|
تأليف : الدكتور محمد عبد الغني
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
العدالة في النظام الاجتماعي
في الاسلام
تأليف
الدكتور محمد عبد الغني
??? الفصل الرابع : العدالة في النظام الاجتماعي في الإسلام ... 343
المبحث الأول : تنظيم الصلات بين الرجل والمرأة ... 344
- غضّ البصر ... 349
- منع سفر المرأة بدوم محرم ... 350
- منع الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبيّة ... 351
- وضع القواعد والضوابط لزينة المرأة ... 351
- عدم اختلاط المرأة بالرجل إلا لضرورة أو حاجة ... 352
- الالتزام باللباس الشرعي وحرمة التّبرج والسفور ... 353
- الحكمة في مشروعية الحجاب ... 354
1- انتشار العقم من خلال عمليات الإجهاض ... 354
2- الاعتداءات الجنسية والاغتصاب ... 355
المبحث الثاني : تقرير الأعمال الإيجابية للمرأة ... 358
- الفروق الطبيعيّة بين الرجل والمرأة ... 359
- للمرأة أن تمارس الأعمال المشروعة والمباحة
1- تلقي المرأة للعلم الشرعي
2- احتساب المرأة تجاه الناس عامة
3- ممارسة بعض الحرف لكسب المال
4- للمرأة أن تُجاهد وتداوي الجرحى والمرضى
- عدم صلاحيّة المرأة للإمامة الكبرى
- المرأة والاشتراك في عضويّة مجلس الأمّة
الموضوع ... الصفحة
المبحث الثالث : العدل في الزوجيّة بين النّساء ... 378
- تفسير قوله تعالى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ..... }
- ما هو حكم العدل بين الزّوجات ؟
- ما هو العدل المطلوب بين الزّوجات ؟
- الحكمة من تعدد الزوجات ؟
- الرّدّ على مقولة « من حقّ وليّ الأمر أن يمنع بعض المباحات جلباً لمصلحة أو درءاً لمفسدة»
- وحش الجنس في الغرب.
المبحث الرابع : الإنصاف في التفريق بين الزّوجين ... 392
- تعريف الطلاق ودليل مشروعيته
- الوسائل الوقائية لإصلاح الحياة الزوجيّة
1- مرحلة الصبر والتحمل من الزوجة. ... 393
2- مرحلة العلاج بالتربيّة والإصلاح. ... 393
أ- النّصح والموعظة ... 394
ب- الهجر في المضاجع ... 394
ج- الضّرب غير المبرح ... 394
3- مرحلة الحكمين ... 395
- الوسائل لمنع إساءة استعمال الطلاق ... 396
- لا طلاق ثلاثاً دفعة واحدة
(1/1)
- لا طلاق في حيض
- لا طلاق في طهر مسها فيه
- حقّ المراجعة
- وجود العدّة
- الطلاق البائن
- لماذا الطلاق بيد الرجل دون المرأة؟
- متى يحل للمرأة أن تحل عقد الزوجيّة؟
- من ثمار الحضارة الزائفة
المبحث الخامس : عدالة التكاليف الشرعيّة بين الرجل والمرأة ... 408
المطلب الأول : ... طبيعة الحقوق والواجبات ... 409
المطلب الثاني: ... عدالة القوامة في الحياة الزوجيّة ... 412
المطلب الثالث: ... عدالة التوزيع في الميراث ... 415
المطلب الرابع: ... عدالة التفاوت في الشهادة ... 418
الموضوع ... الصفحة
المبحث السادس : حقيقة دعوة المرأة إلى الحرية والمساواة ... 423
- في مجال الحياة العامة ... 424
- في مجال الإعلام ... 424
- في مجال التعليم ... 425
- في مجال العمل والتوظيف ... 426
- من تولى كبر هذه الفتنة ... 427
ويشمل على خمسة مباحث :
1- المبحث الأول ... : تنظيم الصلات بين الرَّجُل والمرأة.
2- المبحث الثاني ... : تقرير الأعمال الإيجابية للمرأة.
3- المبحث الثالث ... : العدل في الزوجية بين النساء.
4- المبحث الرابع ... : الإنصاف في التفريق بين الزوجين.
5- المبحث الخامس ... : عدالة التكاليف الشَّرْعية بين الرَّجُل والمرأة.
6- المبحث السادس ... : حقيقة دعوة المرأة إلى الحرِّيَّة والمساواة.
... لقد ساوى القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة بين الرَّجُل والمرأة في أصل الخلقة والقيمة الإنسانية بحيث لا وجود لتمايز أو تنافر بل إنهما يرجعان إلى أصل واحد، حيث يقول الله سبحانه وتعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً } (1).
__________
(1) النساء / 1.
(1/2)
... يقول الإمام النسفي(1) رحمه الله في قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } « إنَّ الله خلق الخلق من أصل واحد وهو نفس آدم» ويقول في تفسير قول الله سبحانه وتعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } « معطوف على محذوف كأنه قيل من نفسٍ واحدة أنشأها، وخلق منها زوجها. والمعنى شعّبكم من نفسٍ واحدة أنشأها من تراب، وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء »(2).
« فالمرأة مخلوقة من عنصر الرَّجُل نفسِه ولم تكن مستقلة عنه في الخلق وقد أنبت منهما مجتمعين جميع الرجال و النساء فالجنسان كلاهما يرجعان إلى أصل واحد وعلى هذا الأساس ينظر الإسلام إلى جنس الرجال وجنس النساء بمنظار واحد وهما في نظره من جوهر واحد ليس لأحدهما من مقومات الإنسانية أكثر مما للآخر » (3).
ويؤكد هذا القول الله سبحانه وتعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (4).
... فقد أكرم الله الإنسان وجعل الإيمان معياراً للتكريم وليس الجنس حيث أعطى الله سبحانه وتعالى للمرأة مكانتها في ذلك مساوية للرجل فقَالَ تعالى:
{
__________
(1) النسفي : (710 هـ-1310م) عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، أبو بركات، حافظ الدين، فقيه حنفي، مفسر، من أهل أيذج( من كور أصبهان) ووفاته فيها. من مصنفاته: مدارك التنزيل في تفسير القرآن. انظر: الأعلام، (4/67-68).
(2) النسفي، تفسير النسفي، ص(204).
(3) العك، خالد عبد الرحمن: شخصية المرأة المسلمة في ضوء القرآن والسّنة، ص(108).
(4) الحجرات / 13.
(1/3)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (1). وقَالَ تعالى : { يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } (2). وقَالَ تعالى : { قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) } (3).
... فالله تعالى خاطب الإنسان بالتكاليف وجعل الإنسان موضع الخطاب والتكليف وأنزل الشرائع للإنسان، ويبعث الله الإنسان ويحاسب الإنسان ويعاقب الإنسان ويجازي الإنسان، فجعل الإنسان لا الرَّجُل ولا المرأة موضع الخطاب ومحل التكليف.
... ومن المعلوم أن هذا الحق الذي تتساوى فيه المرأة مع الرَّجُل ، نابع من الجامع المشترك بينهما ألا وهو صفة الإنسانية.
« ولعلك تعلم أن الإسلام في الوقت الذي كان يقرر بداهة اشتراك الرَّجُل والمرأة في صفة الإنسانية، كانت فرنسا منهمكة في رعاية مؤتمر عُقد في القرن السادس الميلادي للوصول إلى معرفة حقيقة المرأة، أهي من صنف الإنسان أم شيء آخر؟ »(4).
«
__________
(1) التوبة / 71.
(2) الانفطار / 6.
(3) عبس / 17-18-19.
(4) وجدي، فريد: دائرة معارف القرن العشرين، عند الحديث عن : امرأة (8/622-623).
(1/4)
وبالجملة، فإن المرأة في ظلّ الحضارات الغابرة، كانت تنال حظاً من الاهتمام بها في مراحل الترف والبذخ التي تنتهي إليها عادة الحضارات الكبرى. ولكنها لم تكن تنال ذلك في تلك المراحل تقديراً لشخصها واعترافاً بقيمتها، وإنما كانت تناله لأنها في مرحلة ذلك البذخ والترف، تعدُّ مطلباً من مطالب المتعة والوجاهة الاجْتِمَاعِيَّة في حياة الرجال. ولذا فسرعان ما كانوا يعودون فيرونها شؤماً عليهم في مراحل الشّدة والإدبار الحضاري، أي فهي لم تكن مكرَّمة من حيث هي، في أيّ من الحالتين»(1)
« وهذا هو الفرق ما بين الإسلام والحضارات العالمية الأخرى في النظر إلى مكانة المرأة : أما الإسلام فقد كرّمها من حيث هي كائن يتمتع بسائر الصفات الإنسانية المكرمة بل المقدسة في حكم الله عزّ وجلّ ومن ثمّ فإن هذا التكريم ما ينبغي أن يتأثر بالإقبال أو الإدبار الحضاري»(2).
__________
(1) البوطي، د. محمد سعيد رمضان: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(47).
(2) البوطي، د. محمد سعيد رمضان: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(47-48).
(1/5)
... وهذا مما تميز وتفرد به الإسلام دون غيره من المذاهب، إذ لا فرق بين الرَّجُل والمرأة في الإنسانية، لأنهما فرعان من شجرة واحدة، وأخوان ولّدهما أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حوّاء. فهما متساويان في أصل النشأة، متساويان في الخصائص العامة، متساويان في التكاليف والمسؤولية، متساويان في الجزاء والمصير، لا يختلف أحدهما عن الآخر في الإنسانية، ولا يمتاز أحدهما عن الآخر في شيء من هذه الإنسانية ولا ينظر لأحدهما إلا كما ينظر للآخر بأنه إنسان يتمتع بجميع خصائص الإنسان ومقومات حياته، يشترك كل منها في طاقة حيوية هي الطاقة الحيوية نفسها التي في الآخر، ويشترك كل منهما في الحاجات العُضْويَّة نفسها كالطعام والشراب وقضاء الحاجة، كما يشترك كل منهما في الغرائز كغريزة البقاء وغريزة النوع وغريزة التدين، كما يشترك كل منهما في قوة التفكير.
... فالعقل الذي يربط المعلومات السابقة والمعلومات الآتية عن طريق الحواس عند الرَّجُل هو العقل نفسه الموجود عند المرأة إذ خلق الله عقلاً للإنسان وليس عقلاً للرجل وللمرأة.
... وبهذا هيأ الله الإنسان رجلاً وامرأة لخوض معترك الحياة وجعلهما يعيشان في مجتمع واحد وجعل بقاء النوع متوقفاً على اجتماعها وعلى وجودها في كل مجتمع، إلا أن غريزة النوع وإن كان يمكن أن يشبعها الذكر من ذكر أو حيوان أو غير ذلك، ولكنه لا يمكن أن يؤدي الغاية التي من أجلها خُلقت في الإنسان إلا في حالة واحد ة وهي أن يشبعها الذكر من الأنثى وأن تشبعها الأنثى من الذكر.
ولهذا كان لا بدّ للإنسان من مفهوم عن إشباع غريزة النوع، وعن الغاية من وجودها وكان لا بدّ أن يكون للجماعة الإنسانية نظام يمحو من النفوس تسلط فكرة الاجتماع الجنسي واعتبارها وحدها المتغلبة على كلّ اعتبار ويبقي صلات التعاون بين الرَّجُل والمرأة، لأنه لا صلاح للجماعة إلا بتعاونهما باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودة ورحمة.
(1/6)
... لذلك لا بدّ من التأكيد على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرَّجُل والمرأة من صلات تغييراً تاماً ويزيل تسلط مفاهيم الاجتماع الجنسي ويجعلها أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع ويزيل حصر هذه الصلة باللذّة والتمتع وجعلها نظرة تستهدف الجماعة لا نظرة الذكورة والأنوثة، ويسيطر عليها تقوى الله لا حبّ التمتع والشهوات، نظرة لا تنكر على الإنسان استمتاعه باللذّة الجنسية ولكنها تجعله استمتاعاً مشروعاً محققاً بقاء النوع، متفقاً مع المثل الأعلى للمسلم وهو رضوان الله تعالى.
وبذلك يتقرر أن نظرة التشريع الإسلامي للصلات بين الرَّجُل والمرأة هي لبقاء النوع، بينما نظرة الرَّأْسُماليَّة الدِّيمُقْراطِيَّة تختلف عنها باعتبارها نظرة جنسية قائمة على المتعة واللّذّة.
... ولذلك وجهت النُّصُوص الشَّرْعية غريزة النوع لبقاء النوع بمعنى أن الغريزة إنما خلقها الله للزوجية لا لمجرد الاجتماع الجنسي كما هو واقع المجتمعات الغَرْبيّة.
يقول الله تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } (1). وقَالَ : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } (2).
فالله سبحانه وتعالى سلّط الخلق على الذكر والأنثى من ناحية الزوجية وكرر ذلك لحكمة مرجوة تتمثل في بقاء النظرة إلى الصلات بين الذكر والأنثى منصبّة على الزوجية.
وقد أُتُّهم الإسلام من خلال هذه النظرة بأنه يكبت الغريزة في الإنسان، وهذا وهم مخالف للحقيقة. ذلك لأنّ هناك فرقاً بين الغريزة والحاجة العُضْويَّة من حيث حتمية الإشباع، فإن الحاجة العُضْويَّة كالطعام والشراب وقضاء الحاجة، يتحتم إشباعها وإذا لم تشبع، ينتج عنها أضرار في نهاية المطاف تُؤدي إلى الموت حتماً.
__________
(1) النحل / 72.
(2) الروم / 21.
(1/7)
وأما الغريزة كغريزة البقاء والتدين، والنوع، فإنه لا يتحتم إشباعها وإذا لم تشبع، لا تنتج عن عدم إشباعها أي ضرر جسمي أو عقلي أو نفسي، وإنما يحصل من ذلك انزعاج وألم ليس غير، اللّهم إلاّ بعض القلق بدليل أنه قد يُمضي المرء عمره كلّه دون أن يشبع بعض الغرائز ومع ذلك فلا ضرر يحصل له.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحاجة العُضْويَّة، تتطلب الإشباع من الداخل دون حاجة لمؤثر خارجي، بينما الغرائز لا تثور داخلياً إلاّ بمؤثر خارجي من واقع مادي مثير أو فكر جنسي مثير، وإذا لم توجد هذه الإثارة فلا حاجة للإشباع.
وهذا يعني أن وجود المرأة مع الرَّجُل يثير غريزة النوع، وهذا أمر حتميّ عند الإثارة إذ قد يوجدان معاً ولا تثار الغريزة كما وجدا للتبادل التجاري أو الطبابة أو التعليم وإنما يكون لديها الاستعداد للإثارة.
ولهذا لا يجوز أن يجعل كون المرأة تثير غريزة النوع عند الرَّجُل ، وكون الرَّجُل يثير غريزة النوع عند المرأة سبباً لفصل المرأة عن الرَّجُل فصلاً تاماً، بمعنى أنه لا يصح أن يجعل وجود قابلية الإثارة حائلاً دون اجتماع الرجال والنساء في الحياة العامة، ودون التعاون بينهما بل لا بد من اجتماعهما وتعاونهما في الحياة العامة، لأن هذا التعاون ضروري للمجتمع،إلا أنه لا يمكن أن يتم هذا التعاون إلا بنظام تنظيم الصلات والنِّظَام الوحيد الذي يضمن هناء الحياة ، وينظم صلات المرأة بالرَّجُل تنظيماً طبيعياً تكون الناحية الروحية أساسه والأحكام الشَّرْعية مقياسه وهو الإسلام لا غير.
هذا النِّظَام هو النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، فهو ينظر إلى الإنسان رجلاً كان أو امرأة بأنه إنسان فيه الغرائز والمشاعر والميول وفيه العقل ويبيح لهذا الإنسان التمتع بلذائذ الحياة، ولا ينكر عليه الأخذ منها بالنصيب الأكبر ولكن على وجه يحفظ الجماعة والمجتمع ويؤدي إلى تمكين الإنسان من السير قُدماً لتحقيق هناء الإنسان.
(1/8)
... وهكذا حصر الإسلام صلة الرَّجُل والمرأة بالجنس من خلال الزواج وملك اليمين وجعل أي صلة تخرج عن ذلك تجاوزاً للحدود يستوجب أقصى أنواع العقوبات، ثمّ أباح باقي الصلات كالأبوة والبنوة والأمومة والأخوة والعمومة والخؤولة وجعله رحماً محرماً، وأباح للمرأة ما أباحه للرجل من مزاولة الأعمال التجارية والزراعية والصناعية ومن حضور دروس العلم وإقامة الصلوات في الجماعة، والجمعة وحمل الدعوة وغير ذلك.
... فالكل عباد الله، والكلّ متضامن للخير ساعٍ لتقوى الله وعبادته، كما دلّت نصوص كثيرة على فرضيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصيغة الواردة في كثير منها وإن كانت للمذكرين،لكنها تتناول الرّجال والنساء كما بيّن ذلك علماء الأمّة رحمهم الله تعالى.
(1/9)
... فعلى جادة المثال، قَالَ الإمام ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : « قد استقر في عرف الشَّارِع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكرين إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث، فإنها تتناول الرجال والنساء لأنه يغلب المذكر عند الاجتماع كقوله تعالى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } (1). وقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (2)، وكقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (3)، وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } (4)، وقوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (5)، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } (6) إلى غير ذلك من الآيات فإنها عامة للرجل والمرأة، والقيام بها يمكن أن يحصل فيه اجتماع بين الرَّجُل والمرأة مما يدلّ على إباحة الإسلام للاجتماع بين الرَّجُل والمرأة بما كلفهم به من أحكام، وما عليهم أن يقوموا به من أعمال »(7).
... إلاّ أن الإسلام احتاط للأمر فمنع كل ما يؤدي إلى الصلة الجنسية غير المشروعة، وجعل العفّة أمراً واجباً، وحدد لها أحكاماً شرعية متعددة منها على جادة المثال:
1- غضّ البصر :
قَالَ تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } (8).
__________
(1) البقرة /282.
(2) البقرة / 183.
(3) البقرة / 43.
(4) التوبة / 103.
(5) التوبة / 60.
(6) التوبة / 34.
(7) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : أعلام الموقعين عن ربّ العالمين (92-93) باختصار.
(8) النور / 30-31.
(1/10)
... فقد أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بالغضّ من البصر، وغضّ البصر خفضه وكفّه وصرفه عن النظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه من العورة. وليس المراد غضّ البصر مطلقاً، كأن يكون المرء مطرقاً رأسه فلا ينظر رجل إلى امرأة أو العكس، لأن هذا مما يتعذر علينا إتيانه، لذلك كان التعبير بقوله تعالى : { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } بمعنى يغضوا من أبصارهم، وهذا يخرج نظر الفجاءة كما روى مسلم في صَحِيْحه عن جرير بن عبد الله، قَالَ : « سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري»(1) وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: « لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية »(2).
... ولذلك حكمة وفائدة، مؤداها: أن النظر هو المدخل الأساسي لتسرب الشهوة إلى النفس وتحريك وإثارة غريزة النوع، وقد قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « النظرة سهم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه »(3)
ولله درّ القائل:
... كل الحوادث مبداها من النظرِ ... ... ومعظمُ النّارِ من مستصغَرِ الشررِ
... كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها ... ... فعل السهامِ بلا قوسٍ ولا وترِ
2- منع السفر للمرأة بدون محرم:
__________
(1) صَحِيْح مسلم ، باب نظر الفجاءة (3/1699) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى ،(7/86)، وصَحِيْح ابن حِبِّان ، (12/383)، والمستدرك على الصَحِيْحين (2/431)، والمعجم الكبير، (2/337).
(2) المستدرك للحاكم، (2/212). وسُنَن الترمذي، (5/101). وسُنَن الدارمي، (2/386). ومجمع الزوائد ، (4/277) و (8/63). وسُنَن البَيْهَقِيّ، (7/90). وسُنَن أبي داوود، (2/246). والمعجم الأوسط (1/209). ومُسْنَد أحمد (1/159). وصَحِيْح ابن حبّان، (12/381)، وشرح معاني الآثار، (3/14).
(3) المستدرك للحاكم، (4/349) دار الكتب العلمية سنة 1990م، ومجمع الزوائد للهيثمي (8/63) دار الكتاب العربي.
(1/11)
فقد قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسير يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم لها» (1) وفي حديث آخر « فقَالَ له رجل يا رسول الله: إنّ امرأتي خرجت حاجّة وإني أُكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « انطلق فحجّ مع امرأتك »(2) «وذلك لأن في سفر المرأة من دون محرم من المفسدة ما ليس في الجهاد فيما لو تركه رجل واحد »(3).
3- منع الخلوة بين الرَّجُل والمرأة الأجنبية:
... فقد روى البُخَارِيّ عن ابن عَبَّاس رضي الله عنه عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم »(4) فوجود المحرم يمنع الهواجس الشيطانية ويحول دون المزالق المؤدية إلى الجريمة.
... وروى الإمام البُخَارِيّ عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « إيّاكم والدخول على النساء. فقَالَ رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو؟ قَالَ : الحموُ الموت »(5).
4- وضع قواعد الضوابط لزينة المرأة:
... إنّ لزينة المرأة اهتماماً خاصاً في الشَّرْع الإسلامي أكثر من اهتمامه بزينة الرَّجُل ولباسه، لأن الزينة أمر أساسي للمرأة حيث فطرت على حبّ الظهور والزينة والجمال. وهذه الزينة متى فقدت المسار الصَحِيْح صارت من أعظم أسباب الفتنة والفساد. ومن أمثلة ذلك :
__________
(1) صَحِيْح مسلم، (2/977) وصَحِيْح ابن خُزَيْمَة (4/134) المكتب الإسلامي وصَحِيْح ابن حِبِّان ، (6/437).
(2) صَحِيْح البُخَارِيّ (3/1094) (5/2005) ومسلم (2/978) وصَحِيْح ابن خُزَيْمَة (4/147) المكتب الإسلامي .
(3) الشُّريم، سعود بن إبراهيم: المنهاج للمعتمر والحاج، ص(18).
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ (5/2005) دار ابن كثير بيروت.ومسلم (2/978) دار إحياء التراث العربي بيروت.
(5) صَحِيْح البُخَارِيّ (5/2005) .
(1/12)
أ) أباح الإسلام للمرأة أن تتطيب بما شاءت سواء في لباسها أو في بدنها، ولكن يحرم عليها أن تتطيب وهي تريد الخروج من بيتها، لأن ذلك يحرك الشهوة سواء أكان الخروج للصلاة في المسجد أم غيره. وقد قَالَ - صلى الله عليه وسلم - :«أيّما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء »(1)
قَالَ ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة في أعلام الموقعين، في الكلام على اهتمام الشَّرْع بسد الذرائع:«أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخوراً، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تَفِلَةً، وألا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال، وألا تسبح في الصلاة»(2).
ب) يُباح للمرأة أن تتزين لزوجها بما ظهر في هذا العصر من وسائل التجميل من الأصباغ والمساحيق، هذا هو الأصل لعموم الأدلة، على أن المرأة تتزين لزوجها بما ليس فيه محذور شرعي كالحناء والخضاب ونحوهما، شرط ألا يكون ذلك بقصد التشبه بالكافرات، وألا يكون هناك ضرر من استعمالها، وألا يكون فيها تغيير الخلقة الأصلية، كالرموش الصناعية، أو الحواجب ونحوها، وألا يكون فيها تشويه لجمال الخلقة الأصلية المعهودة للنهي الوارد في زينة المرأة من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله »(3).
5- عدم اختلاط المرأة بالرَّجُل إلا لضرورة أو حاجة:
__________
(1) صَحِيْح مسلم (1/328) طبعة إحياء التراث العربي. وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (3/133). وسُنَن أبي داوود (4/79)
(2) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة، أعلام الموقعين، ص(234).
(3) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه، باب المتفلجات للحسن، (5/2216). وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (7م312) وقَالَ : « وأمّا المتفلجات فهي من تفليج الأسنان وهو أن تحددها حتى تكون في أطرافها رقّة ».
(1/13)
... فالإسلام لا يبيح للمرأة أن تختلط بالرجال لغرض الأنس أو الترفيه أو التسلية أو إشباع الرغبة في النظر إليها من العيون الخائنة والشهوات الجائعة أو غير ذلك من المقاصد الفاسدة التي لا يخلو منها الاختلاط كلا أو بعضاً.
... ومما يدل على أن الأصل في الاختلاط، الحظر، هو مجموع الأحكام الشَّرْعية المتعلقة بالرَّجُل والمتعلقة بالمرأة، والمتعلقة بهما، وهو ثابت من مخاطبة القرآن للنساء بوصفهنّ نساء، وللرجال بوصفهم رجالاً، وغير ذلك، فإنه مروي بشكل عملي وبشكل جماعي من أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي جميع عصور الإسلام.
... فالإسلام في سبيل عدم الاختلاط بالرجال، جعل المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها، وحرّم عليها إبداء زينتها لغير محارمها وحرّم على الرَّجُل النظر إلى عورتها، ومنع المرأة من السفر ولو إلى الحجّ دون محرم، ولم يفرض عليها صلاة جماعة أو جمعة، ولا جهاداً. هذا إلى جانب قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفصل الرجال عن النساء من خلال جعل صفوف النساء في المسجد، وفي الصلاة خلف صفوف الرجال، وعند الخروج من المسجد أمر بخروج النساء أولاً ثم الرجال حتى يفصل النساء عن الرجال. وكان النساء يحضرن صلاة العيد. وكان مكانهن في المصلى مستقلاً عن مكان الرجال، وكان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من خطبة العيد للرجال يأتي النساء فيذكرهنّ(1).
__________
(1) روى ذلك البُخَارِيّ ومسلم عن ابن عَبَّاس. وأبو داوود عن جابر ابن عبد الله. انظر:
- صَحِيْح البُخَارِيّ (1/330)، وباب إلى المصلى ، (1/331)، وباب موعظة الإمام النساء يوم العيد، (1/332)، وصَحِيْح مسلم ، (2/603)، (2/606)، وسُنَن أبي داوود باب خروج النساء في العيد، (/296).
(1/14)
وعن أبي سعيد الأنصاري أنه سمع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - للنساء: « استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق -أي تركبن حقها وهو وسطها- عليكن بحافات الطريق »(1) فكانت المرأة تلتصق حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
... فهذه الأحكام والحالات وما شابهها تدل في مجموعها على سير الحياة الإسْلاميَّة وأنها حياة ينفصل فيها الرجال عن النساء، وأن هذا الفصل جاء عاماً لا فرق بين الحياة الخاصة التي يعيش فيها في بيته وبين أفراد أسرته وبين الحياة العامة، ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء الشَّارِع بجواز الاجتماع فيه سواء الحياة الخاصة، أو في الحياة العامة.
«
__________
(1) سُنَن أبي داود، باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق (4/369) دار الفِكْر، والمعجم الكبير، (19/261)، والتمهيد لابن عبد البَرِّ (23/399)، وعون المعبود (14/127)، وتهذيب الكمال، (12/402).
(1/15)
فهذه الأفعال التي أجازها الشَّارِع للمرأة، أو أوجبها عليها ينظر فيها فإن كان القيام بها يقتضي الاجتماع بالرَّجُل ، جاز حينئذ الاجتماع في حدود أحكام الشَّرْع، وفي حدود العمل الذي أجازه لها، وذلك كالبيع والشراء والإجار والتعلم والتطبيب والتمريض والزراعة والصناعة وما شابه ذلك، لأن دليل إباحتها أو إيجابها يشتمل إباحة الاجتماع لأجلها، وأما إن كان القيام بها لا يقتضي الاجتماع بالرَّجُل كالمشي في الطريق في الذهاب إلى المسجد أو إلى السوق أو إلى زيارة الأهل أو للنزهة وكالأكل والشرب وما شابه ذلك، فإنه لا يجوز اجتماع المرأة بالرَّجُل في مثل هذه الأحوال، لأن دليل انفصال الرجال عن النساء عام ولم يرد دليل بجواز الاجتماع بين الرَّجُل والمرأة لمثل هذه الأمور ولا هي مما يقتضيه ما أجاز الشَّرْع للمرأة أن تقوم به، ولهذا كان الاجتماع لمثل هذه الأمور إثماً ولو كانت في الحياة العامة»(1).
6- الالتزام باللباس الشَّرْعي وحرمة التبرجّ والسّفور(2):
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(39-40).
(2) التبرج أعمّ من السّفور ، فالسفور خاص بكشف الغطاء عن الوجه. والتّبرج: كشف المرأة وإظهارها شيئاً من بدنها أو زينتها المكتسبة أمام الرجال الأجانب عنها. فالمرأة إذا كشفت عن وجهها فهي سافرة متبرجة، وإذا كشفت عمّا سوى الوجه من بدنها فهي متبرجة حاسرة. ذلك أنّ التّبرج بمعنى الظهور ومنه سمّيت الكواكب: بروج السماء، أي: زينتها، لظهورها. وأن السّفور مأخوذ من السّفر، وهو كشف الغطاء، فيقَال : امرأة سافرة وامرأة سافر، إذا كشفت عن وجهها، ولهذا قَالَ تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } [ عبس/ 38 ] أي: مشرقة، فخص تعالى الأسفار بالوجوه دون بقية البدن.
انظر: أبو زيد، بكر بن عبد الله: حراسة الفضيلة ، ص(88).
(1/16)
... قَالَ الله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } (1) وقَالَ تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (2) وقَالَ تعالى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّة الْأُولَى } (3)
فقد أمر الله النساء أن يرتدين اللباس الكامل المحتشم الذي يستر كل ما هو موضع للزينة إلا ما ظهر منها من الوجه والكفين وأن يدنين عليهن ثيابهن فيسترن بها. ولا يكون اللباس الشَّرْعي إلا إذا كان « ساتراً لجميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وأن لا يكون زينة في نفسه ولا شفافاً ولا ضيقاً يصف بدنها، ولا مطيباً ، ولا مشابهاً للباس الرجال ولباس الكفار، ولا ثوب شهرة »(4)
وإنَّ الحكمة الكامنة في مشروعية الحجاب تتمثل في ذلك البيان الساطع الذي ذكره القرآن في نصّ جامع وهو قول الله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } (5).
« فالحكمة أن تختفي المثيرات الجنسية والمفاتن الغريزية عن أبصار الرائين والناظرين إليها من الرجال، فلا يستثيرهم منها شيء إلى أي تحرش أو إيذاء... أي أن الحكمة من الحجاب ليست إعانة الرجال الناظرين إليها على هذا الانضباط ذاته، وعلى أن ينتظروا إليها ويتعاونوا معها إنسانةً مثلهم ذات مقومات عليمة وثقافية وقدرات اجتماعية، لا على أنهى كتلة من المهيجات الغريزية »(6).
__________
(1) النور / 31.
(2) الأحزاب / 59.
(3) الأحزاب / 33.
(4) الألباني ، ناصر الدين، حجاب المرأة المسلمة، ص(89).
(5) الأحزاب / 59.
(6) البوطي، المرأة ، ص(161-162).
