العدالة في نظام الحكم
في الاسلام
تأليف
الدكتور محمد عبد الغني
الموضوع ... الصفحة
???الفصل السادس : العدالة في نظام الحكم في الإسلام ... 535
المبحث الأول : إنّ الحكم إلا لله ... 536
المبحث الثاني : العدل من الحكام ... 542
- عدالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 545
- عدالة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ... 546
- صفات الإمام العادل ... 548
المبحث الثالث : الطاعة من المحكومين ... 550
المبحث الرابع : المشورة بين الحكام والمحكومين ... 560
- لا شرعية بدون شورى شرعية ... 563
- لا شرعية للحاكم إلا بالاختيار ... 564
المبحث الخامس : حق الأفراد في إبداء الرأي ... 568
- ضوابط وحدود إبداء الرأي في الإسلام
- حريّة الرأي في الفكر الغربي
المبحث السادس : المعارضة السياسية مقارنة بالمحاسبة الشرعية ... 575
المبحث السابع : لا إكراه في الدين ... 580
... واستقرار هذه الحقيقة، حقيقة أن الحكم لله وحده في نفس المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه فلا يلتفت يمنة أو يسرة باحثاً عن الأحكام والحلول والمعالجات ويسكب في نفسه الطمأنينة إلى طريقة ويعتقد جازماً أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه، فهو بمقدار يقينه بصدق توجهه، متيقن بفساد التوجيهات الأخرى وعدم صلاحية المعالجات والآراء المغايرة لما هو عليه من صدق ويقين.(1/1)
... وبذلك تكون المرجعية الوحيدة هي الشَّرْع ولا شيء سوى الشَّرْع من عقل أو دساتير وقوانين وضعية أو مواثيق إقليمية أو دولية، والسيادة للشرع وليست للشعب والأحكام تصدر باسم الله وليس باسم الحاكم أو الشعب، وهكذا تقوم شرعة الحكم في الإسلام على أساس شهادة أن لا إله إلا الله، انطلاقاً من قول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } (1) وقوله : { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } (2) وما على المسلم إلا أن يخضع لحكم الله تعالى ، لقوله عزّ وجلّ: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (3). ومن هنا فالحاكمية لله تعالى لا شريك له وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، والحاكم المسلم يختاره المسلمون ليطبق عليهم حكم الله تعالى ولا يتعداه.
قَالَ الإمام الغَزَالي: « وفي البحث عن الحاكم يتبين أنه لا حاكم إلا الله ولا حكم للرسول ولا للسَيِّد على العبد ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه ولا حكم غيره... وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا آمر إلا له ، أما النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - والسلطان والسَيِّد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى كان للموجب عليه أن تغلب عليه الإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى-وطاعة من أوجب الله طاعته »(4).
__________
(1) الأنعام / 57.
(2) الكهف / 26.
(3) النور / 51.
(4) الغَزَالي، حجة الإسلام: المستصفى (1/8 و 83).(1/2)
... قَالَ أبو زهرة: « وهذا التعريف يومئ لا محالة إلى أن الحاكم في الفقه الإسلامي هو الله سبحانه وتعالى، إذ إنّ هذه الشَّرِيعَة قانون ديني يرجع في أصله إلى وحي السماء ، فالحاكم فيه هو الله وكل طرائق التعريف بالأحكام فيه إنما هي مناهج لمعرفة حكم الله تعالى وأحكام دينه السماوي-على هذا اتفق جمهور المسلمين بل أجمع المسلمون... فإن الإجماع قد انعقد على أن الحاكم في الإسلام هو الله تعالى، وأنه لا شرع إلا من الله وقد صرح بذلك القرآن الكريم فقَالَ تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } (1) وقَالَ تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (2) »(3).
... وقَالَ فرج السنهوري: « لا حاكم إلا الله ولا حكم إلا ما حكم به على هذا اتفقت كلمة المسلمين حتى الذين قَالوا للأفعال حسناً وقبحاً عقليين أي يدركهما العقل إذ إنّهم لم يذهبوا إلى أكثر من اتخاذ الوصفين أساساً لحكم الله تعالى يصدر على موقفها ، فالعقل لا دخل له في إنشاء الأحكام وإصدارها وإن كان هو شرط التكليف وله أعظم الأثر في فهم الشَّرْع »(4).
__________
(1) الأنعام / 57.
(2) المائدة / 49.
(3) أبو زهر، الشيخ محمد: أصول الفقه ن ص(63).
(4) السنهوري، فرج: في تاريخ الفقه ، ص(40).(1/3)
... وقَالَ تقيّ الدِّين النَّبَهَانِيّ: « فإن الحكم على الأشياء من حيث الحل والحرمة وعلى أفعال العباد من حيث كونها واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً وعلى الأمور والعقود من حيث كونها أسباباً أو شروطاً أو موانع أو صَحِيْحة وباطلة وفاسدة أو عزيمة ورخصة كل ذلك ليس من قبيل ملاءمتها للطبع أو عدم ملاءمتها ولا هو من قبيل واقعها ما هو، وإنما من قبيل ترتب المدح والذّم عليها في الدنيا والثواب والعقاب عليها في الآخرة. ولذلك كان الحكم في شأنها للشرع وحده وليس للعقل، فيكون الحاكم حقيقة على الأفعال وعلى الأشياء المتعلقة بها وعلى الأمور والعقود إنما هو الشَّرْع وحده ولا حكم للعقل في ذلك مطلقاً(1) ».
... وقَالَ الدكتور صلاح صاوي: « لا منازعة في أن الحاكمية العليا والسيادة المطلقة في الإسلام لا تكون إلا للشرع لا غير، فهو وحده الحجة القاطعة والحكم الأعلى وعلى الناس كافة أن يخضعوا له حكاماً ومحكومين، والخليفة وآحاد الأمة في ذلك سواء، وقد دلّت على ذلك محكمات الأدلة وانعقد عليه إجماع الأمة في مختلف الأعصار والأمصار »(2).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (3/12).
(2) صاوي، د. صلاح: تحكيم الشَّرِيعَة ودعوى العَلْمانية، ص(139).(1/4)
... « ومتى تقرر أن الألوهية لله وحده بهذه الشَّهادَة -لا إله إلا الله-تقرر بها أن الحاكيمة في حياة البشر لله وحده والله سبحانه وتعالى يتولى الحاكمية في حياة البشر عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقدره من جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم، وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر، وفي النِّظَام الإسلامي لا يشارك الله سبحانه أحد لا في مشيئته وقدره، ولا في منهجه وشريعته... وإلا فهو الشرك أو الكفر، وبناء على هذه القاعدة لا يمكن أن يقوم البشر بوضع أنظمة الحكم وشرائعه وقوانينه من عند أنفسهم لأن هذا معناه رفض أُلوهيّة الله وادعاء خصائص الألوهية في الوقت ذاته...وهذا هو الكفر الصراح»(1).
... وفي هذه القاعدة الأصيلة يختلف نظام الحكم الإسلامي في أساسه عن كل الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية(2) .
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام ، ص(104).
(2) انظر حول هذا الموضوع: آل الشيخ، محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف (1389هـ) تحكيم القوانين ومعه رسالة للشيخ، ابن باز في وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.(1/5)
... حيث تكون السيادة في الحكم الإسلامي للشرع والسلطان للأمة، بينما النِّظَام الديمقراطي تكون السيادة للأمة، والأمة مصدر السلطات، ذلك أن أوروبا كان يحكمها ملوك، وكانت تتحكم فيها نظرية الحق الإلهي، وهي أن للملكِ حقاً إلهياً على الشعب، فالملك بيده التشريع والسلطات والقضاء، والشعب هو رعية الملك فلا حق له، لا في التشريع ولا في السلطة ، ولا في القضاء، والناس بنظر الملك عبيد لا رأي لهم ولا إرادة ، وإنما عليهم التنفيذ والطاعة، وقد استبد هؤلاء الملوك بالشعوب أيما استبداد، فضجّ الناس في كل مكان وقامت الثورات، وبهذه الأثناء برزت نظريات متعددة من المُفَكِّرين للقضاء على فكرة الحق الإلهي وكان من أهمها نظريتان « السيادة للأمة والأمة مصدر السلطات »(1).
... أما نظرية السيادة فقد قَالوا: « إنّ الفرد يملك الإرادة ويملك التنفيذ، فإذا سلبت إرادته وصار تسييرُها بيد غيره كان عبداً، وإذا سيَّرَ إرادته بنفسه كان سَيِّداً، والشعب يجب أن يسير إرادته بنفسه لأنه ليس عبداً للملك بل هو حر، وما دام الشعب هو السَيِّد ولا سيادة لأحد عليه، فهو الذي يملك التشريع والتنفيذ.
وشبّت نيران التحرير في أوروبا وأزيل الملوك وزال معهم الحق الإلهي ووضعت نظرية «السيادة للأمة» موضع التطبيق، وصار الشعب هو الذي يشرع من خلال ما يُسمى بالمجالس النيابية.
__________
(1) انظر حول هذه المسألة:
- ... النبهان، محمد فاروق: نظام الحكم في الإسلام، ص(29).
- ... الزين، سميح عاطف: لمن الحكم؟ لله أم للإنسان-للشرع أم للعقل، ص(174).(1/6)
... والسيادة تعني تسيير الإرادة وتنفيذها إلا أن الشعب إذا استطاع أن يباشر السيادة بإيجاد وكلاء عنه لمباشرة التشريع، فإنه لا يستطيع أن يباشر السلطة بنفسه ولذلك لا بدّ أن ينيب عنه من يباشر السلطة، فأوكل أمر التنفيذ لغير الشعب على أن يقوم الشعب بإنابته عنه، فوجدت من ذلك نظرية: الأمة مصدر السلطات أي أنها هي التي تنيب عنها من يتولى السلطة منها، أي من يتولى التنفيذ والفرق بين السيادة والسلطة، هو أن السيادة تشمل الإرادة والتنفيذ بخلاف السلطة ، فإنها خاصة بالتنفيذ ولا تشمل الإرادة. وهذا الواقع للأمة في الغَرْب يخالف واقع الأمة الإسْلاميَّة.
المبحث الثاني
العدل من الحكام
... الإنسان لا بدّ أن يعيش في مجتمع، ولا بدّ لهذا المجتمع من سلطة آمره، أو حاكم يدبر شؤونه ويسيّر أموره، لكن المفكرين، وإن اتفقوا حول ضرورة وجود هذا الحاكم، إلا أنهم قد اختلفوا حول صفاته والتزاماته ولم يهتدوا إلى الصورة الكاملة التي نبّه إليها القرآن في هاتين الناحيتين. ...
... لقد خصّ القرآن الحاكم بصفات، وفرض عليه أموراً تجعل منه أباً رحيماً وأخاً عطوفاً وابناً باراً يحنو على الضعيف، ويعين المحتاج ويغيث الملهوف، ويجيب المضطر، ويقيم العدل بين الناس كافة.
... قَالَ الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } (1) وقَالَ تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (2) . « وأولى الأقوال بالصواب في معنى الآية قول من قَالَ هو خطاب من الله إلى ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره في فيئهم وحقوقهم أو ما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية والقسم بينهم بالسوية» (3)
__________
(1) النحل / 90.
(2) النساء / 58.
(3) بلحاج، علي: فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام، ص(136).(1/7)
... قَالَ القرطبي : « فالله سبحانه وتعالى يأمر الحكام بإقامة العدل بين الناس في أحكامهم حتى لا تضيع الحقوق، وتنتفي الأمانة »(1).
... وقَالَ : « الأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال وردّ الظلمات، والعدل في الحكومات... وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحري في الشهادات وغير ذلك كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه »(2).
... قَالَ البيضاوي: « وهو خطاب يعم المكلفين ولأن الحكم وظيفة الولاة -قيل الخطاب لهم- أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من يُنفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم »(3) .
... قَالَ الرَّازي : « أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل وقد أوجب الله العدل على جميع الخلق حتى الأنبياء.قَالَ تعالى: { يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (4) »(5).
فعلى الحاكم أو القاضي أن يُشيع العدل والحق بين الرعية، ولا يؤثر عليها الجور والمحاباة والأهواء وحظوظ النفس، قَالَ تعالى: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (6)، أي:لا يحملنكم بعض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل إنسان صديقاً كان أو عدواً (7).
__________
(1) القرطبي، أبو عبد الله: الجامع لأحكام القرآن (5/258).
(2) القرطبي أبو عبد الله: الجامع لأحكام القرآن، (5/256).
(3) البيضاوي، تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل ... وأسرار التأويل (1/115).
(4) ص / 26.
(5) الرَّازي : التفسير الكبير المسمى بـ « مفاتيح الغيب » (1/319).
(6) المائدة / 8.
(7) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (2/30).(1/8)
... ويحذر المولى عزّ وجلّ النفوس الضعيفة التي تطبق ميزان العدل وتشهد بالحق على الآخرين، أما إذا كانت القضية تمس هؤلاء الأشخاص أو أقاربهم فسرعان ما يميلون عن العدل، ويزيغون عن الحق، قَالَ تعالى: { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } (1) وقَالَ تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (2).
... هذا الأمر يعلمنا بأن الميل « في العدل، بسبب الغضب أو عاطفة القرابة، أو بسبب الخشية من إنسان ما، أو التودد إلى ضعيف يجب أن يبعد تماماً من دائرة العدل عند مباشرته. وصمام الأمان في إبعاده تذكر الله، واستحضار جلاله في القوامه على الناس والحكم فيما بينهم. وإذا كانت هذه هي صورة العدل المطلوب في سياسية الإسلام حسبما جاء في كتاب الله، فإن آثار العدل ومباشرته في الحكم على نحو هذه الصورة توفر حتماً: صيانة الأعراض من الاعتداء عليها وصيانة النفوس من الاضطهاد والتعذيب ومن تتبع الخصوصيات لها ومراقبتها، وعدم التفرقة في فرص المعيشة وتولي الوظائف العامة »(3).
... فعلى الحاكم الاجتهاد في إقامة العدل والاستقامة وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، فيكون حكمه وشهادته لوجه الله، دون تحيز أو محاباة ولو كان في ذلك الحكم وتلك الشَّهادَة مس به شخصياً، أو إلحاق أذى أو مضرّة بوالديه أو بأقاربه وأنسبائه ذلك أن صلة البر لا تكون بكتمان الحق ولا بإعانة هؤلاء على ما ليس لهم بحق، فالحق أحق بالإتباع وهو الحاكم على كل إنسان.
... والعدل الذي دعا إليه القرآن عدل مطلق، لا يقيده قيد، ولا يقتصر على طائفة دون أخرى، بل هو عدل شامل يجعل من الناس سواسية بين يدي القانون.
__________
(1) النساء / 135.
(2) الأنعام / 152.
(3) البهي، د. محمد: حقوق الإنسان في القرآن في صلة الفرد بالجماعة في: حقوق الإنسان في الإسلام ورعايته للقيم الإنسانية،ص(65).(1/9)
... ويدعو القرآن الحاكم إلى إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا يشمل عباد الله وخلقه جميعاً: أبيضهم وأسودهم، ذكرهم وأنثاهم، مسلمهم وغير مسلم »(1).
... فالعدل الذي يجب أن يتحلى به الحاكم « لا يميل ميزانه الحب والبغض، ولا تغير قواعده المودة والشنآن، العدل الذي لا يتأثر بالقرابة بين الأفراد ولا بالتباغض بين الأقوام فيتمتع به أفراد الأمة الإسْلاميَّة جميعاً لا يفرق بينهم حسب ولا نسب ولا مال ولا جاه، كما تتمتع به الأقوام الأخرى ولو كان بينها وبين المسلمين شنآن، وتلك قمّة العدل لا يبلغها أي قانون دولي إلى هذه اللحظة، ولا أي قانون داخلي كذلك »(2).
وكما هو معلوم، فإن العدل ركيزة العمران وأساس الملك، وقطب رحى النِّظَام للبشر في جميع أمورهم الاجْتِمَاعِيَّة ، فبالعدل نقضي على الفوضى والاضطرابات ونشيع الأمن و السكينة والهدوء والنِّظَام والرضا ونبعث الاطمئنان النفسي في خلق الله جميعاً، وتجدر الإشارة إلى أن هذا العدل قد أبصر النور وتمثل في وافع حياة المسلمين ولم يكن نظرية فلسفية مثالية، بعيدة عن الواقع والتنفيذ.
ومن منطلق إلقاء الضوء على بعض معالم عدالة الإسلام في جانبها العملي وميدانها التطبيقي قمت بجمع هذه الصّور والمواقف من واقع حياة الأمة الإسْلاميَّة بدءاً من صاحب الرسالة إمام المنصفين ورائد العَدالَة في العاملين سَيِّدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وامتداداً إلى عهود متأخرة من تاريخ هذه الأمة الراشدة ليكون في هذه الصورة وتلك المواقف إحياء لمعاني العَدالَة في حياة الناس وبعث للهمم في تحقيقها وإعادة نصب ميزانها من جديد بعد أن استفحل الظلم واستشرى البغي والعدوان بين الأفراد والجماعات البشرية المنتشرة على وجه البسيطة في هذا العهد المتأخر من الزمان.
...
__________
(1) انظر: شلتوت، محمود: الإسلام عقيدة وشريعة، ص(457).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام ن ص(105).(1/10)
أولاً: عدالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ : « كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنٌّ(1) فجاءه يتقاضاه(2) وإنه أغلظ له في القول حتى همّ به بعض القوم(3)، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « دَعوه(4) فإن لصاحب الحق مقَالاً، ثم قَالَ : أعطوه » فطلبوا سنّه فلم يجدوا إلا سنّاً فوقها (5) فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « أعطوه » ، فقَالَ الرَّجُل أوفيتني أوفاك الله تعالى ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ خيركم أحسنكم قضاءً »(6).
- لما دنا أجل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نادى في الناس : « أيما رجل أصبتُ من ماله شيئاً، فهذا مالي فليأخذه، وأيما رجل كنت أصبت من عرضه شيئاً، فهذا عرضي فليقتص، واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء، فأخذه أو حلّلني، فلقيتُ ربي وأنا طيّب النفس ».
فلم يَقُم عليه أحد من الناس إلا رجل واحد قَالَ: يا رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم، فدفعت إليه في الحال »(7).
__________
(1) أي: دابة ذات سن وعمر من الإبل.
(2) أي يطلب منه قضاء حقه ووفاء دينه.
(3) أي همّ بعض الصحابة بضربة لما أغلط على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في القول.
(4) أي: اتركوه.
(5) أي أحسن من السّن التي له على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
(6) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه في الاستقراض، باب حسن القضاء، (2/809-842-845-920-921)، ومسلم (3/1225)، والتِّرْمِذِي(3/608)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (5/351)، ومُسْنَد أحمد (2/416)و (6/268) والمعجم الصغير (2/210) ، ومُسْنَد الشهاب (2/107).
(7) الطَّبَري، ابن جرير: تاريخ الطَّبَري (3/189). وانظر: الطبقات الكبرى ، (2/255)(1/11)
- تجادل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، مع صحابي أسود البشرة فقَالَ له أبو ذر وقد استشاط غضباً: « يا ابن السوداء ». فسمع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمة النابية، فأنكرها عليه وقَالَ لأبي ذر: « أعيرته بأمه؟ إنّك امرؤ فيك جاهلية » ، ثم قَالَ : « طفَّ(1) الصاع ، طفَّ الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح ».
فندم أبو ذر على فعلته، وأثرت كلمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفسه فألصق خذه بالأرض، وقَالَ لأخيه الأسود: « قُم فطأ خدي »(2).
ثانياً: عدالة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم:
__________
(1) طفَّ: يُقَال: طفا أي ارتفع إلى أعلاه أو نهايته ، المعجم الوسيط ، ص(560).
(2) قوله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّك امرؤ فيك جاهلية » رواه البُخَارِيّ كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجَاهِليَّة (1/20) و (5/2248) ، ومسلم كتاب الإيمان باب إطعام المملوك مما يأكل (3/1282) و (3/1283) .(1/12)
- أخرج البَيْهَقِيّ عن عبد الله بن عمر بن العاص: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة، فقَالَ: « إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسِم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقَالَت امرأة لزوجها: خذ هذا الخِطام(1) لعلَّ الله يرزقنا حَمَلاً، فأتى الرَّجُل ، فوجد أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر، فقَالَ : « ما أدخلك علينا ؟ » ثم أخذ منه الخِطام، فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسْم الإبل دعا بالرَّجُل ، وأعطاه الخِطام، وقَالَ : « استقد» فقَالَ له عمر: « والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة، قَالَ أبو بكر: « فمن لي من الله يوم القيامة؟» فقَالَ عمر: « أرضِهِ » ، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحِلها وقطيفة(2) وخَمسة دنانير فأرضاه بها »(3).
وأورد ابن الجوزي عن عروة قال: كان عمر رضي الله عنه إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: « اللهمّ أعني عليهما، فإن كلَّ واحد يريدني على ديني »(4).
__________
(1) الخِطام: الزَّمام ما وُضع على أنف الجمل ليُقادَ به. المعجم الوسيط ، ص(245).
(2) القطيفةُ: كساء له أهداب ، المعجم الوسيط ، ص (747).
(3) الكندهلوي: حياة الصحابة (2/92). وانظر: سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى(8/49).
(4) ابن الجوزي، تاريخ عمر بن الخطّاب، ص(114).(1/13)
وأخرج مالك عن سعيد بن المسيّب أن مسلماً ويهودياً اختصما إلى عمر رضي الله عنه فرأى عمر الحق لليهودي فقضى له عمر به ، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق فضرب عمر بالدّرَّة وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك يُسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا وتركاه(1). وأنصف عمر يوماً أحد الرعيّة من أبي موسى الأشعري الذي جلد رجلاً على شراب الخمر وزاد على الحد بأن حلق شعره وسود وجهه ونادى في الناس ألا يجالسوه ويآكلوه(2).
ولما جاع الناس في عام الرمادة، آلى على نفسه: لا يذوق سمناً ولا لحماً حتى يحيا، قال ابن سعد: نظر عمر عام الرمادة إلى بطيخة في يد بعض ولده فقال : بخٍ ، بخٍ يا ابن أمير المؤمنين تأكل الفاكهة وأمّة محمد هزلى. وخرج الصبيّ هارباً. فقالوا: اشتراها بكفٍّ من نواة(3).
- أخرج البَيْهَقِيّ عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده قَالَ : أتت علياً رضي الله عنه امرأتان-عربية ومولاة لها- تسألانه فأمر لكل واحدةٍ منهما بكُرٍّ(4) من طعام، وأربعين درهماً. فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت. وقَالَت العربية: يا أمير المؤمنين تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قَالَ لها علي، رضي الله عنه، : « إني نظرت في كتاب الله عزّ وجلّ فلم أر فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق عليهما السلام » (5).
__________
(1) الكندهلوي: حياة الصحابة (2/105).
(2) وافي، د. علي عبد الواحد: المساواة في الإسلام، ص(38).
(3) ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطَّاب، ص(87).
(4) الكُرُّ : مكيال لأهل العراق أو ستون قفيزاً أو أربعون إردَبَّا. المعجم الوسيط ، ص(782).
(5) الكندهلوي: حياة الصحابة (2/107). وانظر: سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى(6/349).(1/14)
وقد روي عن علي أنه قَالَ : « والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام » (1).
- قدم صهر لعمر بن عبد العزيز عليه، فطلب أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر، وقَالَ : أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً؟! ثم أعطاه من صُلب ماله عشرة آلاف درهم (2).
- وذكر الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية أن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد كان يجلس للمظالم في يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلسه، فلقيتْه امرأة في ثياب رثَّة فقَالَت :
يا خير منتصف يُهدى له الرَّشَدُ ... ... ويا إماماً به قد أشرقَ البلدُ
تشكو إليكَ عميدَ المُلكِ أرملةٌ ... ... عدا عليها فما تقوى به أسدُ
فابتز منها ضياعاً(3) بعد منَعتِها ... ... لما تفرق عنها الأهل والولدُ
فأطرق المأمون يسيراً ثم رفع رأسه وطلب منها الصبر حتى أوان مجلسه فانصرفت
وحضرت يوم الأحد في أول الناس ، فقَالَ لها المأمون: « من خصمك؟ » فقَالَت : القائم على رأسك العَبَّاس ابن أمير المؤمنين، فقَالَ المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم، وقيل لوزيره أحمد بن أبي خالد: « أجلسها معه » ، ونظر بينهما بحضرة المأمون، وجعل كلامُها يعلو، فجزرها بعض حُجَّابه، فقَالَ له المأمون: « دعها، فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه » وأمر برد ضياعها عليها(4).
ثالثاً: صفات الإمام العادل:
... لما وليّ عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، خلافة المسلمين كتب إلى الحسن البَصْرِي أن يكتب إليه بصفات الإمام العادل، فكتب إليه:
«
__________
(1) ابن أبي طالب، الإمام علي: نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح ، ص(346).
