/52) وسُنَن الدَّارِمِيّ (2/247) وسُنَن أبي داود (4/169) والمنتقى لابن الجارود (195) وسُنَن ابن ماجة (2/876) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/96).
(2) سُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/94) ومصنف ابن أبي شيبة (5/436) رقم (27766).
(3) صَحِيْح ابن حِبِّان (14/506) وموارد الظمآن (1/203) ومجمع الزوائد (6/286) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/45) وسُنَن أبي داود (4/183).(1/27)
وحكمة فدية مغلظة وهي مائة من الإبل، وذلك لما روى أحمد وأبو داود عن عَمْرو بن شعيب(1) عن أبيه عن جده أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « قتل شبه العمد مُغلّظ مثل العمد ولا يُقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل السلاح»(2) وروى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« ألا أن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطون أولادها »(3). فهذه النُّصُوص تحرم القتل شبه العمد، وتعاقب عليه بالدّية.
القتلُ الخطأ:
بقول الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } (4).
__________
(1) عَمْرو بن شعيب، بن محمد بن عبد الله، بن عَمْرو بن العاص، الإمام المحدّث فقيه أهل الطائف، التابعيّ، توفيّ سنة (118 هجرية). انظر: سير أعلام النبلاء، (5/165)، شَذَرات الذَّهَب ، (1/155).
(2) سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/70) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/95) وسُنَن أبي داود (4/190) ومُسْنَد أحمد رقم (6699)، وقد حسّنه الألباني. انظر: الإرواء (6/117-118).
(3) سُنَن الدَّارِمِيّ (2/259) وموارد الظمآن (1/367) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/68) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/104) ومُسْنَد أحمد رقم (6517).
(4) النساء/ 92.(1/28)
وفي الآية دلالة على أن عقوبة القتل الخطأ هي الديّة والكفارة معاً.
الجناية فيما دون النفس:
... الجناية فيما دون النفس هي كلّ اعتداء على عضو من أعضاء جسم الإنسان أو على عظم من عظامه أو على رأسه بالشجّ أو على أي جزء من جسمه بالجرح والقطع والضرب مع بقاء النفس على قيد الحياة(1)، ويرى بعض الفقهاء أن قصاص ما دون النفس من الأعضاء هو مما ورد في القرآن الكريم من آية خاصة وآيات أخرى عامة.
... فالآية الخاصة هي قوله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } (2) فيجعل قصاص ما دون النفس من الأعضاء قاعدة « السن بالسنّ » فمن قلع عين أحد قلعت عينه وهكذا.
وأما الآيات العامة فهي قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (3) وقوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } (4) وقوله تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } (5) .
... هذا وقد نوقش الاستدلال بهذه النُّصُوص على مشروعية القصاص فيما دون النفس وحاصل مناقشة الاستدلال بالآية الخاصة أنها وردت في كتاب الله حديثاً عن التوراة وهو يقص علينا شرائع الأمم الثلاث.
__________
(1) انظر: الزحيلي، د. وهبة: الفقه الإسلامي وأدلته، (331).
(2) المائدة/ 45.
(3) البقرة/194.
(4) النحل/126.
(5) الشورى/40.(1/29)
... فهي قد نزلت في حق بني إسرائيل وهي حكاية عنهم وليست خطاباً لنا حيث بدأ القرآن بذكر التوراة وأنزلها بقوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } (1) إلى أن قَالَ: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ ... } (2) ثم قضى بالإنجيل وأنزله بقوله: { وَقَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءَاتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ... } (3).
ثم ذكر القرآن وأنزله بقوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ... } (4) ثم ذيل ذلك كله بقوله للجميع: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } (5)
... فمن هذا العرض، يتبين أن ما جاء عن القصاص فيما دون النفس، إنما هو تشريع لأهل التوراة « اتفق العلماء على أنه لم يلحقه في القرآن تقرير ولا نسخ وبذلك كانت من جزئيات المسألة الأصولية التي اختلف فيها العلماء وهي « شرع من قبلنا شرع لنا » وقد ذهب فيها الإمام الرَّازي والآمدي(6) وجمهور الشَّافِعِية والأشاعرة والمعتزلة إلى أنه ليس شرعاً لنا »(7) .
__________
(1) المائدة/44.
(2) المائدة/45.
(3) المائدة/46.
(4) المائدة/48.
(5) المائدة/48.
(6) أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم، الثعلبي الشيخ سيف الدين الآمدي ثم الدمشقي، أصولي، باحث، أصله من آمد ولد بها وتعلم في بغداد والشام وانتقل إلى القاهرة، له نحو عشرين مؤلفاً منها الأحكام في أصول الاحكام، توفي سنة 631هـ.
... انظر: الأعلام (1/332) والدارس في تاريخ المدارس للنعيمي (1/392).
(7) شلتوت، محمد: الإسلام عقيدة وشريعة، ص(383).(1/30)
... هذا وكثيراً ما نرى الحَنَفِيَّة يستدلون على قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد بقوله تعالى: { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فيرد عليهم أرباب المذاهب الأخرى كالشَّافِعِية وابن حَزْم(1) والشَّوْكَاني وغيرهم بأن الآية مما كتبه الله في التوراة ولا تلزمنا شرائع من قبلنا(2).
... وأما قوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (3)فإنها نزلت في معاملة المسلمين للكفار، لا في عقوبات ما دون النفس، بدلالة الآيات التي قبلها، والمتصلة بها فإنها نصّ في القتال. وأمّا قوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } (4) ، فإنّه مثل قوله تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } (5) فالمراد منه دفع الأذى عن النفس، ومقابلة الاعتداء بمثله فليس هو بيان عقوبة ما دون النفس، بل هو متعلق بدفع الأذى بدليل قوله تعالى بعدها: { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } (6).
... ومن ذلك يتبيّن أنه لا يوجد في القرآن ما يدل على عقوبة ما دون النفس، ولذلك كان الدليل هو السنّة ليس غير.
__________
(1) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْم، أبو محمد عالم الأندلس، ولد بقرطبة، كانت له ولأبيه وزارة تخلى عنها زهداً منها، كان له آراء انتقد من أجلها وكان قوي الحجة سليطاً على مخالفيه، له مؤلفات أشهرها: المحلى، توفي عام 456هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/184)، الأعلام (4/254). ...
(2) شلتوت، محمد: الإسلام عقيدة وشريعة، ص(384).
(3) البقرة/194.
(4) النحل/126.
(5) الشورى/40.
(6) الشورى/40.(1/31)
... أما ما ورد في السنّة في عقوبات ما دون النفس فإنّ المدقق فيه لا يرى أنّ هناك قصاصاً في عضو من أعضاء الجسم مطلقاً، ولا في عظم من عظامه سوى السن، وأمّا ما ورد عن الحسن عن سمرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه(1)»(2)، وما أخرج أبو داوود بأنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « من خصي عبده خصيناه »(3) فإنه خاص في عقوبة السَيِّد لعبده، وليس عاماً، ثمّ أن من تتبع الأحاديث في هذا المضمار يجد أنّه لم يصح حديث عن القصاص في أي عضو من أعضاء الجسم، وعليه فإنه لا قصاص في أعضاء الجسم مطلقاً، فلا تقلع عين من قلع عين غيره، ولا تقطع أُذن من قطع أُذن غيره، ولا تقطع شفة من قطع شفّة غيره، وإنّما العقوبة المقررة في ذلك هي الديّة فقط(4).
__________
(1) ويُقَال: جدَعه جدعاً قَطَعَ أنفه. (المعجم الوسيط ، ص(110).
(2) رُوي الحديث عن الحسن عن سُمرةَ ، قَالَ القرطبي: وهو حديث ضعيف واستدل بقول الله تعالى: { ومَنْ قَتَلَ مَظلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لوليّه سُلطاناً فلا يُسرف في القتل } والولي هنا السيّد. وحكى ابن كثير أنه رأي الجمهور إذا قتل العبد خطأ ولا يُقتل الحرّ بالعبد لأنّ العبد سلعة ، التفسير ، (1/210). والحديث رواه الدَّارِمِيّ في سُنَنه، (2/250) ، وقَالَ رواه الحسن ونسي الحديث وكان يقول (الحسن): لا يُقتل حرّ بعبد. ورواه البَيْهَقِيّ في السُنَن الكبرى، (8/35).
(3) رواه أبو داود في سُنَنه ، (4/176). والنسائي في السُنَن، (8/26).
(4) انظر حول ذلك: المالكي، عبد الرحمن: نظام العقوبات، ص(125-126).(1/32)
... فقد ورد في السنّة بيان ديّة كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، وذلك « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتاباً وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قَوَدٌ، إلا أن يُرضِيَ أولياءَ المقتول، وأن في النفس الديّة مائة من الإبل، وأن في الأنف إذا أوعب جَدْعُه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنَقِّلة خمسة عشر من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإنّ الرَّجُل يُقْتَلُ بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار »(1). وعلى ذلك فإنّ عقوبة الأعضاء هي الديّة أي الأرْش ليس غير.
... وقد قسّم الفقهاء الأعضاء التي تجب فيها الديّة إلى أنواع أربعة:
__________
(1) رواه النسائي في السُنَن الكبرى عن أبي بكر بن محمد بن بن عَمْرو بن حَزْم عن أبيه عن جده، كتاب القسامة، باب ذكر حديث عَمْرو بن حَزْم في القول واختلاف الناقلين له، (4/245)، ومُسْنَد الإمام أحمد (2/217) ، والمستدرك على الصَحِيْح ين (1/553) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (4/89)، وموارد الظمآن (1/203)، والتمهيد لابن عبد البَرِّ (17/340)، وتهذيب الكمال (11/422)، ونيل الأوطار (7/57)، وقَالَ الشَّوْكَاني: وقد صحح جماعة من أئمة الحديث منهم أحمد والحاكم و ابن حِبِّان والبَيْهَقِيّ .وقَالَ الحافظ بن حجر: « كتاب عَمْرو بن حَزْم أخرجه مالك في الموطأ ووصله أبو داود في المراسيل والنسائي من وجه آخر مطولاً وصححه ابن حِبِّان وأعلّه أبو داود والنسائي. انظر: فتح الباري (12/226)، والموطأ ، كتاب العقول، باب ذِكر العقول، رقم الحديث (1،2/849).(1/33)
الأول: نوع لا نظير له في البدن وهو: الأنف واللسان والذكر أو الحشفة والصلب إذا انقطع المني ومسلك البول ومسلك الغائط والجلد وشعر الرأس وشعر اللحية إذا لم ينبت.
الثاني: الأعضاء التي في البدن منها اثنان وهي اليدان والرجلان والعينان والأذنان والشفتان والحاجبان إذا ذهب شعرهما نهائياً ولم ينبت، والثديان والحلمتان والأنثيان والشفران والأليتان واللّحيان.
الثالث: الأعضاء التي منها في البدن أربعة: وهي أشفار العين إذا لم تنبت والأهداب إذا لم تنبت.
الرابع: ما في البدن منه عشرة وهو أصابع الدين وأصابع الرجلين.
ويمكن لنا أن نصنّف الأقسام الأربعة في قسمين:
الأول: الأعضاء التي في الرأس والوجه.
والثاني: الأعضاء التي في الجسم دون الرأس والوجه.(1/34)
... وبيان هذه العقوبات هو: أنّ مَنْ أتلف ما في الإنسان منه شيءٌ واحدٌ ففيه الديّة، وما فيه منه شيئان ففي كل واحد منهما نصف الديّة. فإنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتب في كتابه لأهل اليمن وفيه: «وإن في الأنف إذا أوعب جَدْعُهُ الديّة، وفي اللسان الديّة » وفيه: « وفي الذكر الديّة ». فهذه الأعضاء يوجد في الإنسان شيء واحد منها، وكتب الرسول في كتابه: « وفي الشفتين الديّة وفي البيضتين الديّة» وكتب فيه: « وفي العينين الديّة وفي الرجل الواحدة نصف الديّة » وهذه الأعضاء يوجد في الإنسان منها شيئان فكان الواحد نصف الديّة. والصلب جاء في القاموس في تفسيره ( والصلب بالضم وبالتحريك: عظم من لدن الكاهل إلى العَجْبِ ) (1)، ويريد بذلك أنه المتن أي الظهر، وقيل أنّ المراد بالصلب هنا هو ما في الجدول المنحدر من الدماغ لتفريق الرطوبة في الأعضاء لا نفس المتن، بدليل ما رواه ابن المنذر عن علي رضي الله عنه أنه قَالَ : « في الصلب الديّة إذا منع الجماع »(2)، ولكن نصوص الشَّرْع تفسر بالمعنى اللغوي، لا بأقوال الصحابة إلا أن يرد لها معنى شرعي في الكتاب والسنّة، وهنا لم يرد فيكون معنى الصلب هو ما جاء في اللغة(3).
__________
(1) الفيروزآبادي: القاموس المحيط ، باب الباء ، فصل الصاد. /13).
(2) ابن حَجَرٍ العسقلاني: تلخيص الحبير (4/36)، والشَّوْكَاني، نيل الأوطار (7/59).
(3) انظر: ... - الشَّوْكَاني: نيل الأوطار (7/59).
... - المالكي، عبد الرحمن : نظام العقوبات (133).(1/35)
وأما ما في الإنسان منه أربعة أشياء ففيها كلها الديّة، وفي كل واحد منها ربع الدية، وهذه الأشياء هي: أجفان العينين وأهدابها. وما فيه منه عشرة ففيها الدية وفي كل واحد منها عشرها، وهي أصابع اليدين وأصابع الرجلين، وما فيه منها ثلاثة أشياء ففيها الدية في الواحد ثلثها وهو المنخران والحاجز بينهما. وهكذا جميع أعضاء الجسم، لأن الأحاديث تدل على ذلك، ومن تتبع جميع ما جاء في دية الأعضاء.
... هذا بالنسبة لأعضاء الجسم، أمّا بالنسبة لعظام الجسم فهناك دليل من السنّة على أن عظم السن يجري فيه القصاص، فقد أخرج البُخَارِيّ عن أنس بن مالك « أنّ الرُّبَيِّع عمّته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فابوا، فاتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبوا إلاّ القصاص، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فقَالَ أنس بن مالك بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الرّبيّع، لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كتاب الله القصاص» ، فرضي القوم فعفوا ، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه »(1).
__________
(1) رواه مسلم في إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، (3/302)، ومُسْنَد أبي عوانه ، (4/96)و (4/97). والسُنَن الكبرى ، (4/222)، وسُنَن النَّسائي، (8/26).(1/36)
... وأمّا الجراح وهي التي في البدن عدا الرأس والوجه، فإنّ القصاص فيها ثابت بالسنّة، ففي صَحِيْح مسلم عن أنسٍ أنّ أخت الرّبيّع-أم حارثة-جرحت إنساناً فاختصموا إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « القصاص، القصاص »، قَالَت أمّ الرّبيّع: يا رسول الله أيقتصّ من فلانة؟ والله لا يُقتصّ منها. فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « سبحان الله يا أمّ الرّبيِّع، القصاص كتاب الله. » قَالَت : لا، والله لا يُقتصّ منها أبدا. فما زالت حتى قبلوا الديّة، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه »(1). فهذا الحديث يدلّ على أنّ الجراح فيها القصاص.
__________
(1) صَحِيْح مسلم، (3/1302)/ ومُسْنَد أبي عوانة ، (4/96)، والسُنَن الكبرى، (4/222).(1/37)
وعن جابرٍ: « أنّ رجلاً جُرح فأراد أن يستقيد، فنهى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح »(1) وهذا الحديث ممّا يدلّ أنّ القَوَدَ في الجراح وأنه يكون بعد البرء والشفاء، وبشرط أن يكون عمداً فإن كان في غير العمد ففيه الدية فيما جاء فيه نص بمقدار الدية، وفيه حكومة عدل فيما لم يأت به نص. والنص إنما جاء في الجائفة وحدها، عن أبي بكر محمد بن عَمْرو بن حَزْم عن أبيه عن جده أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً إلى أهل اليمن ومما جاء فيه: « وفي الجائفة ثلث الدية » والجائفة هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، قَالَ في القاموس: الجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف أو تنفذه، ثم فسرّ الجوف بالبطن، وبما أن النُّصُوص الشَّرِيعَة إنما يرجع في تفسيرها إلى المعنى اللغوي وحده إن لم يرد معنى شرعي في الكتاب والسنة، ولم يرد نص شرعي يفسر الجائفة فلم يبق إلا المعنى اللغوي، وعليه لا تكون الجائفة، إلا في الجوف أي البطن كما فسره القاموس، فكل جرح وصل إلى الجوف، أي داخل البطن ولو بمغرز إبرة فإنه يكون جائفة، وما عداه لا يقَال له جائفة، فالجرح الذي يصل إلى الداخل من ظهر أو صدر أو ثغرة نحر أو ورك أو غير ذلك لا يعتبر جائفة، ولا يطبق عليه حكمها، لأن الجائفة محصورة بشيء واحد هو ما يصل إلى الجوف من البطن ليس غير، وإن أجاف جائفتين بينهما حاجز فعليه ثلثا الدية.
__________
(1) سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (8/67)، ومجمع الزوائد، (6/296)، وسُنَن الدارقطني، (3/88)، ومصنّف ابن أبي شيبة، (5/438).(1/38)
... ومثل الجائفة فتق الصغيرة بالوطء، فمن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية، فقد روي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنه قضى في الأفضاء بثلث الدية، ولم يعرف عنه في الصحابة مخالف فكان إجماعاً. ومثل الزوجة المزنية فلو زنى بصغيرة فأفضاها لزمه ثلث الدية، ومهر مثلها، لأنه حصل بوطء غير مستحق، ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما أتلف به كسائر الجنايات.
وأمّا الشّجاج(1)، والتي هي في الرأس، فلا قَوَد فيها، أي لا يجري فيها القصاص، وذلك لأنها لا تدخل تحت أحاديث الجراح، لأنها ليست جراحاً، ولا يُطلق عليها اسم الجراح. ومعلومٌ عند العلماء أنّ الشجاج في الرأس، والجراح في البدن فلا تكون أحاديث الجراح دليل عليها ثمّ إنّه لم يرد نص يدلّ على القصاص في الشجاج، لا في الكتاب ولا في السنّة ، وإنّما ورد النّص في ديّة الجراح، ولذلك كانت عقوبة الشجاج هي الديّة الواردة في السنّة الشريفة.
__________
(1) الشجاج عند الحَنَفِيَّة إحدى عشرة شجة: الخارصة والدامعة والخارصة والدامية والباضعة والمتلاحمة والسِّمحاق والموضحة والهاشمة والمنقلة والآمّة والدامغة، أما المالكية والشَّافِعِية والحنابلة فيحذفون الثانية وهي الدامعة وبذلك يكون الشجاج عند الجمهور عشرة إلا أنهم يختلفون في تسمية بعضها فيما بينهم.
... انظر: ... - الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، (7/296).
... ... - الدر المختار (5/411). ... ... ... - تكملة فتح القدير ، (8/311).
... ... - الزيلعي: تبيين الحقائق، (6/132). ... ... - الدردير، الشرح الكبير (4/250).
... ... - القوانين الفقهية ، ص(350).
... ... - الخطيب، محمد الشربيني: مغني المحتاج (4/58). - الشيرازي: المهذب، (8/42).
... ... - البهوتي، منصور بن يونس: كشاف القناع (6/51).(1/39)
ومن الشِّجاج الموضَّحَة وهي الجرح الذي أبدت وضح العظم وهو بياضه، وجراح أخرى في الرأس والوجه ويقَال لها الهاشمة، وهي جرح يتجاوز الموضحة فيهشم العظم وسميت هاشمة لهشمها العظم، وجراح أخرى تكون في الرأس والوجه ويُقَال لها المُنَقِّلة بتشديد القاف وكسرها. وهي الجرح الذي يتجاوز الهاشمة فيكسر العظم ويزيلها عن مواضعها فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئم، وجراح أخرى تكون في الرأس والوجه ويقَال لها المأمومة، وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ أي إلى جلدته، فإذا وصلت الجراحة إليها سميت أمة و مأمومة. هذه الشجاج جاء النص بمقدار ديتها، ففي الموضحة خمس من الإبل، لما ورد في كتاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لعَمْرو بن حَزْم « وفي الموضِّحة خمس من الإبل ». وفي الهاشمة دية الموضحة، وحكومة عدل، لأنها موضحة وزيادة، ونظراً لأنه لم يرد نص بخصوصها بالذات أخذت دية الموضحة للنص، وجعلت حكومة على ما زاد، لأنه جرح لا عقل له معلوماً. وفي المُنقِّلة خمس عشرة من الإبل، لما رواه أبو بكر بن عَمْرو بن حَزْم عن أبيه عن جده عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: « وفي المنقِّلة خمس عشرة من الإبل » وفي المأمومة ثلث الدية لما ورد في كتاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لعَمْرو بن حَزْم: « وفي المأمومة ثلث الدية ». هذه هي الشجاج الخاصة بالرأس والوجه التي جاء النص بها، وما عداها من باقي الشجاج، أي من باقي جروح الرأس والوجه مما لم يأت به نص فإن فيه حكومة عدل.(1/40)
... هذه هي ديات ما دون النفس التي ورد تقديرها في نصوص الشَّرْع، وتقديرها إنما ورد للأعضاء والشجاج وبعض الجروح. أما تقدير دية الأعضاء فإنه قد ورد النص في بعضها، ولم يرد في بعض الآخر، ولكنه نص جاء لأعضاء الجسم، ومن تتبعه نجده قد جعل الدية كاملة في العضو الذي يوجد في الإنسان منه شيء واحد كاللسان، وجعلها نصفاً في العضو الذي في الإنسان منه شيئان كاليدين، وجعل في الإصبع عشر الدية في اليدين، وعشرها في الرجلين، فاستنبطنا من ذلك أي من هذا التتبع مقدار دية العضو سواء جاء النص به لذاته أو لم يأت. فتكون دية جميع الأعضاء قد ورد الدليل عليها.
... وأما تقدير دية الشجاج فإنه قد ورد النص في بعضها ولم يرد في البعض الآخر، وهو لم يأت لشجاج يكون سائر الشجاج مثلها كما هي الحال في دية الأعضاء، بل جاء لشجاج معينة سماها أو بيّنها، ولذلك لا يَصْدُق على كل شجاج، فما نصّ عليه من الشجاج كالمأمومة والجائفة وغيرهما فإن الدية تكون بحسب النص، وما لم يأت نص عليه لا يدخل تحت ما ورد فيه النص، لأنه لا يشمله، ولا يقاس على ما جاء فيه النص، لعدم وجود وجه للقياس، فلم يبق إلا أن تكون فيه حكومة عدل. وعلى هذا فإن كل شجاج لم يكن من الشجاج التي جاء فيها نص فإن فيه حكومة. وأما الجراح ففي الجائفة وفتق الصغيرة بالوطء ثلث الدية، وفيما عداهما من الجراح حكومة عدل.(1/41)
... والحكومة هي أن يًُقَوَّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يُقَوَّم وهي به قد برأت، فما نقصه من الجناية فله مثله من الدية. قَالَ ابن المنذر: « كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقَال : إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوماً كم قيمة هذا المجروح لو كان عبداً لم يجرح هذا الجرح، فإذا قيل مائة دينار، قيل وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه؟ قيل خمسة وتسعون، فالذي يجب على الجاني نصف عُشر الدية، وإن قَالوا تسعون فعُشر الدية، وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال، وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها »(1). ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئاً بعد البرء فلا شيء على الجاني لأن الحكومة لأجل النقص.
ج- لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير
... التعزير عقوبة جُعل للحاكم حقّ تقديرها ولكنه لم يجعل له أن يعاقبَ بما يشاء، فهناك عقوبات جاء النصّ صريحاً في النهي عن العقاب بها فلا يجوز أن يُعاقب بها كالحرق بالنار لما روى البخاري من حديث أبي هريرة : « وأنّ النارَ لا يُعذب بها إلاّ الله »(2) وعن عكرمة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « لا تُعذبوا بعذاب الله »(3) ويُلحق بها ما هو من جنسها ممّا فيه خاصيّة الاحراق كالكهرباء(4) ، ومن ثَمّ فإن نصوص الشرع من الكتاب والسنّة جاءت بعقوبات معيّنة محددة وجاء الأمر بإيقاع العقاب بها، وأمّا الحاكم فمجاله أن يجتهد في مقدار العقوبة المحددة من الشرع لا أن يجتهد في العقوبة ذاتها، وممّا حدده الشرع في عقوبات التعزير على سبيل الإجمال:
__________
(1) انظر: المالكي: نظام العقوبات، ص(149). ...
(2) رواه البخاري في صحيحه
(3) سبق تخريج الحديث ، ص ( ).
(4) انظر المالكي: عبد الرحمن ، نظام العقوبات ، ص(159).(1/42)
1. عقوبة القتل : والدّليل حديثُ العُرينيين(1) فواقعه أنّه خيانة وقتلٌ وارتداد وبالتالي فهو اخلالٌ بالأمن.