(1/17)
... وبهذه الأحكام احتاط الإسلام في اجتماع المرأة بالرَّجُل ، من أن ينصرف هذا الاجتماع إلى الاجتماع الجنسي حتى يظلّ اجتماع تعاون لقضاء المصالح والقيام بالأعمال. ومما يزيد الإيمان والإذعان لحكمة أمر الخالق جلّ جلاله، بهذه الأحكام التي تنظم صلة الرجال بالناس ما نسمع ونشاهد من آثار سيئة وعواقب وخيمة قد ظهرت في المجتمعات التي أساءت فهم العلاقة بين الرَّجُل والمرأة ومن تلك النتائج:
أولاً: انتشار العقم من خلال عمليات الإجهاض
... فعلى جادة المثال نشر في جريدة « الشرق الأوسط » تقريراً عن البرازيل، يفيد أن جماعات مدافعة عن حقوق المرأة ذكرت أن ما يزيد على 400 ألف سَيِّدة تلقى حتفها سنوياً في البرازيل خلال عمليات الإجهاض، وأن هناك آلاف السَيِّدات يلجأن إلى عمليات تؤدي إلى العقم حتى يحصلن على وظائف. ...
وإن ما يزيد على أربعة ملايين عملية إجهاض تجري سنوياً، وإن عدداً كبيراً من تلك العمليات يجري في ظروف بدائية للغاية. وإن 44% من النساء البرازيليات، أُجريت لهنّ عمليات تؤدي إلى العقم في سنّ الإنجاب(1).
ثانياً: الاعتداءات الجنسية والاغتصاب
... فالاعتداءات الجنسية بأشكالها المختلفة -كما تقول لين فارلي: « منتشرة انتشاراً ذريعاً في الولايات المتحدة وأوروبا وهي القاعدة و وليست الاستثناء بالنسبة للمرأة العاملة التي هجرت بيتها ومارست أعمال الرجال مع الرجال »(2).
ومن أمثلة الاعتداءات الجنسية ما يلي:
__________
(1) جريدة «الشرق الأوسط»، لندن بتاريخ 9 جمادي الأول 1412هـ.
(2) البار، د. محمد علي، عمل المرأة في الميزان، ص(167).
(1/18)
1. قامت جامعة كورنل عام 1975 باستفتاء عن رأي المرأة العاملة في الاعتداء والمضايقات الجنسية أثناء العمل، من نسوة عاملات في مختلف القطاعات وفي الخدمة المَدَنيَّة... وقد أجابت 70 بالمائة منهنّ أنهن تعرضنّ لهذه المضايقات، والاعتداءات أثناء العمل، ووصفت 56 بالمائة منهن هذه الاعتداءات بأنها كانت جسمانية خطيرة.
2. وفي يناير 1976م نشرت مجلة « ردبوك» استفتاء شمل تسعة آلاف عاملة، فأجابت 90 بالمائة بأنهن قد وقعْنَ ضحيّة لهذا الابتزاز الجنسي، وقد جرّبنه بالفعل.
3. وقدم استفتاء إلى (السكرتيرات) في الأمم المتحدة حول الابتزاز الجنسي لهنّ أثناء العمل، وقد تمّ استجواب (875) قبل مصادرة الاستفتاء من قبل المسؤولين..وكان جواب خمسين بالمائة منهنّ أنهن قد وقعنّ تحت تأثير هذه المضايقات والاعتداءات الجنسية شخصياً(1).
4. وفي استفتاء لـ ( 333) شرطية، قَالَت نصفهن بأنهن تعرضن للاعتداء الجنسي من رؤسائهنّ(2).
5. نشر في جريدة الرياض مؤخراً عن الأمم المتحدة، ما يفيد أنه تم إيقاف رئيس (بروتوكول) مقر الأمم المتحدة في جينيف عن العمل لمحاولة التحرش مع بعض الموظفات(3).
6. صار عدد البلاغات عن حوادث الاغتصاب في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين سنتي 1970-1982م أكثر من ضعفين، حيث بلغ عددها من 37860 إلى 77763.
7. قدّرت دراسة قومية عن الجريمة عام 1979 في الولايات المتحدة الأمريكية أنه لا يبلغ الشرطة عن جرائم الاغتصاب إلا بمعدل 50 بالمائة من العدد الحقيقي(4).
__________
(1) البار، د. محمد علي، عمل المرأة في الميزان، ص(178-179)).
(2) البار، د. محمد علي، عمل المرأة في الميزان، ص(184).
(3) جريدة ، الرياض، بتاريخ 9 ذي الحجة 1414هـ باختصار.
(4) 1( “Rape” Edited by Sylvana Tomselli and Roy Porter, Pub by Basil Blackwall Oxford, 1986.الاغتصاب، ص (21) .
(1/19)
8. كشفت دراسة أجريت، أنّ 21 بالمائة من الأمريكيات قلنّ : « انهنّ قد اغتصبن من سن الرابعة عشر. وفي دراسة أخرى أن واحدة من بين كل ثماني فتيات من البيض (7،12) بالمائة قد اغتصبت لما كانت في العشرين من عمرها(1).
9. وفي لندن كشفت دراسة أجريت على 1236 امرأة أن واحدة من كل ست فتيات قد اغتصبت، وأن واحدة من كل خمس قاومت محاولة الاغتصاب(2).
10. بلغت نسبة الاغتصاب في أمريكا 35 بالمائة من الجرائم عام 1984م(3).
ثالثاً: حمل الفتيات وأولاد الحرام
فقد كثر في تلك المجتمعات حمل الفتيات عن طريق السفاح، ومن أمثلة ذلك:
1. أن واحدة من بين عشر فتيات أمريكيات في الفترة ما بين 15 سنة – 19 سنة تصير حاملاً سنوياً، وواحدة من بين كل خمس فتيات يمارسن الجنس(4).
2. إنّ ثلثي الأمهات المراهقات غير متزوجات(5).
3. بلغ عدد المواليد غير الشَّرْعيين في بريطانيا عام 1986، مائة وواحداً وأربعين ألف مولود(6).
4. ذكرت مجلة الجمعية الطبية البريطانية مقَالاً بعنوان « الحمل عند فتيات المدارس رهن في سن دون 16 سنة »
1955 ... ... 200 ... ... وضعن أطفالهن
1973 ... ... 1743 ... ... وضعن أطفالهنّ
1973 ... ... 3090 ... ... حالة إجهاض
1973 ... ... 4833 ... ... حالة حمل
1975 ... ... 3526 ... ... وضعْنَ أطفالهن(7)
__________
(1) 2( “We’re Number One” by Andrew Shapire, Pub by Vintage Books, New York. First Edition , May 1992.«نحن الرقم الأول» ، ص (126) .
(2) العمر، د. ناصر بن سليمان، فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(55).
(3) العمر، د. ناصر بن سليمان، فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(55).
(4) 5 ( «نحن الرقم الأول» ، ص (14)
(5) 6 ( «نحن الرقم الأول» ، ص (17)
(6) العمر، د. ناصر بن سليمان، فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(54).
(7) جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي في الإمارات، المجتمع العاري بالوثائق والأرقام، ص(45).
(1/20)
5. نشرت جريدة «عرب نيوز» إحصائية رسمية عن المواليد في بريطانية، مما جاء فيها : « يُولد طفل من بين كلّ أربعة أطفال خارج نطاق الأسرة، وإن هذه النسبة في ازدياد مستمر، ولن تكون هناك ولادة داخل نطاق الأسرة خلال السنوات القليلة القادمة إن استمرت الزيادة بهذه الصورة » وأضاف المشرف على الإحصائيات «لكن لا تزال بريطانيا متخلفة عن السويد حيث تبلغ فيها نسبة الأطفال المولودين خارج نطاق الأسرة إلى خمسين بالمائة من بين جميع الأطفال»(1)
أبعدَ هذا يتوقع من صاحب إيمان وعقل دعوة نساء الأمّة إلى الخروج إلى المجالات العامة؟ وفي هذا عبرة فاعتبروا يا أولي الأبصار!
« طبيعة نظرة الإسلام التشريعية، تجعل الأعمال التي يقوم بها الإنسان بوصفه إنساناً مباحة لكل من الرَّجُل والمرأة على السواء دون تفريق أو تنويع أحدهما عن الآخر. أو تجعل هذه الأعمال واجبة أو محرمة أو مكروهة أو مندوبة دون أي تفريق أو تنويع. أما الأعمال التي يقوم بها الذكر بوصفه ذكراً مع وصف الإنسانية، وتقوم به الأنثى بوصفها أنثى مع وصف الإنسانية، فإن الشَّرْع قد فرّق بينهما فيها، ونوَّعها بالنسبة لكل منهما، سواء من حيث الوجوب أو الحرمة أو الكراهة أو الندب أو الإباحة»(2)
... فالأعمال المشروعة التي أباحها الإسلام للرجال، هي ذاتها التي أباحها للنساء، والأعمال الشائنة التي حرّمها الله على الرجال هي ذاتها التي حرمها على النساء.
غير أنّ الله تعالى ألزمَ الرجال بآداب سلوكية واجتماعية، فاقتضى ذلك أن تكون أعمالهم التي يمارسونها خاضعة لتلك الضوابط والآداب، وألزم النساء أيضاً بآداب سلوكية، اجتماعية، فكان عليهنّ أن لا يخرجْنَ في أعمالهنّ التي تمارسنها على شيء من تلك الأحكام والآداب.
__________
(1) جريدة «عرب نيوز» في عددها الصادر بتاريخ 16 فبراير 1990م.
(2) النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(85).
(1/21)
... وعلى جادة المثال، فإن الله فرض على المرأة التقيّد بمظاهر الحشمة، وحرّم عليها الخلوة بالرجال الأجانب كما حرّم عليهم ذلك، فلا يجوز لها أن تمارس من الأعمال ما قد تضطرها إلى الخلوة المحرمة أو إلى التخلي عن حشمتها المطلوبة، كما أنه لا يجوز للرجل أن يباشر من الوظائف أو الأعمال ما قد يزجّه في خلوة محرمة أو يعرضه للفتنة من جرّاء اختلاطه بنساء غير ملتزمات بضوابط الحشمة المطلوبة.
... فإذا انتفى وجود هذا المحذور الذي هو محذور في حقّ كلّ من الرَّجُل والمرأة، فللمرأة أن تمارس أي وظيفة من الوظائف المشروعة بحد ذاتها، كما أن لها أن تباشر أي عمل من الأعمال المباحة في أصلها، سواء كانت صناعة أم زراعة أم تجارة أم غير ذلك.
... وهذه النظرة العامة لطبيعة عمل كل من الرَّجُل والمرأة، مرّدها أنّ للرجال طبيعة بوصفهم ذكوراً تختلف عن النساء بوصفهنّ إناثاً ولما كان الله تعالى وهو الذي خلق الذكر والأنثى أعلم بما هو من شأن الرَّجُل أو شأن المرأة، كان لا بدّ من الوقوف والالتزام عند حدّ الأحكام التي شرعها الله تعالى، لأنه أعلم بما يصلح الإنسان « فمحاولة العقل حرمان المرأة من أعمال بحجة أنها ليس من شأنها، أو إعطائها أعمالاً خصّ بها الرَّجُل باعتبار أن هذا الإعطاء إنصاف لها وتحقيق للعدالة بينها وبين الرَّجُل ، كل ذلك تجاوز على الشَّرْع، وخطأ محض، وسبب للفساد »(1).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(85-86).
(1/22)
... فالله تعالى، خلق المرأة وركّب فيها طبيعة الأنثى واعتبرها –لهذا الوصف- عنصراً مكملاً للرجل كما أنه مكمل لها، فليس أحدهما خصماً للآخر، ولا ندّاً له ولا منافساً، بل عوناً له على كمال شخصه ونوعه. كما أن الله غرز في فطرتها عوامل الأمومة والرغبة فيها ركبها تركيباً معداً للحمل والإنجاب وبقاء النوع الإنساني، ووهبها صفات فطرية من الحب لأبنائها، والحنان عليهم، والصبر على تربيتهم وحضانتهم مما لم يهب الرجال مثله، وجعلها ملائمة جسداً وفطرة لحضانتهم وتربيتهم وتنشئتهم في عشّ الزوجية ولا أحد على الإطلاق يصلح بديلاً عنها في هذا الميدان(1).
... ومع تكليف المرأة لهذه الاختصاصات العملية الموافقة لطبيعتها الأنثوية، نجد الشَّارِع قد خفف عنها بعض الأعباء وألزمها ببعض الوصايا، فالصلاة والصيام ركنان واجبان على الذكر و الأنثى سواء بسواء، إلا أن المرأة معفاة من الصلاة في أثناء حيضها ونفاسها دون قضاء لها ومثلها الصوم ولكن مع القضاء.
... ولما كانت تتأثر المرأة نفسياً وعاطفياً بالدورات البدنية التي تعتادها مما يجعلها مظنة خطأ في تصوير ما تشاهده من أحوال الناس وأحداث الحياة، فقد احتاط الدين في القضاء بشهادتها منفردة وضمّ إليها للاستيثاق شهادة امرأة أخرى.
... فمثل هذا وغيره، يؤكد وجود الفروق المادية والمعنوية بين الرجال والنساء. ونحن نؤكد قيام هذه الفروق ونرى أنها بالنسبة إلى الحقيقة الإنسانية بين الرَّجُل والمرأة لا معنى لها لإنسانية كل من الذكر والأنثى، ولكن بالنسبة إلى توزيع الوظائف والأعباء عليها لا يمكن تجاهلها أبداً.
__________
(1) انظر حول طبيعة الأنثى وصفاتها الفطرية:
- ... القرضاوي، د. يوسف : مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(26-32).
- ... البياتي، د. منير حميد: النظم الإسْلاميَّة ، ص(172).
- ... أبو زيد، بكر بن عبد الله، حراسة الفضيلة، ص(15) وما بعدها.
(1/23)
... ففي الذكورة كمال خَلْقي، وقوة طبيعية، والأنثى أنقص منه خِلْقة وجِبلَّة وطبيعةً لما يعتريها من الحيض والحمل والمخاض والإرضاع، وشؤون الرضع، وتربية جيل الأمّة المقبل.
... وهذه الفروق هي استثناءات لها سرها، وتفاوت وتقييد له حكمته لا ليهين المرأة، بل ليقيم العَدالَة ، ويوجه كلا الجنسين إلى ما يحسنه، ويوائم خلقته وفطرته.
... وفي ضوء هذه الحقائق التي دلّت عليها الفطرة، ووافقها العقل الصَحِيْح ، أسس الإسلام وظيفة المرأة فجعلها أُمّاً ورَبَّة بيت، وجعل لها أحكاماً تتعلق بالولادة والرضاعة والعدّة دون الرَّجُل ، وجعل للرجل أحكاماً تتعلق بالنفقة دون المرأة.
... وعليه، فإن العمل الأصلي للمرأة هو أنها أمّ وربّة بيت، وقد اختصت به دون الرَّجُل، وأنه مهما ألقي عليها من تكاليف، فيجب أن يظلّ عملها الأصليّ هو الأمومة « أن تكون ربّة الأسرة، فهي التي تظللها بعطفها وحنانها ترأم أولادها وتغذيهم بأغلى الأحاسيس الاجْتِمَاعِيَّة وهي التي تربي فيهم روح الائتلاف مع المجتمع حتى يخرجوا إليه وهم يألفون ويُؤلفون »(1) ولذلك نجد الشَّرْع قد حافظ على إتمام مهمتها وإكمال عملها الأصلي بأن شرّع لها أحكاماً خاصة بها كأن تفطر في رمضان وهي حامل بوليدها، أو مرضع لابنها، وأسقط عنها الصلاة في حيضها ونفاسها، ومنع الرَّجُل أن يسافر بابنه من بلدها ما دامت تحضنه وما ذلك إلاّ لكونها أُمّاً وربّة منزل.
... فهذه شرعة الإسلام في تقرير عمل المرأة الأصلي الذي لا ينازعها فيه منازع، ولا ينافسها فيه منافس، وهو تربية الأجيال في مملكة آمنة مطمئنة، هي البيت تكون الأم ربّته ومديرته وقطب رحاه، وتكون زوجة الرَّجُل وشريكة حياته، ومؤنس وحدته وأمّ أولاده بما هيأه الله لها بدنياً ونفسياً.
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: حقوق الإنسان، ص(149).
(1/24)
... إلا أنه ليس معنى كون عملها الأصلي أنها أمّ وربة بيت أنها محصورة في هذا العمل ممنوعة من مزاولة غيره من الأعمال في الحياة العامة، فليس لأحد أن يمنع أو يحظر ممارسة الأعمال إلا بنص شرعي صَحِيْح الثبوت صريح الدلالة.
وكيف تمنع المرأة من الأعمال في الحياة والله تعالى يقول : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (1).
... والتزاماً بهذه الشَّرْعة فللمرأة أن تمارس أي وظيفة من الوظائف المشروعة بحد ذاتها، كما لها أن تباشر أي عمل من الأعمال المباحة في أصلها.
... فلها أن تطلب العلم وجوباً فيما يلزمها من تصَحِيْح عقيدتها وتقويم عبادتها وضبط سلوكها، ويوقفها عند حدود الله في الحلال والحرام، والحقوق، والواجبات، ويمكنها من حمل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ...
... ولها أن تقوم بِمزاولة الصناعة أو الزراعة أو التجارة، ولها أن تبيع وتشتري وتقوم بالإجارة والوكالة وإبرام العقود، ولها أن تتملك من وسائل الكسب ما تتملك وأن تنمي ثروتها، كما جعل ذلك للرجل سواء بسواء لعموم خطاب الشَّارِع وعدم تخصيص المرأة بالمنع إلاّ في أعمال معيّنة تتعلق بالحكم والسلطان.
وتطبيقاً لهذه الإباحة في مزاولة الأعمال زخرت السنّة بعشرات الأمثلة على ما ذكرناه، نورد منها الآتي:
__________
(1) التوبة / 71.
(1/25)
1. فمن حقّ المرأة أن تتلقى العلم الشَّرْعي، وشاهد ذلك ما رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: « جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَت : يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علّمك الله؛ قَالَ: « اجتمعن يوم كذا وكذا » فاجتمعن فأتاهنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلّمهنّ مما علّمه الله»(1).
وقَالَ الشيخ الألباني(2) : « والحق أنّ الكتابة والقراءة نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على البشر، فلا ينبغي للآباء أن يحرموا بناتهم من تعلمها شريطة العناية بتربيتهن على الأخلاق الإسْلاميَّة كما هو الواجب عليهم بالنسبة لأولادهم الذكور أيضاً، فلا فرق في هذا بين الذكور والإناث »(3).
2. ومن حقّ المرأة أن تدعوَ إلى دينها، وأن تتحلى بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تجاه الأقارب والمعارف والعلماء وأصحاب السلطة وعامّة الناس ومن أمثلة ذلك:
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ (6/2666) وصَحِيْح مسلم، كتاب البر والصلة، باب : فضل من يموت له ولد، (4/2028)
(2) هو محمد ناصر بن نوح نجاتي الألباني، الدمشقي، الشامي، «أبو عبد الرحمن»، العلامة والمحدث، ولد في مدينة أشفودرة عاصمة ألبانيا في أوائل القرن التاسع عشر عام 1914م، أجازه في الحديث علاّمة حلب المحدث الشيخ راغب الطباخ رحمه الله، من مصنفاته : السلسلة الصَحِيْحة والضعيفة وإرواء الغليل، وتمام المنّة.
(3) الألباني، ناصر الدين: حجاب المرأة المسلمة، ص(101).
(1/26)
- احتساب عائشة رضي الله عنها، على المرأة التي كانت تمتشط بناتها بالخمر، فقد روى الإمام الحاكم (1) عن سبيعة الأسلمية(2) رضي الله عنها تقول: دخل على عائشة رضي الله عنها نسوة من أهل الشام فقَالَت عائشة رضي الله عنها: ممن أنتن؟ فقَالَت : من أهل حمص، فقَالَت : صواحب الحمامات، فقلن : نعم ، فقَالَت عائشة رضي الله عنها : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « الحمام حرام على نساء أمّتي »، فقَالَت امرأة منهنّ : لي بنات أمشطهن بهذا الشراب، قَالَت : بأي شراب؟ فقَالَت: «الخمر» فقَالَت عائشة رضي الله عنها : « أفكنت طيبة النفس أن تَمتشطي بدم الخنزير ؟» قَالَت : لا، قَالَت: « فإنه مثله »(3).
__________
(1) الحاكم الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري، له المستدرك على الصَحِيْحين والتاريخ وعلوم الحديث والمدخل والإكليل ومناقب الشَّافِعِي ، ولد سنة 321هـ وتوفي في شهر صفر سنة 405هـ. .
(2) سبيعة الأسلميّة ، هي سبيعة بنت الحاريث زوجة سعد بن خولة الذي أدركه أجله في حجّة الوداع. روى عنها فقهاء المدينة وأهل الكوفة من التابعين. انظر : طبقات المحدثين ، (1/30). الثقات ، (3/151)، الاستيعاب ، (4/1859).
(3) المستدرك على الصَحِيْحين، كتاب الأدب ، (4/322) وقَالَ عنه الإمام الحاكم :«هذا حديث صَحِيْح الإسناد ولم يخرجاه» (انظر المستدرك (4/322) ووافقه الحافظ الذَّهَبِيّ (انظر: التلخيص 4/290).
(1/27)
3. وللمرأة أن تمارس بعض الحرف لكسب المال فهذه زينب بنت جحش(1) تعمل بيدها وتتصدق: فعن عائشة رضي الله عنها قَالَت : « ... فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق »(2).
وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «... أتى امرأته زينب وهي تمعس(3) منيئة »(4) وقد أورد الحافظ ابن حَجَرٍ(5) في الفتح أن الحاكم روى في المستدرك -قَالَ على شرط مسلم- أن زينب بنت جحش كانت امرأة صناعة باليد كانت تدبغ وتخرز(6) وتتصدق في سبيل الله (7). وما ثبت عن أسماء بنت أبي بكر(8)
__________
(1) زينب بن جحش بن رئاب الأسدية، من أسد خُزَيْمَة ، أم المؤمنين، كانت زوج زيد بن حارثة واسمها (بَرَّة)، وطلقها زيد، فتزوج بها - صلى الله عليه وسلم - ، وسمّاها زينب، وبسببها نزلت آية الحجاب، روت (11) حديثاً، ولدت عام 33 قبل الهجرة (590م) وتوفيت سنة 20 هـ(641م). انظر الإصابة (12/275) والأعلام (3/66). .
(2) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، (7/144) وصَحِيْح ابن حِبِّان (8/108) و(15/50).
(3) تمعس منيئة : تدبغ جلدة.
(4) مسلم كتاب النكاح باب: ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها ، (2/1021).
(5) هو الحافظ أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أو الفضل شهاب الدين، ابن حَجَرٍ من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان بفلسطين،من الحفاظ المشهورين، وعلماء الحديث البارعين،اشهر مؤلفاته:«فتح الباري شرح صَحِيْح البُخَارِيّ» وله كتب في الرجال أشهرها : « تهذيب التهذيب» ، وتقريبه ، توفى سنة 852هـ.
(6) تخرز: تخيط جلد.
(7) فتح الباري (4/29-30) وأورد الحافظ في الفتح، أن الحاكم روى الحديث في المستدرك وقَالَ على شرط مسلم. وانظر المستدرك (4/26).
(8) أسماء بنت أبي بكر، القرشية، زوج الزُّبَيْر ذات النطاقين، أسلمت بمكة وتوفيت بالمدينة سنة (83هجرية).
انظر: أسد الغابة ، (5/392) والإصابة (4/229).
(1/28)
رضي الله عنهما قَالَت : « وكنت أنقل النوى من أرض الزبير(1) التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ(2) فجئت يوماً والنوى علىرأسي، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفرٌ من الأنصار فدعاني ثمّ قَالَ : « إخْ إخْ»(3) ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزُّبَيْر وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد استحييت فمضى فجئت الزُّبَيْر ، فقلت لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك؟ فقَالَ : والله لحملك النوى أشدّ عليّ من ركوبك معه قَالَت : حتى أرسل أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني»(4).
__________
(1) هو الزُّبَيْر بن العوّام بن خويلد القرشي، صحابي شجاع، أحد العشرة المبشرين بالجنّة وأول من سلّ سيفه في الإسلام، شهد بدراً وما بعدها. قُتل يوم الجمل عام 36هـ، له 38 حديثاً. انظر: سَيِّد أعلام النبلاء (1/41) الإصابة (4/6)، الأعلام (3/43).
(2) الفرسخ: قياس طولي، يعادل حسب مقياس هذا العصر 5544 متراً، وثلثا الفرسخ يساوي 3696 متراً.
انظر : ... الصالح، صبحي، النظم الإسْلاميَّة نشأتها وتطورها، ص(417) .
... بن الرفعة الأنصاري، نجم الدين: كتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان، ص(77).
(3) إخْ إخْ:كلمة تقَال للتعبير للبعير ليبرك،ولا يقَال أخخت الجمل ولكن أنخته، انظر:ابن منظور، لسان العرب، مادة أخخ.
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ مع الفتح كتاب النكاح، باب الغيرة، (9/319) رقم الحديث (5224). وبدون الفتح (3/1149)، (5/2002) ومسلم (4/1716).
(1/29)
وروى الإمام مسلم في صَحِيْحه أن جابر بن عبد الله(1) قَالَ : « طُلّقتْ خالتي فأرادت أن تجذَّ نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ : بلى فجذّي(2) نخلك فإنّك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً »(3)
4. وللمرأة أن تجاهد وتداوي الجرحى والمرضى، فعن حفصة بنت سيرين(4) قَالَت : « كنّا نمنع عواتقنا أن يخرجنّ في العيدين، فقدمت امرأة فنَزلت قصر بني خلف(5) فحدّثت عن أختها- وكان زوج أختها غزا مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثنتي عشرة وكانت أختي(6) معه في ست- قَالَت : كنّا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى »(7).
__________
(1) هو جابر عبد الله بن عَمْرو بن حرام الأنصاري الخزرجي من المكثرين من الرواية عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - غزا تسع عشرة غزوة له 1540 حديثاًُ توفي 78هـ. انظر: الإصابة (2/45) سير أعلام النبلاء (3/189) الأعلام (3/43).
(2) فجذي نخلك: الجذاذ بالفتح والكسر: صرام النخلة وقطع ثمرتها. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة جذذ.
(3) صَحِيْح مسلم، كتاب الطلاق، باب: جواز خروج المعتدّة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها (2/1121) رقم الحديث 1483. وسُنَن ابن ماجة ، (1/656) ومصنف عبد الرزاق (7/25) ومُسْنَد أحمد (3/321).
(4) هي حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الأنصاريّة، البَصْرِية، أخت محمد بن سيرين. انظر العيني عمدة القارئ،(3/303).
(5) قصر بني خلف: كان بالبصرة، وهو منسوب إلى طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي المعروف «بطلحة الطلحات». انظر: فتح الباري (1/423).
(6) وكانت أختي: فيه حذفٌ تقديره : قَالَت المرأة : « وكانت أختي ». انظر فتح الباري (1/423).
(7) البُخَارِيّ ، كتاب الحيض، باب، شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى (1/123) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (3/306).
(1/30)
وعن الرُّبَيِّع بنت معَوِّذ(1) قَالَت : « كنا نغزوا مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة»(2).
ووجدنا أم عطية الأنصاري تقول : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأضع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزَّمْنى(3) ووجدنا أم سليم يوم حُنين تتخذ خنجراً ولما سألها زوجها أبو طلحة عنه قَالَت : « اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرتُ بطنه » (4) ووجدنا أم عمارة الأنصارية(5) تبلي بلاءً حسناً في القتال يوم اُحد حتى أثنى عليها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - (6).
__________
(1) الرّبيع بنت معوذ (45هـ-665م) البُخَارِيّة الأنصارية صحابية من ذوات الشأن في الإسلام بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان تحت الشجرة وصحبته في غزواته ، عاشت إلى أيام معاوية. انظر: الزِّرِكْليّ: الأعلام، (3/15).
(2) البُخَارِيّ، كتاب الجهاد ، باب، رد النساء القتلى والجرحى، (3/1056)، (5/2151) ، دار ابن كثير، والسُنَن الكبرى للنسائي (5/278). دار الكتب العلمية وأحمد (6/358).
(3) صَحِيْح مسلم (3/1447) ومُسْنَد أحمد ، (5/84) مؤسسة قرطبة مصر وسُنَن ابن ماجة (2/537) ومصنف ابن أبي شيبة (6/547) ، ومُسْنَد أسحاق بن راهويه (1/2111) .
(4) رواه مسلم برقم (1809) (3/1442).
(5) أمّ عمارة هي نسيبة بنت كعب صحابيّة جليلة من بني عامر بني النجّار بايعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العقبة مع سبعين رجلاً وامرأة. انظر: أخبار مكة ، (4/236).
(6) القرضاوي: مركز المرأة في الإسلام، ص(104).
(1/31)
ووجدناها في حروب الرّدة تشهد المعارك بنفسها حتى إذا قتل مسيلمة الكذّاب(1) عادت وبها عشر جراحات(2).
قَالَ الحافظ ابن حجر: « في هذا الحديث من الفوائد جواز مداواة المرأة للرجال الأجانب، إذا كانت باحضار الدواء مثلاً، والمعالجة من غير مباشرة إلاّ أن أحتيج إليها عند أمن الفتنة »(3).
وقد تُرجم في(الإصابة) لمجموعة من النساء الصحابيات اللائي كُنَّ يُرافقنَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في الغزو، ومنهنّ: رفيدة الأنصاريّة أو الأسلميّة(4)، فذكر عن ابن إسحاق في قصة سعد بن معاذ يوم أصيب يوم الخندق، فقَالَ عليه السلام: « اجعلوه في خيمة رفيدة، التي في المسجد، حتى أعوده من قريب »(5). وكانت امرأةٌ تُداوي الجرحى وتحبس نفسها على خدمة من كان ضيعة من المسلمين.
وفي ترجمة أُمّ أيمن مولاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وحاضنته، عن الواقدي: حضرت أم أيمن أُحداً، وكانت تسقي الماء، وتُداوي الجرحى، وشهدت خيبر(6).
__________
(1) مسيلمة : هو بن ثمامة الحنفي الوائلي، متنبئ كذّاب، وُلد ونشأ في اليمامة في نجد، ادعى النبوة وأكثر من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن، انتدب له أبو بكر خالد بن الوليد في جمع الصحابة والتابعين وانتهت المعركة بقتل مسيلمة عام 12 هـ واستشهاد ألف ومئتي رجل بين صحابي وتابعي. انظر: الأعلام (7/226).
(2) القرضاوي: مركز المرأة في الإسلام، ص(104).
(3) ابن حَجَرٍ العسقلاني: فتح الباري، (3/123).
(4) رفيدة الأنصارية أو الأسلاميّة من أسلم ، داوت الجرحى في غزوة الأحزاب. انظر: الاستيعاب ، (4/1883)، والإصابة (7/646).
(5) الأدب المفرد، (1/385). وفتح الباري، (7/412)، وسير أعلام النبلاء، (1/287) وتفسير الطَّبَري، (21/152).