(2) السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص(130).
(3) الضّيعةُ : الأرض المغلّةُ ، والعمل النافع المربح وتُطلق على الرّبح نفسه. المعجم الوسيط ، ص(547).
(4) الماوردي: الأحكام السلطانية (84-85).(1/15)
اعلم يا أمير المؤمنين: إن الله تعالى، جعل الإمام العادل قوّام كل مائل، وقصد كل جائر وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف ، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين: كالراعي الشفيق، الحازم الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع، ويكفيها من أذى الحرّ والقرّ(1).
والإمام العادل يا أمير المؤمنين: كالأب العاني(2) على ولده، يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً ويكسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد وفاته.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين: كالأم الشفيقة، البَّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً وربته طفلاً، تسهر لسهره، وتسكن لسكونه ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، تفرح لعافيته، وتغتم لشكايته.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين: وصِيُّ اليتامى، وخازن المساكين يربى صغيرهم ويمون كبيرهم.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين: كالقلب بين الجوارح، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين: هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويُريهم، وينقاد لله ويقودهم إليه.
فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سَيِّده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وأهلك ماله.
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله تعالى أنزل الحدود ليزجرها بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟
وإن الله تعالى أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟
واذكر يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده، وقلة أتباعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر.
__________
(1) القَر: البرد، يُقَال : قرَّ اليومُ قرا : برد. المعجم الوسيط ، ص(724).
(2) العاني: يُقَال عُني بالأمر عنيا وعناية: اهتم وشغل به. المعجم الوسيط ، ص(633).(1/16)
واعلم يا أمير المؤمنين: أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه يطول فيه مُكثُك، ويفارق أحباؤك يسلمونك في قعره وحيداً فريداً فتزود له ما يصحبك { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } (1).
واذكر يا أمير المؤمنين: { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ - وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } (2) فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل.
لا تحكم، يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين ولا تسلك سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ(3) ولا ذمّة، فتبوء بأوزارٍ مع أوزارك وتحمل أثقَالاً مع أثقَالك، ولا يغرنك الذين ينعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك.
يا أمير المؤمنين، لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع الملائكة والنَّبِيّين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيّوم.
... وإني، يا أمير المؤمنين، إن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي فلم آلُك(4) شفقة ونصحاً فأنزل كتابي إليك، كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة، لما يرجو له من العافية في ذلك ومن الصحة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(5).
المبحث الثالث
الطاعة من المحكومين
... إن مفهوم الطاعة من المفاهيم المهمة والأَسَاسيَّة في كل المجتمعات إذ اتفق كل البشر على ضرورتها وعلى حاجة كل المجتمعات لها ولهذا لم يخل مجتمع من طاعة.
__________
(1) عبس / 34-36.
(2) العاديات / 9-10.
(3) الإلُّ : العهد.
(4) ألا في الأمر، يألو: قصَّر فيه و أبطأ.
(5) فكري، علي: البيان الفاصل بين الحق والباطل ، ص(179-180).(1/17)
... ورغم أن إجماع البشر انعقد على الحاجة إليها إلا أنهم اختلفوا في نظرتهم للطاعة ولمفهومها الأساسي ولكل ما تفرع عنها من أنواع الطاعات تبعاً لتباين القاعدة الفِكْرية التي حددت المفهوم الأساسي للطاعة.
... إن فكرة الطاعة استندت في نشأتها على مرّ العصور إلى مفهوم العبودية، ذلك أن شعور الإنسان بالنقصان والعجز والاحتياج أدى به إلى عبادة من ظنّ أو قطع بأنه الأزلي الخالق والذي بدون شكّ مؤهل لاستحقاق العبادة ومن ثم استحقاق للطاعة، ومن هذا المنطلق كان نشوء مسألة العبادة مؤدياً إلى نشوء مسألة الطاعة.
... وهذا الأمر لم يقتصر على المجتمعات ذلك أن التقيد بالقوانين الوضعية عبادة لواضفي هذه القوانين سواء أكانوا حكاماً أم مشرعين في النظام. وعلى هذا لم تتحرر المجتمعات من ازدواجية الطاعة والعبادة.
... ولقد عمل القرآن على تركيز مفهوم أساسي للطاعة بشكل يوحي بأنه القاعدة العامة التي تنبثق عنها أو تستند إليها كل أنواع الطاعات الأخرى، وبنظرة خاطفة إلى النُّصُوص القرآنية تجعلنا نسلم بهذا الإطار العام حيث يقول الله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } (1) وقَالَ تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } (2).
وقَالَ تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } (3) ، فكل دعوات الرسل قرنت الطاعة بالتقوى والعبودية.
__________
(1) نوح / 3.
(2) الزخرف / 63.
(3) الشعراء / 106-108.(1/18)
... وقد شددّ القرآن على هذا الإطار إلى حد أن قرر بطلان أعمال الإنسان إذا لم تكن في إطار طاعة الله والرسول، قَالَ تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (1).
... فطاعة الله وطاعة الرسول هي الإطار العام والمحدد لكل طاعة، وكل طاعة تتنافى أو تتناقض مع هذا الإطار العام، فهي لاغية ومذمومة وجزاؤها لا محالة شقاءً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، يقول الله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (2) ومما يؤكد هذا التقرير أنّ الله تعالى أبطل كل طاعة تؤدي إلى معصية الخالق كما قَالَ : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (3) .
__________
(1) محمد / 33.
(2) التغابن / 12.
(3) لقمان / 15.(1/19)
... وفي الصَحِيْحين عن عليّ بن أبي طالب قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا طاعة في المعصية وإنّما الطاعة في المعروف»(1) وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »(2) وفي زوائد البزّار عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « لا طاعة في معصية الخالق » (3) ، فهذا مما ينبئ أن القرآن جعل طاعة الله وطاعة الرسول القاعدة العامة لكل أنواع الطاعات نافياً في الوقت نفسه كل طاعة تتنافى مع هذا الإطار العام.
... وليس هذا فحسب فقد ألغى القرآن ابتداءً أنواعاً من الطاعات، يقول تعالى: { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } (4) وقَالَ تعالى: { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } (5) وقَالَ: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } (6) وقَالَ: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ - سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ - كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } (7).
... فإن واقع هؤلاء يتناقض ابتداءً مع الإطار العام للطاعة، ولهذا تكون طاعة هؤلاء طاعة للهوى أو استجابة لحكم العقل الذي يتأثر بالواقع وبالبيئة وتتغير تبعاً لذلك تقديراته وأحكامه.
__________
(1) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه، (6/2649) واللفظ له، ومسلم (3/1469)، بلفظ لا طاعة في معصية الله.
(2) مشكاة المصابيح، (2/1092) وقَالَ الألباني : حديث صَحِيْح .
(3) كشف الأستار عن زوائد البزار (2/243) . قَالَ الهيثمي: رواه البزار و الطَّبراني في الكبير والأوسط، ورجال البزار رجال الصَحِيْح .
(4) الفرقان / 52.
(5) الأحزاب / 48.
(6) القلم / 10.
(7) العلق / 17-19.(1/20)
... ولو حاولنا الفهم في هذا الإلغاء لوجدنا الحق والحكمة فيما أمر به الشَّرْع ، يقول الله تعالى: { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ - وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } (1) ويقول تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (2) ويقول : { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ - الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (3) وقَالَ: { وَقَالَ وا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } (4).
وعليه « فإن الطاعة المطلقة إنما تكون لله ورسوله فقط، قَالَ العزّ بن عبد السلام في قواعد الأحكام مبيناً سبب تفرد الله تعالى بالطاعة المطلقة: « وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي ، فما من خير إلا جالبه ،و ما من خير إلا هو سالبه ... وكذلك لا حكم إلا له » (5).
__________
(1) المؤمنون / 33-34.
(2) الزخرف / 54.
(3) الشعراء / 151-152.
(4) الأحزاب / 67.
(5) ابن عبد السلام، العز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (2/158).(1/21)
وقَالَ الحافظ في الفتح: قَالَ الطيبي(1):« أعاد الفعل في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول » إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة(2).
وهذه الطاعة تمثل القاعدة العامة التي تفرعت عنها كل أنواع الطاعات وأخذت مشروعيتها منها وأهم هذه الطاعات على الإطلاق طاعة الحكام ، لأن الحاكم هو الطريقة العملية لتطبيق وتنفيذ الأحكام الشَّرْعية في المجتمع ، فوجوده إنما كان من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب وبيعته إنما كانت على هذا الأساس « فطاعته فرض على المسلمين ولو ظلم ولو أكل الحقوق ما لم يأمر بمعصية ، وما لم يظهر الكفر البواح »(3).
أما الدليل على أن الطاعة فرض ، فهو الآيات والأحاديث الواردة في ذلك قَالَ تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (4)
__________
(1) الطيبي، هو الحسن بن محمد بن محمد بن عبد الله الطيبي، الإمام المشهور، من علماء الحديث والتفسير والبيان، مات متوجهاً إلى القبلة سنة (743 هجرية) . من مصنفاته: شرح مشكاة المصابيح ، وشرح الكشاف ، والخلاصة في أصول الحديث. انظر: شَذَرات الذَّهَب ، (6/137)، البدر الطالع ، (1/229).
(2) ابن حَجَرٍ العسقلاني، فتح الباري في شرح صَحِيْح البُخَارِيّ (13/112).
(3) النَّبَهَانِيّ، نظام الحكم في الإسلام، ص(237).
(4) النساء / 59.
... وقَالَ الشَّوْكَاني: « أولي الأمر هم الأئمة، والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية (الشَّوْكَاني، فتح
القدير قدير (1/481).(1/22)
وروى البُخَارِيّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه سمع أبا هريرة يقول: « أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني »(1). وعن أنس بن مالك قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة »(2) وروى مسلم أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة(3) يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر »(4) .
«
__________
(1) رواه مسلم رقم (1835) رقم الحديث في كتاب الإمارة (33) ، (3/1466). ومجمع الزوائد(5/229)، ومُسْنَد الطيالسي عن أبي هريرة واللفظ له، (1/336).
(2) رواه البُخَارِيّ (9/78) كتاب الأحكام باب السمع والطاعة ما لم تكن معصية ومسلم (3/1468) كتاب الإمارة: باب وجوب السمع والطاعة وابن ماجة (2860) كتاب الجهاد: باب طاعة الإمام ، والنسائي (7/154) كتاب البيعة ، باب الحض على طاعة الإمام وأحمد (3/114).
(3) الصفقة: ضرب اليد عند البيعة، المعجم الوسيط ، ص(517).
(4) رواه مسلم في الإمارة (46) رقم (1835)، (3/1472-1473) وأبو داود (4248) والنسائي في البيعة باب (24) وابن ماجة (3956) وانظر فتح الباري (13/71) وابن كثير (2/303) وجامع الأصول (4/68).(1/23)
فهذه الأدلة صريحة في وجوب الطاعة، لأن الله سبحانه أمر بالطاعة لأولي الأمر، وللأمير وللإمام، واقترن هذا الأمر بقرينة تدل على الجزم وهي جعل الرسول معصية الأمير كمعصية الرسول، وكمعصية الله، والتشدد في الطاعة ولو كان الحاكم عبداً حبشياً. فهذه كلها قرائن تدل على أن الطلب طلب جازم فتكون طاعة الحاكم فرضاً ولو كان ظالماً(1) ، ولو كان فاسقاً، ولو كان يأكل أموال الناس بالباطل، فإن طاعته واجبة، لأن الأدلة مطلقة غير مقيدة، فتبقى على إطلاقها»(2).
__________
(1) قَالَ الحسن البَصْرِي عن الأمراء في عصره: « هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا» فالجور والظلم لا يغني تضييعهم للدين، والمبرر لعدم الخروج هو استقامة الدين بهم رغم جورهم وظلمهم لأن في استقامة الدين صلاحاً عظيماً ينغمر في جانبه الظلم والجور، ولذلك قَالَ بعد ذلك « والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون » فإذا لم يستقيم بهم الدين وكان ما يفسدون أكثر ممن يصلحون فقد فقدوا مبرر وجودهم. فكل المبررات التي يقدمها العلماء لعدم الخروج على الإمارة الفاجرة، إنما تدور على حفظ الدين، فليست الإمارة الفاجرة في اصطلاحهم، هي التي تضيع الدين وتفسد دنيا المسلمين ، فهذه ليست بإمارة أصلاً.
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الحكم في الإسلام ، ص(237-238).(1/24)
على أنه قد وردت أحاديث تدل على وجوب الطاعة ولو ظلم، ولو كان فاجراً ، فقد روى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم وإن أساءوا فلكم وعليهم »(1) وروى البُخَارِيّ عن عبد الله بن مسعود(2) قَالَ : قَالَ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنكم سترون بعدي أَثَرَة(3) وأموراً تنكرونها قَالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قَالَ : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم » (4). قَالَ ابن تَيْمِيَّة: « فأمر مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة » (5).
__________
(1) رواه الطَّبراني في المعجم الأوسط، (6/247)، وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (2/55)، ومجمع الزوائد (5/218)، ونصب الرَأْي ة (2/26)
(2) عبد الله بن مسعود، هو عبد الله بن مسعود الهُذَلي كان إسلامه قديماً هاجر الهجرتين وصلّى القبلتين، وشهد المشاهد كلّها مع الرسول ، وتوفي بالمدينة، سنة (32 هجرية). انظر: أُسد الغابة، (3/384).
(3) الأثرةَ: المنزلة وتفضيل الإنسان نفسه على غيره. والمراد هنا يستأثر أمراء الجور بالفيئ، المعجم الوسيط ، ص(5).
(4) رواه البُخَارِيّ (9/59) كتاب الفتن باب قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدي أموراً تنكرونها.
(5) ابن تَيْمِيَّة: الاستقامة (1/35).(1/25)
وروى البُخَارِيّ عن أبي رجاء، عن ابن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية»(1) .
فهذه الأحاديث صريحة في وجوب طاعة الحاكم مهما عمل. وقد شدد الرسول على الطاعة بشكل لافت للنظر، فعن نافع عن عبد الله بن عمر قَالَ : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « من خلع يداً من طاعة الله، لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (2). وحديث ابن عمر عن الحاكم ، أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « من خرج من الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية »(3).
«
__________
(1) رواه البُخَارِيّ (9/59) كتاب الفتن، باب قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، سترون بعدي أموراً تنكرونها ومسلم ( 3/1477) كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، والدَّارِمِيّ (2/241) وكتاب السير: باب في لزوم الطاعة والجماعة وأحمد (1/275-277-310) وكنز العمال (14811).
(2) رواه مسلم رقم (1851) (1/1478) وفي رياض الصالحين (294-295)، ومُسْنَد أبي عوانه (4/416)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، باب الترغيب في لزوم الجماعة، (8/156)، ومُسْنَد عبد الله ابن عَمْرو (1/28).
(3) رواه الحاكم في مستدركه، (1/150-203)، وقَالَ : هذا حديث صَحِيْح، على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(1/26)
فلا تحل معصية الحاكم مهما فعل ويحرم الخروج عليه ومقاتلته مهما حصل منه »(1). قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « من حمل علينا السلاح فليس منّا »(2) . ولا يحل أن ينازع في الولاية مهما كان ، إلا ما جاء نصّ به وهو ظهور الكفر البوّاح.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الحكم في الإسلام، ص(239).
(2) أخرجه البُخَارِيّ رقم (6874) وفتح الباري (12/192) ومسلم رقم (100) (1/98) . وانظر جامع الأصول رقم (7517) (10/56). وصَحِيْح ابن حبّان، (7/466) و(10/448-450)، ومُسْنَد أبي عوانة،(1/60-61)، وسُنَن الترمذي(4/59)، وسُنَن الدارمي، (2/315)، ومجمع الزوائد(3/26)، وسُنَن ابن ماجة (2/860).(1/27)
... وقد ورد النهي صريحاً عن مقاتلتهم، ولو فعلوا المنكر، فقد روى مسلم (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع ، قَالوا: أفلا نقاتلهم؟ قَالَ:« لا ما صلّوا »(2) . وفي حديث عوف بن مالك(3) الذي رواه مسلم: « قيل يا رسول الله: « أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقَالَ: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة »(4) .
__________
(1) هي أم المؤمنين هند بنت سهيل، من زوجات النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، تزوجها في السنة الرابعة للهجرة وكانت من أكمل الناس عقلاً وخلقاً، وكان لها رأي يوم الحديبية أشارت به على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دلّ على وفور عقلها، توفيت بالمدينة واختلف في تاريخ وفاتها ولكنها عمرت طويلاً. انظر: الإصابة (3/221)، الأعلام (8/97-98). الإمارة : باب وجوب الإنكار على الأمراء
(2) رواه مسلم (3/1481) الإمارة : باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشَّرْع. والتِّرْمِذِي(2266) الفتن، باب (78) وأبو داود (4760) السنة: باب قتل الخوارج، وأحمد (6/295).
(3) هو عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني، صحابي من الشجعان أول مشاهده خيبر، وكانت معه راية أشجع يوم الفتح نزل حمص وسكن دمشق وتوفي سنة 73 للهجرة وله 67 حديثاً. انظر: سير أعلام النبلاء (2/487) والإصابة (7/179) والأعلام (5/96).
(4) رواه مسلم (3/1481) كتاب الإمارة : باب خيار الأئمة وشرارهم والدَّارِمِيّ (2/324) في السير: باب الطاعة ولزوم الجماعة وأحمد (6/24و 28) وابن أبي عاصم (1017) والبَيْهَقِيّ (8/158).(1/28)
وفي حديث عبادة بن الصامت في البيعة: « وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان »(1) .
« فهذا كله نص في النهي عن الخروج على الحاكم، والنهي عن مقاتلته والنهي عن منازعته في ولايته إلى جانب تلك الأحاديث التي تدل على وجوب طاعته إلى جانب تلك الأحاديث التي تدل على وجوب طاعته مهما كان جائراً ومرتكباً للمنكرات وكلها تحثّ على طاعة الحاكم طاعة مطلقة. وإذا وردت آيات وأحاديث عامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالته باليد، فإن هذه الأحاديث تخصصها ويستثنى منها الحاكم، لذلك كانت طاعة المسلمين للحاكم مطلقة غير مقيدة بقيد إلا ما استثني » (2).
وقد استثني من وجوب الطاعة للحاكم شيء واحد، وهو الأمر بالمعصية ، فإذا أمر الحاكم بمعصية فلا طاعة له فيها، لأن ذلك قد جاء استثناؤه بالنّص، فعن نافع ابن عمر عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة »(3) . « والمراد هنا أن يأمرك أن تفعل المعصية، لا أن يفعل هو المعصية، فلو كان يفعل المعصية أمامك ولم يأمرك بها تجب طاعته » (4).
__________
(1) رواه البُخَارِيّ (13/167) (الفتح) كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم (1709) كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الحكم في الإسلام ، ص(239).
(3) رواه البُخَارِيّ رقم (7144) (13/109) ( الفتح ) كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم (3/1469) رقم (1839) كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية والترمذي(1707) كتاب الجهاد باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(4) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الحكم في الإسلام ، ص(240).(1/29)
وقَالَ الحافظ بن حجر في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - : « فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » أي لا يجب ذلك ، بل يحرم على من كان قادراً على الامتناع ».
وعن عوف بن مالك الأشجعي قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم » قَالَ: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قَالَ: « لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من وليَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة »(1).
« فهذا دليل على أن المراد بالأمر بالمعصية ليس فعلها ، بل الأمر بها فقط أما لو رأيته يفعلها فلا يحل لك عدم طاعته، أما إن أمرك أن تعصي الله فلا تطعه »(2) لقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »(3) وفي رواية عند البُخَارِيّ ومسلم « لا طاعة لأحد في معصية الخالق»(4) وفي رواية : « لا طاعة في المعصية وإنما الطاعة في المعروف »(5) وفي رواية : « لا طاعة في معصية الله »(6).
__________
(1) سبق تخريجه ، ص( ).
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الحكم في الإسلام ، ص(240).
(3) الحديث سبق تخريجه، ص( ).
(4) الحديث سبق تخريجه، ص( ).
(5) صَحِيْح البُخَارِيّ، كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق.. جزء من رقم الحديث (7257)، (13/233).
(6) انظر: مُسْنَد أحمد (5/66) ومجموع الزوائد (5/226) وقَالَ عنه الحافظ الهيثمي : « رواه البزار والطَّبراني في الكبير والأوسط، ورجال البزار رجال الصَحِيْح » (5/226) وقَالَ عنه الحافظ ابن حَجَرٍ : « وسنده قوي » فتح الباري(13/123).(1/30)
... وقَالَ الطَّبَري وقد روى بسنده إلى جُرَيْح عن قوله تعالى: { وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1) قَالَ: « لا يطع بعضنا بعضاً في معصية الله »(2).
... وقَالَ ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : « من أطاع ولاة الأمر في معصية الله كان عاصياً وإن ذلك لا يمهد له غدراً عند الله بل إثم المعصية لا حق به »(3).
... وقَالَ الحافظ في الفتح: قَالَ الطيبي: « أعاد الفعل في قوله : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (4) إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك في قوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (5) كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى الحكم لله ورسوله »(6).
قلنا: إنما تكون مخالفتهم حين الأمر بالمعصية وليس فعلها كما بيّنا ذلك بالأدلة الواضحة.
__________
(1) آل عمران / 64.
(2) الطَّبَري، محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل أي القرآن ، (4/304).
(3) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة: عون المعبود، (7/290).
(4) التغابن / 12.
(5) النساء / 59.
(6) ابن حَجَرٍ العسقلاني: فتح الباري في شرح صَحِيْح البُخَارِيّ (13/112).(1/31)
... وقَالَ الحافظ في الفتح: « ومن بديع الواجب قول بعض النابغين لبعض الأمراء من بني أميّة لما قَالَ له : أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله : { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) فقَالَ له: أليس قد نزعت عنكم؟ يعني الطاعة إذا خالفتم الحق بقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (2) » (3).
... وقَالَ ابن حَزْم الأندلسي: « فإن قادونا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجبت طاعتهم وإن زاغوا في شيء منها منعُو من ذلك »(4).
... وقَالَ الماوردي في الأحكام السلطانية: « وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدّى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير به حاله، فيخرج عن الإمامة شيئان: أحدهما جرح في عدالته، والثاني نقص في بدنه »(5).
... ومن خلال ما سبق، يتبين « أنّ الطاعة لولي الأمر مستمدة من طاعة الله والرسول لأن وليّ الأمر في الإسلام لا يطاع لذاته ، وإنما يُطاع لإذعانه هو لسلطان الله واعترافه له بالحاكمية، ثمّ لقيامه على الشَّرِيعَة يستمد حق الطاعة، فإذا انحرف عن هذه أو تلك سقطت طاعته ولم يجب لأمر النفاذ... فليست هي الطاعة المطلقة لأوامر الحاكم وليست هي الطاعة الدائمة ولو ترك شريعة الله»(6)
__________
(1) النساء / 59.
(2) النساء / 59.
(3) ابن حَجَرٍ العسقلاني: فتح الباري في شرح صَحِيْح البُخَارِيّ (13/112).
(4) ابن حَزْم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/164).
(5) الماوردي: الأحكام السلطانية، ص(17).
(6) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(106). وانظر حول ذلك:
- ... النبهان، د. محمد فاروق: نظام الحكم في الإسلام ، ص(38-39).
- ... الريس، د. ضياء الدين: النظريات السِّيَاسِيَّة الإسْلاميَّة ، ص(294-297).(1/32)
لأنها ليست طاعة كهنوتية وليست من باب الخضوع لنفوذ روحي يتمتع به الخليفة ولا هي انقياد لنفوذ سياسي أو اقتصادي أو عسكري أو صغار لهيمنة ملك تعسفي استبدادي، ولا هي طاعة مصدرها « فكرة الحق الإلهي» التي كانت سائدة في أوروبا بالنسبة للملوك، في القرن السابع عشر والثامن عشر، وإنما هي استحقاق شرعي ممنوح من قِبل الأمة للحاكم بعقد البيعة يتمكن الخليفة بموجبه من التصرف العام على المسلمين في حدود ما يمكنه من حراسة الدين وإقامته وسياسة الدنيا به.
... فطاعة الخليفة وغيره من الحكام ، حكم شرعي يجب فهمه في إطاره الشَّرْعي بعيداً عن المفاهيم والمصطلحات الغَرْبيّة كالاستبداد والدِّيمُقْراطِيَّة وغير ذلك. فمفهوم طاعة وليّ أمر المسلمين لم يرتبط بذات وليّ الأمر وشخصه ولم تكسبه مهابة تجعله فوق سائر البشر ولم تمنحه حصانة تجعله فوق التشريعات والنظم ولم يكتسبها لكونه مصدر القوة والسلطان والنفوذ، أو لكونه ملكاً أو جباراً، أو لكونه ظل الله في الأرض وإنما الطاعة استحقاق شرعي اكتسبها بموجب عقد البيعة لينوب عن الأمة في حراسة الدين.
