بسم الله الرحمن الرحيم
العبادة في زمن الفتن
الشيخ عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
ففي هذا اللقاء المبارك الذي رتبه الإخوة -جزاهم الله خيراً- في هذا الظرف الذي تعيشه الأمة مع الاضطراب الحاصل لدى كثير من طلاب العلم، كثيرٌ منهم ضاقت بهم الأرض ذرعاً، وظنوا أن الخير قد انقطع، والأمر على خلاف ذلك، وديننا -ولله الحمد- دين الخلود والبقاء إلى قيام الساعة، مضمون له البقاء إلى قيام الساعة، وأبواب الخير مفتوحة ومشرعة، وسنة المدافعة باقية إلى قيام الساعة، وما يغلق باب في وجه مسلم إلا ويفتح الله له أبواب وآفاق من أعمال الخير التي توصله إلى مرضات الله سبحانه وتعالى.
الفتن التي تعيشها الأمة والتي أخبر بها النبي -عليه الصلاة والسلام- وأنه يوشك أن تظل فتن كقطع الليل المظلم، يوشك أن تظلنا فتن كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- كقطع الليل المظلم، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المخرج في البخاري وغيره: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)).
وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث المخرج في السنن والمسند أنه في آخر الزمان أيام تسمى أيام الصبر، والقابض فيها على دينه كالقابض على الجمر، وأجر العامل فيها كأجر خمسين رجل، قالوا: منهم يا رسول الله أو منا، قال: منكم.
هذه مع كونها تخبر عن واقعٍ مُرّ إلا أنها تشرح صدر المسلم للعمل والمدافعة أجر خمسين من الصحابة في آخر الزمان عند فساد الناس، أجر خمسين من الصحابة هذا ليس بالسهل ولا بالهين، ويأتي ذكره، والمراد به - إن شاء الله تعالى -.
فالفتن التي نتحدث عنها، بل قبل ذلك في العنوان العبادة، العبادة في زمن الفتنة، أو في زمان الفتن.(1/1)
الله -جل وعلا- قد خلق الثقلين الجن والإنس لتحقيق هذا الأمر الذي هو العبادة والعبودية، كما قال الله -جل وعلا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات]، فالعبادة هي الهدف من خلق الجن والإنس.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله وتعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات]، أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي: ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس: {إلا ليعبدون} أي: إلا للعبادة.
والمراد بالعبادة كما قال شيخ الإسلام: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
فتشمل جميع أبواب الدين، فالإنسان يتعبد إلى الله -جل وعلا- بتوحيده، والإخلاص له، ويتعبد له بالإيمان به بشروطه، يتعبد لله -جل وعلا- بالصلاة، فرضها ونفلها، يتعبد للمولى -جل وعلا- بالزكاة، والصدقات، يتعبد له بالصيام الذي هو سرٌ بين العبد وبين ربه، ويتعبد لله -جل وعلا- بزيارة بيته الحرام، وبالجهاد في سبيله وإعلاء كلمته، ويتعبد له في معاملاته، في المعاملات وإن كانت من أجل الكسب الذي ظاهره المادة المحضة، إلا أنه في الوقت نفسه بإمكان المسلم أن يجعله عبادة لله -جل وعلا-، إذا نوى به أن يتقوى به على ما يقربه إلى الله -جل وعلا- يتعبد إلى الله ويتقرب إليه بتناول الملذات والشهوات كالنكاح الذي شرعه الله -جل وعلا- وأخبر أنه يؤجر عليه، "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟" قال: ((نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟)) قالوا: نعم، فيأتي شهوته ويكون له أجر، هذا من فضل الله -جل وعلا-.(1/2)
يتعبد لله -جل وعلا- بجميع أبواب الدين، فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله -جل وعلا- ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وتنوع هذه العبادات من محاسن هذا الدين، فتجد بعض الناس يسهل عليه التقرب إلى الله -جل وعلا- بمائة ركعة بمائتين ركعة بثلاثمائة ركعة في اليوم الواحد، وهذا مأثور عن بعض من تقدم من السلف، لكن يشق عليه أن يتصدق بدرهم، فتح له هذا الباب ليلزمه، ومع ذلك يجاهد نفسه في الأبواب الأخرى، وبعض الناس مستعد أن يتصدق أن يتخلص من نصف ماله ولا يستطيع ولا تطاوعه نفسه أن يصلي ركعتين، ومن الناس من ديدنه قراءة القرآن وتشق عليه سجدة التلاوة؛ لأن الصلاة شاقة عليه، هذا تنوع للعبادات, وكل باب من الأبواب هذه مرضية لله -جل وعلا- ومع ذلك يلزم هذا الباب الذي يُسر له ولا يهمل الأبواب الأخرى، يجاهد نفسه على أن يأطرها على محبة هذه الأبواب الأخرى، يكفيه أنها ترضي الله -جل وعلا- وأنها ترفعه عند المولى سبحانه وتعالى، ترتب عليها الثواب، فمن أهم العبادات الصلاة، فالإنسان عليه أن يكثر منها، فالصلاة خيرٌ مستكثر منه، والنبي -عليه والصلاة والسلام- لما سأله الصحابة مرافقته في الجنة، قال: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) الكثرة هذه مطلوبة على أن الكمية ليست هدف لذاتها، بل لا بد من الكيفية ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ليس معنى هذا أن الإنسان يصلي في الساعة بعدد دقائقها من الركعات، ويغفل عن الكيفية، بل لا بد من أن يجمع بين كثرة السجود وبين الكيفية المأثورة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وقل مثل هذا في سائر العبادات، يقرأ القرآن ويكون ديدنه قراءة القرآن، لكن على وجه مأمور به، على الوجه المأمور به من الترتيل والتدبر، ليزداد بذلك من الهدى واليقين والطمأنينة وشرح الصدر وزيادة الإيمان, فعلى الإنسان أن يلزم هذه العبادات.(1/3)
والفتن جمع فتنة، يقول الراغب: أصل الفَتْنِ إدخال الذهب في النار، لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل في إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب، يستعمل في إدخال الإنسان النار {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [(10) سورة البروج]، بأن أدخلوهم في النار، هذه فتنة.
ويطلق على العذاب، كقوله -جل وعلا-: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [(14) سورة الذاريات]، وعلى ما يحصل عند العذاب، كقوله -جل وعلا-: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [(49) سورة التوبة]، وعلى الاختبار، كقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [(40) سورة طه]، وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنىً وأكثر استعمالاً، قال -جل وعلا-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [(35) سورة الأنبياء]، ومنه قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [(73) سورة الإسراء]، أي يوقعونك ببلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحي إليك.
وقال أيضاً -الراغب-: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله -جل وعلا- ومن العبد كالبلية والمصيبة، والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات.
فالإنسان قد يكون بنفسه موجداً للفتنة يفتتن بها ويفتن بها غيره، كما أنها تكون من الله -جل وعلا- فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة، فقد ذم الله -جل وعلا- الإنسان بإيقاع الفتنة كما في قوله -جل وعلا-: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [(191) سورة البقرة]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [(10) سورة البروج]، وقوله: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [(162) سورة الصافات]، وقوله: {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [(6) سورة القلم]، وكقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} [(49) سورة المائدة].(1/4)
وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى مكروه، ثم أطلقت على كل مكروه، أو آيلٍ إليه كالكفر والإثم والتحريض والفضيحة والفجور وغير ذلك.
الفتنة لا شك أنها تطلق على أمور متفاوتة، فمنها الشرك الذي هو في الحقيقة أعظم من القتل وأشد من القتل، إلى أن تصل إلى فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث المتفق عليه قال في الخميصة: ((كادت أن تفتنني عن صلاتي)) والمراد بالفتنة هنا: الانشغال بها، وكذلك الفتنة في المال والولد الانشغال بهم عما هو أهم، كل هذا فتنة.
وبعض الناس يعتب على من يستعيذ بالله من الفتن، يقول معناه: أنك تستعيذ بالله من أهلك ومالك وولدك، يقول: لا تستعيذ بالله من الفتن، معناه أنك تريد أن تتجرد من هذه الأمور.
لكن الفتن إذا أطلقت واستعيذ بالله منها، فالمراد بها ما يضر في الدين. أما الفتن التي لا تضر فهي أمرها يسير، بل طلبها الشارع كفتنة المال والولد، الله -جل وعلا- يقول بالنسبة للمال: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص]، فهو مطلوب أصلها لإقامة العبودية، لإقامة الهدف التي من أجله خلق، وأيضاً أمرنا بالتكاثر والتناسل، وأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك ((فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)) مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة، فنحن مأمورون بكسب المال من وجهه، لكن لا يكون هدفاً. لا يكون هدفاً في هذه الحياة بحيث يكون محياه ومماته لهذا المال، يضحي بكل شيء من أجل المال، كما رأينا وسمعنا في هذه السنين المتأخرة بعدما فتحت علينا الدنيا.
المقصود أن هذه الفتنة أعني فتنة المال وإن كان أصلها مطلوباً {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص]، إنما طلب لتحقيق الهدف الذي من أجله خلق وهو العبودية لله -جل وعلا- إذ لا تقوم الحياة إلا بالمال.(1/5)
وأيضاً طلب الولد، لبقاء النوع والجنس الإنساني ليعبد الرب -جل وعلا- إلى قيام الساعة، ولو أن كل واحد من المسلمين عزف عن الزواج خشية أن يبتلى بالأولاد ويبتلى بالأهل لخالف سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- سنن المرسلين.
يقول الله -جل وعلا-: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [(25) سورة الأنفال]. يقول القرطبي: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أمر الله أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم؛ فيعمهم العذاب؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [(25) سورة الأنفال].
كيف نتقي هذه الفتنة؟ كيف نتقي هذه الفتنة؟
نتقيها بالحيلولة بين الظالم وظلمه، فإذا حلنا بين الظالم وظلمه فإننا حينئذ جعلنا بيننا وبين هذه الفتنة وقاية.
وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام فإنه قال يوم الجمل وكانت سنة 36هـ: ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا من خوطب ذلك الوقت. وكذلك تأول الحسن والبصري والسدي وغيرهم.
وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) يعني جاء قول الله -جل وعلا-: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [(33) سورة الأنفال]، فهل الأمر يسري على غيره -عليه الصلاة والسلام- من صالحي هذه الأمة؟ يعني لا يهلكون وفيهم الصالحون؟ كما ضمن الله -جل وعلا- أن لا يعذب هذه الأمة مع وجود نبيها -عليه الصلاة والسلام-.(1/6)
وجود الصالحين لا شك أنه سببٌ من أسباب دفع البلاء ودفع الفتن؛ بنسبة إرثهم من النبوة من النبي -عليه الصلاة والسلام- -أعني هؤلاء الصالحين- بقدر إرثهم من النبوة علماً وعملاً يدفع بهم من الفتن بقدر ذلك، ولذلك نجد أنه حينما وجد الصالحون من العلماء والعباد والدعاة الأخيار كانت الفتن مدفوعة إلى حدٍ ما؛ بسبب مدافعتهم لها، وبسبب علمهم وعملهم، وبسبب دعواتهم الصالحة.
ونحن ننظر أنه كلما انتقصت هذه الأمة بعلمائها العاملين تزداد فيها الفتن، بل إن كثيراً من الناس يرجع وجود هذه الفتن وتتابع هذه الفتن بموت فلان أو علان من الناس، نقول لا يا أخي الدين باقي ومحفوظ، لكن لا شك وجود مثل هذا العالم العامل المدافع الذاب عن دين الله لا شك أنه سبب من أسباب تأجيل وتأخير الفتن، لكن ليس هو كل شيء، فالدين ليس بمربوط بأشخاص، وأمة محمد -عليه الصلاة والسلام- لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره.
في صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) وفي صحيح الترمذي، جامع الترمذي -بعضهم يطلق عليه الصحيح، كما أنه بعضهم يطلق على بقية السنن الصحاح ويلحقها بالصحيح ويقول الصحاح الستة، لكن لا شك أن هذا تساهل، ولذا يقول الحفاظ العراقي:
ومن عليها أطلق الصحيحا ... فقد أتى تساهلاً صريحا
ج
يعني من أطلق الصحيح على الكتب الأربعة من السنن تبعاً للصحيحين لا شك أنه تساهل في الصحيح، والحسن والضعيف- يقول: وفي صحيح الترمذي: ((أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده)).(1/7)
لكن الأخذ على يد الظالم بحسب القدرة بحسب القدرة وبالوسائل المحققة للمصلحة التي لا يترتب عليها مفسدة، لا بد من مراعاة القواعد العامة في النصيحة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالنصيحة إذا ترتب عليها معاندة وإصرار من المنصوح وخروجه عن جلباب الحياء، وزيادته في الشر من أجل أنه نصح من قبل فلان أو علان لا بد أن يدرس الأمر بعناية.
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خشي أن يترتب عليه منكر أعظم منه فلا شك أن درء المفاسد مقدم على جمع المصالح، ومع ذلك لا بد من الإنكار بالمراتب الثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ((من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) لكن لا بد من التغيير، وأقل المراتب التغيير بالقلب.
وفي صحيح البخاري والترمذي، عن النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها -استهموا يعني بالقرعة، أنت مكانك فوق وأنت مكانك تحت وهكذا بالقرعة- فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم -فرأوا أن من فوقهم تضايقوا منهم من كثرة المرور عليهم- فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً -بحيث لا نحتاج إلى نمر على من فوقنا- ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)) هذا المثل النبوي مطابق غاية المطابقة لواقع الأمة في هذه السفينة التي تتلاطم الأمواج من حولها، تدفعها يميناً وشمالاً، وأحياناً إلى الأمام وأحياناً إلى الخلف، فإن ترك المفسد يعبث لا شك أنهم يهلكون جميعاً، وإن أخذ على يده وأطر على الحق نجا ونجوا جميعاً، فهذا مثل مطابق.(1/8)
في هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم إذا -كما تقدم في حديث مسلم- ((إذا ترك الظالم لم يأخذوا على يد الظالم أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده)). يقول القرطبي: قال علماؤنا فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر، وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم، يعني لا يستطيعون التغيير باليد ولا باللسان أنكروا بالقلب، لكن هل يسوغ لهم أن يبقوا مع هؤلاء العصاة؟ يقول: وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.
وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا العاصين، وقالوا لا نساكنكم، وبهذا قال السلف -رضي الله عنهم- روى ابن وهب عن مالك أنه قال: "تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها".
أما إذا استخفى العاصي المذنب بجريمته فهذا لا يضر غير نفسه، الإشكال فيما إذا ظهر المنكر وأعلن ولم يوجد من يدافع، أو من يدفع هذا المنكر، فحينئذ يوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده.
الهجرة عند أهل العلم منها الواجب، وهي باقية إلى قيام الساعة، فالواجب منها الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فالإقامة في بلاد الكفر لا تجوز حرام إلا لعاجز، إلا المستضعف المستثنى، الذي لا يستطيع حيلة، ولم تذكر الحيلة بشيء من النصوص بالإقرار والجواز إلا في هذا الموضع؛ لأن ضرر البقاء بين أظهر المشركين ضررٌ محض، كثير من المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار الضرر عليههم في أديانهم وعلى ناشئتهم أظهر، الذين يربون في بلاد الكفر وفي مدارس الكفر ضرر عظيم،
وقد برئ المعصوم من كل مسلمٍ ... يقيم بدار الكفر غير مصارمِ
لا بد أن يهاجر إلا إذا عجز حينئذٍ يعذر، هذه الهجرة الواجبة.(1/9)
وأما الهجرة المستحبة فالهجرة إلى البلد الذي فيه الأخيار أكثر وأظهر من بلاد المسلمين، ويتمكن فيه من طلب العلم من أهله، أهل العلم والعمل والإخلاص والتحقيق لعقيدة التوحيد، الهجرة إلى مثل هذا البلد مستحبة، على أن لا تخلى البلدان الأخرى ممن يدافع.
ولذا يقول ابن وهب يروي عن مالك -رحمه الله- أنه قال: "تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها".
وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أنزل الله بقومٍ عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)).
فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين، ومنه ما يكون نقمةً للفاسقين، يعني إذا وجد المنكر أنكره قوم وسكت آخرون، يعني وجد من يفعل المنكر، أنكره قوم وسكت آخرون، هؤلاء ثلاث فرق، ثم إذا حلت العقوبة {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [(165) سورة الأعراف]، فالظلمة هم الذين فعلوا المنكر، وأنجينا الذين ينهون، الذين ينهون ينجون، سواءً نجوا بأبدانهم أو لم ينجو المقصود أنهم مآلهم إلى النجاة، سواءً كان في الدنيا أو في الآخرة، وأما الذين ظلموا الذين فعلوا هذا المنكر أخذناهم بعذابٍ بئيس.
الفرقة الثالثة: هل يدخلون في الذين ظلموا؛ لأنهم لم ينكروا، فهم ظالمون لأنفسهم بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يقال أنهم سكتوا فسكت عنهم، كما يقول بعض المفسرين.
الذي يظهر -وأعني من لا ينكر المنكر حتى بقلبه- أنهم مع الظالمين، أخذوا بعذاب بئيس مثلهم. هذا منكر عظيم ترك إنكار المنكر.(1/10)
ولذا لعن بنو إسرائيل لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} بأي شيء {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [(78-79) سورة المائدة].
قد يقول قائل: الله -جل وعلا- يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(164) سورة الأنعام]، ويقول -جل وعلا-: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [(38) سورة المدثر]، ويقول -جل وعلا-: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [(286) سورة البقرة]، وهذا يوجب أن لا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(164) سورة الأنعام]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [(38) سورة المدثر]، يعني لا بما كسب غيره، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [(286) سورة البقرة]، يقول هذا القائل: هذا يوجب أن لا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب.
فالجواب: أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكتوا عليه فكلهم عاصٍ، هذا بفعله وهذا برضاه, وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبة, قاله ابن العربي.
الحكم واحد هذا بفعله وهذا برضاه، هذا باقترافه وبما كسبت يده وبوزره الذي ارتكبه، وهذا بتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أيضاً منكر.(1/11)
يقول الله -جل وعلا-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [(63) سورة النور]، قال ابن عباس: "الفتنة هنا: القتل" وقال عطاء: "الزلازل والأهوال" وقال جعفر بن محمد: "سلطان جائر يسلط عليهم" وقيل: "الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول -عليه الصلاة والسلام-".
وكلها داخلة في مدلول الآية، قد يقتل من يقتل، ويصاب بالزلازل والأهوال من يصاب، وقد تكون هذه المعاصي وهذه المخالفات لله ولرسوله سببٌ في تولي سلطان جائر عليهم يسلط عليهم يسومهم سوء العذاب، وشواهد الأحوال لا تحتاج إلى تسميات، يعني انظر في الواقع اليوم تجد هذه الأمور موجودة. وقيل: "الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا أشد، الطبع على القلوب، بعض الناس يرى أنه من أفضل الناس، وأنه على الجادة، وهو لا يدري أنه مطبوعٌ على قلبه، نسأل الله السلامة والعافية. وبعضهم يرى أنه على الصراط وهو ممسوخ وهو لا يشعر، قد باع دينه وهو لا يعلم، نسأل الله السلامة والعافية. وأهل العلم يقررون أن مسخ القلوب أعظم من مسخ الأبدان.
ابن القيم في إغاثة اللهفان ذكر أنه في آخر الزمان يمشي الاثنان إلى المعصية، هما في طريقهما إلى معصية فيمسخ أحدهما خنزيراً وينظر إليه صاحبه مع ذلك ما النتيجة؟ يرجع ويقول: الحمد لله على السلامة، يرجع إلى بيته ويتوب،لا، يمضي إلى معصيته، هذا مسخ بدن وهذا مسخ قلب، نسأل الله السلامة والعافية.
إذا عرفنا السبب في وجود هذه الفتن وهي المخالفة لأوامر الله وأوامر رسوله -عليه الصلاة والسلام- وسكوت الناس عن إنكار هذه المخالفات، وعدم مدافعتهم لهذه المنكرات، ولا شك أن ما يصيب الناس فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [(41) سورة الروم]، فالفساد كله بسبب المعاصي.(1/12)
إذا عرفنا سبب الفتنة وهي مخالفة أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -عليه الصلاة والسلام- والتواطؤ على ذلك، التواطؤ على ترك إنكار المنكر على ما تقدم، فشو المنكرات بغير نكير، هذا هو سبب لعن بني إسرائيل، أعني تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال -جل وعلا-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا....} [(78) سورة المائدة]، إلى أن قال: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [(79) سورة المائدة].
أقول: إذا كان هذا هو السبب، وقبل ذلك شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخفى عن العامة فضلاً عن المتعلمين، وهو خصيصة هذه الأمة، وهو سبب رفعتها، وهو سبب خيريتها {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [(110) سورة آل عمران]، يعني قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قدم على الإيمان بالله مع أنه لا يصح أمر ولا نهي إلا بعد الإيمان، قدم لماذا؟ لأنه هو خصيصة هذه الأمة، الأمم السابقة يؤمنون بالله، أعني أتباع الأنبياء يؤمنون بالله، لكن لماذا فضلنا عليهم؟ لأننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولذلك قدم على الإيمان بالله الذي يشترك فيه الجميع، فقدمت هذه الخصيصة للاهتمام بشأنها والعناية بها، وإلا فجميع أتباع الأنبياء يؤمنون بالله، فما لنا مزية عليهم، فإذا تركنا هذه الخصلة ما صرنا خير أمةٍ أخرجت للناس، صرنا مثل الأمم.(1/13)
روى أبو داود والترمذي عن أبي أمامة الشعباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: قلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [(105) سورة المائدة] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام تدعى أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)) وهذا حديث جيد. زاد أبو داود في حديثه: (قيل يا رسول الله: أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: ((بل أجر خمسين رجلاً منكم)).
إذا نظرنا إلى الحديث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر مقرر، شعيرة من شعائر الدين، حتى عده بعضهم من أركان الإسلام، ولا يمكن أن تقوم أمور المسلمين إلا به.