(6) الكتاني: محمد الحسني، الإدريسي، الفاسي: نظام الحكومة النبوية المُسمى: ( التراتيب الإدارية، (2/74-75). وانظر: الإصابة، (4/402-454).
(1/32)
وقد بوّب البُخَارِيّ في كتاب الجهاد: جهاد النساء، وباب غزو المرأة في البحر، وباب حمل الرَّجُل امرأته في الغزو دون بعض نسائه، وباب غزو النساء وقتالهنّ مع الرجال، وباب حمل النساء القُرب إلى الناس في الغزو، وباب مداواة النساء الجرحى في الغزو، وباب ردّ النساء الجرحى والقتلى(1).
... وبهذا وغيره من الأدلة يتقرر جواز عمل المرأة « غير أنّ الأعمال الوظيفية والمهنية عندما تتزاحم بحكم المتطلبات الأسرية والاجْتِمَاعِيَّة، فلا مناص عندئذ من إتباع ما يقتضيه سلّم الأولويات، في تفضيل الأهم فما دونه، فما دونه، من حيث رعاية الضروريات ثمّ الحاجيات ثمّ التحسينات»(2).
... فالمرأة المتزوجة التي أنجبت أطفالاً، يلاحقها المجتمع بطائفة من الأعمال التي لا تقدر غالباً على النهوض بها كلّها لما تكلفت به في مهمتها الأصلية من رعاية زوجها وتربية أولادها، كما أنها بحكم ثقافتها واختصاصها العلمي مدعوة إلى أن تساهم في خدمة مجتمعها من خلال وظيفة تعليمية أو إدارية، فكيف تستطيع القيام بسائر المهام؟
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ، (3/221). وما بعدها.
(2) البوطي، د. محمد سعيد رمضان: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(64).
(1/33)
... « ليس ثمّة حلّ منطقي سليم إلاّ باللجوء إلى ما تقتضيه رعاية سلم الأولويات، وسلّم الأولويات يقول فيما يقرره سائر علماء المجتمع: إنّ نهوض الزوجة الأم بمسؤولية رعاية زوجها وتربية أولادها، يرقى إلى مستوى الضروريات من مصالح المجتمع، ذلك لأن صلاح الأسرة أساس لصلاح المجتمع، فإذا فسدت الأسرة وعصفت بها رياح الفوضى والإهمال، فإنّ سائر الأنشطة العلمية والثقافية، يتبعها سائر القوى والمدخرات الاقتصادية، لا يمكن أن يحل محل الأسرة في إقامة المجتمع على نهج سوي... إن المجتمع كان ولا يزال هو التابع لحال الأسرة و هي عليه من صلاح وفساد، ولم يثبت عكس ذلك في وقت من الأوقات»(1).
... وانطلاقاً من هذا الواقع، فإذا لم تتمكن الزوجة الأم من الجمع بين مهام الأسرة وأنشطة العمل فإن عليها فيما يقضي به إتباع سلّم الأولويات أن توفر وقتها للنهوض الضروري الذي هو السهر على رعاية الأسرة وإن اقتضى ذلك التضحية بأنشطة العمل.
... ويزداد الحق وضوحاً عندما تجد الزوجة نفسها مندفعة إلى الوظيفة طمعاً في وجاهة اجتماعية أو رغبة في مزيد من المال، وهذه مغامرة بحياتها الزوجية وسبيل لوأد السعادة التي ينبغي أن تشيع بينها وبين زوجها.
... فمؤدى ما نذهب إليه في هذه القضية، أن الشَّرْع جعل المرأة أماً وربة بيت، فكانت هذه المسؤولية أهم أعمالها وأعظم مسؤولياتها وأنه مهما أسند للمرأة من أعمال ومهما ألقي عليها من أعباء وتكاليف يجب أن يظل عمليها الأصلي هو الأمومة.
__________
(1) البوطي، د. محمد سعيد رمضان: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(65).
(1/34)
وأنّه لا مانع شرعاً أن تنفق فضول وقتها في أي عمل صالح تؤديه خارج المنزل على أن تأخذ بعين الاعتبار الآداب والضوابط التي يجب أن تلتزم بها حتى إذا رأت أن عملها هذا يخلّ بالأهم، من ضرورات رعاية الأسرة، وحمايتها من الآفات التي تتربص بها، كان عليها أن تتخذ القرار المتفق مع مبدأ تدرج المصالح الاجْتِمَاعِيَّة. ومعلوم أن ضرورة البدء بالأهم فما دونه، فما دونه، واجب تنسيقي يخاطب به المنطق الفِكْري والاجتماعي كلا من المرأة والرَّجُل على السواء.
... وليس في هذا إجحاف للمرأة، وإنما محافظة على طبيعتها وأنوثتها التي فطرها الله عليها، وحراسة من أنياب المفترسين وجشع المستغلين الذين يريدون أن يتخذوا من أنوثتها أداة للتجارة والربح الحرام.
(1/35)
... وقد رأينا ما رأينا من أنصار المغالاة في عمل المرأة، إذ يظهرون في صورة الأطهار المخلصين ويحتجون بالغَرْب احتجاج الواهن المسكين، والغَرْب حجّة عليهم وليس علينا، وما هو بإله يعبد، ولا قدوة تُتبع { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (1) فإنهم يدعون أنّ المرأة في الغَرْب خرجت إلى المصنع والتجارة والواقع إنها خرجت مجبورة لا مختارة تسوقها الحاجة إلى القوت وطلب الإعانة، تقول الكاتبة الشهيرة آنا رود في مقَالَة نشرتها في جريدة « الاسترن ميل » : « لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهنّ في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد... ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهر رداء، الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد العيش، ويُعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمسّ الأعراض بسوء... إنّه عار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتنا مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام بالبيت، وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها»(2).
... وتقول الكاتبة الألمانية المعروفة إستر فيلار في واحد من أشهر كتبها:
«
__________
(1) الكافرون / 6.
(2) يكن، د. فتحي: الإسلام والجنس، ص(73-84).
(1/36)
إن المحاولة الوحيدة لدفع المرأة إلى العمل خارج المنزل، أي بالتالي إلى تطوير ذكائها، إنما تصدر من المناصرين لحقوق المرأة، إذ يقولون: على المرأة الحقيقية أن تسعى لتحقيق ذاتها، ولن يتسنى لها ذلك إذا غادرت مثل الرَّجُل دائرة المنزل قصد العمل. بيدَ أنّ هذه الحيلة الواهنة لا يمكن أن تنطلي على النساء، فهنّ ولا شكّ سخيفات العقل، غير أنّ سخافتهن لا تصل إلى حدّ سخافة المناصرين لحقوق المرأة، إذ إن الخروج إلى العمل مثل الرَّجُل ، يعني بالنسبة للمرأة القيام وحدها بوأد عائلة كاملة ... رغم أن مجال العمل في جلّ القطاعات مفتوح للمرأة منذ نصف قرن، فإننا لم نسمع لحدّ الآن، ولو عن حالة واحدة، عملت المرأة فيها من تلقاء نفسها وطول حياتها، بغية تغذية عائلة»(1)
... وبهذا نعلم أن عمل المرأة خارج منزلها بغير قيود ولا حدود، مضرة على نفسها لأنها تفقد أنوثتها وتحرم من أبنائها ومضرّة على زوجها، لأنه يفقده كثيراً من سلطانه وقوامته عليها لشعورها بأنها مستغنية عنه بعملها ومضرّة على أولادها لأن حنان الأم لا يغني عنه من الخدم شيئاً ومضرة على العمل لأن المرأة كثيرة التخلف والغياب لكثرة العوارض الطبيعية التي لا تملك لها دفعاً، ومضرّة على الأخلاق، وليس من فتنة أضرّ على الرجال من فتنة النساء»(2)
__________
(1) إستر فيلار: حق الرجل في التزوج بأكثر من واحدة، ترجمة الهادي سليمان، ص(22).
... وانظر: البوطي، المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(22).
(2) انظر حول مضار انهماك المرأة في الاشتغال بعمل الرجال. القرضاوي: مركز المرأة في الإسلام،ص(112-113-114)
(1/37)
... وإذا أردت التحقق من هذا، فولّ وجهك شطر الغَرْب حيث المجتمعات الغَرْبيّة تندب حظها التعيس في انهيار الأسرة، وتقطع أواصر التعاون وصلات القربى، فلم يعد يجمع الرَّجُل بالمرأة إلاّ المبيت، فكل سواء أكان صغيراً أو كبيراً مسؤول عن نفسه ومن ثمّ فعلى كلّ منهم أن يبحث عن معيشته من كدّ يمينه في جو تتقطع به وشائج الرحم و في جو مجتمع أصبح الإنسان سلعة تُباع وتشترى في دور التبني واللقطاء تحت شعار الحَضَارَة الغَرْبيّة.
... وفي هذا المقام، أود أن الفت النظر إلى أننا ما ينبغي أن نخدع من الغَرْب بشعارات برّاقة عن الحرِّيَّة والدِّيمُقْراطِيَّة والحقوق الإنسانية، فإننا حبسنا أنظارنا وأخيلتنا في أوهام من هذه الشعارات، فلسوف نعتقد بأن المرأة في الغَرْب تتربع على عرش من الإكرام، وتسبح في يمٍّ من الحرِّيَّة لا شطآن له، وتتمتع بحقوقها كاملة دون أي منغصات.
... غير أنّ المرأة الغَرْبيّة تعاني من واقع مناقض لهذه الشعارات، وبوسع أي باحث أو مطلع على حقيقة المرأة الغَرْبيّة أن يلاحظ هذا التناقض، وأن يطوف بمشاعره الأسف من أنّ المرأة الغَرْبيّة غدت اليوم ضحية لطغيان النِّظَام الغَرْبيّ الذي يجسده الواقع، لا الذي تلوكه الألفاظ والشعارات.
... وإن الباحث المنصف ليجد أن مصدر الواجبات التي تكلف بها المرأة الغَرْبيّة اليوم إنما هو سلطان المصالح المادية.
« فالمرأة مكلفة، بهذا الدافع، المادي، بإعالة نفسها، سواء كانت فتاة في بيت أبويها، أو زوجة في دار زوجها، ما دامت قادرة على طرق أي باب لأي كسب... لذا فإنّ على الجميع أن يركضوا في سباق لاهث، ابتغاء جمع أكبر قدر من المال، لأداء الضريبة التي لا بدّ منها، ابتغاء الحصول على سلسلة المتع التي لا حصر لها »(1).
... ولكن فما النتيجة التي جناها الغَرْب من وراء هذه الفلسفة المادية؟
__________
(1) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(27).
(1/38)
النتيجة الأولى: أنه قضى بفلسفتة هذه على الأسرة ودمر كل مقوماتها، فلا مسؤولية من الزوج عن الزوجة، ولا مسؤولية من الأبوين على الأولاد.
النتيجة الثانية: أنه عرّض أنوثة المرأة للدمار، لأنه أخرجها إلى العمل من أجل الرزق اضطراراً لا على وجه التسلي والاختيار، ومن ثمّ فإنها لا تملك أي فرصة لاختيار العمل المناسب لها والمتفق مع أنوثتها. ففي عمق تلك المجتمعات تختفي تحت حكم الضرورة فوارق ما بين الأعمال النسائية وأعمال الرجال. فما من عمل قاسٍ مجهد مما يمارسه الرجال، بل مما تمارسه الطبقة الدنيا من الرجال، إلا وتجد نساء كثيرات قد سبقنهم إليها أو زاحمنهم عليها!..
... ونتيجة هذه النتيجة التي لا بدّ منها، أن يترك الصغار تحت رحمة دور الحضانة وحدائق الأطفال والمؤسسات التربوية التي يراد منها أن تحل محل الأمهات، ولا يجهل أحد من العقلاء، فضلاً عن المثقفين وذوي المعرفة بشيء من علم النفس التربوي، أن أيَّاً من دور الحضانة أو المؤسسات التربوية أو حدائق الأطفال لا يمكن أن يحل محل الأمومة في أي مهامها أو آثارها التربوية المتنوعة.
... إنّ ما قلناه عن إباحة بنهوض المرأة بالأعمال الوظيفية والمهنية والأنشطة الثقافية والاجْتِمَاعِيَّة فيما يقضي به إتباع سلم الأولويات ينطبق هو ذاته على الأنشطة السِّيَاسِيَّة التي بوسع المرأة أن تمارسها، باستثناء رئاسة الدَّوْلَةالتي يعبر عنها بالخلافة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(1/39)
... فقد روى البُخَارِيّ(1) وأحمد والترمذي(2) والنسائي(3)
__________
(1) البُخَارِيّ: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي الحافظ صاحب الصَحِيْح وإمام أهل الحديث والمعول على صَحِيْحه في جميع الأقطار، من كتبه الناسخ الكبير والأدب المفرد والقراءة خلف الإمام والضعفاء في رجال الحديث وخلق أفعال العباد. ولد في بخارى سنة 194هـ ونشأ يتيماً وقام برحلة طويلة في طلب العلم، فزار خراسان والعراق ومصر والشام وسمع من نحو ألف شيخ وجمع نحو 600 ألف حديث، اختار منها في صَحِيْحه ما وثق برواته وهو أول من وضع في الإسلام كتاباً على هذا النحو. توفي ليلة عيد الفطر سنة 256هـ.
(2) هو محمد بن عيسى بن نمورة بن موسى السلمي البوغي التِّرْمِذِي أبو عيسى من أئمة علماء الحديث وحفاظه من أهل ترمذ، تتلمذ للبخاري وشاركه في بعض شيوخه وقام برحلة إلى خرسان والعراق والحجاز وعميّ في آخر عمره وكان يضرب به المثل في الحفظ. من تصانيفه : الجامع الكبير في الحديث والشمائل الثبوتية والتاريخ والعلل في الحديث، كان مولده سنة 209هـ ووفاته بترمذ في رجب سنة 279هـ. الأعلام (6/322) طبقات الحفاظ ص(278).
(3) النسائي: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الإمام الجليل أو عبد الرحمن النسائي، أحد الأئمة في الحديث ، ولد سنة 215هـ وتوفي بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشر من صفر سنة 303هـ، طبقات الشَّافِعِي ة (2/84)..
(1/40)
حديث أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة »(1) قَالَ ذلك عندما هلك شيرويه، أحد ملوك الفرس، وتولت الملك من بعده ابنته بوران.
وقد استدل جمهرة علماء الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة من الحَنَفِيَّة والمالكيّة والشَّافِعِية الحنابلة(2) بهذا الحديث الصَحِيْح على حرمة إسناد مهام الخلافة أو ما يسمى برئاسة الدَّوْلَةإلى المرأة أيا كانت، وعلى أن البيعة لا تنعقد لها شرعاً.
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ، كتاب المغازي، باب كتاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر، رقم الحديث (4425)، ج(8/126) وفي طبقة دار ابن كثير (4/1610) (6/2600) وروى نحوه الأئمة أحمد والترمذي، والنسائي، وابن حِبِّان والحاكم ( انظر: المُسْنَد 5/43، 47،51، وجامع التِّرْمِذِي أبواب الفتن رقم الحديث 2365، 6/447 وسُنَن النسائي، كتاب آداب القضاء، النهي عن استعمال النساء في الحكم، 8/227، والإحسان في تقريب صَحِيْح ابن حبّان، كتاب السير، باب الخلافة والامارة، رقم الحديث 4516، 10/375 والمستدرك على الصَحِيْحين، كتاب معرفة الصحابة 3/118-119 وفي مجمع الزوائد (7/234).
(2) انظر حول ذلك،
- النووي: روضة الطالبين ، (10/42). ابن قُدامة : المُغْني (8/525)
- ابن حَجَرٍ العسقلاني: فتح الباري (13/43).
- الكاساني: البدائع ، (20/332)، ابن عابدين، ردّ المحتار على الدرّ المختار، (3/579).
- الحطّاب: مواهب الجليل، (5/292).
- الخطيب الشربيني: مغني المحتاج، (3/433-437-445).
- البهوتي، منصور بن يونس: كشّاف القناع، (5/197).
(1/41)
... كما استدلوا على منع وحرمة إسناد ما يتبع الإمامة العظمى (رئاسة الدولة) من الأعمال الخطيرة كوزارة التفويض ووزارة التنفيذ، والقضاء بأنواعه (الجنائي والمدني والإداري ) والحسبة أو النيابة العامّة: ( وهي وظيفة دينيّة في الأسواق العامة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وقيادة الجيش وهو ما نرجحه.
... فحيث ما كان أمر الناس منوطاً إلى امرأة سواءٌ أكانت الخلافة أم غيرها كالوزارة والنيابة، والقضاء، وولاية الحسبة، تحقق التهديد بانتفاء الفلاح إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
... ولكن ما الحكمة من هذا الحجر الذي جاء خاصاً، بموجب نص صريح في النهي عن تولي المرأة الحكم برئاسة الدولة؟
الحكمة أن قسماً كبيراً من المهام التي يقوم بها الخليفة أو من يحلّ محله هي مهام دينية محضة، وليست سياسية مجردة، فمن مهام الخليفة جمع الناس على صلاة الجمعة وخطبتها، وهي مهمة دينية محضة كما هو واضح. ومن المعلوم أن المرأة غير مكلفة بصلاة الجمعة ولا بالحضور لها، فكيف تقود الناس وتشرف عليهم في عمل هي غير مطالبة به؟ فإن قلنا: فلتنب عنها من يقوم بهذا الواجب من الرجال، أشكلت على ذلك القاعدة الفقهية القائلة بأنه لا تصح الوكالة إلا عمن يستوى مع الوكيل في المطالبة بذلك الحكم وشرائط صحته وانعقاده. ومن مهام الخليفة إعلان حالة الحرب مع من اقتضى الأمر محاربتهم وقتالهم وقيادته الجيش في عمليات القتال. ومن المعلوم أن المرأة غير مكلفة بالجهاد القتالي إلا عند النفير العام، أي عند مداهمة العدو دار الإسلام واقتحامه لأراضي المسلمين، فكيف يستقيم منها أن تقود الناس في عمليات هي غير مكلفة بها؟
ومثل ذلك إعلان الهدنة والصلح ونحو ذلك... مما يعد نتائج وفروعاً لحالة الحرب والإعلان عنها، ومن المعلوم أن الذي لا يكلف بأصل الشيء ومصدره لا يكلف بشيء من فروعه وآثاره.
(1/42)
ومن مهام الخليفة الخروج بالناس إلى صلاة العيد، وإلى صلاة الاستسقاء وإلقاء الخطبة المتعلقة بالصلاتين، والمرأة قد لا تكون في وضع يخولها القيام بهذه المهام ونحوها، مما هو كثير، فاقتضى ذلك أن لا تزج المرأة في هذه المحرجات دون ما ضرورة تستدعي ذلك والواقع أنه ليس ثمة ضرورة تقتضي تحمل المرأة هذه المحرجات »(1).
... ومن ثمّ فإنّ الواقع التاريخي منذ أقدم عصور الحَضَارَة الإنسانية كان ولا يزال متفقاً مع ما قررته الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة من منع المرأة تولي منصب الخلافة أو رئاسة الدَّوْلَة « لأنّ طاقة المرأة – غالباً – لا تحتمل الصراع الذي تقتضيه تلك المسؤولية الجسيمة. وإنما قلنا: «غالباً» لأنه قد يوجد من النساء من يكن أقدر من بعض الرجال، مثل ملكة سبأ التي قصّ الله علينا قصتها في القرآن في سورة النحل، وقد قادت قومها إلى خيري الدنيا والآخرة، حتى أسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين. ولكن الأحكام لا تبنى على النادر، بل على الأعم الأغلب، ولهذا قَالَ علماؤنا : النادر لا حكم له» (2).
ومن المؤسف أن بعض المثقفين يضيق بذلك أشد الضيق، وإذا أسمعته قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنفض رأسه، ولوى وجهه، وظهرت عليه تقلصات الاشمئزاز والاستنكار، على حين أنك لو أسمعته هُراء من كلام فلان أو علان من الغَرْب، اعتبره شيئاً جديراً بالالتفات والتأمل!! وتلك آفة من آفات المنطق والتفكير.
__________
(1) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(70).
(2) القرضاوي، د. يوسف : مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(25).
(1/43)
... ولا نريد أن ندخل مع هؤلاء في بحث فلسفي عن صلاحية المرأة للإمامة الكبرى أو عدم صلاحيتها، وإنما نطلب منهم أن يتأملوا في أسماء من نصبوا ملوكاً أو رؤساء لدولهم، منذ أقدم العصور إلى هذا اليوم، خارج المجتمعات الإسْلاميَّة نجد أن غالبيتهم العظمى كانوا رجالاً، بل إنّك لا تكاد تعثر على أسماء نساء تولينّ رئاسة الدَّوْلَةأو الملك، أكثر من عدد أصابع اليد. ولا شكّ أن هذا يدل دلالة واضحة على أن تلك المجتمعات مقتنعة، رجالاً ونساءً بما قضى به الإسلام. و إلاّ فلماذا ترتفع نسبة الرؤساء والملوك من ذوي السلطة الحاكمة، من النساء إلى النصف، أو إلى الربع أو إلى عشر أمثالهم من الرجال طوال هذه الأحقاب المنصرمة كلها؟ لماذا لم نسمع عن امرأة تولّت الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ فجر ولادة هذه الدَّوْلَةإلى اليوم؟ بل لماذا لم نسمع عن أي امرأة رشّحت نفسها للرئاسة؟ وهي الدَّوْلَةالتي تهيب بالنساء في العالم العربي والإسلامي أن يكافحْنَ لنيل هذا الحق!!.. سيقول البعض: إنكلترا؟ فهل يستطيع ذلك القائل أن يزعم أن ملكة إنكلترا تتولى أمر شعبها؟ والحق الذي لا مهربَ منه أن ملك الإنكليز أو ملكتهم لا يملك من أمر نفسه شيئاً فضلاً عن أن يملك أمر شعبه!؟ فهو لا يملك أن يتزوج المرأة التي يريدها!! ولا يملك أن ينفرد باختيار المكان الذي يعالج فيه، أو يقضي أيام نقاهته!! فهذا الاستدلال مما لا يرد في مقام الاحتجاج على ما نقول(1).
... فإذا كانت المرأة الغَرْبيّة لم تبلغ بعد أن تكون في رئاسة الدولة، فهل يكون الإسلام ظالماً للمرأة المسلمة في منعه إيّاها هذه المهمة الكبرى؟
__________
(1) انظر حول المسألة:1- العك، خالد عبد الحميد:شخصية المرأة المسلمة في ضوء القرآن والسنة، ص(270).
2- البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني ص(71).
(1/44)
... لا شكّ أن هؤلاء جُنّوا بعبادة أوروبا ولا يبغون إلا تشويه معالم الإسلام ونقض أحجاره حجراً بعد حجر وما هم ببالغين ذلك إن شاء الله تعالى. ...
فإذا تجاوزنا مهمة الخلافة أو رئاسة الدَّوْلَةإلى الوظائف والمهام السِّيَاسِيَّة الأخرى فإننا لا نكاد نجد مدخلاً لخصوصية الذكورة والأنوثة في الأمر. اللّهم إلا ما حصل من مقياس في بعض المهام والوظائف على الولاية الكبرى عند بعض العلماء أو من اعتبار أن النهي الوارد في الحديث نهي عن رئاسة الدَّوْلَةوما في معناها وهو الحكم عن بعض العلماء.
ومن هذه الوظائف، القضاء، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط الذكورة فيمن يتولى القضاء، فلا يجوز للمرأة أن تليَ القضاء مطلقاً لأنه مقيس في الحكم على الولاية الكبرى.
... أما الإمام الطَّبَري فلا يلقي بالاً إلى هذا القياس فذهب إلى جواز إسناد وظيفة القضاء إلى المرأة مطلقاً مستدلاً بأن القضاء مثل الفتوى، ولما كان إسناد وظيفة الفتوى إلى المرأة جائزاً بالاتفاق، اقتضى ذلك أن يكون إسناد القضاء إليها أيضاً جائزاً وأن يكون حكمها في شؤون القضاء نافذاً. وذهب ابن حَزْم الظاهري إلى ما ذهب إليه ابن جرير الطَّبَري وقد علّق الماوردي على رأي الطَّبَري بقوله: « لا عبرة بقولٍ يردّه الإجماع »(1).
__________
(1) انظر: ... - الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (7/3). ... - ردّ المحتار: ابن عابدين (5/440).
... - الماوردي: الأحكام السلطانيّة ، ص(65). ... ... - ابن حَزْم: المُحلّى (9/340).
... - ابن قُدامة: المُغْني ، (9/39). ... ... ... - ابن رشد: بداية المجتهد (2/460).
- النبهان، د. محمد فاروق: نظام الحكم في الإسلام، ص(570). -الزحيلي: د. وهبي الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، ص(301)
(1/45)
... وقد نقل ابن حَجَرٍفي فتح الباري عن بعض المالكية أنهم أطلقوا الحكم أيضاً بجواز إسناد مهام القضاء إلى المرأة أي في الجنايات وغيرها (1).
أما أبو حنيفة(2)رضي الله عنه فالمنقول عنه والمشهور في رأيه أنّه وقف موقفاً وسطاً بين الجمهور وبين الطَّبَري فلم يسلبها ولاية القضاء إطلاقاً ولم يجزها لها إطلاقاً، فهي عنده يجوز لها أن تكون قاضياً في الأموال، قياساً على جواز شهادتها في الأموال فهي تقضي فيما يجوز أن تشهد فيه، أما في الحدود والقصاص فقد وافق الجمهور في اشتراط الذكورة، نظراً لعدم نفاذ شهادتها في الجنايات(3)، وقد علّق الدكتور وهبي الزحيلي على ذلك بقوله: « وتأوَّل جماعة من الحَنَفِيَّة هذا الرَأْي عن أبي حنيفة بأن المرأة لو قضت ينفذ قضاؤها، ويأثم من ولاّها. والواقع أن مذهب الحَنَفِيَّة كالجمهور في أنّ المرأة لا تُولى القضاء إلاّ إذا أخذنا بإطلاق عبارة الكاساني بجواز توليتها من غير تأويل »(4)
__________
(1) ابن حَجَرٍ العسقلاني، فتح الباري ، شرح صَحِيْح البُخَارِيّ، (13/56).
(2) هو النعمان بن ثابت، الإمام الفقيه والمجتهد الكبير، أحد الأئمة الأربعة، ولد في الكوفة سنة 80 للهجرة وبها نشأ وطلب العلم وأريد للقضاء فامتنع. قَالَ عنه الإمام الشَّافِعِي :«الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة » وقَالَ ابن المبارك:« ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة وما رأيت أورع منه» توفي ببغداد سنة 150 هـ وألّف في ترجمته مؤلفات عدّة.انظر: سَيِّد أعلام النبلاء، (6/390) الأعلام (8/36)، الطبقات السينية (1/86-195) وفيات الأعيان (5/39) شَذَرات الذَّهَب (1/227)
(3) الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (7/3)، والماوردي: الأحكام السلطانية، ص(65).
(4) الزحيلي، د. وهبي: الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، ص(301)..
(1/46)
وعلّق الشيخ بكر أبو زيد على ذلك بقوله في كتابه التعالم وأثره في الفِكْر والكتّاب، في مبحث التّوقي من الغلط على الأئمة في أقوالهم ومذاهبهم، قَالَ : « ومن هذه الأغاليط : شهرة النسبة إلى مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من القول يجواز تولّي المرأة القضاء في غير الحدود ، وهذا غلطٌ عليه في مذهبه وصحة قوله: إنّ الإمام إذا ولّى المرأة القضاء أثم ونفذ قضاؤها إلاّ في الحدود، فأصل التوليّة عنده على المنع »(1) وذهب بعض المعاصرين كالشيخ تقيّ الدِّين النَّبَهَانِيّ، إلى أنه «لا يجوز للمرأة أن تتولى الحكم فلا تكون رئيس دولة ولا معاوناً له ولا والياً ولا عاملاً ولا أي عمل يعتبر من الحكم... فولاية الحكم لا تجوز للنساء، أما غير الحكم فيجوز أن تتولاه المرأة وعليه يجوز للمرأة أن تعين في وظائف الدَّوْلَةلأنها ليست من الحكم... ويجوز لها أن تتولى القضاء لأن القاضي ليس حاكماً وإنما هو يفصل الخصومات بين الناس... ولا يجوز أن تتولى المرأة قضاء المظالم لأنه حكم لأنه يرفع المظلمة التي تقع من الحاكم على الناس(2).
__________
(1) أبو زيد، بكر : التعالم وأثره على الفِكْر والكتاب ، ص(117).
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الاسلام، ص(87).
(1/47)
وعليه، « فمن ردّ قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبهها بجواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذاً في كلّ شئ ، قَالَ إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى»(1)، ومن رأى أن الحديث خاص في موضوع رئاسة الدَّوْلَةوما في معناها وهو الحكم، فقبل بقضائها لاعتبار أنه ليس حكماً وإنما إخبار بالحكم على سبيل الإلزام»(2).
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص(768).
(2) من العلماء المحدثين من يرى أن تباشر المرأة جميع الحقوق السِّيَاسِيَّة فيما عدا الإمامة الكبرى أي رئاسة الدولة، ومن هؤلاء الشيخ محمد رشيد رضا، ود. القرضاوي، والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، واستند هؤلاء إلى النُّصُوص العامة في القرآن الكريم والسنّة النبوية إذ الأصل الالتزام بهذه النُّصُوص ولا استثناء إلا بنص خاص ولم يرد هذا النّص إلا في المنع من الإمامة الكبرى.
(1/48)
... وقد فصّل رأيه بقوله : إنّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » صريح في النهي عن تولي المرأة الحكم وذم الذين يولون أمرهم للنساء، وولي الأمر هو الحاكم كما قَالَ تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) فولاية الحكم لا تجوز للنساء أما غير الحكم فيجوز أن تتولاه المرأة... وبالتالي، فإن القضاء عمل يختلف عن عمل الخليفة وعن عمل الوالي، فعمل الخليفة وعمل الوالي هو تنفيذ الحكم مباشرة... أما القاضي فإنّه لا يستطيع أن يحكم إلا إذا وجدت دعوى بأن رفع أحد الدعوى إليه وكان هناك متداعيان، فهو يقضي إذا وجد ادعاء ولا شأن له إذا لم يوجد من يدعي وفي حالة نظره في القضية إنما يخبر عن حكم الله في القضية على سبيل الإلزام وليست له سلطة التنفيذ مطلقاً إلا إذا عُيّن حاكماً وقاضياً، فحينئذ ينفذ بوصفه حاكماً ويقضي بوصفه قاضياً وعلى ذلك فواقع القضاء غير واقع الحكم، فلا ينطبق الحديث على القاضي... فلا يكون القضاء ممنوعاً على المرأة بهذا الحديث... لأن وظيفة القاضي فهم واقع المشكلة بين المتخاصمين وتبيان انطباق المواد القانونية في حالة التبني للأحكام الشَّرْعية أو الأحكام الشَّرْعيّة مطلقاً في حالة عدم التّبني على من يدينهم القضاء، ومن لا يدينهم فهو أجير استؤجر بأجر معيّن على عمل معيّن.