المبحث الرابع
المشورة بين الحكام والمحكومين
... الشورى حق لجميع المسلمين على الخليفة، فلهم عليه أن يرجع إليهم في أمور لاستشارتهم فيها، قَالَ تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } (1). قَالَ الطَّبَري في تفسير الآية: « إنما أمر الله تعالى نبيّه بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر تعريفاً منه أمته مأتى الأمور التي تحزّ بهم من بعده ومطلبها ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاورون فيما بينهم »(2).
__________
(1) آل عمران / 159.
(2) الطَّبَري، محمد بن جرير: جامع البيان في تأويل آي القرآن ، (7/345).(1/33)
... وقَالَ الرَّازي في تفسيره: « قَالَ الحسن وسفيان ابن عينية إنما أمر بذلك-أي أمر الله رسوله بالمشاورة- ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنّة في أمّته »(1).
... وقَالَ سَيِّد قطب في تفسير الآية: « أنها نزلت في أعقاب غزوة أُحد وكان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها لو أنه قضى برأي في خطة المعركة مستنداً إلى رؤياه الصادقة ، وفيها يشير إلى أن المدينة درع حصينة ولم يستشر أصحابه أو لم يأخذ بالرَأْي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة.
... ولكنه وهو يقدر النتائج كلها أنفذ الشورى، وأنفذ ما استقرت عليه، ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف احتمل تبعة الرَأْي وتبعة العمل ، ثمّ الأمر الإلهي له بالشورى-بعد المعركة كذلك- تثبيتاً للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية، وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية... »(2).
... وقد أثنى اللهُ تعالى على المؤمنين ومدحهم بأعلى صفاتهم ، وجعل المشاورة منها، وذلك في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (3) . « وهو نصّ مكي كان قبل قيام الدَّوْلَة الإسْلاميَّة في المدينة ، ومن ثمّ كان طابع الشورى في الحياة الإسْلاميَّة مبكراً وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدَّوْلَة وشؤون الحكم. ولعل اتباع إقامة الصلاة بصفة الشورى ما يؤكد مكانة الشورى في الإسلام وإنها وصف لازم للجماعة في أطوارها وشؤون حياتها»(4).
__________
(1) الرَّازي : التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب ، (9/66).
(2) قطب، سَيِّد: في ظلال القرآن ، ص ( ).
(3) الشورى / 38.
(4) الصاوي، د. صلاح: تحكيم الشَّرِيعَة ودعاوى العَلْمانية، ص(143).(1/34)
... وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشير الناس ويأخذ برأيهم فقد استشارهم يوم بدر في أمر مكان المعركة واستشارهم يوم أُحد في القتال أيكون خارج المدينة أو داخلها، فنزل عند رأي الحبّاب بن المنذر في الحالة الأولى، وكان رأياً فنياً صدر عن خبير فأخذ به ونزل عند رأي الأكثرية يوم أُحد مع أنّ رأيه كان بخلافه.
... وشاور السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة(1) يوم الخندق ، فأشارا عليه بترك مصالحة بني غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن قتال المسلمين. كما سمع لهم في خطط الحروب ، فقد سمع لرأي سلمان الفارسي في حفر الخندق وسمع لهم في الأسرى مخالفاً رأي عمر حتى نزل الوحي بتأييد عمر رضي الله عنه(2).
... وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير المشاورة لأصحابه حتى قَالَ العلماء: « لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »(3).
... وكذلك سار الخلفاء في استشارة المسلمين: استشار أبو بكر في شأن ما نعي الزكاة وأنفذ رأيه في محاربتهم وكان عمر يعارض أولاً ولكنه فاء إلى رأي أبي بكر اقتناعاً به بعدما فتح الله قلبه له وهو يرى أبا بكر يصر عليه ، واستشار أهل مكّة في حرب الشام على رغم معارضة عمر.
__________
(1) سعد بن عبادة، الأنصاري ، يُكنى أبا ثابت ، كان نقيب بني ساعدة وشهد بدراً وكان سَيِّداً جواداً ، وهو صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها. مات سنة (15 هجرية). انظر: أُسد الغابة، (2/283-284).
(2) المقريزي: إمتاع الأسماع ، ص(219).
(3) القرطبي: جامع البيان في أحكام القرآن (4/249).(1/35)
... وقد رجع عمر إلى المسلمين في أمر أرض العراق، أيوزعها على المسلمين لأنها غنائم؟ أَم يبيعها في يد أهلها على أن يدفعوا خراجها وتبقى رقبتها ملكاً لبيت مال المسلمين، وقد عمل بما أداه إليه اجتهاده ووافقه عليه كثرة الصحابة فترك الأرض بأيدي أصحابها على أن يؤدوا خراجها » (1).
... فالشورى سمة من سمات الحياة الإسْلاميَّة وجزئية في النِّظَام الإسلامي عامة وحق من الحقوق السِّيَاسِيَّة للأمة الإسْلاميَّة يحقق أموراً هامة منها:
الأول: إشراك الأمة-ممثلة بأهل الحل والعقد- في مزاولة السلطة والتفكير بقضايا الأمّة مع الشخص الذي أنابه عنها ، وهو الأمير .
والثاني: الحيلولة دون استبداد الحاكم أو طغيانه.
والثالث: تطييب نفوس المحكومين وتأليف قلوبهم بما يجمعها مع الحاكم برباط المودة والتعاون، كما أشار الزمخشري في تفسيره عند قوله تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (2) فقَالَ : « لما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم » (3) . وقَالَ ابن تَيْمِيَّة عند شرحه للآية: « إنّ الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي بها من بعده وليستخرج منهم الرَأْي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحرب والأمور الجزئية وغير ذلك » (4).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، نظام الحكم في الإسلام ، ص(210).
(2) آل عمران / 159.
(3) الزمخشري: الكشاف (1/32).
(4) ابن تَيْمِيَّة: السِّيَاسِيَّة الشَّرْعية بين الراعي والرعية ، ص(135).(1/36)
والرابع: تجنب الخطأ في اتخاذ القرارات، لأن الأمّة باعتبار مجموعها معصومة من الخطأ كما هو مقرر في علم الأصول، لقوله عليه الصلاة والسلام: « إن أمتي لا تجتمع على ضلالة »(1) ويقول ابن تَيْمِيَّة: « إذا أخطأ الإمام كان في الأمّة من ينبهه بحيث لا يحصل اتفاق الكل على الخطأ، كما إذا أخطأ أحد الرعية نبهه أمامه أو نائبه وتكون العصمة ثابتة للمجموع بحيث لا يحصل اتفاقهم على الخطأ »(2).
وعليه، فلا تشابه بين الشورى في الإسلام والدِّيمُقْراطِيَّة الغَرْبيّة، كما ادعى ثلّة من المُفَكِّرين المعاصرين أمثال الشيخ يوسف القرضاوي، حين قَالَ: « الدِّيمُقْراطِيَّة فيها ضمانات للحريّة وأساليب لقمع الحكّام المستبدين، وهي سياسية شرعيّة بابها واسعٌ في الفقه الإسلامي، فالشورى والدِّيمُقْراطِيَّة وجهان لعملة واحدة »(3).
ومعلومٌ أنّ الدِّيمُقْراطِيَّة في قواميس أربابها تعني الحكم بواسطة الشعب أو ممثليه بينما الحكم في الإسلام لله وحده وليس للشعب وليس لممثليه وعلى هذا كيف تكون الدِّيمُقْراطِيَّة سياسية شرعية وهي تناقض الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة أصلاً؟ وكيف تكون الشورى والدِّيمُقْراطِيَّة وجهين لعملة واحدة، والشورى نظامٌ الهي رباني ، والديمقراطي نظام بشر مبتدع(4).
لا شرعية بدون شورى شرعية :
__________
(1) سُنَن التِّرْمِذِي(4/466) وسُنَن ابن ماجة (2/1303) والجامع الصغير للسيوطي ، ص(88).
(2) ابن تَيْمِيَّة: الدَّوْلَةونظام الحسبة ، ص(40).
(3) جريدة الشرق، عدد (2719)، تاريخ 25/8/1995م،
(4) انظر حول هذه المسألة:
- العديني، أحمد بن محمد بن منصور: رفع اللثام عن مخالفة القرضاوي لشريعة الإسلام، ص(85-86).(1/37)
... وإذا كانت المشاورة حقاً للأمّة على الخليفة، فإنّ التفريط بها من الحاكم موجب للعزل، فلا شرعية له بدون شورى شرعية. قَالَ ابن عطية(1):« والشورى من قواعد الشَّرِيعَة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب »(2). فلا بقاء لحاكم مستبد في دولة الإسلام.
... وقَالَ عمر بن الخطَّاب: « من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا» (3). فتحرر في هذا أن الاصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين وأن من تصدى لمثل ذلك فبايع أحداً، لا يصح أن يكون هو ولا من بايعه أهلاً للمبايعة ، بل يكون ذلك تغريراً منهما بأنفسهما قد يفضي إلى قتلهما إذا أحدثا في الأمّة شقاقاً يوجبه. وقَالَ عمر أيضاً فيما رواه ابن سعد عن ابن عمر بإسناد صَحِيْح -للستة الذين جعل إليهم الأمر بعده في اختيار الإمام: « فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه » (4).
... وقَالَ أبو حنيفة: « والخلافة تكون باجتماع المؤمنين وشورتهم»(5).
... وقَالَ ابن حَجَرٍ الهيثمي: « وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين»(6).
__________
(1) ابن عطية: هو المفسر، المحدث عبد الحق بن ابي بكر الغرناطي، المالكي، ولد سنة (481هجرية)، وتوفي سنة (546 هجرية). انظر: الديباج المذهب، (2/75)، هدية العارفين، (1/502).
(2) القرطبي: جامع البيان في أحكام القرآن (4/249).
(3) رواه البُخَارِيّ ، باب رجم الحبلى من الزِّنَا ، كتاب الحدود، فتح الباري (15/144-145) . وتغرة أن يقتلا: يعني حذرا من القتل، والمعنى من فعل ذلك عرّض نفسه وصاحبه للقتل.
(4) ابن حَجَرٍ العسقلاني، فتح الباري ، (7/68).
(5) الكردي : مناقب الإمام الأعظم (2/54).
(6) ابن حَجَرٍ الهيثمي: الصواعق المحرقة ، ص(131).(1/38)
... وقَالَ مصطفى حلمي: « فالواقع أن البيعة يجب أن تتم بعد مشاورة واتفاق دون استبداد، أما إذا بايع رجل الآخر بغير رجوع إلى الجماعة الإسْلاميَّة، فإن معنى هذا تظاهر منهما بشق عصا الطاعة والخروج عن الجماعة ومع ارتكابهما هذه الفعلة يحق قتلهما»(1).
لا شرعية للحاكم إلا بالاختيار :
... الأصل الأصيل في شرعية الحاكم هو اختيار الأمة له من غير رغبة أو رهبة ، فالأمة هي صاحبة السلطة في تعيين الحاكم بمحض اختيارها(2). وهذا واضح في أحاديث البيعة، عن عبادة بن الصامت قَالَ: « بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا»(3).
... وعن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة لا يُكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه ما يريد وفيّ له، و إلا لم يفِ له، ورجل بايع رجلاً سلعة بعد العصر فحلف له بالله لقد أعطي بها كذا وكذا نصدقه ولم يُعطَ بها »(4) .
«
__________
(1) حلمي، مصطفى: نظام الخلافة ، ص(46).
(2) خلافاً للشيعة الذين يرون أن الحاكم والإمام يتولى ذلك بالنص لا بالاختيار وخلافاً لمفهوم الدَّوْلَةالثيوقراطية في أوروبا أثناء القرون الوسطى حيث يرى الحاكم بنفسه حاكماً بأمر الله .
(3) أخرجه البُخَارِيّ في الأحكام : باب يبايع الإمام الناس (13/167) ومسلم في الإمارة (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله وتحريمها في المعصية (41-42) (1709).
(4) رواه التِّرْمِذِي في سُنَنه (4/150)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (5/330)، والإيمان لابن منده ، (2/652).(1/39)
فالبيعة من قبل المسلمين للخليفة وليست من قبل الخليفة للمسلمين، فهم الذين يبايعونه، أي يقيمونه حاكماً عليهم وما حصل مع الخلفاء الراشدين أنهم إنما أخذوا البيعة من الأمّة، وما صاروا خلفاء إلا بواسطة بيعة الأمّة لهم »(1).
قَالَ الإمام علي رضي الله عنه: « إنّ هذا أمركم ( أي اختيار الحاكم ) ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، ألا إنّه ليس لي أمر دونكم »(2) . وقَالَ أيضاً: « ولا تنعقد الإمامة إلا ببيعة المسلمين»(3).
وقَالَ عمر بن عبد العزيز: « يا أيها الناس إني لست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم ، فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ » (4) فهو يرى في عهد الخليفة إليه أنه مجرد ترشيح، وإنّ الأمّة هي صاحبة القرار وإن من كانوا في حاضرة الخلافة ليسوا بأولى من غيرهم في هذا الحق بل هو إلى عموم الأمّة ويجب أن ينعقد الرضا من الكافة.
وقَالَ الماوردي: « وذهب بعض علماء البصرة إلى أن رضا أهل الاختيار ببيعته شرط في لزومها للأمّة »(5) .
قَالَ الإمام الجويني(6): «
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الحكم في الإسلام ، ص(40).
(2) الطَّبَري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك (6/3077).
(3) الساعي: الروض النضير (5/18).
(4) ابن كثير ، البداية والنهاية (9/182-183).
(5) الماوردي: الأحكام السلطانية، ص(10).
(6) هو عبد الملك بن أبي محمد بن يوسف الجويني، ثمّ النيسابوري، الشَّافِعِي ، ولد سنة (419 هجرية) ، الإمام الكبير، شيخ الشَّافِعِية، المحقق الأصولي، المتوفى سنة (478 هجرية).
انظر: طبقات السّبكي، (5/165)، وتبيين كذب المفتري، ص(278).(1/40)
اتفق المنتسبون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمام ، ثمّ أطبقوا على أن سبيل إثباتها النّص والاختيار ، وقد تحقق بالطرق القاطعة بطلان مذهب أصحاب النصوص(1) فلا يبقى إلا الحكم بصحة الاختيار »(2).
وقَالَ أبو الحسن الأشعري: « الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النّص والتعيين»(3) .
قَالَ البغدادي في أصول الدين : « قَالَ الجمهور الأعظم من أصحابنا-يقصد أهل السنة- ومن المعتزلة والخوارج والنجارية: إن طريق ثبوتها-أي الإمامة- الاختيار من الأمة »(4).
وقَالَ عبد القادر عودة: « تنعقد الإمامة عن طريق واحد مشروع لا ثاني له وهو الاختيار من أهل الحل والعقد » .
__________
(1) ذكر الإمام الجويني في هذا الأمر دعاوى القائلين بأن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نصّ على أسماء محدودة لتولي الخلافة من بعده ورد عليهم مبيناً بطلان أقوالهم ، ولا شكّ في بطلان قول من ادعى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نصّ على أحد من بعده وقد ذهب أهل السّنة في هذه المسألة على قولين: منهم من قَالَ أن خلافته ثبتت بالنّص، ومنهم من قَالَ أن خلافته ثبتت بالاختيار، قَالَ ابن تَيْمِيَّة بعد أن ذكر القولين وساق أدلتهم: « والتحقيق أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله ، فخلافة أبي بكر دلّت النُّصُوص الصَحِيْحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنّه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله ، فصارت ثابتة بالنّص والإجماع جميعاً.
(2) غيّاث الأمم في التياث الظُلَم ، ص(54).
(3) الشَّهْرَسْتانيّ : الملل والنِّحل، ص(103).
(4) البغدادي: أصول الدين، ص(279).(1/41)
وقَالَ: « واختيار رئيس الدَّوْلَة الإسْلاميَّة من أمور الأمّة التي جعلها الله شورى بين المسلمين إن لم يكن من أهم أمورها، فللأمة أن تختار رئيساً للدولة كلما خلا منصب الرياسة بموت أو عزل أو استقَالة، ولا يجوز أن يفوت عليها في ذلك أي وجه من الوجوه وإلا تعطل قوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (1)» (2).
وقَالَ تقيّ الدِّين النَّبَهَانِيّ: « استخلاف الخليفة غيره أي عهده بالخلافة لغيره لا يصح لأنه إعطاء لما لا يملك ، وإعطاء ما لا يملك لا يجوز شرعاً، فإذا استخلف الخليفة خليفة آخر، لا يجوز ولا تنعقد له الخلافة مطلقاً لأنه لم يجر عقدها ممّن يملك هذا العقد »(3).
وقَالَ عبد الوهاب خلاف(4): « إنّ العهد أو الاستخلاف لا يعدو أن يكون ترشيحاً من السلف للخلف والأمة بعد ذلك صاحبه القول فيمن تختاره إماماً »(5).
وقَالَ سَيِّد قطب: « إنّ الراعي لا يصل إلى مكانه إلا عن طريقة واحدة: رغبة الرعيّة المطلقة واختيارها الحر »(6).
__________
(1) الشورى / 38.
(2) عودة، عبد القادر: الإسلام وأوضاعنا السِّيَاسِيَّة ، ص(146).
(3) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (2/31).
(4) عبد الوهاب خلاف بن عبد الواحد خلاّف، فقيه مصري ولد بكفر الزيّات بمصر سنة 1305 هجرية وتخرجّ بمدرسة القضاة الشَّرْعي بالقاهرة سنة 1912 م ، ثمّ عمل مدرساً بالشَّرِيعَة الإسْلاميَّة ، له مصنفات منها: السِّياسَة الشَّرْعيّة، توفي بالقاهرة سنة 1375 هجريّة، انظر: الأعلام، (4/184).
(5) خلاف عبد الوهاب: السِّيَاسِيَّة الشَّرْعية ، ص(56).
(6) قطب، سَيِّد: الإسلام والسلام العالمي ، ص(122).(1/42)
وقَالَ أيضاً: « يصبح حاكماً باختيار المسلمين الكامل وحريتهم المطلقة لا يقيدهم عهد من حاكم ولا وراثة كذلك في أسرة، فإذا لم يرض المسلمون لم تقم له ولاية »(1).
وقَالَ الشيخ أبو زهرة: « إن اختيار الخليفة السابق لخلفه ليس سوى اقتراح من مخلص للإسلام ولجماهير المسلمين أن يقروا الاختيار أو يردوه »(2).
قد يقول قائل لقد وجدنا في كتب السِّيَاسِيَّة الشَّرْعية، أن من طرق عقد الإمامة ما يخالف طريق الشورى وهي طريقة العهد كما ذهب إلى ذلك الماوردي وغيره؟
والجواب على ذلك أن العهد نوعان:
الأول: أن يستخلف الخليفة غيره « واستخلاف الخليفة غيره، أي عهدُه بالخلافة لغيره لا يصح، لأنه إعطاء لما لا يملك، وإعطاء ما لا يملك لا يجوز شرعاً، فإذا استخلف الخليفة خليفة آخر، سواء أكان ابنه أم قريبه أم بعيداً عنه، لا يجوز، ولا تنعقد الخلافة له مطلقاً ، لأنه لم يجرِ عقدها ممن يملك هذا العقد ، فهي عقد فضولي لا يصح»(3) « ولا يعدو أن يكون مجرد ترشيح واقتراح غير ملزم للأمة، فإن رأت بمحض اختيارها إقراره أمضته، وإن رأت رفضه ونبذه ، نبذ النواة فلا حرج عليها وهي صاحبة الأمر وسَيِّدة الموقف »(4).
وهذا ما أشار إليه الإمام أبو يعلى في الأحكام السلطانية ، قَالَ : « والإمامة لا تنعقد للمعهود له بالعهد نفسه ، وإنما تنعقد بعهود المسلمين »(5) ، وقَالَ: « إن إمامة المعهود إليه تنعقد بعد موته- أي الخليفة الذي عهد- باختيار أهل الوقت» (6).
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام ، ص(103).
(2) أبو زهرة، الشيخ محمد: أحمد بن حنبل ، ص(149).
(3) النَّبَهَانِيّ: نظام الحكم في الإسلام، ص(83).
(4) بلحاج، علي: فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام، ص(35).
(5) الماوردي: الأحكام السلطانيّة، ص(25).
(6) الماوردي: الأحكام السلطانيّة، ص(25).(1/43)
وأما ما روي أن أبا بكر استخلف عمر وأن عمر استخلف الستة، وأن الصحابة سكتوا، ولم ينكروا ذلك، فكان سكوتهم إجماعاً ، فإن ذلك لا يدل على جواز الاستخلاف، أي العهد وذلك لأن أبا بكر لم يستخلف خليفة، وإنما استشار المسلمين فيمن يكون لهم خليفة، فرشح عليّاً وعمر، ثم إنّ المسلمين خلال ثلاثة أشهر في حياة أبي بكر اختاروا عمر بأكثريتهم، ثمّ بعد وفاة أبي بكر جاء النّاس وبايعوا عمر، وحينئذ انعقدت الخلافة لعمر، وأما عهد عمر للستة فهو ترشيح لهم من قبله، بناء على طلب المسلمين وعلى ذلك « لا بدّ من بيعة المسلمين للخليفة، ولا يجوز أن تكون بالعهد، أو الاستخلاف لأنها عقد ولاية وينطبق عليها ما ينطبق على العقود(1).
الثاني: العهد بمعنى توريث الحكم ، فهذا أمر لا يجوز شرعاً.
قَالَ عبد القاهر البغدادي: « كل من قَالَ بها-أي إمامة أبي بكر- قَالَ : « إنّ الإمامة لا تكون موروثة »(2).
وقَالَ ابن حَزْم: « لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها »(3).
وقَالَ تقيّ الدِّين النَّبَهَانِيّ: « وهذا فضلاً عن انعدام ولاية العهد في نظام الحكم الإسلامي، بل هو يستنكر ولاية العهد، ويستنكر أن يؤخذ الحكم عن طريق الوراثة ويحصر طريقة أخذه بالبيعة من الأمّة للخليفة أو الإمام بالرضى والاختيار »(4).
وقَالَ: « يعتبر نظام ولاية العهد منكراً في النِّظَام الإسلامي ومخالفاً له كل المخالفة»(5).
المبحث الخامس
حق الأفراد في إبداء الرَأْي
... إنّ قيام الخليفة بمشاورة أهل الحل والعقد، لا يعني أن غيرهم من أفراد الأمة لا حق لهم في إبداء آرائهم في شؤون الحكم وتصرفات الخليفة.
__________
(1) انظر: النَّبَهَانِيّ: نظام الحكم في الإسلام، ص(83).
(2) البغدادي عبد القاهر: أصول الدين ، ص(181)
(3) ابن حَزْم : الفصل، (4/167).
(4) النَّبَهَانِيّ: نظام الحكم في الإسلام، ص(27).
(5) النَّبَهَانِيّ: نظام الحكم في الإسلام، ص(27).(1/44)
... فالواقع أن لكل فرد أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة المفسدة، وأساس هذا الحق تكليف الشَّارِع لكل مسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل جعل القيام بهذا التكليف من صفات المؤمنين الأصيلة. قَالَ تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (1). وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان »(2).
« ومن الواضح أن القيام بهذا الغرض يستلزم تمتع الفرد بحق إبداء رأيه بالمعروف الذي يأمر به، وبالمنكر الذي يريد تغييره ، وهذا الحق للأفراد متمم للشورى ومساعد لها ويتفق مع أهدافها لأن به يعان الخليفة على معرفة الصواب وتجنب الخطأ ، فقد يفوت أهل الشورى بعض الأمور التي يعرفها غيرهم من أفراد الأمة، وعلى هذا لا يجوز للخليفة ولغيره من أولياء الأمور الانتقاص من هذا الحق للأفراد ، كما لا يجوز للأفراد التنازل عنه أو تعطيله لأنه حق أوتوه من الشَّرْع ليتمكنوا من أداء ما افترض عليهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »(3).
ولهذا كان الحكام الصالحون يربون أفراد الأمة على إبداء الرَأْي ويحثونهم على هذه الصفة ويعيبونهم على تركها. قَالَ رجل للإمام عمر بن الخطَّاب: اتق الله يا عمر . فقَالَ عمر: « ألا فلتقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها »(4).
إلا أنّ هذا الحق له حدود وضوابط:
__________
(1) التوبة / 71.
(2) روى الحديث الإمام مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه. ، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان وإن الإيمان يزيد وينقص، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان. رقم الحديث (49) و (78) ، (1/69).
(3) زيدان، عبد الكريم: أصول الدعوة، ص(215).
