العبودية
مسائل وقواعد ومباحث
تأليف
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
1- التعبد بأسماء الله تعالى وصفاته
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: إن أجلّ المقاصد وأنفع العلوم: العلم بمعاني أسماء الله (عز وجلّ) الحسنى وصفاته العلا، فإن التعرّف على الله (تعالى) من خلال أسمائه وصفاته يحقق العلم الصحيح بفاطر الأرض والسماوات، والعلم بأسماء الله وصفاته يستلزم عبادة الله (تعالى) ومحبته وخشيته، ويوجب تعظيمه وإجلاله.
ومع أهمية هذا الجانب وجلالة قدره، إلا أن ثمة غفلة عنه، فنلحظ التقصير في فقه أسماء الله وصفاته، وإهمال التعبّد والدعاء بها، وضعف الالتفات إلى ما تقتضيه هذه الأسماء الحسنى من الآثار والثمرات.
وسأتحدث ـ مستعيناً بالله (تعالى) ـ عن هذا الموضوع من خلال ما يلي:
تظهر أهمية هذا الموضوع عبر الآيات القرآنية المتعددة التي تحض على تدبر القرآن الكريم؛ كما قال (سبحانه): ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص: 29]، وذمّ القرآن من لا يفهمه، فقال (تعالى): ((فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)) [ النساء: 78]، ولا شك أن فقه أسماء الله (تعالى) وصفاته يدخل في ذلك دخولاً أوليّاً.
ـ كما أن عبادة الله (تعالى) ومعرفته آكد الفرائض، ولا يتحقق هذا إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته.
يقول قوام السنة الأصفهاني (ت 535 هـ):
((1/1)
وقال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه: معرفته، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله (تعالى): ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ)) [محمد: 19]، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها؛ فيعظموا الله حق عظمته، ولو أراد رجل أن يعامل رجلاً: طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا،ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها)(1).
ـ وفقه أسماء الله تعالى وصفاته يوجب تحقيق الإيمان والعبادة لله وحده، وإفراده سبحانه (بالقصد والحبّ والتوكل وسائر العبادات، كما بيّن ذلك أهل العلم.
ولذا يقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)(2).
ويقول أيضاً: (ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر، ولذلك قال سبحانه: ((اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً)) ]الأحزاب:41[
ويقول ابن القيم ـ في هذا الصدد ـ:
( لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرّب جلّ جلاله ، ويعرفها معرفة تخرج عن حدّ الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان...)(3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
( إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها..
__________
(1) الحجة في بيان المحجة، جـ 1، ص 122.
(2) شجرة المعارف والأحوال، ص 1.
(3) مدارج السالكين، جـ 3، ص 347.(1/2)
بل حقيقة الإيمان أن يعرف الربّ الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين.
وبحسب معرفته بربه، يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك: تدبر صفاته وأسمائه من القرآن)(1).
والمقصود بالتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته: تحقيق العلم بها ابتداءً، وفقه معاني أسمائه وصفاته، وأن يعمل بها، فيتصف بالصفات التي يحبها الله (تعالى): كالعلم، والعدل، والصبر، والرحمة.. ونحو ذلك، وينتهي عن الصفات التي يكرهها الله (تعالى) من عبيده مما ينافي عبوديتهم لله (تعالى)، كالصفات التي لا يصح للمخلوق أن يتصف بها كالكبر والجبروت... فيجب على العبد ـ إزاءها ـ الإقرار بها والخضوع لها.
ومن العمل بها: أن يدعو الله (تعالى) بها؛ كما قال سبحانه : ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف: 180]، كما أن من العمل بها: تعظيمها وإجلالها، وتحقيق ما تقتضيه من فِعْل المأمورات وترك المحظورات.
يقول ابن تيمية: (إن من أسماء الله تعالى وصفاته ما يُحمد العبد على الاتصاف به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك، ومنها ما يذم العبد على الاتصاف به كالإلهية والتجبر والتكبر، وللعبد من الصفات التي يُحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الربّ به كالعبودية والافتقار والحاجة والذل والسؤال ونحو ذلك)(2).
__________
(1) تفسير السعدي، جـ 1، ص 24.
(2) الصفدية، جـ 2، ص 338.(1/3)
وقال ابن القيم: (لما كان سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته كان أحبّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه: من اتصف بالصفات التي يكرهها، فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لأن اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودية)(1).
وقال الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لحديث ( لله تسعة وتسعون اسماً - مائة إلا واحداً - من أحصاها دخل الجنة)(2):
( وقيل: معنى أحصاها: عمل بها، فإذا قال: (الحكيم)، مثلاً، سلّم جميع أوامره، لأن جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال: (القدوس)، استحضر كونه منزهاً عن جميع النقائص، وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل. وقال ابن بطّال: طريق العمل بها: أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم: فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده، فليمرًن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله (تعالى) كالجبار والعظيم فيجب على العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد: نقف منه عند الخشية والرهبة)(3).
__________
(1) طريق الهجرتين، ص 129.
(2) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب 12، وكتاب الشروط، باب 18، وكتاب الدعوات، باب 68.
(3) فتح الباري، جـ 11، ص 229.(1/4)
ومما يستحق تقريره - هاهنا - أن تلازماً وثيقاً بين إثبات الأسماء والصفات لله تعالى وبين توحيد الله تعالى بأفعال العباد، فكلما حقّقَ العبد أسماء الله وصفاته علماً وعملاً، كلما كان أعظم وأكمل توحيداً، وفي المقابل فإن هناك تلازماً وطيداً بين إنكار الأسماء أو الصفات وبين الشرك.
يقول ابن القيم ـ في تقرير هذا التلازم ـ: (كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله ـ أو بعضه ـ وظن السوء به، لما أشرك به، كما قال إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه: ((أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ)) [الصافات: 86، 87] أي: فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟، وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك؟، أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟... والمقصود أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه، فلا تجد معطلاً إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقلّ ومستكثرٌ)(1).
ونورد أمثلة في توضيح هذا التلازم والصلة بين توحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات.
ـ فالدعاء ـ مثلاً ـ هو آكد العبادات وأعظمها, فالدعاء هو العبادة كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو لا ينفك عن إثبات وفقه أسماء الله (تعالى) وصفاته.
ويشير ابن عقيل إلى هذه الصلة بقوله: (قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ:
أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى.
الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى.
الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى.
الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى.
الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى.
__________
(1) مدارج السالكين، جـ 3، ص 347، باختصار.(1/5)
السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى)(1).
والتوكل على الله تعالى وحده شرط في الإيمان، وأجلّ العبادات القلبية، ولا يتحقق التوكل إلا بمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته.
وقد وضح ذلك ابن القيم بقوله:( ولا يتم التوكل إلا بمعرفة الربّ وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، قال شيخنا - ابن تيمية - (رحمه الله): ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأن يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة لصفات الربّ جلّ جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، ولا يقوم به صفة؟ فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح وأقوى، والله سبحانه وتعالى (أعلم)(2).
وحسن الظن بالله والثقة به تعالى عبادة جليلة تقوم على فقه أسماء الله وصفاته، كالحكمة والقدرة..، كما أن سوء الظن بالله من آثار إنكار أسماء الله تعالى وصفاته.
يقول ابن القيم: (وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وأسماءه وصفاته، و موجب حكمته وحمده.
ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تَعنتاً على القدَر وملامة له... وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم ؟)(3).
__________
(1) شرح الطحاوية، جـ 2، ص 678.
(2) مدارج السالكين، جـ 2، ص 117.
(3) زاد المعاد، جـ 3، ص 229ـ235، بتصرف، وانظر: كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب، باب قوله(تعالى): ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ)).(1/6)
ـ وأشار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى أن أصول العبادة الثلاثة (الحبّ، والرجاء، والخوف) من آثار وثمرات التعبد بأسماء الله وصفاته، فقال ـ في مسائل ذكرها في تفسير سورة الفاتحة ـ: (أركان الدين: الحب، والرجاء، والخوف، فالحب في الأولى، وهي ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ))، والرجاء في الثانية، وهي ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، والخوف في الثالثة، وهي ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)))(1).