... « وقد روي عن عمر بن الخطَّاب أنه ولّى الشفاء(2) -امرأة من قومه- السوق أي قاضي الحسبة الذي يحكم على المخالفات جميعها »(3)
__________
(1) النساء / 59.
(2) هي أم سليمان بن أبي حثمة رضي الله عنها.
(3) ردّ المانعون لتولية المرأة ولاية الحسبة هذا الاحتجاج من وجهين =
الأول: أن الاحتجاج لم يثبت وقد قَالَ عنه الإمام أبو بكر ابن العربي: « وقد روي أن عمر رضي الله عنه قدم امرأة على حسبة السوق ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الحديث.
انظر : ابن العربي، القاضي أبو بكر: أحكام القرآن، (3/1457).
الثاني: على فرض ثبوته يكون الأمر كما قَالَه القاضي أبو العَبَّاس أحمد بن سعيد المجيدلي: «إن الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، وتلك القضية من الندور بمكان». انظر: المجيدلي، الشيخ أحمد بن سعيد: التيسير في أحكام التسعير، ص(43).
وكما بينه الزِّرِكْليّ بقوله: « وربما ولاّها شيئاً من أمر السوق» انظر: الزِّرِكْليّ، خير الدين، (3/246). وقَالَ د. كمال الدين إمام: « وإن كنا نميل إلى تخصيص هذا الأثر ومما يماثله إلى أن توليه المرأة للحسبة تكون في المجتمعات النسائية بائعات ومشتريات ومثل ما كان معروفاً من حمامات عامة للنساء، فذلك أقوم سياسة وأقسط شريعة ».
انظر: إمام،د. محمد كمال الدين، أصول الحسبة في الإسلام، ص(68).
(1/49)
(1).
... ومن هذه الوظائف الاشتراك في عضوية مجلس الأمة الذي يتمثل واقعه في كونه يحاسب الحاكم ويراقبه، ويظهر سخطه بما يحتاج إلى إظهار سخط، كالتقصير في رعاية الشؤون، وكالتساهل في تطبيق الإسلام، أو القعود عن حمل الدعوة الإسْلاميَّة وما شاكل ذلك، إلا أنه لا يسنّ القوانين ولا ينصب حاكماً ولا يعزل حاكماً فيجوز للمرأة أن تكون عضواً في مجلس الأمة لأنه ليس من الحكم ومجلس الأمة يختلف عن مجلس النوّاب في النِّظَام الديمقراطي، فمجلس النوّاب هو من الحكم لأنه في عرف الدِّيمُقْراطِيَّة له صلاحية الحكم، إذ هو الذي ينتخب رئيس الدَّوْلَةويعزله، وهو الذي يمنح الوزارة الثقة وينزع منها الثقة فيسقطها من الحكم حالاً، وواقع مجلس النوّاب أنه يقوم بثلاثة أمور، أحدها أنه يحاسب الحكومة ويراقبها، والثاني أنه يسنّ القوانين، والثالث أنه يقيم الحكام ويسقطهم، فهو من حيث محاسبة الحكومة ومراقبتها ليس من الحكم، ولكنه من حيث سنّ القوانين وعزل الحكّام وإقَالَتهم يعتبر من الحكم وعليه، فلا يجوز للمرأة أن تكون عضواً في المجلس النيابي لأنه من الحكم(2)،
__________
(1) النَّبَهَانِيّ: النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(89) بتصرف.
(2) ذهب د. يوسف القرضاوي إلى جواز ترشيح المرأة نفسها في المجالس النيابيّة، فقَالَ : « أرى أنّه لا مانع من أن تصبح المرأة عضواً في المجالس النيابيّة ». انظر: جريدة الوطن 21 أكتوبر سنة 1995م عدد 49.
وذهب د. وهبي الزحيلي إلى القول: « لا مانع في الإسلام من ممارسة المرأة حقّ العمل النيابي بصفة تشريع ( إصدار قوانين تنظيميّة لا تعارض أحكام الإسلام وشرائعه ) ومراقبة للحاكم، فإن للمرأة حقّ الاجتهاد والإفتاء كالرّجل لكن لا ضرورة ولا حاجة للمجتمع أو الأمة لهذا، وتقتضي المصلحة الاجْتِمَاعِيَّة أن تظل المرأة عاملة في مجال آخر بحسب مقتضيات الحاجة، وليس ذلك لعدم أهليتها أو الطعن في كفاءتها وإنما... مضارها أكثر من منافعها... ولوجود الاختلاط الذي لا ضرورة فيه »، الزحيلي، الأسرة المسلمة في العالم المعاصر ، ص(300).
(1/50)
ويجوز لها أن تكون عضواً في مجلس الأمة لأنه ليس من الحكم، فأعضاء مجلس الأمة هم وكلاء عن الناس بالرَأْي ليس غير.
... وعليه، فإن للمرأة الحق بأن تعطي رأيها في كل ما هو من صلاحيات مجلس الأمة فلها أن تعطي رأيها السياسي، والاقتصادي والتشريعي وغير ذلك، وقد أعطاها الإسلام حق إعطاء الرَأْي كما أعطي الرَّجُل سواء بسواء، فالشورى في الإسلام حق للرجل والمرأة على السواء، قَالَ الله تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (1) وقَالَ : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (2) وهو كلام عام يشمل المرأة والرَّجُل .
... وقد جرى تطبيق هذه المشورة في عصر النبوة، فقد صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل يوم صلح الحديبية على أم سلمة يشكو إليها أنه أمر أصحابه بنحر هداياهم وحلق رؤوسهم فوجموا ولم يفعلوا، فقَالَت : « يا رسول الله أتحب ذلك؟.. اخرج ولا تكلم أحد منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعوَ حالقك فيحلقك» فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل ما قَالَته أم سلمة(3).
... وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفي غنى بما وهبه الله من حنكة وحكمة في القول والعمل، عن أن يستشير أم سلمة، ولكنه كما ذكر الحسن البَصْرِي (4)
__________
(1) آل عمران/ 159.
(2) الشورى / 38.
(3) صَحِيْح البُخَارِيّ (2/978) وصَحِيْح ابن حِبِّان (11/225) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (5/215) ومصنف عبد الرزاق (5/340) ومُسْنَد أحمد (4/330).
(4) الحسن بن يسار البَصْرِي، أبو سعيد، تابعي، حبر الأمة في زمانه، وأحد العلماء والفقهاء والفصحاء النساك، ولد بالمدينة، وسكن البصرة، وكان عظيم الهيبة في القلوب ولد عام 21هـ وتوفي عام 110هـ.
... ... انظر سَيِّد أعلام النبلاء، ص(513) والأعلام(2/226).
(1/51)
وغيره، أحب أن يقتدي به الناس في ذلك وأن لا يشعر أحد منهم بمعرة في مشاورة امرأة قد يرى نفسه أكثر منها علماً وأنفذ بصيرة وفهماً(1).
... وقد كان عمر بن الخطَّاب يشاور النساء(2) وكان أكثر ما يستشير عائشة أم المؤمنين في كل ما يتعلق بأمور النساء، وأحوال رسول الله البيتية(3)، وكان أبو بكر وعثمان وعلي يستشيرون النساء ولم نجد في شيء من بطون السيرة والتاريخ أن أحداً من الخلفاء الراشدين أو الصحابة حجب عن المرأة حق استشارتها والنظر في رأيها. وهذا كلام عامة الفقهاء(4).
... ومن هذه الوظائف مبايعة الحاكم، وتدخل في حكمها مبايعة من يختارون ممثلين عن الأمة أو الشعب في مجالس الشورى.
__________
(1) روى الشَّافِعِي في الأم عن الحسن البَصْرِي أنه قَالَ : « إن كان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لغنياً عن مشاورتهم -أي النساء- ولكنه أراد أن يستن الحكام بذلك من بعده» . انظر الشَّافِعِي : الأم ، (7/95).
(2) ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطَّاب، ص(101).
(3) الأفغاني، سعيد: عائشة والسِّياسَة، ص(22).
(4) ممّن خالف هذا الهدي الشيخ أبو الأعلى المَوْدودِي حيث قَالَ : «إن الذكورة شرط من شروط الأهلية لمجلس الشورى» واستدل على اجتهاده المخالف هذا بأن المستشار يمارس بشواره نوعاً من القوامة، وقد قَالَ الله عزّ وجلّ { الرجال قوّامون على النساء } [النساء/34].
انظر: المَوْدودِي، ابو الأعلى، نظرية الإسلام وهديه في السِّيَاسِيَّة والقانون والدستور، ص(54).
(1/52)
... فقد روى البُخَارِيّ ومسلم في صَحِيْحهما عن عائشة أم المؤمنين: « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع النساء بالكلام»(1) أي بدون مصافحة، وبيعة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم تكن على النبوة وإنما كانت على الطاعة للحاكم فهذا يدل على أن للمرأة أن تقوم بأداء هذه المهمة السِّيَاسِيَّة التي يُلزم بها الدين.
... الزواج سنّة الله في خلقه، شرعه الله ليعفّ الإنسان نفسه ويحافظ على بقاء نسله، وليكون طريقاً للتوصل إلى البر والمرحمة والاطمئنان وسكناً يئوب إليه الزوجان، فيلقيان عنده أعباء الحياة إلى حين وآن.
... والإسلام يرفع من مكانه الزواج وأهميته رفعة علياء، ويسمو بحكمته حتى يجعله من أقوى أسباب التواد بين الغَرْباء، وامتن دواعي التقارب بين البعداء، وتوثيق أواصر القربى بين الأسر بعضها ببعض في عالم من المحبة والمودة والإخاء، قَالَ سبحانه :
{ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } (2).
وقد أحاط الإسلام الزواج بما يحفظ استمراره واستقراره، ويبقي على آثاره الطبيّبة، وغاياته النَّبِيّلة، فشرع ضمن ما شرع، تعدد الزوجات إلى أربع في قوله :
{ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (3).
فالآية مدنية من سورة النساء الكبرى نزلت على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثامنة للهجرة لتحديد عدد الزوجات في الإسلام بأربع، وفي الآية أمر وعدد وحكم.
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ، (6/2637) و(8/135). وصَحِيْح مسلم، (6/29).
(2) الروم / 21.
(3) النساء / 3.
(1/53)
... فأما الأمر فهو للإباحة عند الجمهور، كالأمر في قوله تعالى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا } (1) وفي قوله: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (2) خلافاً لما تمسك به أهل الظاهر من الوجوب(3)، و قَالَ الإمام الفخر: « فَحَكَمَ الله تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله، فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلاً عن أنه واجب»(4).
والصواب عندنا أنّ تعدد الزوجات حكمه التحليل، ولا يُطلق عليه لفظ (المباح) بالمعنى العلمي الدقيق، أي المسكوت عنه، الذي لم يرد نصٌّ بتحليله أو تحريمه، وهو الذي قَالَ فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - : « ما أحلّ اللهُ فهو حلال، وما حرّمَ فهو حرام، وما سكتَ عنه فهو عفو»(5). بل إنّ القرآن نصّ صراحة على تحليله، بل جاء إحلاله بصيغة الأمر التي أصلها للوجوب: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } (6)، وإنما صُرِف فيها الأمر من الوجوب إلى التّحليل بقوله تعالى: { مَا طَابَ لَكُمْ } .
وأما العدد فقد اتفق علماء اللغة { مثنى وثلاث ورباع } من ألفاظ العدد وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها، فمثنى تدل على اثنين اثنين، وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة ورباع تدل على أربعة أربعة، والمعنى: انكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء، ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً.
__________
(1) البقرة / 60.
(2) البقرة / 57.
(3) الصابوني، محمد علي: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام (1/426).
(4) الرَّازي : التفسير الكبير، (9/172).
(5) رواه الحاكم في المستدرك على الصَحِيْحين عن عبد الله ابن عَبَّاس، (2/347)، (4/128)، ومجمع الزوائد (1/171)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (9/34) ومصنف أبي شيبة (4/259)، وجامع العلوم والحِكم (1/276) وقَالَ : « قَالَ البزّار إسناده صالح »
(6) النساء / 3.
(1/54)
قَالَ الزمخشري:« ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع لما أراد من العدد، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى»(1) أي لو قلت للجميع اقتسموا الكثير درهمين لم يصح الكلام. وإذا قلت: «درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم»(2).
وأما الحكم فهو قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } (3).
قَالَ الشَّوْكَاني: « فإن خفتم من العدل بين الزوجات في القسم ونحوه فانكحوا واحدة »(4) .
وقَالَ ابن كثير (5): « وإن خفتم من العدل بين الزوجات فالزموا الاقتصار على واحدة »(6).
وبهذا يكون المعنى: « وإن خفتم ألا تعدلوا بين الأعداد فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأساً، فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به، وكونكم تختارون واحدة هو أقرب لعدم الجور »(7).
__________
(1) الزمخشري: الكشاف (1/360).
(2) الشَّوْكَاني: فتح القدير (1/420). وانظر: الصابوني: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام (1/426).
(3) النساء / 3.
(4) الشَّوْكَاني : فتح القدير (1/420).
(5) هو الحافظ إسماعيل بن كثير البَصْرِي الدمشقي: أبو الفداء حافظ مؤرخ فقيه ولد في بصرى بالشام وانتقل مع أخيه إلى دمشق ورحل في طلب العلم وتوفي بدمشق عام 774 وله مؤلفات نافعة منها: تفسير القرآن العظيم. انظر: الأعلام (1/320). انظر سير أعلام النبلاء، ص(513) والأعلام(2/226).
(6) الصابوني: صفوة التفاسير/ (1/259).
(7) النَّبَهَانِيّ: النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(128).
(1/55)
... فالآية تبيح تعدد الزوجات، وتحدده بأربع، ولكنها تأمر بالعدل بينهن وترغب في الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل، لأن الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل أقرب إلى عدم الجور وهو ما يجب أن يتصف به المسلم.
... فالعدل هنا هو حكم شرعي لوضع الرَّجُل الذي يتزوج عدداً من النساء فيما يجب عليه أن يكون في حالة التعدد، وهو ترغيب في الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل، وذلك أن معنى الجملة قد تمّ في الآية في قوله تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } (1).
... وهذا معناه حصول التعدد مطلقاً، وقد انتهى معنى الجملة ثمّ استأنف جملة أخرى وكلاماً آخر فقَالَ : { فَإِنْ خِفْتُمْ } (2)، ولا يتأتى أن يكون : { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرطاً لأنها لم تتصل بالجملة اتصال الشرط، بل هي بكلام مستأنف ولو أراد أن تكون شرطاً لقَالَ : « فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع إن عدلتم»، وذلك لم يكن فثبت أن العدل ليس شرطاً، خلافاً لقول بعض العلماء المحدثين كالشيخ القرضاوي(3) إذ يقول: « العدل شرط إباحة التعدد ... لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } »(4)، فالعدل حكم شرعي لأنه أباح تعدد الزوجات بأربع ثم جاء بطريق الاستئناف بحكم جديد وهو أن الأولى الاقتصار على واحدة إذا رأى أن تزويجه بأكثر من واحدة يجعله لا يعدل بينهن.
__________
(1) النساء / 3.
(2) النساء / 3.
(3) هو الأستاذ د. يوسف بن عبد الله القرضاوي، من مواليد مصر، سنة 1926م، حفظ القرآن دون العاشرة من عمره، وأكمل تعليمه في معاهد الأزهر الشريف، نال درجة د.اه عام 1973م. له مؤلفات كثيرة حول الفِكْر الإسلامي، ويعمل مديراً لمركز السيرة والسّنةّ التابع لجامعة قطر.
(4) القرضاوي، د. يوسف: مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(87-88).
(1/56)
... وبهذا يتبين أن الله تعالى أباح التعدد دون قيد ولا شرط ودون تعليل... وأن الله قد أمرنا بالعدل بين النساء ورغبنا في حالة خوف الوقوع في الجور بين النساء أن نقتصر على واحدة أقرب إلى عدم الجور »(1) « وأن شرعة التعدد ليست خاصة بالمضطرين دون غيرهم، بل هي شرعة عامة تشمل كل راغب»(2) على خلاف ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده(3)ومن أخذ برأيه.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(129).
(2) البوطي: المرأة، ص(205).
- على خلاف ما ذكره كثير من العلماء والباحثين المعاصرين من كونها شرعة خاصة بالمضطرين دون سواهم مجاراة لمنع التعدد عند الغَرْب، يقول الشيخ رشيد رضا: إن للإمام فتوى نشرت في مجلة المنار جاء فيها :« وبالجملة يجوز الحجر على الأزواج عموماً أن يتزوجوا غير واحدة إلا لضرورة تثبت لدى القاضي كمرض الزوجة أو طلب النسل ولا مانع من ذلك في الدين البتّة » انظر مجلة المنار الجزء الأول المجلد 28 تاريخ 3 مارس سنة 1927.
(3) هو محمد عبده حسن خير الله من آل التركماني مفتي الديار المصرية من كبار رجال الإصلاح والتجديد، ولد في مصر سنة 1266هـ تعلم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهر وتصوف وتفلسف وعمل في التعليم وكتب في الصحف وأجاد اللغة الفرنسية وسافر إلى باريس وأصدر مجلة العروة الوثقى مع أستاذه وصديقه جمال الدين الأفغاني، من كتبه : تفسير القرآن الكريم، ورسالة التوحيد، توفي سنة (1323هـ). انظر الأعلام، (6/253).
(1/57)
... قَالَ الشيخ أحمد شاكر(1): « زعموا أنَّ إباحة التعدد مشروطة بشرط العدل، وأن الله سبحانه أخبر بأن العدل غير مستطاع، فهذه أمارة تحريمه عندهم إذ قصَّروا استدلالهم على بعض الآية وتركوا { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } وتركوا باقيها { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } فكانوا كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض »(2).
... وبالتالي فإن نفينا لقضية كون إباحة التعدد مشروطة بشرط العدل المراد به هو الشرط التشريعي لا الشرط الشخصي بمعنى أنه شرط مرجعه لشخص المكلف لا يدخل تحت سلطان التشريع والقضاء فإن الله قد أذن للرَّجُل –بصيغة الأمر – أن يتزوج ما طاب له من النساء دون قيد بإذن القاضي أو بإذن القانون أو بإذن ولي الأمر أو غيره. وأمره أنه إذا خاف في نفسه أن لا يعدل بين الزوجات أن يقتصر على واحدة وبالبداهة أن ليس لأحد سلطان على قلب المريد الزواج حتى يستطيع أن يعرف ما في دخيلة نفسية من خوف الجور أو عدم خوفه بل ترك الله ذلك لتقديره في ضميره وحده ثم علمه الله سبحانه وتعالى أنه على الحقيقة لا يستطيع إقامة ميزان العدل بين الزوجات إقامة تامة لا يدخلها ميل فأمره أن لا يميل كلّ الميل فيذر بعض زوجاته كالمعلقة فاكتفى ربه منه: في طاعة أمره بالعدل أن يعمل منه بما استطاع ورفع عنه ما لم يستطع .
... وهذا العدل المأمور به مما يتغير بتغير الظروف، ومما يذهب ويجيء بما يدخل في نفس المكلف، ولذلك لا يعقل أن يكون شرطاً في صحة العقد بل هو شرط نفسي متعلق بنفس المكلف وبتصرفه في كل وقت بحسبه:
__________
(1) أحمد بن محمد شاكر بن عبد القادر، (1309- 1377هـ)
(2) شاكر، أحمد محمد: حكم الجَاهِليَّة ، ص(254-255).
(1/58)
... فربّ رجل عزم على الزواج المتعدد، وهو مُصرّ في قلبه على عدم العدل، ثم لم ينفذ ما كان مصرّاً عليه، وعدل بين أزواجه فهذا لا يستطيع أحد يعقل الشرائع أن يدعي أنه خالف أمر ربّه، إذ إنّه أطاع الله بالعدل وعزيمته في قلبه من قبل لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه خصوصاً وأنّ النُّصُوص كلّها صريحة أنّ الله لا يؤاخذه العبد بما حدّث به نفسه، ما لم يعمل به أو يتكلم.
... وربّ رجل تزوج زوجة أخرى عازماً في نفسه على العدل، ثمّ لم يفعل فهذا قد ارتكب الإثم بترك العدل ومخالفة أمر ربه ولكن لا أثر على أهل العقد بالزوجة الأخرى فنقله من الحل والجواز إلى الحرمة والبطلان، إنّما إثمه على نفسه فيما لم يعدل، ويجب عليه طاعة ربه في إقامة العدل وهذا شيء بديهي لا يخالف فيه من يفقه الدين والتشريع(1).
... أما ما هو العدل المطلوب بين الزوجات فقد قَالَ تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } (2).
... فهذه الآية تبين أن العدل المطلق الكامل بين النساء غير مستطاع بمقتضى طبيعة البشر، لأن العدل الكامل يقتضي المساواة بينهنّ في كل شيء حتى ميل القلب، وشهوة الجنس،وهذا ليس في يد الإنسان، فلا بدّ من العدل الذي يدخل في طوق البشر أن يقوموا به.
__________
(1) شاكر، أحمد محمد: حكم الجَاهِليَّة ، ص(254-255).
(2) النساء / 129.
(1/59)
ولما عقب الله تعالى بقوله: { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ } (1) على قوله: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا } (2) دلّ على أن عدم الاستطاعة في المحبة كما يفهم استطاعة العدل في غير المحبة فيكون قد خصص العدل المطلوب في غير المحبة واستثنيت من العدل المحبة والجماع، لهذا كان يقول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « اللّهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك »(3) يعني قلبه. وروى عن عبد الله بن عَبَّاس في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ } (4) قَالَ في الحب والجماع(5)، وقد أمر الله اجتناب كل الميل « ومعنى ذلك أنه أباح الميل، لأن مفهوم النهي عن كل الميل إباحة الميل كالنهي عن كل البسط في قوله تعالى : { وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } (6) معناه إباحة البسط، وعليه فقد أباح الله للزوج الميل لبعض نسائه دون البعض ولكنه نهاه أن يكون هذا الميل شاملاً كل شيء، بل يكون ميلاً فيما هو منطبق عليه الميل وهو المحبة والاشتهاء »(7).
... وأما الميل كل الميل، كمن يجعل المرأة كالمُعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة فهذا محذور، وقد روى عن أبي هريرة عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : « من كانت له امرأتان يميل لأحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً»(8).
__________
(1) النساء / 129.
(2) النساء / 129.
(3) الحديث سبق تخريجه في الفصل الأول ، ص( ).
(4) النساء / 129.
(5) سُنَن البهقي الكبرى (7/298) ، ومصنف ابن أبي شيبه (3/519).
(6) الإسراء / 29.
(7) النَّبَهَانِيّ: النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(130).
(8) صَحِيْح ابن حِبِّان (10/7)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (7/397)، والمنتقى لابن الجارود (1/180)، وموارد الظمآن للهيثمي (1/317).
(1/60)
وقَالَ : « من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل »(1).
وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما «أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولّوا»(2)
...
وعلى هذا يكون العدل الواجب على الزوج هو التسوية بين زوجاته فيما يقدر عليه من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت وما شاكل ذلك، أما ما هو داخل في معنى الميل وهو الهوى القلبي والاشتهاء فإنه لا يجب العدل فيه لأنه غير مستطاع وهو مستثنى بنص القرآن .
الحكمة من تعدد الزوجات
... إن الله تعالى أباح تعدد النساء إباحة عامة دون قيد أو شرط، وورد النص فيها غير معلل بأي علّة شرعية على طريق الصراحة أو الدلالة أو الاستنباط أو القياس. إلا أن عدم تعليل الحكم الشَّرْعي بعلة لا يعني عدم جواز شرح واقع ما يحصل من أثر لهذا الحكم الشَّرْعي وواقع ما يعالج من مشكلاتومثالب، وهذا الشرح لا يقاس عليه غيره وقد لا يستمر ما هو عليه خلافاً للعلة التي هي السبب الباعث على وجود الحكم والتي تتصف بالدائمية.
وبناء على ذلك ونتيجة لترصد المشكلات التي تحصل في المجتمعات الإنسانية تبين أن تعدد الزوجات يعالج الكثير من المشكلات والتي منها(3):
__________
(1) رواه أبو داوود اللفظ له (2/142) والتِّرْمِذِي(1141) والنسائي (7/63) وابن ماجه (1969) والدَّارِمِيّ (2/193) وأحمد (2/347)، (2/471) وصَحِيْح الجامع (6515) جميعهم عن أبي هريرة.
(2) صَحِيْح مسلم، كتاب الإمارة (3/1458) ، وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/336)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (10/87).
(3) انظر حول المسألة:
1- ... زيدان: أصول الدعوة، ص(108).
2- ... البياتي:النظم الإسْلاميَّة ، ص(151).
(1/61)
1- وجود طبائع في بعض الرجال تخرج عن الإطار المعتاد، فيكون الرَّجُل منهم قوي الرغبة ثائر الشهوة، غير مكتفٍ بزوجة واحدة، أو أنه اقترن بامرأة قليلة الرغبة في الرجال أو يطول القرء عندها، فيختل الأمر بين شبق مفرط، وبرود هادئ فلا يجد الرَّجُل أمامه إلا طريقتين:
أحدهما حرام والآخر حلال، والأول يفسد المجتمع وينشر الأدواء ويثير الظنون في أعضاء الأسرة، والثاني شريف يشبع الغريزة وينجب الذرية ويشيع الاطمئنان.
2- وجود عقم عند الزوجة ورغبة في الذرية عند الزوج فلا يكون من العَدالَة منع الزوج في التمتع بالذريّة، وقد تكون المرأة عاقراً ولكن لها من الحب في قلب زوجها وله من الحب في قلبها ما يجعلهما حريصين على بقاء الحياة الزوجية هنيئة، وتكون عند الزوج رغبة في الذرية، فإذا لم يبح له أن يتزوج أخرى كان عليه إما أن يطلق زوجته الأولى وفي ذلك هدم للبيت، وإما أن يحرم من التمتع بالذرية وفي هذا كبت لمظهر الأبوة من غريزة النوع وقد ينطلق مع هذا الكبت إلى إشباع غريزته مما حرّم الله ومنع منه، لهذا كان لزاماً أن يعدد في الزواج.
3- مرض الزوجة مرضاً يمنع من قدرتها على الوفاء ببعض حقوق الزوجية كحل الاستمتاع أو القيام بخدمة البيت والزوج والأولاد، فلا يكون عدلاً ولا صواباً منعه من الزواج بثانية وإلزامه بحياة منغصة بائسة ظاهرها الزواج وحقيقتها العزوبة.
(1/62)
4- وقد يكون عدد النساء الصالحات للزواج أكثر من عدد الرجال القادرين عليها. وخاصة في أعقاب الحروب التي تلتهم صفوة الرجال والشباب بل وفي الأوقات العادية فماذا يفعل بهذه الزيادة(1)؟
أيعشْنَ في الفجور والفسوق ويصبحن أداة لهو وعبث للرجال أم يبقين عوانس يعانين مرارة الحرمان طوال حياتهن أم يركبن سفينة الإسلام لتعبر بهن إلى شاطئ الأمان حيث يعشن ضرائر مع زوج يستطيع العدل بينهن في حياة زوجية يظللها السكون وتغشاها المودة ويحكمها الإحصان بما يتوافق مع نداء الفطرة وبما يحقق مصلحة الجماعة.
إنها إحدى طرائق ثلاث لا رابع لها، إما العنس وإما الفاحشة وإما الإحصان ولا ريب إن الإحصان الحل العادل والبلسم الشافي { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (2).
فهذه الحالات وأمثالها هي مشكلات واقعية وليست عللاً شرعية ولا شرطاً في جواز التعداد وإباحته بل { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } (3) مطلقاً دون قيد أو شرط مع مراعاة الاقتصار على واحدة في حالة الخوف من عدم العدل وما عداها فإنه لم يرد أي ترغيب في الواحدة ولا في نص من النصوص.
__________
(1) كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ، فقد طالبت نساء ألمانيا بتعدد الزوجات لذهاب كثير من رجالها وشبابها وقوداً للحرب، ورغبة في حماية المرأة من احتراف البغاء وما يؤدى عنه من أولاد غير شرعيين وفعلاً ففي عام 1948، أوصى مؤتمر الشباب العالمي في ميونخ بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلّة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية، وهكذا أجمعت النساء الألمانيات على أمر هو: أن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة تعدد الزوجات.
انظر: جمال ، أحمد محمد: محاضرات في الثَّقافَة الإسْلاميَّة ، ص(160).
(2) المائدة / 50.
(3) النساء / 3.
(1/63)
... ومع أن تعدد الزوجات حكم شرعي ورد في نص القرآن الصريح ومعروف أن مدار أحكام الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة على ما تقتضيه مصالح الناس، وأن الشَّرِيعَة تضع في اعتبارها احتمال وجود ظروف وأسباب تجعل الزوج عاجزاً عن الاكتفاء بالزوجة الواحدة وليس في الناس من يمتري ويجادل في وجود هذه الأسباب في كثير من الأحيان أياً كان نوعها، فإن الزوج قد يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، أحدهما: أن يصبر ويبقى حبيساً على زوجته الواحدة على الرغم من السبب الذي يحمله من أمره عنتاً، ثانيهما: أن ينزلق إلى ارتكاب الموبقات من الفاحشة والزِّنَا ومقدماته ودواعيه.
ونظراً إلى أن هذا الزوج بشر معرض للخطأ فإن الأرجحية حيث الواقع الذي يفرض نفسه إنما هو للخيار الثاني وهو الفاحشة بل الفواحش، يخادن الرَّجُل المرأة مستمتعاً ثمّ ينبذها نبذ النواة في الفلاة.
غير أن هذا المنطق الواضح لا يلقى آذاناً صاغية في ربوع الغَرْب وعشاقه من الذين تأثروا بالثَّقافَة الرَّأْسُماليَّة والدعاية الغَرْبيّة التي صورت حكم التعدد تصويراً بشعاً وجعلته منقصة وطعناُ في الدين.
(1/64)
وأعجب شيء في هذه القضية أن يُراد تبريرها باسم الشَّرْع وأن يحتجوا لها بأدلة تلبس لبوس الفقه منها(1) بأن من حق ولي الأمر أن يمنع بعض المباحات جلباً لمصلحة أو درءاً لمفسدة.
وهذه المغالطة بما انطوت عليه من سوء النيّة وادعاء العلم تناست أن الشَّرِيعَة مدارها مصالح العباد وإنها لا تحل إلا الطيب النافع ولا تحرم إلا الخبيث الضار { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } (2).