2. الجَلد: وهو الضرب بالسوط وما يُشبهه ولا يجوز أن يزيد عن عَشر ضربات لما روى البخاري عن عبد الرحمن بن جابر عمَّن سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « لا عقوبة فوق عَشر ضربات إلاّ في حدٍّ في حدود الله »(2).
3. الحبس : لما روي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلاً في تهمةٍ ساعةً ثمّ خلّى عنه(3). وقد حبس عمر الحُطيئة على الهجو(4). وحبسَ عثمان بن عفّان ضابئ بن الحارث(5) وهو من لصوص بني تميم.
__________
(1) سبق تخريج الحديث ، ص( ).
(2) رواه البخاري باب : كم التعزير والأدب، (6/2512).
(3) رواه الحاكم في المستدرك على الصَحِيْح ين، (1/214)، (4/114). وسُنَن التِّرْمِذِي(4/28)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (6/53)، (6/57)، وسُنَن النسائي (3/314)، والمنتقى لابن الجارود، (1/251).
(4) القرطبي: التفسير (12/173).
(5) ضابئ بن الحارث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن حادل بن قيس. جنى جناية في خلافة عثمان فحبسه، فجاء ابنه عُميرةَ فأراد الفتك بعثمان، ثمّ جَبُنَ عنه. انظر : الإصابة، (3/498).(1/43)
4. النفي: وهو التغريب أو الإبعاد. قَالَ تعالى : { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } (1) . وقد نفى عمر صبيغاً(2) للبصرةِ(3) ويكون النفيّ تغريباً لا توطيناً، فلا تصحُ أن تطول مدّته.
5. الهجر: وهو أن يأمر الحاكم الناس أن لا يكلموا الشخص مدّة معينة ودليله ما حصل مع الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو.
6. الصَّلب: ويكون مع عقوبة القتل، أمّا أن يكونَ الصَّلب عقوبة وحده، فلا يصح لأنه تعذيبٌ للإنسان فمن حكم عليه بالقتل جاز اشتراك عقوبة الصلب عليه.
7. الغرامة: وهي الحكم على المذنب بدفع مال عقوبةً على ذنبه لما روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ : « وكاتم الضالة عليه غرامتها ومثلها معها »(4).
8. اتلاف المال: وذلك باهلاك المال اهلاكاً تاماً بحيث لا يُنتفع به كما فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالأصنام المعلقة بالكعبة، فإنه أمر بها فحطّمت و اتلفت، وما فعله المسلمون حين نزلت آية تحريم الخمر، فقد أراقوا الجرار وكسروها(5).
9. التغيير في عين المال: وذلك إذا صار المال على شكل محرّم، فإنّه يُغيّر هذا المال على الشكل الذي تزول به الحُرمة كقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس التمثال فصار كالشجرة(6).
__________
(1) المائدة/ 33.
(2) صبيغ الزعفراني: ذكره الشَّافِعِي في بيان حكمه على أهل الكلام حيث قَالَ : « حُكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ الزعفراني أن يُضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويُطاف بهم في العشائر ويُنادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنة وأقبل على الكلام» سير أعلام النبلاء (10/29).
(3) القرطبي : التفسير ، (4/14)، والطَّبَري : التفسير ، (9/170). وابن كثير : التفسير ، (2/283).
(4) الشَّوْكَاني : نيل الأوطار ، (4/181).
(5) صَحِيْح البخاري، (6/2649).
(6) صَحِيْح ابن حِبِّان ، (13/165)، وموارد الظَّمآن (1/358)، وسُنَن التِّرْمِذِي(5/115).(1/44)
10. التهديد الصادق: وذلك أن يُهدّد المذنب بإقاع العقوبة، لما روي أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « رحم الله امرءاً علّق سوطه بحث يراه أهله »(1).
11. الوعظ: أن يعظ القاضي المذنب بتخويفه من عذاب الله تعالى، لقوله تعالى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2).
12. الحرمان: أن يُحكم على المذنب بالحرمان من بعض الحقوق الماليّة. كحرمان النفقة للناشز.
13. التوبيخ: وهو إهانة المذنب بالقول، لحديث أبي ذر لمّا عيّرَ رجلاً قَالَ له النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إنّك امرؤ فيك جاهليّة »(3).
14. التشهير: وهو إعلام الناس بجرم الجاني وتحذيرهم منه لقوله تعالى: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (4) . وما ورد من حديث ابن اللتبيَّة الذي كان يعمل على جمع الصدقة فقَالَ : « هذا لكم وهذا أُهديَ لي »(5) فعاتبه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - على رؤوس الأشهاد.
? القاعدة الثالثة :
أ- ليس لولي الأمر حق منح العفو العام أو الخاص إلا في جرائم التعازير.
... العفو سبب من أسباب سقوط العقوبة، وهو إما أن يكون من المجني عليه أو وليه، وأما أن يكون من ولي الأمر، ولكن العفو ليس على أي حال سبباً عاماً لإسقاط العقوبة، وإنما هو سبب خاص يسقط العقوبة في بعض الجرائم دون البعض الآخر.
... والقاعدة التي تحكم العفو أنه لا أثر له في جرائم الحدود وأن له أثره فيما عدا ذلك على التفصيل الآتي:
العفو في جرائم الحدود:
__________
(1) القرطبي: التفسير ، (5/174).
(2) النساء/ 34.
(3) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهليّة ، (1/20) ، (5/2248) وصَحِيْح مسلم (3/1282-1283).
(4) النور / 2.
(5) سبق تخرج الحديث، ص( ).(1/45)
... إنّ إقامة الحدود الشَّرْعية واجب أساسي وفرض على الحاكم في كل زمان ومكان لتحقيق النفع الدائم وهو منع الجريمة وردع العصاة وصون الأمن ورعاية مقاصد الشَّرِيعَة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال.
... فإن كانت الجريمة من الحدود قد وقعت فلا كلام في عدم جواز العفو عنها ولا بوجه من الوجوه، فقد أخرج النسائي وابن ماجة(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « حد يعمل به في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً »(2).
... وروى أبو داود عن ابن عمر عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فهو مضاد لله في أمره » (3).
... وروى أبو داود عن صفوان بن أميّة قَالَ: « كنت نائماً في المسجد على خميصة لي، فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه فقلت : يا رسول الله أفي خميصة ثمنُ ثلاثين درهماً؟ أنا أهبها له، قَالَ : « فهلا كان قبل أن تأتيني به »(4).
__________
(1) ابن ماجة، هو محمد بن يزيد بن ماجة، الرِّبعي، الإمام الحافظ، القزويني، توفيّ سنة (373 هجرية) صاحب أحد الكتب الستة في الحديث. انظر: شَذَرات الذَّهَب ، (2/164)، وهدية العارفين، (2/18).
(2) السُنَن الكبرى للنسائي (4/335)، وسُنَن ابن ماجة ، باب: إقامة الحدود (2/848) وصَحِيْح الجامع الصغير للألباني رقم (3130)، وقَالَ عنه حسن، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى أنه حديث صَحِيْح وأيده المناوي في فتح القدير ( الجامع الصغير، (1/147)).
(3) المستدرك للحاكم (2/32) ومجمع الزوائد (4/201) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (6/82) وسُنَن أبي داود (3/305).
(4) رواه أبو داود في سُنَنه، (4/138)، المستدرك للحاكم (4/422) ، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/265) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/204) ومصنف عبد الرزاق ( 10/ 229) والمعجم الأوسط للطبراني (7/58) .(1/46)
وفي رواية لأحمد والنسائي « فقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »(1) وروى مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : « أن الزُّبَيْر بن العوام لقي رجلاً قد أخذ سارقاً وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزُّبَيْر ليرسله، فقَالَ: لا حتى أبلغ به السلطان، فقَالَ الزبير: إذا بَلَّغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفَّع(2).
... فهذه الأحاديث صريحة في الدلالة على عدم جواز العفو في الحدود مطلقاً لا للخليفة ولا لصاحب الحق بعد أن تصل القضية إلى الحاكم، وإنما يندب الستر على الجاني قبل الرفع إلى الحاكم تمكيناً له من إصلاح خطئه والندم على فعله والتوبة من معصيته وأدلة الأخذ بمبدأ الستر ما رواه مسلم والتِّرْمِذِي عن أبي هريرة قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة »(3) وحديث ابن عَبَّاس مرفوعاً عند ابن ماجة: «من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيه، كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته »(4) «وبناء عليه تكون الشَّهادَة على الذنب خلاف الأولى »(5).
... وعلى المسلم أن يستر نفسه بالتحدث عما صدر عنه إيثاراً للستر لا تهرباً من العقوبة، فقد أخرج الإمام مالك(6)
__________
(1) السُنَن الكبرى، (4/329)، ومُسْنَد أحمد ، (6/465).
(2) موطأ مالك (2/835) رقم (1525).
(3) صَحِيْح مسلم، (4/2074)، سُنَن التِّرْمِذِي(4/34) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (6/201) وسُنَن أبي داود (4/287) وغيرهم.
(4) صَحِيْح ابن حِبِّان (2/274) وسُنَن ابن ماجة (2/850).
(5) الزحيلي: العقوبات الشَّرْعية والأقضية والشهادات، ص(18).
(6) هو إمام دار الهجرة، أبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي الحميري، مولده بالمدينة عام 93هـ وهو من أئمة أهل السنّة والجماعة المعتبرين صنف الموطأ وتوفي بالمدينة سنة 179هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/48) وتهذيب التهذيب (10/5) والأعلام (5/176).(1/47)
في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله... من أصاب شيئاً من هذه القاذورة فليستتر يستره الله ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله »(1)
... وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم(2)، أما قبل ذلك فهي جائزة لما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم عن عبد الله بن عمر: « تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب »(3).
... وعليه، فليس للعفو أي أثر على الجرائم التي تجب فيها عقوبات الحدود، فالعقوبة في هذه الجرائم لازمة محتمة ويعبر الفقهاء عنها بأنها حق لله تعالى لأن ما كان حقاً لله امتنع العفو فيه أو إسقاطه.
العفو في جرائم القصاص والديّة:
... فإنّ الشَّرِيعَة قد أعطت للمجني عليه أو لوليه فقط من دون أولي الأمر حق العفو عن عقوبتي القصاص والديّة فقط دون غيرهما من العقوبات المقررة لهذه الجرائم، فللآدمي أن يعفو عن حقه في الجنايات قبل رفعها إلى القاضي وبعده لما روي عن أحمد عن أبي شريح الخزاعي، قَالَ : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « من أصيب بدم أو خَبَل-والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو »(4).فهو صريح بجواز العفو من قبل الآدمي عن حقه.
__________
(1) المستدرك للحاكم (4/425) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/326) وموطأ مالك (2/825).
(2) غاية المنتهى (3/312).
(3) المستدرك للحاكم (4/424)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/331)، وسُنَن الدارقطني(3/113) وسُنَن أبي داود (4/133)، والسُنَن الكبرى ، (4/330)، والمعجم الأوسط، 06/210)
(4) سبق تخريجه.(1/48)
... وروى ابن خُزَيْمَة عن أبي هريرة عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزّاً »(1) وروى التِّرْمِذِي عن أبي الدرداء(2) قَالَ: « سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، وحطّ عنه خطيئة»(3)
... وقد جاء العفو عن الجنايات في القرآن، قَالَ تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } (4).
... فهذه الأدلة تدل على أن للآدمي أن يعفو في حقه في الجنايات، وأما الدَّوْلَةفإنها إن عفا صاحب الحق سقطت العقوبة ولم يبقى لها مجال للعقوبة، فلا تكون قد عفت إنما الآدمي صاحب الحق من عفا وأما إن لم يعف الآدمي صاحب الحق فإنه لا يحل للدولة أن تعفو، فلا يصح للقاضي أن يعفو ولا الخليفة أن يعفو.
العفو في جرائم التعازير:
... فمن المتفق عليه بين الفقهاء أن لولي الأمر حقه العفو في جرائم التعازير، فله أن يخفف العقوبة وله أن يعفو وليس فرضاً عليه أن يوقع العقوبة والدليل على ذلك:
__________
(1) صَحِيْح ابن خُزَيْمَة (4/97)، والمعجم الأوسط، (2/374)، ومُسْنَد أحمد ، (2/235)، والمعجم الصغير، (1/102)، ومُسْنَد الشهاب ، (2/28-29)، ومجمع الزوائد (3/105).
(2) أبو الدرداء، هو عُويمر بن عامر الأنصاري، تأخر إسلامه قليلاً، كان فقيهاً حكيماً ، توفي سنة (32هجرية) في دمشق. انظر: الاستيعاب بهامش الإصابة، (4/59).
(3) سُنَن التِّرْمِذِي (4/14) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/55) ومُسْنَد أحمد (6/448).
(4) البقرة/178.(1/49)
... ما رواه أحمد عن معاذ بن جبل(1) رضي الله عنه قَالَ: « أتى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رجل فقَالَ: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة يعرفها فليس يأتي الرَّجُل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله هذه الآية: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } (2) فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : توضأ ثم صل »(3) فهذا رجل ارتكب حراماً وأقرّ أمام النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك لم يعاقبه وعفا عنه واكتفى منه في رواية بقوله: « توضأ وصل » وفي رواية أخرى قَالَ له: « أصليت معنا » قَالَ: نعم، فتلا عليه: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (4) »(5).
فهذا دليل على أن الحاكم إذا رفعت له قضية من قضايا التعزير فإنّ له أن يعفو عن المجرم.
__________
(1) هو معاذ بن جبل بن عمرة الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل كان أعلم الأمة بالحلال والحرام، أسلم وهو فتى، وشهد العقبة والمشاهد كلها وبعد غزوة تبوك بعثه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن معلماً ولما توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاد إلى المدينة واستخلفه عمر على الشام ومات بها عام 18هـ له 157 حديثاً. انظر: سير أعلام النبلاء (1/443) وتهذيب التهذيب (10/186) الأعلام (7/258).
(2) هود / 114.
(3) مُسْنَد الإمام أحمد رقم (21735) وصَحِيْح ابن حِبِّان بمعناه (5/17) (5/19-20) وصَحِيْح البُخَارِيّ بمعناه رقم (520) وصَحِيْح مسلم بمعناه عن عبد الله بن مسعود رقم (6950).
(4) هود / 114.
(5) مُسْنَد الإمام أحمد رقم (21735) وصَحِيْح ابن حِبِّان بمعناه (5/17) (5/19-20) وصَحِيْح البُخَارِيّ بمعناه رقم (520) وصَحِيْح مسلم بمعناه عن عبد الله بن مسعود رقم (6950).(1/50)
... وكذلك له أن يخفف عقوبتهم وأن يجعلها أدنى حد، فعن عائشة رضي الله عنها أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود »(1) ، وفي حديث آخر « فيما لم يكن حداً من حدود الله »(2) وأقَالَ عثرته: ساعده على النهوض من كبوته، يعنى إما بالعفو عنه وإما بالتخفيف عنه.
... وعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الأنصار كرشي وعيبتي(3) والناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم »(4).
... والتجاوز عن المسيء بالعفو عنه فإن التجاوز هو الصفح، وعلى ذلك فإن التعزير يجوز العفو فيه، ويجوز تخفيف العقوبة، غير أن ذلك إنما هو للخليفة.
? القاعدة الرابعة :
« التكافؤ والمساواة في تطبيق العقوبة »
... إن الدَّوْلَةالإسْلاميَّة لا تفرق بين من يعيشون تحت رايتها في تطبيق القوانين عليهم وشملهم بالأحكام الحقوقية والجزائية، فلا فرق فيها بين غني وفقير أو بين راع ورعية أو بين بر وفاجر على غير ما عليه الحكومات الأخرى التي تحتكم إلى القوانين الوضعية.
__________
(1) صَحِيْح ابن حِبِّان (1/296) ومجمع الزوائد (6/282) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/161) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/207) وسُنَن أبي داود (4/133) ورق (4375) بإسناد حسن وقَالَ سليم عيد الهلالي: وله طرق وشواهد يصح بها أو عبَ في تخريجها الألباني حفظه الله في الصَحِيْحة (638) وانظر الاعتصام للشاطبي (1/274).
(2) سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (8/161)، (8/267)، ومُسْنَد الشَّافِعِي ، (1/363)، وموطأ مالك، (2/343)،
(3) يُقَال: كرش الرجل بطانته وخاصته ( المعجم الوسيط ، ص(783). وعيبة الرجل : موضع سرّه.
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ (3/1383) وسُنَن التِّرْمِذِي(5/715) ومجمع الزوائد (10/36) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (6/371) والأحاديث المختارة لمحمد بن عبد الواحد المقدسي (4/266).(1/51)
... وتعود هذه الخصوصية في الدَّوْلَةالإسْلاميَّة إلى طبيعة الدين الإسلامي أساساً، فإن الإسلام يخالف المبادئ الوضعية بتركيزه الشديد على التسوية بين جميع أفراد البشر مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم الاجْتِمَاعِيَّة والسِّيَاسِيَّة وانتماءاتهم العشائرية إذ لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي وذلك قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (1).
وذلك ما أكده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : « الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى »(2) وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : « يا أيّها الناس إنّ عصبية الجَاهِليَّة وتعاظمها، بآبائها، فالناس رجلان: برٌّ تقي، كريمٌ على الله ، وفاجر شقي هيّن على الله ، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب، قَالَ الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } »(3) .
فالإسلام لا يرفع غنياً عن فقير ولا شريفاً عن زنيم لأن المال والشرف والنسب والجمال مثلاًُ أرزاق من عوارض الدنيا على البشر، فلا يقبل المنطق السليم التفضيل على أساسها خارج دائرة اختيار الإنسان، وإنما تحصل المفاضلة في دائرة اختياره من عمل ونيّة.
__________
(1) الحجرات / 13.
(2) مُسْنَد الشهاب للقضاعي (1/145) مؤسسة الرسالة والفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع شيرويه الهمذاني (4/301) رقم (6883).
(3) رواه التِّرْمِذِيفي سُنَنه واللفظ له، (5/389)، وروي بألفاظ مختلفة في سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (10/232)، وسُنَن أبي داود باب: التفاخر بالأحساب، (4/331)، ومُسْنَد أحمد (2/361).(1/52)
فالشَّرِيعَة الإسْلاميَّة تقرر التكافؤ بين الناس جميعاً في الحقوق والواجبات والمستويات، وهم كذلك كأسنان المشط الواحد لا تزيد سن عن سن ولا تنقص سن عن سن.
ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قِدح يعدل به، فمر بسواد بن غزية(1) حليف بني عدي بن النجار وهو مستنصل(2) (خارج) من الصّف فطعن في بطنه بالقدح(3) وقَالَ: « استو يا سواد » فقَالَ : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قَالَ: فأقدني-اقتص لي من نفسك- فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقَالَ له: «ما حملك على هذا يا سواد»، قَالَ : « يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بل أن يمسّ جلدي جلدك»(4).
__________
(1) سواد بن غزية الأنصاري من بني عدي بن النجار، المشهور أنه بتخفيف الواو وحكى السهبلي تشديدها، شهد بدراً وأمره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - على خيبر. انظر : ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة (2/95) ترجمة رقم (3582).
(2) مستنصل: أي خارج من نَصَلَ ، بمعنى خرج. انظر : ابن منظور : لسان العرب (11/662) مادة نصل، وابن الأثير في غريب الحديث (5/66).
(3) القدح (بكسر القاف وسكون الدال): السهم، لسان العرب (2/556).
(4) ابن هشام، السيرة النبوية (1/626). تحقيق مصطفى السقا وزملائه، وانظر: الحديث في سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (7/102) و(8/48).(1/53)
وقد جاء « أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقَالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلفوا بذلك أسامة(1) فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فينا فخطب فقَالَ: أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(2).
إلا أن ذلك التكافؤ وتلك التسوية تنعدم غالباً في القوانين الوضعية الحديثة ومن الأمثلة على ذلك:
1. التكافؤ بين الولاة والرعية (الرؤساء وأفراد الشعب).
ففي القوانين الوضعية يتم التمييز غالباً بين رئيس الدَّوْلَة الأعلى ملكاً كان أو رئيس جمهورية وبين أفراد الرعية، فبينما يخضع الأفراد للقانون فإن رئيس الدَّوْلَة لا يخضع له، بحجة أنه مصدر القانون وأنه السلطة العليا فلا يصح أن يخضع لسلطة أدنى منه وهو مصدرها: « فالقوانين الوضعية تأخذ بنظريات ثلاث في مسؤولية رؤساء الدول عما يرتكبون من جرائم، فالنظرية الأولى لا تجعل الرئيس مسؤولاً عن أي جريمة ارتكبها والنظرية الثانية تجعله مسؤولاً عن بعض الجرائم دون البعض الآخر والنظرية الثالثة تجعله مسؤولاً عن كل الجرائم التي يرتكبها »(3).
__________
(1) أسامة بن زيد بن حارثة، صحابي ولد بمكة ونشأ على الإسلام وكان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يحبه حباً جماً، وهاجر إلى المدينة وأمَّره النَّبِيّ قبل العشرين من عمره، وانتقل إلى دمشق في أيام معاوية ثم رجع إلى المدينة وبها توفي سنة 54 للهجرة. انظر: سَيِّد أعلام النبلاء (6/342)، تهذيب التهذيب (1/208)، الأعلام (1/291).
(2) صَحِيْح البُخَارِيّ (3/1282) ومسلم (5/114) ، ومُسْنَد أبي عوانه (4/118)، وسُنَن التِّرْمِذِي (4/37).
(3) عودة، عبد القادر: التشريع الجناتي الإسلامي (1/312).(1/54)
ومن ثمّ فإن القوانين الوضعية تعفي رؤساء الدول الأجنبية من أن يحاكموا على ما يرتكبونه من الجرائم في أي بلد آخر غير بلادهم وحجة شراع القوانين في هذا الإعفاء إن إجازة محاكمة رؤساء الدول وأفراد حاشيتهم لا تتفق مع ما يجب لهم من كرم الضيافة والتوقير والاحترام.
وأما في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، فالتسوية والتكافؤ بلا قيود ولا استثناءات، فلا فرق بين رئيس ومرؤوس، فالجميع يتحمل المسؤولية الجنائية، ومن أجل ذلك كان رؤساء الدَّوْلَةفي الإسلام أشخاصاً لا يمتازون على غيرهم وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد.(1/55)
قَالَ ابن قُدامة(1) :«ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والأخبار ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ولا نعلم لذلك خلافاً»(2) ويقول الشيخ شلتوت(3): « وهذه التسوية بين السلطان والرعية لا يراها الإسلام في حقوق العباد خاصة كالقصاص و الأموال، وإنما يراها في حقوق الله الخالصة أيضاً كحد الزِّنَا والسَّرِقَة »(4).
... ومن الأمثلة الدالة على التسوية والتكافؤ بين الراعي والرعية:
__________
(1) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قُدامة، المقدسي، الدمشقي، الحنبلي، موفق الدين أبو محمد، ولد سنة 541هـ ورحل في طلب العلم إلى بغداد وغيرها، وله تكاليف نافعة منها: المُغْني، وروضة الناظر، والكافي ، والمقنع، والعمدة في الفقه ، والتوابين والمتحابين توفي سنة (620 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (22/165) الأعلام (4/67) ذيل طبقات الحنابلة (2/133) شَذَرات الذَّهَب (2/88) وفيات الأعيان (1/433).
(2) ابن قُدامة، المُغْني (9/150).
(3) محمود شلتوت فقيه مفسر مصري ولد سنة 131هـ وتخرج بالأزهر وتنقل بالتدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة وكان داعية إصلاح يقول بفتح باب الاجتهاد وسعى إلى إصلاح الأزهر فعارضه بعض كبار الشيوخ، فطرد ثمّ أعيد إلى الأزهر فعين حتى صار شيخاً للأزهر . من كتبه: تفسير لم يتم وحكمة الشَّرِيعَة في استبدال النقد بالهدي وفقه السنة وحكمة الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة في تنظيم النسل محاضرة، توفي سنة 1383هـ. الأعلام (7/173).
(4) شلتوت، محمود: الإسلام شريعة وعقيدة، ص(313).(1/56)
... خرج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أثناء مرضه الأخير بين الفضل بن عَبَّاس وعلي حتى جلس على المنبر ثم قَالَ: « أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إليّ من أخذ مني حقاً إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس» ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقَالَته الأولى(1).
... وجاء خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعده فنسجوا على منواله، واهتدوا بهديه، فهذا أبو بكر الصديق(2) يصعد إلى المنبر بعد أن بويع بالخلافة فتكون أول كلمة يقولها توكيداً لمعنى التسوية والتكافؤ ونفياً لمعنى الامتياز، قَالَ : « أيها الناس إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني » ثم يعلن في آخر كلمته إن من حق الرعية أن تعزله، فيقول: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم »(3)
__________
(1) ابن الأثير: التاريخ (2/154).
وانظر الحديث، مجمع الزوائد ، (9/26)، ومصنّف عبد الرزّاق ، (9/469)، والمعجم الأوسط (3/104)، والمعجم الكبير، (18/280)، وميزان الاعتدال في نقل الرجال، (5/463)، ولسان الميزان، (4/468).