ـ إذا ظهر بهذه الأمثلة مدى التلازم الوثيق بين صفات الله (تعالى) وما تقتضيه من العبادات الظاهرة والباطنة، فيمكن أن نخلص إلى ما حرره ابن القيم بقوله:
( لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني: من موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح، فعلم العبد بتفرد الرب (تعالى) بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوزام التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه (تعالى) وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء... وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة، هي موجباتها.. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات)(2).
__________
(1) تاريخ ابن غنام، جـ 2، ص 360.
(2) مفتاح دار السعادة، جـ 2، ص 90 باختصار، وانظر: طريق الهجرتين، ص 43، ومدارج السالكين، جـ 1، ص 420، جـ 3، ص 351، والفوائد، ص 63.(1/7)
والتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته له آثاره الطيبة في حسن الخلق وسلامة السلوك، كما أن تعطيل أسماء الله (تعالى) وصفاته لا ينفك عن مساوئ الأخلاق ورديء السلوك.
ومثال ذلك: أن القدرية النفاة لما كانوا ينفون علم الله تعالى المحيط بكل شيء، ويزعمون أن العبد يخلق فعله نفسه، فالخير هو الذي أوجده العبد وخَلقه ـ على حدّ زعمهم ـ، ودخوله الجنة عوض عمله، فأورثهم ذلك غروراً وعُجباً، وكما قال أبو سليمان الداراني:
(كيف يعجب عاقل بعمله؟ وإنما يعدّ العمل نعمة من الله، إنما ينبغي له أن يشكر ويتواضع، وإنما يعجب بعمله القدرية)(1).
ـ والتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته سبب رئيس في السلامة من الآفات: كالحسد، والكبر، كما قال ابن القيم: (لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لم يتكبر ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته...)(2).
ـ والتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته يثمر الموقف الصحيح تجاه المكروهات والمصائب النازلة؛ فإن الإنسان ظلوم جهول، والله (تعالى) بكل شيء عليم، وهو (سبحانه) حَكَمٌ عدْل، ولا يظلم (تعالى) أحداً، قال (سبحانه) : ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 216]
يقول ابن القيم: (من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيما يحب...)(3).
__________
(1) حلية الأولياء، لأبي نعيم، جـ 9، ص 263.
(2) الفوائد، ص 150.
(3) السابق، ص 85.(1/8)
ويقول أيضاً: (.. فكل ما تراه في الوجود ـ من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك ـ فهو من قيام الرب (تعالى) بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلط له أعدل العادلين، كما قال (تعالى) لمن أفسد في الأرض: ((بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَاًسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ )) [الإسراء: 5](1).
وفي ختام هذه المقالة نسوق أمثلة من أسماء الله (تعالى)، وبيان معانيها وما تقتضيه من العبادات، يقول قوام السنة الأصفهاني ـ أثناء حديثه عن اسم الله (تعالى) (الرزاق) ـ:
( الرزاق: المتكفل بالرزق، والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وَسِعَ الخلقَ كلهم رزقُه، فلم يخص بذلك مؤمناً دون كافر، ولا وليّاً دون عدو، ويرزق مَنْ عبده ومَنْ عبد غيره، والأغلب من المخلوق أن يرزق فإذا غضب منع، حكي أن بعض الخلفاء أراد أن يكتب جِراية لبعض العلماء، فقال: لا أريده، أنا في جراية من إذا غضب عليّ لم يقطع جرايته عني، قال الله (تعالى): ((وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإيَّاكُمْ))[العنكبوت: 60]، والمخلوق إذا رزق، فإنه يفنى ما عنده فيُقْطعُ عطاؤه عمن أفضل عليه، فإن لم يفن ما عنده فني هو وانقطع العطاء، وخزائن الله لا تنفد وملكه لا يزول..)(2).
__________
(1) مدارج السالكين، جـ 1، ص 425.
(2) الحجة في بيان المحجة، جـ 1، ص 138، وانظر: الأسنى للقرطبي، جـ 1، ص 284.(1/9)
ـ ولما ذكر القرطبي من أسماء الله (تعالى) (الحفيظ) محتجّاً بقوله (تعالى): ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ)) [الشورى: 6]، قال: (يجب على كل مكلف أن يعلم أن الله هو الحافظ لجميع الممكنات، وأعظم الحفظ: حفظ القلوب وحراسة الدين عن الكفر والنفاق وأنواع الفتن وفنون الأهواء والبدع؛ حتى لا يزلّ عن الطريقة المثلى، قال (تعالى): ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)) [ابراهيم: 27].
ويجب علينا حفظ حدوده، وحفظ ما وجب علينا من حقوقه، فيدخل في ذلك: معرفة الإيمان والإسلام وسائر ما يتعيّن علينا علمه..)(1).
ومن إشراقات ابن القيّم التي سطرها أثناء حديثه عن اسمي الله (تعالى): (الأول) و(الآخر) ـ مايلي:
( من عبد الله (تعالى) باسمه (الأول) و (الآخر) حصلت له حقيقة هذا الفقر [توجه القلب إلى الله وحده في جميع الأحوال]. فإن عبوديته باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد.
وعبوديته باسمه (الآخر) تقتضي أيضاً عدم ركونه للأسباب، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر) (سبحانه) تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلّق به حقيق أن لا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به)(2).
2- الآثار السلوكية لتوحيد العبادة
توحيد العبادة أول واجب على المكلفين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام وهو الذي خلق الله الخلق لأجله وشرع الجهاد لإقامته وجعل الثواب لمن حققه والعقاب لمن تركه .
__________
(1) الأسنى، شرح أسماء الله الحسنى، جـ 1، ص 311.
(2) طريق الهجرتين، ص 19، باختصار .(1/10)
وهذا التوحيد هو توحيد الله بأفعال العباد وذلك بأن تصرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له قال تعالى:( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)(1).
وهذه المقدمة محل اتفاق بين أهل السنة، فأنت ترى في واقعنا- معشر أهل السنة- فهماً لهذا المعنى السالف، لكن من الأخطاء التي نرتكبها أثناء تعلُّم أو تعليم توحيد العبادة عدم الالتفات إلى آثار ولوازم هذا التوحيد من سلوك شرعي وخلق إسلامي.
فالكثير من إخواننا أهل السُنة يظنون أنهم حققوا هذا التوحيد مع وقوعهم في جملة من السلوكيات والأخلاق التي تخالف لوازم هذا التوحيد، فيدعي أحدهم أن توحيده في غاية الصحة والكمال، وإن وقع في تلك الانحرافات والمخالفات.
وقد بيّن أهل العلم الربانيون وجوب فعل المأمورات وترك المحظورات، وأن ذلك من لوازم التوحيد ومقتضياته، وأن الوقوع في فعل المحرمات وترك الواجبات يؤول إلى خلل في التوحيد, فالمعاصي بريد الكفر.
يقول ابن القيم رحمه الله :(التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدسنه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر، و كالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسَّر عليه قلعه)(2).
__________
(1) سورة البقرة , الآية:163.
(2) الفوائد ص 184.(1/11)
ويقرر ابن القيّم أن من قوي توحيده فحقق معنى لا إله إلا الله؛ فإنه يخلص من الشهوات والشبهات، فيقول:( كلما عظم نور هذه الكلمة- لا إله إلا الله - وأشتدّ أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى أنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معه شبة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حُرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرَّة وغفلة لابد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه، أو حصَّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولَّى الباب ظهره)(1).
وعندما يصر الكثير من المسلمين على فعل المعاصي ظانين أن ذلك لا يخدش توحيدهم، وأنهم لم يشركوا بالله شيئاً، فإن ابن القيم يقول في الرد على هؤلاء -أثناء توضيحه لمعنى الحديث القدسي- :(يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة )(2).
(اعلم أن هذا النفي العام للشرك- أن لا يشرك بالله شيئاً ألبتة- لا يصدر من مُصرّ على معصية أبداً، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصرّعلى الصغيرة أن يصفوا له التوحيد، حتى لا يشرك بالله شيئاً. هذا من أعظم المحال . ولا يُلتفت إلى جدليّ لاحظّ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى، يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟.
__________
(1) مدارج السالكين 1/330 , وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/524 , وكلمت الإخلاص لابن رجب ص 19- 26.
(2) أخرجه أحمد 5/ 154 , والترمذي (3534), والدرامي (2791) .(1/12)
فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، و رجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمساً في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل، فإن ذلّ المعصية لابد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله، وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك)(1).