يقول: حتى -هذه الغاية-: ((إذا رأيتم شحاً مطاعاً)) تجد الشح بين الناس، والناس تابعون لهذا الشح، لا يخالفونه، فيمنعون الواجبات، ويبخلون بها. ((فإذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً)) كل ما لاح له شهوة أتبعها هواه، ولم يرتدع عنها ولا يزدجر عنها، ولو زجر بنصوص الكتاب والسنة. ((وهوىً متبعاً، ودنياً مؤثرة)) نعم، هذا موجود، كثيرٌ من الناس آثر الدنيا على الآخرة، وتعلق قلبه بها، ولم يعقل من دينه شيء، يصلي ببدنه فقط، يعني إذا سمع شخص وهو ساجد يشير بأصبعه ثم في النهاية يجهر يقول آمين، هذا ماذا عقل من صلاته؟ وهو ساجد يقول آمين! لا شك أن هذا سببه تعلق القلوب بالدنيا، والعزوف عن الآخرة، والغفلة عن الهدف الذي من أجله خلق.(1/14)
يقول: إذا رأيت ذلك ((ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه)) بالنسبة لعامة الناس كونهم يصرون على ما يقررونه من أحاديثهم في مجالسهم هذا ليس بغريب؛ لأنهم عوام، لكن طلاب علم، تجده إذا نوقش في مسألة علمية أو أبدي أدنى ملاحظة في كلامه صار كأن الدنيا انهدمت فوق رأسه لا يطيق شيئاً من ذلك، لا يريد أن يقال له لو قلت كذا لكان كذا، أو ما رأيك لو كانت المسألة كذا، ما يتحمل ولو بالأسلوب المناسب، نعم يوجد من ينتقد بعض طلاب العلم وبعض العلماء بأساليب غير مقبولة البتة، لكن مع ذلك كلٌ له ما يخصه من خطاب، فالذي يلاحظ على أهل العلم ينبغي أن تكون الملاحظة بأدب، وأن تلقى بأسلوب محبب، بحيث يتأثر السامع، وأيضاً بالمقابل الطرف الثاني لا يعجب برأيه، فليس بالمعصوم، فإذا قيل له: لو أن كذا لكان كذا، وما رأيك بكذا ولو أنه...، يعني تطرح الإشكال أو الملاحظة على سبيل الاستفهام، يعني يستفهم منه استفهاماً، وإلا هذا حقيقة أمرٌ مقلق، ونسمع من الردود شيء تقشعر منه الأبدان، ونجد الثقل في إبداء الملاحظات هذا موجود، نسأل الله السلامة والعافية، عندنا وعند غيرنا من طلاب العلم؛ لأن المقاصد مدخولة، يعني أين نحن من قول الشافعي: "والله لا يهمني أن يكون الحق على لساني أو على لسان خصمي" المقصود أن الحق يبين.
أين أهل الخصومات؟ من رجلين بينهما خصومة في عهدٍ قريب، بينهما خصومة يقول: لا داعي أن نذهب أنا وأنت ونعطل مصالحنا إلى المحكمة، أنت تعرف القضية واشرحها للشيخ، واللي يقول لك هو الحكم. فذهب إلى القاضي وشرح له القضية، وقال: الحق لخصمك وانتهى، قال: الحق لك، شرح له الشيخ وانتهى الإشكال.(1/15)
وشخص في هذه الأيام لما حكم عليه بقضية، قيل له: إن أردت الاعتراض قدم للتمييز، هذه اللائحة، اكتب ما شئت، فانكب على الماصة يبكي، أنا أعترض على حكم الله، والله -جل وعلا- يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء]، أنا أعترض؟ فبكى.
يعني الأمة ما زال فيها خير، لكن الكلام على الكثير الغالب، الكثير الغالب نجد الردود ونجد بعض الكلمات التي لا يحتمل سماعها. نعم، هذه قد تكون طبيعة البشر مجبولين على هذا، لكن ينبغي أن تكون الطبائع مسيسة ومأطورة بأوامر الشرع، ف في الحديث يقول: ((وهوىً متبع، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)) وهذا حديثٌ حسن، زاد أبو داود في حديثه: قيل يا رسول الله: أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: ((بل أجر خمسين رجلاً منكم)) يعني من الصحابة.
وفي البخاري عن أبي سعيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعب الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)) وهذا ما يعرف عند أهل العلم بالعزلة.
لكن متى تكون العزلة؟ العزلة تكون راجحة بالنسبة لشخصٍ يخشى على نفسه أن يتأثر، ومع ذلك لا يستطيع أن يؤثر في غيره، مثل هذا يقال له اعتزل، ويكون خير مالك غنم تتبع بها شعب الجبال، لكن مِن عالم يستطيع أن يدافع بعلمه، بحلمه، بحكمته، يستطيع أن يؤثر في الناس، يستطيع أن يدفع بعض الشرور، يدفع بعض الشرور، يخفف، يقلل من بعض الشرور، هذا الخلطة أفضل له.
روى مسلم والترمذي من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((العبادة في الهرج كهجرة إليَّ)).(1/16)
يقول النووي في شرح مسلم: "قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((العبادة في الهرج كهجرة إلي)) المراد بالهرج هنا: الفتنة، واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها".
في الحديث السابق: ((للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)) يعني من الصحابة رضوان الله عليهم، قد يشكل هذا على بعض الناس، ويقول: أنه قد يأتي في آخر الزمان من هو أفضل من الصحابة؛ لأننا إذا نظرنا إلى بعض أعمال الناس في الزمن المتأخر وجدناه كثير جداً ومتنوع، تجده ثري مثلاً، وصاحب صلاة، وذكر وتلاوة وصيام وبذل أموال، مدة طويلة تزيد مثلاً على نصف قرن، وأجره مثل أجرين خمسين من الصحابة، إذن أجوره لا يحاط بها، كثيرة جداً، فهل يتصور أن مثل هذا أفضل من أقل الصحابة شأناًً، وليس فيهم قليل الشأن، بل كل واحد منهم شأنه عظيم أعني الصحابة رضوان الله عليهم؟
لا.. أجر خمسين في العمل نفسه، أما شرف الصحبة وأجر الصحبة فلن يناله أحد، أي كائناً من كان، ولا عمر بن عبد العزيز، الخليفة الراشد المعروف.
ولما سئل من سئل عن معاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ قال: غبارٌ في أنف معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرٌ من عمر بن عبد العزيز.(1/17)
فالصحبة شرفٌ لا يناله أحد إلا من اتصف به ممن رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمناً به ومات على ذلك، فدع عنك مسألة الصحبة، وأجرها، هذا أمرٌ لا يدركه أحد ممن توفي النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يراه، بعد ذلك الأعمال متفاوتة، نعم، أعمال في وقت أفضل منها نفسها في وقتٍ آخر، تتصدق بألف ريال في وقت الناس فيه ليسو بحاجة ماسة، ليس أجره كمن تصدق بدرهم وقع موقعاً عظيماً في نفس المتصدق عليه، أنقذه من هلكة، تتفاوت، والناس عند فساد الزمان تمسكهم بالدين شأنه عظيم؛ لأنهم لا يجدون من يعينهم، وأما في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فبعضهم يعين بعضاً يشجع بعضهم بعضاً، ومع ذلكم شرف الصحبة لا يناله أحد ممن لم ير النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به؛ لأن هذا قد يشكل، مقرر عند أهل العلم أن الصحابة أفضل ممن جاء بعدهم.
وروى مسلم والترمذي من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((العبادة في الهرج كهجرة إليَّ)).
يقول النووي في شرح مسلم: "قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((العبادة في الهرج كهجرة إلي)) المراد بالهرج هنا الفتنة، واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا الأفراد".(1/18)
صحيح، يعني مر بنا ظروف فيها شدة على بعض بلاد المسلمين وحروب وقتل بالجملة، هذه فتنة، وهرج وقتل، تجد كثير من الناس من المسلمين انشغل بهذه الفتنة، يتابعها ليلاً ونهاراً على سائر الوسائل، المقروءة والمسموعة والمرئية، وشغل بها فكره، وانشغل بها عن عبادة ربه، مَن مِن الناس -حتى من طلاب العلم- يقول رأيت الناس انشغلوا بهذه الأمور فأنصرف إلى قراءة القرآن، أشغل نفسي بدل قراءة الصحف التي ينفق عليها كثيرٌ من الناس وقت طويل أقرأ القرآن بدلها؟ وبدلاً من أن أستمع إلى آلة فيها الأخبار سواءً كانت مسموعة أو مرئية أصلي بقدر الوقت الذي يستمع فيه الناس ويرون، ما ينصرف إلى هذه الأعمال إلا رجل موفق. ((العبادة في الهرج كهجرة إلي)) فلا يتفرغ لها إلا الأفراد.
من من الناس يوم انشغل الناس بالأسهم في الأيام الماضية طلوعاً ونزولاً، انشغلوا بها شغلاً مذهلاً من من الناس من انصرف إلى عبادة ربه، في هذه الظرف الذي انشغلوا فيه.
في إكمال المعْلِم للقاضي عياض قوله: ((العبادة في الهرج كهجرة إلي)) أي في احتدام الفتنة واختلاط أمر الناس، فيحمل أنه في آخر الزمان الذي أنذر به في الحديث بقوله: ((ويكثر الهرج)) ويحتمل أنه عمومٌ في كل وقتٍ وفضل الانعزال حينئذٍ لعبادة الله -عز وجل-".
أما كونه مخصوص في آخر الزمان فالحديث لا يدل عليه؛ لأن هذا التفضيل مربوط بوجود السبب الذي هو: الهرج، القتل، الفتنة، فكلما وجد الوصف الذي علق به هذا الفضل يوجد الفضل، فكلما وجدت فتنة ينصرف الإنسان إلى عبادة ربه، هذا إذا كان لا يستطيع أن يكون مؤثراً في هذه الفتنة، في إزالتها في تخفيفها، وإلا لو كان له أثر في إزالتها وتخفيفها كانت أفضل من العبادة الخاصة؛ لأن المقرر عند أهل العلم أن العبادات المتعدية أفضل من اللازمة.(1/19)
ويقول القرطبي في المفهم: "قوله: ((العبادة في الهرج كهجرة إلي)) قد تقدم أن الهرج الاختلاط والارتباك ويراد بها الفتن والقتل، واختلاط الناس بعضهم في بعض، فالمتمسك بالعبادة في ذلك الوقت والمنقطع إليها المعتزل عن الناس أجره كأجر المهاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يناسبه من حيث أن المهاجر قد فر بدينه عمن يصده عنه" يعني هذا وقت النبي -عليه الصلاة والسلام- فر بدينه من قومه وعشيرته الذين يحاولون أن يصدوه عن دينه ويصرفوه عنه، من حيث أن المهاجر يعني إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قد فر بدينه عمن يصده عنه إلى الاعتصام بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك هذا المنقطع للعبادة قد فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه، فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربه، وفر من جميع خلقه.
لا شك أن المخرج من هذه الفتن إنما هو بالاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، بعبادة الله -جل وعلا- على نورٍ من الله، لا على جهل، وابتداع، يعني بعض الناس يسمع بالعبادة وفضل العبادة ويضرب في كل بابٍ منها بنصيب، ثم بعد ذلك يكون عمله هباء؛ لأنه يعبد الله على غير ما أراده الله -جل وعلا-، ومن غير اتباع لنبيه -عليه الصلاة والسلام-.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في نونيته: فصلٌ فيما أعده الله تعالى من الإحسان للمتمسكين بكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عند فساد الزمان، يقول -رحمه الله-:
هذا وللمتمسكين بسنة الـ ... مختار عند فساد ذي الأزمانِ
أجرٌ عظيم ليس يقدر قدره ... إلا الذي أعطاه للإنسانِ
فروى أبو داود في سنن له ... ورواه أيضاً أحمد الشيباني
أثراً تضمن أجر خمسين امرئ ... من صحب أحمد خيرة الرحمنِ
إسناده حسنٌ ومصداق له ... في مسلم فافهمه فهم بيانِ
إن العبادة وقت هرج هجرة ... حقاً إليَّ وذاك ذو برهانِ(1/20)
إذا عرفنا هذا، إذا عرفنا الفتن وأسباب الفتن، والمخرج من الفتن، وفضل العبادة في وقت الفتن، نعرف أن العبادة المطلوبة في وقت الفتن إما لازمة يعني قاصرٌ نفعها على المتعبد أو متعدية، والمقرر عند أهل العلم أن المتعدي في الجملة أفضل من القاصر، لكن ليس على إطلاقه، ليس هذا على إطلاقه، ليس معنى هذا أن تعطل العبادات القاصرة، ولذلك شرع في بعض الأوقات العبادات القاصرة دون المتعدية، فالاعتكاف إنما هو للعبادات القاصرة، وليس للعبادات المتعدية، ولذا تعليم العلم الذي هو من أفضل الأعمال، بل من أفضل ما يتطوع به لا يشرع في وقت الاعتكاف، إنما يشرع الذكر التلاوة الصلاة مع الصيام، يكثر الإنسان من هذه الأمور في وقت الاعتكاف وهي قاصرة.