... فكل ما أباحته الشَّرِيعَة منفعة خالصة، وما حرمته مضرة راجحة « وهذا ما راعته الشَّرِيعَة في تعدد الزوجات، فقد وازنت بين المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، ثمّ أذنت به لمن يحتاج إليه... واثقاً من نفسه برعاية العدل غير خائف عليها من الجور والميل »(3)
__________
(1) ممّن حمل لواء الدفاع عن الإسلام متأولاً في دفاعه تأويلاً باطلاً ليجاري الدعاية الباطلة: قاسم أمين في كتابه « تحرير المرأة، والمرأة الجديدة » وخالد محمد خالد في كتابه «الدِّيمُقْراطِيَّة أبداً» فقد صرح أن من حق المرأة وقف تعدد الزوجات علماً أنه حكم شرعي، ص(164-165) وجاء في تفسير المنار للشيخ رشيد رضا قول الإمام محمد عبده « أما منع تعدد الزوجات إذا كثر ضرره وكثرت مفاسده وثبت عند أولي الأمر أن الجمهور لا يعدل فيه لعدم الحاجة إلى التعدد، فقد يمكن أن يوجد له وجه في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة السمحة وإذا كانت هناك حكومة إسلامية، فإن للإمام أن يمنع المباح الذي تترتب عليه مفسده » أنظر : التفسير ، ص( 363).
(2) الأعراف / 157.
(3) القرضاوي: مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(96).
(1/65)
... وأما منع الولي لبعض المباحات فهو مما أنكره القرآن على أهل الكتاب الذين { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1)وما فسرت بقوله - صلى الله عليه وسلم - أنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم، وأما ما يُستدل به على جواز ذلك، بقصة عليّ بن أبي طالب، حين خطب بنت أبي جهل في حياة فاطمة(2)، بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُستؤذن في ذلك قَالَ : « فلا آذن، ثمّ لا آذن، ثمّ لا آذن، إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يُطلّق ابنتي، وينكح ابنتهم، فإنها هي بضعة منّي يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها »(3).
فإنّ المستدلين لم يسوقوا لفظ الحديث، وإنما لخّصوا القّصة تلخيصاً مريباً، ليستدلوا بها على أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يمنع تعدد الزوجات، بل صرّح بعضهم بالاستدلال بهذه القصّة على ما يزعم من التحريم ! ثمّ تركوا باقي القصة، وهو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحادثة نفسها: « وإنّي لست أُحرّم حلالاً، ولا أُحلّ حراماً، ولكن والله لا تجتمعُ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبنت عدوّ الله مكاناً واحداً أبداً »(4).
__________
(1) التوبة/ 31.
(2) فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمّ الحسنين، وُلدت قبل البعثة بقليل، تزوجها عليّ بن ابي طالب رضي الله عنه، توفيت بعد النَّبِيّ بخمسة أشهر، عاشت أربعاً وعشرين سنة، انظر: الذَّهَبِيّ ، سير أعلام النبلاء، (2/118).
(3) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه، باب ذب الرّجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف، (5/2004) واللفظ له. ومسلم باب فضائل فاطمة، (4/1902) وصَحِيْح ابن حِبِّان (15/406)، وسُنَن التِّرْمِذِي(5/698).
(4) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه (3/1132) وباب ذكر أصهار النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - (3/1364)، ومسلم (4/1903) واللفظ له.
(1/66)
وعليه فلا يحق لولي الأمر منع بعض المباحات وإنما يقيد المباح لمصلحة راحجة نحو منع كبار ضباط الجيش أو رجال السلك الدبلوماسي من الزواج بأجنبيات أو كتابيات خشية تسرب أسرار الدولة، والفرق واضح بين المنع المطلق المؤبد وبين التقييد المحقق لمصلحة.
... والعجب العجاب أن تأخذ بعض البلاد العربية الإسْلاميَّة بتحريم تعدد الزوجات، في حين أن تشريعاتها لا تحرم الزِّنَا إلا في حالات معينة مثل الإكراه أو الخيانة الزوجية إذا لم يتنازل الزوج ، وهذا أوضح سبيل لأن تتخذ المرأة الحبيسة في بيت أبيها خدناً أو خليلاً في الحرام وتتصل به اتصالاً سفاحاً في الظلام.
وفي هذا المقام، يروي الشيخ عبد الحليم محمود : « أن رجلاً مسلماً في بلد عربي أفريقي يمنع التعدد، تزوج بامرأة ثانية بعقد مستوفي للشروط الشَّرْعية لكنه غير موثق في المحاكم الشَّرْعية...وفي أثناء اتصاله المتخفي بزوجته قُبض عليه بتهمة التعدد فأراد أن يبرئ نفسه فادعى أنها عشيقته اتخذها خدناً له فخلوا سبيله في إطار الحرِّيَّة الشخصية التي يحميها القانون»(1).
إن دعوة المغتربين لمنع التعدد سواء ألبست لبوس الفقه أو الطعن في الدين، ما تزال تبدئ وتعيد في الحديث عن مساوئ التعدد، في حين أنها صمتت صمت القبور، وخمدت خمد الأجداث عن مساوئ الزِّنَا الذي تبيحه القوانين الوضعية التي تحكم ديار المسلمين تمشياً مع منطق الغَرْب الذي يرضى بإحلال الصداقة المنزلية محل العلاقة الزوجية، ويرضى برفع سائر التجاوزات الجنسية إلى مستوى الصداقة المنزلية التي حلّت محل الزواج، وهذا إعلان صريح بأن سائر المغامرات الجنسية التي تتم في المجتمع، إن هي إلا كتلك الصلات الجنسية التي تتم في بيت الزوجية.
__________
(1) القرضاوي: مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(101) باختصار.
(1/67)
وتتحدث الدراسات والتحقيقات التي تقوم بها المؤسسات الصحافية والمعاهد الصحية والثقافية والاجْتِمَاعِيَّة في أمريكا التي تعد النموذج الأول لنهج الغَرْب وواقعه عن المآسي والفظائع الناجمة عما يسمى اليوم بـ ( وحش الجنس ) زمن هذه التحقيقات:
1- « أن أعداداً كبيرة من الفتيات تركن دراساتهن الجامعية فراراً من التعرض للاغتصاب الذي يقع في شباكه كل عام ما لا يقل عن 53 % من الفتيات »(1).
2- أذاعت الحكومة الأمريكية من خلال المركز القومي لمراقبة الأمراض أرقاماً رسمية تفيد أن عدد حالات الإصابة بأمراض جنسية تناسلية يزداد في الولايات المتحدة بمعدل 15 مليون حالة، والإيدز هو واحد من مجموعة أمراض تناسلية كثيرة(2).
إن التسوية بين الصداقة الجنسية داخل المنزل والصداقة الجنسية خارجه هي التي جرّت تلك المآسي المرعبة التي اجتاحت المجتمعات الغَرْبيّة وزجّت به في طريق الدمار وتحول المجتمع بها إلى ساحة للُّقطاء وأطفال الملاجئ، أما التسوية بين الزواج الأول والثاني في ظلّ الحياة الزوجية المنضبطة والملتزمة فهي التي تحصن المجتمع ضد الانحراف في تلك المآسي.
__________
(1) البوطي: المرأة ، ص(127).
(2) انظر التحقيق الذي نشرته مجلة الكفاح العربي في العدد (776) تحت عنوان «الجنس مشكلة أمريكا رقم واحد»
وانظر البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني ، ص(127).
(1/68)
والفرق بين الموقفين واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، موقف يستحق الدهشة والاستزدراء يدور فيه الرَّجُل بين جيش من العشيقات دون حرج وموقف يستحق الإكبار والافتخار يدور فيه الرَّجُل بين بضع زوجات داخل سياج من الأخلاق المحكمة، فكيف نضع شرعة الله الخبير العلاّم في قفص الاتهام، بينما نترك العنان لشرعة الغَرْب أن تجوس الديار لتطلق وحش الجنس في ميدان الفاحشة وتثبت له قواعد في أماكن على قدم راسخة، أنه الخبث والخنا وإنها الدعوة إلى الزِّنَا، والتقليد الذي أرسته الصليبية وباركته وتريد إشاعته بيننا.
وبعد: فإن الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة في إباحتها للتعدد لم تجعله واجباً وأمراً محتماً لازماً وهذا ما يجب أن يكون في أذهان الشباب واضحاً وكونه مباحاً يعني أنه وضع بين أيدي الناس كعلاج لأدواء معلومة ولحالات قائمة، وقد سُلك فيه مسلكاً سائغاً ومقبولاً لا غلو فيه ولا إفراط ولعل ما هو منتشر في الغَرْب ومن نهج منطقه من الفوضى الجنسية واستباحة الأعراض والتفسخ الأخلاقي ، والتخالل السري والعلني والتحايل على النظم ونقضها بشتى الحيل، إن في بعض ذلك ما يكفي كدليل قاطع على سمو التشريع الإسلامي وحكمته التي يلتَقِيّفيها الإنسان في فطرته وواقعه ويتوافق مع شؤونه وملابسات حياته لأنه ينظر إليها من جميع زواياها القريبة والبعيدة.
(1/69)
... يقول ( أتيين دينيه ) أن نظرية التوحيد في الزوجة وهي النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهراً تنطوي تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء تلك هي الدعارة والعوانس من النساء والأبناء غير الشَّرْعيين وإن هذه الأمراض الاجْتِمَاعِيَّة ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف في البلاد التي طبقت فيها الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة تمام التطبيق، وإنما دخلتها وانتشرت فيه بعد الاحتكاك بالمَدَنيَّة الغَرْبيّة»(1)
ويقول (جوستان لوبون) أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيّب يرفع من المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوروبا»(2).
ويقول الفيلسوف الألماني شوبنهور(3): « إنّه من العبث الجدال في أمر تعدد الزوجات ما دام منتشراً بيننا لا ينقصه غير قانون ونظام» وهو يقصد تعدد الزوجات بصورة غير مشروعة(4).
وأريد أن اختم الحديث في هذا الموضوع بفقرات ثلاث:
__________
(1) دينيه، اتيين و إبراهيم ، سليمان : « محمد رسول الله »، ترجمة د. عبد الحليم محمود، ومحمد عبد الحليم ، ص(395) (هامش).
(2) لوبون، جوستان: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، ص(397).
(3) هو آرثر شوبنهور، فيلسوف ألماني تشاؤمي ملحد، عاش ما بين (1788-1860)م قدم آراءً فلسفية بناها على إنكاره لوجود الرّب الخالق، وعلل الوجود بأنه إرادة عمياء وأن العقل أداة من أدوات الإرادة، فالإرادة العمياء تريد أولاً ثم تستخدم العقل ليجد لها المبررات ويلمح من فلسفته الجذور الفِكْرية التي اقتبس منها فرويد رأيه في اعتبار الدافع الجنسي هو الدافع الوحيد الموجه لسلوك الإنسان، فيعتبر سابقاً لفرويد. انظر: الميداني، حسن حبنكة : كواشف وزيوف، ص(456-458).
(4) الغلاييني، الشيخ مصطفى: الإسلام روح المَدَنيَّة، ص(226).
(1/70)
الأولى: أن الواقع يشهد والإحصائيات تثبت على أن التعدد بين المسلمين علاج يستعملونه كلما لزم أن يستعملوه، ففي إحصاء لعام 1971م في الدول العربية: تبيّن أنّ نسبة المتزوجين بواحدة فقط 96 % ونسبة المتزوجين باثنتين 4 % وفي سوريا 1 % ، وأما المتزوجون بأكثر من ذلك وهو الثلاث والأربع زوجات فنادرٌ جداً ولا نسبة له باستثناء الدول الخليجيّة(1). وإن الذين يعددون في سائر البلاد العربية في السنوات العشر (من عام 1990 إلى عام 2000) لا تزيد حسب إحصائيات الجامعة العربية على 7 إلى 10 في الألف(2)ذلك أن ارتفاع النفقات وتكاليف المعيشة، جعل الرَّجُل يحجم عن التعدد المباح.
الثانية: إنّ المتمعن في موضوع التعدد في الإسلام، يجد أن الفقهاء وكّلوا الرضا به والرفض إلى المرأة (الثانية)، فمن الممكن أن تقبله ومن الممكن أن تقبله دون إكراه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تُنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن » قَالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قَالَ : « أن تسكت »(3)، وفي رواية « الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها »(4).
__________
(1) وردت الإحصائية عند الزّحيلي في كتابه : الأسرة المسلمة والعالم المعاصر، ص(62).
(2) وردت الإحصائية عند، البوطي، في كتابه المرأة، ص(132).
(3) البُخَارِيّ، كتاب النكاح، (7/23) و (5/1974).
(4) مسلم، كتاب النكاح/ (7/1037) و (2/1036).
(1/71)
... ولما شَكَت فتاة إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إقدام والدها على تزويجها من ابن عمها على غير رغبة خيّرها كما روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها، أن فتاة دخلت عليها فقَالَت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ... وأنا كارهة، فقَالَ: اجلسي حتى يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ن فجاء رسول الله فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر عليها فقَالَت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن أعلم النساء من الأمر شيء»(1).
وعن خنساء بنت خذام الأنصارية « أن أباها زوجها وهي ثيّب، فكرهت ذلك فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردّ نكاحه »(2). فالرَأْي في موضوع الزواج – تعداداً أو ابتداءً – موكول إلى المرأة تقبل منه ما ترى فيه من السكن والمودة، وتنظر من ورائه الخير والأمان، أو ترى فيه ضرورة أخف من غيرها، وترفض من ورائه القلق والمتاعب.
__________
(1) النسائي، كتاب النكاح، (6/86)، وابن ماجه، كتاب النكاح (1/602)، وسُنَن الدارقطني، (3/232)، ومصنف ابن أبي شيبه (3/459)، ومُسْنَد أحمد (6/136).
(2) صَحِيْح البُخَارِيّ، كتاب النكاح (5/1974) و(6/2555) المرجع نفسه/ وسُنَن التِّرْمِذِي(3/416)، ومُسْنَد الشَّافِعِي (1/172)، وسُنَن أبي داوود (2/233).
(1/72)
الثالثة: قد يُقَال: إن قبلت الزوجة الثانية، فما شأن الزوجة الأولى بحمل المضرّة، نقول: «إن الإسلام لا يتحمل مسؤولية من قد يرتكبون من خلال إقدامهم على التعدد، موبقات قد لا تقل خطورة في ميزان الإسلام عن الانزلاق في الفواحش أو اللجوء إلى الطلاق، كالذين يلجؤون عن طريق التعدد إلى هجران زوجاتهم اللاتي قد تبرموا بهن ... أو كالذين يفاضلون في المواصلة أو في الإنفاق ... إن الذي يتحمل مسؤولية هذه الموبقة إنما هو القضاء الإسلامي الذي يجب عليه أن يتعقب هؤلاء الجانحين، بل المجرمين، لا الإسلام الذي شرع من التعدد صمام أمان ضدّ مثل هذه الموبقات(1).
... «ومن ثمّ فإن الشَّرِيعَة سمحت للزوجة إن وجدت نفسها محرومة من حقها الطبيعي في متعتها الجنسية أن تطلب الفراق من زوجها الذي لم تنل منه حقها الطبيعي الذي شرع الزواج سبيلاً إليه لتتزوج من رجل غيره »(2)، وللزوجة أن تشترط على زوجها حين العقد بألا يتزوج عليها، فحينئذ لا يسوغ له الزواج من غيرها، فإن لم يوف لها فُسخ النكاح، يروى هذا عن عمر بن الخطَّاب وسعد بن أبي وقّاص ومعاوية بن أبي سفيان وبه قَالَ شريح(3)
__________
(1) البوطي، محمد سعيد رمضان: المرأة ، ص(132).
(2) البوطي، محمد سعيد رمضان: المرأة ، ص(134).
(3) شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي، شجاع من مقدمي أصحاب على رضي الله عنه قتل غازياً بسجستان عام 78هـ.
... انظر: الأعلام (3/162) وسير أعلام النبلاء (4/107).
(1/73)
وعمر بن عبد العزيز و طاووس (1) والأوزاعي(2)(3)(4).
وجاء في كتاب الإقناع أنه إذا تزوج رجل من امرأة من قوم لم تجر العادة بالتزوج على نسائهم، كان بمنزلة الشرط عليه أن لا يتزوج على امرأته(5) والله أعلم.
... الطلاق هو رفع عقد النكاح حالاً أو مآلاً(6) أو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين(7) أو حل عقد النكاح بلفظ الطلاق(8)
__________
(1) طاووس بن كيسان اليماني أبو عبد الله الحميدي، أدرك خمسين صحابياً، قيل عنه أنه من عبّاد أهل اليمن ومن سادات التابعين، مات بمكة سنة 101هـ وقيل 106هـ قبل التروية بيوم وله بضع وتسعون سنة. انظر: طبقات الحافظ، ص(34).
(2) هو الإمام عبد الرحمن بن عَمْرو الأوزاعي، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، ولد في بعلبك عام 88هـ ونشأ في البقاع، وسكن بيروت وتوفي بها عام 157هـ. أنظر : سير أعلام النبلاء (7/107) والأعلام (3/320). ...
(3) انظر حول هذه المسألة : ... - ابن قدامه: المُغْني، (6/548). - البهوتي،: كشف القناع عن متن الإقناع، (6/98).
... ... ... - زيدان، عبد الكريم: أصول الدعوة، ص(108).
(4) ولا يقَال أن هذا الشرط يحرم الحلال، وإنما يثبت للمرأة خيار الفسخ إن لم يفِ لها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج » رواه مسلم، كتاب النكاح، وما سبق هو رأي الحنابلة وقَالَ غيرهم يفسد المهر دون العقد، ولها مثل مهر المثل.
(5) انظر: ... - الشَّافِعِي : الأم، (5/66). - ابن قُدامة: المُغْني، (7/448). - الغلاييني، الشيخ مصطفى، الإسلام روح المَدَنيَّة ، ص(185-186). - ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : أعلام الموقعين، (3/299). - المادة 38 من قانون حقوق العائلة العثماني.
(6) ابن نجيم، البحر الرائق، (3/253) وهو تعريف الحَنَفِيَّة .
(7) ابن رشد: المقدمات ، وهو تعريف المالكية، ص(270).
(8) الأنصاري، الشيخ زكريا: شرح متن البهجة لابن الوردي، (4/245).
- الخطيب، الشربيني: حل ألفاظ أبي شجاع (2/137) وهو تعريف الشَّافِعِي ة.
(1/74)
أو حل قيد النكاح(1) على اختلاف عبارات الفقهاء في تعريفه تبعاً لاختلافهم في أحكامه.
... وحل رابطة الزواج في الحال يكون بالطلاق البائن، وفي المآل أي بعد العدّة يكون بالطلاق الرجعي، واللفظ منه الصريح كلفظ الطلاق ومنه الكناية كلفظ البائن والحرام(2).
وليس لجواز الطلاق أي علّة شرعية، لعدم تضمن النُّصُوص الشَّرْعية التي وردت في حله على علة شرعية فهو حلال لأن الشَّرْع أحلّه، ولكن يمكن بيان واقع تشريع الطلاق والكيفية التي وردت فيها مشروعيته بالنسبة للزواج ولما يترتب عليه.
... فإن واقع الزواج يدل على أنه وجد من أجل تكوين الأسرة، وتوفير الهناء لها، فإذا حدث في الحياة الزوجية ما يهدد هذا الهناء ووصل الحال إلى حد تتعذر فيه الحياة الزوجية، فلا بدّ أن تكون هناك طريقة يستعملها الزوجان للانفكاك من بعضها. ولا يجوز أن يرغما على بقاء هذا الرابطة على كره منهما أو من أحدهما كما هو عند الغَرْب.
وقد شرع الله الطلاق، فقَالَ تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) حتى لا يظل الشقاء في البيت وحتى تظلّ الهناءة قائمة بين الناس، فقد تعذر في قيامها بين اثنين لتباين أخلاقهما وتنافر طباعهما أو لأنه طرأ ما أفسد عليهما حياتهما فكان لهما أن يعطيا فرصة ليعمل كل منهما على إيجاد الهناءة الزوجية مع آخر.
بيد أن الإسلام قد وضع جملة من الوسائل الوقائية التي تسعى لإصلاح الحياة الزوجية قبل وقوع الطلاق وجملة من الوسائل لمنع إساءة استعمال الطلاق.
__________
(1) المرداوي: الأنصار، (8/429) وهو تعريف الحنابلة.
(2) انظر تفصيل ذلك: الحصكفي: الدرّ المختار (2/570)، الخطيب الشربيني: مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (3/279)،ابن قُدامة: المُغْني (7/66) ،البهوتي: كشّاف القناع (5/261)، الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته (7/356).
(3) البقرة / 229.
(1/75)
فعالج القرآن الكريم والسنة الشريفة هذا الأمر المكروه وأمر الشَّارِع الزوج بالتريث فيه وعدم التسرع وقاية للأسرة من الهدم من خلال مراحل هي:
1- مرحلة الصبر والتحمل من الزوجة: فلم يجعل الإسلام مجرد التذمر وكراهية الزوج لزوجته سبباً كافياً للطلاق، بل أمر الزوجين بالعشرة بالمعروف وحثّ على تحمل الكراهية، فلعل فيها خيراً، فقَالَ تعالى:
{ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } (1) ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« لا يفركن مؤمن مؤمنة إنْ كره منها خلقاً رضي منها غيره »(2)، ولو أن كل زوج نظر إلى زوجته التي لاحَظ عليها بعض النقص وتتبع حسناتها مع سيئاتها لما تسرع في أمر يكرهه بحيث يكون سبباً لكثير من المشكلات، وهذا التفاضل عن الحسنات وإظهار السيئات أكبر عقبة في سبيل العشرة الزوجية(3).
2- مرحلة العلاج بالتربية والإصلاح: وذلك إذا سارت الزوجة في طريق المباينة والمخالفة المستمرة، فإن الإسلام أمر الرجال باستعمال الوسائل الإصلاحية التي يخففون بها من حدّة النساء من نشوزهنّ كما في قوله تعالى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } (4) وهذا أمر باتخاذ كافة الأسباب اللينة وغير اللينة لمعالجة المشكلات الزوجية معالجة تحول بينها وبين الطلاق بطريق التربية والإصلاح والتأديب وعلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: النصح والموعظة
__________
(1) النساء/19.
(2) صَحِيْح مسلم، (2/1091) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (7/295).وانظر: صَحِيْح الجامع رقم(7741). ومعنى لا يفرك: لا يبغض.
(3) الجلالي، عبد الله بن حمد: شبهات في طريق المرأة المسلمة، ص(26).
(4) النساء/34.
(1/76)
... وهو النهج الإنساني الأمثل لحل كل مشكلة تنجم بين طرفين عن طريق المحاورة، ومعناه التخويف بالله وتذكيرها بحقوق الزوج، والعشرة الحسنة، وجزاء هذه العشرة الطيبة عند الله، والإثم الذي يصيب المرأة إذا عصت زوجها، ولكن العظة قد لا تنفع لأن هناك هوى غالباً أو انفعالاً جامحاً أو استعلاء بجمال أو مال أو بمركز عائلي، أو بأي قيمة من القيم تنسي الزوجة أنها شريكة في الحياة الزوجية، هنا يجيء الإجراء الثاني ليستثير إنسانية المرأة بنوع فريد من الهجران الجزئي وهو بالدعابة أشبه منه بالجفاء.
المرحلة الثانية: الهجر في المضاجع
... وهو فراش النوم، قَالَ ابن عَبَّاس: « الهجر ألاّ يجامعها وأن يضاجعها على فراشها ويوليها ظهره»(1)، فهو يواصلها زوجاً ودوداً في النهار وينفصل عن مضجعها في الليل، وهذه حركة استعلاء نفسية من الرَّجُل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى ترفع بها ذاتها عن ذاته، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة.
ولا ريب أن المضجع موضع الإغراء التي تبلغ فيها الناشز المتعالية قمّة سلطانها، فإذا استطاع الرَّجُل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها وكانت في الغالب أميل إلى التراجع والملاينة، ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح في لمّ الشعث ورتق الفتق، فيتم الانتقَالَ إلى إجراء ولو أنه أعنف ولكنه أهون من اتساع الصدع.
المرحلة الثالثة: الضرب غير المبرّح
__________
(1) الصابوني، محمد علي: مختصر ابن كثير (1/386).
(1/77)
... وهو ضرب يخوف ولا يؤلم، كما يضرب الأب ابنَه، والمعلم تلميذه من باب التربية والإصلاح، لا كمن يضرب تعذيباً للانتقام والتشفي أو إهانة للإذلال والتحقير أو القسر أو الإرغام على معيشة لا ترضاها، وإنما ضرب غير مبرح مصحوب بعاطفة المؤدب المربي صدّاً لسلطان شذوذها ودفاعاً عن إنسانيتها المهزومة بل المقهورة، ووقوفاً في وجه الشذوذ الأرعن الذي طغى على إنسانيتها(1).
__________
(1) من المعلوم أن النشوز يصدر من الزوجة كما يمكن أن يصدر من الزوج، بأن يخرج في معاملته لها عن ضوابط الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة وآدابها، غير أن الزوجة لا تملك في هذه الحالة إلا الوسيلة الأولى وهي النصح والموعظة وليس لها أن تلجأ بنفسها إلى الوسيلة الثانية أو الثالثة حماية للقوامة ودرءاً لتحول الرجولة إلى وحشية ضارية لا يضبطها لجام غريزة تنهال على المرأة ولا تفلتها إلا محطمة أو هالكة، وكأنما قدمت حياتها قرباناً لمساواة موهومة ولا تتفق مع أصل الكرامة التي متّع الله بها كلاً من الرجل والمرأة على السواء، ولا يعني ذلك أن الإسلام قد عرضها لخطر يحوم حولها وإنما ضمن لها بأن تقيم الشَّرِيعَة من القاضي نائباً عن الزوجة في الانتصار لها وأنزل العقوبة اللازمة بزوجها وقد لا تقف العقوبة عند حدّ الضرب، بل قد تتجاوزها إلى السجن.
(1/78)
3- مرحلة الحكمين: وهي آخر المراحل، بحيث إذا توتر الأمر واستمر الخلاف والشقاق ولم ينفع الوعظ والإرشاد ولم يجد الهجر في المضاجع ولا الضرب الغير المبرح، وأعيا العلاج وتجاوز الأمر الكراهية والتذمر، والنشوز إلى المخالفة والنزاع والشقاق، فإن الإسلام لم يجعل الخطوة التالية هي الطلاق، بالرغم من شدة الأزمة بينهما، بل أمر أن يحال الأمر إلى غير الزوجين من أهليها ليقوما بمحاولة الإصلاح، قَالَ تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } (1).
فإن لم يستطع هذان الحكمان إنقاذ الحياة الزوجية وتعين الطلاق، فحينئذ لا مجال لإبقاء النكاح بينهما « لما فيه من مفسدة وضرر مجرد، نتيجة لسوء العشرة والخصومة الدائمين فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح في هذه الحال لتزول المفسدة الحاصلة فيه»(2).
__________
(1) النساء/35.
(2) ابن قُدامة المُغْني ، مع الشرح الكبير، (8/234). وانظر: الزحيلي: د. وهبي الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، ص(89).
(1/79)
... وبهذا تبرز الحكمة من مشروعية الطلاق التي تكتنف مصالح العباد الدينية والدنيوية، ففي الطلاق إكمال لها حين يتعذر التوفيق بين الزوجين، أما إجبار الزوجين على استمرار الزوجية بينهما بمنعها من الطلاق رغم استحكام النفرة بينهما، فهو ضرب من العبث بل يزيد من كَدَر العيش بين الزوجين وتصبح الزوجية حينئذ شقاقاً ونزاعاً بدل أن تكون مصدر مودة ورحمة، وفي مثل هذه البيئة المستهدفة تسري الأحقاد وبسوء الأخلاق إلى الأولاد، عن طريق الخصام المتجدد بين الوالدين الزوجين فتفسد العائلة ويختل نظامها وربما جرّ ذلك إلى ما لا تحمد عقباه(1).
... فمن الحكمة إذا لم يمكن اتفاقهما أن ينفصلا بالطلاق، وفي ذلك يقول الله تعالى :
{ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } (2) وبذلك يهدأ بالهما وتطيب قلوبهما، أو لعل هذه العقدة النفسية التي سيطرت على أحدهما أو عليهما تحلّ بهذا الطلاق، فقد يكون الطلاق المحطة التي يلتقيان بها فترجع الحياة كما كانت.
... ومن هنا فإنه مع هذا الفشل أبقى الإسلام بارقة من الأمل، بالرجوع إلى المودة بعد الطلاق الذي لم يكن فيه فرقاً حاسماً بينهما.
__________
(1) نشرت صحيفة الأهرام القاهرية في الصفحة العاشرة من عدد يوم الاثنين 27/2/1997م أنّ البوّاب نصر عزيز استعان بآخر على قتل امرأته «نجية غبريال» في الطابق الأرضي للعمارة رقم 16 شارع الروضة بالقاهرة لأنه تزوجها منذ ثماني سنوات وأنجبت منه طفلين ماتا، ثمّ أصابها مرض منعها من الإنجاب واتسعت شقة الخلاف بينهما، ولما كانت ديانته تمنع الطلاق رأى أن أحسن وسيلة للتخلص منها قتلها، ونفّذ ما أراد.
(2) النساء/130.
(1/80)
... لذلك أوجب الإسلام على الزوج أن يسلك في الطلاق مسلكاً يتضمن التأكد من رغبته في الطلاق ويتضمن تمكينه من المراجعة إنقاذاً للحياة الزوجية، فاشترط الإسلام في هذا السبيل شروطاً ووضع في طريقه قيوداً حتى لا تصبح المرأة لعبة بيد الرَّجُل السفيه، وحتى يستعمل الرَّجُل عقله ولا يتعامل بالعاطفة المجردة أو الشهوة الطاغية،وحتى يمنع الذواقين الذين اتخذوا المرأة تسلية يتلذذون بها مدة محدودة ثم يرمونها خرقة بالية كما يرمي الثوب الخرق.
أن يطلقها تطليقة واحدة رجعية في طهر لم يجامعها فيه
... فلا طلاق ثلاثاً دفعة واحدة دون أن تكون بينهما رجعة، وإنما يشترط في إباحة التطليق أن يطلق الزوج طلقة واحدة فقط عند إرادة الفرقة ويحرم عليه أن يطلق ثلاثاً دفعة واحدة وبلفظ واحد وهو ما يعبّر عنه الفقهاء بالشرط العددي في حقّ التطليق(1)،لقوله تعالى:
{
__________
(1) وعليه فقهاء الحَنَفِيَّة والمالكية والحنابلة على الصَحِيْح من المذهب والإمام الأَوْزاعي والإمامية وخالفهم فيه الشَّافِعِية والظاهرية فقَالوا بإباحتة التطليق ثلاثاً بلفظ واحد إلا أن الشَّافِعِي رضي الله عنه يرى أن الأولى للرجل أن يطلق طلقة واحدة فقط عند إرادة الفرقة، فقَالَ رضي الله عنه : أختار للزوج أن لا يطلق إلا واحدة ليكون له الرجعة في المدخول بها ويكون خاطباً في غير المدخول بها. انظر: ابن حَزْم : المحلى (10/197) والشَّافِعِي : الأم (5/162) والحلي ، المختصر النافع، ص(198) والجصاص، أحكام القرآن (1/449)، المقدسي، شمس الدين محمد بن مفلح: الفروع (5/370) (5/371).