ولعل السبب في هذه الفجوة بين التوحيد وبين لوازمه السلوكية والأخلاقية ما نسلكه في تعلمنا أو تعليمنا لهذا الموضوع الجليل من الفصل بين التوحيد وبين لوازمه ومقتضياته بحجة أن هذا علم التوحيد, وتلك اللوازم تتعلق بعلم السلوك والأخلاق , مما يؤدي إلى عرض التوحيد بعيداً عن آثاره العملية ومقتضياته السلوكية.
إن هذا العرض الناقص أورث -كما سبق ذكره- جملة من الآثار السلبية المشاهَدة من التهاون في فعل المحرمات وترك الواجبات , وهذا يذكِّرنا بما أورثه مسلك الإرجاء في باب الإيمان من الجرأة على انتهاك المحارم والتعدي على حدود الله تعالى ؛ لأن الإيمان عند المرجئة هو التصديق , والعمل خارج مسمى الإيمان , ومن ثم يتعين تقرير التلازم بين الباطن والظاهر , والتوحيد والسلوك , كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد , ألا وهي القلب)(2), فلا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن(3).
__________
(1) مدارج السالكين 1/326 , 327.
(2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) انظر : مجموع الفتاوى لابن 18/272، 7/645، الأصفهانية ص 142.(1/13)
كما أن إهمال تلك الجوانب العملية وإغفالها صيّر هذا التوحيد مجرد جوانب معرفية فقط , مع أن توحيد العبادة هو توحيد الإرادة والطلب , فهو تعلق القلب بالله تعالى , ومحبة الله تعالى وإجلاله وتعظيمه , فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة وخضوعاًَ وخوفاًَ ورجاءً.
فكما أن الإيمان ليس تصديقاً فحسب , فكذا التوحيد ليس توحيداً خبرياً علمياً فحسب , فالواجب أن نحقق التوحيد العملي – توحيد العبادة – بلوازمه ومقتضياته.
وبعد هذه التوطئة المهمة أذكر جملة من الآثار السلوكية والتي تعد من لوازم توحيد العبادة ومقتضياته , وللقارئ الكيِّس أن يُعنى بها , فإن كانت متحققة في واقعه فهذا هو المقصود , وإن كانت الأخرى فعليه بالمجاهدة وصدق الإنابة إلى الله تعالى.
فمن الآثار السلوكية لهذا التوحيد: العفاف والطهاة من الفواحش والقاذورات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: ( ولهذا لما كان يوسف عليه الصلاة والسلام محباً لله تعالى مخلصاً له الدين لم يُبْتلَ بذلك , بل قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(1). وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها , فلهذا ابتليت بالعشق , وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه , وإلا فالقلب المنيب إلى الله تعالى يصرف عن العشق)(2).
ويقول العلامة عبد الرحمن السعدي:
(
__________
(1) سورة يوسف الآية :24.
(2) مجموع الفتاوى 10/135 , وانظر : 10/593 – 597.(1/14)
من دخل الإيمان قلبه , وكان مخلصاً لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وصدق إخلاصه , من أنواع السوء والفحشاء , وأسباب المعاصي , ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه , لقوله تعالى: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) على قراءة من قرأها بكسر اللام(1). ومن قرأها بالفتح , فإنه من إخلاص الله إياه , وهو متضمّن لإخلاصه هو بنفسه , فلما أخلص عمله لله , أخلصه الله , وخلصه من السوء والفحشاء)(2).
يقول ابن القيم في هذا الصدد: (أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة : تعلق القلب بغير الله , وطاعة القوة الغضبية , والقوة الشهوانية , وهي الشرك والظلم والفواحش . . ولهذا جمع الله بين الثلاثة في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)(3)وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض , فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش , كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه , قال تعالى : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(4)فالسوء العشق , والفحشاء الزنا . . ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيداً وأعظم شركا ً كان أكثر فاحشة وأعظم تعلقاً بالصور وعشقاً لها)(5).
__________
(1) وهي قراءة ثابتة مشهورة . انظر: تفسير الطبري 12/191,و تفسير ابن الجوزي 4/210.
(2) تفسير السعدي 4/72.
(3) سورة الفرقان, الآية :68.
(4) سورة يوسف, الآية :24.
(5) الفوائد ص 74, 75 باختصار.(1/15)
وقد أشار الحسن البصري رحمه الله إلى هذا التلازم , فقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته : ما أعددت لهذا اليوم؟ قال الفرزدق : شهادة أن لا اله إلا الله منذ ستين سنة , قال الحسن : نعم العدة , لكن لـ (لا اله إلا الله ) شروطاً , فإياك وقذف المحصنة(1).
ولما سئل الجنيد رحمه الله : بم يستعان على غض البصر؟ فقال: (بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إليه)(2)
ومن الجوانب السلوكية الناشئة عن هذا التوحيد : سلامة الصدر من الغل والحسد , كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : (نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فبلّغها , فرُبّ حامل فقه غير فقيه , وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لايغلُّ عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله , والنصح لأئمة المسلمين , ولزوم جماعتهم )(3).
فهذه الخلال يصتصلح بها القلوب فمن تمسَّك طهُر قلبه من الغلّ والحسد(4).
__________
(1) انظر: آداب حسن البصري لابن الجوزي ص 48, وكلمة الإخلاص لابن رجب ص10 .
(2) انظر: كلمة الإخلاص لابن رجب ص46 .
(3) أخرجه أحمد 5/183, والترمذي (2658), وابن ماجه (243) , انظر مرويات هذا الحديث في كتاب دراسة حديث ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي) رواية ودراية لعبدالمحسن العبّاد .
(4) انظر : مدارج السالكين 2/90 , ودراسة حديث ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي) لعبدالمحسن العبّاد ص191.(1/16)
وفي المقابل فإن التوحيد سبب في دفع شر الحساد وأذاهم , وكما قال ابن القيّم: (فإذا جرَّد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ماسواه , وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله , بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه , وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه , وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً واشتغالاً به عن غيره , فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده , وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل , والله يتولى حفظه والدفاع انه , فإنه الله يدافع عن الذين آمنوا)(1).
وكما قيل : ( من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه , ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه)(2).
إن من تعلّق قلبه بالله وحده , وصارت غايته مرضاة ربه تعالى , وكانت الآخرة همه , فإنه يسلم من داء الحسد , فإن منشأ الحسد حبُّ الدنيا , فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين , وأما الآخرة فلا ضيق فيها(3)...
ومن الآثار السلوكية للتوحيد: الشجاعة والإقدام , فكلما زاد وعظم توحيد الله تعالى في نفس العبد , كلما زاد شجاعة وإقداماً. ولما كان الخليلان – نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وإبراهيم عليه السلام – أعظمَ الناس توحيداً , فكان في غاية الشجاة والإقدام .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس , وكان أجود الناس , وكان أشجع الناس , ولقد فزع الناس ذات ليلة , فانطلق ناس قبل الصوت , فتلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً , وقد سبقهم إلى الصوت , وهو على فرس لأبي طلحة عُرى , في عنقه السيف , وهو يقول: (لم تراعوا , لم تراعوا)(4).
__________
(1) بدائع الفوائد 2/274 , وانظر 2/269 .
(2) انظر كلمة الإخلاص لابن رجب ص32.
(3) مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن قدامة ص 188.
(4) أخرجه مسلم 2307 , وأصله في صحيح البخاري 2857.(1/17)
حسبك من شجاعة إبراهيم الخليل عليه السلام أنه تحدى النمرود , وكسر أصنام قومه , وقال لهم :( أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ)(1)
وقال لمناظريه من المشركين : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )(2).
وفي المقابل فإن الشرك سبب الرعب والخوف كما قال عز وجل: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)(3).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (وكذلك المشرك يخاف المخلوقين , ويرجوهم فيحصل له الرعب , كما قال تعالى :( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً). الخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)(4)وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هنا الظلم بالشرك(5).
وأشار الفضيل بن عياض رحمه الله إلى ذلك بقوله : من حاف الله لم يضره أحد , ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد .
وقال يحيى بن معاذ الرازي : على قدر خوفك من الله يهابك الخلق(6).
وقال يوسف بن أسباط : (من خاف الله خاف منه كل شيء )(7).
__________
(1) سورة الأنبياء, الآية: 67.
(2) سورة الأنعام , الآية : 81.
(3) آل عمران , الآية:151.
(4) سورة الأنعام, الآية:82.
(5) مجموع الفتاوى 10/257 , وانظر 28/35.