أيضاً الركن الثاني من أركان الإسلام، وهو مقدمٌ على الثالث والثاني قاصر وهو الصلاة، والثالث متعدٍ وهو الزكاة، فليست هذه القاعدة على إطلاقها، وإن كان أهل العلم يطلقونها، إذا عرفنا هذا من الناس من لا يستطيع النفع المتعدي، ليس لديه القدرة في التأثير على الناس، نقول لمثل هذا أقلل بمطلوب الإمكان من الاختلاط بالناس، واقتصر على ما أوجب الله عليك من صلة وبر وزيارة في الله مما يستحب لك ذلك، وجاءت النصوص بطلبه، وافعل ما أمرت به من حقوق المسلم على المسلم، واتجه إلى العبادات الخاصة، أكثر من الصيام، أكثر من الصلاة النوافل، أكثر من تلاوة القرآن، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، مُر بالمعروف وانه عن المنكر حسب استطاعتك، ولا تختلط بالناس، ولا توغل في الخلطة بحيث تتأثر من الناس، هذا الذي لا يستطيع التأثير في الناس.
أما من يستطيع التأثير في الناس بأن يغشى محافلهم، ومجالسهم ومجتمعاتهم ونواديهم، يغشى هذه الأماكن للإنكار، وللأمر بالمعروف ولتنبيه الناس، وتوجيههم وتعليمهم الخير، لا شك أن مثل هذا أفضل بالنسبة لهم, وهذا خلاصة ما يقال في الخلطة والعزلة.(1/21)
لو قرأنا في كتب أهل العلم منذ سنين، الخطابي المتوفى سنة 388هـ يفضل العزلة في وقته.
الكرماني وهو في القرن الثامن والعيني وهو بعده يقولون: والمتعين في هذه الأزمان العزلة، لاستحالة خلو المحافل من المنكرات، هذا قبل كم؟ قبل سبعمائة سنة، هذا كلام يقال، فكيف بأزماننا؟!
لكن يبقى أن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ويسعى في نفعهم وتوجيههم، وسنة المدافعة أمرٌ مقرر في الشرع، يعني الإنسان لو تركت هذه الأعمال وتركت هذه الأمور، كلها للناس الذين لا خير فيهم لا شك أن هذا ضرر محض على الدين وأهله، فلا بد من المزاحمة ولا بد من المدافعة، ومع ذلك لا بد أيضاً من الحكمة والرفق واللين في هذه المزاحمة وفي هذه المدافعة، والرفق عموماً لا يدخل في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
على كل حال هذا هو القول الفصل في العزلة والخلطة، ونحن نرى من الناس من اعتزل، مع أنه بالإمكان أن ينفع، وينتفع به، يعني من أهل العلم لو خصص من وقته اقتطع من وقته جزءاً لإقراء الناس وتعليمهم العلم لانتفع به خلق مع الوقت، ومن الناس من يخالط وهو مسكين يتأثر، كل يومٍ في نقص ولا يستطيع أن يؤثر في أحد، ومع ذلك علينا أن ننظر إلى هذا الأمر بجد، وكل إنسان يعرف من نفسه ما جبل عليه، وما أوتي من مواهب، فإن كان لديه استطاعة وقدرة في خلطة الناس، ومحاولة الإصلاح والتغيير والتأثير عليهم، مثل هذا لا شك أنه في جهاد، وهذا أفضل من العزلة, أما من لا يستطيع ذلك فالعزلة في حقه مفضلة، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين.
شكر الله لفضيلة شيخنا الدكتور العلامة: عبد الكريم بن عبد الله الخضير على هذا البيان، ونسأل الله -عز وجل- أن يجعل ذلك في ميزان حسناته، وأن يعصمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(1/22)
يقول السائل: ما هو توجيهكم للذين فتنوا بالمال، خاصة بعد ظهور المساهمات وما فيها من أمور مشتبهة أو محرمة؟
أقول: هؤلاء الذين آثروا الدنيا على الآخرة، ولا شك أن الدنيا ضرة، ضرة بالنسبة للآخرة، والإيغال فيها مؤثر فيما يقرب إلى الله -جل وعلا- فإن آثر دنياه أضر بآخرته، وإن آثر آخرته لا شك أنه يتضرر في دنياه، لكن قد يوفق لعملٍ لا يحتاج منه إلى جهد، إذا التفت إلى آخرته، والمتاجرة مع ربه، ومن يؤثر هذه الدنيا ويكسب فيها من الحطام ما يكسب، واليوم يكسب وغداً يخسر، وإذا كسب كسب عشرة بالمائة عشرين بالمائة، وهو في أمور الآخرة الحسنة بعشر أمثالها، ألف بالمائة، من يتخيل هذا، يعني في أسبوع وهو مرتاح بعد صلاة الصبح إلى أن تتشرق الشمس يقرأ القرآن ويحصل على ثلاثة ملايين حسنة، على أقل تقدير، إلى أضعاف كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومثل هذا العمل لا يعوقه عن شيء من أمور دينه ولا دنياه، فإذا انتشرت الشمس صلى ما كتب له ركعتين أو أربع أو ست أو ثمان، يرجع بوافر الأجر والثواب من الله -جل وعلا-.
أما من انصرفوا إلى أمور الدنيا وهذا لوحظ وظهر أثره على أبدان الناس، وعقولهم، فضلاً على أديانهم، أما تأثيرها على الأديان مرّ بنا وبغيرنا أيضاً من طلاب العلم ممن كان يلازم الدروس وأموره بالنسبة للدنيا ماشية ما عنده مشكلة، ثم بعد ذلك انقطع بالكلية عن التعلم, ولازم العلماء عشرات السنين ثم بعد ذلك في سنة أو سنتين رجع شبه العامي.(1/23)
يا أخي أنت حفظت القرآن وتعبت عليه وفي سنتين أو ثلاث تنسى القرآن، أي كارثة مثل هذه الكارثة، ولو سيقت لك الدنيا بحذافيرها، والدنيا إذا علمنا حقيقة هذه الدنيا وأنها ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعرفنا أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فكيف نؤثر الأدنى على الأعلى، يعرف حقيقة الدنيا مثل سعيد بن المسيب ابن الخليفة يخطب ابنته، والوسيط يقول له: جاءتك الدنيا بحذافيرها، هذا ولد الخليفة يخطب بنتك، جاءتك الدنيا بحذافيرها، وسعيد بن المسيب من العلماء الراسخين، هو أفضل التابعين عند الإمام أحمد، وإن كان القول المرجح أن أفضل التابعين أويس بالنص الصحيح. أما من جهة العلم فلا شك أن سعيد أعلم من أويس، لكن يبقى أنه أفضل التابعين عند الإمام أحمد وله وجه تفضيله، وإن كان الحديث الصحيح يرجح أويساً القرني، لما قيل له: جاءتك الدنيا بحذافيرها، ماذا كان الرد؟ الرد قال: إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، فماذا ترى يقص لي من هذا الجناح، الخليفة برأسه كيف يقص لي من هذا الجناح، ومع ذلك يزوج هذه البنت المرأة الصالحة العابدة العالمة يزوجها أفقر واحد من طلابه، من لا يجد المهر، ويجهزها له ويزفها إليه و..........،(1/24)
هذا الذي يعرف حقيقة الدنيا، أما إذا لاحت لنا الدنيا، لوحت لنا بجناحٍ مظلم نتبعها ونترك الآخرة، بعض طلاب العلم نسوا القرآن، منهم من صلى صلاة الظهر وجهر بالقراءة وأمنوا خلفه هذه حياة؟!! نسأل الله السلامة والعافية، فالأمر خطير، يعني هذا بالنسبة للأثر على الدين، الأثر على الدنيا قطعت الأرحام، ترك الآباء والأمهات ما يزارون من أجل هذه الأسهم، حصل الخلل في العقول، مات بعض الناس، جلطات، منهم من جُن، هذه أمور حقيقة تعطي دروس ولكن مع الأسف أنهم لو ردوا لعادوا، لو ارتفعت هذه الأسهم رجعوا ثانية، وليس بأعجب ممن لو أدخلوا النار وخرجوا منها لردوا لعادوا كما أخبر الله -جل وعلا- وإلا قبل سنتين تعرفون الكارثة اللي حصلت، كارثة يعني أدخل المستشفيات بسببها عدد كبير، صار كثير من المستشفيات لا تقبل لكثرة من أصيبوا قبل سنتين، ثم بعد ذلك عادوا، وهذه الكارثة أعظم منها ولو ردوا لعادوا، والله المستعان، فعلى الإنسان أن يقتصد في أمر دنياه، ويكفيه منها البلغة، ولا يعني أنه يعيش يتكفف الناس يسأل الناس من أموالهم، لا. الله -جل وعلا- يقول: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص]، لكن لا تعكس المسألة، تستغرق في أمور دنياك، ثم يقال لك لا تنسَ نصيبك من الآخرة، فالتوازن لا بد منه في حياة المسلم، والله المستعان.
يقول السائل: بعض الناس يتعبد لله بالصلاة وقراءة القرآن وغيرها من الأعمال الصالحة، ولكنه قد يشاهد التلفاز والصور المحرمة، فما توجيهكم لهؤلاء أحسن الله إليكم؟(1/25)
هذا المتعبد لله -جل وعلا- الذي يرجو ثواب الله، عليه أن يحافظ على ما اكتسبه من أجور، ولا يكون مفلساً يوم القيامة، يأتي بهذه الأجور وبالمقابل يأتي بأوزار، والمسألة مسألة ميزان، له كفتان، كفة حسنات وكفة سيئات، ولا شك أن السيئات على حساب الحسنات، فمن عمل العمل الصالح يرجو ثوابه عليه أن يحافظ عليه، ولا يكون مفلساً يوم القيامة، يأتي بأعمال أمثال الجبال ثم بعد ذلك تذهب هباءً منثوراً، يظلم الناس ويأكل أموالهم ويشتم الناس، ويرتكب محرمات، ثم بعد ذلك عند المقاصة لا يجد شيئاً، فعلى المسلم الذي يتعب على هذه الحسنات أن يسعى على دوامها وثباتها.
يقول السائل: هل من لا يدع أهله يكملون الدراسة بسبب ما يوجد في بعض الثانويات والكليات من الفتن، هل في ذلك طيف من الصحة، أحسن الله إليكم؟(1/26)
العلم الشرعي مطلوب من النساء كما هو مطلوب من الرجال، وأعني بذلك العلم الشرعي المأمور به في النصوص الشرعية المورث لخشية الله -جل وعلا- وما لا تقوم الدنيا إلا به من العلوم الأخرى، هذا كله مطلوب، لكن يبقى أن الأصل بالنسبة للمرأة القرار في البيت، يقول الله جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [(33) سورة الأحزاب]، فإذا تعارض مثل هذا مع هذا ترجع إلى الأصل، إذا كان هناك معارضة، أما إذا أمكن التوفيق بأن أدت عملها الأصلي في بيتها، وخدمت زوجها، وواصلت دراستها، ومع ذلك حافظت على نفسها؛ لأن الخروج من البيت وكثرة الخروج له ضريبة، فإذا حافظت على حشمتها وخرجت بزيٍ لا تفتن ولا تفتن بواسطته، واستعملت أيضاً خروجها في طريقها وفي مدرستها إذا رأت ملاحظة لإحدى زميلاتها أسدت إليها نصيحة، وصارت داعية خير في هذا المحفل الذي يجمع جمع من الطالبات، إذا انضم إلى ذلك دعوة إلى الله -جل وعلا- وتوجيه، وإنكار لمنكر، وأمر بمعروف، هذا لا شك أنه خير، فالمنع منه غير متجه، أما إذا خلا من ذلك كله، ورأى النقص في حياة هذه الزوجة، سواء كان فيما يتعلق في بيتها أو في دينها أو في عملها أو في تربية أولادها، لا شك المنع له وجه.