(2) هو الخليفة الراشد أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التميمي القرشي أول الخلفاء وأول من آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من الرجال، ولد بمكة، ونشأ سَيِّداً غنياً،ـ عالماً بأنساب العرب وسيرها، لقب بعالم قريش، له (142) حديثاً توفي عام 13 للهجرة. انظر: الإصابة لابن حَجَرٍ (6/155) الأعلام (4/12).
(3) ابن الأثير: التاريخ (2/160).(1/57)
... وهذا عمر بن الخطَّاب يولي الخلافة أكثر تمسكاً بهذه المعاني حتى أنه ليرى قتل الخليفة الظالم، خطب يوماً فقَالَ : « لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه، فقَالَ طلحة: وما عليك لو قلت وإن تعوّج عزلوه؟ فقَالَ : لا، القتل أنكل لمن بعده »(1).
... وأعطى أبو بكر الصديق رضي الله عنه القود من نفسه وأقاد للرعية من الولاة، وفعل عمر بن الخطَّاب مثل ذلك وتشدد فيه فأعطى القود من نفسه أكثر من مرة(2)، ولما قيل له في ذلك قَالَ: «رأيت رسول الله يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي»(3).
ومن تمسك عمر في هذا الباب أنه ضرب رجلاً، فقَالَ الرَّجُل : « إنما كنت أحد رجلين: رجل جهل فعلم، أو أخطأ فعفى عنه، فقَالَ له عمر: صدقت دونك فامتثل أي اقتص(4).
... وأخذ عمر الولاة بما أخذ به على نفسه فما ظلم والٍ رعيته إلا أقاد من الوالي للمظلوم، وأعلن على رؤوس الأشهاد رأيه هذا في موسم الحج حيث طلب من ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس:
«
__________
(1) ابن الأثير: التاريخ (3/30).
(2) ابن الجوزي، سيرة عمر بن الخطَّاب، ص(113-115).
(3) الشَّافِعِي : الأم (6/44).
(4) أبو يوسف: الخراج ، ص(65).(1/58)
أيها الناس، إني ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينه وسنة نبيكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، فوثب عَمْرو بن العاص فقَالَ : يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته إنك لتقصنه منه؟ فقَالَ : أي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه كيف لا أقصه منه وقد رأيت النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه »(1).
... وقد جرى العمل في الشَّرِيعَة على محاكمة الخلفاء والملوك والولاة أمام القضاء، فهذا علي بن أبي طالب في خلافته يفقد درعاً له ويجدها مع يهودي يدعي ملكيتها، فيرفع أمره إلى القاضي فيحكم لصالح اليهودي ضد الخليفة لأنه لا يملك دليلاً على ادعائه»(2).
... وبهذا الأصل العظيم الذي تنكمش أمام روعته جميع التشريعات البشرية، إذا ذكر العدل الإنساني أهدر الإسلام نظام الطبقات الذي كان أساس التشريع الروحاني والذي لا يزال الطغيان البشري يحتفظ ببعض آثاره إلى الآن، وجعل الجميع أمام الحق والواجب سواء.
وهذه المساواة هي ما يطلق عليها في الاصطلاح الحديث بالمساواة القانونية: « أن يخضع الجميع لحماية القانون، وأن تكون التكاليف التي يفرضها القانون على الناس متساوية»(3).
... وبمقتضى هذه المساواة يكون جميع الأفراد متساوين في نظر القضاء يحتكمون لمحاكم واحدة، وتطبيق عليهم قوانين واحدة.
«
__________
(1) ابن الأثير: التاريخ (3/208) وأبو يوسف الخراج ص(66) وابن قُدامة المُغْني (9/140).
(2) الكاندهلوي: حياة الصحابة، (2/234-235).
(3) بدوي، ثروت: النظم السِّيَاسِيَّة، ص(387).(1/59)
ومن الطبيعي أن المساواة أمام القضاء لا تعني عدم اختلاف العقوبة أو عدم تعدد المحاكم، إذ تختلف العقوبات على الجرائم المتماثلة بحسب ظروف الجريمة، كما تختلف المحاكم بحسب تخصصها، غير أنه يجب أن يراعى دائماً أن يعامل جميع الأفراد معاملة واحدة وتطبيق عليهم قوانين واحدة دون أن يكون هناك تمييز بين فئة من الناس وأخرى»(1).
...
...
ويشمل على ستة مطالب :
1- المطلب الأول ... : المقياس الذي تُحدد به الجريمة.
2- المطلب الثاني ... : حفظ مصالح الجماعة.
3- المطلب الثالث ... : العقوبة رحمة.
4- المطلب الرابع ... : العقوبات زواجر وجوابر .
5- المطلب الخامس ... : تفاوت مراتب العقوبات تبعاً لتفاوت مراتب الجنايات.
6- المطلب السادس ... : بطلان قياس الشَّرِيعَة بالقانون الوضعي.
... ... ...
... ... ...
... مما لا شكّ فيه أن الجريمة ليست أصلاً في فطرة الإنسان ولا هي مكتسبة يكتسبها الإنسان، كما أنها ليست مرضاً يصاب به الإنسان، وإنما هي مخالفة النِّظَام الذي ينظم أفعال الإنسان.
... فكل إنسان له غرائز وحاجات عضوية تتطلب الإشباع، وقد تتطلب الإشباع بما يخل بمصلحة الجماعة التي يعيش فيها، فكان لا بدّ من نظام يحافظ على الجماعة ويحافظ في الوقت نفسه على الأفراد باعتبارهم أجزاء في هذه الجماعة وهذا النِّظَام لا بدّ أن يتضمن تحديداً للجرائم التي يرتكبها الأفراد حين يخالفون النِّظَام وأن يضع عقوبة على كل جريمة، فكان لا بدّ من قياس دقيق تقاس به الجرائم لوضع العقوبات المناسبة لها. إذ المعلوم أن الجرائم تتفاوت من حيث فظاعتها، فالجريمة الأفظع تستحق العقوبة الأشد، وكلما كانت الجريمة أقل فظاعة كانت عقوبتها أخف.
... فلا بد من مقياس تقاس به الجرائم ليكون حجم العقوبة وكمية ألمها مناسبين لحجم الجريمة وكمية فظاعتها، فهل يملك الإنسان مثل هذا المقياس.
__________
(1) النبهان، محمد فاروق: نظام الحكم في الإسلام، ص(188).(1/60)
... ومن الأمور البديهية أن عقل الإنسان عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، فقد يرى إنسان أن هذه الجريمة أفظع من تلك وقد يرى غيره عكسه وواقع العقل كما سبق لنا بيانه أنه إحساس وواقع ودماغ ومعلومات سابقة، فالإحساس جزء جوهري من مقومات العقل، فإذا لم يحس الإنسان بالشيء لا يمكن لعقله أن يصدر حكماً عليه، لأن العقل مقيد حكمه على الأشياء بكونها محسوسة ومن المحال عليه إصدار حكم على غير المحسوسات وبما أن فظاعة الجريمة ليست من الأمور التي تقع عليها الحواس، فمن المحال على العقل أن يصدر في أيّة جريمة حكماً صَحِيْحاً.
... ولا يجوز أن يترك تحديد الجرائم والعقوبات لميول الإنسان الفطريّة لأن هذه الميول تصدر الحكم بالمدح على ما يوافقها وبالذم على ما يخالفها، وقد يكون ما يخالفها بما يمدح، كقتال الأعداء وقول الحق في حالات تحقق الأذى البليغ، وقد يكون ما يوافقها مما يذم كالزنا والرياء، فالميول والأهواء مقياس خاطئ قطعاً يجعل العقوبة حسب الهوى والشهوات لا حسب ما يجب أن تكون عليه، ويجعل الجريمة ما يخالف أهواء المشرع وليس ما واقعه أنه جريمة.
... وما دام العقل عاجزاً عن تحديد الجرائم والعقوبات وكذلك الميول الفطرية، فلذلك يستحيل على الإنسان أن يصدر أحكاماً صَحِيْحة في تحديد الجريمة وفي تقدير العقوبة.(1/61)
... وحين ننظر إلى الأنظمة الوضعية نجدها قد أخذت على عاتقها تحديد الجرائم، ومنحت نفسها حق وضع عقوبة لكل جريمة، فما هو المقياس الذي اتخذته هذه الأنظمة في قياس فظاعة الجريمة وفي تحديد حجم العقوبة؟ لنفترض مثلاً أن العقوبة على جريمة السَّرِقَة في بلد ما هي السجن لمدة خمس سنوات، فما هو المقياس الذي حددت به هذه العقوبة؟ أي لماذا حددت العقوبة بالسّجن ولم تحدد بغيره؟ ولماذا كانت خمس سنوات فقط، ولم تكن خمس سنوات ونصف؟ أو لماذا لا تكون أقل من خمس سنوات؟ فالذي يقوم بجريمة، إنما يستحق عقوبة بقدر جريمته، فإذا زادت العقوبة عن قدر الجريمة ولو يوماً واحداً يكون المعاقب مظلوماً، حُجزت حريته لمدة يوم كامل بدون ذنب، إذاً لا بدّ أن تكون العقوبة بقدر الجريمة ولا بد أن تقاس بمقياس دقيق حتى لا يظلم الناس، فما هو مقياس واضعي الأنظمة الوضعية؟
... إن البشر لا يملكون أي مقياس يقيسون به، وكل تشريعاتهم إنما هي من قبيل التقديرات الظّنية أو بالأحرى التقديرات الوهمية، لذلك نجد أن العقوبة على الجريمة نفسها تتغير في البلد الواحد ونجد أن المشرعين من الناس-على مر التاريخ-يستدركون ما أخطأوا في سَنِّهِ من القوانين، معالجين ما اعتراها من قصور تعديلاً أو تكميلاً ثم لا يلبثون أن يعيدوا النظر إليها، أو يؤولونها تأويلاً يُطابق الوقائع التي تُعرضُ لهم فقد تكون عقوبة جريمة السجن لمدة عشر سنوات ثم تصبح في البلد نفسه تسع سنوات وهذا يعني أن كل من سُجن لمدة عشرة سنوات قد سُجن سنة كاملة ظلماً وعدواناً لمجرد أن حضرات واضعي النِّظَام كانوا مخطئين في التقدير كما نجد أن الجريمة الواحدة تختلف عقوبتها من بلد لآخر، فمن هو المظلوم يا ترى؟ هل سكان هذا البلد أم سكان ذاك؟ لا شيء واضح ولاشيء قطعي، وكل من يتصدى للتشريع إنما يعرض مصائر النّاس لعبث ظنونه وتقديراته.(1/62)
... وهكذا نرى أن البشرية كلها تتخبط في التيه، فلا واضعو الأنظمة يستقرون على نظام ثابت ولا الناس مطمئنون لما شرع لهم، والسبب في ذلك راجع إلى كون فظاعة الجريمة وألم العقوبة مما لا يقعان تحت حس الإنسان وبالتالي لا يخضعان للبحث العقلي ولذلك تبقى مسألة النظر فيها مسألة نسبية تختلف من إنسان لآخر، فهذا يرى أن الزنا أفظع من السَّرِقَة، وذاك يرى الزنا أمراً لذيذاً وليس جريمة وهذا يعتبر قطع اليد أهون من السجن، وذاك يرى أن التغريب أصعب من الجلد، وآخر يرى عكسها... فما هو المخرج؟ وما هو الحل؟
... المخرج يكون في عقوبات ثابتة يضعها من يملك مقياساً غير معرض للخطأ يحدد الجريمة بعلم وليس بظن ويضع لها العقوبة المناسبة تماماً بعلم وهذا يتطلب علماً يختلف عن علم البشر، أي يجب أن يكون هذا المصدر غير محدود، يعلم ما يقع تحت الحس كما يعلم ما لا تدركه الحواس، وهذا لا يكون من البشر، بل لا بد أن يأتي من خالق البشر، فهو وحده الذي يعلم ما يصلحهم وما يغسل جرائمهم، وهو سبحانه جلّ عن أن يخطئ في التقدير أو يظلم في التشريع : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ - أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } (1).
__________
(1) التين / 7-8.(1/63)
... وقد نظّم الله إشباع غرائز الإنسان وحاجاته العُضْويَّة، حين نظّم أعمال الإنسان بالأحكام الشَّرْعية، فبين الشَّرْع الإسلامي الحكم في كل حادثة تحدث للإنسان، وشرع الحلال والحرام ولهذا ورد الشَّرْع بأوامرٍ ونواهٍ وكلّف الإنسان العمل بما أمره به واجتناب ما نهى عنه، فإذا خالف ذلك فقد فعل القبيح، أي فعل جريمة، فكان لا بد من عقوبة لهذه الجرائم، وقد بيّن الشَّرْع الإسلامي أن على هذه الجرائم عقوبات في الآخرة يعاقب بها الله سبحانه المجرم فيعذبه يوم القيامة، قَالَ الله تعالى: { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } (1) ومع أن الله أوعد المذنبين بالعذاب، إلا أن أمر المذنبين موكول إليه تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، قَالَ تعالى: { إنّ َاللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (2) وتوبتهم مقبولة لعموم الأدلة.
... كما أن عليها عقوبات في الدنيا يقوم بها الإمام أو نائبه، أي تقوم بها الدَّوْلَةالإسْلاميَّة بإقامة حدود الله وتنفيذ أحكام الجنايات والتعزير، وتنفيذ المخالفات وهذه العقوبة في الدنيا للمذنب على ذنب ارتكبه، تسقط عن المذنب عقوبة الآخرة.
... إن من يفكر في قوانين الإسلام يجد أن هذه القوانين كلها تتوخى تحقيق مصالح الناس، ذلك أن المصالح هي الغاية التي قصدها الشَّارِع من تشريع الشَّرِيعَة ككل كما دلّ عليها قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (3)، وقوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (4) وعليه، فإن مقاصد الشَّرِيعَة ككل هي حكمة الله من تشريعها، والغاية التي يهدف إليها من تشريعها.
__________
(1) الرحمن / 41.
(2) النساء / 48.
(3) الأنبياء / 107.
(4) الإسراء / 82.(1/64)
... وكما بيّن الله مقصده من تشريع الشَّرِيعَة ككل، فإنه بيّن مقصده من تشريع كثير من الأحكام كل حكم بعينه، فقد بيّن مقصده من تحريم الخمر حتى لا تحصل العداوة والبغضاء بين الناس كما قَالَ تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ } (1) إلا أن مقصده الذي بيّنه هنا إنما هو الغاية التي تنتج عن الحكم وليس الباعث على تشريعه، يعني أن حكمته تعالى من تشريع هذا الحكم هو أن ينتج عنه ما بينه، فالله يخبرنا بأن حكمته من تشريع هذا الحكم هو أن ينتج عنه كذا لمن يطبقه ومن ثمّ فإنه ليس معنى أن يبين الله حكمته من تشريع حكم ما، أي غايته هو أن هذه الغاية لا بد أن تتحقق، بل قد تتحقق وقد لا تتحقق، فإذا بيّن الله حكمته من تشريع حكم، فلا يعني أنه يجب أن يتحقق مقصد الله من الحكم، بل معناه أن مقصده من الحكم هو أن ينتج عنه كذا لا أنه يجب أن ينتج كذا، ولهذا قد تتحقق حكمة الله من الحكم وقد لا تتحقق، فمثلاً يقول الله تعالى عن الخمر :
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ } (2) وكثيرون من ندامى الخمر لم يوقع الشيطان بينهم العداوة والبغضاء. وعليه، فلا يصح أن يجعل مقصود الشَّارِع هذا باعثاً على الحكم، فلا يكون علة له بل هو بيان لحكمة الله من الحكم ولو جاز أن يكون مقصود الشَّارِع هذا في الخمر لكان إيقاع العداوة والبغضاء هو علّة تحريم الخمر، فإذا وجدت حرمت الخمر وإلا فلا.
... وعلى ذلك، فإن مقاصد الله من الأحكام التي بين غايته من تشريعها هي حكم الله من هذه الأحكام وليست عللاً لها.
__________
(1) المائدة / 91.
(2) المائدة / 91.(1/65)
... ومن ناحية أخرى ذكر الأصوليون أن الضرورات التي جاء الشَّرْع لتحقيقها والمحافظة عليها حسب الاستقراء هي: « حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال » فقد قَالَ الإمام الغَزَالي: «إن مقصود الشَّارِع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة »(1).
وقَالَ الشَّاطِبِي(2) : «
__________
(1) الغَزَالي: المستصفى (1/140).
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشَّاطِبِي من أهل غرناطة، أصولي، وفقيه، مجتهد، محارب للبدع له مصنف مبتكر هو الموافقات وله الاعتصام، توفي سنة 790هـ.
انظر: الفتح المبين (2/204) الأعلام(1/75).(1/66)
تكاليف الشَّرِيعَة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية، أما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا افتقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم... ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وقد قَالوا إنَّها مراعاة في كلّ ملّة. وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة لكنه لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة... وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق»(1).
__________
(1) الشَّاطِبِي: أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، الموافقات في أصول الشَّرِيعَة، (2/8-10).(1/67)
... وعليه، فإن من مقتضيات المصلحة عند الأصوليين حفظ الضروريات الخمسة: وحفظها يكون بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها، كما يكون بدرء الفساد الواقع عليها أو المتوقع فيها ولذلك شرع لحفظ الدين من حيث عدم طروء الفساد والاختلال عليه عقوبة المرتد ولحفظ النفس من العدم تحريم قتل النفس ولحفظ النسل والعرض من العدم تحريم الزِّنَا والقذف واللواط وإقرار العقوبة على كل منها ولحفظ العقل من العدم تحريم السكر والحد عليه ولحفظ المال من العدم تحريم السرقات وقطع الطرق وإقرار العقوبات عليهما والتضمينات زجراً للعدوان الواقع عليها أو المتوقع فيها.
... فمن هذا يتبين أن الله شرّع أحكاماً في العقوبات وغيرها تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده وبحفظه وحمايته، وقد استدل الأصوليون على هذا القصد بما قرنه الله تعالى ببعض هذه الأحكام من العلل التشريعية كقوله تعالى في إيجاب القصاص : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } (1) إلى غير ذلك من العلل التي تدل على قصد الشَّارِع حماية الدين والأنفس والأموال، وكل ما هو ضروري للناس.
أما الأمور الخارجية للناس فأرجعها الأصوليون إلى ما يرفع الحرج عنهم ويخفف عليهم أعباء التكليف، وقد شرع الإسلام في العقوبات وغيرها جملة أحكام المقصود بها رفع الحرج واليسر بالناس، فقد جعل الديّة على العاقلة تخفيفاً عن القاتل خطأ ودرْء الحدود بالشبهات وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل، وقد دلّ على ما قصده بهذه الأحكام من التخفيف ورفع الحرج بما قرنه ببعضها من العلل والحكم التشريعية كقوله تعالى: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } (2)وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (3)
وقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } (4).
__________
(1) البقرة/ 179.
(2) المائدة/ 6.
(3) البقرة/ 185.
(4) النساء/ 28.(1/68)
... وأما الأمور التحسينية للناس فأرجعها الأصوليون إلى كل ما يحمل حالهم ويجعلها على وفاق ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق، وقد شرع الإسلام في العقوبات وغيرها أحكاماً تقصد إلى هذا التحسين والتجميل وتعود الناس أحسن العادات وترشدهم إلى أحسن المناهج وأقومها، فقد منع التمثيل بالقتلى قصاصاً بين المسلمين أو في الحرب بين الأعداء وحرم قتل النساء والصبيان والرهبان غير المقاتلين في جهاد العدو. وقد دلّ سبحانه على قصده هذا التحسين والتجميل بالعلل والحكم التي قرنها ببعض أحكامه كقوله تعالى: { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } (1) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنما بعثت لأتم مكارم الأخلاق »(2) (3).
... ويضيف الأصوليون أن حكمة الشَّارِع قد اقتضت في حفظ هذه الأنواع الثلاثة على أتم وجه أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاماً تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد، ففي الضروريات لما شرع القصاص لحفظ النفوس شرع التماثل فيه ليؤدي الغرض منه من غير أن يثير العداوة والبغضاء لأن قتل القاتل بصورة أفظع مما فعل، قد يؤدي إلى سفك الدماء وإلى نقيض المقصود من القصاص ولما حرّم الزِّنَا لحفظ العرض حرّم الخلوة بالأجنبية سداً للذريعة، ولما حرّم الخمر حفظاً للعقل حرم القليل منه ولو لم يسكر وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجباً، وكل ما يؤدي إلى المحظور محظوراً...
__________
(1) المائدة/ 6.
(2) سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (10/191) وأورده الحاكم في المستدرك بلفظ لأتم صالح.. (2/670) ومجمع الزوائد (8/15) فلفظ لأتم صالح...
(3) انظر حول هذه المسألة: الزحيلي وهبة، الضرورة الشَّرْعية ص(52-53-54)، هرموش، غاية المأمول، ص(416-417-418-419).(1/69)
... وممّا قدمنا يتبين أن الضروريات عند الأصوليين أهم المقاصد وتليها الحاجات وتليها التحسينات وعلى هذا، فالأحكام الشَّرْعية التي شرّعت لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة، وتليها الأحكام التي شرّعت لتوفير الحاجيات ثم الأحكام التي شرّعت للتحسين والتجميل، فلا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري، وأما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها ولا يجوز الإخلال فيها، إلا إذا كانت مراعاة ضرورية تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه ولهذا أبيح شرب الخمر إذا أكره على شربها بإتلاف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها في ظمأ شديد.
... وعلى هذه القاعدة الأصولية وضع الأصوليون القواعد الشَّرْعية الخاصة بدفع الضرر: فعل الضرر يزال شرعاً والذي من فروعه تشريع العقوبات على الجرائم ومثل يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ومن فروعه قتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم، ومثله سائر العقوبات، وغير ذلك من القواعد الشَّرْعية الخاصة بدفع الضرر.
...
وقد ذكرت المجلة ثلاث(1) قواعد بشأن الضرر هي أصول بالنسبة لغيرها:
الأولى: للنهيّ عن إيقاعه وعلى جادة المثال قاعدة « لا ضرر ولا ضرار »(2).
الثانيّة: لوجوب إزالته إذا وقع، وعلى جادة المثال قاعدة « الضرر يُزال »(3).
الثالثة: لبيان أنّ إزالته إذا لم يمكن تماماً فبقدر ما يمكن، وعلى جادة المثال قاعدة « الضرر يُدفع بقدر الإمكان »(4).
... وما عداهنّ ممّا ذُكر بشأن الضرر كالقواعد التاليّة:
__________
(1) مجلة الأحكام العدليّة: أعدتها لجنة من كبار علماء الدَّوْلَة العثمانيّة، الأحناف عام 1286 هجرية ، ثمّ صدرت قانوناً مدنياً شرعياً عاماً في الخلافة العثمانيّة منذ عام 1293 هجرية.
انظر: القواعد الفقهيّة: الزرقا حسب ترتيبها.
(2) القاعدة (18) ، ص(165-177).
(3) القاعدة (19)، ص(179-183).
(4) القاعدة (30)، ص(207-208).(1/70)
الأصل براءة الذمّة(1)، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام(2)، والضرر الأشدّ يُزال بالضرر الأخف(3)، وإذا تعارضت مفسدتان روعيَ أعظمهما ضرراً(4)، ويُختار أهون الشّرين(5) ، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح(6)، والضرر يُدفع بقدر الإمكان(7) فليست أصولاً بل هي ما بين تقييد لغيرها كالأصل براءة الذمّة، أو تكميل لهذه الأصول الثلاثة(8).
... كذلك وضعت على أساس القاعدة الأصولية نفسها المبادئ الشَّرْعية الخاصة برفع الحرج مثل المشقة تجلب التيسير.
... يقول الشَّاطِبِي: « والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشَّرِيعَة أنها وُضعت لمصالح العباد، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (9) ... وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام ففي الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله في آية القصاص: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ } (10) وإذا دلّ الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشَّرِيعَة »(11).
__________
(1) القاعدة (7)، ص(105-115).
(2) القاعدة (25)، ص(197-198).
(3) القاعدة (26)، ص(129-200).
(4) القاعدة (27)، ص(201-202).
(5) القاعدة (28)، ص(203).
(6) القاعدة (29)، ص(205-206).
(7) القاعدة (30)، ص(207-208).
(8) انظر تفصيل ذلك في القرافي : الفروق ، (2/123)، والسيوطي: الأشباه والنظائر، ص(95)، والزّحيلي، محمد مصطفى، (أصول الفقه الإسلامي). والزّرقا، مصطفى أحمد: المدخل الفقهي العام إلى الحقوق المَدَنيَّة، (2/937).
(9) الأنبياء/ 107.
(10) البقرة/ 179.
(11) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام (1/161-162).(1/71)
... ويقول العز بن عبد السلام(1): « ومن تتبع مقاصد الشَّرْع في جلب المصالح، ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص فإن فهم نفس الشَّرْع يوجب ذلك»(2).
... هذه خلاصة ما يقوله بعض الأصوليين في كون الشَّرِيعَة جاءت لجلب مصلحة أو درء مفسدة وإنّ كل حكم شرعي معين لا بدّ فيه من دليل يدل على المصلحة حتى تعتبر ولذلك قَالوا إن نصب الوصف سبب وعلّة من الشارع، وأنّ دليله لا بدّ أن يكون شرعيّاً فهم يقولون بأن جلب المصالح ودرء المفاسد هما علّة الأحكام الشَّرْعية جملة، وهما علّة كل حكم شرعي بعينه بدليل قول الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (3).