(6) حلية الأولياء 8/240 , وانظر صفة الصفوة 3/208.
(7) كشف الخفاء للعجلوني2/344.(1/18)
والاستغناء عن الناس من أعظم لوازم توحيد العبادة وآثاره , فمن توجه إلى الله تعالى بصدق الافتقار إليه , وتمام التعلق به , فلم يلتفت قلبه إلى ما سواى الله تعالى , فهو في غاية الاستغناء عن الناس , وأعظم الناس قدراًفي قلوبهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
( والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقار إليه وخضوعاً له , كان أقرب إليه , وأعزّ له , أعظم لقدره , فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله , وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره, واستعن عمن شئت تكن نظيره , وأحسن إلى من شئت تكن أميره.
فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه , فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم , ومتى احتجت إليهم – ولو في شربت ماء – نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم , وهذا من حكمة الله ورحمته , لكون الدين كله لله , ولايشرك به شيئاً .
فالربُّ سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه , والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم )(1).
ويقول أيضاً:
(إن اعتماده على المخلوق وتوكله يوجب الضرر من جهته , فإنه يُخذل من تلك الجهة , وهذا معلومٌ بالاعتبار والاستقراء , ما علَّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة , ولا استنصر بغير الله إلا خُذل , وقال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً{81} كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً{82}(2)(3).
ويقول في موضع ثالث :
(
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/39 , 40باختصار , وانظر : 1/29, 30, 10/598 .
(2) سورة مريم , الآيتان : 81,82.
(3) مجموع الفتاوى 1/29، وانظر 1/51 ، 10/650.(1/19)
ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه, ولا يستعين إلا به , ولا يتوكل إلا عليه , ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه , ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ... فكل ما قوي إخلاص دينه لله كمُلت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات)(1).
وقد بيّن سلفنا الصالح أن من استغنى عن الناس , فلم يحتج إليهم , وصار همّه وشغله مرضاة ربه تعالى وحده ؛ فإن الله يُحوج الناس إليه , ويجعلهم يُقبلون عليه , فتُقضى حاجته ومطالبه , وذلك فضل الله تعالى , والله ذو الفضل العظيم.
وقال مجاهد رحمه الله تعالى : (وإن العبد إذا أقبل على الله تعالى , أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه)(2).
وقال سفيان بن عيينة: (من استغنى بالله أحوجَ الله إليه الناس)(3).
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (على قدر شغلك بأمر الله تعالى تشتغل في أمرك الخلق)(4).
ويقول ابن القيم: (إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده , تحمل الله حوائجه كلها , وحمل عنه كل ما أهمه , وفرغ قلبه لمحبته , ولسانه لذكره, وجوارحه لطاعته.إن أصبح أمسى الدنيا همه , حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها , ووكَله إلى نفسه , فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق , ولسانه عن ذكره بذكرهم , وجوارح عن خدمته بخدمتهم وأشغالهم , فهو يكدح كَدْحَ الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره . فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته , بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته )(5).
3- عبودية الله تعالى
قواعد ومسائل
هذه جملة قواعد ومسائل مستفادة من كلام أهل العلم في موضوع عبودية لله تعالى.
__________
(1) مجموع الفتاوى 10/198.
(2) الزهد للإمام أحمد ص 378, وعزاه أبو نعيم في الحلية لمحمد بن واسع 2/345.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 2/32.
(4) كشف الخفاء للعجلوني 2/344.
(5) الفوائد ص77.(1/20)
إن جميع الرسل عليهم السلام - من أولهم إلى آخرهم - دعوا إلى عبادة الله - تعالى - وحده لا شريك له: ((يقومِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف: 59] كما أن الله - عز وجل - قد جعل العبودية وصفاً لأكمل خلقه وأقربهم إليه فقال - سبحانه: ((لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعاً)) [النساء: 172].
ووصف الله تعالى أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال تعالى: ((تَبَارَكَ الَذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)) [الفرقان: 1]، وقال - سبحانه: ((سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا )) [الإسراء: 1].
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إحسان العبودية أعلى مراتب الدين، وهو الإحسان، فقال في حديث جبريل - وقد سأله عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أخرجه مسلم(1).
يمكن أن نخلص من خلال هذه المقدمة إلى قاعدة، وهي: أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى ، فأكرم ما يكون العبد عند الله تعالى كلما كان أعظم عبادة وخضوعاً لله - عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: (كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله - تعالى -، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته)(2).
__________
(1) انظر: العبودية لابن تيمية، ص 40 ـ 43، ومدارج السالكين 1/101 ـ 103.
(2) العبودية، ص 80.(1/21)
ويقول في موضع آخر: (والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتجْ إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره. فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله ولا يُشرَك به شيء)(1).
وها هنا قاعدة أخرى، وهي أن حاجة الإنسان وضرورته إلى عبادة الله - تعالى - فوق كل حاجة وضرورة.
يقول ابن تيمية - في هذا الصدد: (اعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها، الله الذي لا إله إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذّات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، و يتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال وتارة أخرى يكون ذلك الذي تنعم به والتذ به غير منعم له ولا ملتذ به، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنه، ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه)(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى، 1/39.
(2) مجموع الفتاوى، 1/24، 25، وانظر مجموع الفتاوى، 28/32.(1/22)
ويقول ابن القيم - مقرراً تلك الحاجة: (اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة القلب روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره.. ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها)(1).
وأما عن تعريف العبادة، فالعبادة لغةً: من الذلّ، يقال: بعير معبّد، أي مذلل.
وقد تنوّعت أقوال العلماء في تعريف العبادة:
فقال ابن جرير: (معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة)(2)، وفسّر ابن عباس - رضي الله عنهما - العبادة بالتوحيد(3).
وقال القاضي أبو يعلى: (حقيقة العبادة هي الأفعال الواقعة لله - عز وجل - على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد)(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)(5).
وفصّل ابن القيم التعريف السابق بقوله: (وبنى (إياك نعبد) على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح. فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب (إياك نعبد) حقاً هم أصحابها، فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله - سبحانه - به عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
__________
(1) طريق الهجرتين، ص 57.
(2) تفسير ابن جرير، 1/160.
(3) انظر تفسير ابن جرير، 1/160.
(4) المعتمد في أصول الدين، ص 103.
(5) العبودية، ص 38.(1/23)
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه والذبّ عنه وتبين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكر وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى أقداره، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك)(1).
وقال بعضهم: (العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطِّراد عرفي ولا اقتضاء عقلي)(2).
وبالنظر إلى هذه التعريفات المتعددة فإن الخلاف بينها يكاد أن يكون من خلاف التنوع؛ وذلك أن العبادة قائمة على أصلين كبيرين، وهما: غاية الخضوع وكماله، وغاية الحبّ وكماله. فعرّف ابن جرير وأبو يعلى العبادة بالخضوع - والسلف قد يعرِّفون الشيء ببعض أفراده - ومرادهم بالخضوع هاهنا ما كان مقترناً بالمحبة والتعظيم كما هو ظاهر عبارة أبي يعلى في قوله: (نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع) فنهاية الخضوع وكماله لا تتحقق إلا بالمحبة والتعظيم.
وأما ابن تيمية وابن القيم فقد عرّفا العبادة بما يحبه الله ويرضاه باعتبار أن العبادة هي أعلى مراتب الحبّ.. ولذا يقول ابن تيمية: (فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، وخَلقَ خلقه لأجلها، هي ما في عبادته وحده لا شريك له؛ إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل)(3).
__________
(1) مدارج السالكين، 1/100، 101 باختصار يسير.
(2) مجموعة التوحيد (رسالة في تعريف العبادة لأبي بطين)، ص 400.
(3) قاعدة في المحبة (ضمن جامع الرسائل)، 2/196، وانظر مدارج السالكين، 3/28.(1/24)
وأما تعريف ابن عباس - رضي الله عنهما - للعبادة بالتوحيد، فهو اعتبار العبادة المقبولة، فلا تقبل العبادة عند الله - تعالى - إلا بتحقيق التوحيد، وأما العبادة من حيث هي فهي أعم من كونها توحيداً عاماً مطلقاً، فكل موحد عابد لله - تعالى -، وليس كل من عبد الله - تعالى - يكون موحداً(1).