(4) ابن سعد، الطبقات الكبرى (3/183).(1/45)
الأول: أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للخليفة، كما روى مسلم أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الدين النصيحة » قلنا لمن؟ قَالَ: « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم »(1) فلا يجوز للفرد أن يبدي رأيه بقصد التشهير أو تكبير السيئات أو انتقاص الآخرين أو تجريء الناس عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الباطلة التي لا يراد بها وجه الله ولا الخير للمنصوح.
الثاني: أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات الحكام على أساس من العلم والفقه، فلا يجوز أن ينكر عليهم أو ينتقصهم في الأمور الاجتهادية، لأن رأيه ليس أولى من رأيهم ما دام الأمر اجتهادياً.
الثالث: لا يجوز للأفراد إحداث الفتنة ومقاتلة المخالفين لهم بالرَأْي إذا لم يأخذوا برأيهم ما دام الأمر يحتمل رأيهم ورأي غيرهم.
وبذلك أكدت الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة على ضمان حق الرعية السياسي في إبداء الرَأْي في حدود ما أجاز الشَّرْع ، وتختلف الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة بذلك جوهرياً عن حرية الرَأْي السياسي في التصور الغَرْبيّ التي تعرف بأنها: « قدره الفرد على التعبير عن آرائه وأفكاره بحرية تامة بغض النظر عن الوسيلة التي يسلكها سواء كان ذلك بالاتصال المباشر بالناس أو الكتابة أو بواسطة الرسائل البريدية أو البرقية أو الإذاعة أو المسرح أو عن طريق الأفلام السينمائية أو التلفزيونية أو الصحف»(2).
__________
(1) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه، باب قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « الدين النصيحة » ، (1/30)، ومسلم باب بيان أنّ الدين النصيحة،(1/74)، وصَحِيْح ابن حبّان، (10/435). وسُنَن الترمذي، (4/324)، وسُنَن الدارمي، (2/402)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (8/163)، (10/209)، ومُسْنَد الشَّافِعِي ، (1/233).
(2) حلمي، د. محمد: المبادئ الدستورية العامة، ص(375).(1/46)
وقد نصّت دساتير معظم الدول الغَرْبيّة على كفالة حريّة الرَأْي للمواطنين ، فقد نصّ الدستور الأمريكي على كفالة حريّة الرَأْي ، وكذلك أكد الدستور الإيطالي على أن « للجميع حق التعبير بحرية عن آرائهم بالقول والكتابة » وكذلك الدستور الألماني الذي أكدّ حريّة الرَأْي للجميع »(1).
ولكن المتتبع لواقع حريّة الرَأْي في الفِكْر الغَرْبيّ يجدها قد قيدت بقيدين:
يتعلق الأول منهما بسيطرة الاحتكارات الرَّأْسُماليَّة الكبرى على وسائل الإعلام وقدرتها على توجيه الإعلام، والتحكم في مصادر الأخبار والمعلومات.
أما الثاني، فيتعلق بالقيود التي تفرضها الدولة، بحجة عدم الاعتداء على حريات الآخرين، والمحافظة على الأمن الداخلي، والتي غالباً تستخدم كذريعة للحد من قدرة الأفراد على التعبير عن أرائهم(2).
كما عمدت الأنظمة الغَرْبيّة إلى وضع قيود أخرى على حرية الرَأْي منها تجريم الرَأْي ، فعلى الرغم مما تؤكده:
« النظرية الدِّيمُقْراطِيَّة من أن قيود الحريات- ولا سيما ما اتصل منها بحرية الرَأْي - لا تستوحي من الاعتبارات، إلا ما كان متصلاً بحماية أمن الجماعة ونظامها المادي، تكذبه التشريعات الدِّيمُقْراطِيَّة المعاصرة التي صارت تعاقب على النقد حتى ولو لم يؤد إلى الإخلال بالأمن أو تحريض عليه، ويبرز ذلك بصفة خاصة بالنسبة للرأي المعارض للأسس النِّظَام الاجتماعي»(3).
وتنبع حرية الرَأْي في الغَرْب من مفهوم الحرِّيَّة، فهي تتصل اتصالاً وثيقاً بالحرِّيَّة الشخصية وما يتفرع عنها، من حريات.
__________
(1) الشيشاني، د. عبد الوهاب عبد العزيز: حقوق الإنسان وحرياته الأَسَاسيَّة في النِّظَام الإسلامي والنظم المعاصرة، ص(100-101).
(2) المرجع السابق، ص(103-110).
(3) حماد، د. أحمد جلال: حرية الرَأْي في الميدان السياسي في ظلّ مبدأ المشروعية ، بحث مقارن في الدِّيمُقْراطِيَّة الغَرْبيّة والإسلام، ص(319).(1/47)
ومن قاعدة حرية الرَأْي ، المستمدة من الحرِّيَّة الفردية، تنبع فكرة الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة، التي تجعل للفرد حرية تبني ما شاء من آراء ومعتقدات سياسية، وحرية تكوين الجماعات والأحزاب، حول الأفكار التي يعتنقها الأفراد، وذلك لأن حرية الرَأْي تعنى لدى الغَرْب:
حق الإنسان في أن يعتنق الآراء التي يشاء، وذلك في أي شأن من الشؤون: في السِّياسَة والدين والاجتماع والعلم والثَّقافَة(1). والحرِّيَّة الفِكْرية في المنظور الغَرْبيّ، تبيح للأفراد تبني ما شاؤوا من معتقدات، شريطة عدم إضرارها بالآخرين، وقد أكدّ « جون ستيوارت ميل »(2) هذا المعنى بقوله: « فمهما كان اعتقاد الشخص راسخاً في كذب رأي ما، بل وفي ضرر نتائجه- بل وفي فساده أخلاقياً وإلحاده... فإنه مع ذلك يدعي العصمة إذا حال دون الاستمتاع إلى ما يقَال في الدفاع عن الرَأْي ، حتى لو كان مؤيداً من الرَأْي العام في بلده أو في عصره.
ومن هذا المنطلق، تصبح الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة وسيلة، يتمكن بها المرء من إبراز حقوقه السِّيَاسِيَّة والفِكْرية في مواجهة النِّظَام والحدّ من سلطة الحاكم، عن طريق السماح بإبراز رأي الأفراد مطلقاً وتكوين الأحزاب والنقابات.
__________
(1) رباط، د. أدمون، الوسيط في القانون الدستوري العام، ص(227).
(2) سبق التعريف به، ص( ).(1/48)
أضف إلى ذلك، إنّ الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ مستمدة من كون الشعب مصدر السلطات، وصاحب السيادة، ولذلك لا يفرق الكتاب الغَرْبيّون، بين الحقوق السِّيَاسِيَّة الناجمة عن الاشتراك في الجماعة، مثل حق الانتخاب، والتصويت وبين الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة لأن مصدر الحقوق ومصدر الحرِّيَّة واحد وهو سيادة الشعب، فالشعب هو الذي يحدد الحقوق والواجبات، والحريات الممنوحة للأفراد والسلطة المخولة للحكام(1). ولذلك ترتبط الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ بعدة حقوق، منها: حق المساهمة في السيادة الشَّعْبِية، وهي تنطلق من إرادة الشعب مصدر سلطة الحكومة، والتي تجعل لكافة المواطنين الحق في الإسهام في إدارة شؤون الدَّوْلَة وتقلد المناصب، بصرف النظر عن الدين أو اللون أو الجنس كما ترتبط، كذلك بحق التصويت ومنها التصويت على القوانين تعبيراً عن الإرادة العامة، التي تقتضي أخذ رأي الشعب في تعديل القوانين القائمة، أو وضع قوانين جديدة(2).
... ومن هذا العرض لمصدر الحقوق السِّيَاسِيَّة في الغَرْب، يتبين خطأ جعل الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة قاعدة يُبنى عليها السلوك السياسي في الدَّوْلَة الإسْلاميَّة.
__________
(1) عبد الله، عبد الحكيم حسن محمد: الحريات العامة في الفِكْر والنِّظَام السياسي في الإسلام، دراسة ومقارنة، ص(115).
(2) رباط ، د. أدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام، ص(233-245).(1/49)
... فالسيادة في الدَّوْلَةالإسْلاميَّة بيد الشَّرْع، والشعب ليس في يده صلاحية إقرار الحقوق والواجبات لأنها مقررة شرعاً كما أنّ استعارة مفهوم الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة الغَرْبيّ يؤدي إلى خلط في المفاهيم، حيث حدد الإسلام أطراً شرعية لممارسة الحقوق السابقة، كالبيعة الشَّرْعية مثلاً في حق اختيار الحاكم كما أوجب الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبذلك ربط بين حق إبداء الرَأْي وبين ما يجب على المسلم القيام به حين يستشعر قيام أمر مخالف للشرع، مما يؤكد المسؤولية الفردية، ويدعم المواقف الفردية والجماعية المتصدية للانحراف عن المنهج الشَّرْعي.
... وبناءً على ذلك ميز الإسلام في حقوق تولي المناصب السِّيَاسِيَّة والأعمال السِّيَاسِيَّة، بين الأفراد بقدر التزامهم بالعقائد وبالأحكام الشَّرْعية.
... ومن هنا لا يجيز الإسلام تولية الكافر أو المسلم الفاسق الإمارة، كما جعل الشورى حقاً للمسلمين دون غيرهم، لارتباط هذه الممارسة السِّيَاسِيَّة بالعقيدة الإسْلاميَّة، وأجاز سماع رأي غير المسلمين ، من رعايا الدَّوْلَةلدفع أي مظلمة تقع عليهم.(1/50)
... ومن هذا المنطلق يتضح أن إبداء الرَأْي ليس منطلقاً من حرية فردية تدفع المرء إلى تبنيه أو رفضه، لكونه مرتبطاً بالشَّرْع الموجب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل هذا يفسر جرأة الصحابة رضوان الله عليهم على قول الحق دون تحفظ، حيث استوعب الصحابة الإطار الشَّرْعي، المنظم لإبداء الرَأْي في حدود واجب الأمر بالمعروف والمناصحة للحكام، واتخذوه منهجاً، ووسيلة، لتقويم الحاكم، والمحافظة على القيم الإسْلاميَّة، والأحكام الإسْلاميَّة، مطبقة في واقع الحياة ، ولقد أكد الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، فقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه قوله في أول خطبة له بعد توليه الخلافة: « يا أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيق، إنّ الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بميتدع، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني »(1).
... لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، يدركون حدود الشَّرْع المنظم لامر الدَّوْلَةالذي دفع أبا بكر رضي الله عنه إلى قوله: « إنما أنا مثلكم » وإلى طلبه من الصحابة أن « يطيعوه » إن هو التزم الشَّرْع منهجاُ، وأن «يقوموه» إن زاغ عنه لتتحقق سيادة الشَّرْع على الحاكم والمحكوم.
... ومن الأمور الدالة على أن إبداء الرَأْي مرتبط بالإطار الشَّرْعي ، ما ذكره الطَّبَري من أن عمر رضي الله عنه قَالَ للصحابة يوماً:
« أما والله لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه، فقَالَ طلحة، وما عليك لو قلت إن يعوج عزلوه، فقَالَ لا، القتل أنكى لمن بعده »(2).
__________
(1) الطَّبَري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، ص(224-245).
(2) الطَّبَري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، (572).(1/51)
يتضح من ذلك، أن الصحابة رضوان الله عليهم، عرفوا حق الأمّة في اختيار الإمام وتوليه المنصب ومراقبته ومحاسبته وفقاً للإطار الشَّرْعي المنظم لذلك، استجابة للشرع، المؤكد على ضرورة المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لا يجوز الربط بين إبداء الرَأْي في الإسلام « والحرِّيَّة » التي قد تدفع المرء إلى قول الحق أو عدمه، وإلى تبني الخير أو رفضه، من منطلقات فردية مصلحية.
ويؤكد هذا المعنى أن الإسلام لم يأتِ مطلقاً بحكم « الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة » وإنما أتى بأحكام ثابتة كالوجوب، والحرمة، والندب والإباحة تتعلق بالأطر والممارسات السِّيَاسِيَّة في المجتمع الإسلامي.
والأصل في الأفعال أنّها مقيدة بالشَّرْع، قَالَ تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (1)
ولذلك فابدأ الرَأْي الذي أباحه الشَّرْع مقيد بالأطر الشَّرْعية التي وضعها الإسلام، والتي لا يجوز للمسلم تجاوزها، وعليه فالحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة التي تبيح للمرء من منطلق الحرِّيَّة الشخصية، إبداء رأيه وفق معتقداته الذاتية، مرفوض أصلاً لكن الإنسان في الإسلام مقيد بالشَّرِيعَة، ولا يسمح له مطلقاً بالمناداة بآراء كفر، كالشيوعية والإلحاد، وما شابهها من أحكام كفر، ومن هذا المنطلق أيضاً، لا يجيز الإسلام تكوين الجماعات، والأحزاب السِّيَاسِيَّة التي تبنى على مفاهيم عقدية مخالفة للشرع.
__________
(1) النساء / 65.(1/52)
... ومما سبق، يتبين خطأ ما يؤكده بعضهم من منطلق الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة الغَرْبيّ بأن الأمة في الإسلام مصدر السلطات وأن « أهم الحقوق التي يجب أن تمنحها الأمّة حتى تكون مصدراً للسلطات أن يكون لأفرادها الحق في اختيار الحاكم، والحق في مراقبته ومحاسبته »(1).
... وكذلك يظهر عدم صحة الرَأْي القائل بأن النِّظَام السياسي الإسلامي يجعل:
معنى الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة: أن يكون الشعب هو صاحب الكلمة العليا في شؤون الحكم، ويتم ذلك بالمشاركة في مسؤولية الحكم-سواء بطريق مباشر أو عن طريق ممثليه- ويتمثل ذلك في حق الأمة في اختيار الحاكم وفي مراقبته ومحاسبته على أعماله وفي مشاركته في الحكم، وفي عزله إذا حاد عن الطريق القويم، أو إذا خالف ما فوضته الأمة فيه(2). حيث بُنيت الآراء السابقة على افتراض أن الأمّة مصدر السيادة وعلى فكرة الدِّيمُقْراطِيَّة الغَرْبيّة، سواء المباشرة، منها أم النيابية، في حين جعل الإسلام السيادة بيد الشَّرْع، وقرر للأفراد حقوقاً، وألزمهم بواجبات محددة، وجعل من ضمن الحقوق السِّيَاسِيَّة للأفراد حق اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته، كما يظهر جلياً من يؤكد بأن الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة جزء من الدين(3). حيث أكد سعدي أبو جيب بأن الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة في الإسلام لا حدّ لها إلا قيدين، عدم الخروج على أحكام الشَّرْع، وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة أو الدَّوْلَةومع ذلك يقول:
«
__________
(1) الشيشاني، د. عبد الوهاب عبد العزيز: حقوق الإنسان وحرياته الأَسَاسيَّة في النِّظَام الإسلامي والنظم المعاصرة، ص(607).
(2) عبد الله، عبد الحكيم حسن محمد: الحريات العامة في الفِكْر والنِّظَام السياسي في الإسلام، ص(316).
(3) سعدي أبو جيب، دراسة في منهاج الإسلام السياسي، ص(742).(1/53)
ولكن الذي أحب أن أنوه به في هذا المقام أن القيود التي تفرض على ممارسة الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة، رعاية لمصلحة الأمّة والدول، إنما هي قيود عارضة وطارئة لأنها لم تفرض أصلاً إلا بمقتضى قاعدة الضرورة، ودفع أشد الضررين... وكلها قواعد استثنائية(1)...
... والذي نود تأكيده في هذا المقام، هو أن القاعدة التي تُبنى عليها الحياة السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية في الدَّوْلَة الإسْلاميَّة مقيدة بالشَّرْع، وليست منطلقة من فكرة الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة، وذلك لأن الحرِّيَّة السِّيَاسِيَّة تفترض سيادة الشعب، والتي يرفضها الإسلام، حيث يجعل السيادة بيد الشَّرْع.
... هذا بالإضافة إلى أن إبداء الرَأْي الذي أباحه الشَّرْع وأوجبه في بعض الحالات، يختلف في شكله ومضمونه عن الحرِّيَّة الفِكْرية في المنظور الغَرْبيّ، التي تبيح للأفراد تبني ما شاؤوا من معتقدات شريطة عدم إضراراها بالآخرين.
... حين أن إبداء الرَأْي في الإسلام هو واجب شرعي على المسلم، وحق له كذلك كما أنّ الإسلام يقرر أحكاماً شرعيّة، تنظم الممارسات السِّيَاسِيَّة، أهمها: جعل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، فرض على المسلمين أفراداً وجماعات. وأوجب على الدَّوْلَةتمكينهم من مزاولتها ، ومنع التقصير فيها، وأن تضمن لهم حق إبداء الرَأْي في حدود ما أجاز الشَّرْع. ومن هذا المنطلق تمتاز الدَّوْلَةالإسْلاميَّة بكونها الدَّوْلَةالوحيدة التي ينص دستورها الشَّرْعي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأمر وجوبي فضلاً عن كونه حقاً سياسياً للمسلمين.
المبحث السادس
المعارضة السِّيَاسِيَّة مقارنة بالمحاسبة الشَّرْعية
__________
(1) سعدي أبو جيب، دراسة في منهاج الإسلام السياسي، ص(743).(1/54)
... تنطلق المعارضة السِّيَاسِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ من ضرورة ضمان حقوق الأفراد السِّيَاسِيَّة، وحرياتهم، وتعكس حقاً فردياً مطلقاً، ينبع من كون السيادة مصدرها الشعب، فهي تعكس مصالحهم ورغباتهم، ولذلك إذا اتضح لسبب أو لآخر أن السلطة الحاكمة لا تعبر عن مصالحهم، جاز لهم إظهار عدم قناعتهم عن طريق المعارضة السِّيَاسِيَّة.
... ومن منطلق الحرِّيَّة المطلقة، حدد «جون ستيوارت ميل» القواعد الفِكْرية الأَسَاسيَّة التي تبنى عليها المعارضة السِّيَاسِيَّة للنظام السياسي، والتي منها:
أولاً: إذا أرغم أي رأي على السكوت، فإن هذا الرَأْي ، في حدود علمنا قد يكون صَحِيحاً، وإنكار ذلك إنما يعني افتراض العصمة فينا.
ثانياً: رغم أن الرَأْي الذي أخمد قد يكون باطلاً، فإنه قد يتضمن، وعادة يتضمن، جزءاً من الحقيقة، ولما كان الرَأْي العام، أو السائد في أي موضوع نادراً جداً ما يكون هو الحقيقة كلها، فإنه لا أمل في الوصول إلى بقيّة الحقيقة إلا باصطدام الآراء المتعارضة.
ثالثاً: حتى إذا كان الرَأْي المعلن، ليس جزءاً من الحقيقة، بل الحقيقة كلها فإنه إذا لم تسمح بمعارضتها، وإذا لم تعارض فعلاً، بقوة وحماسة ، فإن من يتلقونها سيعتنقونها كما لو كانت تحيزاً، ولا يفهمون أو يحسون كثيراً بأسسها العقليّة. (أي الحقيقة) (1).
ويؤكد الكتاب الغَرْبيّون، كذلك، أن «السلطة» و «المعارضة» توأمان لا ينفصلان:
__________
(1) ميل، جون ستيوارت: الحرِّيَّة، ترجمة عبد الكريم أحمد، ص(13-14).(1/55)
والواقع أن إقامة واستمرار الحكم يتطلبان دوماً-مهما كانت أشكاله-وجود عدم المساواة والامتياز، وبالضرورة وجود تباعد وتفاوت بين الحاكم والمحكومين، وبالتالي امتياز لصالح الأولين... وهذا التفاوت وهذه الامتيازات هي التي تغذي، أساساً، ما يجب أن يُسّمى، بسبب عدم وجود تعبير أكثر ملاءمة، « بالمعارضة »(1).
__________
(1) هوريو، أندريه، القانون الدستوري والمؤسسات السِّيَاسِيَّة، ص ( ؟ )(1/56)
أما الإسلام فإن الحقوق السِّيَاسِيَّة للمسلم تتركز على ضرورة العمل الإيجابي لاصلاح المجتمع، دون اللجوء إلى المعارضة الدائمة للنظام، ولذلك جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لدوام صلاح البلاد والنجاة من الهلاك، وفي ذلك يقول الله تعالى: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } (1). ولما كانت دولة الإسلام، دولة فكريّة، قائمة على شرع الله سبحانه وتعالى، ملتزمة بالجهاد في سبيله، وجب عليها التأكد من حسن تطبيق الشَّرْع في الداخل ومن سلامة البنيان الداخلي للدولة، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً لتميز أمّة الدعوة بقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (2). ومن هنا تختلف الدَّوْلَةالإسْلاميَّة عن الدول الوضعية، التي تؤكد دساتيرها على معارضة الحاكم فقط، وذلك رغبة في الحد من سلطته، نظراً لأن السلطة « مفسدة » في الفِكْر الغَرْبيّ، وكونها مفسدة يعني ضرورة تقييدها، ولذلك تنص دساتير بعض الدول الغَرْبيّة على الشروط الكفيلة بمنع تركز السلطة، وذلك عن طريق مبدأ الفصل بين السلطات، وعن طريق تبني مبدأ المعارضة السِّيَاسِيَّة، كوسيلة دائمة للتعبير عن عدم القناعة بالممارسات السِّيَاسِيَّة، التي تنتهجها الحكومة.
ويختلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كحق سياسي للمسلم عن المعارضة السِّيَاسِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ من عدّة أوجه:
أولاً: تنطلق المعارضة في الفِكْر الغَرْبيّ من قاعدة حفظ « الحرِّيَّة الفردية » ومنع الاستبداد، وتهدف في الغالب إلى إظهار خطأ الممارسات السِّيَاسِيَّة للحكومة والكشف عنها، بهدف إضعافها أو إسقاطها.
__________
(1) هود / 116.
(2) آل عمران / 110.(1/57)
أما الإسلام فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتأكد من التزام الحاكم بالشَّرْع، لحراسة الدين من الضياع، ومنع تفشي الظلم والفساد. ولذلك، فهدف الأمر بالمعروف ليس حفظ حقوق وحريات الأفراد فقط وإنما التأكد من إقامة أحكام الإسلام.
ثانياً: يرفض الإسلام فكرة « المعارضة » الدائمة للنظام السياسي، أي « المعارضة للمعارضة ». إنّ الأصل في نظام الإسلام كما مرّ معنا من قبل الطاعة، مصداقاً لقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) ولتأكيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجوب طاعة الأمير، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - : « اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » (2) . في هذه الأحاديث وغيرها مما تعلق بها، تدل على أن طاعة الحاكم في الإسلام أداء لفرض من فروض الدين وهي بالتالي ليست نابعة من خوف من سطوة حاكم، أو رغبة في دفع شر فاسد، بل هي نابعة من إيمان بمبدأ، واعتناق لعقيدة هذا وقد قيد الشَّرْع الطاعة «بالمعروف» أي بما وافق الشَّرْع ونهى الإسلام عن الطاعة في المعصية: لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » (3).
فالطاعة واجبة ما أقام الحاكم الشَّرْع، وذلك مصداق لقوله تعالى: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ - الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (4) وقوله تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (5).
__________
(1) النساء / 59.
(2) سبق تخريجه ، ص( ).
(3) سبق تخريجه ، ص( ).
(4) الشعراء / 151-152.
(5) الكهف / 28.(1/58)
ولذا كان الإمام يُطاع في كل معروف ولا طاعة في المعصية، وأما إن كان في الأمر اجتهاد فالواجب على الرعية طاعة الإمام ولو خالف رأيهم اجتهاده لكون أحاديث الطاعة في المعروف جاءت مطلقة ولم تقيد بكون المعروف موافقاً لرأي أفراد الرعيّة أو مخالفاً لهم، وكذلك فقد كان العديد من الصحابة يخالفون إمامهم في مسائل اجتهادية ومع هذا يتبعون أمره بالتنفيذ في ذلك، مما يدل على أنّ الإمام يُطاع في كلّ معروف حتى لو خولف في الرَأْي .
والمعارضة للمعارضة، فيها إصرار على الخطأ، المؤدي إلى الخيانة والفسق، وقد نهى الله تعالى عن الخيانة بقوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (1) ، وقَالَ تعالى: { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (2) ونهى سبحانه وتعالى عن قول الزور بقوله: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } (3)، ولذلك يرفض الإسلام فكرة المعارضة للمعارضة، لقيامها على مرتكزات تخالف الشَّرْع. ومن ثمّ « يجب على الرعية وأهل الرَأْي والخبرة أن يقولوا الحقيقة غير منقوصة عندما يستشارون أو حتى عندما يسألون أو يتصدون لطرح الآراء والمواقف، فإن الله تعالى يأمر بعدم تلبيس الحق بالباطل ومن يفعل ذلك يكون قد عصى الله تعالى، وبذلك يعرض نفسه لغضبه سبحانه : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (4) » (5).