__________
(1) هو الإمام عبد العزيز بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء، فقيه شافعي، ولد ونشأ في دمشق، زار بغداد، وعاد إلى دمشق، فتولى الخطابة والتدريس، كان قوياً في الحق، وله مواقف مع السلاطين مؤثرة ولي للسلطان صلاح الدين بن يوسف القضاء والخطابة في مصر ثمّ اعتزل ولزم بيته. له مؤلفات مشهورة منها: قواعد الأحكام، نوفي سنة 660.
انظر: السبكي: طبقات الشَّافِعِي ة (5/80) والأعلام (4/21).
(2) الشَّاطِبِي: الموافقات ، (2/8).
(3) الأنبياء/ 107.(1/72)
... ولكن إنّ كون الرسول رحمة لا يعني نصّاً أنه لجلب المصالح ودرء المفاسد وإنما يدل دلالة التزام على ذلك، إذ يلزم من كون الرسالة رحمة أن تكون رسالته لجلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد، فيكون معنى الآية أن الغاية من إرسال الرسول هو أن تكون رسالته رحمة للعباد ويلزم من كونها رحمة أن تكون لجلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، فإذن الغاية من الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة بوصفها كلا هو جلب المصالح ودرء المفاسد وليس جلب المصالح هو علّة الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة بوصفها كلا ولا هو الغاية من كل حكم بعينه من أحكام الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة هي جلب المصالح ودرء المفاسد ولا تدل على غير ذلك، وهذا يعني أن النتيجة التي تترتب على الشَّرِيعَة، هي جلب المصالح ودرء المفاسد وليس جلب المصالح ودرء المفاسد هو الباعث على تشريع الشَّرِيعَة فهما نتيجة الشَّرِيعَة التي يهدف إليها الشَّارِع من تشريعها وليس السبب الذي من أجله شرعت، وفرق بين النتيجة والسبب لأن النتيجة تحصل من جرّاء تطبيق الشَّرِيعَة فهي تترتب على تطبيق الشَّرِيعَة، أما السبب فإنه يحصل قبل تشريع الشَّرِيعَة ويصاحبها بعد وجودها ولا يترتب على تطبيقها، فالموضوع هناك غاية وهنا دافع، والدافع غير الغاية ولذلك، فإن كون الشَّرِيعَة بوصفها كلا كان الغاية من تشريعها جلب المصالح ودرء المفاسد لا يعني مطلقاً أنها الدافع لتشريعها والباعث عليه، ولذلك فهما ليسا علّة لتشريعها »(1).
... وبذلك يتقرر أن حصول حفظ النفس الإنسانية من أحكام القصاص، هو نتيجة لتطبيق هذه الأحكام وليست علّه لها، كما أن كون القصاص في القتل العمد العدوان يؤدي إلى صيانة النفس، وكون شرع الحد على شرب الخمر ينتج عنه حفظ العقل.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة (3/376).(1/73)
... وإذا علم هذا « فإن قواعد التحريم في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة تستهدف حماية مصالح المجتمع الإسلامي وبناء على ذلك، فإن العقوبات الشَّرْعية تكون مستهدفة في غايتها الأخيرة كفالة الحماية الشاملة لهذه المصالح »(1).
... والملاحظ أن الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة تتفق مع القوانين الوضعية في أنّ الغرض والغاية من تقرريها والنتيجة المرجوة من تطبيقها هو حفظ مصلحة الجماعة وصيانة نظامها وضمان بقائها إلا أنها تختلف عنها من وجهين:
الأول: ... اختلاف المصدر التشريعي للقوانين، فالشَّرِيعَة الإسْلاميَّة مصدرها هو الشَّارِع وحده، أما القوانين الوضعية فهم البشر ويترتب على كون الشَّرِيعَة من الله نتيجتان:
... الأولى: ثبات القواعد الشَّرْعية واستمرارها ولو تغير الحكام أو اختلفت أنظمة الحكم.
... الثانية: احترام القواعد الشَّرْعية احتراماً تاماً بحيث يستوي في هذا الفريق الحاكم والفريق المحكوم، لأن كليهما يعتقد أنها من عند الله وإنها واجبة الاحترام.
الثاني: ... تعتبر الشَّرِيعَة الأخلاق الفاضلة أولى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، بينما تهمل القوانين الوضعية المسائل الأخلاقية ولا تعني إلا إذا أصاب ضررها المباشر الأفراد أو الأمن العام، فلا تعاقب القوانين الوضعية مثلاً على الزِّنَا إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر وأكثر القوانين لا تعاقب شارب الخمر إلا في حالة السكر والإخلال بالأمن.
__________
(1) المجلة العربية للدفاع الاجتماعي، العدد 22، ص(28).(1/74)
إن العقوبات الإسْلاميَّة «وإن بدا في بعضها شدّة وصرامة، فهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تعذيباً للمجرم أو تنكيلاً به، إن الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة قد تميزت في جميع قواعدها بطابع الرحمة بالناس جميعاً ولكنها الرحمة الحازمة، الرحمة التي لا تتصف بالضعف، الرحمة التي تقوم على الحماية للمصلحة الحقيقية للمجرم والمجتمع، لا مجرد التخفيف عنه والرفق به: فهي رحمة تبتغي الخير الحقيقي الآجل، ولا تتوقف عند الخير العارض العاجل، قَالَ الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1).
وهذا الوصف من الله تعالى لرسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - يستلزم بالضرورة نفي صفات الانتقام والتعذيب والتنكيل من العقوبات الشَّرْعية، بل لقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالترفق بالمجرم أثناء تنفيذ العقوبة فيه، وعدم تجاوز القدر من الشدّة الذي وضعه الشَّارِع فيها. فقَالَ : « اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به»(2).
__________
(1) الأنبياء / 107.
(2) صَحِيْح مسلم، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (3/1458) واللفظ له. وصَحِيْح ابن حِبِّان (2/313). ومُسْنَد أبي عوانة ، (4/380) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (10/136)، السُنَن الكبرى (5/275)، والمعجم الأوسط، (1/115)، ومُسْنَد أحمد (6/62).(1/75)
فالعقوبات رحمة بالنسبة للمنحرف ذاته، وبالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه، أما بالنسبة للمجتمع فذلك ظاهر لما تجلبه له من شيوع الأمن والحماية للأموال والدماء... وبما تدفعه عنه من أذى العدوان والقلق والترويح، فإذا أرخص الإسلام دم قاتل فلكي يحقن ألوف الدماء ويحيط الجماعة كلّها بما يحفظ عليها حياتها وأمنها، زد على ذلك ما في إقامة الحدود من بركات تعم المجتمع بأسره، وقد قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً »(1) وفي رواية أربعين ليلة.
أما أنها رحمة بالمعتدي، فيتجلى ذلك في مغفرة الله ورحمته التي تحوطه بعد إقامة الحد عليه، فالحدود كفارات للآثام وجوابر لها، تغسل أثرها وتمحو ذنبها، وفي حديث عن ماعز: « لقد تاب توبة لو قسّمت بين أمّة لوسعتهم »(2) وعن الغامدية: « لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم »(3) . كما جاء في السنّة : « من أصاب في الدنيا ذنباً فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة »(4) وروى « أن السارق إذا تاب سبقت يده إلى الجنة وإن لم يتب سبقت يده إلى النار »(5) .
«
__________
(1) حديث سبق تخريجه، ص( ).
(2) صَحِيْح مسلم (3/1322)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (6/83)، وانظر التاج (3/25).
(3) صَحِيْح مسلم (3/1324)، وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/127)، وسُنَن التِّرْمِذِي (4/42)، وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/251)،
وانظر التاج (3/27).
(4) المستدرك للحاكم (1/48)، وسُنَن التِّرْمِذِي (5/16).
(5) ذكر ابن تَيْمِيَّة هذا الخبر في كتابه السِّيَاسِيَّة الشَّرْعية، ص(35).(1/76)
فالحد أشبه بجرعة من الدواء الكريه يشربها الإنسان ليحصل بعد ذلك على الراحة »(1) وفي الحديث: « من أصاب منكم حدّاً فجعلت له عقوبته فهو كفارته »(2).
يقول ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة: « بلغ من رحمة الله تعالى وجودِه أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة فرحمهم بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة»(3).
ويقول ابن تَيْمِيَّة: « إنما شرعت العقوبات رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخالق وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنبوهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض»(4).
وأما ما يُثار حول العقوبات من عجاجة غبار ممّن يصفها بالقسوة والشدّة وعدم مسايرتها لروح العصر الذي ارتقت فيه المدارك والطباع الإنسانية، كما يصفون فهؤلاء يجهلون فقه العقوبات وحكمتها كما لا يدركون أن الله أرأف بعباده وارحم وهو أخبر بما يصلح حياتهم ويذهب طباعهم.
فليس لمتشدق من هؤلاء القاصرين أن يتحدث عن قسوة الحدود وشدّة العقوبات لأنه ليس أبصر بمصلحة الخلق وأرحم بهم من خالقهم، ونقول لهؤلاء:
__________
(1) مجلة الفِكْر الإسلامي، د. جمعة علي الخولي عدد (1) سنة عشرة ، ص(47).
(2) سُنَن ابن ماجة باب الحد كفارة (2/868)، وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/253)، وموارد الظمآن (1/361)، ومُسْنَد أبي عوانه (4/154).
(3) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : إعلام الموقعين عن ربّ العالمين (2/83).
(4) ابن تَيْمِيَّة : الاختيارات العلمية في اختيارات ابن تَيْمِيَّة ، ص(171).(1/77)
أولاً: ... إنّ الذي قرر هذه العقوبات هو الله تعالى، فإن جحدوا فقد خرجوا من الإيمان، وعندها لا وجه أن يناقش في الفرع من كفر بالأصل، وإن أقرّوا بأن المشرع هو الله قلنا لهم أتؤمنون بحكمة الله في شرعه وعدله وحكمه؟ فإن جحدوا فقد كفروا وإن أقروا فقد خُصِموا، لأن هذه العقوبات من شرعه وحكمه، وقد أقروا بأن شرعه حكيم وحكمه عادل، فسقط الاعتراض من الأساس.
ثانياً: ... إنّ النظريات الحديثة في علم العقاب نتاج فكري بشري، والحدود والقصاص تشريع إلهي، فأي المشرِّعيْن أعلم؟
... إنّ الإسلام قبل أن يسن العقوبات الزاجرة للمخالفين، يعنى عناية فائقة بالقلب والنفس، فيربيهما على خشية الله تبارك وتعالى، ومراقبة أمره في السر والعلن، وهذه المراقبة وتلك الخشية تمنعان الفرد من ارتكاب المعاصي والمخالفات، ذلك لأن الإسلام يعتبر الدنيا دار ابتلاء وأن الآخرة دار جزاء وعليه فالمؤمن مجزي في الآخرة على عمله.
... هذا المنهج من التربية أتى أكله في منع الناس من اقتراف أي محظور، بتأثير قوي تعجز كل القوانين الوضعية عن مثله.
... وبعد أن يسلك الإسلام طريق التربية لوجدان الأفراد، يقوم بسد أي ذريعة لاقتراف المنكرات ولذلك كان العقاب شديداً.
... وقلّما تجد بعد هذه التدابير الناجحة مسلماً يقدم على جريمة توجب حداً أو قصاصاً، والتاريخ ينبئك بهذا فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى « أن عمر بن الخطَّاب قد ولّى القضاء في ولاية أبي بكر فقَالَ : لقد كان يأتي عليّ الشهر ما يختصم إليَّ فيه اثنان »(1)(2).
__________
(1) ابن مسعود، الواقدي: الطبقات الكبرى (3/184).
(2) الفرّاء، أبو يعلي: الأحكام السلطانية، ص(406-408).(1/78)
... وقد شرع الله العقاب لمنع الناس من ارتكاب المحظور وحملهم فعل المأمور حيث إن الأمر بفعل شيء والنهي عن فعل شيء لا يكفي في تنفيذه، فالعقاب هو الذي يحمل على التنفيذ ويجعل للأمر والنهي معنى مفهوماً ونتيجة حقيقية وهو الذي يزجر ويردع الناس عن المعاصي ويقضي على الفساد في الأرض.
... قَالَ الماوردي(1) : « والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع الجهالة حذراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً وما أمر به من فروضه متبوعاً فنكون المصلحة أعم والتكليف أتم »(2).
... وقَالَ ابن تَيْمِيَّة: « من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسَّرِقَة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الأحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاورة لما يستحقه الجاني من الردع(3).
__________
(1) هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، من أقضى القضاة في عصره ومن العلماء أصحاب التصنيف النافعة، ولد في البصرة عام 364 للهجرة وانتقل إلى بغداد وتوفي عام 450 للهجرة. انظر: سير أعلام النبلاء (18/64)، الأعلام (4/327).
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية، ص(275-276).
(3) ابن تَيْمِيَّة : السِّيَاسِيَّة الشَّرْعية ، ص(98).
وانظر: ... - العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام (1/163-165).
... - ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة: أعلام الموقعين (2/95-107) وما بعدها.(1/79)
... فهدف الشَّارِع الحكيم من العقوبة « أن يكون للعقوبة قوة المنع من الإقدام على الجريمة قبل وقوعها وإذا وقعت فلا بدّ أن يكون في العقوبة ما يردع عن العود ». وفي ذلك يقول ابن الهمام الحنفي عن العقوبات : « إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي أن العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل واتباعها بعده، يمنع العودة إليها، وقد ضمن الإسلام ذلك في نوع ما يعاقب به »(1) .
... وبذلك تكون العقوبات في الإسلام زواجر كما هي جوابر(2)، زواجر لأنها تزجر الناس عن ارتكاب الجرائم أي عن مخالفة الأحكام الشَّرْعية والدليل على كونها زواجر قول
الله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ } (3) أي في شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها لأنه إذا علم القاتل أنه يُقتل انكفّ عن صنعه فكان في ذلك حياة للنفوس ولأن الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قَتل قُتل فإنّه لا يُقدم على القتل، وهكذا جميع الزواجر.
__________
(1) ابن همام: فتح القدير (4/111-112).
(2) ذهب أكثر العلماء إلى أن العقوبات الشَّرْعية زواجر وجوابر معاً وخالف في ذلك الحَنَفِيَّة فقَالوا: إن الحدود والتعزيرات شرعت فقط زجراً لأرباب المعاصي ولا يحصل التخلص من أثر الذنب والعقاب الأخروي إلا بتوبة الجاني لقوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة/33] أي أن لهم عقوبتين دنيوية وأخروية إلا من تاب.
انظر: ... - ابن قُدامة: المُغْني مع الشرح الكبير (4/136). ... - غاية المنتهى (3/415).
... - الخطيب الشربيني: مغني المحتاج (3/359). ... - الزيلعي، تبيين الحقائق (3/163).
... - الزحيلي، وهبة: العقوبات الشَّرْعية والأقضية والشهادات (4/16).
(3) البقرة / 179.(1/80)
... إنّ المتأمل في فقه العقوبات يجد أن علاج النفس الإنسانية يتم بالحكمة الصائبة فلكل جرم حد معيّن ولكل مخالفة عقوبة خاصة دون غلو أو زيادة ودون مبالغة أو إفراط بحيث تلحظ أن الشَّارِع قد سار في هذه العقوبات على أدق المقاييس وأعدلها حيث وضعت الشَّرِيعَة هذه العقوبات على أساس محاربة الدوافع الخاصة بكل جريمة، فالدوافع التي تدعو إلى الجريمة تحارب بالدوافع التي تصرف عنها.
... فالجريمة التي تدفع إليها اللذة والشهوة تعاقب بعقوبة تتصف بالألم ولا يمكن أن يستمع الإنسان بنشوة اللذة إذا تذوق مس العذاب أو توقع أنه سيذوقه، ولذا يكون ما يبعده عن التفكير في اقتراف الجريمة، وبهذا تكون الجريمة قد حاربتها الشَّرِيعَة في النفس قبل أن تحاربها في الحسّ وعالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفع غيره، ويظهر هذا بوضوح تام في العقوبات المقررة لجرائم الحدود ولجرائم القصاص والديّة.(1/81)
... يقول الإمام ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : « لما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكّلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطُّرق كل متشعب، ولعظم الاختلاف، فكفاهم أرحم الراحمين مؤونة ذلك وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتّب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، وأنت تلحظ أن هناك تناسباً جيداً بين الجريمة وعقوبتها المقررة لها بحيث لو وضعت واحدة مكان أخرى أو لو عممّت عقاباً واحداً على جرائم متعددة لظهر لك على الفور الاختلال والاضطراب وعدم العدل في الأحكام.... فالشَّرْعية مثلاً عاقبت على السَّرِقَة بقطع اليد، ولكنها لم تعاقب على القذف بقطع اللسان ولم تعاقب الزِّنَا بالخصاء وعاقبت في القتل بالقصاص، ولكنها لم تعاقب في إتلاف المال بالقصاص وسبحان اللطيف الخبير »(1).
... ولهذا كانت العقوبة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة قائمة على واقعية عقدية تامة الضبط والأحكام لأنه مما لا شكّ فيه أن العقوبة التي تقوم على أساس العلم بالطبيعة البشرية وفهم نفسية المجرم هي العقوبة التي يكتب لها النجاح لأنها تحارب الإجرام في نفس الفرد وداخله قبل أن تحاربه في حسه وظاهره الأمر الذي يجعل الشخص يبتعد حتى عن مجرد التفكير في اقتراب المنكر.
... وعليه واجه الشَّارِع في تشريعه لهذه العقوبات العوامل النفسية التي تدعو إلى ارتكاب الجريمة بالعوامل النفسية التي تصرف عنها، ليصون لمريد الإجرام بدنه وكرامته، وليصون للآخرين حقوقهم، وينعم الجميع بالأمن في مجتمع لا تقع فيه الجريمة إلا لماماً(2).
__________
(1) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة: أعلام الموقعين (2/82-83).
(2) انظر حول ذلك: الصاوي، صلاح: تحكيم الشَّرِيعَة ودعاوى العَلْمانية(184-185).(1/82)
... فما الدافع الذي يدفع إلى ارتكاب جريمة الزِّنَا؟ أليس هو طلب المتعة وقضاء الأرب وقصد اللذة والاستمتاع؟ فماذا فعلت الشَّرِيعَة في عقوبتها؟ لقد قابلت ذلك بالعوامل النفسية التي تدفع عنها بما أوجبته من عقوبة غليظة تصيب بدنه كله كما عمت المتعة بدنه كلّه، وأي شيء يحقق الألم ويذيق مس العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟
... وشفيعه في هذه العقوبة الخفيفة تأخره في الزواج،أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشَّرِيعَة أن تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة وكيف يصل إليها وقد أباحت للزوج الطلاق وأحلّت له أن يتزوج بأكثر من امرأة ففتحت كل أبواب الحلال وأغلقت دونه باب الحرام، فكان عدلاً وقد انقطعت المحاذير التي تدعو إلى تخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح ولقد نصّ القرآن بقوله تعالى: { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } (1) ونصّ بقوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (2).
... وبالإضافة إلى العقوبة الحسية يأتي الأذى المعنوي الذي يغشى كيان المرتكب لجريمة الزِّنَا بما قررته الشَّرِيعَة من علنية العقوبة، فواجهت متعة الجسد التي يحرص الزِّنَاة على تحقيقها وتدفعهم إلى ارتكاب ما يرتكبون من الموبقات لأجلها إلى ألم عام يغشى الجسد كله وإلى أذى نفسي عام يغشى نفسه، ويملك عليه أقطارها ليرتدع مريد الزِّنَا على الجريمة فيسلم له جسده وتسلم له نفسه، وتسلم للآخرين أعراضهم وكرامتهم، وينعم الجميع بسلامة الأنفس والأعراض.
... والبواعث التي تدعو القاذف للافتراء والاختلاق كثيرة منها الحسد والمنافسة والانتقام ولكنها جميعها تنتهي إلى غرض واحد يرمي إليه كل قاذف هو إيلام المقذوف وتحقيره.
__________
(1) النور / 2.
(2) النور / 2.(1/83)
... وقد وضعت عقوبة القذف في الشَّرِيعَة على أساس هذا الغرض فالقاذف يرمي إلى إيلام المقذوف إيلاماً نفسياً، فكان جزاؤه الجلد ليؤلمه إيلاماً بدنياً وهذا أشدّ وقعاً على النفس والحس، والقاذف يرمي من وراء قذفه إلى تحقير المقذوف، وهذا التحقير فردي لأن مصدره فرد واحد هو القاذف فكان جزاؤه أن يحقر من الجماعة كلها، وأن يكون هذا التحقير العام بعض العقوبة التي تصيبه فتسقط عدالته ولا تقبل له شهادة أبداً ويوصم بأنه من الفاسقين.
... والدافع الذي يدفع شارب الخمر لشربها هو رغبته في أن ينسى آلامه النفسية ويهرب من آلام الحقائق إلى سعادة الأوهام التي تولدها نشوة الخمر ولكن عقوبة الجلد ترده إلى ما هرب منه وتضاعف له الألم إذ تجمع له بين ألم النفس وألم البدن.
... والدافع الذي يدفع إلى السَّرِقَة هو أن السارق يرغب في مزيد من الكسب ومزيد من الثراء ولكن بكسب غيره ليزيد من قدرته على الإنفاق وليكف نفسه عن عناء الكد وقد حاربت الشَّرِيعَة هذا الدافع بتقرير عقوبة القطع لأن قطع اليد أو الرِّجل يؤدي إلى نقص الكسب ونقص الثراء ويدعو إلى شدّة الكدح وكثرة العمل.(1/84)
... قَالَ القاضي عياض(1) رحمه الله: « صان الله الأموال بإيجاب القطع على السارق ولم يجعل ذلك في غير السَّرِقَة، كالاختلاس والانتهاب والغصب، لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السَّرِقَة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السَّرِقَة، فإنه تندر إقامة البينة عليها فعظم أمرها واشتدت عقوبتها ليكون أبلغ في الزجر عنها(2).
... وفي عقوبة الحرابة نجد الشَّرِيعَة قد وضعت العقوبة على أساس من العلم بطبيعة الإنسان البشرية، فالقاتل تدفعه إلى القتل غريزة تنازع البقاء بقتل غيره ليبقى هو، فإذا علم أنه حين يقتل غيره إنما يقتل نفسه أيضاً امتنع في الغالب عن القتل ، فالشَّرِيعَة بتقريرها عقوبة القتل دفعت العوامل النفسية الداعية للقتل بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي يمكن أن تمنع من ارتكاب الجريمة بحيث إذا فكر الإنسان في قتل غيره ذكر أنه سيعاقب على فعله بالقتل فكان في ذلك ما يصرفه غالباً عن الجريمة.
... وقل مثل ذلك عن القصاص وبقية الحدود، فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، وسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
...
__________
(1) هو عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي ولد سنة 476هـ وتوفي سنة 544 هـ. عالم المغرب ولي قضاء سبتة ثم قضاء غرناطة له مؤلفات شهيرة منها: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، وشرح صَحِيْح مسلم ، والإلمام وغيرها ، وفي أخباره كتب هو: « أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض » . انظر: أعلام النبلاء (20/212) والأعلام (5/99).
(2) النووي، شرح مسلم (11/180) وما بعدها. .(1/85)
إن بعض من يتحدثون عن أنظمة الإسلام في الحياة يجتهدون في أن يعقدوا الصلات والمشابهة بينه وبين أنواع النظم التي عرفها البشر قديماً وحديثاً قبل الإسلام وبعده، ولا ضَيْرَ في هذه المقارنة إذا كانت ممّا يُميِّر الخبيث من الطيب أما ما يعتقده البعض أنه يجد للإسلام سنداً قوياً حين يعقد الصلة بينه وبين نظام آخر من النظم العالمية القديمة أو الحديثة، فلا يسعنا إلاّ أن نقول: « إن هذه المحاولة ما هي إلا إحساس داخلي بالهزيمة أمام النظم البشرية التي صاغها البشر لأنفسهم في معزل عن الله. فما يعتز الإسلام بأن يكون بينه وبين هذه النظم مشابه ، وما يُضيره ألاّ تكون. فالإسلام يُقدّم للبشريّة نموذجاً من النِّظَام المتكامل لا تجد مثله في أي نظام عرفته الأرض من قبل الإسلام ومن بعده سواء والإسلام لا يحاول ولم يحاول أن يقلّد نظاماً من النظم أو أن يعقد بينه وبينها صلة أو مشابهة، بل اختار طريقهُ متفرداً فذّاً وقدم للإنسانية علاجاً كاملاً لمشكلاتها جميعاً»(1).