(1/81)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) وقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } لفظ وإن كان ظاهره الخبر إلا أن معناه الأمر أي طلقوا مرتين مرة بعد مرة(2). وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التعبير بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر ومفهومه النهي عن التطليق ثلاثاً دفعة واحدة كأن يقول : «أنتِ طالق ثلاثاً»(3) ومعنى هذا أن التطليق الشَّرْعي يكون تطليقة بعد تطليقة دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، لأن الأمر بالتفريق نهي عن الجمع لأنه ضدّه(4)، فمن أوقع الثلاث جميعاً دفعة واحدة فهو مخالف لما أمر الله به(5) كم روى عن مخزمة عن أبيه قَالَ سمعت محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضباناً ثم قَالَ: « أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»(6)،
__________
(1) البقرة/229.
(2) وقد يخرج اللفظ في اللغة العربية مخرج الخبر على إرادة الأمر كقوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } أي ليتربصن، سورة البقرة / 228. انظر: الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/94).
(3) الرَّازي ، الإمام فخر الدين: التفسير الكبير (6/103).
(4) الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/94).
(5) الجصاص: أحكام القرآن (1/447،448) وقد ذكر المفسرون وجهاً آخر في معنى قوله تعالى: { الطلاق مرتان } فقَالوا: معناه أن الطلاق الذي يملك الزوج بعد الرجعة إلى زوجته مرتان لأنه لا رجعة بعد الثلاث إلا بالشرط المتقدم وذلك إذا صدف أن تزوجت من آخر زواج رغبة وبنية دوام الصحبة ومن غير مؤامرة إحلالها للأول ثم فارقها الآخر بالطلاق أو الموت، البيضاوي : التفسير (1/159).
(6) سُنَن النسائي بشرح السيوطي (6/142)..
(1/82)
وأن عمر بن الخطَّاب «كان إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثاً أوجع ظهره»(1). وبما رواه أبو قَتَادة الأنصاري عنه قَالَ: « لو أن الناس طلقوا كما أمروا لما فارق الرَّجُل امرأته وله إليها حاجة وإن أحدكم يذهب فيطلق ثلاثاً ثم يعقد فيعصر عينيه، مهلاً مهلاً بارك الله عليكم، فيكم كتاب الله وسنته ورسوله فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال وربّ الكعبة»(2).
... ولا طلاق في حيض، فقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط في إباحة التطليق أن يكون في زمن الطهر ويحرم في زمن الحيض، وهو ما يعبر عنه الفقهاء الشرط الزمني في حق
التطليق(3)، لقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } (4)، فإذا أردتم الطلاق فيجب عليكم أن تطلقوهن في زمن يستقبلن فيه عدتهن ويبتدئن بها والزمن الذي يستقبلن فيه عدتهن ويشرعن فيها هو زمن الطهر فقط ولذلك يحرم التطليق في زمن الحيض لأنه هو المقابل للطهر(5).
__________
(1) ابن حجر، العسقلاني: فتح الباري (9/297).
(2) السرخسي: المبسوط (6/6).
(3) وعليه فقهاء الحَنَفِيَّة والشَّافِعِية والمالكية والحنابلة والإمامية، انظر: الأنصاري : شرح البهجة (4/294) النووي، المنهاج مع شرحه نهاية المحتاج للرملي (6/108،109)، وابن قُدامة، المُغْني مع الشرح الكبير (8/235) وابن حَزْم، المحلى (10/15، 197).
(4) الطلاق/1.
(5) الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل (4/117) والطَّبَري: جامع البيان في تفسير القرآن (28/76).
(1/83)
... والحكمة في تحريم الطلاق في زمن الحيض حماية للمرأة من الضرر الذي يلحقها بتطويل فترة العدة عليها(1). لأن تلك الحيضة التي طلقها فيها لا تحتسب من عدتها سواء اعتدت بثلاث حيض كما هو مذهب أبي حنيفة، أم بثلاثة أطهار كما هو مذهب الشَّافِعِي ومالك وأحمد(2) لأن تلك الحيضة ومدتها لا تُحسب من عدتها وإنما تبدأ عدتها بالحيضة التالية للحيضة التي طلقها فيها إذا كانت تعتد بالحيض وتبدأها بالطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها إذا كانت تعتد بالأطهار، ولا شكّ أن في ذلك إضرار بالمرأة بتطويل فترة العدة عليها، ولذلك يجب على من طلق زوجته في زمن الحيض أن يراجعها حتى تطهر، ثمّ إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمسها.
ثم الحيض زمن النُفرة والطهر زمن الرغبة، ولذلك اشترطت الشَّرِيعَة عدم التطليق في زمن الحيض حتى لا يكون لهذه النفرة شبهة مدخل في زمن الفُرقة(3).
... وقد أوجبت الشَّرِيعَة على الزوج أن يراجع زوجته إذا ما طلقها زمن الحيض لهذه الحكمة فإذا ما راجعها وأمسكها إلى الزمن، يُباح له فيه التطليق وهو زمن الطهر ظهرت فائدة الرجعة لأنه بتلك الرجعة يطول مقامه معها وقد يندم فيأنس بها ويذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها(4).
__________
(1) ابن رشد: المقدمات، ص(384).
(2) النووي: شرح النَّوَويّ على صَحِيْح مسلم (10/62،63).
(3) السرخسي: المبسوط (6/6) والكاساني : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/94) الكمال: فتح القدير (3/27) الدهلوي: حجة الله البالغة (2/717،718).
(4) العسقلاني، ابن حجر: فتح الباري (9/287).
(1/84)
... ولا طلاق في طهر مسّها فيه فقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط في إباحة التطليق أن يكون الطهر الذي يريد الزوج أن يطلق فيه متصفاً بخلوّه من الملامسة الزوجية ويحرم عليه أن يطلق في طهر لامسها فيه وهو ما يعبر عنه عند الفقهاء بالشرط الوصفي في حق التطليق(1) لقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ } (2) إذا أردتم التطليق فطلقوهن في الوقت الذي يشرعن فيه بالعدة، وهو الطهر الخالي عن الملامسة الزوجية فإذا خالف وطلقها في طهر لا مسها فيه كان عاصياً لما أمره الله به وأذن له فيه فلا يباح له ذلك(3).
1- والحكمة هي التخفيف على المرأة بعدم تطويل العدة عليها فإن زمن الطهر الذي لامسها فيه لا يحتسب لها من العدة وقد تحمل بهذه الملامسة فتطول مدة عدتها أكثر لأن أمدها حينئذ وضع الحمل، وقد يترتب على الأذن بطلاقها في هذه الحال في طهر لامسها فيه ضياع الولد إن ظهر لها حمل بعد الطلاق وقد يندم على طلاقها، فإذا أخر طلاقها إلى طهر لم يلامسها فيه كما أذنت السنة كان حينئذ على بينّة من حالها فيطلقها عالماً بحالها حائلاً أو حاملاً وأيضاً لو طلقها في طهر لامسها فيه لبّس عليها أمر عدتها، فإنها حينئذ لا تدري أهي حامل فتعتد بوضع الحمل أم حائل فتعتد بالحيض(4).
__________
(1) السرخسي: المبسوط (6/6) الأنصاري، الشيخ زكريا: شرح البهجة (4/294). ابن قُدامة: المُغْني (8/235) وابن حَزْم: المحلى (10/197) والحلي، المختصر النافع (8/197).
(2) الطلاق/1.
(3) الرَّازي : التفسير الكبير (30/30) والشَّوْكَاني، نيل الأوطار (6/192).
(4) ابن رشد: المقدمات الممهدات، ص(38).
(1/85)
فالواجب على الزوج أن يتريث قليلاً فلا يطلق في هذه الحالة وينتظر طُهراً لم يلامسها فلعله لا يفكر في طلاقها. وأيضاً فإن الطهر من الملامسة الزوجية، وبالملامسة مرّة تفتر الرغبة فيشترط عدم التطليق في طهر لامسها فيه حتى لا يكون لهذا الفتور شبهة مدخل في أسباب هذا التطليق فيكون طلاقه لغير حاجة(1).
2-حق المراجعة للمرة الأولى، والثانية إذ قد يثير بينهما الطلاق الأول أو الثاني في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة الزوجية بينهما مرة ثانية بعد الطلقة الأولى ومرة ثالثة بعد الطلقة الثانية كما بينا من جعل الشَّرْع الطلاق ثلاث مرات لقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2)، حتى يترك للزوجين أن يراجع كل منهما نفسه وأن يرجع إلى تقوى الله المتمركزة في صدره، فلعلهما يحاولان إعادة تجربة الحياة الزوجية مرّة أخرى فينالان الهناءة الزوجية أو الراحة والطمأنينة التي لم يكونا ينالانها من قبل، ومن هنا نجد الإسلام أباح للزوج أن يراجع زوجته بعد الطلقة الأولى والثانية.
__________
(1) السرخسي: المبسوط (6/7) ، وابن حَجَرٍ العسقلاني: فتح الباري (9/287).
(2) البقرة/229.
(1/86)
3- كما أنه جعل ما يساعد الزوجين على مراجعة نفسيهما وإعادة التفكير في الأمر والنظر إليه نظرة جديّة أكثر مما كانا ينظران إليه، إذ جعل فترة العدة بعد الطلاق ثلاث حيضات وهي تقرب من ثلاثة أشهر أو وضع حمل، وجعل الزوج الإنفاق على هذه المطلقة وإسكانها طول مدة العدة ومنع الزوج إخراج معتدته حتى تستوفي عدتها، وذلك تأليفاً للقلوب وتصفية للنفوس وإفساحاً للطريق التي بها يرجعان إلى بعضيهما ويستأنفان الحياة الصافية الجديدة. ووصى من هذه الناحية توصيات صريحة في القرآن، قَالَ تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (1).
4- فإن لم تؤثر هذه المعاملات أو أثرت بعد الطلقة الأولى والثانية ثم حصلت الثالثة، رغم ذلك ، فإن المسألة حينئذ تكون أعمق جذوراً وأكثر تعقيداً واشدّ شقاقاً، ولا فائدة حينئذ من المراجعة، فكان لا بدّ من الفراق التام واستئناف عُشرة أخرى حتماً، دون إعادة التجربة الفاشلة لنفس العشرة، قبل عشرة أخرى، ولذلك جعل الطلاق الثالث حاسماً، فقَالَ تعالى:
{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2)
__________
(1) البقرة/231.
(2) البقرة/230.
(1/87)
ومنع مراجعة الزوج لزوجته مطلقاً بعد الثالثة حتى تعاشر زوجاً آخر غيره ويدخل بها كما يقول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها »(1) لتختبر العشرة الزوجية كاملة، فإن لم تجد هذه العشرة الثانية راحتها وطمأنينتها وحصل الفراق بينهما أو يموت زوج العشرة الثانية، فحينئذ صار بامكانها أن ترجع إلى العشرة الزوجية الأولى، فربما بما مرّت به من التجربة تهجر الأسباب التي تسبب في فشل حياتها الزوجية الأولى وهذا بعض الحكمة التي أجاز الشَّرْع من أجلها زواجها بالزوج الأول.
هذا ما ترشد إليه كيفية تشريع الطلاق وبها يظهر ما في تشريع الطلاق، وطريقة تشريعه وكيفية إيقاعه من الحكمة البالغة والنظر الدقيق للحياة الاجْتِمَاعِيَّة ليضمن لها العيش الهنيء، فإن فقدت هذه الهناءة ولم يبق أمل في إرجاعها كان لا بدّ من انفصال الزوجين ولذلك شرع الله الطلاق على الوجه الذي بيناه.
ولو التزم الناس نظام الطلاق وشروطه وأحكامه كما شرعها الله وبينها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لصلح الفرد وصلحت الأسرة وصلح المجتمع وكان ذلك سبباً للاجتماع لا للفرقة وأَي عدالة تلك إنّها عدالة الله تعالى التي أحكمت.
... والطلاق بيد الرَّجُل وليس بيد المرأة وهو الذي يملكه وليست هي، وكثيراً ما يطرح ويقَال: ما السبب في إعطاء الزوج حق الطلاق دون الزوجة؟
ولا سبب إلا أن الله تعالى قد جعله بيده ولم يرد من الشَّرْع تعليل ذلك، فلا يعلل إلا أن التبصر في واقع الزواج والطلاق يري أنه لما كان الزواج ابتداءً حياة جديدة، كان الرَّجُل والمرأة متعاونين في اختبار كل منهما زوجة الذي يريده وكان لكل منهما التزوج بم يشاء ورفض الزواج بمن شاء.
«
__________
(1) أي تلذذي بجماعه ويتلذذ بجماعكن وشبه لذّة الجماع بلذَة طعم العسل. صَحِيْح البُخَارِيّ (2/933) ومسلم (2/1055) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (7/333-334). وانظر صَحِيْح الجامع رقم (5085).
(1/88)
ولكن لما وقع الزواج وأعطيت قيادة الأسرة وجعلت له القوامة عليها، كان من المحتم أن يكون الطلاق من حقّ الرَّجُل لأنه ربّ الأسرة ورئيس العائلة، فعليه وحده ألقيت تكاليف البيت، فيجب أن تكون له وحده صلاحية حل عقد النكاح، فالصلاحية بقدر المسؤولية والتفريق وحل العصمة المنعقدة بيد القوَّام منها على الآخر »(1).
وعليه فإن الرَّجُل أولى من المرأة بإعطائه حق التطليق لأمرين(2):
الأول: إنّ المرأة غالباً ما تتعامل مع الناس بالعاطفة أكثر من العقل، وهي سريعة التأثر والانسياب مع عواطفها، وهي سريعة الحكم على الأشياء، ولا ريب في أن الرَّجُل غالباً أكبر عقلية من المرأة ولا يمنع وجود العكس نادراً، فالرَّجُل يواجه المشكلات بعقله والمرأة بعواطفها ولو كان بيد الزوجة لوقع في أول أيام العِشرة الزوجية، ولتكرر يومياً ولانهدم البيت من أول وهلة والحكمة يعلمها الله تعالى الذي أعطى هذا الحق لأمثل الزوجين، وهو الرَّجُل حفاظاً على بقاء هذه العِشرة وضبطاً للنفس البشرية والأسرة والأطفال.
الثاني: إن الطلاق يستتبع أموراً مالية من المهر المؤجل ونفقة العدّة ونفقة الأولاد وهذه الأعباء المالية من شأنها حمل الرَّجُل على التروي في إبقاء الطلاق، فيكون من الخير والمصلحة جعله في يد من هو أحرص على الزوجة خلافاً لواقع المرأة، فلا تتضرر مالياً بالطلاق ومن ثمّ فلا تتروى في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وفيض عواطفها.
__________
(1) انظر: النَّبَهَانِيّ تقيّ الدِّين ، النِّظَام الاجتماعي في الإسلام ، ص(162).
(2) انظر حول الأمر الأول والثاني: - عثمان، محمد فتحي: أصول الفِكْر السياسي، ص(279).
... ... ... - زيدان : أصول الدعوة، ص(110). ...
(1/89)
غير أنه ليس معنى كون الطلاق بيد الرَّجُل وله وحده أنه لا يجوز لها أن تطلق نفسها، بل إنّ الصلاحية له وحده أصلاً وإطلاقاً دون أي تقييد بحالة من الحالات والزوجة لها أن تفسخ وتحل عقد الزوجية في حالات معينة نصّ عليها الشَّرْع منها:
1. إذا جعل الزوج أمر طلاقها بيدها أو اشترطت لنفسها الطلاق منذ بداية العقد برضى الرَّجُل فإن لها أن تطلق نفسها حسب ما ملكها إياه فتقول طلقت نفسي من زوجي فلان أو تخاطب قائلة طلقت نفسي منك ولا تقول طلقتك أو أنت طالق لأن الطلاق يقع على المرأة لا على الرَّجُل حتى لو صدر الطلاق منها وإنما جاز أن يجعل الزوج أمر الطلاق بيد الزوجة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير نساءه ولإجماع الصحابة على ذلك(1).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ: النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(162). ...
(1/90)
2. إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته وهو موسر وتعذر عليها الوصول إلى ماله للانفاق بأي وجه من الوجوه، فإن لها أن تطلب التطليق وعلى القاضي أن يطلق عليه في الحال دون إمهال عند الجمهور لقوله تعالى: { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } (1) وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها وقوله تعالى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) وليس من الإمساك بالمعروف أن يمتنع عن الإنفاق عليها ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : « امرأتك ممن تعول تقول أطعمني وإلا فارقني»(3) (4) ولأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن يأخذوهم أن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى (2). ولقول أبو الزِّنَاد(5)
__________
(1) البقرة/231.
(2) البقرة/229.
(3) رواه أحمد في مسنده، (2/527)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى، (7/470)، وسُنَن الدراقطني، (3/296)، والسُنَن الكبرى، (5/385)، وفيض القدير، (3/475)، ونيل الأوطار، (7/132).
(4) انظر ابن قُدامة: المُغْني (6/650-657-667-678)الغنيمي، عبد الغني : اللباب في شرح الكتاب (3/24-26)، البحر الرائق (3/135)، الطحاوي، أحمد : مختصر الطحاوي، ص(182) البهوتي ، منصور بن يونس: كشّاف القناع (5/115-124) والمختصر النافع في فقه الإماميّة، ص(210
(5) أبو الزنّاد ، عبد الله بن ذكوان المدني من علماء الحديث، إمام ثبت ، تكلم فيهم بعضهم بلا حجّة ، وإذا كان الإمام مالك قد قَالَ : ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة. فقد قَالَ الذَّهَبِيّ : قَالَ أحمد بن حنبل : كان أبو الزناد أعلم منه. توفي سنة (173هـ). سير أعلام النبلاء ، (6/91). والمُغْني في الضعفاء ، (1/337)..
(1/91)
سألت سعيد بن المُسَيِّب عن الرَّجُل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قَالَ: نعم قلت له: سنّة؟ قَالَ: سنة وقول سعيد، سنّة يعني سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالف في التفريق الحَنَفِيَّة والإمامية والراجح رأي الجمهور لقوة أدلتهم ودفعاً للضرر عن المرأة ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام(1).
3. إذا علمت أن في الزوج علّة أو عيباً تحول دون الدخول كالجب(2) والعُنّة(3) والخصاء، وكانت سالمة من مثلها فإن لها في مثل هذه الحالة أن تطلب فسخ نكاحها منه عند الجمهور والإمامية لأنها عيوب غير قابلة للزوال، فالضرر فيها دائم ولا يتحقق معها المقصود الأصلي من الزواج وهو التوالد والتناسل والإعفاف من المعاصي، فكان لا بد من التفريق بشرط تحقيق الحاكم في ادعاء وجود العيب وعدم وجوده لأن الزوجين يختلفان في ادعاء وجود العيب وعدم وجوده، فإذا تحقق الحاكم من وجود العيب بالجب فرق بين الزوجين في الحال، ولم يؤجله لعدم الفائدة في التأجيل، أما العنين والخصي فيؤجله الحاكم سنة من تاريخ الخصومة، أي الدعوى والترافع فقد روي أن ابن منذر تزوج امرأة وهو خصي، فقَالَ له عمر : أعلمتها ، قَالَ : لا، قَالَ: أعلمها ثم خيرها وروى أن عمر أجّل العنين سنة(4).
__________
(1) انظر: المراجع السابقة في رقم (2) من هذه الصفحة.
(2) الجَبّ: هو القطع ، ويُقَال : جَبّ الخصية استأصلها (المعجم الوسيط ، ص(104)).
(3) العُنَّة: عجزٌ يصيب الأرض فلا يقدر على الجماع، (المعجم الوسيط ، ص(631)).
(4) انظر:مصنّف عبد الرزاق باب نكاح الخصيّ، (6/253)، و المصادر من (6-8) في الصفحة السابقة.
(1/92)
4. إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مصاب بمرض من العيوب المنفرة والأمراض التي لا يمكن الإقامة بها معه بلا ضرر كالجذام والبرص والزُّهَريّ والسّل أو طرأ عليه مثل هذه الأمراض، فإن لها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق بينها وبين زوجها، ويجاب طلبها إذا ثبت وجود هذا المرض وعدم إمكان البرء منه في مدّة معينة وخيارها دائم وليس بمؤقت وذلك لما ورد في الموطأ عن مالك أنه بلغه عن سعيد بن المُسَيِّب أنه قَالَ: « أيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تُخيَّر، فإن شاءت قرت وإن شاءت فارقت»(1).
5. إذا جنّ الزوج بعد عقد النكاح، فللزوجة أن تراجع القاضي وأن تطلب تفريقها منه والقاضي يؤجل التفريق مدة سنة، فإذا لم تزل الجنّة في هذه المدة وأصرت الزوجة يحكم القاضي بالتفريق لحديث الموطأ السابق.
6. إذا سافر الزوج إلى مكان بعد أو قرب ثم غاب وانقطعت أخباره وتضررت الزوجة من غيبته وخشيت على نفسها الفتنة وتعذر عليها النفقة، فإن لها أن تطلب التفريق منه بعد بذل الجهد في البحث والتحري عليه(2) لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الزوجة تقول لزوجها «أطعمني و إلا فارقني»(3) فجعل عدم الإطعام علّة للفراق ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا(4).
__________
(1) رواه مالك في الموطأ، (2/583)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (7/215).
(2) قَالَ به المالكية والحنابلة بجواز التفريق للغيبة إن طالت ولو ترك لها الزوج مالاً تنفق منه أثناء الغياب وخالف ذلك الحَنَفِيَّة والشَّافِعِية. انظر: الزحبلي، الفقه الإسلامي و أدلته (7/533) والدر المختار (2/903) و الشربيني: مغني المحتاج (3/442).
(3) سُنَن الدَّارَقُطْنِيّ (3/297) .
(4) انظر: ابن جزي محمد بن أحمد، القوانين الفقهية ص(216) والشرح الصغير (2/746) والبهوتي : كشّاف القناع (5/124) وابن قُدامة: المُغْني (7/588).
(1/93)
7. إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق شديد بسبب الطعن في الكرامة أو إيذاء الزوج لزوجته بالقول أو بالفعل كالشتم المقذع والتقبيح المخل بالكرامة، والضرب المبرح والحمل على فعل ما حرّم الله والإعراض والهجر من غير سبب يبيحه ونحوه، أجاز المالكية التفريق منعاً للنزاع وحتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيماً وبلاء لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا ضرر ولا ضرار »(1)، فإن لها أن ترفع أمرها للقاضي فإن أثبت الضرر أو صحة دعواها طلقها منه وإن عجزت عن إثبات الضرر، رفضت دعواها فإن كررت الادعاء بعث القاضي حكمين: حكماً من أهلها وحكماً من أهل الزوج لفعل الأصلح من جمع وصلح أو تفريق لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (2)
__________
(1) ورواه ابن ماجة في السُنَن رقم (2340) (2/784) وقَالَ الألباني: «صَحِيْح » في «صَحِيْح سُنَن ابن ماجة» للألباني رقم (1895) (2/39) ورواه الدَّارَقُطْنِيّ في السُنَن (3/77) والبَيْهَقِيّ في الكبرى (6/69) والحاكم في المستدرك (2/66) وفي مجمع الزوئد (4/110) وفي مُسْنَد الشَّافِعِي (1/224) وقَالَ النوري في الأربعين وله طرق يقوي بعضها بعضاً (6/644) وقَالَ الألباني في الصَحِيْحة: «صَحِيْح» (1/443) برقم (250).
(2) النساء / 35..
(1/94)
والمجلس العائلي هذا يصغي إلى شكاوى الطرفين ويبذل جهده للإصلاح وإن لم يمكن التوفيق بينهما يفرق هذا المجلس بينهما على الوجه الذي يراه مما يظهر له من التحقيق عند المالكية وينفذ قول الحكمين في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما بدليل ما رواه مالك عن علي بن أبي طالب أنه قَالَ في الحكمين: « إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع »(1).
ولم يجز الحَنَفِيَّة والشَّافِعِية والحنابلة التفريق للشقاق أو للضرر مهما كان شديداً لأن دفع الضرر يكون برفعه إلى القاضي والحكم على الرَّجُل بالتأديب حتى يرفع عن الإضرار بها(2).
... من خلال ما سبق يتبين النِّظَام المتكامل في شرعة الله للطلاق الذي يتعرض له الزوجان، فهو طلاق إما أن يتم من خلال إرادتي الزوجين ولا إشكال فيه وطلاق يتم بإرادة واحدة مخالفة الإرادة الأخرى سواء من الرَّجُل أو المرأة وهذا هو الطلاق الذي تلاحظ فيه ضرورة إقامة ميزان العدل بين الطرفين.
... فالطلاق الذي يتم برغبة مزاجية من الزوج دون الزوجة يجعل المهر كاملاً من حق الزوجة، ولا يعود منه إلى الزوج المطلق بشيء وعلى أن تضاف إلى ذلك «متعة» يقرر القاضي مقدارها وعلى أن يستمر في الإنفاق عليها إلى أن تنتهي العدة إلاّ في حالة النشوز فلذلك حكم آخر يتناسب والحالة هذه.
والطلاق الذي يتم برغبة مزاجية من الزوجية يجعل المهر جزئياً أو كاملاً وهذا ما يُسمى بالخلع.
__________
(1) انظر: الدسوقي: الشرح الكبير (2/281،285)، ابن جزي: القوانين الفقهية ص(215)، الشربيني: مغني المحتاج (2/207-209) ، ابن قُدامة: المُغْني (6/524-527) ابن رشد: بداية المجتهد (2/5).
(2) ابن رشد: بداية المجتهد (2/97) وما بعدها.
(1/95)
... وهذا النِّظَام يحفظ لكل من الرَّجُل والمرأة حقه في شركة عادلة، نظام كامل متكامل «إذ ليس من المنطق ولا المصلحة إبقاء الرابطة الزوجية بعد أن ظهر عدم الفائدة من بقائها أو ظهر أن بقاءها مضر ولهذا نجد الدول الغَرْبيّة تقرر جواز الطلاق المدني لأن الكنائس لا تجيزه وحتى إيطاليا التي كانت إلى عهدٍ قريب تأخذ بالتفريق الجثماني بين الزوجين عند وجود أسبابه ومعناه أن الزوجين يعيشان منفردين ولكن يعتبر كل منهما زوجاً للآخر بحكم القانون، ولا يحق لأحدهما الزواج لأن الرابطة الزوجية تعتبره قانوناً إلا أنها أجازت الطلاق أخيراً بموجب القوانين التي شرعتها»(1).
... ... ومن المعلوم أن إقدام الرَّجُل في الغَرْب على الزواج لا يُكلفه أي مغرم ولا يحمله أي تبعية فلا مهر ولا نفقة واجبة عليه لها، وإذا طلق كما هو واقع النِّظَام في أمريكا فإنّ الزوجة تضع يدها على نصف ممتلكاته غير أن أحداً من الأزواج المطلقين لا يقع تحت طائلة هذا القانون الوضعي ذلك لأن الطلاق ليس أكثر من فراق غير معلن يقرره الزوج من طرفه مما جعل الطريق إليه سهلاً لا يكلفه أي غرم ولا يحمله أي تبعية « وهذا هو الذي يفسر الصعود المطّرد لنسبة الطلاق في أمريكا والتي تجتاوزت في نهاية عام 1994م 70% ولعل البقية الباقية تتمثل فيمن بلغ من الكبر عتيا فلا مأرب لهم إلا الركون مع زوجته وقضاء البقية الباقية من حياته»(2).
... ومثل ذلك ما نشرته جريدة الشرق الأوسط من دراسة بريطانية حول العلاقات الاجْتِمَاعِيَّة وظاهرة تصاعد نسبة الطلاق التي بلغت 70% بين النساء البريطانيات(3).
__________
(1) زيدان، أصول الدعوة ، ص(110).
(2) البوطي : المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني ، ص(140).
(3) جريدة الشرق الأوسط في 19/10/1410هـ.
(1/96)
... ... وهذا الذي يفسر كثرة القتل والضرب المبرح للزوجة التي لا يتمكن من طلاقها حسب القانون، فالرَّجُل يمل من الارتباط بزوجته أو صديقته ويندم بالعيش معها فيصطفي من دونها من يشاء من الحسناوات، فتضيق الزوجة أو الصاحبة بهذا الأمر ذعراً وتجرب المسكينة حظها في الإنكار عليه بالرجاء آناً والوعيد أحياناً، فينهال الزوج أو الخليل لكماً وضرباً لهذه العقبة الكؤود في حياته ويورث المجتمع عندئذ ملايين النساء المطلقات والعوانس والمنكوبات مع ذيول محزنة من ملايين الأطفال الذين لا يحنو عليهم إلاّ الملاجئ.
... وإليك نموذج من ثمار هذه الحَضَارَة الزائفة ( نشرت مجلة التايم ):
- إنّ ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضنّ لحوادث الضرب من جانب الزوج كل عام.
- إن ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضنّ للضرب الذي يؤدي إلى الموت.
- إنّ رجال الشرطة يقضون 33 % من وقتهم للرّد على مكالمات العنف المنزلي(1).
ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م(2):
- إن 40 % من حوادث قتل النساء بسبب المشكلات الأسرية.
- إن 25 % من محاولات الانتحار التي تقدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي.
وذكر تقرير للشرطة الأمريكية عام 1978م(3):
- إنّ 40 % من إصابات رجال الشرطة و 20% من حوادث قتل رجال الشرطة في أوروبا وأمريكا تقع بسبب وجودهم في أماكن حدوث نزاع عائلي.
__________
(1) العمر، د. ناصر بن سليمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(53).
(2) العمر، د. ناصر بن سليمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(54).
(3) العمر، د. ناصر بن سليمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(54).
(1/97)
وفي إحصائية عامة أظهرت أنّ نسبة الطلاق في الغَرْب 70 % وفي البلاد الإسْلاميَّة لا يتجاوز 10% (1).فهذا هو البديل الماثل أمام أبصارنا على المسرح الحضاري اليوم، فيا ترى هل في العقلاء من يقول أن هذا الخيار الغَرْبيّ هو الأجدى في تحقيق العَدالَة وهو الأمثل لإنصاف المرأة وضمان حقوقها؟
هل الأكرم للمرأة أن ترتفع نسبة الطلاق المفروض عليها إلى 70 % ؟
إذن فلماذا ينقد مدعو تحرير المرأة والمدافعون عن حقوقها كما يزعمون هذا الطلاق ويتأففون منه عندما تكون نسبته من بين 5 و 10 % ؟
وهل الأكرم للمرأة إذا طلقت أن تخسر المرأة كلاً من الزوج والمال معاً لأن زواجها يوم لم يكن قد ارتبط بأي ضمانة مالية لها؟
إذن فالعلاج عندنا في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة الغراء.
إنّ الإسلام يشرع لواقع الحياة حتى تكون حياة آمنة مطمئنة تسودها الألفة والمودة والرحمة ولذلك ينبغي أن يكون إلى الفرقة سبيل وأن لا يُسد ذلك من كل وجه لأن سدّ باب الفرقة كليّة يقتضي وجودها من الضرر والفساد والخلل، وهي أمور لا يمكن دفعها إلا
بالطلاق عند تعذر الوفاق(2)،فالحق إن مشروعية الطلاق أصون لكرامة المرأة مما لو كان محرماً،فإن امرأة تحرص على كرامتها ترفض أن تظل مفروضة على زوج لا يريدها ولا تريده.