هذا سائل يقول: فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم، هلا وجهتمونا كيف نعود الناشئة على العبادة؟
أولاً تعويد الناشئة على العبادة يكون بالقدوة الصالحة، ولذا شرع أو شرعت النوافل في البيت، وأفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة، ليقتدى به، يقتدي به هؤلاء الناشئة مع أمرهم بها، واقتدائهم به في فعلها، فإذا أراد أن يصلي قال: انتبه إلى هذه الصلاة وصلِّ معي كما صلى ابن عباس مع النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يكلف، فأداره النبي -عليه الصلاة والسلام- من شماله إلى يمينه، فوجهه بالقول والفعل، فبالقدوة الصالحة والأمر بلطف ورفق وتوجيه مقبول لا شك أنهم يحبون بواسطة ذلك العبادة وينشأون عليها.(1/27)
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
فإن كان أبوه عوده على العبادة عوده على الصلاة عوده على الصيام، أعطاه أحياناً بعض الأموال اليسيرة من فئة الريال مثلاً وقال إذا رأيت فقير تصدق عليه، أو قال: أهدِ أو أعطِ إخوانك من هذه الريالات أو العكس، كل هذا مطلوب وهذا فيه تمرين للناشئة. بخلاف ما إذا عودهم على خلاف ذلك، فإنما ينشأون على ما عودوا.
سائل يقول: كيف نجمع بين نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه لما سأل عن آخر الزمان بأن عليه بخاصة نفسه، وبين إنكار المنكر؟
الجمع بين هذه النصوص بما تقدم من هذه تتنزل على أحوال، فمن كان حاله مثل ما ذكرنا سابقاً من أنه بصدد أن يتأثر بهذه المنكرات ولا يؤثر عليه بخاصة نفسه، أما إذا كان يستطيع التأثير في غيره وهو لا يتأثر بشرور الناس مثل هذا عليه أن يزاول الأمر والنهي. والناس كل واحد منهم له مواهبه وله خصائصه، فمن الناس من يطيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبذل فيه جل وقته، وهذا مشاهد، بينما لو تقول له: اجلس في هذا المكان واقرأ جزء من القرآن كأنما حملته جبل، لا يستطيع الجلوس؛ لأنه نشأ على العمل الميداني، وبعض الناس بالعكس مستعد أن يجلس من صلاة الفجر إلى الساعة العاشرة يجلس خمس ساعات متواصلة ست ساعات، يقرأ القرآن ولا تقول له قم: اذهب إلى المستشفى نزور أخونا فلان، قال والله الآن أنا مشغول أنا ما أستطيع، وهذا مشاهد مجرب عند الناس، لا شك أن لهم ميول، واحد يميل كذا، وأحد يميل إلى كذا، والأمة بمجموعها متكاملة.
سائل يقول: ما هو الأولى في زمن الفتن، الالتفاف حول العلماء والتحصن بالعلم، أم الدعوة إلى الله -عز وجل-، وأنا أحب القرآن وسماعه، ولكن كيف أتدبره، أفدنا أحسن الله إليك؟(1/28)
لا شك أن الالتفاف بأهل العلم، أهل العلم والعمل، وأهل الخبرة والدراية الذين يدركون من الأمور ما لا يدركه غيرهم، نظراً لطول أعمارهم بمعاناة هذه الأمور واكتسابهم الخبرات لا شك أن هذا مهم، فلا يصدر إلا عن توجيههم مع ملازمتهم بالعلم، ومدارسة العلم مع زملائه وأقرانه، مع مزاولته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أبواب الخير الأخرى، فيستطيع أن يقرأ القرآن، ويستطيع أن يصلي، ويستطيع أن يخصص وقت يصلي فيه في المسجد الذي تصلى فيه على الجنائز، ويتبع الجنائز، ويزور المرضى، وهذا كله بالمقدور، ولكن المسألة توفيق من الله -جل وعلا- فالله -جل وعلا- إذا رأى من الإنسان خيراً أعانه عليه، فيعينه على هذا الخير.
وأما بالنسبة لقراءة القرآن كثيرٌ من الناس تعلم القراءة، هذّاً بسرعة، هذا يصعب عليه أن يتدبر، لكن عليه أن يأطر نفسه على التدبر، التدبر يكون بقراءة القرآن على الوجه المأمور به، يعني يرتل القرآن ولا يسرع، ومع ذلك يكون بيده قلم يدون الألفاظ التي تشكل عليه، ويراجع فيها كتب الغريب، فإذا انتهى من القرآن على هذه الطريقة الآن لا يشكل عليه اللفظ، قد يشكل عليه معنى من المعاني، يراجع فيه كتب التفاسير الموثوقة حتى تنحل لديه هذا الإشكالات، ثم بعد ذلك يقرأ القرآن بدون إشكالات، ويتدبر، وفي كل مرة يعرض فيها القرآن يتكشف له من العلوم ما لم يكن عنده من قبل، والهدى كله في تدبر القرآن.(1/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
أسئلة محاضرة: العبادة في زمن الفتن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
ولعلنا نبدأ عرض الأسئلة، وما تبقى من هذه الأسئلة المهمة.
فأبدأ بسؤال لإحدى المواقع، هذه سائلة تقول: فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم، أريد معرفة الحكم بأن أكلم الشيوخ عن طريق النت بالكتابة والكلام فيما يتعلق بأمور الجامعة، فهل مثل هذا جائز أو لا؟
الواضح من السؤال أن هذه طالبة في الجامعة، تخاطب الشيوخ والأساتذة المدرسين من خلال الشبكة، فتسألهم ويجيبونها، إذا كان هذا في العلم المحض، وليس فيه خروج عن هذا العلم بأدب العلم، وليس هناك نوايا أخرى غير العلم وقصد العلم، وإذا وجد من أي طرف من الأطراف غير ذلك يقطع الاتصال، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى.
وهذه الآلة الشبكة لا شك أنها مشتملة على شرورٍ عظيمة، لكن فيها خير، وفيها نفع، وانتشر العلم بواسطتها، والأسئلة ترد إلى المشايخ من الشرق والغرب في آن واحد وفي درسٍ واحد، يردنا من أكثر من عشرين دولة أسئلة، فلا شك أنها خير، فإذا استعملت من هذا الوجه للخير وفي الخير من غير أن يعتري هذا الغير دخن وإلا أمر غير مقبول في الشريعة فهذا استعمال طيب إن شاء الله تعالى.
أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، سائلٌ يقول: كيف نعرف أنه قد جاء الزمان الذي يكون العامل فيه بأجر خمسين من الصحابة؟
إذا لم يجد الإنسان ما يعينه على هذه العبادة، بل وجد من يصرفه عنها، وجاهد نفسه لأداء هذا العمل، ولا يجد أدنى عون لا من قريب ولا من بعيد، ولا من أهل ولا من صديق ولا من جار ما يعينه على هذه العبادة، ثم وجد نفسه تحتاجه إلى جهاد، فجاهد نفسه ثبت له الأجر إن شاء الله تعالى.(1/1)
أحسن الله إليك، سائلٌ يقول: أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا شيئاً من فتح آخر الزمان، كما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لما سألوه عن الصلاة في وقت خروج الدجال؟
السؤال هذا ما هو محدد، السؤال ما هو محدد، ففقه آخر الزمان متعلق بجميع أبواب الدين، فما أدري ماذا يقصد. أما السؤال عن الصلاة في يوم مقداره سنة، هذا لا شك أنه يقدر لها، لا يكتفى بخمس صلوات كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لكن ماذا عن الصيام ماذا عن الزكاة ماذا عن إذا خرج الإنسان بماله ولم يجد من يقبله ماذا يصنع، هل يسقط الفرض، أو لا بد من أدائه إلى الأصناف الثمانية؟ هذه الأمور تطول، تحتاج إلى استعراض جميع أبواب الدين.
أحسن الله إليك، سائلٌ يقول: ذكرتم في المحاضرة أن الهجرة من بلاد الكفر التي استشرى فيها الفساد والمنكر، والسؤال: ما الحكم في الهجرة من بلاد الإسلام إذا استشرى فيها الفساد، ولم يغير، هل تكون واجبة أيضاً؟ وهل هناك حديثٌ معناه: ((لا هجرة بعد الفتح))؟
نعم الحديث ((لا هجرة بعد الفتح)) صحيح، لكنه مخرجٌ عند أهل العلم أنه لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام، ومنهم من يحمله على أنه لا هجرة بعد الفتح أفضل من الهجرة قبل الفتح، أو فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح، فالتخريج سهل، لكن يبقى أنه إذا وجدت المنكرات في بلد وهو لا يد له في تغيير هذا المنكر، ولا يستطيع أن ينزوي في حيٍ بحيث لا يطلع على هذه المنكرات التي لا يستطيع تغييرها، فإن مثل هذا مرغبٌ في هجرته إلى بلدٍ هو أخف منه في المنكرات، ومشاهدة المنكر لا تجوز إلا بنية تغييرها، على كل حال لو أن الإنسان اقتصر في بلده الذي شاعت فيه المنكرات من بيته إلى مسجده الذي يخلو عن المنكرات، حينئذٍ يكون حلس بيته وجليس كتبه وأهله، يربيهم وينشئهم على الخير، ولا يغشى المحافل التي فيها المنكرات التي لا يستطيع تغييرها.(1/2)
أحسن الله إليك، سائلٌ يقول: الحديث الشريف: ((العبادة في الفتن كهجرة إلي)) هل هو في الصحيحين أم لا؟
هذا الحديث في مسلم، عند مسلم والترمذي, مخرجٌ في صحيح مسلم.
أحسن الله إليك، سائلٌ يقول: هل يصح التفضيل بين المشايخ، وهل هي من الفتن؟
التفضيل لا شك أن على رؤوس الناس الأنبياء، وجاء من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء، ولا تفضلوني على يونس بن متى))، وجاء قول الله -جل وعلا-: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[(253) سورة البقرة] فالمفاضلة بينهم هي صريح القرآن، والنهي عن ذلك أنه إذا قصد به ازدراء المفضول والتنقص منه، إذا حمل ذلك التفضيل على التنقص من المفضول يمنع، وقل مثل هذا في أهل العلم، لا شك أن نقول فلان أفضل من فلان وأعلم من فلان فيما يظهر لنا، والسرائر إلى الله -جل وعلا-، لكن الاستفاضة في مثل هذا لا شك أنها كافية عند المسلمين، فبإمكانهم أن يقولوا فلان أعلم من فلان، أو إذا أراد أن يطلب العلم على فلان ..... أن يقول فلان أنفع لك من فلان، هذا لا يمنع إذا لم يصل الأمر بالشخص إلى أن يزدري المفضول أو يتكلم فيه، ولو بما فيه.