والحق أنّ « مقارنة الإسلام بغيره من القوانين الكافرة والأديان الباطلة، فتنة ترقّت إلى رؤوس أساتذة الجامعات، وتسرّبت منهم إلى طلابها، لإظهار فضل الشَّرِيعَة كما زعموا... فانظر مئات الرسائل الجامعيّة والكتب الحرّة بمقارناتها التي يظهر في العديد منها ضعف موقف الكاتب-لقصوره-من بيان ظهور حكم الإسلام في مسألة ما على الدين كلّه، وهذا من أعظم الأبواب التي يدخل منها الداخل على الإسلام والمسلمين، مع ما فيه من ترقيق الديانة وكسر حاجز النُّفرة من الكفر والكافرين والبغضاء لهم »(2).
__________
(1) قطب، سَيِّد : العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام ، ص(98). .
(2) أبو زيد، بكر بن عبد الله: التعالم وأثره على الفِكْر والكتّاب، ص(71-72).(1/86)
ولقد يحدث في تطوّر النّظم البشريّة والقوانين الوضعيّة أن تلتَقِيّبالإسلام تارة وأن تفترق عنه تارة ولكنه نظام مستقل متكامل لا علاقة له بتلك النظم لا حين تلتَقِيّمعه ولا حين تفترق عنه « فهذا الافتراق وذلك الالتقاء عرضيان وفي أجزاء متفرقة، ولا عبرة بالاتفاق أو الاختلاف في الجزئيات والعرضيات إنما المعول عليه هو النظرة الأَسَاسيَّة والتصور الخاص وللإسلام نظرته الأَسَاسيَّة وتصوره الخاص، وعنه تتفرع الجزئيات فتلتَقِيّأو تفترق عن جزئيات في النظم الأخرى ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف»(1).
وإذا ثبت أن الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة تختلف عن القوانين الوضعية اختلافات أساسية وتتميز عنها بمميزات جوهرية، فلا وجه لقياس الشَّرِيعَة بالقانون الوضعي لأن القاعدة تنص أن القياس يقتضي مساواة المقيس عليه، فإذا انعدمت المساواة فلا قياس أو كان القياس باطلاً.
ولما كان القائلون بعدم صلاحية الشَّرِيعَة للعصر الحاضر يبنون رأيهم على قياس الشَّرِيعَة بالقوانين الوضعية ولا مساواة بين الشَّرِيعَة وهذه القوانين فيكون قياسهم باطلاً وادعاؤهم بعدم صلاحية الشَّرِيعَة للعصر الحاضر ادعاء باطل لأنه بني على قياس باطل وما قام على الباطل فهو باطل.
نقول ذلك نتيجة اعتراضات توجه ممن ينتقدون الإسلام من خلال سؤال مؤداه كيف يصلح تشريع قد مضى على عمره أربعة عشرة قرناً لتلبية حاجات مجتمع متحضر راقٍ؟
«
__________
(1) قطب، سَيِّد : العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام ، ص(98). .(1/87)
وهذا اعتراض يدل على أن المدلين به على غير دراية بأقل فكرة عن التشريع الإسلامي فلعلهم قد سمعوا أنّ أحكام هذا القانون وقواعده الأَسَاسيَّة كانت قد ظهرت، واطلع عليها الناس أربعة عشر قرناً ثم فرضوا-بأنفسهم استنباطاً من ذلك- أن هذا القانون لا يزال منذ ذلك الحين موضوعاً في مكان دون أن يتحرك ساكنه، فبناء على ذلك ساورتهم الشبهة بأنه إن جاءت في هذا العصر دولة متحضرة راقية وعزمت على أن تتبنى هذا القانون، فأنى له أن يفي بحاجاتها الواسعة المتنوعة؟
وحقيقة الأمر أن هؤلاء لا يعرفون أن الأحكام والمبادئ التي نالتها الدنيا قبل أربعة عشر قرناً كانت قد أسست عليها منذ ذلك الحين نفسه دولة بدأ ارتقاؤها في كل ما عرض للناس من الحاجات والمرافق في مختلف أيامهم، ثم استظل بظل السلطة الإسْلاميَّة نصف العالم المتحضر تقريباً من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلنطي وما أقام المسلمون في مدة الاثني عشر قرناً المتتابعة الماضية دولة في الدنيا إلا وكانت إدارتها تجري على أحكام القانون الإسلامي ومبادئه وما زال نطاق هذا القانون يتسع بصفة متصلة في كل دور وفي كل قطر حسب حاجاته ومطالبه وحالاته وما توقف ارتقاؤه ليوم واحد حتى أوائل القرن التاسع عشر... فالحق إن الذين لا يعرفون القانون الإسلامي على هذا الوجه هم الذين يساورهم القلق وضروب من الشبهات والوساوس، عندما يسمعون المطالبة بتنفيذه في هذا الزمان، أما الذين يعرفونه ويعرفون ما فيه من الامكانات ولهم نظرة في تاريخه، فلا يشكون لطرفة عين في صلاحيته لتلبية حاجات البشر في كل زمان وفي كل مكان »(1).
إن القائلين بأن الشَّرِيعَة لا تصلح للعصر الحاضر وأنّ نظام العقوبات الإسلامي نظام لا يصلح للعصر الذَّهَبِيّ ويعبر عن قسوة ووحشية بزعمهم فريقان:
__________
(1) المَوْدودِي، أبو الأعلى ، القانون الإسلامي، ص(42،43،44) بتصرف.(1/88)
فريق لم يدرس الشَّرِيعَة ولا القانون، وفريق درس القانون دون الشَّرِيعَة، وكلا الفريقين ليس أهلاً للحكم على الشَّرِيعَة لأنه يجهل أحكامها جهلاً مطبقاً ومن جهل شيئاً لا يصلح للحكم عليه.
يقول بعض من هؤلاء أن عقوبات الإسلام عقوبات وحشية لا تصلح لأن تسود مجتمعاً ربى في حجر الأقمار والصواريخ والأفكار الصائبة وأن عقوبات الإسلام تلائم المجتمع الذي ظهر الإسلام حيث تتناهش القبائل، وحيث العقول الجامدة والأفكار الضيقة، هذا ما أوحت به إليهم أنفسهم المتجرة المتخلفة، أما اليوم فهل يمكن أن تطبق تلك العقوبات الهمجية التي كانت تطبق في الصحراء؟ وهل يجوز أن تقطع يد في ربع دينار؟
إنهم يعترضون على الشَّرِيعَة الغراء في قطع يد السارق بالقليل من المال كما نظم من قبل أبو العلاء المعري(1) قائلاً:
يد بخمس مئين عسجد ودُيتْ ... ما بالَها قطعت في رُبْع دينار
تحكُّم مالنا إلا السكوتُ له ... وأن نعوذَ بمولانا من النار(2)
فأجابه أحد العلماء:
عزَّ الأمانة أعلاها وأرخصها ... ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري(3)
« أي لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت ويا له من قول سديد»(4).
فمنطق الغَرْب في أن عقوبة الرجم وقطع يد السارق تضم الكثير من الصرامة والقسوة والغلظة والوحشية مما لا يليق بالمجتمع المتحضر منطق يدحضه منطق الغَرْب في التعامل مع الإنسان في الحروب.
__________
(1) أبو العلاء المعري، هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخيّ ، وُلد سنة (363هـ) ذهب بصره في سنته الثالثة، وسُميّ برهين المحبسين، اتهمه الرَّازي في دينه ، وقَالَ ابن دقيق العيد : هو في حيرةٍ.
(3) العسجد: الذهب ، المعجم الوسيط ، ص(600). والودَى : الهلاك ، ص(1022).
(4) الصابوني: صفوة التفاسير (1/342).(1/89)
... أفلا يستحيون عندما يصفون بالتحضر التصورات الخلقية لهذا الزمان الذي قد أبيد به الإنسان كما أبيد ملايين الهنود الحمر في أمريكا على يد الفاتحين الأوروبيين، وملايين الضحايا في الحرب العالمية الأولى والثانية « بل ماذا نسمي في عالمنا اليوم النِّظَام العالمي للسيطرة الغَرْبيّة هذا النِّظَام الذي أنفق أربعمائة وخمسين ملياراًَ من الدولارات على التسلح عام 1980م وتسبب في العام نفسه في خمسين مليوناً من البشر في العالم بسبب لعبة المبادلات التجارية »(1).
... وهكذا يقول جارودي(2): « يعتبر الغَرْب إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ »(3).
إنه عالم لا يرمي بالحجارة ولكن يرمي بالقنبلة النووية ولا يقطع الأيدي ولكن يبيد الأجسام وينسفها نسفاً، ولا يروي غليل نفسه بضرب الأسواط، بل يحرق الأجسام ويستخرج منها الشحم ليتخذ منه مادة الصابون، وهو إذا رأى في جماعة من الناس جناة سياسيين أو أعداءً للمصلحة القومية، أو منافسين له في الأغراض السِّيَاسِيَّة، لا يألو جهداً في تعذيبهم و اضطهادهم، وإذاقتهم ألواناً من الخسف والجور تنخلع لها القلوب وتشيب منها النواصي.
ويشمل على خمسة مطالب :
1- المطلب الأول ... : هل نجحت العقوبات القانونية في مكافحة الإجرام.
2- المطلب الثاني ... : الجرائم في الغَرْب بالوثائق والأرقام.
3- المطلب الثالث ... : حركة الدفاع الاجتماعي.
4- المطلب الرابع ... : المعاهدات والمؤتمرات الدولية لمكافحة الجريمة.
5- المطلب الخامس ... : الغَرْب عنوان الإجرام عبر التاريخ.
6- المطلب السادس ... : استنتاجات حول مكافحة الجريمة في الغَرْب.
__________
(1) فرغل، د. يحيى هاشم حسن: الإسلام مشكلة الحَضَارَة بين التعددية والصراع ، ص(112).
(2) جارودي: مفكر فرنسي معاصر قاده البحث العلمي الموضوعي إلى اعتناق الإسلام.
(3) جارودي، ما يعد به الإسلام ، ص(37-39).(1/90)
... يُعرَّف القانون الجنائي بأنه : مجموعة القواعد التي تحدد الأعمال المعاقب عليها أو الأشخاص الذين يسألون عنها والعقوبات أو التدابير الاحترازية التي تلحق بهم »(1).
... ومن تعريف القانون على النحو السالف يتبين أنه قاعدة توضع ليعمل الناس بمقتضاها في الهيئة الاجْتِمَاعِيَّة فيعرف كل فرد ماله وما عليه، فإن خالف المرء تلك القواعد نزلت عليه العقوبة.
... والعقوبة يعرفها علماء الفقه الجنائي بأنها « جزاء يقرره القانون ويوقعه القاضي على من تثبت مسؤوليته عن فعل جريمة في القانون ليصيب به المتهم في شخصه أو ماله. وانطلاقاً من تلك الأسس يمكن تعريف العقوبة بأنها قدر مقصود من الألم يقرره المجتمع ممثلاً بمشرعه ليوقع كرها على من يرتكب جريمة في القانون بمقتضى حكم يصدره القضاء، إذاً هي الجزاء المقرر للجريمة »(2).
... وليس المقصود بها إذلال المجرم أو إشعاره بالهوان، وإنما المقصود أن يصاب عند المجرم حق من حقوقه الشخصية، سواء أكان مالياً أم غير مالي حسب الحال كحقه في الحياة والحرِّيَّة، والألم بهذا المعنى واضح في عقوبة الإعدام، لأنها تسلب المجرم كلية حقه في الحياة، كما أن الألم لا يقل وضوحاً في عقوبتي الأشغال الشاقة والسجن لأنهما يسلبان المجرم حقه في الحرِّيَّة.
... والغرض من العقوبة كما يقرر علماء القانون « هي تحقيق العَدالَة والردع بنوعيه العام والخاص، وإصلاح الجاني » (3).
__________
(1) فرغل، د. يحيى هاشم حسن: الإسلام مشكلة الحَضَارَة بين التعددية والصراع ، ص(112).
(2) أبو عامر، محمد زكي: قانون العقوبات، ص(370،371،372) بتصرف.
(3) حسني، محمود نجيب: علم العقاب، ص(99).(1/91)
... فعدالة القانون ترجع إلى أن الجريمة تنطوي على مخالفة أوامر القانون ونواهيه وينتج عنها اختلال في التوازن الاجتماعي نظراً لما يثيره في النفوس من فزع وحقد على الجاني وعطف على المجني عليه، فضلاً عن أنها تجرح الشعور بالعَدالَة . وهكذا يكون وضع العقوبة لتأكيد سلطة الدَّوْلَةوسيادة القانون فيها ولإعادة التوازن الاجتماعي مرّة ثانية، ذلك أن من شأنها العمل تخفيف حدّة العواطف الثائرة في المجني عليه وذويه والجماعة سواءً ، فالعقوبة إذاً مقابل الجريمة.
... ويضاف لذلك أن عدالة العقوبة تمهد من جهة لتخفيف الردع العام بالتأثير على الدوافع الإجرامية الكامنة في النفوس، ومن جهة أخرى لتحقيق الردع الخاص بخلق الشعور بالمسؤولية لدى المجرم، والتذرع بظروفه الشخصية.
... وهذا يدفعنا إلى استعراض بعض المواد القانونية في دولٍ معاصرة، « فالاغتصاب أو الاعتداء على أعراض الآخرين ، يعتبر في بريطانيا جريمة عقوبتها الحبس مدى الحياة بفتاة دون 13 عاماً والحبس لمدة سنتين بفتاة دون 16 سنة، ولا يعتبر جريمة إقامة علاقة جنسية غير مشروعة مع فتاة فوق 16 عاماً »(1).
... وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فكل من يتورط بشكل متعمد، بعمل جنسي تستخدم فيه القوة أو التهديد أو الخطف فسوف يغرم بمبلغ تحدده المحكمة أو يسجن لمدة معينة أو مدى الحياة»(2).
__________
(1) سميث، جسن وبراين هوغن: القانون البريطاني ، ص(451).
(2) إدوارد ديفيد: شارل بكلمار، مايكل وولف: القانون الجنائي الاتحادي في أمريكا، ص(681-702) بتصرف.(1/92)
... « والإجهاض مسموح به في القانون الروسي بشرط أن يكون في المشفى ومع عدم وجود أي مانع أو خطر على حياة المرأة »(1) ، كما أن السكر لا يعتبر جريمة أو خطأ في الاتحاد السوفياتي-حيث كان قائماً-إلا في حال ارتكاب جرائم أو حماقات تضر بالمجتمع والآخرين أو العمل(2) وفي إنكلترا إذا كان السكر أوصل صاحبه إلى حالة الجنون والهذيان ، فحكمه حكم المجنون ولكن إذا كان القصد من السكر هو ارتكاب جريمة ما، أي بقصد تغطية جريمة ، كالقتل فيطبق عليه حكم القاتل المتعمد وأما إذا تعذر على المحكمة إثبات ذلك فيعتبر القتل خطأ »(3).
... وبعبارة أخرى يمكن القول إنّ القانون الوضعي لا يعاقب على السكر أو شرب الخمر في ذاته، إنما يعاقب إذا كان ذلك في الأماكن العامة، فهو يخشى ما يمكن أن يحدث ويخل بالأمن نتيجة السكر البيّن.
... وبعد ذلك يمكننا أن نوجه السؤال الآتي:
... هل نجحت العقوبات القانونية في محاربة الإجرام؟
... لقد شرعت القوانين الوضعية العقوبات ولا تزال لمحاربة المجرمين « واجتثاث الجريمة من جذورها وعلى تربية روح مراعاة القوانين لدى المواطنين، واحترام قواعد الحياة، فالأشخاص الذين يقومون بجرائم خطيرة بالنسبة للمجتمع، ينبغي أن يلاقوا عقابهم الصارم»(4).
__________
(1) ستاشيش، الجرائم ضد الغير في القانون الجنائي الأوكراني ، ص(121).
(2) زاغارود، نيكوف نيقولاي: القانون الجنائي السوفياتي، ص(69، 96).
(3) هارين ويلشر قانون العقوبات في إنكلترا ، ص(32 ، 33) بتصرف.
(4) بينايل، جان: مساهمة علم الصفات النفسية في علم الإجرام والقانون الجزائي، مجلة العلم الإجرامي،باريس، ص(646).(1/93)
... ولا ريب أنه حين يراد تحريم فعل معين تقدر له العقوبات التي يرى أنها كفيلة بزجر الناس عن إتيان هذا الفعل المحرم، فإن أدّت العقوبة بالناس إلى أن يمتنعوا عن الفعل المحرم، فقد نجحت العقوبة وأدّت الغرض منها وإن لم يزجر الناس عن الفعل المحرم، حاول أُولو الأمر أن يعاقبوا عليه بعقوبة أكثر ردعاً من العقوبة السابقة.
... فالمقياس الصَحِيْح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة، فإن نقص عدد المجرمين، وقلّت الجرائم فقد نجحت العقوبة وإن زاد عدد المجرمين والجرائم، فقد فشلت العقوبة ووجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى جديرة بأن تردع المجرمين وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم.
... ولقد قررّ في بعض القوانين الحديثة عقوبة الإعدام، والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة، وقرر السجن، والحبس، والإرسال للإصلاحية ونود أن نعرف إلى أي حد نجحت هذه العقوبة، وكيف كان أثرها على المجرمين والجريمة؟ وهذه العقوبات على تعددها هي عقوبتان: الإعدام و الحبس بوجه عام.
عقوبة الإعدام: ...(1/94)
فعقوبة الإعدام من أقدم العقوبات التي تقررها القوانين الوضعية القديمة والحديثة، وإن معظم المجتمعات الحديثة تحكم بالإعدام على مرتكب جريمة القتل إذا كان عن سابق تصور وتصميم إلا أنه منذ بزوغ القرن الثامن عشر بدأت تنطلق بين الحين والحين دعوات من ذوي المشاعر الرقيقة والأحاسيس المرهفة تدعو إلى إلغاء هذه العقوبة، لأنها في رأيهم عقوبة قاسية ووحشية وإلى إحلال عقوبة سجن القاتل ومحاولة تأهيله حتى لا يقدم على جريمة أخرى بعد خروجه من السجن ، وفي ظنهم أن هذا التأهل هو السبيل لحماية المجتمع من الإجرام وقد غاب عنهم إن إنزال عقوبة الإعدام بالفاعل يشكل عنصر ردع ويسهم إسهاماً كبيراً في التخفيف من نسبة الإجرام، فمتى علم الإنسان أنه سوف يُعدم إذا ارتكب جريمة القتل، فإنه ربما يرتدع وإذا استمر في مخططه ونُفذ فيه الإعدام، فإن ذلك يؤدي إلى تطبيق جريمة القتل وإلى حفظ الجماعات من الفناء الذي يدفع إليه الأخذ بالثأر والانتقام(1).
فالدعوة إلى إلغاء الإعدام أخذت طريقتها في بعض الدول فأقرت إلغاءها مثل التشريع النرويجي والسويدي والنمساوي والدانمركي، إلا أن حركة الإلغاء تراجعت في بعض الدول تحت تأثير العوامل السِّيَاسِيَّة ونظم الحكم الداخلية والاعتبارات المحلية فتأرجحت بين الإقرار والإلغاء، ومن ذلك التشريع الإيطالي الذي ألغاه عام 1930م ثم عاد إلى إقرارها عام 1947م، والتشريع السوفياتي الذي ألغاها عام 1947م ثم عاد إلى إقرارها عام 1958م في قانون العقوبات الاتحادي»(2).
__________
(1) انظر حول هذه المسألة:
أ ... أبو زيد، د. حسين: العقوبة الجسدية بين الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والقانون الوضعي، (2/702).
ب ... منصور، علي: مقَالَ في مجلة منبر الإسلام، ص(47).
(2) القاضي، علي: العقوبات في الإسلام هدفها حماية مقومات الوجود الإنساني، مقَالَ في مجلة الوعي الإسلامي، العدد (207)، ص(80).(1/95)
وهكذا تضطر التشريعات البشرية إلى التغيير لأن نظرتها قاصرة ولأنها تتأثر بأوضاع المجتمع على عكس التشريع الإلهي الذي يتسم بالثبات ومن ثمّ فإن من يقرر عقوبة الإعدام، فإنه لا يقررها إلا لقليل من الجرائم بحيث لا تردع عن الإجرام بحيث أن القاتل اليوم لا يبالي أن يقتل ويعترف بجريمته ما دام محامي الدفاع يحمي جريمته ويطلب الرأفة والرحمة له ليفلت من عقوبة الإعدام تحت غطاء الظروف القاهرة الذي يتخيلها المحامي المدافع عن الجريمة.
والحق أنه لو حرم قبول الظروف المخففة في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام على الأقل في جريمة القتل العمد أو حرم على القضاء أن يستبدلوا بعقوبة الإعدام عقوبة أخرى لكان لعقوبة الإعدام أثرها الذي لا بد منه في تقليل جرائم القتل ولحل جانب خطير من مشكلة الإجرام.
عقوبة الحبس:
... وعقوبة الحبس هي العقوبة الأساس في القوانين الوضعية لأكثر الجرائم يستوي في مجازاتها من ارتكب جريمة لأول مرة ، ومن تخصص في عالم الإجرام كما يستوي في مجازاتها الرجال والنساء والشيب والشبان، كما يستوي في مجازاتها من ارتكب جريمة خطيرة ومن ارتكب جريمة دونها، وتنفذ العقوبة على هؤلاء جميعاً بطريقة واحدة تقريباً.
... وما عقوبة الأشغال الشاقة في القوانين الوضعية إلا عقوبة حبس تتفاوت مدته أكثر مما تتفاوت ألوانه.
... وبالتالي فإن تطبيق عقوبة الحبس على هذا الوجه قد أدى إلى نتائج خطيرة ومشكلات دقيقة نشير إلى بعضها على سبيل الإجمال:
أولاً: إرهاق خزانة الدولة: يوضع المحكوم عليهم بعقوبة الحبس على اختلاف أنواعها في محابس يقيمون فيها حتى تنتهي مدّة العقوبة، وهذا يكلف الدَّوْلَةكثيراً من النفقات والأموال الباهظة التي لا بدّ من رصدها للإنفاق على نزلاء السجون وموظفيها وعمالها، زيادة على تكاليف بنائها وإنشائها، وكم يرصد من أجل ذلك من أموال.(1/96)
فميزانية السجون من الميزانيات الضخمة التي يدفعها المجتمع وهو في حاجة إليها، « وقد أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية خمسة وعشرين مليار دولار العام تسعين وتسعمائة ألف لإيواء المسجونين »(1).
ومن ناحية أخرى فإن ما ينفق على السجين في سجنه إنما يكون من خزينة الضرائب التي تجبى من عموم المواطنين، ومن بينهم هؤلاء المعتدى عليهم، فكأنهم بذلك قد اعتدي عليهم مرتين: مرّة عندما اعتدي عليهم بواسطة هؤلاء الجناة، ومرّة حينما اعتدي عليهم بواسطة الدَّوْلَةحيث أمروا أن يشتركوا في الإنفاق على مستبيحي دمائهم وأموالهم وأعراضهم بغير حق... هذه هي عقوبة الجَاهِليَّة وذلكم هو حكم الطاغوت وصدق الله تعالى: { أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّة يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (2). ...
ثانياً: تعطيل الإنتاج: فالمحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل ووضعهم في السجون هو تعطيل لقدرتهم على العمل وتضييع لمجهود كبير كان من الممكن أن يبذلوه فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم وردع غيرهم.
ثالثاً: إفساد المجرمين: فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي وبين من اتهم بالإجرام وليس بمجرم.
__________
(1) جريدة النهار يوم الأحد الموافق 30 تشرين أول سنة 1994 العدد 2225 وجريدة السفير يوم الاثنين الموافق 31 تشرين أول سنة 1994م العدد 6922.
(2) المائدة / 50.(1/97)
... واجتماع هؤلاء جميعاً في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام بينهم، فمن كان خبيراً بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هو أقل منه خبرة ، والمتخصص في نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلم عن زملائه، والمجرم العادي يخرج من سجنه وقد أصبح أستاذاً في الجريمة بعد أن أخذ قواعدها من مدرسة الجريمة، فالسجن الذي يُقَال عنه أنّه إصلاح وتهذيب ليس كذلك في الواقع، وإنما هو معهد للإفساد وتلقين أساليب الإجرام.
رابعاً: انعدام قوة الردع: إن عقوبة السجن قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة، ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فإن الحبس لا يمنع المجرم من مزاولة هوايته، فلا يلبث أن يعود لارتكاب الجرائم « كما تؤكد الإحصاءات إلى أن 70% من المجرمين عادوا إلى ارتكاب جرائمهم مرّة أخرى »(1).
وكما « أظهرت دراسات أجريت في السجون الأمريكية أن أربعة وتسعين سجيناً من كلّ مائة هم من المجرمين الذين عاودوا الكرّة أو الذين ارتكبوا جرائم عنيفة جداً »(2).
... ولو كانت العقوبة رادعة وزاجرة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة، ومن ثمّ فإن ازدياد الجرائم في المجتمعات لدليل على أن عقوبة السجن عقوبة تنعدم فيها قوة الردع، بل قد يجد فيها المجرم مخرجاً من تعقيدات الحياة وضيق فرص العيش في الخارج خاصة في بلاد العالم الثالث التي تعيش الكثرة الكاثرة من سكانها دون حد الكفاية.