وأما من عرّف العبادة بما أمر به شرعاً من غير اطِّراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، فهو باعتبار أن الشرع هو مورد العبادة وضابطها، فلا تخضع العبادة لاطراد العرف، بل قد تكون مضادة لعوائد وأعراف، كما أن العبادة لا تخضع لاقتضاء العقل واستحسانه؛ فمن العبادات الشرعية ما تكون محيّرة للعقول , والله أعلم.
ومن قواعد هذا الموضوع: الحبّ الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حبّ لا يكون عبادة؛ فالعبادة ما يجمع كمال الأمرين: كمال الحبّ وغايته، وكمال الذلّ وغايته.
يقول ابن تيمية: (من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحبّ شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحبّ الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله - تعالى -، بل يجب أن يكون الله أحبّ إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله)(2).
ويقول ابن القيّم: (والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع؛ فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له، لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً)(3).
ومن القواعد أيضاً: كل من استكبر عن عبادة الله - تعالى -، فلا بد أن يعبد غيره.
__________
(1) انظر مجموعة التوحيد، ص 401.
(*) أي غير مُدْرَكة حكمتها للعقول.
(2) العبودية، ص 44، وانظر مجموع الفتاوى، 10/19، 56.
(3) مدارج السالكين، 1/74.(1/25)
يقرر ابن تيمية ذلك بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله، كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله - تعالى -، ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود).
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه من إرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله)(1).
ويقول في موضع آخر : (وهكذا أهل البدع لا تجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئاً من السنة، كما جاء في الحديث: (ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها)(2).
وقد قال - تعالى: ((فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)) [المائدة: 14]، فلما تركوا حظاً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره، فوقعت بينهم العداوة والبغضاء، وقال تعالى: ((اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف: 3] فأمر باتباع ما أنزل، ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر.
وكذلك من لم يفعل المأمور، فعل بعض المحظور، ومن فعل المحظور، لم يفعل جميع المأمور، فلا يمكن لإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر)(3).
__________
(1) العبودية، ص 112 ـ 1114؛ بتصرف وتقديم.
(2) أخرجه أحمد، 4/105، ولفظه (ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة).
(3) مجموع الفتاوى (الإيمان) 7/173، 174؛ باختصار. وانظر اقتضاء الصراط المستقيم، 2/617، ومجموع الفتاوى، 29/329.(1/26)
ويقول ابن القيم - رحمه الله : (كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده، وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد، حتى في الأعمال، فمن رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن العمل لمن ضرّه ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتلي بالعمل لمن لا يملك له شيئاً من ذلك، وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم، وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة الخلق ولا بدّ، وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي، ابتلي بكناسة الآراء وزبالة الأذهان ووسخ الأفكار)(1).
ويؤكد العلاّمة عبد الرحمن السعدي هذه القاعدة قائلاً: (لما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكن الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذلّ لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل)(2).
ومن أجل مسائل هذا الموضوع: العبودية الباطنة والقيام بعبودية القلب؛ فإن أعمال القلب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت(3).
__________
(1) مدارج السالكين، 1/165، وانظر الفوائد، ص 27.
(2) تفسير السعدي، 1/18.
(3) انظر بدائع الفوائد لابن القيم، 3/230.(1/27)
وقد غفل الكثير من المسلمين عن فقه هذه العبادات وتحقيقها، وكان لاشتغالهم بالرسوم والمظاهر، وتأثرهم بالنزعة الإرجائية الكلامية أبلغ الأثر في إهمال أعمال القلوب وعبوديتها، فما أكثر من استُعبد قلبه لغير الله - تعالى - من الشهوات والملذات، فطائفة أشربت حبّ المال، وطائفة صار همها وشغلها المنصب والوظيفة والرياسة، وطائفة ثالثة تعلقت قلوبها بالنساء، وطائفة أخرى صار مقصودها سفاسف الأمور من مطعوم أو ملبوس أو مركوب، أو (كرة) أو عبث ولهو، أو (فن).
فعبد المال قد صار الدرهم والدينار هجيّراه؛ فهمّه ومقصوده المال، فلا يصبح ولا يمسي إلا وهمه المال، فمن أجله يوالي ويعادي، فإن أعطي رضي، وإن منع سخط.
لقد تحدث علماء السلف - رحمهم الله - عن عبودية القلب، فكان حديثاً عن علم وبصيرة وذوق وتحقيق.
ومن ذلك ما سطّره يراع شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: (إذا كان القلب - الذي هو ملك الجسم - رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسْر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.. فمن استُعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس) أخرجه الشيخان.
وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة، أو صبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب)(1).
__________
(1) العبودية، ص 96، 97، باختصار يسير. وانظر، ص 108.(1/28)
ويقرر ابن القيم هذه العبودية بقوله: (الإنابة هي عكوف القلب على الله - عز وجل -، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء لقومه: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)) [الأنبياء: 52] فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الربّ الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهي الصور الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهمهم وإراداتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبداً لها، ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش(1)(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير حديث 2887 والترمذي في الزهد 2375، وابن ماجة في الزهد 4136.
(2) الفوائد، ص 186.(1/29)
وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبودية القلب وأحوالهم فكان مما قال: (وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرَت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحبّ، قد أنساهم حبّه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حبّ من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همّه عليه متذكراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته. فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ قال: إي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة)(1).
__________
(1) طريق الهجرتين، ص 206، 207، وانظر، ص 305.(1/30)
ويشير ابن رجب إلى عبودية القلب قائلاً: (إن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألّه الله وحده، إجلالاً، وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحبّ شيئاً و أطاعه، وأحبّ عليه وأبغض عليه فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقاً، ومن أحبّ لهواه، وأبغض لهواه، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه)(1).
ونختم هذه المسألة الجليلة بمثال عملي سطّره الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث باع حماراً له، فقيل له: لو أمسكته! فقال: لقد كان لنا موافقاً، ولكنه أذهب بشعبة من قلبي، فكرهت أن أشغل قلبي بشيء(2).
فما أتم عبادة ابن عمر لله - تعالى -، و أكمل توحيده وعكوف قلبه على الله - عز وجل - فهو لما رأى التفاتاً تجاه هذا الحمار، بادر إلى بيعه والتخلص منه مع كونه موافقاً له.. فشتان بين هذا المقام الرفيع وبين من تفرّق قلبه في أودية الدنيا وملذاتها، فصارت جل شعب قلبه متعلقة بمال، أو امرأة، أو منصب ووظيفة، والله المستعان.
ومن أجلِّ قواعد هذا الموضوع: أن عبودية الله - تعالى - ملائمة لحقيقة الإنسان وجِبِلّته، ومستوعبة لمقاصده وأعماله.
__________
(1) جامع العلوم والحكم، 1/524.
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 195.(1/31)
وقد ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : (أصدق الأسماء حارث وهمّام)(1)فكل إنسان همام أي مريد ومفكر، وكل همام حارث أي صاحب عمل وكسب وسعي، وعبودية الله - تعالى - مناسبة للفطرة فتتسق وتتفق مع طبيعة الإنسان وحقيقته، وتستوعب كل نشاطه وحركته هماً وحرثاً(2).
وقد أكّد ابن تيمية هذا المعنى في غير موضع؛ فكان مما قاله: (العبد مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده؛ وهذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان).
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها، سواءاً كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا كان فقد يكون عاماً وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً، وسأل غير الله مطلقاً... وقد يكون خاصاً في المسلمين مثل من غلب عليه حبّ المال، أو حبّ شخص، أو حب الرياسة حتى صار عبد ذلك(3).
عبودية الشهوات
التعلق بالله ـ عز وجل ـ وقصده وإرادته هو أساس التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المستحق وحده أن يكون المقصود والمدعو والمطلوب.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: (إن الإله هو المقصود والمعتمد عليه، وهذا أمر هيّن عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من يعرفه)(4).
__________
(1) أخرجه أحمد، 4/345، وأبو داود والنسائي.
(2) مدارج السالكين، 1/165، وانظر الفوائد، ص 27.
(3) مجموع الفتاوى، 1/34، 35، باختصار. وانظر 1/21، وجامع الرسائل (قاعدة في المحبة)، 2/231.
(4) الدرر السنية، 2/21، وانظر: تاريخ ابن غنام 2/52، 298، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1/34.(1/32)
ومن لم يكن مقصوده وغايته الله ـ عز وجل ـ؛ فلا بد أن يكون له مقصود ومراد آخر يستعبده، كما وضّح ذلك ابن تيمية بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ـ تعالى ـ ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود.