ومن هنا يظهر خطأ من يقول: « إنّ المجاهرة بالرَأْي المعارض ليس جائزاً فقط، بل هو واجب وما كان واجباً فإن عدم القيام به أو التقصير فيه، إثم وزور »(6).
__________
(1) الأنفال / 27.
(2) آل عمران / 71.
(3) الحج / 30.
(4) البقرة / 42.
(5) السحمراني، د. أسعد: العدل فريضة إسلامية والحرِّيَّة ضرورة إنسانيّة، ص(51).
(6) الحج / 30.(1/59)
حيث إنّ هذا القول يسلم بالمنطلقات الفِكْرية للمعارضة الغَرْبيّ ة ولا يدرك مناقضتها للأحكام الشَّرْعية.
وتؤكد تعاليم الإسلام مع ذلك، أنّ من الحقوق السِّيَاسِيَّة للمسلمين وجوب المحاسبة، حين ينحرف الحاكم عن شرع الله، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « أفضل الجهاد(1)، كلمة عدل عند سلطان جائر »(2) ، ولذلك فظهور الانحراف يستلزم وجود المحاسبة للحاكم، وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإزالة المنكر، والتأكد من حسن تطبيق الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، أما المعارضة السِّيَاسِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ فتبنى على اعتبار السلطة السِّيَاسِيَّة ذات أثر سلبي على حريّة الأفراد، مما يستلزم تقييدها في أضيق حدود.
__________
(1) يقول الإمام الخطابي: في سبب كونه أفضل الجهاد: « إنّما صار أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان متردداً بين رجاءٍ وخوف لا يدري هل يغلب أو يُغلب، وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قَالَ الحق وأمر بالمعروف فقد تعرضّ للتلف وأهدف نفسه للهلاك، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف. انظر: الخطابي معالم السُنَن (4/350).
(2) رواه النسائي (7/186)، وقَالَ الألباني: صَحِيْح [صَحِيْح سُنَن النسائي ]. رقم 3925، (3/882)، ورواه الترمذي، (2175) كتاب الفتن باب ما جاء في أفضل الجهاد، وحسّنه. ورواه أبو داوود (4344)، كتاب الفتن والملاحم، باب الأمر والنهي، وابن ماجة (4011) ، (2/1329-1330)، كتاب الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي سنده عطيّة العوفي لا يُحتج بحديثه، ولكن للحديث شاهدٌ يتقوى من حديث طارق بن شهاب. وقَالَ الألباني: صَحِيْح [ صَحِيْح سُنَن ابن ماجة ] رقم 3240، و 3241، (2/369). وانظر المنذري في الترغيب والترهيب، (3/168) وتحفة الأحوذي(6/3396)، وكنز العمّال رقم 5512،( 3/64)، والحافظ الحميدي في المُسْنَد رقم 752، (2/331-332).(1/60)
ثالثاً: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كحق سياسي للمسلم يعتبر واجباً شرعياً وفرضاً على المسلمين، في الوقت ذاته، لأمر الله سبحانه وتعالى به، لضمان تحقيق الإيمان والعدل، الذين هما أساس الحكم، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (1).
يقول ابن تَيْمِيَّة في هذا الصدد:
«ولهذا قيل: أنّ الله يقيم الدَّوْلَة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة »(2).
بينما تنطلق فكرة المعارضة السِّيَاسِيَّة من اهتمام وحرص الأفراد فقط على عدم استبداد الحاكم.
يتضح إذاً: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من قاعدة شرعية وليس من فكرة الحرِّيَّة الفردية، ويجمع بين كونه حقاً سياسياً للمسلمين وواجباً دينياً عليهم، وقد وردت العديد من الأدلة الموجبة للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتي تدل دلالة واضحة على أنّ الاقتصار على الجانب السلبي المتمثل في المعارضة السِّيَاسِيَّة، لا يكفي لقيام مجتمع إسلامي متكامل، حيث تجب المبادأة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحاسبة ليستقيم حال المجتمع.
وبذلك تقدم نظرة الإسلام السِّيَاسِيَّة لحقوق الأفراد السِّيَاسِيَّة تجسَيِّداً حقيقياً للمشاركة السِّيَاسِيَّة، يربو على فكرة المشاركة لدى الغَرْب لكونها تهدف إلى النهوض بالدَّوْلَة وليس الاكتفاء فقط بنقدها ومعارضتها، كما يهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك إلى تأكيد الحق الشَّرْعي للأفراد والجماعات في التصدي لانحرافات الحكومة، في حين تجسد المشاركة السِّيَاسِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ رغبة الأفراد في الحد من سلطة الحاكم، وبالتالي التخفيف من سيطرة الدولة، التي أسماها المفكر السياسي هوبز « التنين ».
__________
(1) التوبة / 112.
(2) ابن تَيْمِيَّة / مجموع الفتاوى (38/146).(1/61)
المبحث السابع
لا إكراه في الدين
... مما علم في دين الله تعالى بالضرورة، وثبت بالسنة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، أن العقائد والعبادات الإسْلاميَّة لا يكره أحد على اعتناقها ابتداء، حيث أقرّ الإسلام قانون: « لا إكراه في الدين » لغير المسلمين في عقائدهم وعباداتهم، وطبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك عملياً في تعامله مع غير المسلمين، سواء أكانوا كفاراً من أهل الكتاب كيهود المدينة، وخيبر، ونصارى نجران، أم كانوا لا يتدينون بكتاب كمجوس هجر، وإنما يلزم غير المسلمين بالخضوع للأحكام الشَّرْعية، المنظمة للواقع الاجتماعي، التي لا تتعارض مع عقائدهم وعاداتهم، نحو الأحكام المَدَنيَّة، كالبيع والتجارة، أو أنظمة العقوبات كحد السارق وقصاص القاتل، ونحو ذلك.
... ولهذا شرعت أحكام الجزية على كل من كفر، وأراد البقاء على دينه، وعدم التحوّل عنه إلى دين الإسلام، لإبراز التبعية للدولة الشَّرْعية، وسيادة أنظمتها العامّة.
... وبذلك استقر الأمر على ترك كل كافر على ما يعتقده، ويتعبد به، في دار الإسلام، ما دام خاضعاً لأحكام الشَّرِيعَة العامة، التي تنظم المجتمع وتسير بها أحكام الدولة، حيث يلتزم غير المسلم بتلك الأحكام العامة من جانبها التشريعي نفسه، كأنظمة قانونية للمجتمع التي تتعارض مع عقيدته، ودينه كأحكام العبادات والانضمام إلى جيش المسلمين وكذلك تلك الأحكام التي نظمها دينه نحو أحكام الزواج والطلاق والمأكل والمشرب، بحسب ما فصله الفقه الإسلامي. يقول عزّ وجلّ : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (1).
__________
(1) البقرة / 256.(1/62)
... يفسر الإمام القرطبي هذه الآية بقوله: « الدين في هذه الآية: المعتقد والملّة، بقرينة قوله تعالى: { قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان أو البيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه »(1).
... كتب أبو يوسف في كتاب الخراج: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لنصارى نجران كتاباً جاء فيه: أنه لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النَّبِيّ رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم، لا يغيّر أسقف من أسقفية، ولا راهب من رهبانيّة... (2).
... كما روى أبو يوسف: أنّ الصحابة تركوا غير المسلمين وما يأكلون وما يشربون، ويتخذون، بحسب أديانهم، وقد روى أبو يوسف عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنه قَالَ لعماله: « يا هؤلاء بلغني عنكم أنّكم تأخذون في الجزية، الميتة والخنزير والخمر... لا تفعلوا ولكن ولّو أربابها بيعها وخذوا منهم الثمن »(3). مما يدل على ترك غير المسلمين، يملكون الخمر والخنزير، كطعام وشراب ويتبادلونها بينهم، ما داموا يرون إباحتها في دينهم، حتى لو لم يجز الإسلام ذلك، وهذا بالنسبة لمن كان غير مسلم أصلاً.
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. (2/279).
(2) أبو يوسف، القاضي: كتاب الخراج، ص(78).
(3) أبو يوسف، القاضي: كتاب الخراج، ص(137).(1/63)
... وبمقارنة هذه الإباحة في تدين غير المسلمين بما عند الغَرْب من الحرِّيَّة الدينية، نجد أن الحرِّيَّة الدينية في الفِكْر الغَرْبيّ تقوم على مرتكزات تناقض مفهوم إباحة التدين أو العقيدة في الفِكْر الإسلامي، فالحرِّيَّة الدينية في الغَرْب تنطلق من قاعدة كون التدين صلة روحيّة محضة، بين الإنسان وخالقه، لا شأن لها بكيان الدَّوْلَةالسياسي، ولا علاقة لها بالبناء التشريعي والاجتماعي والاقتصادي الداخلي منه والخارجي، لارتكاز الدَّوْلَةعلى المبدأ « القومي » والعَلْماني، الذي يفصل الدين عن الحياة الاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية والسِّيَاسِيَّة، الداخليّة والخارجية.
... أضف إلى ذلك، أنّ الحرِّيَّة الدينية في الغَرْب، تعني حق الإنسان في أن « يختار الدين الذي يشاء، بل وأن يختار أن لا يكون مؤمناً بأي دين كان »(1).
... والحرِّيَّة الدينيّة السلبيّة أي حق « الإلحاد » لا تتوافر إلا في ظلّ اتخاذ الدَّوْلَةموقفاً محايداً من الدين « وهي حالة تسفر عنها الوضعية القانونية، الموصوفة بعلمانية الدَّوْلَة»(2).
... كما يخضع الغَرْب حريّة ممارسة الشعائر الدينية لمقتضيات المصلحة العامة، وحفظ النِّظَام ولذلك، يقيد الغَرْب هذه الحرِّيَّة بقيود جمة، بزعم الحرص على أن « لا تنقلب الحرِّيَّة إلى فوضى فتمس، بحجة التمتع بها، راحة الأهلين، وشعورهم، الذي قد يكون مغايراً لهذه المظاهر »(3). وإن حريّة التدين، والعبادة ينبغي منعها من « أن تهدد سلامة المجتمع أو أمنه... التي قد تضطر الإدارة المسؤولة إلى (تقييدها) لحفظ النِّظَام العام »(4).
__________
(1) رباط، د. أدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام، ص( 315).
(2) رباط، د. أدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام، ص( 216).
(3) رباط، المرجع نفسه، ص( 221).
(4) رباط، المرجع نفسه، ص( 220).(1/64)
... ومن ذلك يظهر أن حريّة ممارسة الشعائر، وحريّة التدين، تقع في مرتبة أدنى من حفظ النِّظَام العام، وبقاء الدَّوْلَةفي الفِكْر الغَرْبيّ، مما يبيح للسلطة الحاكمة فرصة إلغاء الحرِّيَّة الدينية، من ممارسة شعائرها، بحجة تنظيم مظاهر العبادة أو عدم الإضرار بالآخرين، كما يظهر اليوم من منع المسلمين في بعض أقطار العالم من إقامة الأذان، أو تدريس الدين الإسلامي في مدارسهم أو إكراههم على تغيير أسمائهم أو لبس الحجاب الشرعي أو إقامة أي حكم شرعي له صلة بالتنظيم الاجتماعي.
... ومن ذلك يظهر وجود التناقض بين الزعم بحرية التدين ثمّ عزله عن أي ممارسات تؤثر على الواقع الاجتماعي، وحرصه في تصرفات وشعائر روحيّة محضة لا علاقة لها بواقع الحياة.
... أما من اعتنق دين الإسلام، فإن الأصل في التعبد للمسلم هو القيام به وفق ما جاء في الشَّرْع، سواء أكان ذلك في العقائد، أم كان في العبادات، ولا يحل للمسلم أن يتعبد بكيفية، أو هيئة، ليس لها أصل في الشَّرِيعَة، أو خارجة عمّا رسمه الشَّرْع عمداً عالماً بذلك، وإلا عُدّ مبتدعاً للإثم، مغايراً للشّرع، يقول الإمام الشَّاطِبِي رحمه الله:
... « المبتدع معاند للشرع، ومشاق له، لأن الشَّارِع قد بيّن لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها. و أخبر أن الخير فيها، والشرّ في تعديها.. فالمبتدع راد لهذا كلّه، فإنه يزعم أنّ ثمّ طريقاً آخر.. قد نزل نفسه منزله المضاهي للشارع »(1).
__________
(1) الشَّاطِبِي: الاعتصام، (1/49-50).(1/65)
... وروى العرباض بن سارية(1): أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: « عليكم بسنتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ(2)، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة »(3)، ويقول عليه السلام: « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » (4) وفي رواية : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (5).
__________
(1) العرباض بن سارية السلمي، صحابي قَدم حمص ومات في فتنة ابن الزبير. انظر: الإصابة، (2/473).
(2) النواجذ: مفردها الناجذ وهو الضرس ، وعضَّ على الشيء بناجذه : حرص عليه. المعجم الوسيط، ص (902).
(3) صَحِيْح ابن حبّان (1/179) واللفظ له ومثله المستدرك على الصَحِيْحين (1/176)، وموارد الظمآن (1/56)، وسُنَن أبي داود (4/211) ومُسْنَد أحمد (4/126). وانظر: جامع الأصول، (1/189).
(4) ذكره البُخَارِيّ تعليقاً (2/959) كتاب البيوع باب : النجش ومن قَالَ لا يجوز ذلك البيع، وينظر تغليق التعليق (3/396-398) ورواه مسلم (3/1343) كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور ومُسْنَد أحمد (6/180) وجامع الأصول (1/197).
(5) رواه البُخَارِيّ (3/241) كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود ومسلم (3/1343) كتاب الأقضيّة باب نقض الأحكام الباطلة، وأبو داود (4606) كتاب السنة: باب لزوم السنة، وابن ماجة في المقدمة (14) باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصَحِيْح ابن حِبِّان (1/207) (1/209)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (10/119) وسُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (4/224)، وسُنَن أبي داود (4/200)، وسُنَن ابن ماجة (1/7) ومُسْنَد أحمد (6/240).(1/66)
... وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعبد بخلاف ما شرع تفرقاً عن الدين، ومروقاً منه حيث روى التّرمذي، عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص(1)، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : « إنّ بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين ملّة وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلهم في النّار إلاّ ملّة واحدة، قَالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قَالَ: ما أنا عليه وأصحابي»(2).
__________
(1) عبد الله بن عَمْرو بن العاص، القرشي، أسلم قبل أبيه، مات بالشام ، سنة (65 هجرية). انظر: الإصابة، (2/351).
(2) رواه التِّرْمِذِي في سُنَنه، (5/26)، واللفظ له. وحديث الافتراق لم يرد في أي من الصَحِيْحين، دلالة على أنه لم يصح على شرط واحد منهما، ومن ثم فإنّ بعض روايات الحديث لم تذكر أنّ الفرق كلها في النار إلاّ واحدة، وممّا قَالَه الشَّوْكَاني في فتح القدير ،(2/56)، الزيادة ضعّفها جماعة من المحدّثين، بل قَالَ ابن حَزْم أنها موضوعة، وأجاب الألباني: إنني لا أعلم من المحدّثين ضعّف الزيادة بل الجماعة قد صححوها (مجلة الجامعة الإسْلاميَّة ، العدد 57، ص (51)) وأما الحديث فقد حسّنه الحافظ ابنة حجر وصححه ابن تَيْمِيَّة بتعدد طرقه ورجحّ سليم بن عبد الهلالي أنّه حديث حسن وهو الحق. انظر الشَّاطِبِي: الاعتصام، تحقيق الهلالي، (2/698).(1/67)
... ووصف عليه الصلاة والسلام أقواماً ابتدعوا بالمروق من الدين، بقوله: « يخرج قوم من أمتي، يقرأون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامهم بشيء.. لا تجاوز صلاتهم تراقيهم(1)، يمرقون(2) من الإسلام كما يمرق السهم من الرّميّة »(3).
... تؤكد هذه الأدلة، على وجوب إتباع الشارع، في كل اعتقاد وتعبد للمسلم، ويترتب على ذلك، أنّ الدَّوْلَةالتي تقوم على أساس الإسلام مسؤولة عن حفظ الأحكام التعبدية والعقدية، كما جاء بها الشارع، ومسؤولة كذلك عن صيانتها عن الانحرافات الفِكْرية والعملية. وهذه المسؤوليّة جزء من وظيفة الدَّوْلَة الشاملة في تطبيق الأحكام الشَّرْعية، وإبلاغ رسالة الإسلام.
... وتتولى الدَّوْلَة حفظ الأحكام، كما تتولى صيانتها، باستخدام ما يتوافر لها من وسائل، كالتعليم والإرشاد في مدارسها ومعاهدها، لبيان الأحكام والعقائد لأفراد الأمّة، وعن طريق وسائل الإعلام، لإيضاح تعاليم الشَّرِيعَة، وإبلاغها، وكذلك بإرسال الدعاة والمعلمين والعلماء، وبنصب الأئمة والوعاظ في المساجد، وبنشر الكتب الشَّرْعية، وبثّ المعارف الإسْلاميَّة في المجتمع إلى غير ذلك. وقد ثبت فعل ذلك في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وخلفائه الراشدين، حيث كان يقوم عليه الصلاة والسلام بالإبلاغ والتعليم، وبعث الدعاة إلى القبائل، ويُرسل من يُعلّم النّاس أمور دينهم من صحابته، وقام بإرسال الكتب، التي تحوي أحكاماً شرعيّة إلى من دخل في دين الإسلام.
__________
(1) مرق السهم من الرميّة، اخترقها وخرج من الجانب الآخر في سرعةٍ، ومن الدين: خرج. المعجم الوسيط ، ص(865).
(2) الترقوةُ: عظمة مشرفة بين ثغر النّحر والعاتق وهما ترقوتان. وهنا كناية عن عدم قبول صلاتهم. المعجم الوسيط، ص(84)
(3) رواه مسلم في صَحِيْحه واللفظ له (2/744) ، وجامع الأصول (10/433).(1/68)
... ومع ثبوت هذا الأصل، من وجوب صيانة الدَّوْلَة وحمايتها للأحكام والعقائد، فإنه يرد في الكتاب والسنّة نصوصاً يحتمل تأويلها عدة أوجه، وقد يتفاوت المسلمون، في إثبات الطرق، التي وردت بها بعض سُنَن العبادات، أو بعض الأحكام العقدية، وقد لا يصل العلم ببعض العقائد والأحكام إلى بعض من المسلمين، ويترتب عن ذلك، ظهور أفهام متعددة ومختلفة من المسلمين، وقد ينجم عن ذلك ظهور مذاهب فقهيّة في الأحكام الشَّرْعية، وظهور فرق متنازعة في بعض الأمور الاعتقاديّة الواردة بالنُّصُوص الشَّرْعية، والتي يطلق عليها علماء الأصول: المسائل الخبرية العمليّة: مع إقرار جميع هذه المذاهب: وأهل الفرق، على أن مرجعهم هو الكتاب والسنّة، وتعظيمهم إيّاهما، وكون هذه المسائل لا تخرج قائلها إلى الكفر والرّدة عن الإسلام.
... فالواجب في هذه الأحوال، عندما يكون الفهم مبنيّاً على تأويل مسوغ لنص شرعي في الكتاب والسّنّة، سواءاً أكان مصيباً أم مخطئاً، مبتدعاً أم ناجماً عن فهم معنى محتمل لألفاظ اللغة التي جاء بها النّص، أو بناء على اجتهاد مبذول ممّن توافرت له وسائله، أن يعذر المسلمون بعضهم بعضاً، فيما يدركه كل منهم، ولا يجوز للدولة، وولاة الأمر، في هذه الأحوال، حمل الرعيّة بالوسائل القسرية المادية على فهم واحد من الأفهام المشتركة، التي تحملها النصوص، كما لا يجوز للدولة أن تمنع الناس بالقوة، وتجبرهم على ترك ما تعبدوا به، من عقائد وأحكام متنازع فيها حينئذ، لما قد ينجم عن ذلك من شق وحدة المسلمين وتمزيق شملهم، وكلمتهم، وإشاعة البغضاء بينهم.
... يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة:
«(1/69)
لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأه فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.. والخوارج المارقون الذين أمر النَّبِيّ بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين.. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن وقّاص، وغيرهم من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، فقاتلهم لدفع ظلمهم، ولا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنّص والإجماع، لم يكفَّروا، فكيف بالطوائف المختلفين، الذين اشتبه عليهم الحقّ في مسائل غلطوا فيها.. فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كان فيها بدعة محققة »(1).
... وقد ذكر الشَّاطِبِي، أحد علماء المالكية، أن الطوائف المتأولة لو ابتدعت، واعتنقت بعض الاعتقادات غير الصَحِيْحة بتأويلها، فإنه مع ذلك لا يجوز قتالها ما لم تخرج عن الجماعة، وتحارب الدولة، وضرب لذلك مثلاً:
__________
(1) ابن تَيْمِيَّة: مجموع الفتاوى (3/282).(1/70)
ما صنع علي في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، حيث إنّه لما اجتمعت الحرورية(1) من الخوارج، وفارقت الجماعة، لم يهجرهم علي ولا قاتلهم. كما ضرب الشَّاطِبِي مثلاً في فعل الصحابة رضي الله عنهم حين ظهر معبد الجهني، وغيره من أهل القدر، حيث لم يكن من السلف لهم إلاّ الطرد والإبعاد والعداوة والهجران، دون إقامة الحد المقام على المرتدين. وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز أيضاً لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكفّ عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين(2).
__________
(1) الحرورية ، لقبٌ عُرف به الخوارج وكان ذلك حين أنكروا على عليّ بن ابي طالب قبوله التحكيم في صفين وانحازوا عنه إلى قرية تُدعى (حروراء) فسموا (الحرورية). انظر: اليعقوبي ، التاريخ ، (2/191). والبغدادي ، الفرق بين الفرق، ص(67).
(2) الشَّاطِبِي: الاعتصام (2/186).(1/71)
وقد أكد ابن قُدامة من فقهاء الحنابلة، عدم جواز قتال الطوائف المسلمة، التي قد تعتنق المفاهيم والأفكار المبتدعة بتأويل، إذا لم تقاتل الدولة، حيث بيّن ابن قُدامة أنه إذا أظهر قوم رأي الخوارج، مثل تكفير فعل كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدّم الحرام، فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم. وذكر ابن قُدامة أن هذا قول أبي حنيفة، والشَّافِعِي ، وجمهور أهل الفقه، أنه قد روي ذلك عمر بن عبد العزيز، حيث استدل هؤلاء الفقهاء على ذلك بفعل علي رضي الله عنه، فإنه كان يخطب يوماً فقَالَ رجل في باب المسجد: لا حكم إلا لله، فقَالَ علي: « كلمة حق أُريد بها باطل »(1)، ثم قَالَ : « لكم عليّ ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله، أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال » ، كما احتج الفقهاء أيضاً بما ورد من أن عدي بن أرطاة، كتب إلى عمر بن عبد العزيز أنّ الخوارج يسبونك، فكتب له: إن سبوني فسبهم، أو اعف عنهم، وإن شهروا السلاح عليهم، وإن ضربوا فاضرب. ومن الأدلة على ذلك أيضاً أن النَّبِيّ عليه السلام لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة.. فعدم التعرض لغيرهم، أولى.. (2).
__________
(1) رواه مسلم (2/749) كتاب الزكاة: باب التحريض على قتل الخوارج ، وقد ورد هذا الأثر في قصة علي مع الخوارج ضمن حديث مرفوع.
(2) ابن قُدامة المقدسي: المُغْني (8/111-112).(1/72)
ويعلل الشَّاطِبِي السبب، الذي من أجله لم يشرع الإجبار والإكراه، عمّن انتسب إلى الإسلام من أهل البدع، من لم يرتدوا أو يشهروا السلاح، بأن أهل هذه الفرق المبتدعة، قد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنّة والجماعة، في مطلب واحد هو الانتساب إلى الشَّرِيعَة، إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين، وإنّما وقع اختلافهم في الطريق، فحصل من هذا الخلاف في هذه المسألة من أصول الدين، وصار بصحة القصد، كالخلافات في فروع الأحكام، في كونه لا يخلّ بصحة الإسلام، وفي كون المخطئ يعذر فيه(1).
ولهذا يقول الشَّاطِبِي لتأكيد المعنى السابق من عدم الإكراه لأهل الفِرق: ذلك أنّ كل فرقة تدعي الشَّرِيعَة.. وأنها المتّبعة لها.. وهي تناصب العداوة من نسبها إلى الخروج عنها.. وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقرّ به ورضيه.. بخلاف هؤلاء الفِرق فإنهم مدّعون الموافقة للشارع، والرسوخ في إتباع شريعة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ( وسبب العداوة بينهم وبيم أهل السنّة ) ادعاء بعضهم على بعض الخروج على السّنة (2). وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنيّة على خصوص وجدنا كل طائفة تتعلق بذلك أيضاً... (3).