ويشمل على أربعة مطالب :
1- المطلب الأول ... : طبيعة الحقوق والواجبات.
2- المطلب الثاني ... : عدالة القوامة في الحياة العَدالَة الزوجية.
3- المطلب الثالث ... : عدالة التوزيع في الميراث.
4- المطلب الرابع ... : عدالة التفاوت في الشَّهادَة .
__________
(1) الزحيلي، د. وهبي: الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، ص(319).
(2) الكاسائي، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (3/97) وانظر: ابن الهمام: الكمال، فتح القدير، شرح الهدايّة (3/22).
(1/98)
... كل مجتمع إنساني مهما كان مبدأه وأيّاً كان نظامه لا بدّ أن يتحمل أفراده مغارم من الواجبات، وأن ينعم آحاده بمغانم من الحقوق، وإنما يعبق شذا العَدالَة من تناسق هاتين الطائفتين فيه: الحقوق والواجبات.
... ولكن المجتمعات الإنسانية تختلف فيما بينها في العوامل والأسباب التي يتكون منها كلّ من الحقوق والواجبات تبعاً لتباين وجهات النظر فيما تمثل من نظرة دينية أو فلسفية معيّنة لواقع الإنسان ووجوده ونشأته، والمرأة في سائر المجتمعات الإنسانية، لا بدّ أن ينالها حظوظ من الحقوق كما لا بدّ أن تتحمل أثقَالاً من الواجبات شأنها في ذلك شأن الرَّجُل تماماً بقطع النظر عن تساويها أو عدم تساويها في ذلك.
... والشَّرِيعَة الإسْلاميَّة حين جعلت للمرأة حقوقاً وجعلت عليها واجبات وأناطت للرجل حقوقاً وأناطت عليه واجبات: « إنما جعلتها حقوقاً وواجبات تتعلق بمصالحها كما يراها الشَّارِع ومعالجات لأفعالهما باعتبارها فعلاً معيناً لإنسان معيّن. فجعلتها واحدة حين تقتضي طبيعته الإنسانية جَعْلها واحدة، وجعلتها متنوعة حين تقتضي طبيعة كل منهما هذا التنوع وهذه الوحدة في الحقوق والواجبات لا يطلق عليها مساواة، كما أنه لا يُطلق عليها عدم مساواة كما أن ذلك التنوع في الحقوق والواجبات لا يُراد منه عدم مساواة أو مساواة»(1)
__________
(1) النَّبَهَانِيّ: النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(78).
(1/99)
... ذلك أن المساواة في الحقوق والواجبات عامة غير واقعية وغير عملية « فإن الناس بطبيعة فطرتهم التي خلقوا عليها متفاوتون في القوى الجسمية والعقلية ومتفاوتون في إشباع الحاجات، فالمساواة بينهم لا يمكن أن تحصل»(1)، ومن ثمّ فإن نظام الخلق تحكمه سنّة التفاضل لا التساوي، فشعار المساواة بصيغته التعميميّة يتنافى مع نظام الخلق وهو مطلب مناقض للعدل إلا في بعض الأحوال وهي التي يقتضي العدل فيها بالتساوي، فالإسلام يحمل ويحمي مبدأ العدل ومبدأ الإحسان.
... ولا يقر المساواة على اعتبارها مبدأ عاماً وقاعدة مطردة، وإنما يقرها حينما يقتضيها العدل. وإنما يقتضي العدل المساواة حينما يكون واقع الأفراد واقعاً متساوياً تماماً في كل الصفات أو تكون المساواة في الصفات التي كان فيها التساوي دون الصفات الأخرى المتفاضلة فيما بينها»(2).
... فالإسلام يقوم في الحقوق والواجبات على مبدأ العدل لا على مبدأ المساواة، وفي بيان الواقع على ما هو الحق في واقع الحال لا على التسوية مطلقاً وإن كان الواقع متفاضلاً، فلا يمكن أن يستوي الحق والباطل والخبيث والطيّب والعالم والجاهل.
... فما هي تلك المساواة التي ينشدها المعجبون بالغَرْب من رجال ونساء؟ هل يريدون أن يصب الرجال والنساء في قوالب اجتماعية واحدة فيتحرك الكل بنسق واحد، وينطلق الكل إلى واجبات محددة واحدة، ثم يتقلب الكلّ في نعيم مكرر لحقوق لا تخضع لأي تنوع أو تمايز، بحيث تسقط مما بينهم فوارق القدرات والامكانات ويظهر الجميع وكأنهم أحجار مرصوفة في حجم واحد وتربيعات واحدة؟
__________
(1) النَّبَهَانِيّ: النِّظَام الاقتصادي في الإسلام، ص(49).
(2) حبنكة الميداني، عبد الرحمن حسن: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(232).
(1/100)
... إن المساواة التي ينشدها الغَرْب « هي هذه المساواة الآلية الحرفية، فبوسعهم أن ينشدوها ويبحثوا عنها فيما تنتجه المخاطر الآلية فقط، أما في عالم الأناسي فحتى الرجال فيما بينهم والنساء فيما بينهن، بل حتى الطبقة الواحدة في مجتمع الرجال والطبقة الواحدة في مجتمع النساء، إنما يتساوون من حيث إنسانيتهم الواحدة، في مبدأ تحمل الواجبات ومبدأ ممارسة الحقوق ثم إنّهم يتفاوتون في ذلك كلّه تفاوتهم في القدرات والملكات والاختصاص والامكانات، فالتساوي المبدئي ناظر إلى وحدة الإنسانية فيما بينهم جميعاً، والتفاوت التطبيقي ناظر إلى الحكمة الربانيّة التي اقتضت بعد ذلك أن يتفاوتوا في القدرات ويتنوعوا في الخصائص والملكات»(1).
وعلى هذه النظرة شرّع الشَّارِع التكاليف الشَّرْعية، و أناط الحقوق والواجبات للرجال والنساء، فحين تكون التكاليف الشَّرْعية أي الحقوق والواجبات حقوقاً وواجبات إنسانية تجد الوحدة في التكاليف الشَّرْعية، فلا تباين ولا اختلاف بين الرَّجُل والمرأة في الحقوق والوجبات، وحين تكون هذه الحقوق والواجبات وهذه التكاليف الشَّرْعية تتعلق بالذكورة والأنوثة وبطبيعة كل منهما في الجماعة وموضعه في المجتمع، تكون هذه التكاليف الشَّرْعية متنوعة بين الرَّجُل والمرأة لأنها لا تكون علاجاً للإنسان مطلقاً، وإنما علاجاً لنوع من الطبيعة الإنسانية هي الذكورة والأنوثة.
__________
(1) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(95).
(1/101)
... ولذلك جاء الإسلام بأحكام متنوعة خصّ الرجال ببعضها وخصّ النساء ببعضها، وميّز بين الرجال والنساء في قسم منها وأمر أن يرضى كل منهما بما خصّه الله به من أحكام ونهاهم عن التحاسد وعن تمني ما فضّل الله به بعضهم على بعض، قَالَ تعالى : { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } (1). وهذا التخصيص في الأحكام ليس معناه عدم مساواة، وإنما علاج لأفعال الأنثى باعتبارها أنثى وعلاج لأفعال الذكر باعتباره ذكراً وكلها قد عولجت بخطاب يتعلق بأفعال العباد.
... فموضوع الحقوق والواجبات، أي التكاليف الشَّرْعية، قد شرعها الله للإنسان من حيث هو إنسان، ولكل نوع من نوعي الإنسان: الذكر والأنثى، ولكن باعتباره نوعاً من أنواع الإنسان له صفة الإنسانية وصفة النوعية عند التشريع، ولا يراد تمييز أحدهما عن الآخر كما لا يلاحظ فيها أي شيء من أمور المساواة أو عدم المساواة بين الرَّجُل والمرأة موضع بحث وليست هذه الكلمة موجودة في التشريع الإسلامي(2)
__________
(1) النساء / 32.
(2) المساواة نظرية إلحادية، وشعار من الشعارات التي أطلقتها الماسونية، تضليلاً للناس وفتنة لهم لتقوم الصراعات بين الأفراد وبين الطبقات مطالبين بتحقيق المساواة المنافية والمصادمة لقانون الحق والعدل. وقد زحف هذا الشعار إلى أدمغة مفكرين وعلماء وكتّاب فجعلوه في مقولاتهم أحد المبادئ الإنسانية الصَحِيْحة وأحد المبادئ الإسْلاميَّة المجيدة غفلة منهم وانسياقاً مع بريق الشعارات التي تروجها وسائل الإعلام المضللة. وتحت هذا الشعار الخادع أخذ الجاهلون يطالبون بمساواة النساء مع الرجال في كلّ شيء.
انظر حول هذه المسألة:
1- ... حبنكة الميداني، عبد الرحمن حسن: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية و المعاصرة، ص(231).
2- ... النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الإسلام، ص(77-78-84).
3- ... أبو زيد، بكر: حراسة الفضيلة، ص(21).
(1/102)
بل الموجود هو حكم شرعي لحادثة وقعت من إنسان معين سواء أكان رجلاً أم امرأة.
... جعل الله عزّ وجلّ الرجال قوّامين على النساء، قَالَ تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } (1).
... يقول الإمام البغوي في تفسير الآية: « أي مسلطون على تأديبهن، والقوّام والقيّم بمعنى واحد، والقوّام أبلغ، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب »(2) ويقول الإمام السيوطي في تفسير الآية: « قوّام: الناظر في الشيء الحافظ له»(3) .
« والمراد من الرجال من كان من أفراد حقيقة الرَّجُل ، أي الصنف المعروف من النوع الإنساني وهو صنف الذكور وكذلك المراد من النساء صنف النساء من النوع الإنساني، وليس المراد الرجال جمع الرَّجُل بمعنى رَجُل المرأة، أي زوجها لعدم اشتماله في هذا المعنى»(4) وبذلك تكون قوامة صنف الرجال على صنف النساء وليست قوامة الرَّجُل على زوجته، فحسب ذلك لا يجوز للنساء أن يلين الإمامة العظمى لأنه جعل الرجال قوامين على النساء، فلم يجز أن يقمن على الرجال(5).
__________
(1) النساء / 34.
(2) البغوي، الإمام أبو محمد : « تفسير البعوي المسمى معالم التنزيل » (1/422). وانظر أيضاً ابن العربي: أحكام القرآن (1/416) والقاسمي، محمد جمال الدين: تفسير القاسمي: المسمى : محاسن التأويل (5/130). وابن منظور: لسان العرب، مادة قوم (3/194).
(3) السيوطي، الإمام جلال الدين: الإكليل في استنباط التنزيل ص(91).
(4) ابن عاشور، محمد طاهر: تفسير التحرير والتنوير، (5/38).
(5) انظر: السيوطي، الإمام جلال الدين: الإكليل في استنباط التنزيل ص(91).
(1/103)
... إلا أنّ بعض المشككين في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة يقولون: « إنّ هذه القوامة التي ميّز الله بها الرَّجُل ، وأخضع المرأة لها، تنطوي على إجحاف بحقها كما أنها شاهد بيِّن على غياب المساواة المزعومة بين الرَّجُل والمرأة في أحكام الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة.
... والأمر في حقيقته ليس كما يتوهم المتوهمون، فإن شرعة الله قد قدرت الأمور وأحكمت التكاليف والواجبات بحكمة بالغة وذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: « القوامة يراد بها الإمارة والإدارة، تقول فلان قائم أو قوّام على أمر هذه الدار أو المؤسسة أي إليه الإمارة فيها والإدارة لشؤونها. وإنما تلتزم الإمارة الإدارة. فمن ينصب أميراً على مؤسسة أو جماعة تكون الإدارة لشؤونها، والإشراف على تسيير أمورها»(1).
إذا تبين لنا هذا المعنى وعلمنا أن الشَّارِع يحرص على أن لا يسير ثلاثة إلى عمل لهم في طريق إلا بعد أن يؤمروا واحداً منهم عليهم أدركنا أن الشَّارِع أشدّ حرصاً على أن لا تمر على أسرة في المجتمع ساعة من الزمن إلا ولها أمير يرعى شؤونها ويدير أمورها.
فالقوامة بهذا المعنى وعلى صعيد الأسرة « قوامة رعاية وإدارة وليست قوامة هيمنة وتسلط... ثمّ أنها ليست عنواناً على أفضلية ذاتية عند الله عزّ وجلّ يتميز بها الأمير أو المدير، وإنما ينبغي أن تكون عنواناً على كفاءة يتمتع بها القائم بأعباء هذه المسؤولية»(2).
__________
(1) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني ص(98).
(2) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني ص(100).
(1/104)
ثانياً: إن الله عزّ وجلّ جعل القوامة للرجال على النساء بما فضل بعضهم على بعض فمصدر قوامة الرَّجُل على المرأة هو الأفضلية المصلحية الآتية من توافق إمكانات الرَّجُل ووظيفته الإنفاقية مع ما تحتاج إليه الأسرة في مجال الرعاية والسهر على مصالحها الخطيرة، كما أن إسناد مهام رعاية الطفولة المتمثلة في الحضانة والرضاعة وجزء كبير تستقل به المرأة عن الرَّجُل في التربية ليس مصدره أفضلية ذاتية للمرأة على الرَّجُل ، وإنما مصدرها الأفضلية ذاتها التي تتجلى في توافق إمكانات المرأة مع هذه المهام.
وبذلك تنتفي شبهة القائلين بأن الله جعل القوامة للرجال على النساء وبرر هذا الاختيار بناء على أفضلية الرجال على النساء من حيث الذات مستدلين بظاهر النّص : { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (1) متناسين أن النساء متساوون مع الرجال في ميزان القرب من الله متفاوتون بين درجاتهم في ذلك تفاوت أعمالهم التي يقومون بها وصدق الله تعالى حيث أكد هذه الحقيقة في قوله: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (2) وقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } (3).
ومن هنا يتقرر بكلمة جامعة وجيزة: « إنها أفضلية التناسب المصلحي مع الوظيفة التي يجب النهوض بأعبائها»(4).
__________
(1) النساء/34.
(2) النحل/97.
(3) آل عمران / 195.
(4) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(101).
(1/105)
وكيف لا نقول بذلك وقد جعل الله الرَّجُل أقدر على « التبصر في العواقب والنظر في الأمور وبعقلانية أكثر من المرأة التي جهزها بجهاز عاطفي دفّاق... وبما جعل الرَّجُل عند الرَّجُل من الإنفاق »(1).
أما في المجتمعات الغَرْبيّة فقد حملت المرأة مسؤولية الكدح من اجل توفير رزقها ثم لم تنل القوامة التي ظلّت بيد الرَّجُل ، بل تنازلت عن راحتها إلى العمل المضني وتكلف أعباء الحياة وبقي الزوج هو المهيمن والمتنفذ وهكذا فإن قول الله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } (2) إخبار عن واقع يفرض نفسه أكثر من أن يكون تقريراً لحكم مفروض.
ومما يؤكد مما ذهبنا إليه ما رواه مجاهد في سبب نزول قوله تعالى : { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ } (3) قَالَ: قَالَت أم سلمة أي رسول الله : أيغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث؟ فنزلت : { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ... } » (4).
... قَالَ أبو جعفر الطَّبَري، رحمه الله تعالى: « يعني بذلك –جلَّ ثناؤه- ولا تتشهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. وذُكر أن ذلك نزل في نساء تمنين منازل الرجال وأن يكون لهنّ ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة وأمرهم أن يسألوه من فضله إذ كانت الأماني تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق(5).
__________
(1) القرضاوي: مركز المرأة في الإسلام، ص(24) (بتصرف).
(2) النساء/34.
(3) النساء / 32.
(4) رواه الطَّبَري والإمام أحمد والحاكم (2/335) والتِّرْمِذِي(5/237) البَيْهَقِيّ في الكبرى (9/21).
(5) انظر: أبو زيد، بكر: حراسة الفضيلة، ص(20-21).
(1/106)
... من أبرز الانتقادات التقليدية التي يطلقها بعض المتحاملين على الإسلام والمتعصبين عليه من علماء الغَرْب ومفكريه ومريديه الوقوف عند قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } (1) والنظر إليه على أنه وثيقة إدانة لنظام الميراث في النِّظَام الاقتصادي في الإسلام لأنه آثر التفريق في الحقوق والواجبات بين الرَّجُل والمرأة ومن ثمّ فلا يعبر هذا التمايز في العطاء إلا على وجود المساواة بين الرَّجُل والمرأة في الميراث.
... والإسلام عندما نظر إلى الميراث، إنما جعله حقاً وواجباً يتعلق بمصالح كل من الرَّجُل والمرأة كما يراها الشارع لا كما يراها الخلق وما يراه الشَّارِع هو العدل، وقد ذكرنا سابقاً أن المساواة في الحقوق والواجبات لا اعتبار لها عند الشَّارِع لأن كون المرأة تساوي الرَّجُل ، أو كون الرَّجُل يساوي المرأة ليس بالأمر ذي البال الذي له تأثير في الحياة الاجْتِمَاعِيَّة.
... ومع ذلك فما يزال سماسرة هذا الانتقاد يفهمون قوله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } (2) قانوناً عاماً سارياً في أحكام الميراث، في حين أن الآية إنما رسمت هذا الحكم في ميراث الأولاد دون غيرهم، وللورثة الآخرين ذكوراً وإناثاً أحكامهم الواضحة الخاصة بهم ونصيب الذكور والإناث واحد في أكثر هذه الأحكام.
ومن الأمثلة على ذلك:
1. إذا ترك الميت أولاداً وأباً وأماً ورث كل من أبويه سدس التركة دون تفريق بين ذكورة الأب وأنوثة الأم عملاً بقوله تعالى: { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } (3).
__________
(1) النساء/ 11.
(2) النساء/ 11.
(3) النساء/ 11.
(1/107)
2. إذا ترك الميت أخاً لأمه أو أختاً لأمه ولم يكن يحجبها من الميراث فإن كلاً من الأخ الذكر والأخت الأنثى السدس من التركة عملاً بقوله تعالى : { ... وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } (1).
3. إذا تركت المرأة المتوفاة زوجها وابنتها فإن ابنتها ترث النصف ويرث والدها الذي هو زوج المتوفاة الربع أي أن الأنثى ترث هنا ضعف ما يرثه الذكر.
4. إذا ترك الميت زوجة وابنتين وأخاً له، فإن الزوجة ترث ثُمن المال، وترث الابنتان الثلثين وما بقي فهو لعمها وهو شقيق الميت، وبذلك ترث كل من البنتين أكثر من عمها إذ إن نصيب كل منهما يساوي ، بينما نصيب عمهما .
ومن خلال هذه الأمثلة يتبين لنا أن الذي روعي في التقسيم من قبل الشارع، وضع الوارث ومدى حاجته ونوع العلاقة بينه وبين مورثه ذكراً كان أم أنثى، فما زيد في حصة الذكر من التركة في بعض الحالات إلا وفقاً لتقدير المسؤولية التي توجب عليهم النفقة على الإناث.
فمثلاً على الرَّجُل أن يدفع مهر زوجته وأن يلتزم بنفقتها ومسكنها وما يتبع ذلك من مصروفات المطعم والملبس ولو كانت غنيّة زوجة كانت أو أختاً أو بنتاً أو أمّاً، فلا تلتزم بشيء البتّة تجاه الذكر أياً كان نوع قرابته منها.
لذا فنصيب الرَّجُل دائماً معرض للنقص بسبب التزاماته التي فرضها الإسلام عليه، أما نصيب الأنثى فهو دائماً معرض للزيادة من مهر وهدايا، وهي مع ذلك معفاة من أي التزام شرعي في الإنفاق على زوجها أو بنيها أو أخوتها القادرين على كسب معاشهم. وهنا تظهر حكمة الله تعالى في قسمة الإرث بين عباده.
وبهذا يتضح أن التفاوت في الميراث بين الرَّجُل والمرأة ليس دستوراً مطلقاً، وإنما الحكم يتنوع نتيجة للتفاوت بينهما في الأعباء والتكاليف المفروضة على كلّ منهما شرعاً.
__________
(1) النساء/ 12.
(1/108)
... ويظهر هذا واضحاً بالتأمل في وظيفة كل منهما في الحياة « فالذكر أحوج إلى المال من الأنثى لأن الرجال قوّامون على النساء والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرض الفرائض وفاوت بين مقاديرها { ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } (1)، وإذا كان الذكر أنفع وأحوج كان أحقّ بالتفضيل، فإن قيل ينتقص بولد الأم، قيل: « بل طرد هذا التسوية بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم فإنهم يرثون بالرحم المجردة، فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط وهم فيها سواء، فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم بخلاف قرابة الأب »(2).
« والذكر يُفضل على الأنثى إذا كانا في منزلة واحدة أبدا لاختصاص الذكر بحماية البيضة والذب عن الذمار، ولأن الرجال عليهم نفقات كثيرة، فهم أحقّ بما يكون شبه المجَّان بخلاف النساء فإنهن كل على أزواجهن أو آبائهن أو أبنائهن »(3) .
« وليس الأمر في هذا أمر محاباةٍ لجنسٍ على حساب جنس، إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النِّظَام الاجتماعي الإسلامي، ومن ثمّ يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية، وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى»(4).
__________
(1) النساء/ 11.
(2) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة: أعلام الموقعين (2/150).
(3) الدهلوي : حجة الله البالغة، (2/674).
(4) قطب، سَيِّد: في ظلال القرآن، (1/591).
(1/109)
... الشَّهادَة في اصطلاح الفقهاء هي إخبار الإنسان بحق لغيره على غيره، أو هي إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشَّهادَة في مجلس القضاء على سبيل الوجوب في غير الحدود(1) لقوله تعالى: { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } (2) وقوله: { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهادَة وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } (3) أما جرائم الحدود، فالتستر مطلوب فيها وما كان الستر مطلوباً فيه، فالإخبار به خلاف الأولى وما كان خلاف الأولى لا يكون واجباً(4).
فالشَّهادَة حجّة من الحجج الشَّرْعية تثبت بها جميع الحقوق سواء كانت من حقوق الله الخالصة أو من حقوق العباد، مهما كانت قيمة الشيء المدعي به طالما توفره الشروط والضوابط وتوفر النصاب المشترك يلحق المدعي به، وهذا خلافاً للقانون الوضعي فهي « دليل احتياطي واستثنائي غير كامل فلا يؤخذ بها كدليل للإثبات إلا في حدود معينة كما لا يثبتون بها كل دعوى مدنية إلا في حالات استثنائية كحالات فقد السند من صاحبه بقوة قاهرة من حريق أو غرق أو سرقة»(5) فأصبحوا حرباً على العَدالَة كما أن القانون قد جعل معوله في الإثبات على الكتابة والمحررات الرسمية، في حين أنّ الإسلام جعل الشَّهادَة دليلاً من أدلّة الإثبات وحجّة مقبولة كدليل في الدعوى يعول عليه القضاة ويتمسك به الخصوم في إثبات دعواهم.
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد (2/463) وابن همام: فتح القدير (6/3).
(2) البقرة / 282.
(3) البقرة / 283.
(4) ابن عابدين: الحاشية (3/198)
(5) مجلة الجامعة الإسْلاميَّة ، المدينة المنورة العدد 56 ص(94-95). مقَال بعنوان «نظام الإثبات في الفقه الإسلامي»، أبو بكر ، د. عوض عبد الله.
(1/110)
... ومع هذا فقد نظر كثير من الناس إلى نصاب الشَّهادَة في الفقه الإسلامي نظرة ريبة وشكّ فاعتبروها دليلاً على اللامساواة بين الرَّجُل والمرأة فهو كما يدعون يحجب النساء أحياناً ويقر شهادتهن بنصف الرجال آنا.
... ومصدر هذا التصور الجهل المطبق بأحكام الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والحق أن الشروط التي تراعي في الشَّهادَة ليست عائدة إلى نقص إنسانية المرأة أو كرامتها ولكنها عائدة في مجموعها إلى أمرين:
أولهما: عدالة الشاهد وضبطه وأن لا تكون بينه وبين المشهود عليه خصومة تبعث على اتهامه فيما يشهد عليه به، وأن لا تكون بينه وبين المشهود له قرابة تبعث على احتمال تحيزه له في الشَّهادَة (1).
ثانيهما: أن تكون بين الشاهد والواقعة التي يشهد بها صلة تجعله مؤهلاً للدراية بها وللشهادة فيها.
إذن فشهادة من خدشت عدالته أو لم يثبت كامل وعيه وضبطه لا تقبل رجلاً كان الشاهد أو امرأة لقول الله تعالى: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } (2)وقوله تعالى: { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } (3)ومثلها شهادة الخصم على خصمه والقريب لقريبه رجلاً كان الشاهد أو امرأة.
«
__________
(1) قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تقبل شهادة خصم على خصمه » اعتمد الشَّافِعِي هذا الخبر وقَالَ الحافظ ليس له إسناد صَحِيْح لكن له طرق يتقوى بعضها ببعض. أفاد الشَّوْكَاني وأما شهادة الأقرباء ففيها خلاف. وقَالَ التِّرْمِذِي ما ورد في بعض الأحاديث من عدم صحة شهادة القريب لا يعرف هذا من حديث الزُّهَريّ إلا من هذا الوجه ولا يصح عندنا إسناده وقَالَ مالك لا تقبل شهادة الأخ المنقطع إلى أخيه والصديق الملاصق، انظر: سابق، سَيِّد فقه السنّة (3/291). انظر الحديث: سُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (10/201). وموطأ مالك (2/720) ومصنف عبد الرزاق دار إحياء التراث العربي (8/320).
(2) الطلاق / 2.
(3) البقرة / 282.
(1/111)
فإذا تحققت صفة العَدالَة وانتفت احتمالات التحيز لقرابة، واحتمالات الإيذاء لخصومه، كان لا بدّ بعد ذلك من أن يتحقق القدر الذي لا بد منه من الانسجام بين شخص الشاهد والمسألة التي يشهد بشأنها، فإن لم يتحقق هذا القدر الذي لا بدّ منه ردّت الشَّهادَة رجلاً كان الشاهد أو امرأة وإن تفاوت العلاقة بين المسألة التي تحتاج إلى شهادة وبين فئات من الناس كانت الأولوية لشهادة من هو أكثر صلة بهذه المسألة وتعاملاً معها»(1).
وانطلاقاً من هذه القاعدة، فإن الشَّارِع يرفض شهادة المرأة على وصف الجناية وكيفية ارتكاب الجاني لها، ففي الزِّنَا حددّ نصاب الشَّهادَة بأربع رجال وفي بقية الحدود والقصاص حدّد رجلين دون النساء ذلك لأن تعامل المرأة مع الجرائم والجنايات كالقتل، يكاد يكون من شدّة الندرة معدوماً، وإن وجد فهو إبعاد للمرأة عن مجالات الاحتكاك والاختلاط ومواطن الجرائم والعدوان على الأنفس والأعراض والأموال، والأرجح أنها إن شهدت هذه الجرائم كثيراً ما تغمض عينيها وتهرب صائحة مولولة فارة من هذه المشكلات بكل ما تملك، غير قادرة على الوصف بدقة ووضوح لاختلاف فطرتها وتباين طبيعتها عن الرَّجُل ، وقد تقع في غيبوبة قد تفقدها الوعي.
... وعلى العكس من ذلك، يرى الفقهاء الأخذ بشهادة المرأة ولو منفردة في الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء، كشهادتها في الرضاع والبكارة والثيوبة والحيض والولادة ونحو ذلك مما يختصّ بمعرفته النساء، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع.
__________
(1) البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(148).
(1/112)
... ومن الفقهاء من يرى الأخذ بشهادة النساء وحدهنّ في الأمور التي تحدث في جماعة النساء فحسب ولا يكون فيها الرجال كجناية حصلت في حمام النساء أو الأعراس وغير ذلك. فما اعتاد الناس أن يجعلوا فيه للنساء أماكن خاصة، فإذا اعتدت إحداهن على أخرى بقتل أو جرح أو كسر وشهد عليها شهود منهنّ، فهل تُهدر شهادتهنّ لمجرد إنهن إناث؟ أو تطلب شهادة الرجال في مجتمع لا يحضرون فيه عادة. فالأولوية الشَّرْعية منها لشهادة المرأة، إذ هي أكثر اتصالاً بهذه المسائل من الرَّجُل ، بل روي عن الشَّعْبِي أنه قَالَ من الشهادات ما لا يجوز فيه إلا شهادة النساء(1).
فالصَحِيْح أن تعتبر شهادتين ما دمنا عادلات ضابطات واعيات(2).
وأما المعاملات المالية والشؤون التجارية وما قد ينشأ عنها من خصومات ودعاوى، فلكل من الرَّجُل والمرأة علاقة بها غير أن صلة الرَّجُل بها واندماجه فيها أشد من صلة المرأة بها وآية ذلك أن الذين ينغمسون في الأعمال التجارية وينشطون في إجراء صفقاتها هم الرجال في كلّ الأزمنة وفي مختلف المجتمعات فإن رأيت بينهم نساء فهنّ في الغالب موظفات في أعمال إدارية ومكتبيّة.
__________
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة ، (4/429).
(2) انظر حول الآراء الفقهية:
أ- ... القرضاوي: مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(16).
ب- ... البوطي: المرأة بين طغيان النِّظَام الغَرْبيّ ولطائف التشريع الرباني، ص(47 إلى 153).
ج- ... شلتوت، محمود : الإسلام عقيدة وشريعة ، ص(111، 112).
د- ... سابق، سَيِّد: فقه السنّة (3/291).
(1/113)
ونظراً إلى هذا الواقع الذي يفرض نفسه في كلّ مجتمع فقد جعل الله حكم الشَّهادَة فيه مرآة دقيقة لهذا الوضع القائم والمستمر والمرآة الدقيقة أن تكون الأولوية لشهادة الرَّجُل مع قبول شهادة المرأة، والوجه التطبيقي أن تقوم شهادة امرأتين في هذه الأمور مقام شهادة الرَّجُل الواحد كما قَالَ تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } (1).
ولكن لماذا امرأتان؟ إنّ النّص لا يدعنا نحدس، ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } (2) ، { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } (3).
ومعنى الضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة، فقد ينشأ من قلّة خبرة المرأة بموضوع التعاقد مما يجعلها لا تستوعب كل وقائعه وملابساته ومن ثمّ لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكر الأخرى بالتعاون معاًُ على تذكر ملابسات الموضوع كلّه (4).
ويقول الشيخ محمود شلتوت : « هذا ليس وارداً في مقام الشَّهادَة التي يقضي بها القاضي ويحكم وإنما هو وارد في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل، فالمقام مقام استيثاق على الحقوق ولا مقام قضاء بها والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقها وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل لا يثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضي فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو البيّنة(5).
__________
(1) البقرة / 282.
(2) البقرة / 282.
(3) البقرة / 282.
(4) انظر حول المسألة: العك، خالد عبد الرحمن: شخصية المرأة المسلمة ، ص(50-51).
(5) شلتوت، الشيخ محمود: الإسلام عقيدة وشريعة، ص(111-112).