__________
(1) القاضي، علي: مقَالَ في مجلة الوعي الإسلامي ، الكويت، العدد ، 230، ص(98).
(2) جريدة النهار يوم الأحد الموافق 30 تشرين أول سنة 1994م العدد 2225، وجريدة السفير يوم الاثنين الموافق 31 تشرين أول سنة 1994 العدد 6922.(1/98)
خامساً: وقوع الضرر على الصحة: فلا ريب أن السجن يعود على السجين بالضرر البالغ في صحته وجسده نظراً للازدحام الموجود فيه، وعدم الرعاية الصحية وانتفاء النظافة اللازمة ولذلك فالسجن غالباً ما يكون وسيلة لنقل الأمراض ونشر الأوباء بين المسجونين وسبباً لإفساد الأبدان.
سادساً: قتل الشعور بالمسؤولية وإهدار لإنسانية الإنسان : فعقوبة السجن تؤدي إلى قتل الشعور بالمسؤولية في نفوس المجرمين، ذلك أنهم يقضون في السجن مدّة طويلة يبتعدون بها عن العمل ويكفون فيها مؤونة أنفسهم من مطعم وملبس وعلاج ، والواقع يثبت أن السجين إذا خرج من سجنه، فإنه يواجه الحياة بخمول وكسل ، وبالتالي فلا يشعر بالمسؤولية نحو أسرته بل نحو نفسه.
ومن ثمّ، فالسجن فيه إهدار لإنسانية الإنسان، لأن السَّجين يُنادى عليه برقمه لا باسمه، وفي ذلك إلغاء لشخصية الإنسان وذاته وإشعاره بالإهانة وعدم الإكرام ومن هانت كرامته هان عليه كثير من الجرائم(1).
__________
(1) انظر حول الموضوع:
- ... أبو زيد، حسين: العقوبة الجسدية بين الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والقانون الوصفي (2/702-703-704).
- ... الحماد، د. حمد : مقَالَ في مجلة الجامعة الإسْلاميَّة بالمدينة المنورة، العدد 62، ص(196-197).
- ... الخولي، د. جمعة علي: مقَال في مجلة الفِكْر الإسلامي،بيروت، العدد الأول كانون الثاني 1981، ص(52).(1/99)
... الجريمة في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدول الغَرْبيّة ظاهرة مفزعة لا رادع لها وأمر واقع ماله من دافع أثارت من قبل وما زالت رجال القانون يعبر عن ذلك مقَالهم عن حالتهم: كيف نوقف الجريمة؟ ذلك لأنهم اتخذوا كافة الوسائل التي يظنونها رادعة للجريمة ولكنهم فشلوا في إيقافها، وسيبقى الغَرْب والجريمة صنوان لا يفترقان ما دامت الحَضَارَة المادية تظلله والقوانين البشرية تحكمه ولله در المفكر الفرنسي المسلم-جارودي- الذي قَالَ : « يعتبر الغَرْب إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ »(1).
... ولندع الأرقام تتكلم والإحصاءات تنطق عن هذا المجتمع العاري عبر تقارير رسمية من مشكاة غربية لنشير من خلالها فيما بعد إلى مدى واقعية هذه القوانين الوضعية في مكافحة الجريمة.
أولاً: الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية:
1- الاعتقَالات حسب الأعمار عام 1991م(2)
العمر ... عدد الاعتقَالات ... العمر ... عدد الاعتقَالات ... العمر ... عدد الاعتقَالات
أقل من 15 ... 527137 ... 21 ... 363232 ... 40-44 ... 474171
15 ... 273039 ... 22 ... 321984 ... 45-49 ... 247641
16 ... 326658 ... 2 ... 303605 ... 50-54 ... 141268
17 ... 348343 ... 24 ... 293590 ... 55 وما فوق ... 196740
18 ... 37803 ... 25-29 ... 1405060
19 ... 396882 ... 30-34 ... 1175491
20 ... 394039 ... 35-39 ... 789840 ... المجموع: ... 8366524
2- ضحايا استخدام الأسلحة(3):
السنة ... عدد القتلى ... المسدس ... القطع أو الطعن ... الأدوات الغير حادة ... الخنق ... إحراق متعمد ... الباقي
أو البندقية
1987 ... 17963 ... 10612 ... 3643 ... 1045 ... 2525 ... 200 ... 938
1988 ... 17971 ... 10895 ... 3457 ... 1126 ... 1426 ... 255 ... 812
1989 ... 18954 ... 11832 ... 3458 ... 1128 ... 1416 ... 234 ... 886
__________
(1) جارودي : ما يعد به الإسلام، ص(37-39).
(2) دائرة العَدالَة ، مكتب التحقيقات الفدرالي، تقارير الجريدة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية سنة1991م، أذيعت سنة 1992م.
(3) دائرة العَدالَة ، مكتب التحقيقات الفدرالي، التقارير الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية سنة1991م، ص(853).(1/100)
1990 ... 20045 ... 12847 ... 3503 ... 1075 ... 1424 ... 287 ... 909
1991 ... 21505 ... 14265 ... 3405 ... 1082
3- عدد الاعتقَالات حسب النوع والعمر:
الاعتقَالات ... الذكور ... الإناث
دون سن 18 ... دون سن 18
1990 ... 1991 ... 1990 ... 1991 ... 1990 ... 1991 ... 1990 ... 1991
بالقتل ... 16387 ... 15308 ... 2423 ... 2352 ... 1911 ... 1758 ... 132 ... 113
بالاغتصاب ... 30630 ... 26318 ... 4546 ... 4035 ... 336 ... 300 ... 82 ... 59
بالسَّرِقَة ... 125015 ... 118485 ... 30168 ... 30559 ... 11285 ... 11088 ... 2799 ... 2951
بالاعتداء الخطر ... 326780 ... 286496 ... 43454 ... 39942 ... 50137 ... 45197 ... 7713 ... 7071
بالاقتحام ... 311220 ... 265410 ... 103314 ... 88359 ... 29972 ... 26570 ... 9123 ... 8293
بالاختلاس ... 843851 ... 717961 ... 266916 ... 225220 ... 397385 ... 339180 ... 105217 ... 90922
بسرقة الآليات ... 151449 ... 131346 ... 65029 ... 56266 ... 16889 ... 14523 ... 7901 ... 7123
بالاحتراق المتعمد ... 13024 ... 11261 ... 5940 ... 5501 ... 1950 ... 1699 ... 620 ... 540
بجرائم العنف ... 498812 ... 446607 ... 80591 ... 76888 ... 63669 ... 58343 ... 10726 ... 10194
باعتداءات أخرى ... 672455 ... 573138 ... 91334 ... 80812 ... 128970 ... 113037 ... 27724 ... 24889
بالتزوير ... 48667 ... 44213 ... 4532 ... 3686 ... 25726 ... 23717 ... 2228 ... 1842
بالاحتيال ... 15620 ... 149977 ... 6629 ... 7179 ... 123656 ... 108815 ... 2839 ... 2616
عدد المسروقات ... 115864 ... 102699 ... 30813 ... 28268 ... 15792 ... 13789 ... 3274 ... 3154
عدد الأسلحة المحجوزة ... 163055 ... 147686 ... 30055 ... 31339 ... 13082 ... 11359 ... 1936 ... 2146
بالبغاء ... 32770 ... 25668 ... 587 ... 455 ... 58323 ... 50242 ... 694 ... 516
باستعمال المخدر ... 723329 ... 581184 ... 57457 ... 48253 ... 145826 ... 116248 ... 7283 ... 5872
بتناول المسكر ... 448898 ... 290936 ... 8746 ... 60499 ... 103141 ... 68030 ... 34401 ... 23018
بالثمل ... 644594 ... 542380 ... 16379 ... 12573 ... 71910 ... 62882 ... 2965 ... 2274
ثانياً: الجريمة في فرنسا:
1- حجم الظاهرة الإجرامية في فرنسا(1):
الجرم ... سنة ... سنة ... سنة ... سنة ... سنة ... سنة
1978 ... 1979 ... 1980 ... 1981 ... 1982 ... 1983
القتل لدوافع دنيئة ... 182
القتل العادي ... 1437
قتل الأولاد ... 44
السَّرِقَة العادية ... 134262 ... 214329
سرقة السيارات ... 194026 ... 202584 ... 259645 ... 252845
__________
(1) وزارة العدل، الدليل السنوي للإحصاءات – العَدالَة، الوثائق الفرنسية سنة 1983م.(1/101)
سرقة المحلات والمصارف ... 1230 ... غير متوفر ... غير متوفر ... غير متوفر
شك دون رصيد ... 194250 ... 337426 ... 397850 ... 417275
ثالثاً: الجريمة في الاتحاد السوفياتي (سابقاً):
1- عدد المحاكمين في الاتحاد السوفياتي(1):
السنة ... 1985 ... 1986 ... 1987 ... 1988 ... 1989
المحاكمين ... 1269493 ... 1217519 ... 907029 ... 679168 ... 684070
السَّرِقَة ... 47483
اغتصاب ... 19438
قتل ... 18670
... « مع كون الجريمة عملاً ضاراً بالمواطن، يهدد كيانه الذاتي والاجتماعي والاقتصادي، فإنّها تشكل خطراً على المجتمع المحلي والدولي ككل من حيث المخاطر التي تعرضه إليها ومنها إشاعة الفوضى، وغياب الطمأنينة وتعريض أمن المواطنين لمحاذير كثيرة تفقد الثقة بينهم وتشل التعامل الإنساني التجاري وغير التجاري وتجعل كل بلد منطوياً على نفسه يحذر الأجانب، ويخشى على رعاياه فيما إذا جازوا حدوده، الأمر الذي من شأنه أن يعيد البشرية إلى عصور القرصنة والسلب والنهب.
... أضف إلى ذلك، أن الإجرام يجند الآفات الاجْتِمَاعِيَّة كي يبقى ظاهرات التجار بالمخدرات والرقيق وترويج الفسق والفجور إلا بعض من وجوه هذه الآفات، التي تستغلها للنمو عصابات المجرمين التي لا تقيم للقيم الإنسانية والأخلاقية وزناً.
... انطلاقاً من هذه الاعتبارات، ومن الشعور الإنساني تجاه هذه الآفات التي تهدد المجتمع الإنساني، وتجاه امتداد الإجرام وما يترتب عليه من مساوئ ومخاوف قامت حركات علمية مختلفة تركز على مسؤولية المجتمع الدولي في التصدي للجريمة والوقاية منها، وحتى يتسنى للدول كافة الانصراف إلى تطوير مرافقها الاقتصادية والاجْتِمَاعِيَّة، دون عوائق تعترض مسيرتها وتهدد منجزاتها.
__________
(1) تروبين، الجريمة وخرق القوانين في الاتحاد السوفياتي إصدار موسكو سنة 1990م ، ص(20).(1/102)
... وإذا كانت هذه الاعتبارات هي التي تلمسها اليوم في الاهتمام الدولي بالجريمة، فقد سبقها اهتمامات أخرى، ركزت على بحث أسباب الإجرام وكيفية معاملة المجرمين وتطوير القوانين الجزائية، بصورة تمكنها من مواجهة هذه الظاهرة الاجْتِمَاعِيَّة بما يكفل القضاء عليها والوقاية منها»(1).
... ففي القرن التاسع عشر ظهرت حركة الدفاع الاجتماعي كرد فعل للمذاهب والأفكار الكلاسيكية القانونية والقضائية الجامدة التي سيطرت على النِّظَام القانوني خلال العصور الوسطى.
... وقد أدّت هذه الحركة دوراً بارزاً في عمليات صنع القانون والتشريع الاجتماعي والقضائي خلال العقود الأخيرة، فقد ركزت على تحديث قوانين العقوبات وسياسيات الإجرام والمؤسسات القضائية وذلك عن طريق التركيز على كل من الفرد والمجتمع.
... وفي عام 1950م كانت البداية الأولى للاعتراف العالمي بحركة الدفاع الاجتماعي التي أقامت العديد من الندوات العلمية والمؤتمرات العالمية بدءاً من المؤتمر الأول للدفاع الاجتماعي في سان ريمو عام 1980م، والمؤتمر الدولي الثاني عام 1949م والثالث عام 1954م الذي ظهر فيه الفقيه الإيطالي فلييو جراماتيكا(2) الرائد الأول لحركة الدفاع الاجتماعي خلال هذه الفترة.
__________
(1) العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة ، (2/232-233).
(2) انظر حول الموضوع:
1- ... عبد الرحمن، عبد الله: علم الاجتماع القانوني، ص(322).
2- ... العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة (2/232-233).(1/103)
... وقد تَميَّز بأفكار وصفت بالمعتدلة عرضها في مؤلفه « قانون العقوبات الذاتي » وسعى إلى نشر الدراسات وخاصة دراسات النضال ضد العقوبة ثم كان مؤلفه « مبادئ الدفاع الاجتماعي » عام 1961م الذي عبّر فيه عن آرائه وهدف الدفاع الاجتماعي والذي يتلخص في أمرين(1):
الأول: ... إن وظيفة القانون الجزائي هي ضمان حماية المجتمع من الإجرام وليس تعقب الخطأ والاقتصاص من المجرم.
الثاني: ... إحداث نوع من التكيف بين الفرد والمجتمع من خلال بث الثقة في نفسه وإحياء القيم الإنسانية في كيانه واحترامه إنسانياً، فإذا لم يكن المجتمع إنسانياً في تدابيره حيال المجرم ولم يكن قدوة حسنة له، فكيف يطلب منه احترام القيم والحقوق الإنسانية والامتناع عن الاعتداء عليها.
وعليه، فإن العقاب في صوره الحالية عامل مهم من عوامل الإجرام حسب مفهوم هذه المدرسة ومن ثمّ فإنه غير مجد وهي تطرح لحماية المجتمع وسائل غير جزائية ترمي إلى شل فعالية المجرم وانتزاع النشاط الضار منه بالعزل أو الحجز أو الإصلاح.
ثم خلف مارك أنسل(2)
__________
(1) الأستاذ فيلييو جراماتيكا الإيطالي، الرائد الأول لحركة الدفاع الاجتماعي، ظهرت أفكاره عام 1954م في مؤلفه (قانون العقوبات الذاتي) ، عمل على تأسيس المجلة (الدولة) للدفاع الاجتماعي.
انظر: عبد الرحمن:د. عبد الله محمد ، علم الاجتماع القانوني، ص(355).
(2) المستشار مارك أنسل رائد حركة الدفاع الاجتماعي خلال النصف الأخير من القرن العشرين، طور كثيراً من أفكار الدفاع الاجتماعي التي طوّرت كثيراً من القوانين والنظم العقابية والسياسات الإجرامية ، أشاد بتراث بلاد الشرق الأوسط من الناحيتين: القانونية والأخلاقية وبالسبق التاريخي لها على أفكار الدفاع الاجتماعي.
انظر: عبد الرحمن،د. عبد الله محمد: علم الاجتماع القانوني، ص(323-324).(1/104)
الفرنسي رئاسة الجمعية الدولية للدفاع الاجْتِمَاعِيَّة بعد جراماتيكا الإيطالي واستطاع أن يطور كثيراً من أفكار الدفاع الاجتماعي بعد أن أحدث كثيراً من التعديلات التي عملت بمقتضاها على تطوير كثير من القوانين والنظم العقابية والسِّيَاسِيَّة الإجرامية.
... « وقد أشار مارك أنسل في إطار تحليلاته لتطوير التشريعات القانونية والعقابية في العديد من بلاد الشرق الأقصى والأوسط أن بلاد الشرق الأوسط لها تراث قوي من الناحيتين الأخلاقية والدينية والذي يتمثل في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والتي مهدت لظهور سياسات جنائية حديثة كما أوضح أنّ كثيراً من دول هذه المنطقة قامت بتقليد سلبي للقوانين الغَرْبيّة ولكنها حرصت على الاهتمام بسياسات المنع والتدابير والأمن والوقاية الاجْتِمَاعِيَّة »(1).
وقد عقد الكثير من الدارسين(2) في ما ظهر من التحليلات التشريعية والقانونية والاجْتِمَاعِيَّة في السنوات الأخيرة أوجه المقارنة والاختلاف والتمايز والمماثلة بين حركة الدفاع الاجتماعي والشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، ونوه البعض إلى أسبقية الشَّرِيعَة في الحرص على مراعاة الحقوق الإنسانية للفرد والمجتمع، كما نوه البعض إلى اقتباس حركة الدفاع الاجتماعي للعديد من تصوراتها من العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام.
__________
(1) أنسل، مارك: الدفاع الاجتماعي الجديد، ترجمة حسن علام ، الإسكندرية ، ص(145).
(2) من التحليلات التي أشارت للعلاقة بين الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والاتجاهات القانونية:
1- ... زيد، محمد إبراهيم: السِّيَاسِيَّة الجنائية بين الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والقانون الوصفي، ص(188-189-192-212).
2- ... ياسين، السَيِّد: حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية، جريدة الأهرام (قضايا وآراء) تاريخ 18/4/1994.
3- ... العدلي، محمود صالح: حقوق الإنسان بين الفِكْر الوضعي والشَّرِيعَة الإسْلاميَّة ، مجلة المحاماة، العدد 3، 4 مارس سنة 1990م، ص(124-132).(1/105)
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله عبد الرحمن(1): « نرى بوضوح أن حركة الدفاع الاجتماعي لا تبتعد كثيراً عن فحوى الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة السمحاء التي ظهرت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان لتتوج التشريعات السماوية بالعديد من القوانين والقواعد الأخلاقية والدينية والاجْتِمَاعِيَّة أو التي تعكس نظم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الدينية قبل ظهور حركة الدفاع الاجتماعي التي لم تنشط إلا مع أوائل هذا القرن العشرين» (2).
وفي العموم فإن كثيراً من الباحثين في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة في إطار العقوبات اتخذوا عدداً من التحليلات المحددة التي يمكن أن تجعلهم فريقين لهما موقفان متمايزان:
الأول: ... يرى أن مجموعة المعاني والمفاهيم المرتبطة بحركة الدفاع الاجتماعي لا يمكن أن تعزز هذه الحركة ولا تسمح بعقد مقارنة بينها وبين الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة.
__________
(1) د. عبد الله محمد عبد الرحمن، أستاذ ورئيس قسم الاجتماع في كليّة الآداب بجامعة بيروت العربية،استشرته حول خطة البحث قبل البدء في عملها فجزاه الله خيراً. من مصنفاته: علم الاجتماع القانوني، وعلم الاجتماع الاقتصادي.
(2) عبد الرحمن، عبد الله: علم الاجتماع القانوني ، ص(324).(1/106)
الثاني: ... يرى أن الإسلام قد سبق حركة الدفاع الاجتماعي في تحليلات كثيرة والتي تعد المنطلق الأساسي لهذه الحركة، نحو: العدالة الاجتماعية بين الشريعة والقانون، وذلك عن طريق تحليل اهتمام الفقه الإسلامي بدراسة أهداف العقاب، واهتمام علماء الكلام بفكرة الجبر والاختيار ونحو التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية عن طريق تحليل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحماية المصالح في الشريعة والقوانين الوضعية وحدود الله والوظيفة الجزائية والمنعية والتعزيز ومرونة التشريع الإسلامي. ونحو التكافل الاجتماعي والسياسية الوقائية عن طريق تحليل أصول السياسية الوقائية في حركة الدفاع الاجتماعي والمقارنة بين الدفاع الاجتماعي والشريعة الإسلامية(1).
ومهما يكن فإن رفض العقاب مبدأ لا تستقيم فيه الحياة وقد قَالَ تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، أما ما تدعو إليه حركة الدفاع الاجتماعي من إيجاد المجتمع الإنساني والتركيز على الفرد الفاضل في المجتمع الفاضل الذي تقل فيه الجرائم والفساد، ففكرة إيجابية ومحبذة ، إلا أن انعدام الجريمة غير ممكن لما فطر عليه الإنسان من نزعات وغرائز ، فلا بد من العقاب للردع وتجاهل هذه الحقيقة أدى إلى ردود أفعال شنيعة جداً مثل إعدامات الثوار في فرنسا التي تخطت همجيتها حدود الإحساس البشري.
__________
(1) من التحليلات التي أشارت للعلاقة بين الشريعة الإسلامية والاتجاهات القانونية العالمية واهتمام الدول بحقوق الإنسان. زيد، محمد إبراهيم السياسية الجنائية بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي الألفي، أحمد الإنسان في مصر الفكر والحق والمجتمع، ص(188-189).(1/107)
والخلاصة، أن المدارس الفقهية القديمة والحديثة وإنْ اختلفت حول الأساس الذي يبني عليه حق العقاب، فقد اتفقت على أن التعويض المادي على المجني عليه غير كافٍ لإعادة التوازن الذي أخل به الجاني عندما اقترف جريمته، بل لا بد من مساءلته عن الاضطراب الذي أحدثته جريمته في المجتمع سواء بالزجر أم بالتأديب أم بالإصلاح.
غير أن جميع هذه المدارس وجميع القوانين التي أخذت عنها، قد أخفقت في الحدّ من تفشي الجريمة واستفحالها في العالم كلّه وطغيان نذر الشر فيه على تباشير السلام.
... من أبرز النشاطات التي تقوم بها هيئة الأمم المتحدة تنظيم المؤتمرات الدولية التي يتم خلالها بحث الموضوعات المتعلقة بالوقاية من الإجرام ومعاملة المجرمين وتيسير وضع برامج للوقاية والعلاج، منها:
أولاً: مؤتمر ستوكهولم سنة 1965م:
وقد بحث المؤتمر ستة موضوعات:
1. الجريمة والتطور الاجتماعي.
2. القوى الاجْتِمَاعِيَّة والوقاية من الإجرام.
3. التجهيز الحكومي والوقاية من الإجرام.
4. وسائل محاربة العودة إلى الإجرام.
5. استبدال العقوبة المانعة من الحرِّيَّة بالمراقبة الاجْتِمَاعِيَّة.
6. التدابير الواقية لمعالجة الشباب(1).
ثانياً: مؤتمر بودابست عام 1974م:
وتتمثل توصيات هذا المؤتمر بصدد موضوع السِّيَاسِيَّة الجنائية في النقاط الآتية:
1. التَّخوّف من هتك حدود السِّيَاسِيَّة الجنائية: فقد أقرّ المؤتمر أن النِّظَام القضائي التقليدي القائم على العقاب يتعرض لانتقادات حقيقية، فلا بد من ظهور سياسية جنائية منطقية وعقلانية تتمثل في:
أ- حصول الجاني على أقل قدر من الألم وأكبر قدر من الفعالية والإصلاح.
__________
(1) انظر:
1- ... صدقي، عبد الرحيم : السِّيَاسِيَّة الجنائية في العالم المعاصر، ص(233-234-235) بإيجاز.
2- ... العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة ، (2/243-244).(1/108)
ب- أن تكون السِّيَاسِيَّة الجنائية إنسانية يحددها ضمان احترام الكرامة الشخصية الإنسانية وحقوق الفرد اليومية.
2. البحث عن صور متنوعة لمواجهة الإجرام وعدم الاكتفاء بفكرة الحل الوحيد باعتبار أن الجريمة ظاهرة اجتماعية مركبة تستوجب أنواعاً متباينة من العلاج أو الجزاء حسب اختلاف الجرائم والمجرمين وأنواع أخرى من التدابير يترك حق الاختيار للقاضي الجنائي.
3. شجب العقوبات السالبة الحرِّيَّة، فالعدو الأول للسياسية الجنائية هو إقرار العقاب السالب للحرية ( السجن ) فيجب تقليل اللجوء إليها وتطبيق نطاق تطبيقها أو على الأقل مقر تطبيقها على بعض فئات المجرمين(1).
4. العمل على إيجاد بدائل عقابية تحقق مفهوم السِّيَاسِيَّة الجنائية المجدية واقترح المؤتمر بدائل عقابية، منها اللجوء إلى العقوبات السالبة للحقوق مثل الحقوق المالية أو الوظيفية(2).
ثالثاً: مؤتمر كيوتو باليابان عام 1970م:
... الذي « استكمل بحث المواضع التي أثيرت خلال مؤتمر ستوكهولم 1965م وانتقل إلى التركيز على عاملين رئيسيين في توجيه السِّيَاسة العامة الجنائية هما ضرورة تعزيز البحث العلمي الجنائي على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي... والتركيز على الوسائل المتبعة في ملاحقة الجريمة ومحاكمة المجرمين ومراقبة تنفيذ العقوبات »(3).
رابعاً: مؤتمر جنيف عام 1975م:
... والذي يتناول البحث في موضوعات أهمها:
- الأشكال والأبعاد الجديدة للإجرام على الصعيد الوطني والعالمي ولا سيما الجرائم المنظمة، والجرائم الإرهابية وأعمال العنف تجاه الأشخاص.
__________
(1) صدقي، عبد الرحيم: السِّياسَة الجنائية في العالم المعاصر، ص(335) بتصرف.
(2) صدقي، عبد الرحيم: السِّيَاسِيَّة الجنائية في العالم المعاصر، ص(234-235) بتصرف.
(3) العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة ، (2/245) بتصرف.(1/109)
- سن القوانين الجزائية وتنظيم الإدارة القضائية بعد أن واجهتها معطيات جديدة ناتجة عن تطور أشكال الإجرام واتساع رقعته.