ومن هذه الأقوال يتأكد، أنه ليس للدولة إجبار أو إكراه على اعتناق عقائد متنازع فيها، أو أحكام تعبديّة متنازع فيها، بين المسلمين، ما دام المخالف لم يخرج عن دائرة الإسلام، وما دامت العبادات، أو الأحكام، التي يعتنقها مرجعها في فهمه وعلمه إلى الكتاب، والسنّة، وأدلة الشَّرْع، حتى ولو كانت هذه الأحكام والعقائد بدعاً محققه في نظر الدولة.
__________
(1) الشَّاطِبِي: الاعتصام (2/87).
(2) الشَّاطِبِي: الاعتصام (2/203).
(3) الشَّاطِبِي: الاعتصام (2/253).(1/73)
ويتأكد هذا المعنى أيضاً من تجويز الفقهاء لولاية من كان يحمل اعتقاداً خلاف الحق، بشبهة أو بتأويل، حيث ذكر الماوردي قول كثير من علماء البصرة: إنّ الاعتقاد خلاف الحق بتأويل وشبهة، « لا يمنع من انعقاد الإمامة، ولا يخرج من فيها، كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشَّهادَة »(1).
وممّا سبق يظهر أن تدخل الدَّوْلَةيقتصر في حالة حدوث أفكار وممارسات بدعية، على بيان الحقائق، وبيان فساد تلك الأفكار والعقائد، بالحجّة والبرهان، لا بالسّيف والسنان، كما وتعمل على منع تأثير الأفكار والعقائد المبتدعة على المسلمين، بتحذير المسلمين من أهلها، وهجرهم، في حالة دعوتهم، دون القسر والجبر لهم، لواجب الدَّوْلَةفي حفظ الدين كما سبق بيانه.
ولهذا يقرر كثير من العلماء، أنّ التشهير بأهل البدع، إنما يقتصر على الحالات التي يكون فيها النشر والدعوة للبدع في المجتمع جماعياً، حيث يبيّن الشَّاطِبِي أنّه حينما تكون الفِرقة تدعو إلى ضلالها، وتزينها للعوام، ومن لا علم عنده، فلا بدّ من التصريح بأنهم من أهل البدع و الضلالة، ولا بدّ من ذكرهم، والتشهير بهم، لأن ما يعود على المسلمين من ضلالهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم، أما إذا لم يكن هناك دعوة للبدعة، ونشر لها، فإنه لا ينبغي أن يُشهّر بأهل البدعة، وإن وجدوا، ويعلل الشَّاطِبِي ذلك بأنه سيؤدي إلى إثارة الشّر، وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين، ويبيّن الشَّاطِبِي أن الأسلوب الواجب إتباعه عموماً هو المذاكرة برفق، وعدم التفكير، بدعوى الخروج عن السنّة، وأن يقتصر على بيان الدليل الشَّرْعي، وأن الصواب الموافق للسنّة كذا وكذا.. (2).
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانيّة، ص(17).
(2) الشَّاطِبِي: الاعتصام (2/230).(1/74)
ويتفق في ذلك الإمام الغَزَالي، الذي يؤكد على أنّ أكثر الجهالات، إنّما رسخ في قلوب العوام، بتعصب جماعة من جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي، والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، ممّا أدى إلى خصوص المعاندة والمخالفة، ورسوخ الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها(1).
ويحلل الإمام الجويني، بأن الواقع السياسي كذلك، يتطلب أنّ لا تعمل الدَّوْلَة على إثارة الفرقة عن طريق الإجبار لأهل العقائد والعبادات المبتدعة على تركها، أو قسرهم على إتباع ما تراه، إذا ما كان ذلك سيؤدي إلى ظهور التمزق والتشتت والفتنة من المسلمين، حيث يقول:
إن كان ما صار الناجم بدعة، لا تبلغ مبلغ الرّدة، فيتحتم على الإمام المبالغة في منعه ودفعه، وبذل كل الجهود في ردعه ووزعه.. فهذا كلّه إذا أخذت البدع تبدو، أو أمكن قطعها، فأما إذا شاعت الأهواء، وذاعت، وتفاقم الأمر.. وفات استدراكه.. وعسرت مقاومة ومصادمة ذوي البدع والأهواء، وغلب على الظّن مسالمتهم ومتاركتهم، وتقريرهم على مذاهبهم وجه الرَأْي ، ولو جاهدهم لتألبوا وناشبوا ونابذوا الإمام.. وسلوا أيديهم عن الطاعة.. وقد يتداعى الأمر إلى تعطيل الثغور.. واستجراء الكفار، فإن كان كذلك، لم يظهر ما يخرق حجاب الهيبة، ويجر منتهاه عسراً وخيبة »(2).
وممّا سبق، يظهر أنّ الدَّوْلَةمع عملها في حفظ الدين على أصوله، ليس لها إجبار أحد من المسلمين، أو إكراهه بالعنف والسيف على ترك اعتناق عقائد أو عبادات بعينها، حتى ولو كانت بدعاً ما دام مرجع المسلمين في ذلك الكتاب والسنّة، وأدلة الشَّرْع، وما لم يخرج أهل هذه البدع على الدولة، أو يرتدوا عن دين الإسلام.
__________
(1) الشَّاطِبِي: الاعتصام (2/230).
(2) الجويني، أبو المعالي، عبد الملك: غيّاث الأمم في التياث الظلم ص(185-188).(1/75)
وإنما تعمل الدَّوْلَةجاهدة على تبيان الحق ونشره، ولها في ذلك منع الدعوة إلى البدعة، والتحذير من شرّها، وكذلك التشهي بمن يدعو إليها، ويعمل على إغواء العوام بها، وذلك دون اللجوء من الدَّوْلَةإلى القوة المادية، من قتل أو سجن، ودون قتالهم، أو قتلهم، ودون سلبهم حقوقهم المَدَنيَّة، من فيء، أو غيره، ما داموا مقيمين على الطاعة، وأيديهم مع سائر المسلمين، ولم يخرجوا ببدعهم إلى الكفر الصريح، أو يخرجوا على الدولة.
والذي ينبغي أيضاً ملاحظته، أنه مع لجوء الدَّوْلَةإلى منع أهل البدع من الدعوة إليها، والتشهير بهم، عند الحاجة لذلك-لواجب في حفظ الإسلام-إلا أنه ينبغي أن يتم القيام بذلك وفق الطرق القضائية المتبعة في الدولة، فليس لها التشهير، أو المنع، أو مصادرة الكتب مثلاً، إلا بعد عرض الأمر على القضاء، وصدور حكم قضائي يثبت وجود البدعة، والمخالفة لما علم من الإسلام، ويوجب إنزال عقوبة التشهير أو التعزير بالدّعاة إلى تلك البدعة أو المخالفة.(1/76)
ما سبق تفصيله يتعلق بالاجتهادات، والمخالفات البدعية، أما إن كان الاجتهاد والفهم في الفروع، وله تأويل سائغ في النُّصُوص الشَّرْعية، كاختلاف فقهاء المذاهب، فإنّ الدَّوْلَةفي هذه الحالة ليس لها مطلقاً إجبار أحد على مذهب فقهي معيّن، أو العمل بحكم شرعي معيّن، فيما يختص بالأفراد، فيما بينهم، إذا لم يحتكموا فيه إلى الدولة، وليس لها فرض فهم، أو اجتهاد فقهي، على العامة أو إجبارهم على التقيد به، حيث يقول الإمام الجويني في ذلك: « فأما اختلاف العلماء في فروع الشَّرِيعَة، ومسائل التحري والاجتهاد، والتآخي من طريق الظنون، فعليه درج السلف الصالحون، وانقرض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكرمون، واختلافهم سبب المباحثة، وهو منّة من الله تعالى وفضل، فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء الإسلام، فيما يتنازعون فيه من تفاصل الأحكام، بل يقر كل إمام ومتبعيه على مذهبهم، لا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم »(1) .
... ويقول شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: « الأمور الكليّة ليس لحاكم، كائناً من كان.. أن يحكم فيها بقوله على من نازعه قوله، فيقول ألزمته ألا يفعل، ولا يفتي، إلا بالذي يوافق مذهبي، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله، والحاكم واحد من المسلمين.. وأما باليد والقهر فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه.. إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، والزم المحكومة عليه بما حكم.. »(2).
__________
(1) الجويني، أبو المعالي، عبد الملك: غيّاث الأمم في التياث الظلم، ص(190).
(2) ابن تَيْمِيَّة: مجموع الفتاوى، (35/360).(1/77)
... كما يؤكد ابن تَيْمِيَّة بأن الحكم والسلطة، لا تعطي الحق في فرض الرَأْي المذهبي، أو القول الملزم في المسائل التي يتنازع عليها أهل المذاهب. بخلاف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فالذي من عند الله حق، وهدى، وليس فيه خطأ قط. كما يذكر ابن تَيْمِيَّة أن الجبر والإكراه من الحكام والدَّوْلَةفي أمور الفروع والأصول التعبديّة المتنازع عليها بين المسلمين يؤدي إلى انهيار الدولة، حيث أنه يجب على الدَّوْلَةمنع التظالم، ولذلك لا يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض، بقولهم ومذهبهم، لما في ذلك من ظلم، ولأنه مما يوجب تغير الدول وانتقاضها(1). كما يقرر أنه إذا خرج ولاة الأمور عن هذا، فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم « وهذا من أعظم أسباب تغير الدَّوْلَة»(2).
... كما يؤكد ابن تَيْمِيَّة بطلان الأحكام الصادرة من الدولة، التي توجب إلزام الفقيه والعالم بمذهب معيّن، أو حكماً معيناً في غير محاكم الدولة، حيث يستدل على ذلك بأنه قد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهاده، كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، والسِّياسَة. وهم أئمة الدين الذين ثبت بالنُّصُوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة (3).
__________
(1) ابن تَيْمِيَّة: مجموع الفتاوى (35/379-380).
(2) ابن تَيْمِيَّة: مجموع الفتاوى، (35/388).
(3) ابن تَيْمِيَّة: مجموع الفتاوى، (19/123).(1/78)
... والخلاصة: أنّ الدَّوْلَةتعمل على حفظ دين الإسلام، وصيانته من البدع، ولكن لا تلجأ إلى القتل والقتال، إلا عند ظهور الرّدة أو الخروج على الدولة، وليس للدولة أن تلزم المسلمين، أو تكرههم، على اعتناق عقائد، أو ترك عقائد، وعبادات، ما دام للمسلمين دليل شرعي، يستندون إليه في شرعية هذه العقائد والعبادات، كما ليس لها التدخل في الإلزام بمذاهب فقهية معيّنة، أو اجتهادات لعلماء معينين، ما دام الأمر لم يتحاكم فيه إلى محاكم الدَّوْلَةوأجهزتها.
... أخيراً، نختم القول في ما يتعلق بالأحكام التعبديّة والعقدية، بتقرير واجب الدَّوْلَةإذا ما ظهر الكفر البواح، الذي قام عليه البرهان، من ظهور الرّدة ممّن ينتسب إلى الإسلام، حيث أكدت الأحكام الشَّرْعية الثابتة بالسّنة والإجماع، وجوب استخدام القوّة لحماية العقائد في حالة معيّنة تنحصر في منع الخروج الصريح على الشَّرِيعَة، بالكفر البواح، الذي قام البرهان عليه، حيث أكدّ الإسلام هنا وجوب إقامة أحكام المرتد، وذلك بهدف منع الأفكار المنحرفة الضالة الخارجة على دين الإسلام، ومنع المفاهيم المكفرة، من التأثير على أفراد الأمّة، والانتشار في المجتمع الإسلامي، لهذا حظر كل ما يوصل إلى الكفر الصريح في المجتمع.(1/79)
... فقد ثبت بالسنّة أن المرتدّ عن الإسلام متى ثبت فعله، يقتل حدّاً، وأنّ الدَّوْلَةمسؤولة عن استتابته وردعه عن ذلك، روى ابن حَزْم عن البُخَارِيّ، أنّ أبا موسى الأشعري، قدم عليه معاذ بن جبل باليمن، وإذا برجل موثق، فقَالَ : ما هذا؟ قَالَ : كان يهودياً فأسلم، ثم تهودّ، قَالَ : لا أجلس حتى يقتل.. قضاء الله ورسوله « ثلاث مرّات » فأمر به فقتل » (1). وعن أبي أيوب السَّخْتَِياني(2) عن عكرمة، قَالَ : « أُتي علي بن أبي طالب بزنادقة(3) فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عَبَّاس فقَالَ : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلهم ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدّل دينه فاقتلوه »(4) .
__________
(1) ابن حَزْم، المُحلّى، ص(189)، والحديث رواه البُخَارِيّ، باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه، (6/2616)، وصَحِيْح ابن حبّان، (12/197)، ومُسْنَد أبي عوانه، (4/216)، ومُسْنَد أحمد (5/231) والمعجم الكبير (20/43).
(2) هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البَصْرِي أبو بكر سَيِّد فقهاء عصره، تابعي من النّسّاك الزّهاد، ومن حفّاظ الحديث، ثبت ثقة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/15)، وتهذيب التهذيب (1/397) والأعلام (2/38).
(3) بزنادقة: جمع زنديق بكسر الزاي، فارسي مُعرّب، واختلف في تفسيره، فقيل: هو المبطن للكفر المظهر للإسلام، وقيل: من لا دين له، وقيل: هم طائفة من الروافض تُدعى السبئية ادّعوا أنّ علياً رضي الله عنه إله، عمدة القارئ (24/79) باختصار.
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ، كتاب استتابة المرتدين والعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة، واستتابتهم، رقم الحديث (6922)، (12/267)، وصَحِيْح ابن حِبِّان (12/421)، وسُنَن الترمذي(4/59)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/202)، وسُنَن أبي داود (4/126).(1/80)
وفي رواية عن الإمام التّرمذي: « فبلغ ذلك عليّاً رضي الله عنه فقَالَ : « صدق ابن عَبَّاس رضي الله عنهما »(1). وقَالَ العلامّة السندي تعليقاً على القصّة: « قَالوا: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد لا عن توفيق، ولهذا لما بلغه قول ابن عَبَّاس رضي الله عنه استحسنه ورجع إليه كما تدل عليه الروايات »(2). وعن أبي عمر السيبتني قَالَ: أُتي علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانيّاً فأسلم، ثمّ ارتد عن الإسلام، قَالَ: « فارجع إلى الإسلام » ، قَالَ: لا، فأمر عليّ فضربت عنقه »(3).
... عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبِيّ عليه السلام قَالَ: « لا يحلّ دم أمرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وإنّي رسول الله، إلاّ بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينيه المفارق للجماعة »(4).
__________
(1) جامع الترمذي، أبواب الحدود، باب ما جاء في المرتدّ، رقم الحديث (1483)، (5/20) وقَالَ عنه الإمام التّرمذي: « هذا حديث حسن صَحِيْح » (5/21)، وصححّه الألباني. انظر: صَحِيْح التِّرْمِذِي(2/77)
(2) حاشيّة الإمام السندي على سُنَن النسائي (7/105).
(3) ابن حَزْم، المُحلّى، ص(189).
(4) رواه البُخَارِيّ (9/6) كتاب الديّات، باب قول الله تعالى: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، ورواه مسلم(3/1302)، كتاب القسامة باب ما يُباح به، وأبو داود (4352) كتاب الحدود: باب الحكم فيمن ارتد، والنسائي (7/90) كتاب تحريم الدّم باب الحكم فيمن ارتدّ، والتِّرْمِذِي(1402) كتاب الديّات باب ما جاء: لا يُحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وابن ماجة (1534) كتاب الحدود، باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وأحمد (1/382، 428).(1/81)
... وقَالَ ابن دقيق العيد(1): « والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، وإنما فراقهم بالرّدة عن الدين»(2).
... وروي عن ابن قُدامة في المُغْني، قَالَ: « من ارتدّ عن الإسلام من الرجال والنساء بالغاً عاقلاً دعي إليه.. فإن رجع وإلا قُتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: « من بدّل دينه فاقتلوه »(3).
__________
(1) هو محمد بن علي وهب، أبو الفتح تق الدين القشيري، المعروف بابن دقيق العيد، قاضٍ من أكابر العلماء، أصله من منفلوط بمصر، تعلّم بدمشق والإسكندرية والقاهرة ووليّ القضاء بمصر إلى أن توفي في القاهرة سنة (702 هـ). من كتبه: أحكام الأحكام. انظر: الدرر الكامنة (5/348) ، ومعجم المؤلفين (11/70) ، والأعلام (6/283).
(2) ابن دقيق العيد، تقيّ الدِّين أبي الفتح: أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (4/84).
(3) سبق تخريجه، ص( ).(1/82)
... والرّدة اسم شامل لكل رجوعٍ عن دين الإسلام إلى الكفر، قَالَ تعالى: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1). فتشمل بذلك الرجوع إلى العقائد الكافرة، نحو اعتناق الماركسية، أو الماديّة الجدليّة، أو النصرانيّة، أو العَلْمانية. وكذلك قد تقع الرّدّة بجحود ما ثبت قطعاً في شرع الإسلام، نحو وجوب تحكيم الكتاب والسنّة، والاحتكام إلى شرع الله، أو أنّ الرابطة بين المسلمين هي الإيمان بالله ورسوله، أو وجوب إقامة الحدود. كما تقع الرّدّة بجحد تحريم ما حرّم قطعاً في الإسلام، نحو تحريم الخمر والزنى. كما تقع بفعل يناقض ويضاد الإيمان، نحو السجود لصنم، أو الصلاة مع النصارى في الكنائس، أو الدعاء والاستغاثة بغير الله من المخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، اعتقاداً بألوهيّة المخلوق، أو الاستهزاء بالله ورسوله، أو سبّ الله تعالى، أو كتبه، أو رسله، سواء أكان فعل ذلك مزاحاً أم في مجال الجّد.
... ويشترط لإقامة حدّ الرّدّة التثبت من وقوع الرّدّة، قَالَ ابن تَيْمِيَّة رحمه الله: « لا يجب أن يحكم على كل شخص بأنه كافر، حتى تثبت في حقّه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قَالَ : إنّ الخمر أو الرِّبَا حلال، لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره، ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فإنّ هؤلاء لا يكفّرون حتى تقوم عليهم الحجّة بالرسالة.. وقد عفى الله لهذه الأُمّة عن الخطأ والنسيان »(2).
__________
(1) البقرة / 217
(2) ابن تَيْمِيَّة: مجموع الفتاوى (35/166)(1/83)
... كما أنّ إجراء حكم المرتدّ إنما يكون على « من كان مسلماً ثم ارتدّ عن الإسلام »، وذلك بهدف تميز من نشأ على الكفر، وولد من أبوين مرتدين، بعد ردتهم، فإنّ هؤلاء لا يُعتبرون مرتدين، وإنّما يعاملون كالكفار، لأنهم يعدون كفّاراً أصليين.
... يقول ابن قُدامة في المُغْني: « فأما أولاد المرتدين، فإن كانوا ولدوا قبل الرّدّة فإنه محكوم بإسلامهم تبعاً لآبائهم، ولا يتبعونهم في الرّدّة، لأن الإسلام يعلو وقد تبعوهم فيه، فلا يتبعونهم في الكفر.. وإن كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة.. وأما من حدث بعد الرّدّة فهو محكوم بكفره، لأنه ولد بين أبوين كافرين.. نصّ عليه أحمد(1).
__________
(1) ابن قُدامة: المُغْني (8/137).(1/84)
... ولهذا يعامل أبناء أفراد الطوائف، التي ارتدت عن الإسلام الماضي، وولدوا بعد الرّدّة -كالمنتسبين إلى طائفة القاديانيّة(1)، أو الإسماعيليّة(2)، والبهائية(3)، وغيرها من طوائف الكفر- معاملة الكفار الأصليين، من غير أهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام، من حيث إجراء الأحكام، أمّا من اعتنق البهائية أو القاديانيّة بعد إسلامه، فإنّه يُعد مرتدّاً، ويُعامل وفق أحكام أهل الرّدّة.
__________
(1) القاديانيّة: حركة نشأت سنة 1900م بتخطيط من الاستعمار الانكليزي في القارّة الهنديّة، وكان الداعي لها رجل يُسمى مرزا غلام أحمد الذي ادعى أنه المسيح، ثمّ أنه نبيّ ثم ادعى الألوهيّة. انظر: الجهني، د. مانع بن حمّاد، الموسوعة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/421).
(2) الاسماعيليّة: فرقة باطنيّة ظاهرها التشيّع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، يؤمنون بالتقيّة ويقولون بالتناسخ وينكرون صفات الله، فهو عندهم لا قادر ولا عاجز، يقول الإمام الغَزَالي عنهم: « المنقول عنهم الإباحة المطلقة، ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها، وانكار الشرائع، إلاّ أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم ». انظر: الجهني، الموسوعة الميسرة (1/391).
(3) البهائية: حركة نشأت سنة 1260 هـ/1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهوديّة العالميّة والاستعمار الانكليزي، بهدف إفساد العقيدة الإسْلاميَّة ، أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي، وهي حركة خارجة عن الإسلام بحكم انكارهم، أنّ رسول الله هو خاتم الأنبياء وادعائهم بأن روح الله قد حلّت في البهاء. انظر: الجهني، الموسوعة الميسرة(1/416).(1/85)
... ومن الأدلة السابقة، يظهر أن الواجب على الدَّوْلَة والمسلمين حفظ دين الإسلام، على أصوله المستقرة، أي الثابتة بالكتاب والسّنة، ومنع الانحراف عنه بإقامة أحكام المرتد على من خرج كفراً عنه. وتثبت أهميّة هذا الحكم من إدراك أن الخروج عن الإسلام هدم للنظام الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع، وهدم للأساس، الذي قام عليه الدولة.
... ويقرر عبد القادر عودة هذا المعنى حيث يقول: « تعاقب الشَّرِيعَة على الرّدّة بالقتل، لأنها تقع ضدّ الدين الإسلامي، وعليه يقوم النِّظَام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، ومن ثمّ عوقب عليها بأشدّ العقوبات استئصالاً للمجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحيّة.. ولا شكّ أنّ عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف النّاس عن الجريمة، وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات، تفرضها على من يخرج على هذا النّظام، أو يحاول هدمه أو إضعافه.. والقوانين الوضعيّة اليوم تعاقب على الإخلال بالنِّظَام الاجتماعي بنفس العقوبات التي وضعتها الشَّرِيعَة لحماية النِّظَام الاجتماعي الإسلامي » (1).
__________
(1) عودة، عبد القادر: التشريع الجنائي في الإسلام، (1/662).(1/86)
... وقبل أن ننهي البحث في هذا الموضوع، نناقش بعض الآراء المعاصرة التي لا تتفق مع ما سبق ذكره، من وجوب قتل المرتد حدّاً، فقد استشهد بعض المعاصرين بعدم وجوب قتل المرتد حدّاً بما نقل عن بعض فقهاء السلف: إبراهيم النخعي(1) بأنّ: « المرتد يستتاب أبداً » وقد رواه عنه سفيان الثَّوْري(2)(3). واستشهد كذلك برواية عن عمر بن الخطَّاب، أنه سئل عن قوم قتلوا بعد ردّتهم، فقَالَ : « كنت عارضاًَ عليهم الباب الذي خرجوا منه، أن يدخلوا، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، و إلا استودعتهم السجن » (4).
... كذلك نقل عن عمر بن عبد العزيز أنّ قوماً أسلموا، ثمّ ارتدوا، فأمر بردّ الجزية عليهم، وتركهم. ومن ذلك يتوصل الدكتور العوا: « أن عقوبة الرّدّة إنما هي عقوبة تعزيريّة، وليست عقوبة حدّ، وأنها عقوبة مفوضة إلى السلطة المختصة، تقرر بشأنها ما تراه ملائماً بين أنواع العقاب »(5).
__________
(1) إبراهيم النخعي (50 – 96 هـ)، إبراهيم بن يزيد بن القيس بن الأسود، أبو عَمْرو النخعي، من مذحج من أكابر التابعين صلاحاً وصدق رواية وحفظاً للحديث، من أهل الكوفة، مات مختفياً من الحجّاج. انظر: الزِّرِكْليّ: الأعلام، (1/80).
(2) هو الإمام سفيان بن سعيد بن مسروق الثَّوْري، أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث. ولد في الكوفة سنة 97هـ، ونشأ بها، عرض عليه القضاء فامتنع وخرج فسكن مكّة والمدينة، ثمّ انتقل إلى البصرة ومات فيها سنة 161هـ.
... انظر: سير أعلام النبلاء (7/229)، وتهذيب التهذيب (4/111) والأعلام (3/104).
(3) العوا، محمد سليم: في أصول النِّظَام الجنائي الإسلامي، ص(154).
(4) العوا، محمد سليم: في أصول النِّظَام الجنائي الإسلامي، ص(155).