ويقول: هل يقيِّم التلميذ شيخه؟(1/3)
التلميذ لا يستطيع أن يقيم شيخه إلا إذا لزمه مدة طويلة، ووجده بعد هذه المدة أن فائدته منه أقل من إفادته من غيره في أقصر من مدته، فحينئذ يتبع الأنفع له، ومع ذلك لا يجزم بأن حكمه هو الصائب؛ لأنه قد يقيم من زاوية، ومن زوايا أخرى يكون هذا الشيخ أفضل الذي فضله عليه، وعلى كل حال طالب العلم المتمكن المميز يستطيع أن يفاضل بين العلماء لا سيما بالنسبة إلى انتفاعه هو؛ لأنه قد ينتفع من عالم وغيره ينتفع من غيره، ولا شك أن العلماء مدارس، فبعض الناس تناسبه هذه المدرسة، وبعض الناس تناسبه تلك المدرسة، فمثلاً إذا نظرنا إلى علماء هذا الزمان وجدنا مثلاً منهم من يهتم بالرواية والتصحيح والتضعيف للأخبار، كالشيخ الألباني -رحمه الله- وبعض الناس يميل إلى هذا الجانب، فيجد انتفاعه بالشيخ الألباني أكثر من انتفاعه بالشيخ مثلاً ابن عثيمين الذي اهتمامه وعنايته بالدراية أكثر، الرواية من علوم الاستنباط، وبعض طلاب العلم يجعل الشيخ ابن عثيمين أفضل بمراحل من الألباني مثلاً؛ لأن هذا ميوله فقهية، فاستفاد من الشيخ ابن عثيمين أكثر من فائدته من تخاريج الألباني وتصانيفه والعكس.
لكن الله -جل وعلا- جمع بين الأمرين على الشيخ ابن باز -رحمه الله- فعنايته بالرواية والدراية على حد سواء، والله المستعان. وهذا من باب التمثيل وإلا فشيوخنا كلهم فيهم خير وبركة ويعنون بالعلم من جميع أبوابه ولله الحمد.
أحسن الله إليك، سائل يقول: كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وتطاول الكلام عن هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من قبل كتاب بعض الصحف، وأصبحوا يلمزون أعضاء الهيئات ويهاجمونهم ويفتعلون القصص عليهم، ما رأي فضيلتكم في ذلك، وما هو دور المسلم في الرد على هؤلاء الصحفيين الذي زاغت قلوبهم وأقلامهم؟(1/4)
أما من يقع في رجال الحسبة؛ لأنهم قاموا بهذه الشعيرة فعلى خطرٍ عظيم نسأل الله العافية؛ لأنه ناتجٌ عن كرهٍ لهذه الشعيرة لا لذواتهم، فالذي يكره ما أنزل الله أو بعض ما أنزل على محمد -عليه الصلاة والسلام- من الشعائر كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا شك أن هذا خطر، وهذا من سيما المنافقين نسأل الله السلامة والعافية.
أما من يكره زيداً من الناس ولو كان من أهل الحسبة لمشاحة دنيوية فيما بينه وبينه فمثل هذا يكون كالشخص العادي، لكن أذية الآمرين بالمعروف ورجال الحسبة بدءاً من الكلام في أعراضهم، والتفكه فيهم بمجالسهم، إلى أن يصل الأمر إلى حد القتل، فهو مقرونٌ بأذية الأنبياء الذين يأمرون بالقسط من الناس، هذا مقرونٌ بقتل الأنبياء، فالأمر شأنه عظيم، والكلام فيهم أعظم من الكلام في غيرهم؛ لأن الكلام في الإنسان المجرد عن الصفات الشرعية أمره أخف، وإن كانت غيبة المسلم حرام، والوقوع في عرضه من الكبائر، لكن يبقى أنه إذا تكلم فيه بحسب ما يحمله أو يدعو إليه من علمٍ أو أمرٍ بمعروف ونهي عن منكر فمثل هذا شأنه عظيم، وعلى طالب العلم وعلى مريد النجاة أن يسعى بجهده أن يدافع عن هذه الثلة وهذه الفئة ليدخل في زمرتهم؛ ليكون محباً لهم، فيكون في الآخرة مع من أحب، وهذا أقل ما يقدم لهم الدفاع عنهم.
أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، سائلٌ يقول: ما أثر الثناء على أهل البدع والطعن في أهل السنة في زمن الفتن؟(1/5)
لا شك أن الثناء يغرر بالناس، الثناء يغرر بالناس, والقدح ينفر الناس، فكونك تغرر بالناس في مدح من لا يستحق المدح هذا لا شك أنه غش، وكونك تنفر الناس عمن ينفع الناس لا شك أن هذا قطع طريق، يعني عالم نفع الله به وعلى الجادة، ثم تقول فلان لا يؤخذ العلم عنه، هذا قطع طريق، على طلاب العلم أن يستفيدوا من هذا العالم، وتغريرك بالثناء الكاذب بمن لا يستحق الثناء هذا لا شك أنه غش، وأهل العلم يقررون في شرح حديث: ((الدين النصيحة)) ومن الغش لولي الأمر غره بالثناء الكاذب، فلا يجوز أن يغر أحد بالثناء الكاذب.(1/6)
نعم، بعض الناس قد يجتهد في الثناء عليه ليصل إلى مصلحة أعظم، وهذه يسلكها بعض العلماء الذين عاصرناهم من أهل العلم والعمل وأهل الجهاد والدعوة، يمدحون ولي الأمر؛ لأنه بهذا المدح ينفتح قلبه، وينشرح لأمور هي من أعمال الخير، ينشرح لها أكثر مما لو يحصل هذا المدح، وعلى كل حال الأمور بمقاصدها، فغر المبتدع، وغر الناس به لا شك أنه غش، بل من أعظم أنواع الغش، فإذا حرم الغش في الدرهم والدينار فلئن يحرم في أديان الناس من باب أولى، فكونه يمدح فلان من المبتدعة لا سيما في الجانب الذي فيه البدعة، لكن لو مدح يجيد علم النحو مثلاً وهو من الأشاعرة يمدح في هذا الباب وينبه على ما فيه من بدعة هذا ما يمنع إن شاء الله تعالى، في شيوخ أئمة الإسلام في العلوم الأخرى لا أعني في علم قال الله وقال رسوله في شيوخهم من هو فيه شوب بدعة، وقد روى الأئمة وعلى رأسهم البخاري ومسلم عمن فيه شوب بدعة، لكن فيما لا يؤيد بدعته مع بيان بدعته، والتحذير منه في هذا الباب، فنفرق بين إذا كان العلم لا يوجد إلا عنده يؤخذ منه هذا العلم لكن مع بيان الواقع، أما أن يمدح بإطلاق, يمدح بما فيه من خير ولا يذكر بما فيه من بدعة لا شك أن هذا تغرير؛ لأنه قد يؤخذ عنه ما عنده من بدعة، يغتر من يسمع هذا المدح ثم يأخذ عنه كل شيء، مما في ذلك بعض ما يعتقده ويدعو إليه من بدعة، والله المستعان.
أحسن الله إليك، سائلٌ يقول: أبين للناس الخير فإذا عملوا ذلك صاروا أحسن مني، فيأتي في قلبي الندم، فما النصيحة؟
لو أدركت حقيقة الأجر المرتب على فعلك ما ندمت؛ لأن من دلّ على هدى فله مثل أجر فاعله، فهذا الذي صار خيراً منك أعماله لك مثل أجرها، فلا تندم، ومع ذلك سابق وسارع وكن خيراً منه.
أحسن الله إليك، سائل يقول: ما دور شباب الإسلام ناحية ولاة الأمور في كثرة الفتن التي ظهرت بين المسلمين من القتل وسب العلماء، وكذلك سب حكام الدولة السعودية؟(1/7)
على كل حال مثل هذا الأمر ذكرناه في هذه المحاضرة أشرنا إليه، أن على الإنسان أن يحفظ ما اكتسب، والغيبة محرمة، فإذا وقع في أهل العلم، وزهد الناس فيهم، إلى أين يذهب الناس، هذا حال بين الناس وبين الإفادة من أهل العلم، وإذا وقع في الحكام الذين هم ما زالوا في دائرة الإسلام، أو المصلحة في الانضواء تحت لوائهم بدلاً من الفرقة والشتات والقتل والتدمير والتفجير، واختلاف الكلمة، والفساد الذريع لا شك أن هذا القدح يسهم في نشوء مثل هذه الفتن، والله المستعان.
أحسن الله إليك، سائل يقول: ما هي الكتب التي ينطلق منها طالب العلم المبتدئ في علم العقيدة؟
هذه الكتب في سائر العلوم بيناها في مناسبات كثيرة وفيها أشرطة مسجلة في العلوم كلها، لكن ما دام السؤال محدد في العقيدة نشير بإشارة سريعة إلى أن طالب العلم عليه أن يبدأ بمؤلفات الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، بدءاً من الأصول الثلاثة والقواعد الأربعة، وكشف الشبهات، وكتاب التوحيد، وغيرها من كتبه، فهي خير ما ينشأ عليه طالب العلم في هذا الباب.
هنا سؤال من دولة الإمارات يقول: فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يجزئني إذا رأيت معصية أن أعطي للشخص متناً أو مطويةً تتحدث عن معصيته ولم أتحدث عن المعصية مشافهة، أو شريطاً أو شيئاً من هذا، فهل يجزئ هذا، حفظكم الله؟
مسألة الإنكار والبيان كلها علاج، وبعض الناس يحتمل الكلام مواجهة، وينشرح صدره لقبول الحديث من المتحدث، فمثل هذا يبين له بلطف ورفق ولين أن ما يرتكبه منكر، وبعض الناس تراه من تصرفاته ومن قسمات وجهه أنك مجرد ما تتكلم يثور عليك ولا يقبل منك شيء، فمثل هذا تقول له: يا أخي تفضل هذه إن شاء الله إنها تنفعك، فإذا أخذها وهدأ مثلاً، وقرأها في بيته واستفاد منها لا شك أن هذا أسلوب من الأساليب النافعة إن شاء الله تعالى.(1/8)
وهذا سائلٌ يقول: ما حكم شراء الصحف والمجلات التي كثرت فيها الصور، وهل يجوز إدخالها إلى المنزل وهل تمنع دخول الملائكة أم لا؟
لا شك أن التصوير واقتناء الصور أمرٌ محرم، داخلٌ في النصوص التي فيها التشديد على المصورين، وهذه الصحف والمجلات لا تخلو من أخبار، طالب العلم قد يكون بحاجة إليها أحياناً، والاطلاع على أحوال من حوله قد يحتاج إليه، لكن لا يصرف إليه جهده وجل وقته، كما يفعل بعض الناس، بعض الناس من أن يخرج من دوامه أو دراسته تكون معه الصحف والمجلات كلما صدر، بلغته وبغير لغته، من بلده ومن غير بلده، ثم لا يزال بها من صفحة إلى صفحة إلى أخرى إلى قدوم النوم، هذا خاب وخسر إذا كان هذه تجارته وهذه بضاعته، فعلى كل حال شراء هذه الصحف إن كان من قصد الاطلاع على هذه الأخبار التي هو بحاجة إليها، فبقدر ما يحتاجه يقتني، ثم بعد ذلك يتلفها ولا يدخلها في منزله؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة.
وهذا سائلٌ يقول: ما حكم وضع جهاز الجوال على تنبيه فيه قراءات أو تلاوات؟
إذا أدى ذلك إلى امتهان القرآن، وسماع القرآن من غير استماع، فإن هذا لا شك أنه إزراء بالقرآن وامتهان له، القرآن إنما أنزل ليقرأ ويتدبر، ويتعبد بتلاوته، ويعمل بأحكامه، ويتخلق بآدابه، فالقرآن منهج ودستور حياة، ليس لهذا الأمر، فلا يجعل فيه بدلاً من النغمات، ولا يعلق في الجدران؛ لأن هذا خلاف ما أنزل من أجله، المقصود أن مثل هذه التلاوات لا تنبغي بل هي خلاف الأولى.