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته؛ فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن له مراداً محبوباً يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله)(1).
والناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.
وهذه المقالة تتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير من الناس وعقولهم.
ولعل من المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط بين مسلك أهل الفجور والفواحش، ومسلك أصحاب الرهبانية والتشدد؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله ـ عز وجل ـ يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
__________
(1) العبودية ص112-114، بتصرف، وانظر: مجموع الفتاوى 10/185-187، والفوائد لابن القيم ص 186.(1/33)
يقول ابن القيم ـ مقرراً هذه الوسطية ـ: (لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً ـ فإن هواه لازم له ـ كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً...)(1).
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب.
فما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه؛ فيبقى مستغرقاً في تلك الصورة .. والقلب يغرق فيما يستولي عليه: إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور؛ والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقاً كما يغرق الغريق في الماء...)(2).
وقد قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: (من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا)(3).
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال ـ عز وجل ـ: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً)) [مريم: 59]؛ فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية.
__________
(1) روضة المحبين، ص11، وانظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص35.
(2) مجموع الفتاوى، 10/594، 595، بتصرف يسير.
(3) سير أعلام النبلاء 10/97.(1/34)
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: (اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل، ومنع لذّات في الآجل).
فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالباً، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل؛ فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع الشبهة باستعمال الأحوط في كف الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في العاقبة)(1).
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات ـ وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان ـ أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: (الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق)(2).
__________
(1) ذم الهوى، لابن الجوزي، ص36، باختصار.
(2) الفوائد، ص131.(1/35)
ومما يحسن ذكره هاهنا أن أعرابياً عشق امرأة , فطال به وبها الأمر , فلما التقيا وتمكن منها وصار بين شُعَبها , ذكر الدار الآخرة , فقال: والله إن امرءاً باع جنة عرضها السماوات والأرض بفتْر(1)بين رجليك لقليل البصر بالمساحة(2).
شهوة النساء
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس ـ عموماً ـ فإن المتأمل في أحوال المسلمين ـ فضلاً عمن دونهم ـ يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية وشبكات (الإنترنت)، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة، والله المستعان.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف المسلمين وأخلاقهم، قال ـ سبحانه ـ: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)). [النساء: 27]
ومما يجدر ذكره أن من أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، وإذا كان الشخص المولع بالدنيا لا يشبع من المال ـ كما في الحديث: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)(3)ـ، فكذلك الشخص المولع بشهوة الجنس بدون ضابط أو رادع لا يقف ولا يرعوي.
__________
(1) الفتر: ما بين طرف الإبهام زطرف السبابة بالتفريج المعتاد. انظر: المصباح المنيرص552.
(2) ذم الهوى لابن الجوزي
(3) أخرجه مسلم في الذكاة (1049)، والترمذي في المناقب (3793) و (3898).(1/36)
يقول الشيخ علي الطنطاوي: (لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا، أكتبها بالقلم العريض، ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً)(1).
وجاء في الأدب الكبير، لابن المقفع(2): (اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه).
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء)(3).
قال الإمام طاووس عند قوله: ((وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً)) [النساء: 28]، (إذا نظر إلى النساء لم يصبر)(4).
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء، وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء)(5).
وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق النساء.
__________
(1) فتاوى علي الطنطاوي، ص146، وانظر: صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص261.
(2) ص 97-99 باختصار.
(3) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 274، 2741. والترمذي في الأدب 2780.
(4) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي ص179، وروضة المحبين، ص 203.
(5) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص178، وروضة المحبين ص 197.(1/37)
فأما الحكاية الأولى:
فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: (بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة)(1).
أما الحكاية الثانية:
ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
(
__________
(1) ذم الهوى، ص 409.(1/38)
وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم ـ قبحه الله ـ ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله: ((رُّبَمَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2)ذَرْهُمْ يَاًكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) [الحجر: 2، 3] وقد صار لي فيهم مال وولد)(1).
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها: سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا)(2).
قال ابن القيم: (ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان)؛ وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنجشة حاديه: (يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير)(3)يعني النساء.
(
__________
(1) البداية، 11/64.
(2) انظر: إغاثة اللهفان، 1/369.
(3) أخرجه البخاري ومسلم.(1/39)
أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا)(1).
ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم، فكم من نظرة إلى صورة جميلة ـ في السوق أو في شاشة أو مجلة ـ أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: (إذا خاف الفتنة لا ينظر، كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلابل)(2).
يقول ابن الجوزي محذراً من إطلاق البصر: (اعلم ـ وفقك الله ـ أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها فيجول فيها الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال الله ـ تعالى ـ: ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)) [النور: 30]. ((وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) [النور: 31]. ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله: ((وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)) [النور: 30]، ((وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) [النور: 31])(3).
__________
(1) إغاثة اللهفان، 1/370، 371.
(2) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص116.
(3) ذم الهوى، ص106.(1/40)
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن النظر المحرم وما يؤول إليه من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله ـ تعالى ـ فكان مما قاله: (وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة.
بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال ـ تعالى ـ: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أََندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة: 165]، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله ـ تعالى ـ إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين)(1).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وقد جعل الله ـ سبحانه ـ العين مرآة القلب فإذا غضّ العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته).
ـ إلى أن قال ـ والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهُل علاجه، وإن كرر النظر ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن)(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى، 15/292، 293.
(2) روضة المحبين، ص92، 94، 95، باختصار يسير.(1/41)
ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال؛ فإن هذا الاختلاط أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى ـ عليه السلام ـ وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات)(1).
وها هنا أمر مهم بنبغي التنبيه عليه، وهو أن الولع والانكباب على الشهوات سببه ضعف التوحيد، فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً وأقل إخلاصاً لله ـ تعالى ـ كان أكثر فاحشة وشهوة(2).
__________
(1) الطرق الحكمية، ص259.
(2) الفوائد، لابن القيم، ص75.(1/42)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في هذه المسألة ـ: (وهذا [اي العشق والشهوات] إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال الله ـ تعالى ـ في حق يوسف ـ عليه السلام ـ: ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ)) [يوسف: 24] فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت ـ مع تزوجها ـ فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف ـ عليه السلام ـ مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له، تحقيقاً لقوله: ((لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ)) [ص: 82، 83]، قال ـ تعالى ـ: ((إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ)) [الحجر: 42] والغي هو اتباع الهوى(1).
إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا والآخرة.
وأشار ابن الجوزي إلى تنوع هذه العقوبات فقال: (اعلم أن العقوبة تختلف: فتارة تتعجل، وتارة تتأخر، وتارة يظهر أثرها، وتارة يخفى. وأطرف العقوبات ما لا يحس بها المعاقَب، وأشدها العقوبة بسلب الإيمان والمعرفة، ودون ذلك موت القلب ومحو لذة المناجاة منه، وقوة الحرص على الذنب ونسيان القرآن، وإهمال الاستغفار، ونحو ذلك مما ضرره في الدين. وربما دبّت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة، إلى أن يمتلئ أفق القلب، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا، وربما كانت عقوبة النظر في البصر. فمن عرف لنفسه من الذنوب ما يوجب العقاب فليبادر نزول العقوبة بالتوبة الصادقة عساه يرُدّ ما يَرِد)(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى، 15/421.
(2) ذم الهوى، ص217.(1/43)
وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله: (فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب)(1).
وقال أيضاً: (ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب؛ فإن الشهوة توجب السّكْر، كما قال ـ تعالى ـ عن قوم لوط: ((إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)) [الحجر: 72]، وفي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر) الحديث إلى آخره. فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث كالنظر والاستماع والمخاطبة، ومنهم من يرتقي إلى اللمس والمباشرة، ومنهم من يقبّل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله ـ عز وجل ـ أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره)(2).
وتحدّث ابن القيم ـ في غير موضع ـ عن مفاسد الزنا وما يحويه من أنواع الشرور... فكان مما قاله ـ رحمه الله ـ: (والزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله...
__________
(1) مجموع الفتاوى، 10/187.