- معالجة المجرمين في السجون، وإمكانية الاستغناء عن السجن باعتماد تدابير أنفع وأعظم تأثيراً في إعادة تأهيل المحكوم عليه(1).
خامساً: مؤتمر بسيوني باستراليا عام 1980م:
... وقد عالج موضوعات أهمها:
- الاتجاهات الحالية للمشكلة الإجرامية وخطط التصدي لها والوقاية منها.
- جرائم أصحاب النفوذ الذين يتسترون أو يستغلون مراكزهم في السلطة أو في الحياة السِّيَاسِيَّة(2).
فمن خلال الصورة التي حاولنا رسم معالمها يتبين أن دور الأمم المتحدة في الوقاية من الجريمة والتصدي لها، يقوم على الأمور التالية:
- وضع برنامج عملي ذو طابع دولي يهدف إلى الوقاية من الإجرام ومعالجة المجرمين.
- وضع دراسات خاصة ذو طابع دولي عن مسائل متعلقة مباشرة بسياسة الوقاية والعلاج، وبمعرفة العوامل للسلوك الإجرامي.
- تنظيم المؤتمرات الدولية والحلقات الدراسية الإقليمية بغية تشجيع البحث العلمي من جهة، وتعميم المعلومات وجعل المسؤولين يطلعون على الأبحاث العلمية للحدّ من مشكلة الإجرام في العالم.
- التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية الخاصة المهتمّة بشؤون الجريمة والمجرمين بغية التنسيق بينها والإفادة من مجهودها حتى تتوجه الجهود كافة نحو تحقيق الهدف المشترك(3).
ومع هذا الجهد الذي تقدمه الأمم المتحدة لنا أن نسأل، هل أتى ما قامت به من ثمار مرجوة وإذا كان هناك من ثمار فأين هي؟
__________
(1) العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة ، (2/246-247) بتصرف.
(2) العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة ، (2/247) بتصرف.
(3) العوجي، مصطفى: التصدي للجريمة ، (2/248-249-250) بتصرف.(1/110)
إنّ الإجابة الصادقة لمعرفة الحقيقة هي الأرقام التي تكلمت من قبل، والتي تنبئ عن فشل كل ما يحاولون القيام به، وذلك لأنهم لا ينظرون إلى القضايا إلا من منظار مادي بحت، فلا مجال للجانب الروحي الذي هو صلة المخلوق بالخالق.
ومن ثمّ فإنه مع وجود هذه المؤتمرات وتلك الجهود، فإن رقعة الجرائم تتزايد كما تتزايد أيضاً الإجراءات غير الإنسانية للأنظمة الفاسدة بارتكاب أنواع التعذيب والقتل الجماعي وقد انتشرت فظائعها على نطاق عالمي في البوسنة والهرسك، والشيشان وأفغانستان ولبنان وفلسطين والعراق وكشمير، وستبقى مجازر الأبرياء وأنهار الدماء التي سفكتها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها الصهيونية شهادة واضحة على عقم هذه المنظمات الدولية وهشاشتها وعدم فاعليتها وصلاحيتها للحد مما يترامى لمسمعنا في كلّ زمان ومكان.
... إنّ من مثالب هذا العصر، الموغلة في السوء أن يكون المبدأ الرأسمالي هو السائد فيه، وأن تكون الدَّوْلَةالتي تملك أكثر طرائق ووسائل القوة والمنفعة متبنية لهذا المبدأ وأن يكون الخير عندها هو ما زادها طغياناً وتخمة في المتع والأهواء والملذات والشهوات، والشر عندها هو ما سلبها حقاً اغتصبته، أو أنصف مظلوماً ظلمته.(1/111)
... إنها الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا ترى في الأرض غيرها، فالأرض أرضها والسماء سماؤها والماء ماؤها والبشر عبيدها، تسير على خطا فرعون : { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } (1) ترى رأيه وتقول قوله : { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } (2) فهي تقول وتسن القوانين وتتوعد وتهدد وتتمدد في كل آن وحين، ولكي تشرع عملها في الإرهاب والتخويف والتدمير أخرجت هيئة الأمم المتحدة إلى حيِّز الوجود بعد الحرب العالمية الثانية من مؤتمر سان فرانسسكو وألبستها ثوب العَدالَة لتبرير ظلم الشعوب والأمم المكلومة والهيمنة على الكرة الأرضية واللعب بمقدرات الأمم ومصائرها باسم القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وما يُسمى بـ حقوق الإنسان.
... والناظر في تاريخ هيئة الأمم المتحدة وحاضرها تتأكد لديه القناعة بأنها هيئة عالمية من أجل السيطرة على العالم من خلال مجلس الأمن الذي أضحى قرية لها وأداة مسخرة في يدها ودائرة من دوائر وزارة خارجيتها وخاتماً تطبع به كل ما تريد إصداره من قرارات تتخذها مبرراً لفرض هيمنتها أو تحقيق مصالحها أو ضرب خصومها أو ضرب من لا ينصاع لإرادتها.
... ولهذا فإنّ ما تتبجح به أمريكا والدول الغَرْبيّة ومجلس الأمن وما يسمونه العَدالَة الدولية، والشَّرْعية الدولية، والقوانين الدولية، وشرعة حقوق الإنسان كلّه ألفاظ جوفاء، خادعة مضللّة، وهراء وكذب وتضليل ليس له واقع ولا وجود.
... فالشَّرْعية الدولية الموجودة هي شرعية الغاب وشرعة افتراس القوي للضعيف والعَدالَة الدولية الموجودة هي العَدالَة التي تجعل ظلم الدَّوْلَةالعظمى والدول الكبرى عدلاً، وتجعل مطالبة الدَّوْلَةالضعيفة بحقها أو الدفاع عن بلادها، أو مقاومة الاحتلال ظلماً.
__________
(1) الزخرف/51.
(2) غافر/29.(1/112)
... والقوانين الدولية الموجودة هي قانون الدَّوْلَةالعظمى وقانون الدول الكبرى الذي تفرضه بقوتها على العالم.
... وشرعة حقوق الإنسان الموجودة هي الشَّرْعة التي تجعل لليهودي المشتت في آفاق الأرض حقاً في أن يأتي إلى فلسطين لقتل أهلها وطردهم منها والاستيلاء على مدنهم وقراهم وأماكن سكنهم ، وهي الشَّرْعة التي تجعل للأمريكي والبريطاني والفرنسي الحق في أن يستعمر الشعوب والأمم وأن ينهب ثرواتها.
... ونحن نرى هذا التفوق وتلك الغلبة من الغَرْب، ونرى القعود والركون من الأمم المغلوبة ، ينبغي أن نطرح سؤالاً واحداً مع وضوح إجابته إلاّ أن ثمة سُتُراً كثيرة تُغطيه، هذا السؤال هو:
ماذا في جعبة الغَرْب لنا نحن معاشر المسلمين؟ أما الجواب فقريب موجود في كتاب ربنا ويشهد به تاريخنا ويزيدنا إيماناً به واقعنا.
إنّهم قومٌ أشربوا في قلوبهم عداوتنا فليسوا بأقلَّ ظلماً ولا بغياً على المسلمين من اليهود أنفسهم.
فأجدادهم في المعتقد هم الذين قاتلتنا جحافلهم في مؤتة واليرموك وشنّوا علينا الحروب الصليبية التي حمل راية الدعوة إليها بطرس الناسك وباركها البابا أوردان الثاني وأسماها « حرب الصليب المقدس » هذه الحرب التي كان نداء الجند فيها إن الله يريدها وسارت جحافلهم في معرّة النعمان فقتلت مائة ألف من المسلمين، ودخلوا بيت المقدس في مليون مقاتل فأعطوا أهلها الأمان والسلام ثم استباحوا الدماء ثلاثة أيام فقتلوا أكثر من سبعين ألفاً ، وسمّوا قتلاهم « قرابين الرّب »(1).
__________
(1) انظر حول ذلك: ... - ول ديورانت: قصة الحَضَارَة ، (15/25).
... ... - ستيفن رنسمان: تاريخ الحروب الصليبية، (1/404-405).
... ... - ابن الأثير: الكامل في التاريخ، (8/189).(1/113)
وهم الذين أبادوا المسلمين في الأندلس عن بكرة أبيهم ، فما أن سقطت في أيديهم حتى أخرجوا من أهلها سبعمائة وخمسين ألفاً وقذفوهم في لجة البحر فما وصل منهم إلى الغَرْب إلا عُشرهم وما بقي منهم في الأندلس أقاموا له محاكم التفتيش على مدى أربعة قرون فارتكبوا من الفظائع كل ما يمكن لبشر أن يتمرس على الإجرام، فأبادوا خمسة ملايين مسلم(1).
وإذا ولينا شطر وجهنا إلى الأحفاد والأبناء ، نجد أنهم قد ساروا على منهج الأجداد و الآباء، وجدناهم قتلة، ظلمة، ومجرمي حرب في حين يرددون أنهم أصحاب حضارة وأنهم يعيشون في العالم المتحضر.
وأي حضارة هذه التي لم يترامى لمسمعنا بمثلها من حضارة قتلت بمثل ما قتلوا وأجرمت بمثل ما أجرموا.
... قَالوا الحَضَارَة سيما العصر ويلهم ... مقَالَةً أصبحت ضرباً من الكذب
... أين الحَضَارَة في النابالم قد حرقتْ ... ... أجسام شيب وشبان بلا سبب
... في صرخة الوالد المشلول يا ولدي ... في دمعة الولد المحروق أين أبي؟
... هل الحَضَارَة في بسط النفوذ وفي ... سحق الشعوب وفي الإذلال و الرعب؟
... هل الحَضَارَة لا دين ولا خلق ... خلو من الروح والإيمان والأدب؟
... تلك الدعاوى عرفنا من يرددها ... فذلك شاهده في السلب والنهب
__________
(1) انظر حول ذلك: الطويل، د. توفيق: قصة الاضطهاد الديني المسيحية والإسلام، ص(71-72).(1/114)
... يصور ( عبد الحليم هربرت ) الفرنسي المسلم سلوك الغَرْب بالحضارات غير الغَرْبيّة: « إنّ الغَرْب قام على أساس منطق نفي وتدمير الحضارات الأخرى، وكان قيام أسبانيا، وهي أول قوة غربية معاصرة تقوم في أوروبا كان قيامها حصيلة حرب دامت لأكثر من أربعة قرون ... كما أسفرت عن غزو القارة الأمريكية ، وخلال قرن واحد فقط لم يبق من مجموع مائة مليون نسمة من السكان الأصليين للقارة سوى (10) مليون نسمة ، فالغزو أهلك تسعة أعشار السكان وقامت أسبانيا وفرنسا وإنكلترا وهولندا بعد ذلك بتنظيم تجارة العبيد للتعويض عن نقص القوى البشرية في القارة الأمريكية بعد المجازر التي أقامها الأوروبيون لسكان القارة الأصليين من الهند ، فتمّ شراء ونقل (10) مليون أفريقي من القارة السوداء إلى القارة الجديدة » (1).
... إنّها عقدة تمركز الذات التي تدفع الغَرْب نحو العداء أو الإلغاء أو الإجرام في الآخرين أو عدم الاعتراف بالحضارات غير الغَرْبيّة، وقد وصف روجيه جارودي هذه الحالة بقوله: « إنّ الغَرْب أعتقد أنه مباح له تحديد مكانة الآخرين والحكم عليهم لصالح تاريخه وغاياته وقيمه »(2).
... وإذا كانت الأمم الأخرى قد نالت قسطها من إجرام الغَرْب فإنّ الأمّة الإسْلاميَّة قد تنزف من حقده وحربه التي لا هوادة فيها.
... أليست روسيا، القيصرية والشيوعية، هي التي قتلت 20 مليون مسلم في الجمهوريات الإسْلاميَّة خلال خمسين عاماً قتل ستالين(3)
__________
(1) أحمد، زكي: الحركة الإسْلاميَّة ومعالم المنهج الحضاري، ص(131).
(2) جارودي، روجيه: الإسلام دين المستقبل، ص(175).
(3) ستالين، هو جوزيف فاديونوفتش ، ولد سنة 1879م، وتوفي سنة 1954م، سكرتير الحزب الشيوعي.
انظر: الموسوعة الميسرة، ص(310).(1/115)
وحده 11 مليون مسلم، وهي التي هدمت ما بين 1738-1755م 418 مسجداً من أصل 536 مسجداً في قازان وحدها، وهدمت ما بين 1347هـ-1360هـ /1928-1941م، 24977 مسجداً من أصل 26279 فلم يبقى سوى 1312 مسجداً في الجمهوريات الإسْلاميَّة(1).
... وهي التي قتلت مليون ونصف المليون من المسلمين في أفغانستان حتى لم يبق مسلم فيها إلا وله ثأر الجهاد عند روسيا ، كما دمرت 60 % من القرى وتهجير 4 مليون ونصف أي ربع السكان، منهم 52 % من الأطفال اليتامى و 24 % من النساء الثكالى و 23 % من الشيوخ الكبار منهم 3 مليون لجأ إلى باكستان ومليون إلى إيران و200 ألف إلى الهند و300 ألف إلى دول الخليج(2).
... وهي التي سيّرت القوافل اليهودية الروسية المتمرسة على الإجرام إلى فلسطين والتي بلغ تعدادها أكثر من 260،000 يهودياً بين عامي 1970-1984م(3).
... وأليست الفلبين هي التي قتلت وجرحت ما لا يقل مائة ألف مسلم وشردت نصف مليون واغتصبت مليون هكتار من أرض المسلمين من عام 1946م إلى 1985م .
وفي إحصائية ما بين عامي 1972-1984م قتلوا 30 ألف شهيد وفرّ 300 الف مسلم إلى دول مجاورة، واحرق 300 ألف منزل و 600 مسجد و300 مدرسة ودمرّ 500 مسجد(4).
__________
(1) إسماعيل، محمد: المسلمون في الاتحاد السوفيايت، رابطة العالم الإسلامي –الحاشية- ص،(267).
(2) جريدة المدينة، السعودية، العدد (5902) السبت 9 شعبان ، سنة 1403هـ، ص(21).
(3) جريدة الشرق الأوسط، العدد (2230)، السبت 14 ربيع الثاني عام 1405هـ، 5/1/1985م، ص(2-5) وتذكر في عدد آخر أنه يوجد بالاتحاد السوفياتي بين 3,2 ملايين يهودي، وهناك خطّة إسرائيلية أمريكية روسية فرنسية لنقل اليهود الروس إلى فلسطين المحتلة ، تظهر في قمة جنيف بين غورباتشوف وريغان.
انظر: الشرق الأوسط العدد (2542)، الأربعاء 13/11/1985م، ص(2).
(4) البلاغ، العدد (771)، الأحد 23 ربيع الأول سنة 1405هـ، 16 ديسمبر 1984م، العدد 771، ص(16).(1/116)
... وقد ذكر الباقي أبو بكر أن الشهداء بلغوا 135 ألفاً من المدنيين وأن ماركوس اعترف بأنه قتل سنة 1980م 60 ألفاً من المسلمين(1).
... وأليست فرنسا هي التي استعمرت بلاد الشام، ولما دخل قائدها غورو إلى دمشق قَالَ وهو يدوس برجله على قبر صلاح الدين الأيوبي(2): « ها قد عدنا يا صلاح الدين » وهي التي دخلت الجزائر ، فحوّلت مساجدها إلى كنائس ، وأصدرت طابعات بريدية تصور الصليب عالياً والهلال ساقطاً، وهي التي سفكت دماء مليون مسلم اكتشفت مقابرهم الجماعية بعد خروجهم من معركة الجزائر التي أسموها معركة الهلال والصليب. وما زال هذا الحقد في أركانها.
... وأليست بريطانيا هي التي احتلت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى وأعطت فلسطين بالوعد أولاً وبتسليم فلسطين وإقامة دولة يهود عام 1948م ثانيا. ترى لم كان هذا الوعد والإعطاء؟
... يقول حاييم وايزمان: « إن من الأسباب الرئيسة للحصول على وعد بلفور لليهود من بريطانيا بإنشاء الوطن القومي اليهودي هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة »(3).
وأليست أمريكا راعية السلام ومن إليها تتجه الأنظار وتتعلق القلوب هي أُسُّ الداء وسبب البلاء الذي يشاركها فيه اليهود.
__________
(1) المجتمع ، الكويت، العدد 600، ص(31).
(2) صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ/1137-1193م) يوسف بن أيوب بن شاذي ، أبو المظفر الملقب بالملك الناصر من أشهر قادة الإسلام، ولد بتكريت . صدّ الفرنج في دمياط أ استولى على دمشق دون قتال ، واستولى على بعلبك وحمص وحماة، وانتصر على الفرنج في فلسطين، يوم حطين، توفي بدمشق . انظر: الزِّرِكْليّ: الأعلام، (8/220).(1/117)
... فمن الذي ألب الأحقاد وقَلَّب الأحزان وأثار النعرات القومية في الخلافة العثمانية، ومن الذي كان وراء هدم الأسرة وتفكيك الروابط المقدسة في المجتمعات حتى أضحت فئاماً ليس لها خطام ولا لجام ومن الذي قاد طلائع حركة الاستشراق حتى استشرى فسادها وعمّ إظلامها وظلمها غير هؤلاء الغَرْبيّين وسليلي القردة الأفّاكين.
... إنّ مؤتمرات تعقد ودراسات تعد وبحوثاً تجمع لغرض واحد وهو كيف يُقتل الوليد في مهده قبل أن يستوي عوده ويصبح فتى يافعاً ثمّ رجلاً قوياً يرد الكيد ويصدّ العدوان؟
... تقول اليهودية الصهيونية (مادلين أولبرايت ) في وشاية واضحة بالحركات الإسْلاميَّة: « إنّ إدارة الرئيس كلينتون تعتزم بذل ما بوسعها لدحر (الخطر الثلاثي) المتمثل في دول وتنظيمات إرهابية وشبكات متطرفين تمتاز بحرية الحركة » وقَالَت : « إنّ نوعاً جديداً من المواجهة يلوح بينما القرن الجديد يبدأ » (1).
__________
(1) صحيفة الحياة ، تاريخ 6/2/1999م.(1/118)
... ويقول ديفيد بن جوريون(1): « نحن لا نخشى خطراً في المنطقة سوى الإسلام » وبعده قَالَ ديّان في خطاب ألقاه أمام وفد من الأمريكيين اليهود في شهر يناير (كانون الثاني) 1979م : « إنّ على الولايات المتحدة والدول الغَرْبيّة أن تأخذ من أحداث إيران التي تمخضت عن اندلاع ثورة إسلامية بشكل لم يكن متوقعاً قط، وإنّ دول الغَرْب وعلى رأسها الولايات المتحدة عليها أن تعطي اهتماماً أكبر لإسرائيل باعتبارها خط الدفاع الأول عن الحَضَارَة الغَرْبيّة في وجه أعاصير الثورات الإسْلاميَّة التي بدأت في إيران والتي من الممكن أن تهب بشكل مفاجئ وسريع ومذهل في أي منطقة أخرى من العالم الإسلامي(2).
... أما شمعون بيريز الذي كان يمثل دائماً (الحمائم ) في الأحزاب اليهودية فقد قَالَ ها بصراحة: « إنّ البقاء مستحيل لندَّيْن لن يلتقيا ولن يتصالحا » وقَالَ : « إنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد »(3).
... وعبّر بوش الابن(4)
__________
(1) ديفيد بن جوريون: ولد في الربع الأخير في القرن التاسع عشر في مدينة بلونسك في بلوندة، هاجر إلى فلسطين عام 1906م ، من أساطين الصهيونية العالمية، ساهم في تأسيسي الهستدروت أي الاتحاد العام للعمال اليهود، كما ساهم في تأسيس دولة (إسرائيل) وأعلن عن قيامها ليلة الجمعة 14 أيار (مايو) 1948م وترأس حكومتها. انظر: هلسه: ديفيد بن جوريون، ص(11 و 15 و 19 و 86) بتصرف.
(2) كامل، عبد العزيز بن مصطفى: قبل الكارثة نذير، ونفير ، ص(53).
(3) كامل، عبد العزيز بن مصطفى: قبل الكارثة نذير، ونفير ، ص(53).
(4) جورج بوش (الابن): الرئيس الأمريكي (الحالي)، الذي سيّر حملته العالمية الإرهابية على العالم الإسلامي في أفغانستان وكشمير والفليبين والعراق وأطلق العنان لأحفاد القردة والخنازير أن يقتّلوا في أهل فلسطين.(1/119)
عن هوية حملته العسكرية على الإرهاب حين وصفها بالحرب الصليبية الجديدة ليعيد إلى الأذهان روح الصراع التاريخي المرير الذي عاشه الغَرْب مع الأمّة الإسْلاميَّة وذاق فيه مرارة الهزائم طوال مئات السنين ويُعلن أن هذه الروح لا زالت متأصلة في نفوس الساسة الغَرْبيّين وبالتحديد في علاقتهم مع الإسلام والمسلمين.
... وإذا كان الساسة الأمريكيون قد عبّروا بكل وضوح بعد ضربات الحادي عشر من أيلول عن تصورهم لطبيعة الصراع بينهم وبين العالم الإسلامي بعبارات مثل: « إنهم يحاربون القيم الأمريكية » أو « إنها حرب ضد طريقتنا في العيش » فإنّ الأمر لم يقتصر على الأمريكيين ، بل لحق بهم الساسة الأوروبيون ، بل ربما نافس بعضهم الأمريكيين كرئيس الحكومة البريطانية توني بلير(1) ، وكان من أوضح التعابير المحاضرة الشهيرة التي ألقاها رئيس الوزراء الإيطالي ( سلفيو برلسكوني ) التي تكلم فيها على غلبة الحَضَارَة الغَرْبيّة على الإسلام وتفوقها عليها بقيمها ومنظومتها الفِكْرية(2).
... إنه الغَرْب الرأسمالي أكبر مجرم في التاريخ إلى أبد الآبدين انتشرت فظائعه على نطاق عالمي في البوسنة والهرسك.
__________
(1) توني بلير: رئيس وزراء بريطانيا (الحالي) وشريك الرئيس الأمريكي في حملته الإرهابية على العالم الإسْلاميَّة .
(2) انظر: القصص ، أحمد: الإسلام والغَرْب وصراع الحضارات، ص(9-10).(1/120)
جاء في تقرير أعلن في 2/2/1993م للبعثة التي شكلها وزراء خارجية مجموع الدول الأوروبية الاثني عشرة ما يلي: «هناك ما لا يقل عن عشرين ألف امرأة أكثرهن من المسلمات اغتصبن في البوسنة والهرسك، أكثر من ألف منهن حملْنَ عنوة وما تزال عمليات الاغتصاب مستمرة»(1). «وتشير معلومات الحكومة البوسنية إلى أن الاغتصاب الجماعي طال حوالي 30 ألف امرأة وفتاة مسلمة، بينما تقارير وزارة الداخلية البوسنية بأن العدد يبلغ 50 ألف امرأة »(2).
« وصرح ياسين (يوكين مافيتش ) الناطق باسم المجاهدين البوسنيين للصحفيين في بيروت بأن 300 ألف قتيل قد سقطوا حتى الآن من المسلمين وأن عدد الجرحى 150 ألفاً، أما المهاجرين، فقد بلغ عددهم مليونين وهناك 60 ألف امرأة مغتصبة بينهن 12 ألف فتاة وهناك 700 مسجد مدمر »(3)
... هذا النِّظَام العالمي ونهجه ... ... قهر وزيف... كلّ ما فيه خَدَعْ
... إن النِّظَام العالمي مسخر ... ... دعم احتلال... فانظروا ماذا شرع
... تطوير أسلحة ليرهبَ شرقنا ... ... وفعاله مرضية مهما ابتلعْ
... قد حاربوا الإسلام دون هوادة ... ... فالمسلمون من التآمر في صدعْ
... نعتوه بالإرهاب وهو مكبل ... ... وفعال محتل تعلّل بالورعْ
... الظلم أطبق فالفظوا أوهامكم ... ... والنبع جفَّ... فما التأمل في التُّرَعْ(4)
...
__________
(1) انظر: العلي، بسام: المسلمون في البوسنة والهرسك، ص(161).
(2) انظر: زين الدين، فؤاد: مجلة العرفان، الاغتصاب الجماعي في البوسنة والهرسك ج(77)، العدد الأول سنة 1993م كانون الثاني شعبان 1413هـ دار الكتاب ، ص(123).
(3) . انظر: « مجلة الوعي العدد 69 السنة السادسة رجب 1413هـ الموافق كانون الثاني سنة 1993م ص(18).
(4) التُّرعة: من القناة الواسعة للسقي أو الملاحة ، المعجم الوسيط ، ص(84).(1/121)
... كما انتشرت فظائعه في لبنان ، ففي « خلال الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982م حشد ما يربو على العشرة آلاف شخص لبنانيين وفلسطينيين أكثرهم غير ذوي علاقة بمقاومة الاحتلال في معتقل أنصار في جنوب لبنان وهو معسكر شبيه بمعسكرات الاعتقَالات النازية خلال الحرب العالمية الثانية وارتكبت في هذا المعتقل الرهيب من الفظائع الوحشية ما قلّ نظيره في تاريخ الحروب»(1).