وهذا سائلٌ يقول: فضيلة الشيخ أنا أعيش في بلاد الكفر، وقد أخذت جنسيتهم، وأعمل فيها منذ زمنٍ بعيد، وأنا أستطيع أن أظهر شعائر العبادة، ولكن هل يلزمني الهجرة من تلك البلاد؟(1/9)
على كل حال إذا كنت تستطيع الهجرة إلى بلدٍ تأمنُ فيه على نفسك وعلى ولدك وتأمن فيها على دينك أولاً وقبل كل شيء وأديان من ائتمنك الله عليهم، إذا كنت تستطيع الهجرة إلى البلاد الموصوفة بهذا الوصف تعين عليك، أما إذا كنت مستضعفاً لا تستطيع حيلة، ولا تهتدي سبيلاً إلى ذلك فأنت معذور. أما كون الإنسان يقول أنه يستطيع أن يظهر الشعائر، بمعنى أنهم يصلون في صالة أو شقة أو في شيء من هذا، ومع ذلك هم يرون المنكرات، ويطالعونها ويستمرونها، ونشأوا فيها، ولا ينكرونها ولا يستطيعون، فمثل هذا لا يكفي، لا يكفي أبداً.
وهذا سؤال من أسئلة الحضور يقول: إذا كان مديري في العمل لا يصلي فكيف أتعامل معه؟ وهل هذه فتنة؟ وهل أسلم عليه؟
إذا كان لا يصلي بالكلية، تعرف أنه لا يصلي بالكلية، لا في بيته ولا في المسجد ولا في العمل وتارك للصلاة، فهذا المرجح أنه كافر، نسأل الله العافية، والتعامل معه كسائر الكفار لا يبدأ بالسلام، ومع ذلك الهجر إن أمكن هو المتعين، وإذا لم يمكن أو لم يترتب عليه مصلحة، فالصلة التي لا تدخل القلب، يعني صلة بلسان أو شبهه، ولو أدى ذلك إلى بذل شيء من المال له، ويرغب فيه بالإسلام، ويكون من أساليب الدعوة إلى الله -جل وعلا- ويكون هذا أنفع له من الهجر، لا شك أن هذا الهجر -كما يقرر أهل العلم علاج- إن كان أنفع فهو المتعين، وإلا فالصلة.
وهذا من أسئلة الإخوة في المواقع، يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من حافظ على الصلوات الخمس وأتبعها بالنوافل وحافظ على أذكار الصباح والمساء، هل يدخل في جنس المتعبدين، أم أن وصف التعبد مخصوص بصفات لا بد من توفرها؟(1/10)
على كل حال التعبد أمرٌ نسبي، فالذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات لا شك أنه على خيرٍ عظيم، والأعرابي الذي جاء يقول للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أن رسولك يقول: إن الله قد افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: آلله أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)) فقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، ثم في النهاية بعد أن ذكر شرائع الدين، قال: ((أفلح إن صدق)).
فهذا لا شك أنه مفلح، لكن إن زاد من أمور العبادة -والجنة درجات- وهذه العبادات أعني القدر الزائد على الواجبات المسلم بحاجة ماسة إليه؛ لأنه لا يضمن أن يأتي بالواجبات على وجهها، لا بد أن يؤديها ولو في بعض الأحيان على وجه فيه شيء من النقص، بعض الناس يقول إنه صلى في المسجد وحافظ على الصلاة، لكن صلاة لم يخرج منها إلا بنصف أجرها، بثلث أجرها، بربع أجرها بعشر أجرها، هذه الصلاة لا شك أنها تحتاج إلى كثرة في النوافل لتسدد هذا النقص، يعني صلاة ناقصة، وبعض الناس يغتر بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((الصلوات الخمس إلى الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) يقول: أنا ما شاء الله أصلي الصلوات الخمس في المسجد، ومع هذا تكفر, الصلاة التي لا يخرج صاحبها إلا بعشر أجرها يقول شيخ الإسلام: إن كفرت نفسها يكفي، أما كونها تكفر غيرها فلا.
فالمقصود بالصلوات التي تؤدى على الوجه المطلوب ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فعلى الإنسان أن يكثر من النوافل علها أن تسد هذه الخروم وهذه الخروق التي في الفرائض، فالإنسان إذا حوسب على صلاته، ورؤي ما فيها من النقص، قيل: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإذا وجد تطوع كمل به النقص، والله المستعان.
وهذا أسئلة من الأخوات، تقول السائلة: ما حكم قراءة المرأة في بعض البرامج العلمية، وتحسين صوتها بقراءة القرآن في البرنامج التعليمي؟(1/11)
قراءة المرأة وتحسين الصوت إذا كانت بحيث يسمعها الرجال لا تجوز؛ لأن تحسين الصوت لا يسلم من خضوع، والله -جل وعلا- يقول: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}[(32) سورة الأحزاب] أما تحسين الصوت في مجتمع وفي محيط نسائي فهو مطلوب، وقد أمرنا بتزيين الصوت، بتحسين الصوت بالقرآن، وأمرنا بالتغني بالقرآن، لكن بحيث لا يسمعه الرجال، وأما صوت المرأة في الجملة إذا كان صوتها الطبيعي بحيث لا يورث فتنة في قلوب الرجال فلا بأس به، لكن يبقى أن قراءة القرآن بالتحزن بالخشوع بتزيين الصوت بتحسينه لا شك أنه يقع من قلب الرجل موقعه، والله المستعان.
فضيلة الشيخ هذا السائل يقول: ما حكم إذا رأيت من هو مقصر في الطاعات، ومرتكب لبعض المعاصي الظاهرة، كحلق اللحية أو الإسبال، هل يجب علي الإنكار عليه؟
هذا منكر، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) لكن أهل العلم يقولون: إذا عمت البلوى بمنكر من المنكرات بحيث يكون تغييره حائلاً دون الإنسان وبين تحقيق مصالحه أو عائقاً لهم عن تحقيقها، أو يجلب عليه مفاسد إذا كثر، إذا دخل محفل من محافل الناس، وجد الغالب منهم حالق للحيته ومسبل، إذا أنكر على هذا ثم على هذا انتهى عليه الوقت، ولما يحصل ما ذهب من أجله فمثل هذا ينكر بقدر استطاعه، ولا يلزمه أن ينكر كل أحد.
سائلٌ يقول: هل يقدم الزواج على طلب العلم؟(1/12)
الزواج لا شك أنه سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ولا تعارض بينه وبين طلب العلم، بل هو خير معين وميسر لطلب العلم، لا سيما إذا كانت الزوجة لها رغبة في العلم، وفيها تدين ذات دين، فلا شك أنها تعينه وتيسير له أسبابه أسباب طلب العلم، ولو لم يكن في ذلك إلا الراحة النفسية، الشاب قبل الزواج لا شك أنه مشتت، وأحياناً يريد أن يحفظ ثم بعد ذلك لا يستطيع؛ لأنه مشتت، قلبه هنا وهناك، لا سيما إذا كانت رغبته في الزواج شديدة، مثل هذا لا يستطيع أن يطلب العلم إلا إذا تزوج، نعم الزواج له ضريبة، وفيه أيضاً شيئ مما يعوق، لا يعني أنه معين من كل وجه، نعم، الزوجة لها مطالب ولها حقوق ولها واجبات ولها أيضاً متطلباتها التي أحياناً لا تكون بيد الزوج، فيحتاج إلى أن ينشغل بها، وعلى كل حال الانشغال بالزوجة وهي سنة من سنن المرسلين، وهي سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن رغب عنها فليس منه -عليه الصلاة والسلام- مثل هذا خير ما يعين على طلب العلم وتحصيله، ولا إشكال إن شاء الله تعالى في أن يتزوج الإنسان، وهذا مجرب، مجرب، يعني إنسان إذا هيئت له جميع الأسباب، نظفت ثيابه وجهز طعامه وحتى كتبه رتبت، يعني هذا خير معين لطالب العلم، فالزواج لا شك أنه خير من العزوبة.
سائلٌ يقول: كيف يزيل الشخص الإعجاب بالنفس عند عمل العبادة؟
الإعجاب لا شك أنه آفة من الآفات في سبيل المتعلم والمتعبد، الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- يقول:
والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ ... أعمال صاحبه في سيله العرم
فأنت إذا نظرت إلى من هو فوقك عرفت حقيقة نفسك، وإذا نظرت إلى ما لله جل علا- عليك من نعم ازدريت نفسك وازدريت عملك، وإذا فكرت في حقيقة ذاتك، ومآلك ازدريت ما تعمل، وعلى كل حال على الإنسان أن ينظر في أمور العبادات إلى من فوقه؛ لئلا يعجب بعمله، بينما هو مأمور في أمور الدنيا أن ينظر إلى من هو دونه؛ لأنه أحرى أن لا يزدري نعمة الله عليه.(1/13)
سائلٌ يقول: نحن طلابٌ في كلية الشريعة، فأرجو منكم يا شيخ النصح لنا وخاصة أنه يوجد منا تقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل تنصحنا بعد التخرج بالالتحاق بالهيئات لمعاونة إخواننا والاستفادة لنا ولهم؟
أقول: ما دمتم في مرحلة الطلب فليكن الغالب من همكم التعلم، والعمل بالعلم، فالعمل خير معين على التحصيل وتثبيت المعلومات، ومع ذلك لا تنسَ الأبواب الأخرى، إذا مررت بصاحب منكر أنكر عليه، إذا رأيت شخصاً يحتاج إلى إسداء نصيحة أو أمر بمعروف ابذل له النصيحة وامنحه النصيحة، فمثل هذا لا يعوقك، وعليك أيضاً أن تعطي من نفسك، ثم إذا تخرجت إذا التحقت بأي مرفقٍ ينفع الله فيك وكنت أميل إليه، إن كنت ترى أنك تنفع فيه أكثر من المجالات الأخرى فاتجه إليه، وأما العمل في الحسبة لا شك أنه من أفضل الأعمال، وهو سبب حفظ هذه الأمة، وبه يدفع الله جل وعلا الشرور, وفي على لسان المعاصرين يقولون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام الأمان، هذا من أساليب المحدثين، وكلامهم صحيح؛ لأنه مع عدمه تقع الكوارث فيما مرَّ بنا من الأحاديث.
سائل يقول: هل يكاثر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمم بالفسقة وتاركي الصلاة؟(1/14)
الرسول عليه الصلاة والسلام يكاثر بأمته، والمراد بالأمة أمة الإجابة، فمن خرج عن دائرة الإسلام لا يكاثر به، وأما من كان في دائرة الإسلام فيكاثر به، وإن حصل له ما حصل من عقوبة على بعض ما ارتكبه من منكرات، والمنكرات التي عمت الآن مع الأسف الشديد توجد في مواطن العبادة، وإن كان بعضهم ينازع يقول هذه، وهذا منكر وليس بمنكر، يعني هذه النغمات التي نسمعها حتى في المطاف، نسمع والناس يصلون يسمعونها، هذه النغمات قد ينازع مثلاً من ينكر عليه، فيقول هذه ليست بموسيقى هذا مجرد تنبيه، وهو موجود عند الناس كلهم، وهناك موسيقى يتفق على أنها موسيقى لا نجعلها، لكن مثل هذه النغمات أقول: الحكم فيها جرس الدواب، جرس الدواب ممنوع بالنص الصحيح الصريح ((لا تصحبنا رفقة فيها جرس، ولا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس)) فللنظر إلى هذه النغمات ونقارنها بجرس الدواب، كلٌ يعرف كيف نغمة جرس الدواب، وإلي ما يعرف يروح يسمع يا أخي، فتكون هي الحكم، فما كان مثلها في الإطراب أو فوقها فهو ممنوع، وما كان دونها ففيه مندوحة إن شاء الله تعالى، لأن بعض الناس إذا نوقش عن هذا، يقول: هذه ليست موسيقى، يقول: أنت سامع أغنية فيها مثل هذا، هذه ليست موسيقى، نقول: الحكم في مثل هذا والظاهر الذي جاء فيه النص؛ لأن مثل هذه الأمور يعني يتنازع فيها تقول موسيقى ويقول ما هي موسيقى، ثم بعد ذلك من الحكم، تقول له الحكم الشيخ الفلاني، يقول الشيخ الفلاني هو يعرف الموسيقى علشان نحتكم إليه؟ فنقول الحكم في هذا ما جاء النص فيه وهو جرس الدواب، فإن كانت هذه الموسيقى مثل جرس الدواب في الإطراب أو فوقه فهي في حيِّز المنع، وإن كان دونه في الإطراب ففيها مندوحة، لا إشكال إن شاء الله تعالى.