(1/114)
وقد حقق العلامة ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة أن البيّنة في الشَّرْع أعم من الشَّهادَة وأن كل ما يُتبين به الحق ويُظهر هو بينة يقضي بها القاضي ويحكم ومن ذلك يحكم القاضي بالقرآئن القطعية ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمأن إليها واعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرَّجُل والواحد ليس لضعف عقلها الذي يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثراً له، وإنما هو لأن المرأة كما يقول الأستاذ محمد عبده :« ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ولا تكون كذلك في الأمور المنزليّة التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرَّجُل ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهتم ويمارسونها ويكثر استغالهم بها »(1).
من خلال ما سبق يتبيّن أن الحكم في الشَّهادَة يدور فيه مدى قوّة العلاقة أو ضعفها بين شخص الشاهد رجلاً كان أو امرأة، بين الموضوع الذي تجري بسببه الخصومة.
__________
(1) أطال ابن القيّم في بيان شهادة المرأة وأثرها من حيث اعتبارها بينة تامة، وقرينة من قرائن الأحوال ، وهي القرائن التي تعين القضاء في مجال التحقيق دون أن يُعتمد عليها وحدها في الحكم والقضاء، فللقاضي أن يسمع شهادة المرأة في وصف جريمة وقعت أو صفقة تجارية تمّت أو خصومة أو نزاع قام بين طرفين لما في ذلك من أداة مهمة في التحقيق وسبيل إلى الكشف عن غوامضه وإزاحة ملابساته.
انظر: ابن القيّم، الطرق الحكمية، ص(148).
انظر القرضاوي: مركز المرأة في الحياة الإسْلاميَّة ، ص(18).
(1/115)
ومن ثمّ فلا مجال لمرتاب أن يشكك في المنهج الرباني الذي جعل التفاوت في الشَّهادَة يتعلق بطبيعة الأنثى ومكانتها في الجماعة وموضعها في المجتمع أو تتعلق بطبيعة الذكر ومكانه في الجماعة وموضعه في المجتمع والذي جعل الشَّهادَة بين الرجال والنساء سواء بسواء في شهادات اللعان وهو ما شرعه القرآن بين الزوجين حينما يقذف الرَّجُل زوجه وليس له على ما يقول شهود كان عليه أن يقسم أربع مرات بأنه صادق فيما يتهمها به، وهذه الإيمان تنزل في الشَّرْع منزلة الشَّهادَة ، يعقبها استمطار لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويقابلها ويبطل عملها أربع شهادات من المرأة يعقبها استمطار غضب الله عليها إن كان من الصادقين، والثمرة الشَّرْعية لهاتين الشهادتين المتكافئتين أن يقضى بالفعل بينهما فصلاً لا رجعة فيه.
فهل ما ذكرنا في هذا المبحث من نظام متناسق آت من التسامي برجولة الرَّجُل والهبوط بأنوثة المرأة؟
حقيقة دعوة المرأة إلى الحرِّيَّة والمساواة
... في ختام هذا الفصل، لا بدّ من كلمة حق ترفع الضَّيم عن المرأة المسلمة، وتدفع شر المستغربين المعتدين على الدّين والأمّة، وتعلن التذكير بما تعبد الله به نساء المؤمنين من أصول الفضيلة المتمثلة في الحجاب وحفظ الحياء والعفّة والاحتشام والتحذير ممّا حرّمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من حرب الفضيلة بالتبرج والسفور والاختلاط، وتفقأُ الحصرم في وجوه خونة الفضيلة، ودعاة الرّذيلة، ليقول لسان حال العفيفة:
إليك عنّي، إليك عنّي ... فَلَسْتُ منك ولَسْتَ منّي
(1/116)
... ومعاذ الله أن يَمُرَّ على السّمع والبصر، إعلان المنكر والمناداةُ به، وهضم المعروف، والصَّد عنه، ولا يكون للمصلحين منّا في وجه هذا العدوان صوت جهير بإحسان يَبْلُغُ الحاضر والباد، إقامة لشعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لا سيما ونحن نشاهد كظيظاً من زِحام المعدومين المجهولين من أَهل الريب والفتن، المستغربين المُسَيَّرين بحمل الأقلام المتلاعبة بدين الله وشرعه، يختالون في ثياب الصحافة والإعلام، وقد شرحوا بالمنكر صدراً، فانبسطت ألسنتهم بالسوء وجرت أقلامهم بالسُّوأى وجميعها تلتئم على معنى واحد: منابذة التشريع الرباني وطغيان النِّظَام الغَرْبيّ فيما يتعلق بالمرأة، من خلال الدعوة الماكرة والنداءات الخاسرة تحت عنوان « حريّة المرأة » و « المساواة بين المرأة والرَّجُل ».
... لقد كتب أولئك المستغربون، الرّماة الغاشّون لأمَّتهم، المشؤومون على أهليهم، بل على أنفسهم في كل شؤون المرأة الحياتية، إلا في أمومتها وفطرتها، وحراسة فضيلتها.
... وفي تفسير ابن جرير الطَّبَري عند قول الله تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } (1)، قَالَ مجاهد بن جبر –رحمه الله تعالى- { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } ، قَالَ : الزِّنَاة، { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } ، قَالَ : يزني أهل الإسلام كما يزنون، قَالَ : هي كهيئة { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } (2)(3).
وقد سلك أولئك الجناة لهذا خطة ضالّة في مجالات الحياة كافة بلسان الحال والمقَال:
ففي مجال الحياة العامّة:
__________
(1) النساء / 27.
(2) القلم / 9.
(3) ابن جرير الطَّبَري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، (8/214-215).
(1/117)
1. الدعوة إلى خلع الحجاب والتخلّص من الجلباب من خلال الترغيب باللباس الفاتن المتمثل في لبس القصير، والضيّق الواصف للأعضاء والشّفاف الذي يشفُّ عن جسد المرأة، والدعوة إلى التشبه بالرَّجُل بالهيئة في اللباس وشتّان بين امرأة تقص ظفائرها لتكون لجاماً لخيل الله المسرجة، وامرأة تقص ظفائرها لتكون أشبه بالغانية.
2. الدعوة إلى الاختلاط في الحياة الخاصة والحياة العامة.
3. الدعوة إلى مشاركة المرأة في الاجتماعات واللجّان والمؤتمرات والندوات والاحتفالات والنوادي دون ضوابط شرعيّة، بل دعوتها إلى الخضوع بالقول، والملاينة في الكلام، ومصافحة الرجال الأجانب عنها، وإعمال المساحيق، والتضمخ بالطيب، ولبس يجعلهن كواعب إلى غير ذلك من وسائل الإغراء والإثارة والفتنة.
4. الدعوة إلى سفر المرأة بلا محرم، ومنه سفرها غرباً وشرقاً للتعلّم بلا محرم وسفرها لمؤتمرات: « رجال الأعمال ».
5. الدعوة إلى الخلوة بالأجنبيّة، ومنها خلوة الخاطب بمخطوبته ومصافحته لها، ولمّا يُعقد بينهما.
6. الدعوة إلى قيامها بالفنِّ كالغناء والتمثيل ومشاركتها في اختيار ملكة الجمال.
7. الدعوة إلى فتح أبواب الرياضة للمرأة، كركوب النساء الخيل للسباق، والدّراجات الناريّة والسباحة في المراكز والنوادي المختلطة.
وفي مجال الإعلام:
1. تصوير المرأة في الصحف والمجلات.
2. خروجها في التلفاز مغنية، وممثلة، وعارضة أزياء ومذيعة وعاشقة. ففي إحدى الدراسات التي أجريت على خمسمائة فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها، ويقول الدكتور نشار-وهو أمريكي الجنسية- تبين من دراسة مجموعة الأفلام التي تعرض على الأطفال، أنّ 29،6% تتناول موضوعات جنسيّة، و15 % تدور حول الحبّ بمعناه الشهواني العصري المكشوف(1).
__________
(1) العُمر، د. ناصر بن سلمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(34)
(1/118)
3. استخدام المرأة في الدعايّة والإعلان. ففي إطار تحليل مضمون (356) إعلاناً (تلفازيّاً) في رسالة (ماجستير) تبيّن:
1- استخدمت صورة المرأة وصوتها في 300 من أصل 356 إعلاناً.
2- 42 % من الإعلانات ظهرت فيها المرأة ولا علاقة للمرأة بها، كظهورها بجانب إطارات السيارات.
3- 76 % اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة، كالجمال والجاذبيّة.
4- 51 % منها تعتمد على حركة جسد المرأة.
5- 12 % اعتمدت على ألفاظ جنسيّة.
4. الدعوة إلى الصداقة بين الجنسين. ويقول الدكتور هوب أمرولر الأمريكي: إنّ الأفلام التجاريّة تثير الرغبة الجنسيّة في موضوعاتها، كما أنّ المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسيّة الضارة، وقد ثبت للباحثين، أنّ فنون التقبيل و الحبّ والمغازلة والإثارة الجنسيّة، يتعلمها الشباب من خلال السينما والتلفاز(1).
5. إشاعة صور القُبُلات والاحتضان بين الرَّجُل وزوجاتهم حتى على مستوى الزعماء والوزراء في وسائل الإعلام المتنوعة.
في مجال التعليم:
1. الدعوة إلى التعليم المختلط في الصفوف الدراسية.
2. الدعوة إلى تدريس النساء للرجال وعكسه.
3. الدعوة إلى تقديم التعليم على الزواج. ففي إحصائية في جامعة من الجامعات، ستة آلاف فتاة لم يتزوج إلا أربعمائة فتاة، وفي دراسة لمائة وعشر فتيات تخرجن من كليّة الطّب، لم يتزوج منهن إلا إحدى عشرة طبيبة.
قد كنتُ أرجو أن يُقَال طبيبة ... لقد قيل ماذا نالني من مقَالها
فقل للتي كانت ترى في قدوة ... هي اليوم بين النّاسِ يُرثى لحالها
وكل مناها بعض طفل تضمه ... فهل ممكن أن تشتريه بمالها(2).
وفي مجال العمل والتوظيف:
1. الدعوة إلى توظيف المرأة في مجالات الحياة، كافة بلا استثناء، كالرجال سواء.
__________
(1) العُمر، د. ناصر بن سلمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(35).
(2) العُمر، د. ناصر بن سلمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(38).
(1/119)
2. الدعوة إلى عملها في المتاجر، والفنادق، والطائرات، والوزارات، والغرف التجاريّة، والشركات والمؤسسات، وجعلها مندوبة مبيعات.
3. الدعوة إلى إدخالها في نظام الجنديّة والشُّرط.
4. الدعوة إلى إدخالها في المجالات السِّيَاسِيَّة كالمجالس النيابيّة و(البرلمانات).
فهذه مُثُلٌ من دعوات الأخسرين أعمالاً في شأن المرأة يبثعها كاتبوها الذين يحملون أسماء إسلاميّة، وهي معول هدم في الإسلام، لا يحمله إلاّ مستغرب مُسّيَّر، أشرب قلبه بالهوى، أفمثل هذا الفريق يجوز أن تنصب له منابر الصحافة ووجه الفِكْر في الأمّة؟ وقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ اللهَ يبغض كُلَّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ-أي: مختال متعاظم- سَخَّاب بالأسواق، جِيفَةٍ بالليل حِمَارٍ بالنَّهارِ، عالم بأمر الدّنيا، جاهل بالآخرة »(1).
إنّ هذه المطالب المنحرفة، تُساق باسم: « تحرير المرأة » في إطار نظريتين هما: «حريّة المرأة» و «المساواة بين المرأة والرَّجُل ».
وهما نظريتان غربيتان باطلتان شرعاً وعقلاً، لا عهد للمسلمين بها، وهما استمرار لجادة الأخسرين أعمالاً.
والحقّ، أنّ النداء بهاتين النظريتين إنما ولدتا على أرض أوروبا في فرنسا التي كانت ترى أنّ المرأة مصدر المعاصي، ومكمن السيئات والفجور، فهي جنس نجس حتى ولو كانت أُمَّا أو أُختاً.
__________
(1) صَحِيْح ابن حبّان، (1/273)، وموارد الظمآن (1/485)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (10/194).
(1/120)
هكذا نشر رهبان أوروبا هذا الموقف المعادي المتوتر من المرأة، ممّا جعل ردّة الفعل عند النّاس هاتين النظريتين، وغيرها من النظريات التي تفصل الدين عن الحياة، فنادوا بأن الدين والعلم لا يتفقان، وأنّ العقل والدين نقيضان، وبالغوا في النداءات للحريّة المتطرفة الراميّة إلى الإباحيّة والتحلل من أي قيد أو ضابط فطري أو ديني يَمَس الحرِّيَّة، حتى طغت هذه المناداة بحريّة المرأة، إلى المناداة بمساواتها بالرَّجُل بإلغاء جميع الفوارق بينهما وتحطيمها، دينيّة كانت أم اجتماعيّة.
إنّ المطالبات المنحرفة لتحرير المرأة بهذا المفهوم الإلحادي تحت هاتين النظريتين المُوَلَّدَتين في الغَرْب ، هي العدوى التي نقلها المستغربون إلى العالم الإسلامي.
وكانت أول شرارة قُدحت لضرب الأمّة الإسْلاميَّة على أرض الكنانة في مصر حين عاد واعظ البعوث: رفاعة رافع الطهطاوي، المتوفى سنة (1290 هـ) ، من فرنسا إلى مصر حيث بذر البذرة الأولى لتحرير المرأة ثمّ تتابع على هذا العمل عدد من المفتونين من المسلمين و غير المسلمين، وممّن تولى كِبَرَ هذه الفتنة داعيّة السفور: قاسم أمين الهالك سنة (1326هـ) الذي ألف كتابه «تحرير المرأة»، ثمّ كتاب « المرأة الجديدة » بهدف تحويل المسلمة إلى أوروبيّة، وقد ساهم في تنفيذ فكرته: سعد زغلول الهالك سنة (1346هـ) وشقيقه أحمد فتحي زغلول(1) الهالك سنة (1332هـ).
__________
(1) أحمد فتحي زغلول ، (1863-1914م). درس في فرنسا وعمل في النيابة والقضاء حتى صار رئيساً لمحكمة مصر الأهليّة ووكيلاً لوزارة العدليّة من مؤلفاته (شرح القانون المدني المصري) و (المحاماة).
(1/121)
ثمّ ظهرت الحركة النسائية بالقاهرة بتحرير المرأة عام (1337هـ) برئاسة هدى شعراوي(1) الهالكة سنة (1367هـ) التي تعتبر أول امرأة مصريّة مسلمة رفعت الحجاب ولكن ليس بيدها، وإنما بيد سعد زغلول حينما عاد من بريطانيا وأثناء استقباله عمد إلى مستقبليه فمدّ يده على هدى شعراوي وانتزع حجابها عن وجهها، فصفق الجميع ونزعن الحجاب. كما صُفق لزوجته صفيّة هانم سعد زغلول وسط مظاهرة نسائية في القاهرة أمام قصر النيل حين خلعت مع نساء الحجاب، ودُسنه تحت الأقدام، ثمّ أشعلن به النار، ولذا سميّ هذا الميدان باسم « ميدان التحرير ».ومنهم مرقس فهمي، الهالك سنة (1374هـ)، في كتابة « المرأة في الشرق» الذي هدف فيه إلى نزع الحجاب وإباحة الاختلاط. وأحمد لطفي السَيِّد، الهالك سنة (1382هـ)، وهو أول من أدخل الفتيات المصريات في الجامعات مختلطات بالطلاب، سافرات الوجوه، لأول مرّة في تاريخ مصر، يناصره في هذا عميد التغريب: طه حسين، الهالك سنة (1393هـ).
وهكذا تتابع أشقياء الكنانة: إحسان عبد القدّوس، ومصطفى أمين، ونجيب محفوظ، وطه حسين، يؤازرهم في هذه المكيدة للإسلام والمسلمين الصحافة، حيث أصدرت مجلة باسم « مجلة السفور » نحو سنة (1318هـ) وهرول الكتاب الماجنون بمقَالاتهم القائمة على المطالبة بما يُسند السفور والفساد من خلال:
__________
(1) هدى بنت محمد سلطان الشعرواي ، (1296- 1367هـ) (1879-1947م). وُلدت في المنيا بمصر ونشأت في القاهرة، ألّفت جمعة الاتحاد النسائي بمصر وأصدرت مجلة (المصرية). من آثارها (مذكرات).
(1/122)
نشر صور النساء الفاضحة، والدمج بين المرأة والرَّجُل في الحوار والمناقشة والتركيز على المقولة المُحْدَثَة الوافدة: « المرأة شريكة الرَّجُل» أي: الدعوة إلى المساواة بينهما وتسفيه قيام الرَّجُل على المرأة، وإغراؤها بنشر الجديد في الأزياء الخليعة ومحلات (الكوافير)، وبرك السباحة النسائية، والمختلطة، والأنديّة الترفيهيّة، ونشر الحوادث المخلّة بالعرض، وتمجيد الممثلات والمُغْنيات ورائدات الفن والفنون الجميلة المشهورات، الأحياء منهم والأموات.
هكذا صارت البداية المشؤومة للسفور في هذه الأمّة بنزع الحجاب عن الوجه، وهي مبسوطة موثقة في كتاب « المؤامرة على المرأة المسلمة » للأستاذ أحمد فرج(1)، وفي كتاب «عودة الحجاب» للشيخ محمد أحمد إسماعيل(2)، وفي كتاب حراسة الفضيلة للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد(3)، ثمّ أخذت تدب في العالم الإسلامي في ظرف سنوات قلائل، كالنّار الموقدة في الهشيم حتى صدرت القوانين الملزمة بالسفور:
__________
(1) فرج، أحمد: المؤامرة على المرأة المسلمة، ص(75).
(2) إسماعيل، الشيخ محمد بن أحمد: عودة الحجاب، (1/80).
(3) أبو زيد، بكر بن عبد الله: حراسة الفضيلة، ص(119-152)، وانظر: الجهني: الموسوعة الميسرة، (1/457).
(1/123)
ففي تركيا أصدر أتاتورك(1) الهالك سنة (1356هـ) قانوناً ينزع الحجاب سنة (1338هـ)، وفي سنة (1348هـ) صدر قانون مدني حرَّم تعدد الزوجات.وفي إيران أصدر رضا بلهوي قانوناً بنزع الحجاب سنة (1344هـ). وفي أفغانستان أصدر محمد أمان قراراً بإلغاء الحجاب، وفي ألبانيا أصدر أحمد زوغوا قانوناً بإلغاء الحجاب ، وفي تونس أصدر أبو رقيبة الهالك سنة (1421هـ) قانوناً بمنع الحجاب وتجريم تعدد الزوجات، ومن فعل يُعاقب بالسجن سنة مع غرامة ماليّة؟!
كما أصدر قرارات عدوانيّة على الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة منها:
إطلاق الحرِّيَّة للمرأة إذا تخطت العشرين من عمرها أن تتزوج بدون موافقة والديها، ومعاقبة من يتزوج ثانية بالحلال، وتبرئ من يخادن عَشْرَاً بالحرام!
وفي مجلة العربي نشر استطلاع عن تونس، وفيه صورة للوحات الدعاية المنصوبة في الشوارع ففي كل ميدان لوحتان إحداهما تمثل أسرة ترتدي الزّي المحتشم مشطوبة بإشارة (×) والأخرى تمثل أسرة متفرنجة متبرجة ومكتوب تحتها « كوني مثل هؤلاء ».
ولذا قَالَ العلامّة الشاعر العراقي محمد بهجت الأثري المتوفى سنة (1416هـ) رحمه الله تعالى:
أبو رقيبة لا امتدّتْ لَه رَقَبَهْ ... ... لم يتقِ الله يوماً لا ولا رَقَبَهْ
__________
(1) مصطفى كمال أتاتورك (1880-1938م) مؤسس تركيا الحديثة، ولد بسالونيك، إلتحق بالكليّة الحربية شارك في الحرب العالمية الأولى في الدردنيل أقام جمهورية تركيا عام 1923م، وانتخب رئيساً لها، ألغى الخلافة (1924م)، وفصل الدَّوْلَةعن الدين ، واستبدل بالحروف العربية الحروف اللاتنية، كما ألغى العمامة والحجاب، وجعل القانون المدني يقوم على أصول التشريعات الأوروبية بدلاً من الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة . انظر: الموسوعة العربية الميسرة، ص(44) بتصرف.
(1/124)
وفي العراق تولى كِبْرَ هذه القضية الزهاوي والرُّصافي، كما هو مفصل في كتاب «حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث »(1).
... وفي بلاد الشام (لبنان وسوريا والأردن وفلسطين)، انتشر السفور على أيدي دعاة الأحزاب القوميّة، كما أشار لتلك البدايّة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى في كتابه الذكريات(2).
... وأول كتاب تحدث عن تحرير المرأة في الشام سنة (1347هـ)-أي بعد وفاة قاسم أمين(3) بعشرين سنة-هو الكتاب الذي يحمل اسم نظيرة زين الدين، بعنوان «السفور والحجاب»، ومما يثير الانتباه أنّ الذي قرظه هو الشيخ علي عبد الرازق(4) صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الكتاب الذي فجّر العَلْمانية في مصر.
__________
(1) وانظر : أبو زيد ، بكر بن عبد الله: حراسة الفضيلة، ص(130).
(2) الطنطاوي، الشيخ علي، الذكريات (5/101-112)، (5/223-274)، (6/10-25).
(3) قاسم أمين ، (1863-1908م). وُلد في مصر ودرس فيها وأكمل دراسة القانون في مونتليه بفرنسا، من دعاة تحرير المرأة، أشتهر أنّه زعيم الحركة النسائية بمصر ومحرر المرأة المسلمة.
(4) الشيخ علي عبد الرازق، خرّيج أزهري وقاضي شرعي أصدر كتابه سنة (1925م) في ظروفٍ إسلامية حرجة بعد سقوط الخلافة العثمانيّة وخطورته تكمن أنّه استند إلى حُجج ومبررات دينيّة شرعية مستمدّة من الكتاب والسنّة والتاريخ الإسلاميّ لتبرير العَلْمانية ضمن إطار الإيمان الديني ذاته، وليس من منطلق العَلْمانية الخالصة المنافية للدين.
انظر: حسين، د. محمد محمد ، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، (2/85).
(1/125)
... وفي الهند وباكستان في حدود عام (1370 هـ) بدأت حركة تحرير المرأة والمناداة بجناحيها: الحرِّيَّة والمساواة، وترجم لذلك كتاب قاسم أمين: « تحرير المرأة » حتى أضحى حال القارّة من الحال ما لا يُشكى إلاّ إلى الله تعالى منه، وهو مبسوط في كتاب « أثر الفِكْر الغَرْبيّ في انحراف المجتمع المسلم في شبه القارة الهنديّة » لخادم حسين(1).
... فهؤلاء المُنازِلونَ في ساحة الغَرْب، وليس لهم من عُدَّةٍ فيه سوى « القلم والدّواة »: هم الصّحفية المتعالمون، من كلّ من يدّعي العلم وليس بعالم شخصيّة مؤذية، وفتنة مهلكة.
شعوذة تخطر في حجلين(2) ... وفتنة تمشي على رجلين(3)
إنّهم زيادة على أنصباء أهل العلم كواو عمرو، ونون الإلحاق وفي « الشَّمَقْمَقِيَّةِ »
ولا تُكن كواو عَمْرو زائداً ... في القوم أو كنون الملحق(4)
... ومن مواقع الأسى أن يمضي وقتٌ والمستغرب المتعالم محل إعجاب من العامة، فأضحى لزاماًُ أن نُقارض مجاهرتهم هذه بالمجاهرة، لكن بالحقّ لكبت باطلهم إسقاط تنمُّرهم والعمل على هدايتهم واستصلاحهم.
...
__________
(1) حسين، خادم: أثر الفِكْر الغَرْبيّ في انحراف المجتمع المسلم في شبه القارة الهنديّة، ص(182-195).
(2) وتخطر: من خَطرَ إذا اهتز وتبختر في مشيه. والحِجْلُ: الخلخال والقيد وجمعها أحجال وحُجول. (المعجم الوسيط ،ص، (158) و (243)).
(3) أبو زيد ، بكر : التعالم وأثره على الفكر والكتاب، ص(8).
(4) أبو زيد ، بكر : التعالم وأثره على الفكر والكتاب، ص(8).
(1/126)
... ومن وراء ذلك كلّه خبث اليهود في إفساد وتغريب أمتنا حيث يقول اليهود في بروتوكولات حكماء صهيون: « علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدّت إلينا يدها ربحنا القضيّة». وقَالَ أحد قادة الماسونيّة: « كأس وغانيّة تفعلان في تحطيم الأمّة المحمديّة أكثر ممّا يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حبِّ المادة والشهوات ». ويقول آخر: « لا تستقيم حالة الشرق إلا إذا رفعت الفتاة الحجاب عن وجهها وغطّت به القرآن »(1).
... واليوم يمشي المتعالمون المستغربون الأجراء على الخطى نفسها، حيث يشارك سعاة الفتنة في المؤتمرات العالميّة والإقليميّة التي تركز على المناداة بالحرِّيَّة والانتفاع كمؤتمر بكين والقاهرة، والمؤتمر الإقليمي للمرأة في الخليج والجزيرة العربيّة حول قضيّة ما يُسمى بتحرير المرأة.
... وممّا ينّوه إليه في هذا المقام أنَّ جُلّ الدّعاة لقضية تغريب المرأة من النساء اللائي يجمعهن صفتان غالباً:
... الأولى: قباحة المنظر.
... والثانيّة: العنوسة.
... وتترأس حاضراً عرش هؤلاء النسوة العجوز الشمطاء نوال السعداوي زعيمة الاتحاد النسائي المصري حالياً التي آذى العيون منظرها وأرهق البصائر مخبرها ، واستولى عليها وعلى أمثالها الاغتلام في الجهالة، وصار على قلبها وأمثالها أقفالٌ ضُلّت مفاتيحها والتي تقول: « إنّ نجاح تحقيق التنميّة الحقيقية في بلادنا العربية يحتاج إلى تحرير ثقافي، ويحتاج إلى تحرير النساء من سيطرة الرجال بمثل ما يحتاج إلى تحرير البلاد العربيّة من سيطرة الغَرْب »(2).
__________
(1) العُمر، د. ناصر بن سلمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(48).
(2) العُمر، د. ناصر بن سلمان: فتياتنا بين التغريب والعفاف، ص(51).
(1/127)
... فالدكتورة السعداوي ترفض الحجاب الإسلامي، حيث إنّ زوجات النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنفسهنّ لم يكنّ محجبات، والذين ينادون بأن تتحجب المرأة لم يفهموا المرأة المسلمة ولم يدرسوا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يقرءوا القرآن قراءة صَحِيْحة ولم يطلعوا على التاريخ ، بل أخذوا أشياء دخيلة على الإسلام الحقيقي وعلى الحَضَارَة المصرية العربية الحقيقة فأنا لي خمسة وعشرون عاماً أدرس الدين الإسلامي وأقارن... لا توجد آية واحدة تنص على تحجيب المرأة وزوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكنّ محجبات(1).
... وعلى الصعيد نفسه يقرر الكاتب حسين أحمد أمين« أن الحجاب وهم صنعه الفرس والأتراك وإنه ليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه » وأن « الرجال يتمسكون بالحجاب ليستبدوا بالمرأة فينفسوا عن قهرهم سياسياً واجتماعياً »(2).
... أمّا الدكتور زكي نجيب محمود فهو يرى « عودة المرأة للحجاب الإسلامة ردّة حضارية للمرأة العربية ، فهو حجاب على الفِكْر وليس حجاباً على الجسد»(3).
... أما الدكتور عمارة فهو يرفض تماماً أن تعود المرأة مكبلة بالحجاب ويؤكد: « والحق أن جذور هذه القضية، مرتبط بالتمدن والتحضر والاستنارة أكثر ممّا هو مرتبط بالدين »(4).
وعن حديثه عن تعدد الزوجات التي شرعها الله تعالى يؤكد أنها « نظرية إقطاعية » فيقول: «إنّ تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدَّوْلَةالإقطاعية»(5).
__________
(1) السعداوي، د. نوال « تحقيق » الأهالي القاهرية ، عدد 104. 5/10/1983م.
(2) أمين، حسين أحمد: موقف القرآن الكريم في حجاب المرأة ، الأهالي ، 28/11/1984م. القاهرية،
(3) محمود، زكي نجيب، الأهرام القاهرية، 9/4/1984.
(4) عمارة، د. محمد: الإسلام وقضايا العصر، ص(90).
(5) عمارة: فجر اليقضة القومية، ص(118).
(1/128)
... أما الأستاذة عواطف والي فقد كشفت سرّاً خطيراً: « فإن التشريع الإسلامي بإباحته تعدد الزوجات كان هو السبب الرئيسي في هزيمة العرب في حرب حزيران سنة 1967م »(1).
... فباسم الحرِّيَّة والمساواة: أُخرجت المرأة من البيت تزاحم الرَّجُل في مجالات حياته، وخلع منها الحجاب، وغمسوها بأسفل دركات الخلاعة، وتمّ القضاء على رسالتها الحياتية، أمّا وزوجة وسكناً لراحة الأزواج إلى جعلها سلعة مبتذلة في كفِّ كلِّ لاقطٍ من خائن أو فاجر.
... قَالَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: « وما يفسده اللسان في الأديان، أضعاف ما تفسده اليد، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد »(2).
... لهذا فإنّ المتعيّن إجراؤه أمام التوجه المنحرف هو كفُّ أقلام الرعاع السُّفُوريين عن الكتابة في هذه المطالب من أولي الأمر، كما المتعين على العلماء وطلاب العلم بذل النّصح والتحذير من قَالَة السوء، وتثبيت نساء المؤمنين على الفضيلة وحراستها من دعاة السوء والرذيلة.
... وعلى الآباء والأبناء والأزواج، أن يتقوا الله فيما وُلُّوا من أمر النساء وليعلموا أن فساد النساء سببه الأول: ضعف الإيمان وتساهل الرجال، فمن انزجر وارتدع وآب وأناب فقد حفظ نفسه في الدنيا والآخرة، وأما من أحبَّ إشاعة الفاحشة فكما قَالَ تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (3).
__________
(1) ابن تَيْمِيَّة: الصارم المسلول، (2/735).
(2) والي، عواطف: (تحقيق) روز اليوسف القاهرية، 4/3/1984م.
(3) النّور / 19.
(1/129)
... وما شاعت فينا، وراجت بيننا إلاّ يوم أضعنا السيادة، وأفلتت من أيدينا القيادة، وإلاّ لم تشع في المسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة، ولو قَالَها قائل لعمر لهاجت شِرَّتُهُ(1) ولبادرت بالجواب دِرَّتُهُ(2). ...
__________
(1) هاجت شِرَّتُه : الشَّرةُ: الحِدَّةُ والنّشاط ، ويُقَال للشباب: شِرَّة. (المعجم الوسيط ، ص(478)).
(2) بادرت بالجواب دِرَّتُه: الدُّرّةُ واحده الدُّرْ ، ويُقَال : دِرَّةُ عمر وهو السوط يُضرب به. (المعجم الوسيط، ص(27)).
(1/130)