... كما انتشرت فظائعه في فلسطين حيث سالت دماء الفلسطينيين أمام مرأى العالم في كل بقاع العالم من مجازر الأبرياء في دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا وجنين وغيرها، ناهيك عن آلاف المعتقلين وملايين المبعدين والمهجرين الذي يعارض الأعراف الدولية ومواثيق حقوق الإنسان(2).
... وحسب إحصائيات « نادي الأسير الفلسطيني يقبع في سجون يهود 8000 أسيراً موزعين على 22 معتقلاً ومعسكراً ومركز توقيف من بين هذا العدد 1200 أسيراً إدارياً و73 امرأة ، و350 شاباً ، أقل من 18 عاماً ، و700 حالة مرضية أوضاعها سيئة ، ويعانون من الإهمال الطبي والاكتظاظ والازدحام وسياسة التفتيش العاري والجسدي للأسرى وعزل في أقسام انفرادية وتعذيب بوسائل محرمة وحرمان ذويهم من زيارتهم(3).
__________
(1) انظر: الغريب، محمد ميشال: حقوق الإنسان وحرياته الأَسَاسيَّة بدون طبقة وتاريخ ، ص(343).
وانظر: حسين، سعدون: 100 يوم في معتقل أنصار، ص(32033).
(2) انظر: هاليفي، إيلان: إسرائيل من الإرهاب إلى مجازر الدولة، ص(9-10-29-70-71).
(3) مجلة فلسطين المسلمة ، العدد 71، سنة 21 تموز 2003 جمادي الأولى ، 1424هـ.(1/122)
... وقد بلغت نسبة الأسرى إلى عدد السكان حوالي 20% أي سجين لكل بيت من أهل فلسطين. وتشير إحصائية نشرت عام 1993م أن عدد الأسرى بلغ بين عام 1967م ولغاية 1987م نحو 535 ألف أسير حكم حوالي ألف حالة بأحكام عالية وصل بعضها إلى السجن المؤبد، وبلغ عدد أسرى الانتفاضة منذ عام 1987م إلى عام 1992م ، 105725 وفي عام 1992م 6500(1).
... كل أؤلئك يذوقون من صنوف التنكيل والتعذيب، تشوى الأجسام الغضّة بالسياط شيئاً وتكوى الأعضاء بالنيران وأعقاب السجائر كيّاً ويعلق الرجال-وأحياناً النساء- من أرجلهم كما تعلق الذبائح، وكم أناس سقطوا شهداء أبراراً تحت أيدي قساة جبارين، لم يخشوا خالقاً ولم يرخموا مخلوقاً.
... وأضف إلى ذلك، كم من دماء معصومة قد سفكت، وكم من أعراض مصونة هتكت وكم من حرمات مقدسة قد انتهكت وكم من مساجد عريقة قد هُدمت أو حوّلت إلى خمّارات وخانات ، وكم من أموال نفيسة قد نهبت ، وبيوت عامرة خربت ، ومدن كالرملة ونابلس وغزة قد دمرت على أهلها ومخيمات كجنين قد سوّيت بالأرض قتل تحت أنقاضها من قتل وشرد من شرد من الشيب والشبان والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، وكم من أطفال برآء في عُمر الزهر، كمحمد الدرّة، وفارس عودة، وإيمان حجو، دون سنّ التمييز لا يعرفون ولا يعرف أحد من الناس عنهم شيئاً سوى أنهم قتلوا غدراً حتى الرّضع ساموهم عذاباً.
... لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... ... إن كان في القلب إسلام وإيمان
...
__________
(1) مجلة فلسطين المسلمة ، العدد 71، سنة 21 تموز 2003 جمادي الأولى ، 1424هـ.(1/123)
... لقد قهر أهل فلسطين أمام جبروت الطاغوت الغَرْبيّ الذي شرّع العداء، والطاغوت اليهودي الذي نفذ بأداة الغَرْب الكافر الذي أعلن اتحاده المسمى ( الاتحاد الأوروبي ) قراراً في 6/9/2003م يفرض الحضر والمنع على حركة حماس الإسْلاميَّة الجهادية في فلسطين واعتبارها مع حركة الجهاد الإسلامي، حركتين إرهابيتين محظورتين على الصعيد الداخلي والخارجي. في مقابل إطلاق العنان لليد اليهودية أن تعيث الفساد بين العباد، وأن تغتال قادة الجهاد، أمثال فتحي الشقاقي والمهندس يحيى عيّاش و المهندس إسماعيل حسن أبو شنب، وغيرهم.
... كما انتشرت فظائعه وعمّت جرائمه في كشمير وإليك هذه الإحصائية(1):
... السنة ... ... ... العدد ... ... ... الحالة
... حتى 1989م ... ... ... 25000 ... شهيداً سقطوا رمياً بالرصاص
... 1990-1998م ... ... ... 63275 ... شهيداً سقطوا رمياً بالرصاص
... منهم ... ... ... ... 775 ... ... شهيداً من السياسيين والعلماء
... منهم ... ... ... ... 3370 ... ... وأئمة المساجد تمّ تعذيبهم حتى
... منهم ... ... ... ... 8161 ... ... الموت في السجون.
... كما انتشرت فظائعه في أفغانستان حيث أحرقوا الحجر والوبر بقذائف سموها أم القنابل تفني ولا تذر. وفوق كل ذلك قامت الطائرات الأمريكية بإسقاط منشورات من الجو تصوّر زعيم طالبان الملا عمر(2)
__________
(1) أذاعته هيئة إغاثة مسلمي كشمير من إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة وأكده تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في 6/2/1999م. انظر مجلة الوعي، البيروتية ، عدد 179، السنة 16 ذو الحجة ، 1422هـ آذار 2002م.
(2) الملا عمر: زعيم حركة طالبان السنيّة الإسْلاميَّة في أفغانستان، جاهد الروس والأمريكان، استلم الحكم ست سنوات بمساندة الشيخ أسامة بن لادن قبل احتلال أمريكا لأفغانستان وما زال مختفياً عن الأنظار.(1/124)
على هيئة كلب يجره الشيخ أسامة بن لادن(1) من رسنه ، إضافة إلى عرض جائزة قدرها 25 مليون دولار لمن يلقي القبض على ابن لادن(2).
... كما انتشرت فظائعه في بلاد الرافدين وموطن العلماء والنجباء على أرض العراق ، فجلبت الأساطيل المدمرة ومئات الألوف من المقاتلين والمقاتلات بهدف الاستيلاء على الثروة النفطية في المنطقة العربية. ومن قبل أذكوا الحرب العراقية الإيرانية واستمرارها لمدة ثماني سنوات ، يقول صدام حسين (الرئيس العراقي السابق) : « إنّ دوائر الغَرْب عملت على عدم إيقاف الحرب العراقية الإيرانية واستمرارها لمدة ثماني سنوات »(3) . فمثل هؤلاء : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ } (4)
... أضف إلى ذلك، ما لقيه ويلقاه العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً من هجمة شرسة على أوطانه ومقدساته وما يشن من حرب لا تخبو نارها علنية حيناً وخفية أحياناً، حرب اتفق عليها كل القوى غير المسلمة: يهودية وصليبية ووثنية حتى إنّها لتختلف فيما بينها كل الاختلاف ثمّ نراها تتفق كل الاتفاق إذا هبت ريح الإسلام في صورة دعوة أو حركة أو دولة، وصدق الله إذ يقول: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (5).
__________
(1) الشيخ أسامة بن لادن، أمير تنظيم القاعدة، غايته تحقيق المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - و عقيدته عقيدة السلف الصالح، وهدفه إقامة خلافة على نهج النبوّة ، وطريقه الدعوة والجهاد من خلال جماعة تصف نفسها بأنها منضبطة بالشَّرْع الحنيف تأبى المداهنة أو الركون.
(2) الوعي البيروتية، عدد 179.
(3) الشرق، القطرية، تاريخ 3/4/1990م.
(4) الحشر / 16.
(5) الأنفال / 73.(1/125)
... إنّ أنباء الصباح والظهيرة والمساء تحمل إلى المسلم الغيور كل يوم عن إخوانه في فلسطين أو في لبنان أو في أفغانستان أو في كشمير أو العراق أو الفلبين أو أرتيريا أو الصومال أو الهند أو غيرها من البلاد التي يعيش فيها المسلمون أقلية مضطهدة أو أكثرية مقهورة ما يزلزل قلبه زلزالاً شديداً وما يعصر قلبه من الألم عصراً وما يكوي كبده من الأسى والحسرة كيّ النار أو هو أشد إيلاماً.
... وليس معقولاً أن يطلق العنان للمنظمات (النصرانية الصهيونية) بدعم مشروعات إسرائيل كالسفارة المسيحية الدولية في القدس التي يتبع لها خمس عشرة قنصلية في الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بأنواع متباينة من الأنشطة الفعالة لصالح إسرائيل ويشاركها في هذا الدعم العشرات من المنظمات النصرانية، التي ما زالت تلتزم بنتائج الاتفاق الذي عقد في مدينة بال سويسرا تحت اسم « المؤتمر الدولي للقيادات المسيحية الصهيونية المؤيدة لإسرائيل » في آب من عام 1985م ومن هذه القرارات يجب على الدول كافة الاعتراف بإسرائيل وأن (يهودا والسامرة) تتبعان إسرائيل وأن تنقل سفارتها إلى إسرائيل وعدم تسليح أعداء إسرائيل وعدم إيواء الإرهابيين وتوطين المهاجرين اليهود في إسرائيل والتزام الدعم المالي لإسرائيل وإنشاء صندوق استثمار دولي لإعانتها(1).
__________
(1) انظر حول ذلك:
... - كامل، عبد العزيز بن مصطفى، قبل الكارثة نذير ونفير، ص(249-250).
... - لي ، أوبرين: المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطات في دعم إسرائيل، ص(279).
... - مجلة المنبر اليهودي ، بتاريخ 12/9/1985م، نقلاً عن الخليفة التوراتية للموقف الأمريكي، (159).(1/126)
... فليس معقولاً أن يطلق العنان لمثل هذه المنظمات بأن تدعم إسرائيل اقتصادياً وفكرياً ويفرض الحظر على الإسلام وحده وهو صاحب الدار وتوضع الكمائم على أفواه دعاته وحدهم وهم المعبرون عن سواد المسلمين وعن عقائد الأمّة وقيمتها ويحظر نقل أموال الزكاة إلى المجاهدين بحجة دعم الإرهاب والإرهابيين.
... أحرام على بلاله الدوح ... ... حلال للطير من كل جنس؟
... كل دار أحق بالأهل إلا ... ... في خبيث من المذاهب رجس
... نعم، إن المفكر المسلم الفرنسي جارودي اختصر الكلمات وأوجز التعبيرات بعبارة قليلة المفردات ، هي أن الغَرْب أكبرُ مجرم في التاريخ إلى أبد الآبدين.
... ولله درّ القائل:
... ...
قَالَوا لنا: الغَرْب، قلت صناعة ... وسياحة و مظاهر تغوينا
لكنه خاوٍ من الإيمان ... لا يرعى ضعيفاً أو يسرّ حزينا
الغَرْب مقبرة العَدالَة كلّما ... رفعت يدٌ أبدى لها السكينا
الغَرْب مقبرة المبادئ لم يزل ... يرمي بسهم المغريات الدينا
الغَرْب يكفر بالسلام وإنّما ... بسلاحه الموهوم يستهوينا
الغَرْب يحمل خنجراً ورصاصة ... فعلام يحمل قومنا الزيتونا
كفر وإسلام فأنى يلتقي ... هذا بذلك أيّها اللاهونا
يا مجلس الخوف إلى متى ... تبقى لتجّار الحروب رهينا
إلى متى ترضى بسلب حقوقنا ... منّا وتطلبنا ولا تعطينا
لعبت بك الدّول الكبار ... فصرت في ميدانهن اللاعق الميمونا
يا مجلساً غدا في جسم عالمنا ... مرضاً خفياً يشبه الطاعونا
شكراً لقد أبرزت وجه حضارة ... غربيّة ... لبست القناع سنينا
لقد نبهت غافل قومنا ... وجعلت شكّ الواهنين يقينا
يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا ... سيريك ميزان الهدى ويرينا
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه ... ولكن ألوم المسلمَ المفتونا
وألوم فينا نخوةً لم تنتفض ... إلاّ لتضربنا على أيدينا(1/127)
... إنهم ولاة الديار للعالم الإسلامي خير معينٍ لهذا المجرم إذا تصفحت في الأوطان سيرتهم يُغنيك مختصر عنها ومقتضب إنّهم عبّاد آلهةٍ في قدسها سجدوا بغيتهم المال والجاه والألقاب والرّتَب، طريقتهم صمتٌ ونذالة وفزعُ هانوا على أنفسهم فاستعبدوا ولله درّ القائل :
لا يُلامُ الذئبُ في عدوانهِ ... إنْ يَكُ الرّاعي عَدوّ الغنمِ
...
... إن القوانين التي يحتكم إليها الناس ضمن إطار محدد للحقوق والواجبات على نحوين: قوانين تضعها الجماعة لنفسها وتختارها لتسير على ضوئها وتتعامل بحسابها وتسمى القوانين الوضعيّة، وقوانين يضعها الله عزّ وجلّ لعباده، وشرعها لخلقه على لسان رسول منه إليهم من أنفسهم يدعوهم إلى الخير ويرشدهم إلى السعادة الحقيقية وتسمى تشريعاً سماوياً أو إلهياً.
... وإن التشريع الوضعي لما كان من سن حكام الجماعة وهم بشر، فلا بدّ من أن يتأثر بخصائص ثقافاتهم وتعليمهم وبالبيئة وبأعرافها وبالعوامل الطبيعية من زمان ومكان ومناخ، فيكون غير صالح للتطبيق في بيئة أخرى لها عوامل مختلفة أو تقَاليد.
... وإنّ المشرّع الوضعي مخلوق محدود التفكير إذ إنّه لا يستطيع تكهن مستجدات الظروف ولا يستطيع أن يضمن السلامة الدائمة بالصلاحية التامة لكل زمان وهذا يلجئ الحكام إلى التبديل دائماً فيما يسنون من قوانين، فهي دوماً تفتقر إلى الترقيع والتكميل.
... أما التشريع السماوي فهو تشريع وضعه للناس ربّ العالمين وهو سبحانه محيط بكل وأدق شؤون عباده لا تخفى عليه خافية.(1/128)
... فالقانون السماوي ليس عرضة للتبديل وليس ناقصاً حتى يحتاج إلى التكميل، بل هو أصول وقواعد في كلّ شؤون الحياة العامة وفيه بعض الفروع والجزئيات التي يتاح الاجتهاد فيها لفقهاء المسلمين حسب الأصول المقررة كما يجعل الاجتهاد الباب مفتوحاً لحل مستجدات المسائل بمقتضى دور الزمن وتطور الحياة وهكذا يصح أن توصف الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة بالمرونة باستيعاب تطور الحياة والصلاحية لكل زمان ومكان وبأحكام ثابتة راسخة.
« فللقانون الإسلامي هدف واضح وغاية إليها ينتهي الإنسان في الحياة هي تعبيده لخالقه وتحريره من كل عبودية أخرى وهو أيضاً يكرس في نفس الإنسان أَنّ جزاءً أُخروياً عادلاً يترتب على أفعاله في الحياة على غير ما عليه القانون الوضعي، فإنّ الفرد لا يشعر في ظلّه بغير أنه مقيّد بقيود السلطة التي لا غاية محددة لها مما يدفع الإنسان إلى العمل على القفز فوق هذه القوانين ومقاومتها لإسقاطها فالإنسان في ظلّ هذه القوانين يظل يعاني محنة الضياع وغموض الهدف في الحياة ولا يجد معنى للالتزام بالقانون، لأن القانون الوضعي لا يستطيع السير مع غايات النفس، فلذلك كان الإنسان الواقع في دائرة هذا القانون إنساناً لا يحترم القانون ولا يقدس إرادته، بل يتحين الفرص للتخلص منه كلما غفلت عنه الرقابة والسلطة أو أحسّ بتفاهة القانون وضياع المعنى في الطاعة»(1).
... ويدعم هذه الحقيقة ما تشير إليه دوائر الإحصاء المختصة بمتابعة الجريمة وحوادث الجنوح والخروج على القانون، فهي تؤكد تزايد الجرائم والحوادث والمخالفات. وتسجل مع مرور الأعوام نسباً تصاعديّة تُعبِّر عن فشل الأنظمة الوضعية وعجزها عن استيعاب مشكلات الإنسان، وكسب طاعته واحترامه.
__________
(1) الفقيه، محمد جواد: الإنسان والدين، ص(161-163).(1/129)
... بعكس القانون الإسلامي، فإنه يشجع الإنسان على التطبيق والدفاع عن إرادة التشريع وأهداف الشَّرِيعَة، لأن الفرد في ظلّ القانون الإسلامي يشعر بحماية القانون لمصالح الإنسان ورعايته لأهدافه وغاياته في دنياه وآخرته ومن هذا المنطلق يجئ سفور الإنسان المؤمن بمسؤوليته أمام خالقه عن تطبيق القانون وتنفيذ مقرراته.
... ومن هذا المنطلق الفِكْري والعقدي صار القانون الإسلامي يملك القوة الروحية التي تربي على صلة الأمور بخالقها كما يملك الدافع الأخلاقي الذي يساعد على تطبيق القانون وإنجاح أهدافه في الحياة أكثر من اعتماده على القوة والسلطة في ذلك.
... هذا هو الفارق بين شرعة الله وشرعة الإنسان، ولا ريب أن شرعة الله أقدر على رعاية شؤون الإنسان وما التشريعات البشرية إلا تخرّصات لا تسمن ولا تغني في محاربة الجريمة ومنع الإجرام، بل أن التشريعات القانونية التي تقرر عقوبة الحبس يزداد في ظلها الإجرام عاماً بعد عام زيادة تستدعي النظر وتبعث على التفكير الطويل.
نشرت صحيفة أخبار اليوم القاهرية إحصائية تحت عنوان « الأرقام تتكلم » جاء فيها :
« تقول أرقام مكتب التحقيقات الفيدرالي أن جرائم العنف زادت في العام الماضي بنسبة 11% بالقياس إلى عام 1979م ومنذ عام 1960م حتى العام الماضي تضاعفت هذا النوع من الجرائم أربع مرّات كما هو في الإحصائية التالية:
... ... ... ... ... ... ... ... ... (1)
السنة
جرائم القتل ... 9000 ... 23000
اغتصاب ... 17000 ... 82000
السَّرِقَة ... 108000 ... 500000
هجوم ... 54000 ... 650000
... وجاء في إحصائية نشرها مركز التحقيقات الفيدرالي: « أن جريمة سرقة ترتكب كل 26 ثانية، وتسرق سيارة كل دقيقتين، وتغتصب امرأة أو فتاة كل نصف ساعة، وترتكب جريمة قتل كل 24 دقيقة.
__________
(1) القاضي، علي: في الغَرْب يسألون كيف نوقف الجريمة والإسلام يجيب، مقَال في مجلة الوعي، بيروت العدد 230، ص(97).(1/130)
... وقد تغيرت هذه النسبة مع ازدياد عدد الجرائم فأصبحت جريمة قتل كل 23 دقيقة، واغتصاب كل ست دقائق وسرقة بالعنف كل 58 ثانية وسرقة بدون عنف كل أربع ثوانٍ، وسرقة بالسلاح كل ثماني ثوانٍ، وسرقة سيارة كل 28 ثانية »(1).
...
... وهناك تقرير آخر يوضّح أن معدل الجرائم الخطيرة في كلّ (100,000) ارتفع بشكل حاد منذ 1960م إلى غاية 1987م إلى 400 درجة وعلى كل حال أن علماء الجريمة والشرطة والسلطة وجدوا صعوبة في تحديد الزيادة الحقيقية التي حدثت وبالنظر في تقارير الجرائم، نجد أنه سجل في عام 1960م حوالي 3,33 مليون جريمة خطيرة، وفي عام 1987م حوالي 13،5 مليون جريمة خطيرة (2).
كما أحصت أجهزة الأمن الفيدرالية 16 ألف جريمة قتل بأسلحة نارية في العام 1992م وازداد بين العام 1987 و 1992م عدد الجرائم المرتكبة بأسلحة نارية بمعدل 55 %(3).
... وإذا ما ولينا شطر وجوهنا إلى البلدان الإسْلاميَّة والأقطار التي تطبق جزءاً من النِّظَام الاجتماعي أو نظام العقوبات الإسلامي نجد الفارق الواضح وضوح الشمس رابعة النهار. فكيف لو طبقت أنظمة الإسلام وبإخلاص(4).
__________
(1) أخبار الولايات المتحدة وتقرير العالم، 1994م، ص(24-849).
(2) أخبار الولايات المتحدة وتقرير العالم، 1994م، ص(1130-1137) بتصرف.
(3) جريدة الأنوار، بيروت بتاريخ 1/3/94.
(4) نقول بإخلاص لأن الغاية من تطبيق أجزاء من الشريعة الإسلامية هو استغلال الدين والمشاعر الدينيّة لمصلحة النِّظَام الحاكم. فعلى سبيل المثال عندما إدعى الرئيس السوداني جعفر النميري والباكستاني ضياء الحق تطبيق الحدود الشرعية من خلال قطع يد السارق لم يكن القصد إلاّ التهرّب من الانهيار العام لنظام كلّ منهما وهكذا يتم استغلال الإسلام.(1/131)
... وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في الحجاز، فقد كانت في يوم ما مضرب المثل في اختلال الأمن والنِّظَام وتناحر القبائل وترويع الآمنين والحجاج المسافرين وقطع الطريق عليهم لسلب مالهم ومتاعهم، فلما وجدت العقوبة الرادعة من قبل السلطات الحاكمة في المملكة السعودية وطّدت الأمن وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال.
بل نستطيع أن نقول حيثما يوجد الإيمان وتطبيق شريعة الإسلام فإنّ الجريمة تقل حدتها. وقد أعدت هيئة الأمم المتحدة إحصائية عن معدل الجريمة في بلاد تُطبق جزءاً من الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة بالمقارنة في البلاد الغَرْبيّة وهذه إحصائية رسمية ترينا الفرق الهائل بين بلدان تُطبق الحدود الإسْلاميَّة أو شيئاً من تلك الحدود الإسلامية وبين بلدان غربية تحتكم إلى القوانين الوضعية من ملاحظة أن هناك جرائم في التشريع الإسلامي لا تعتبرها التشريعات الوضعية جرائم كالخمر والزِّنَا عن تراضٍ.
... وقد أذيعت هذه الإحصائية في مؤتمر وزارة العدل الذي عقد في القاهرة عام 1979م، تقول إحصائية المنظمة الدولية أنه من بين كل مليون نسمة يرتكب الجريمة في:
... ... ... ... ... ... ... ... (1)
البلد ... عدد مرتكبي الجرائم
السعودية ... 32
فرنسا ... 32000
كندا ... 75000
فنلندا ... 63000
ألمانيا الغَرْبيّة ... 42000
ومن يتأمل هذه الإحصائية يدرك إلى أي مدى كانت الحدود الإسْلاميَّة هي هبة الله إلى البشرية الضالة التي تريد أن تتمتع بالأمن والاستقرار ولكنها أخطأت الطريق.
... فالأمر يرتبط بمدى تطبيق نظام العقوبات الإسلامي لذلك يلاحظ في البلدان العربية التي لا تُطبّق شيئاً من الحدود الإسْلاميَّة ازدياداً دائماً في عدد الجرائم وإن كانت في إطار الجرائم الفردية، فقد أشارت الدراسات العربية إلى إحصائية تفيد عن حالات الاغتصاب عام 1972:
__________
(1) القاضي، علي: في الغَرْب يسألون كيف نوقف الجريمة والإسلام يجيب ، مقَال في مجلة الوعي، بيروت العدد 230،ص(102).(1/132)
... ... ... ... ... ... ... ... ... (1)
الدولة ... العدد ... نسبة الزيادة بعد أربع سنوات
الكوبت ... 320 ... 49 %
الجزائر ... 190 ... 54 %
تونس ... 2180 ... 83 %
السودان ... 865 ... 23 %
... فإلى العالم الحائر الذي يريد أن يعيش في ظلال الأمن والاستقرار أهدي هذه الكلمات علّه ينظر بعين العدل والإنصاف إلى الحدود الإسْلاميَّة، فيكف عن مهاجمتها ويحاول أن يستفيد بها في حلّ مشكلاته المتزايدة والله الذي حددها هو الله الذي خلق البشر والذي يعلم السر وأخفى، والذي يحيط علمه بكل شئ وهو أدرى بما يصلح عباده الذين خلقهم وكرّمهم وفضّلهم على سائر مخلوقاته ليحققوا خلافته في عمارة الأرض ونشر العَدالَة والأمن فيها.
__________
(1) القاضي، علي: العقوبات في الإسلام هدفها حماية مقومات الوجود الإنساني ، مقَال في مجلة الوعي، العدد 207، الكويت ، يناير 1982م ، ص(95).(1/133)