(5) العوا، محمد سليم: في أصول النِّظَام الجنائي الإسلامي، ص(154).(1/87)
... والرّدّ على هذا القول، يتلخص في أنه قد ثبتت مخالفة سائر الفقهاء لقول إبراهيم النخعي، وسفيان الثَّوْري، حيث وصف ابن قُدامة الحنبلي في كتابه المُغْني قول إبراهيم النخعي في استتابه المرتدّ بأنه قول شاذ، مخالف للسنّة والإجماع (1)، ولا حجّة في قول أحد دون رسول الله عليه السّلام. أما الرواية عن عمر رضي الله عنه، فلا تخالف في وجوب قتل المرتد، وإنما تحمل على وجوب الاستتابة قبل القتل، وأن لا يقتل فور ردّته، بل يُمهل في ذلك لعلّه يرجع، حيث نقل عمر رضي الله عنه مسارعته في طلب قتل من ثبت نفاقه، واستئذانه النَّبِيّ عليه السلام في قتل بعضهم، مما يدّل على ما استقر في عرف الصحابة من وجوب قتل المرتدّ، فضلاً عن أنّه قد قتل عدد من المرتدين علي يد ولاة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، حيث قتل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه « ابن نواحة لردته »، وروي أنه كتب إلى عمر عن قوم ارتدوا فأجابه: « أن أعرض عليهم شهادة الحق، فإن قبلوها فخل عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم »(2).
__________
(1) الكباشي: د. المكاشفي طه، الرّدةّ ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، ص(54).
(2) الكباشي: د. المكاشفي طه، الرّدةّ ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، ص(57).(1/88)
... وثبت في رواية الشَّافِعِي للشوكاني في نيل الأوطار قول عمر في المرتد: « هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب، ويراجع أمر الله ».(1) ممّا يدلّ بأن المقصود من رأي عمر المنقول بسجن المرتد عدم قتل المرتد مباشرة، بل الاستتابة له لعله يتوب. ويرد ابن حَزْم الظاهري على قول من يزعم بوجوب الاستتابة أبداً، بأن قول من رأى ذلك، لو صحّ، بطل الجهاد جملة، لأن الدعاء للمعاندين للدعوة كان يلزم أبداً مكرراً بلا نهاية، وليس دعاء المرتد وهو أحد الكفار بأوجب من دعاء غيره، أهل الكفر الحربيين، مما يسقط هذا القول »(2).
... ويذكر الشيخ أبو زهرة(3): « أن المقصود من قول النخعي هو استمرار الاستتابة حتى اليأس من عودة المرتد إلى الإسلام، وعند ذلك يكون القتل، وهذا القول موافق لمن يرى قتل المرتد حداً، لأنه يقرر القتل بالنهاية، وهو الثابت بالنسبة الصَحِيْحة، وإجماع أهل العلم، وقضاء الصحابة رضي الله عنهم »(4).
... أيضاً من الواضح أن القاعدة الأَسَاسيَّة عند إقامة الحدود، هي درء الحدود بالشبهات، وليس مستبعداً أن يكون مقصود عمر رضي الله عنه تطبيقها قبل إقامة الحد، للتأكد من إدراك المرتدين لجريمتهم، وعدم وجود شبهة لهم، تحتاج إلى كشف وبيان.
__________
(1) الكباشي: د. المكاشفي طه، الرّدةّ ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، ص(36).
(2) ابن حَزْم: المحلى (8/192).
(3) هو محمد بن أحمد أبو زهرة ، من كبار العلماء في عصره، كان وكيلاً لكليّة الحقوق في جامعة القاهرة. له مؤلفات كثيرة، مات بالقاهرة سنة 1394هـ. انظر: الأعلام (8/13).
(4) الكباشي: د. المكاشفي طه، الرّدةّ ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، ص(34).(1/89)
... أما ما نقل عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، في ترك المرتدين بعد فرض الجزية عليهم، فإنّ الرواية خاصة في قوم جهلوا أحكام الشَّرْع، ولذلك لم يطبق عليهم حكم الرّدّة، لفقدان شرط العلم، والإدراك بالجرم، كما أنّ الرواية الأخرى عن عمر بن عبد العزيز تدل على أنّ الحد يقام إذا كان المرتد محلاً لإقامة الحكم، لعلمه بالشَّرْع، حيث إنه ورد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بشأن المرتد: « أن سله عن شرائع الإسلام، فإن كان قد عرفها فأعرض عليه الإسلام، فإن أبى فاضرب عنقه، وإن كان لم يعرفها فغلظ الجزية ودعه »(1)، وهذا يدل على أنّ المرتد إذا لم ينطبق عليه شروط الرّدّة، أو أركانها، كأن يكون جاهلاً أو متأوّلاً، أو كلاهما، فإنّه يمكن حينئذ تعزيره، وهذا يطبق على كل جريمة حد، إذا لم تستوف شروطها وأركانها، وقد ورد أمثلة لذلك عديدة في فقه السلف، حيث لم يقم عمر رضي الله عنه حدّ السَّرِقَة على من سرق بسبب جوعه عام الرمادة، ودرء عثمان رضي الله عنه حد الزنى عن جارية نشأت تجهل حكم الزنى، ولذلك لا حجة بالاستدلال بما نقل عن عمر بن عبد العزيز. بهذا الصدد، حيث إنّ ذلك مقصورٌ على الحالات التي لا تتوافر فيها شروط إقامة الحد على جريمة الرّدّة.
... أيضاً ورد من الأقوال المعاصرة من يرى أن سبب التعزير في جريمة الرّدّة هو أنّ الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأنّ الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدّم، وإنّما المبيح هو محاربة المسلمين، وفتنتهم عن دينهم، وأنّ ظواهر القرآن الكريم تمنع الإكراه في الدين، ولهذا يرى الشيخ شلتوت أنّ هذه قرائن تصرف عن الوجوب إلى الإباحة(2).
__________
(1) الكباشي: د. المكاشفي طه، الرّدةّ ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، ص(370).
(2) العوا، محمد سليم: في أصول النِّظَام الجنائي الإسلامي، ص(152).(1/90)
... والجواب أن القول: بأنّ أحاديث الآحاد(1) لا يثبت بها القتل، مردود. حيث إنّ من الثابت العمل بهذه الأحاديث في أحكام الشَّرِيعَة العملية، وقد ورد حكم القتل بأحاديث لجرائم أخرى كقتل الزاني المحصن، وقتل الساحر، واللوطي، ولذلك لاوجه لاستبعاد حكم القتل للمرتد، لوروده بأحاديث آحاد، خاصة مع إجماع العمل عليه من لدن الصحابة رضي الله عنهم، وكون جملة القرائن التي يستشهد بها من يرى أنّ المرتد يعزر، ولا يقتل حدّاً، ليست بقرائن قويّة، حتى تصرف صيغة الأمر بالأحاديث الداعية إلى قتل المرتد من الوجوب إلى غير ذلك، بل إنّ جملة أقوال من رأى التعزير، في مجملها أقوالاً شاذة أو مؤولة بما يناسبها.
__________
(1) أحاديث الآحاد: كل خبر لم تتوافر فيه شروط المتواتر وقد ينفرد به واحد فيكون غريباً، أو يعزز برواية اثنين فأكثر فيكون عزيزاً أو يستفيض، فيكون مشهوراً إلا أن الحَنَفِيَّة يخرجون المشهور من الآحاد ويجعلونه في مرتبة أعلى منه. والصَحِيْح أنه يجب العمل به متى توافرت فيه شروط القبول واختلف العلماء في إفادته الظنّ أو القطع و العمل به من عدمه والصَحِيْح عندنا أنها تفيد العمل القطعي اليقيني كالمتواتر تماماً ولكن لا في نفسها ، بل بشرط أن تحقق بها القرائن ، ومنها تلقي الأمّة لها بالقبول تصديقاً أو عملاً ، ولا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام ، يقول شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: « وخبر الواحد المتلقى بالقبول يوجب العلم عند الجمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشَّافِعِي وأحمد وهو قول أكثر أصحاب الأشعري والإسفراييني وابن فورك »، مجموع الفتاوى ، (18/41). وانظر: الموسوعة الميسرة، ص(957).(1/91)
... كذلك وردت شبهة لبعضهم في عدم قتل المرتد بكون الرسول عليه الصلاة والسلام عرف المنافقين، وعلم أنهم مرتدون، كفروا بعد إسلامهم، ولم يقتلهم، ولذلك يرى هؤلاء أنه لا قتل للمرتد. ويرد ابن حَزْم رحمه الله على هذه الشبهة في بحث طويل، يخلص فيه إلى أن المنافقين إما قوم لم يعرفهم عليه السلام بأنهم منافقون ولذلك لا حدّ عليهم، وإما قوم افتضحوا فعرفهم فلاذوا بالتوبة، ولذلك لم يقم الحد إجراءً لحكم الظاهر عليهم، فيبطل بذلك زعم من قَالَ بعدم قتل المرتد(1) . وقد فصل ابن حَزْم في ذلك بما لا مزيد عليه في ردّ هذه الشبهة، وتوصل إلى أنّ من عرفهم عليه السلام بأنهم منافقون « أظهروا الإسلام فحرمت بذلك دماؤهم في ظاهر الأمر، وباطنهم إلى الله تعالى، في صدق أو كذب »(2).
... أخيراً، نذكر أن الرّدّة من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدَّوْلَةوالأمّة الإسْلاميَّة . والحسّ الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها. وقد شرّع الإسلام القتل لجرائم أخف ضرراًً، حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر، لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن الجماعة، فلا يعقل أن يكون معالجة جريمة الرّدّة، وعقاب مرتكبيها، والتي يترتب عليها انهيار أركان المجتمع بمجمله، دون ذلك، والحق أنّ المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه شروط الحدّ فإنه يجب على الدَّوْلَةالإسْلاميَّة قتله حدّاً، إذا لم يتب لما ثبت في ذلك من السنّة وإجماع الصحابة.
...
...
...
الخاتمة
... ... ها أنذا ألقي عصا التسيار، فأصل إلى نهاية هذا البحث الذي أمضيت في قراءة موضوعاته ما يزيد على ثلاث سنين فخبرت جوانبه بعد سبرها، ونظمت أطرافه بعد جمعها، وأختم بأن أدوّن أهم النتائج التي توصلت إليها، وأهم التوصيات التي أرى أهميتها. ...
أولاً: حول « تحديد مصطلحات البحث »
__________
(1) ابن حَزْم: المحلى (8/201-211).
(2) ابن حَزْم: المحلى (8/223).(1/92)
1. أهمية تحديد الألفاظ الشَّرْعية والمصطلحات الإسْلاميَّة لأن تلك المصطلحات-في الغالب-ألفاظ جامعة ينبني عليها كثير من مسائل البحث.
2. يتطلب هذا التحديد أن لا تكون الألفاظ والمصطلحات نسبية غير محررة، حتى لا يستخدمها كل فريق تبعاً لهواه وأن لا تحمل على الاصطلاح الحادث لقوم أو فئة سواء كان منفراً كالأصولية والإرهاب أو سليماً في ظاهره كالانفتاح والعَلْمانيةوالمساواة والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة. فهذه المعاني تقرر لوناً من الفِكْر هو فلسفي الانتماء ولا سبيل لإضفاء الشَّرْعية عليها لتناقضها مع الإسلام.
3. أهمية الرجوع إلى قصد الشَّارِع عند بيان معاني الألفاظ الشَّرْعية وهذه قاعدة مطروحة حتى في معرفة كلام البشر إذ لا يُعرف المعنى من اللفظ ابتداء ولكنه يعرف منه ومن قرائن أخرى ولو وكلت المسألة للبشر لأصبحت أمراً نسبياً يتفاوت ويتشكل بحسب الأهواء كما رأينا ممن وقع في الشرك الغَرْبيّ وتأثر وانتفع من المفاهيم التي تخالف الأحكام الشَّرْعية كالرَّأْسُماليَّة والدِّيمُقْراطِيَّة والاشْتِراكِيَّة والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.
4. إنّ فهم مصطلحات البحث هو مفتاح مرامي الباحث ومقاصده وعليه فإنَّ:
- الفِكْر هو الحكم على واقع وينسب إلى الناس الذين يحملونه، فيقَال الفِكْر الغَرْبيّ والفِكْر الإسلامي، والفِكْر الغَرْبيّ هو الحكم على واقع من وجهة نظر العقيدة الرَّأْسُماليَّة والفِكْر الإسلامي هو الحكم على واقع من وجهة نظر الإسلام.
- المفهوم هو المعنى المدرك له واقع في ذهن الإنسان والذي يكون عقليته ويحدد سلوكه ويبلور ميوله ويميز شخصيته وعليه فالمفاهيم الإسْلاميَّة مرتبطة بالفِكْرة الكلية للإنسان عن الكون والحياة من وجهة نظر الإسلام وبهذا تفترق عن المفاهيم الغَرْبيّة.(1/93)
- إن الغريزة خاصية فطرية موجودة في الإنسان وهي ثلاثة، النوع والبقاء والتقديس ولها مظاهر تتفاوت قوة وضعفاً بين إنسان وآخر ولكل فكر طريقة معينة في معالجة هذه الغرائز.
- الشخصية هي عقلية ونفسية الإنسان، والعقلية هي الكيفية التي تجري على أساسها عقل الشيء أو إدراكه، والنفسية هي الكيفية التي يربط بها الإنسان دوافع الإشباع بالمفاهيم وعليه فالحكم على الواقع كالمرأة أو العَدالَة يتباين بين المسلم والرأسمالي انطلاقاً من تباين القاعدة الفِكْرية والعقيدة الأَسَاسيَّة.
- الثقافية الإسْلاميَّة هي جملة المعارف التي كانت العقيدة الإسْلاميَّة سبباً في بحثها كالفقه والتفسير وتكون خاصة، تنسب للأمة التي نتجت عنها خلافاً للعلم فهو عالمي لجميع الأمم باعتباره المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجربة.
- الحَضَارَة هي مجموعة المفاهيم عن الحياة والمَدَنيَّة هي مجموعة الأشكال والوسائل المادية المستخدمة في شؤون الحياة. وعليه لا يجوز للمسلم أخذ حضارة غير الحَضَارَة الإسْلاميَّة أما المَدَنيَّة فما كان له علاقة بالحَضَارَة كالتماثيل والأصنام ، فلا يجوز أخذها وما نتج عن العلم والصناعة كالسيارة فجائز أخذه.
- المجتمع الإسلامي يتكون من أفراد يعتنقون العقيدة الإسْلاميَّة التي تنبثق منها أفكارهم وتتكون من خلالها مشاعرهم ويطبقون نظام الإسلام في علاقاتهم وبهذا يتميز عن المجتمع الرأسمالي.
- النِّظَام معالجات لمشكلات الإنسان وبيان لكيفية تنفيذها، تنبثق عن العقيدة العقلية وبذلك تفترق أنظمة الإسلام عن أنظمة الكفر الرأسمالي.(1/94)
- التوفيق منهج يسلكه المفكرون بغية التقريب بين الأفكار المتعارضة، تدور في فلكه مصطلحات شتى نحو التقارب الثقافي والتفاعل الثقافي والاختراق الثقافي وتعايش الثقافات، والهدف منه كسر الحواجز المانعة من التقاء الثقافات وتفاعلها، والواجب على المسلم في عملية التوفيق بين الإسلام وغيره هو الحذر والحَزْم وهذا يستدعي التأكد من عدم مصادمة الفِكْرة للإسلام وعدم الاغترار بما يزينه الباطل من تحسين للقبح والانتباه إلى فكر المخالفين من الغَرْبيّين والمستغربين فيما يبثونه من مفاهيم تتناقض مع الإسلام.
ثانياً: حول « مفهوم العَدالَة في اللغة والفِكْر الإنساني»
1. العَدالَة في الوضع اللغوي وردت بمعانٍ متفاوتة يمكن عند التأمل إرجاعها إلى أصلين صَحِيْحين، لكنهما متقابلان كالمتضادين أحدهما يدل على الاستواء والآخر يدل على الاعوجاج.
2. العَدالَة في الوضع الشَّرْعي وردت بمعانٍ مختلفة كلفظ مشترك دل على الاستقامة وإعطاء كل ذي حق حقه والإنصاف، والمرضي المقنع في الحكم والشَّهادَة والفدية، والاستواء في الأشياء والوسطية وهي بمحملها تدل على معنى الاستقامة في الدين والدنيا.
3. العَدالَة في الوضع العرفي العام والخاص لا تخرج عن معنى الاستقامة على الحق.
4. العَدالَة في المجتمع البشري القديم عدالة متداخلة تجمع بين العدل والظلم بسبب خضوع الشعوب لموروث عاداتها وأعرافها فما كان عدلاً فهو مما حباهم الله من عناية وتوجيه وترشيد بواسطة الوحي وما كان ظلماً فما هو إلا انحراف عن جادة الصواب.(1/95)
5. العَدالَة عند اليهود مستقاة من التعاليم الإلهية ويدل ما بقي من أسفار التوراة على وجوب العدل وتحريم الظلم إلا أن اليهود تلاعبوا بحدود الله، واختل ميزان العدل بينهم وفي ما بينهم وبين غيرهم حيث استحلوا الدماء وأباحوا الأموال وقد سلك من بعدهم النصارى في موقفهم من العدل والتاريخ شاهد لا يواري سوآتهم في الحروب الصليبية القديمة والمعاصرة على الأمة الإسْلاميَّة.
6. العَدالَة في شبه الجزية العربية عدالة مختلفة حيث الانتصار للأخ ظالماً أو مظلوماً والأخذ بالثأر عين العدل.
7. العَدالَة في الفلسفة اليونانيَّة، عدالة تخضع لتصورات ذهنية ومفاهيم عامة مجردة لا صلة لها بالواقع وبالتالي فقد نسبها أهل النظر إلى القانون الطبيعي ودور العقل أن يكشف عن روح المساواة والعدل الكامنة في النفس وما على الإنسان إلا أن يخضع تصرفاته لنداء العقل الذي يهديه لقانون الطبيعة وهذا القانون هو إرادة الآلهة أو القانون الأخلاقي الصادر عن إرادة الآلهة لا عن الإنسان الفاني.
هذه الفلسفة الخيالية هي التي عنى بها متفلسفة المسلمين ، إمّا على سبيل التبني و إمّا الشرح وإمّا النقل أمّا التوفيق بينها وبين التفكير الإسلامي معتمدين على مصدرين هما العقل والوحي.
8. مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر السياسي الغَرْبيّ ، يختلف في دلالته الرَّأْسُماليَّة عن دلالته في الفِكْر الاشتراكي الماركسي فبينما هو في الفِكْر الرأسمالي يعني تدخل الدَّوْلَةمن خلال سن القوانين والتشريعات للحدّ من الحرِّيَّة المطلقة ولإخفاء عواره وحمايته من السقوط أمام الدعاية الاشْتِراكِيَّة، نجد أن الفِكْر الاشتراكي الماركسي يعني المساواة في المِلْكِيَّة وإنهاء الطبقات وتوزيع الثروة وفق قانون ( من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته أما الاشْتِراكِيَّة الدِّيمُقْراطِيَّة فإنها توزع الثروة وفق قانون (من كل حسب قوته) أي قدرته (ولكل بنسبة عمله).(1/96)
ثالثاً: حول « مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند بعض المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين »
1. إن واقع العالم الإسلامي الذي ترعرع في ظله المفكرون المسلمون أشبه بجسد مثخن الجراح مقطع الأوصال مستعمر الأمصار من الناحية السِّيَاسِيَّة ويظلله جمود وتخلف وتبعية للغرب في المجالات الثقافية والاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية والسِّيَاسِيَّة نتيجة الغزو الفِكْري. وهذا الواقع لا يحمّل الإسلام وزره بل هو في الحقيقة عقوبة مستحقة من الله على المسلمين لتخليهم عن نظام الإسلام لا لتمسكهم به كما يزعم الزاعمون.
2. إنّ ما ذكره ثلّة من المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين عن وجود عدالة اجتماعية في الإسلام ، إنما هو مخالف لتعاليم الإسلام مجانب للصواب.
3. عدم وجود أدلّة شرعية في جعبة المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين على تسويغ مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي.
4. لم يفرق المسوغون لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة بين الدعاية للإسلام وبين استنباط المفاهيم الإسْلاميَّة من الأدلة الشَّرِيعَة فوقعوا في حيرة واضطراب وفساد رأي.
5. القول بأن إدخال المفاهيم الغَرْبيّة أو صبّ الإسلام في قوالب عصرية يساعد في نشر الإسلام، قول يجانب الصواب وذلك لأن إدخال تلك المفاهيم على الإسلام باسم الإسلام يثبت مفاهيم الكفر في بلاد المسلمين ويؤصلها.
6. التوفيق والتلفيق بين مفاهيم الكفر والإسلام يؤدي إلى صرف الأدلة الشَّرْعية عن سياقها وهذا يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه وإلباس الحق بالباطل.(1/97)
7. إنّ طريقة الإسلام في استنباط الأحكام تقوم على فهم المشكلة الحادثة فهماً عميقاً ثم الإتيان بالأدلة الشَّرْعية اللازمة لمعالجتها وفهمها ودراستها ليصار إلى استنباط الحكم الشَّرْعي وبناءً على هذه الطريقة الشَّرْعية آل البحث إلى رفض مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي. واعتبارها مقولة فلسفية مبتدعة ودعاية غربية مبتكرة تجتاح البلاد الإسْلاميَّة تحت غطاء الحاجة إلى التخطيط الاقتصادي والتنمية الاقتصادية وفي حقيقتها دعوة إلى إطالة عمر النِّظَام الرأسمالي والفِكْر الغَرْبيّ.
رابعاً: حول « العَدالَة في النِّظَام الاقتصادي في الإسلام »
1. المِلْكِيَّة الفردية هي حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك.
2. إنّ تقرير حق المِلْكِيَّة الفردية يحقق العَدالَة بين الجهد والجزاء فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع الميول الأصلية في النفس البشرية وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد لتنمية الحياة ولكن لا يعني هذا الإقرار الحق المطلق بلا قيود ولا حدود وهذا يظهر من كون المالك الحقيقي هو الله وأن الله قد استخلف الإنسان في الملك بقيود معينة لذلك حدد الإسلام الكيفية التي يحصل فيها على المال.
3. إن لتملك المال أسباب شرعية حصرها الشَّارِع في أسباب معينة لا يجوز تعديها تتمثل في الآتي:
- الأسباب الشَّرْعية المترتبة على الجهد نحو العمل وإحياء الأرض الموات واستخراج ما في باطن الأرض مما ليس حقاً لعامة المسلمين والصيد والسمسرة والدلالة.
- الطرق المباحة بالأسباب الشَّرْعية نحو الزكاة ونظام النفقات والميراث ونظام الكفارات.
- الأموال المترتبة على إرادة الآخر نحو الوصية والهبة والإقطاع.
4. وفي المقابل حرمت الشَّرِيعَة التَّمَلُّك عن طريق محرم، وحددت الأعمال المحظورة، ومنها:(1/98)
- العقود المنهي عنها لذاتها نحو: الأصناف المحرمة المنصوص عليها في القرآن ومهر البغي وحلوان الكاهن المنصوص عليها في السنة أو عقود منهي عنها لاشتمال العقد على الغرر والجهالة نحو: بيع حبل الحبلة وبيع المضامين والملاقيح وبيع المنابذة والملامسة والحصاة أو عقود منهي عنها لاقترانها بوصف يضر بأحد المتعاقدين كبيع التدليس والغبن والنجش أو عقود منهي عنها لوصف خارج عن العقد والمتعاقدين نحو: البيع بعد نداء الجمعة وبيع السلاح للحربي وبيع العصير لمن يتخذه خمراً.
ولا يخفى ما في هذا الحظر من قطع للمنازعات والمخاصمات وتحقيق العدل والإنصاف.
- إنّ التسعير محرم عند جماهير العلماء لورود الأدلة الشَّرْعية في ذلك لحكمة مؤداها أن التسعير حجر على الناس في تصرفاتهم وكونه يؤدي إلى اختفاء البضائع وتغالي الثمن وكونه ضرراً في حالتي الحرب والسلم.
- الرَّشْوَة هي كل مال يُدفع ليبتاع به من ذي جاه عوناً على ما يحل بغية إبطال حق أو إحقاق باطل.
- الرِّبَا والفائدة المصرفية إسمان لمسمى واحد وصنوان لا يفترقان وسبب من أسباب التملك المحظور.
5. إن توزيع الثروة في المجتمع مسألة تتنازع فيها نظريتان متقابلتان:
الأولى: تقوم على تقويم حاجة الفرد وكفايته من دون تقويم لجهده وعمله عملاً بالقاعدة التي تقول: « من كل بحسب جهده ولكل بحسب حاجته ».
والثانية: تقوم على تقويم جهد الفرد وعمله دون تقييم لحاجته وكفايته وذلك عملاً بالقاعدة التي تقول : « كل بحسب جهده ولكل بحسب عمله ».
والواقع أنّ كلاًّ من النظرتين قد اجتزأت جانباً من العدل دون أن تحققه كاملاً فشاعت في كل منها مظالم.