(2) مجموع الفتاوى، 15/288، 289.(1/44)
ومن موجباته: غضب الرب بإفساد حرمة عياله، ومنها: سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره... ومنها أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أن يسلبه أحسن الأسماء ويعطيه أضدادها. ومنها ضيق الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضدّ قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط)(1).
وقال في موضع آخر: (واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب المعلّق بالحرام، كلما همّ أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا...
وفي بعض طرق حديث سَمُرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما، فإذا بيت مبني على مثل بناء التنور أعلاه ضيّق وأسفله واسع، يوقد تحته نار، فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا أخمدت رجعوا فيها، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هم الزناة). فتأمل مطابقة هذا الحديث لحال قلوبهم في الدنيا؛ فإنهم كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور الشهوة إلى فضاء التوبة أُركِسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون)(2).
وقال في موضع ثالث: (وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر معشار من يفعله نادراً في الأحيان)(3).
__________
(1) روضة المحبين، ص360.
(2) روضة المحبين، ص442.
(3) روضة المحبين، ص470.(1/45)
ومما ذكره الشيخ محمد الخضر حسين ـ رحمه الله ـ في مفاسد البغاء: (في البغاء فساد كبير، وشر مستطير: يفتك بالفضيلة، يدنس الأعراض، يعكر صفو الأمن، يفصم رابطة الوفاق، يبعث الأمراض القاتلة في الأجسام، وأي حياة لجماعة تضيع أخلاقها وتتسخ أعراضها، ويختل أمنها، وتدب البغضاء في نفوسها، وتنهك العلل أجسامها؟)(1).
وفي ختام الحديث عن هذه الشهوة نورد علاجها وسبيل النجاة منها، وقد بسط أبو الفرج ابن الجوزي في (ذم الهوى) وابن القيم في (روضة المحبين) الحديث عن العلاج، وأطنبا في وصفه وتشخيصه، وتميّز ابن الجوزي بإيراد علاج لكل مرحلة من مراحل هذه الشهوة، فجعل للنظر المحرم علاجاً، وجعل للخلوة بالنساء علاجاً وهكذا. وأما ابن القيم فقد ساق خمسين وسيلة في علاج هذه الشهوة على سبيل الإجمال والعموم.
ومما سطّره يراع أبي الفرج ابن الجوزي في هذا المقام: (واعلم أن أمراض العشق تختلف، فينبغي لذلك أن يختلف علاجها؛ فليس علاج من عنده بداية المرض كعلاج من انتهى به المرض نهايته، وإنما يُعالج من هذا المرض من لم يرتقِ إلى غايته؛ فإنه إذا بلغ الغاية أحدث الجنون والذهول، وتلك حالة لا تقبل العلاج)(2).
وقال أيضاً: (فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشاً متمكناً؛ وعلامة ذلك: امتلاء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حالاّ في الصدر، وكأنه يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة، فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل المطلوب، وكفى بالطمع مرضاً، وقلّ أن يقع الفسق إلا في المطموع فيه؛ فإن الإنسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبه يتعلق بها؛ لأجل اليأس من مثلها. فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه، ويعذّبه إن لم يدركه..
__________
(1) رسائل الإصلاح، ص23.
(2) ذم الهوى، ص 498.(1/46)
وعلاج هذا المرض: العزم القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه)(1).
وقال في موضع ثالث: (ومما يُداوى به الباطن أن تفكّر، فتعلم أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأعمل فكرك في عيوبه تسلُ؛ فإن الآدمي محشوّ بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً.
ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مناتنها)(2).
وأما ما حرّره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات، فنختار منها بضعة حلول ومن ذلك قوله:
(التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ(3)
(أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاّ، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبرهم؛ فهم أذل الناس بواطنَ، قد جمعوا بين خصلتي الكبر والذل)(4).
(أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه)(5).
(
__________
(1) ذم الهوى، ص 501، 502، باختصار يسير، وانظر ص 537.
(2) ذم الهوى، ص 546، 547، باختصار يسير.
(3) روضة المحبين ص 472.
(4) المرجع السابق، ص473.
(5) المرجع السابق 474.(1/47)
إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفّار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك. وسمعت شيخنا ابن تيمية يقول: (جهاد النفس أصل جهاد الكفّار والمنافقين؛، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم)(1).
(إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفّقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق)(2).
(إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله ـ تعالى ـ كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً.. وتأمل قول الخليل: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)) [الأنبياء: 52]، كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله ـ تعالى ـ)(3).
(إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يُعذّب به في قلبه كما قال القائل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها ... عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
__________
(1) المرجع السابق، 478.
(2) المرجع السابق 479.
(3) المرجع السابق، ص481، 482.(1/48)
فلو تأملت حال كل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله ـ سبحانه ـ الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه)(1).
وبالجملة: فإنه ما من داء إلا وله دواء عَلِمه من علمه، وَجهِله من جهله، والمتعيّن على من ابتلي بشيء من هذه الشهوات أن يبادر إلى أسباب النجاة ووسائلها.. بالعزيمة الصادقة، والصبر والمصابرة، وعلو الهمة والاشتغال بمعالي الأمور والابتعاد عن سفاسفها، والمجاهدة في ذات الله ـ تعالى ـ، ونهي النفس عن الهوى وإصلاح الخواطر والإرادات، وصحبة الصالحين، ودوام التضرع إلى الله ـ تعالى ـ والانكسار بين يديه سبحانه.
* * *
شهوة المال
استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به، فاستعبدهم الدرهم والدينار، وصار هِجّيراهم ومقصودهم وجلّ حديثهم واهتمامهم، فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال، وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال: إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون.
ولقد ذمّ الله ـ تعالى ـ الدنيا في كتابه في غير موضع، كقوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)) [ال عمران: 185] وقوله ـ سبحانه ـ: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)) [الحديد: 20].
وأما الأحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد فيها فكثيرة جداً؛ منها حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: (إنّ مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) متفق عليه.
__________
(1) ذم الهوى، ص 483، 484.(1/49)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ) أخرجه البخاري.
وعن كعب بن عيا ض -رضي الله عنه- قا ل: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وقد ورد عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: أنه قال: إياكم وما شغل من الدنيا؛ فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب)(1).
وكان يقول أيضاً: (أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها)(2). وكان الحسن يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدرهمَ إلا أذله الله)(3).
ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام نفيس في الترغيب بالزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، نورد منه ما يلي:
(لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين.
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 189.
(2) سير أعلام النبلاء، 4/579.
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 2/152، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/576.(1/50)
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله ـ سبحانه ـ: ((وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) [الأعلى: 17] فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة).
ـ إلى أن قال ـ: (وقد توعّد الله ـ سبحانه ـ أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرجُ لقاءه فقال: ((إنَّ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7)أُوْلَئِكَ مَاًوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [يونس: 7، 8] وعيّر ـ سبحانه ـ من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ)) [التوبة: 38] وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة.
ويكفي في الزهد في الدنيا قوله ـ تعالى ـ: ((أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) [الشعراء: 205-207])(1).
__________
(1) الفوائد، ص 87-89، باختصار.(1/51)
وجاء في كتاب: (عدة الصابرين) لابن القيم ما يلي: (جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛ فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا... فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد... والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال مالك بن دينار: (اتقوا السحّارة، اتقوا السحّارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء).
وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله ـ تعالى ـ فهو من الخاسرين، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث أراد)(1).
وقد بالغ العلماء في التحذير من الاستمتاع بالدنيا والانكباب عليها، حتى جعلوا مجرد النظر إلى الدنيا ـ إن كان على سبيل استحسانها والركون إليها ـ مذموماً، كما وضّحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
(النظر إلى الأشجار والخيل والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم؛ لقول الله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) [طه: 131].
وأما إذا كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط، كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق)(2).
إن الحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله:
(
__________
(1) عدة الصابرين، ص 185، 186، باختصار.
(2) مختصر الفتاوى المصرية، ص 29، وانظر: شجرة المعارف والأحوال، للعز بن عبد السلام، ص 7.(1/52)
أحدهما: شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة، والمبالغة في طلبه والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة...
ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف فيما لا قيمة له ـ وقد يُمكّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدّر وقُسم؛ ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص؛ فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.
النوع الثاني: من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال الله ـ تعالى ـ: ((وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [التغابن: 16].
وفي صحيح مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)(1).