سائل يقول: ما هو أرجح أقوال أئمة الحديث في مسألة زيادة الثقة؟(1/15)
زيادة الثقة بالنسبة للقواعد المتبعة المطردة عند المتأخرين يختلفون فيها، منهم من يقول: تقبل الزيادة مطلقاً؛ لأن هذه الزيادة خفيت على غيره، كونها خفيت عليه، ومن حفظها حجة على من لم يحفظ، والزيادة كما يطلقون من الثقة مقبولة، فهي مقبولة مطلقاً، القول الثاني: أنها مردودة مطلقاً؛ لأن القدر المتفق عليه في الحديث دون الزيادة، وهذه الزيادة مشكوكٌ فيها، والأصل الاحتياط للرواية فلا تقبل هذه الزيادة، ومنهم من يقول: الحكم للأحفظ، ومنهم من يقول: الحكم للأكثر، هذه قواعد مطردة موجودة في كلام العلماء، لكن يبقى أننا لو نظرنا إلى أحكام الأئمة على هذه الزيادات وفي حكمها الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع، لا شك أننا إذا قارنا بين أقوال الأئمة لوجدنا أنه لا قاعدة لهم مطردة في ذلك، فتجد الإمام أحمد يقبل هذه الزيادة ويرد تلك الزيادة، ويقبل الوصل من هذا ويقبل الإرسال من ذاك، ويقبل الوقف في هذا الحديث، ويقبل الرفع في حديث آخر، ليست لديهم قواعد مطردة، وإنما يحكمون على الأحاديث بجملتها، أو بأبعاضها وجملها من زيادات وغيرها بالقرائن، فالتي ترجحه القرائن يحكمون به، ولذلك قد تجد الحديث فيه زيادة، يقبلها أحمد ويردها البخاري، ويقبله أحمد موقوف ويقبله البخاري مرفوع، ويقبله ابن معين موصول ويحكم عليه أبو حاتم بأنه مرسل، وهكذا.(1/16)
فلا تجد قاعدة مطردة، وإنما الحكم عند الأئمة المتقدمين للقرائن، لكن متى يستطيع طالب العلم أن يحاكي المتقدمين في معرفة القرائن، إذا صافهم وساواهم في المحفوظ؛ لأن العلم علم حفظ يحتاج إلى حفظ يحكم بجميع ما جاء في الباب على بعضه، فإذا رأى أن هذا الخبر بالنسبة لمرويات فلان يشبه أن يكون محفوظاً قبله، وإذا كان بعد عرضه على مروياته ومرويات غيره يشبه أن يكون غير محفوظ، ولو كان هو من أحفظ الناس رده، وإذا نظرنا إلى حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) حكم البخاري بوصله، مع أن من أرسله كالجبل شعبة وسفيان، لكن هناك قرائن لا يدركها آحاد المتعلمين، يعني من أراد شيء أو نموذج لهذه القرائن فليقرأ ما كتبه الترمذي حول هذا الحديث، هو يعرف أن المسألة فيها دقة وشفوف لا تتهيأ لكثير من المتعلمين، قد يفني الإنسان عمره في التخريج ودراسة الأسانيد وجمع الطرق، ومع ذلك ما شم رائحة لهذه القرائن؛ لأن المسألة تحتاج إلى استيعاب لأحاديث الباب، ودون ذلك خرط القتاد، فأين المتعلم في أزماننا بل قبلنا بقرون ممن يحفظ سبعمائة ألف حديث، ستمائة ألف حديث إلى مائة ألف حديث من يحفظ هذا القدر؟ لا شك أن من يحفظ مثل هذه الأعداد الهائلة، وقد أوتي نفساً حديثياً لا شك أنه يحكم بالقرائن، ويوفق ويسدد بإذن الله.
هذا السؤال يقول: فضيلة الشيخ ما حكم الدراسة في الجامعات المختلطة، ولا يوجد غيرها في بلدي؟
الدراسة في هذه الأماكن التي يجتمع فيها الرجال والنساء لا شك أن الاختلاط محرم، وطلب العلم مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- وما عند الله لا ينال بسخطه، فلا تجوز الدراسة في هذه المدارس التي يحصل فيها الاختلاط.
سؤال يقول: صدرت من بعض الجهات العلمية ترك مقاطعة بعض المنتجات، وقد اختلفت مع غيري في ذلك؟(1/17)
المقاطعة لا شك أنها إذا كان لها أثر وإنكاء في العدو العادي الظالم البادئ بالظلم لا شك أنها تكتسب الشرعية من هذه الحيثية، فإذا كان فيها نكاية لهم لا شك أنها شرعية وليس بأيدينا غير هذا الأسلوب، ومع ذلك قد يقول قائل: أننا قاطعنا أناس ليس هم أهل المعصية؟ نقول متى يؤطر مثل هذا على ترك هذه الأذية إلا بواسطة قومه، قومهم هم الذين يضغطون عليه، ومعروفٌ أن الذي ينقض العهد واحد، ما يلزم أن تكون كل الأمة المعاهدة تنقض العهد، فيعاقبون من أجل واحد، لماذا؟ لأنهم لم يأخذوا على يده، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما قال لأهل خيبر .......(1/18)
قاتلهم، وإن كانوا هم في الأصل معاهدين، لكنهم نقضوا عهدهم بإخفاء الذهب الذي يحوزه حيي بن أخطب وكان مسك ثور، يعني جلد ثور مملوء ذهب، لما أخفوه عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهل يتصور أن جميع أهل خيبر أخفوه؟ على كل حال مثل هذا إذا كان فيه نكاية لهذا العدو البادي الظالم، ولا يوجد وسيلة غيرها فهي تكتسب الشرعية من هذه الحيثية، من أجل أن يضغط هؤلاء الذين تضرروا على قومهم، وإلا قومهم لن يحسبوا لنا ألف حساب؛ لأننا في نظرهم أمةً مستضعفة، فلن يحسبوا لنا أي حساب، ولا ظلمناهم، إحنا ما ظلمناهم حينما قاطعناهم، ولا اعتدينا عليهم، المقصود أن مثل هذا أولاً لا يترتب عليه ظلم لغيره، يعني كوني أنا أشتري من فلان أو من فلان أو من الشركة الفلانية أو من الشركة الفلانية، أو من البلد الفلاني أنا حر، لكن كونه يعتدى على نبينا -عليه الصلاة والسلام- من قبلهم، ونذهب بطوعنا واختيارنا ونشتري من بضائعهم! أبداً، يعني لو قدرنا أن صاحب بقالة –مثلاً- أو بقالتين أمام بيتك، هما سواء، هذه بقالة كذا، وهذه بقالة كذا، بين والدك أو أخيك أو ابنك سوء تفاهم مع أحدهما وتركت الشراء منه وذهبت تشتري من الثاني أحد يلومك، يمكن أن تلام على هذا؟! أنت ظلمته، أنت اعتديت عليه، أنت أتلتف ماله، أنت نلت عرضه؟ أبداً، فكوني أختار هذا؛ لأنه ما آذاني، هذه الأمة الدنماركية آذتنا، بلا شك، والذي لا يغضب ولا يغار على عرض نبيه -عليه الصلاة والسلام- هذا في إيمانه بالنبي -عليه الصلاة والسلام- خلل بلا شك، فكوننا نختار الشراء من هذا البلد دون ذلك البلد لا يعني أننا ظلمناهم بوجهٍ من الوجوه، فلنا الخيار ولا أحد يلزمنا بالشراء، من هؤلاء أو من هؤلاء، والمثل ظاهر، يعني البقالتين كلهم مسلمون، لكن حصل خلاف بيني وبين هذا، أو حصل بين أخي وبين هذا خلاف أنا أشتري من الثاني أيش المانع، ما في ما يمنع ولا يترتب على ذلك أدنى ضرر للآخر.(1/19)
أحسن الله إليك، من باب التوضيح يقول: عن ترك مقاطعة بعض المنتجات الشركات التي أبدت اعتذاراً؟
الشركات التي أبدت اعتذارها، وعملت ما يمكن عمله في إزالة هذا المنكر، وهذا العدوان لا شك أنهم من باب مكافئة المحسن يقال لهم: أحسنت، ولا يقاطعون، لكن أنه مجرد اعتذروا يبقى النظر راجع إلى من يقرر النظر في المصالح والمفاسد العامة والخاصة، فهؤلاء كونهم اعتذروا وجروا على الاعتذار مع أن دولتهم رفضت الاعتذار لا شك أن مقاطعتهم لها حظ من النظر باعتبارهم جزء من هذا البلد، جزء مؤثر، وأيضاً ترك المقاطعة لو وجه، لتحذو بقية الشركات حذوها، ولا سيما إذا عرفنا أن هذا الاعتذار مصحوب بعمل لإزالة هذا المنكر.
سائل يقول: صليت المغرب في هذا المسجد، وعلمت بالمحاضرة بعد الصلاة، السؤال إذا خرجت ولم أحضر المحاضرة هل يدخل ذلك في حديث: (الثلاثة الذين أعرض أحدهم عن حلقة العلم فأعرض الله عنه)؟
إذا صلى إنسان في مسجد وهو في طريقه، عنده مشوار وأقيمت الصلاة وهو بجوار مسجد ووقف وصلى، ثم علم أن هناك درس علمي، هل نقول أن هذا إذا انصرف (إن آوى آواه الله، وإن استحيا استحيا الله منه وجلس، وإن انصرف انصرف الله عنه)؟ لا شك أن الناس لهم ظروفهم بلا شك، وكل الإنسان يقدر ظروفه، فإذا كانت حاجة تفوت في طريقه إلى زيارة مريض، والزيارة تنتهي، إذا كانت هناك مصلحة تفوت، فالذي يفوت لا شك أنه يقدم، أما إذا لم يكن هناك مصلحة تفوت، وإنما هو مجرد رغبة وزهد في الخير فمثل هذا دخوله في الحديث ظاهر.
سائلٌ يقول: في شهر رمضان وأثناء النهار أحسست بتعبٍ شديد، فقلت لنفسي لو زاد التعب أفطر، وبعد وقت زاد علي التعب، ولكني لم أفطر، وأكملت صيامي فهل صيامي صحيح أم لا؟(1/20)
العلماء يقولون من نوى الإفطار أفطر، لكن ما معنى نية الإفطار؟ نية الإفطار العزم عليه، لكن إن تردد في النية، قال: إن حصل كذا أو حصل كذا، وهذا عنده على حدٍ سواء، ما يدري ما الذي يترجح عليه فهو باقٍ على صيامه.
شخص ابتلي بفتنة النظر فكيف يدافع هذه الفتنة؟
أقول: هذه الفتنة لا شك أنها شأنها لا سيما بالنسبة لطالب العلم عظيم، وهي من الحجب التي تحجب القلب عن الفهم الصحيح للعلم الشرعي، وقد يعاقب بنسيان بعض ما حفظه من علم، وقد يعسر عليه حفظ ما يحتاجه، فعليه أن يدرك هذا، وأنه مأمورٌ بغض البصر، وأن من ترك النظر يورث في قلبه إيمان ويقين وطمأنينة يجدها أو يحس بها ولذة، لا شك عوضاً عن هذه النظرة المحرمة، فعليه أن يتصور هذا، ويجاهد نفسه على غض البصر امتثالاً لقول الله -جل وعلا-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[(30) سورة النور].(1/21)