بينما في الإسلام فإن القواعد العامة تصون حقوق الفرد في تقويم عمله وحاجته معاً لتحقيق العدل كاملاً في جميع أطرافه فتكون القاعدة من كل بحسب جهده ولكل بحسب عمله وحاجته معاً.(1/99)
6. إن التشريع الإسلامي ضامن للحاجات الأَسَاسيَّة على الصعيد الفردي نحو تأمين المأكل والمشرب والملبس والمسكن وعلى الصعيد الجماعي نحو تأمين الأمن والتعليم والتطبيب وأوكل مهمة الضمانة للدولة الإسْلاميَّة حيث كلفها برعاية الحاجات الأَسَاسيَّة وإشباعها إشباعاً كلياً وفي ذلك تحقيق فعلي للرفاه في العيش.
7. من التطبيقات العملية لضمان الحاجات الأَسَاسيَّة في إطار تحقيق الرفاه في العيش:
- تعزيز الأموال في كل ولاية.
- تعزيز المرافق العامة.
- توفير فرص العمل لكل مواطن.
- ضمان للعاطلين عن العمل.
- ضمان للمواليد الجدد.
- ضمان للأرامل العجزة والشيوخ.
- ضمان رواتب الجند وكفالة أسرهم.
- ضمان لأهل الذمّة.
خامساً: حول « العَدالَة في النِّظَام الاجتماعي في الإسلام »
1. ينظر الإسلام إلى الإنسان رجلاً كان أو امرأة بأنه إنسان فيه الغرائز والمشاعر، والميول، وفيه العقل وينظم صلات الذكورة والأنوثة بين الرَّجُل والمرأة تنظيماً دقيقاً يضمن التعاون بينهما من اجتماعهما معاً، تعاوناً منتجاً لخير الجماعة والمجتمع والفرد ويضمن في الوقت نفسه تحقيق القيمة الخلقية، وحصر الإسلام صلة الذكورة والأنوثة بين الرَّجُل والمرأة بالزواج وملك اليمين وجعل كل صلة تخرج عن ذلك جريمة تستوجب أقصى العقوبات ، لذلك احتاط للأمر فمنع كل ما يؤدي إلى الصلة الجنسية غير المشروعة وجعل كل ما يؤدي إلى صيانة الفضيلة والخلق أمراً واجباً وحدد لذلك أحكاماً معينة منها غض البصر، وارتداء اللباس الكامل المحتشم ومنع المرأة من السفر بدون محرم ومنع الخلوة مع الأجنبي ووضع قواعد لزينة المرأة ومنع الاختلاط إلا لضرورة أو حاجة.
2. إنّ العمل الأصلي للمرأة هو أنها أم وربة بيت وقد اختصت به دون الرَّجُل .
- إن عمل المرأة الأصلي لا يمنعها من مزاولة الأعمال في الحياة العامة.(1/100)
- للمرأة حق تلقي العلم الشَّرْعي والدعوة إلى دينها وأن تتحلى بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه الأقارب والمعارف والعلماء وأصحاب السلطة وعامة الناس.
- للمرأة أن تمارس بعض الحرف لكسب المال.
- للمرأة أن تجاهد وتداوي الجرحى والمرضى.
- عند تزاحم الأعمال الوظيفية والمهنية على المرأة إتباع سلم الأولويات في تفضيل الأهم فما دونه.
- إن عمل المرأة خارج منزلها يخضع لقيود وحدود حتى لا تفقد أنوثتها وتحرم من أبنائها وتضر زوجها.
- إن نظرة الغَرْب للمرأة أدّت إلى القضاء على الأسرة وتدمير كل مقوماتها وعرضت أنوثة المرأة للدمار وتركت الصغار تحت رحمة دور الحضانة وحدائق الأطفال والمؤسسات التربوية.
3. تقرر الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة منع المرأة من تولي منصب الخلافة أو رئاسة الدَّوْلَةلأن طاقة المرأة-غالباً-لا تحتمل الصراع الذي تقتضيه تلك المسؤولية الجسمية.
- يرى البعض أنّه يجوز للمرأة أن تكون قاضية لأن وظيفة القضاء فهم واقع المشكلة بين المتخاصمين وعمل القضاء لا علاقة له بالحكم ومن ثم لا ولاية للقاضي على أحد ولا تجب طاعته وإنما يجب تنفيذ حكمه لأنه حكم الله لا لأنه أمر القاضي خلافاً لقاضي المظالم فإنه لا يجوز أن يكون امرأة، فلا يجوز أن تتولى المرأة قضاء المظالم، لأنه حكم وواقعه واقع الحكم، لأنه يرفع المظلمة التي تقع من الأحكام على الناس سواء ادعاها أحد أو لم يدعها أحد. والحق عندنا ما ذهب إليه الجمهور من المنع.
- يجوز للمرأة الاشتراك في عضوية مجلس الأمة الذي يتمثل واقعه في كونه يحاسب الحاكم ويراقبه ومن ثم فلا ينصب حاكماً أو يعزله على خلاف مجلس النواب الذي هو من الحكم لأنه في عرف الدِّيمُقْراطِيَّة له صلاحية الحكم فهو الذي ينتخب رئيس الدَّوْلَةويعزله ويمنح الوزارة الثقة وينزعها.(1/101)
- إنّ الشورى في الإسلام حق للرجل والمرأة على السواء ويلحق بهذا مبايعة المرأة الحاكم ومبايعة من يختارون ممثلين عن الأمة في مجالس الشورى.
4. إن تعدد الزوجات في الإسلام حكمه التحليل ولا يطلق عليه لفظ المباح بالمعنى العلمي الدقيق أي المسكوت عنه الذي لم يرد نص بتحليله أو تحريمه.
- حلل الله التعدد وأباحه دون قيد ولا شرط ودون تقليل وإن شرعة التعدد ليست خاصة بالمضطرين دون غيرهم ، بل هي شرعة عامة تشمل كل راغب.
- إن العدل الكامل بين النساء غير مستطاع بمقتضى طبيعة البشر وعليه يكون العدل الواجب على الزوج هو التسوية بين الزوجات فيما يقدر من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت.
- للتعدد حكمة تظهر من وجود طبائع في بعض الرجال تخرج عن الإطار المعتاد، ووجود عقم عند الزوجة، ورغبة في الذرية عند الزوج ومرض الزوجة مرضاً يمنع من قدرتها على الوفاء ببعض الحقوق الزوجية.
- إن التعدد بين المسلمين في إطاره العملي لا يتجاوز 10 بالألف.
- إن الغَرْب يسمح للزوجة أن تعدد بالأزواج ويحرم على الأزواج التعدد بالزوجات وفي ذلك من المفاسد ما لا يحصى.
5. إن الإسلام المنصف في التفريق بين الزوجين وضع جملة من الوسائل الوقائية التي تسعى لإصلاح الحياة الزوجية قبل وقوع الطلاق وجملة من الوسائل لمنع إساءة استعمال الطلاق.
- من الوسائل الوقائية لمنع وقوع الطلاق :
- مرحلة الصبر وتحمل الزوجة.
- مرحلة العلاج بالتّربية من خلال النصح والموعظة والهجر في المضاجع والضرب غير المبرح.
- مرحلة الحكمين.
- من الوسائل المعينة على منع إساءة استعمال الطلاق: أن يسلك الزوج مسلكاً يضمن التأكد من رغبته في الطلاق ويضمن تمكينه من المراجعة انقاذاً للحياة الزوجية، أن يطلقها طلقة واحدة رجعية في طهر لم يجامعها فيه إذ لا بدّ من التقييد بالشرط العددي والزمني والوصفي.(1/102)
- حق المراجعة للمرأة الأولى والثانية فيما جعل من العدة ،فإذا فشل الأمر فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
6. إنّ الإسلام جعل الطلاق بيد الرَّجُل لحكم منها أن المرأة تتعامل مع الناس غالباً بالعاطفة، ناهيك عما يتبعه من أمور مالية من المهر المؤجل ونفقة العدة والأولاد.
7. للمرأة أن تحل عقد الزوجية إذا جعل الزوج أمر طلاقها بيدها، أو امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته وهو موسر، علمت أن الزوجة علة أو عيباً كالجب والعنّة والخصاء، أو أصيب الزوج بمرض من الأمراض المنفرة كالزهري والإيدز أو جُنّ الزوج بعد عقد النكاح أو غاب وانقطعت أخباره.
8. إنّ الإسلام يقوم في الحقوق والواجبات على مبدأ العدل لا مبدأ المساواة ولا يقر المساواة على اعتبارها مبدأً عاماًُ وقاعدة مطردة وإنما يقرها حينما يقتضيها العدل.
9. جعل الإسلام القوامة للرجل على المرأة وقوامة الرَّجُل قوامة رعاية وإدارة وليست قوامة هيمنة وتسلط.
إن قوامة المرأة ليست عنواناً على أفضلية ذاتية عند الله يتميز بها الرَّجُل على المرأة وإنما هي عنوان على كفاءة يتمتع بها القائم بأعباء هذه المسؤولية وأنّ الله عزّ وجلّ جعل القوامة للرجال على النساء بما فضل بعضهم على بعض وبهذا يتقرر أنها أفضلية التناسب المصلحي مع الوظيفة التي يجب النهوض بأعبائها.
10. إنّ التفاوت في الميراث بين الرَّجُل والمرأة ليس دستوراً مطلقاً وإنما الحكم يتنوع نتيجة للتفاوت بينهما في الأعباء والتكاليف المفروضة على كل منها شرعاً وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس، إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النِّظَام الاجتماعي في الإسلام.(1/103)
11. إنّ التفاوت في الشَّهادَة لا يتعلق بطبيعة الأنثى ومكانتها في الجماعة وموضعها في المجتمع أو تتعلق بطبيعة الذكر ومكانه في الجماعة وموضعه في المجتمع وإنما يدور الحكم في الشَّهادَة بناء على قوة العلاقة أو ضعفها بين شخص الشاهد رجلاً كان أو امرأة وبين الموضوع الذي تجري بسببه الخصومة.
12. إنّ « حرية المرأة » و « المساواة بين المرأة والرَّجُل » نظريتان غربيتان باطلتان شرعاً وعقلاً، لا عهد للمسلمين بهما وإنهما استمرار لجادة الآخرين أعمالاً.
وإن الدعوة باسم الحرِّيَّة والمساواة أخرجت المرأة من البيت لتزاحم الرَّجُل وجعلت المرأة تخلع الحجاب وتقضي على رسالتها أمّا زوجة وسكناً لتقدمها كسلعة مبتذلة في كف كل لاقط من خائن أو فاجر.
سادساً : حول « العَدالَة في نظام العقوبات في الإسلام »
1. إنّ الإسلام أحاط الجريمة بسياج منيع من التثبت حتى لا تكون العقوبة أداةً للتنكيل بالخصوم المعارضين فوضع القواعد الدقيقة التي تنظمها حرصاً على تحقيق العَدالَة ومساعدة في إيجاد الأمن والطمأنينة نحو الأصل براءة الذمة وما يتفرع عنها من قاعدتين هما درء الحدود بالشبهات، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة. ونحو لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص من خلال تقرير الفقهاء لقاعدتين هما: لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النّص «والأصل في الأشياء الإباحة،والأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشَّرْعي »، ونحو لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود وهي الزِّنَا والقذف والسَّرِقَة والحرابة والبغي والردّة ونحو لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والديّة ، فالقصاص في القتل العمد وإتلاف الأطراف عمداً والجرح العمد والديّة في جرائم القصاص إذا عفي عن القصاص لسبب شرعي ثم قتل شبه العمد والقتل الخطأ وإتلاف الأطراف خطأ والجرح خطأ.(1/104)
ونحو ليس لولي الأمر حق منح العفو العام أو الخاص إلا في جرائم التعازير ونحو التكافؤ والمساواة في تطبيق العقوبة.
2. لمّا كانت الجرائم تتفاوت من حيث فظاعتها، كان لا بدّ من مقياس دقيق تقاس به الجرائم ليكون حجم العقوبة وكمية ألمها مناسبين لحجم الجريمة وكمية فظاعتها، والعقل البشري عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها ومن المحال أن يصدر حكماً صَحِيْحاً على أي جريمة، والمَخرج يكون في عقوبات ثابتة يضعها من يملك مقياساً غير معرض للخطأ وهذا يتطلب علماً يختلف عن علم البشر وهذا لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى.
3. إنّ قوانين الإسلام كلّها تتوخى تحقيق مصالح الناس، والمصالح هي الغاية التي قصدها الشَّارِع من التشريع ككل وهي الرحمة للناس، وإن مقصد كل تشريع هو الغاية التي تنتج عن الحكم وليس الباعث على تشريعه وهذه الغاية قد تتحقق وقد لا تتحقق كشرب الخمر، فإنّ مقصد الشَّارِع أي غايته بمعنى حكمته انتفاء العداوة والبغضاء لا أن يكون الباعث على النهي هو وقوع العداوة والبغضاء وعليه فإنّ مقاصد الله من الأحكام هي الغايات والحكم وليست عللاً لها.
4. العقوبة رحمة بالنسبة للمنحرف ذاته وبالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه فأمّا المجتمع فلما تجلبه له من شيوع الأمن والحماية للأموال والدماء وأما بالنسبة للمنحرف فهي كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا أقدموا عليها.
5. العقوبات زواجر وجوابر، زواجر وضعها الله للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر وجوابر من الإثم.
6. تفاوت مراتب العقوبات تبعاً لتفاوت مراتب الجنايات وهذه العقوبات تعالج هذه الجنايات معالجة دون مبالغة أو إفراط إذ تسير على مقياس من أدقّ المقاييس وأعدلها وعلى أساس محاربة الدوافع الخاصة بكل جريمة، فما كان مبعثه اللذة عوقب بالألم وبهذا تكون الجريمة قد حاربتها الشَّرِيعَة في النفس قبل أن تحاربها في الحسّ.(1/105)
7. بطلان قياس الشَّرِيعَة بالقانون الوضعي وما وجود الافتراق وذلك الالتقاء إلا وجود عرضي وفي أجزاء متفرقة ولا عبرة بالاتفاق أو الاختلاف في الجزئيات والعرضيات ، إنما المعول عليه هو النظرة الأَسَاسيَّة والتصور الخاص ، وللإسلام نظرته الأَسَاسيَّة وتصوره الخاص وعنه تتفرع الجزئيات فتلتَقِيّأو تفترق عن جزئيات في النظم الأخرى ، ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف.
8. إنّ المقياس الصَحِيْح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة فإنّ نقص عدد المجرمين، وقلّت الجرائم فقد نجحت العقوبة وإن زاد عدد المجرمين والجرائم ، فقد فشلت العقوبة. وإنّ الإحصائيات الحديثة تثبت فشل القوانين الحديثة في تشريع الحبس كعقوبة أساسية لما فيها من إرهاق لخزانة الدَّوْلَة وتعطيل للإنتاج وإفساد أكثر للمجرمين وانعدام لقوة الردع والزجر وقتل للشعور وإهدار لإنسانية الإنسان ووقوع للضرر على الصحة وازدياد لنسب الجرائم في المجتمعات.
9. الغَرْب والجريمة صنوان لا يفترقان ما دامت الحَضَارَة المادية تظلله والقوانين البشرية تحكمه والأرقام تتكلم والإحصاءات تنطق عن هذا المجتمع العاري.
10. إنّ المعاهدات والمؤتمرات الدولية لمكافحة الجريمة التي تنظمها هيئة الأمم المتحدة قد فشلت في الحدّ من الجريمة في العالم لأنهم ينظرون إلى القضايا من منظار مادي بحيث لا يوجد صلة بين الخالق والمخلوق ومن ثمّ فإنّ الجريمة تتزايد باسم هذه المؤتمرات على نطاق عالمي واسع بسبب هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها الصهيونية على أروقة الأمم المتحدة وإخضاع هذه المؤتمرات لصالحها العام.
11. إنّ القوانين التي يحتكم إليها الناس ضمن إطار محدد للحقوق والواجبات على نحوين: قوانين تضعها الجماعة لنفسها وتختارها لتسير على ضوئها وتُسمى بالقوانين الوضعية وقوانين يضعها الله تعالى لعباده وتُسمى الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة.(1/106)
وإن القوانين الوضعية غير صالحة لكل زمان ومكان وتخضع للتبديل والترقيع والتكميل بينما القوانين الإلهية ثابتة في أصولها ويتاح الاجتهاد لفقهاء المسلمين في فروعها.
وإنّ الواقع ليثبت بالإحصاءات مدى ملائمة الحدود الإسْلاميَّة للحدّ من الجريمة ويثبت فشل القوانين الوضعية التي يصرخ عشاقها قائلين متسائلين: كيف نوقف الجريمة؟
12. إنّ الغَرْب عنوان الإجرام عبر التاريخ ويشهد لذلك تكالبه على الأمة الإسْلاميَّة، والأمم الأخرى.
سابعاً : حول « العَدالَة في نظام الحكم في الإسلام »
1. من المفاهيم الأَسَاسيَّة المنبثقة من القاعدة الفِكْرية التي تحدد منهج الإسلام في شؤون الحكم « إن الحكم كلّه هو في الأصل لله وحده »، فالحاكم هو الله تعالى وفي ذلك يختلف الحكم الإسلامي في أساسه عن كل الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية، حيث تكون السيادة في الحكم الإسلامي للشرع والسلطان للأمة بينما النِّظَام الديمقراطي تكون السيادة للأمة والأمة مصدر السلطات.
2. إنّ الله يأمر الحكام بإقامة العدل بين الناس في أحكامهم حتى لا تضيع الحقوق وتنتفي الأمانة وقد تمثل هذا العدل في رائد العَدالَة في العالمين سَيِّدنا محمد عليه السلام وامتد إلى عهود متأخرة من تاريخ هذه الأمة.
3. إنّ طاعة الله وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي الإطار المحدد لكل طاعة وكل طاعة تتنافى أو تتناقض مع هذا الإطار العام ، فهي لاغية ومذمومة إذ لا طاعة في معصية الخالق.
4. إنّ طاعة الحاكم أو الأمير من طاعة الله ورسوله ، فلا يحل أن ينازع في الولاية مهما كان إلا ما جاء نص به وهو ظهور الكفر البوّاح كما لا يحل طاعته في أمر المعصية أما إنْ فعل المعصية دون الأمر بها فطاعته واجبة.(1/107)
5. الشورى حتى لجميع المسلمين على الخليفة وهي سمة من سمات الحياة الإسْلاميَّة وجزئية من جزئيات النِّظَام الإسلامي عامة وحق من الحقوق السِّيَاسِيَّة للأمّة الإسْلاميَّة. وأنّ الشورى الإسْلاميَّة والدِّيمُقْراطِيَّة الغَرْبيّة نقيضان لا يلتقيان.
6. تحقق الشورى إشراك الأمة-ممثلة بأهل الحل والعقد-في مزاولة السلطة والتفكير بقضايا الأمة مع الشخص الذي أنابه عنها وهو الأمير وتطيب نفوس المحكومين وتؤلف قلوبهم وتجنب الخطأ في اتخاذ القرارات وتحيل دون استبداد الحاكم أو طغيانه.
7. إن التفريط بالشورى من الحاكم موجب للعزل ، فلا شرعية بدون شورى وشرعية.
8. الأصل الأصيل في شرعية الحاكم هو اختيار الأمّة له، فالأمة هي صاحبة السلطة في تعيين الحاكم بمحض اختيارها وأما العهد فلا تنعقد به الإمامة إلا إذا اختاره أهل الحل والعقد وأما العهد بمعنى يوارث الحكم فهذا أمر لا يجوز.
9. لكل فرد من أفراد الأمّة أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة المفسدة وأساس هذا الحق تكليف الشَّارِع لكل مسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنّ هذا الحق له حدود وضوابط منها: أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للخليفة، وأن يكون على أساس من العلم والفقه.
10. تنطلق المعارضة في الفِكْر الغَرْبيّ من قاعدة حفظ « الحرِّيَّة الفردية » ومنع الاستبداد وتهدف في الغالب إلى إظهار خطأ الممارسات السِّيَاسِيَّة للحكومة والكشف عنها بهدف إضعافها أو إسقاطها، بينما في الإسلام فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتأكد من التزام الحاكم بالشَّرْع لحراسة الدين من الضياع، ومنع تفشي الظلم.
11. يرفض الإسلام فكرة المعارضة الدائمة للنظام السياسي أي المعارضة للمعارضة لأن الأصل في النِّظَام الإسلامي هو الطاعة ولأن المعارضة للمعارضة فيها إصرار على الخطأ المؤدي إلى الخيانة والفسق.(1/108)
12. إن العقائد والعبادات الإسْلاميَّة لا يكره أحد على اعتناقها ابتداء حيث أقرّ الإسلام قانون لا إكراه في الدين لغير المسلمين في عقائدهم وعباداتهم.
13. الحرِّيَّة الدينية في الفِكْر الغَرْبيّ تنطلق من قاعدة كون التدين صلة روحية محضة بين الإنسان وخالقه لا شأن لها بكيان الدَّوْلَةالسياسي وهي تعني حق الإنسان في أن يختار الدين الذي يشاء بل وأن يختار أن لا يكون مؤمناً بأي دين كان.
14. لا يحل لمسلم أن يتعبد بكيفية أو هيئة ليس لها اصل في الشَّرِيعَة أو خارجة عما رسمه الشَّرْع عمداً عالماً بذلك وإلا عُدّ مبتدعاً للإثم مغايراً للشرع.
15. ليس للدولة إجبار أو إكراه على اعتناق عقائد متنازع فيها أو أحكام تعبدية متنازع فيها بين المسلمين ما دام المخالف يخرج عن دائرة الإسلام.
16. تدخل الدَّوْلَةفي حالة حدوث أفكار وممارسات بدعية على بيان الحقائق وبيان مفاسد تلك الأفكار والعقائد بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان.
17. إنّ الدَّوْلَةتعمل على حفظ دين الإسلام وصيانته من البدع ولكن لا تلجأ إلى القتل والقتال إلا عند ظهور الردّة أو الخروج على الدولة.
18. إنّ المرتد عن الإسلام متى ثبت فعله يقتل حدّاً وهذا الإجراء يكون على من كان مسلماً ثم ارتدّ عن الإسلام.
وأوصي نفسي وإخواني في ختام هذا البحث بما يلي:
- وجوب دراسة الشخصيات الفِكْرية الإسْلاميَّة المعاصرة وغير المعاصرة دراسة تحليلية نقدية لكل فكرة من أفكارهم على ضوء الكتاب والسنة.
- نشر العلم الشَّرْعي، فإن المبتلين بالشرك الغَرْبيّ يتميزون بفقد العلم الشَّرْعي أو قصوره.
- الحرص على المنهج الشَّرْعي في الاستدلال والاستنباط، حيث إننا نجد المنتفعين بالفِكْر الغَرْبيّ قد أحدثوا أصولاً شرعية جديدة أو اتخذوا منهجاً خاطئاً لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية.
- العمل على بلورة الأفكار والمفاهيم الإسْلاميَّة وتنقيتها من أفكار غير الإسلام.(1/109)
- وجوب الذّب عن حرمات الدين بكلمات تجلو صدأ ما ألصقه المنشقون من الثرثرة وتكتم صياحهم في وجه الحق وإيضاح السبيل الآمن الرَّشَد، العدل الوسط.
وإني في ختام هذا البحث أضعُ القلم لأتجه بالحمد الخالص للذي بنعمته تتم الصالحات على ما أمد به من عون، كنت لا أفتأ أحسّ به في الفِكْر قوة، وفي الروح صفاء وشفافية، وفي البصيرة نفاذاً، وفي العزم ومعاناة البحث صبراً وَجَلَداً، وفيما أنفق من جهد آناء الليل وأطراف النهار مَدَداً متجدداً، وأقرُّ أني في هذا البحث قد خففت وإن ظن قد أكثرت، واختصرت وإن ظن أني أطلت فما أعرضت عنه صفحاً أكثر بكثير مما ذكرت. فحقائق تلك الرسالة الإلهية الخالدة ومقررات الوحي فيها لا يتسع لبيانه مدار البحر.
وإنه لقمن بكل واقف على هذا البحث أن يسدد ما به من خلل وأن يستر ما فيه من زلل، فلقد علمت أنه ليس من العصمة أمانِ خصوصاً إذا صدر الكاتب عن وفاض ليس فيه من العلم إلا القليل وكتب بقلم كليل. فاللّهم لا تعذب يداً كتبت تريد نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين عن دينك، ولا لساناً أراد الذب والدفاع عن شريعتك، ولا قلباً يعتصر من أقوال المستغربين، ولا روحاً أرادت أن ترفرف في ظلال عدلك، ولا تحرمني بفضلك خير ما عندك بشر ما عندي. والحمد لله رب العالمين.
كتبه
العبد الفقير إلى رحمة ربه
محمد أحمد عبد الغني
لبنان-طرابلس
نهر البارد
1424هـ/2004م(1/110)