وإنما يصير حب المال مذموماً إذا كان سبباً في ارتكاب المعاصي أو ترك الواجبات، يقول شيخ الإسلام في هذا الصدد: (حب المال والشرف يفسد الدين، والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك، أما مجرد حب القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله ـ تعالى ـ لا يعاقب على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل.
__________
(1) شرح حديث (ما ذئبان جائعان...) ص 7-11، باختصار.(1/53)
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن إخراج الفضل والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب وأجمع للهم، وأنفع للدنيا والآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة)(1).
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والانهماك عليه، وبين تركه والإعراض عنه؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخطب الناس فقال: (لا والله ما أخشى عليكم إلا ما يُخرِج الله لكم من زهرة الدنيا)، فقال رجل: يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: كيف قلتَ؟ قال: يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله: (إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً، أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثم اجترّت فعادت فأكلت، فمن أخذ مالاً بحقه بورك له فيه، ومن أخذ مالاً بغير حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) متفق عليه.
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية، ص 493، وانظر ص 95، وانظر مجموع الفتاوى، 10/189، 190، ومختصر منهاج القاصدين، لأحمد بن قدامة، ص 195.(1/54)
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبيّن المسلك الوسط تجاه المال فقال: (قوله: (إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم)) هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطاً، (والحبط انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض)، فكذلك الشرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: (أو يلم)، وكثير من أرباب الأموال إنما قتلهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: (إلا آكلة الخضر) هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى امتلأت خاصرتاها...
وفي قوله: (استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت) ثلاث فوائد: أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته. الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه. الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة...
وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل بكثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعاً. وتضمّن الخبر أيضاً إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الإخراج منه وإنفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه)(1).
__________
(1) عدة الصابرين، ص 198، 199، باختصار.(1/55)
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصاً أن يُعْنَوْا بتحقيق الكفاف والاستغناء عن الناس كما يُعْنَوْا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن استغناء العلماء عن الناس عموماً والحكام خصوصاً من أعظم الأسباب في حفظ مكانة العلماء وعظم شأنهم.
يقول سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: (لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس... ولولا هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلاء الملوك)(1).
يقول ابن الجوزي حاثاً على الاستغناء عن الناس: (ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال، وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأوّلوا فيها...
ولقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغْشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم؛ فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز وبُعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظّلَمَة، ولم نرَ من صح له هذا إلا في أحد رجلين:
أما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وأما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق ـ وإن لم يكفه ـ كبشر الحافي وأحمد بن حنبل؛ ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه.
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 6/381.(1/56)
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت على عالم إلا بحبّ الدنيا، وغالب ذلك الفقر، فإن كان من له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل الشّرَهِ، خارج عن حيّز العلماء)(1).
* والمقصود أن على العبد أن يقنع بالكفاف من هذا المال، مما يحتاجه في مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه ونحو ذلك، وأن يطلب ذلك من الله ـ تعالى ـ وحده ويرغب إليه فيه، وأن لا يكون سائلاً للمال بلسانه ـ إلا لضرورة ـ أو مستشرفاً إليه بقلبه.
وأما ما لا يحتاج إليه العبد فلا ينبغي له الاشتغال به؛ لأن ذلك يؤول إلى تعلق القلب بالمال واستعباده له، كما يفوت عمره في تحصيل رزق مقسوم، وقد يحمله الحرص على المال على اكتسابه بالحرام ومنع الحقوق الواجبة.
* * *
شهوة الرياسة
شهوة حب الرياسة والمنصب إحدى الشهوات التي استعبدت كثيراً من الناس وأحكمت على أفئدتهم، فصارت الولايات والمناصب وما يتبعها من الشهرة والظهور مقصودهم ومرادهم.
وقد سبق إيراد حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه)(2).
يقول الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث: (فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل. فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا).
__________
(1) شرح حديث ما (ذئبان جائعان) ص 7، 13، باختصار.
(2) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/57)
ـ إلى أن قال ـ: (وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكاً من الحرص على المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف)(1).
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ أقسام الحرص على الشرف فقال: (والحرص على الشرف قسمان:
أحدها: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جداً، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها. قال الله ـ تعالى ـ: ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) [القصص: 83]، وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكَل إلى نفسه).
إلى أن قال ـ: (ومن دقيق آفات حب الشرف: طلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له....
واعلم أن حب الشرف بالحرص على نفوذ الأمر والنهي، وتدبير أمر الناس إذا قُصِدَ بذلك مجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه، وذلهم له في طلب حوائجهم منه؛ فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته.
القسم الثاني: طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد؛ فهذا أفحش من الأول، وأقبح وأشد فساداً وخطراً؛ فإن العلم والعمل والزهد إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقربى منه والزلفى لديه...)(2).
__________
(1) شرح حديث (ما ذئبان جائعان)، ص 7، 13، باختصار.
(2) شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ص 13، 15، 16، 20، باختصار.(1/58)
ومما يؤكد خطر هذه الشهوة أن جنس بني آدم مولع بحب الرياسة والظهور، كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس؛ رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه وما يريده)...
إلى أن قال ـ: (فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل.
وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسداً وبغياً..)(1).
إن حب الرئاسة وطلبها لا ينفك عن مفاسد متعددة وشرور متنوعة، وقد أشار ابن رجب إلى بعضها بقوله: (واعلم أن الحرص على الشرف يستلزم ضرراً عظيماً، قبل وقوعه في السعي في أسبابه، وبعد وقوعه بالحرص العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر، وغير ذلك من المفاسد)(2).
وقال في موضع آخر: (إن حب المال والرئاسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله... والنفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد)(3).
وذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعض مفاسد هذه الشهوة، فقال:
(
__________
(1) مجموع الفتاوى، 8/218،-باختصار.
(2) شرح حديث (ما ذئبان جائعان)، ص 14.
(3) المرجع السابق، ص 29.(1/59)
إن طلاب الرياسة ليسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبّد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمىً عن هذا؛ فإذا كُشف الغطاء تبيّن لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشِروا في صُوَرِ الذرّ يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيراً كما صغّروا أمر الله وحقروا عباده)(1).
وإذا تقرر ذم حب الرياسة وبيان مفاسدها، فإن حب الإمارة للدعوة إلى الله ـ تعالى ـ يفارق حب الرياسة؛ فإن مقصود هذه الإمارة تعظيم الله ـ تعالى ـ وأمره، وأما مقصود حب الرياسة فهو تعظيم النفوس والسعي في حظوظها، وأئمة العدل وقضاتهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده وإفراده بالعبودية، ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده. فمن سأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين لم يضره ذلك، بل يُحمد عليه؛ لأنه داعٍ إلى الله يحب أن يعبد ويطاع، فهو يحب ما يكون عوناً على ذلك موصلاً إليه(2).
إن على أهل العلم وطلابه أن يحذروا من شهوة حب الرياسة والشهرة، فإنه داء عضال ينبغي المسارعة في علاجه بالتوبة إلى الله ـ تعالى ـ وتزكية النفس ومحاسبتها.
يقول سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: (الرياسة أحب إلى القراء من الذهب الأحمر)(3).
__________
(1) كتاب الروح، ص 433، 434.
(2) انظر: كتاب شرح حديث (ما ذئبان جائعان)، ص 19، وكتاب الروح، ص 432.
(3) كتاب الورع، للإمام أحمد بن حنبل، ص 91.(1/60)
وقد تحدث أبو الفرج ابن الجوزي عن أولئك العلماء المولعين بالرياسات والشهرة فقال: (واليوم صارت الرياسات من كل جانب، وما تتمكن الرياسات حتى يتمكن من القلب: الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق؛ فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا.
ولقد رأيت من الناس عجباً حتى من يتزيا بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر عليّ، وإن رآني أزور فقيراً عظّم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه، فقلت: فوا عجباً هذه كانت طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه، لا جَرَمَ واللهِ! سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق...
فالتفِتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق، ولتكن عُمدتكم الاستقامة مع الحق؛ فبذلك صعد السلف وسعدوا)(1).
وفي ختام هذه المقالة نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا الهدى والتقوى والعفاف والغنى، وأن يجنبنا شهوات الغي ومضلات الهوى، وبالله التوفيق.
__________
(1) صيد الخاطر، ص 227، وانظر ص 360، وانظر: أخلاق العلماء للآجري، ص 157.(1/61)