العائدون إلى الله
مجموعة من قصص التائبين ، من مشاهير
وعلماء ودعاة وغيرهم يرونها بأنفسهم
جمعها
محمد بن عبدالعزيز المسند
المجموعة الأولى
توبة الشيخ أحمد القطان (1)
الشيخ أحمد القطان من الدعاة المشهورين والخطباء المعروفين يروي قصة توبته فيقول:
إن في الحياة تجارب وعبراً ودروساً… لقد مررت في مرحلة الدراسة بنفسية متقلّبة حائرة… لقد درست التربية الإسلامية في مدارس التربية – ولا تربية – ثمانية عشر عاماً.
وتخرجت بلا دين… وأخذت ألتفت يميناً وشمالاً: أين الطريق؟ هل خلفت هكذا في الحياة عبثاً؟.. أحس فراغاً في نفسي وظلاماً وكآبةً.. أفر إلى البر… وحدي في الظلام لعلي أجد هناك العزاء، ولكن أعود حزيناً كئيباً.
وتخرجت في معهد المعلمين 1969م وفي هذه السنة والتي قبلها حدث في حياتي حدث غريب تراكمت فيه الظلمات والغموم إذ قام الحزب الشيوعي باحتوائي ونشر قصائدي في مجلاتهم وجرائدهم. والنفخ فيها. وأخذوا يفسرون العبارات والكلمات بزخرف من القول يوحي به بعضهم إلى بعض حتى نفخوا فيّ نفخة ظننت أنني أن الإمام المنتظر؟
وما قلت كلمة إلا وطبّلوا وزمّروا حولها… وهي حيلة من حيلهم. إذا أرادوا أن يقتنصوا ويفترسوا فرداً ينظرون إلى هويته وهوايته ماذا يرغب… يدخلون عليه من هذا المدخل.
رأوني أميل على الشعر والأدب فتعهّدوا بطبع ديواني نشر قصائدي وعقدوا لي الجلسات واللقاءات الأدبية الساهرة… ثم أخذوا يدسون السم في الدسم.
__________
(1) هذه القصة ذكره الشيخ في محاضرة له بعنوان (تجاربي في الحياة)(1/1)
يذهبون بي إلى مكتبات خاصة ثم يقولون: اختر ما شئت من الكتب بلا ثمن فأحم كتباً فاخرة أوراقاً مصقولة… طباعة أنيقة عناوينها: (أصول الفلسفة الماركسية)، 0المبادئ الشيوعية) وهكذا بدءوا بالتدريج يذهبون بي إلى المقاهي الشعبية العامة، فإذا جلست معهم على طاولة قديمة تهتز… أشرب الشاي بكوب قديم وحولي العمال… فإذا مرّ رجل بسيارته الأمريكية الفاخرة قالوا: انظر، إن هذا يركب السيارة من دماء آبائك وأجدادك… وسيأتي عليك اليوم الذي تأخذها منه بالثورة الكبرى التي بذأت وستستمر… إننا الآن نهيئها في (ظفار) ونعمل لها، وإننا نهيئها في الكويت ونعمل لها، وستكون قائداً من قوادها.
وبينما أنا اسمع هذا الكلام أحسّ أن الفراغ في قلبي بدأ يمتلئ بشيء لأنك إن لم تشغل قلبك بالرحمن أشغله الشيطان… فالقلب كالرحى… يدور… فإن وضعت به دقيقاً مباركاً أخرج لك الطحين الطيب وإن وضعت فيه الحصى أخرج لك الحصى.
ويقدّر الله – سبحانه وتعالى - بعد ثلاثة شهور أن نلتقي برئيس الخلية الذي ذهب إلى مصر وغاب شهراً ثم عاد.
وفي تلك الليلة أخذوا يستهزئون بأذان الفجر… كانت الجلسة تمتد من العشاء إلى الفجر يتكلمون بكلام لا أفهمه مثل (التفسير المادي للتاريخ) و (الاشتراكية والشيوعية في الجنس والمال) …ثم يقولون كلاماً أمرّره على فطرتي السليمة التي لا تزال… فلا يمرّ…أحس أنه يصطدم ويصطكّ ولكن الحياء يمنعني أن أناقش فأراهم عباقرة… مفكرين… أدباء… شعراء… مؤلفين كيف أجرؤ أن أناقشهم فأسكت.
ثم بلغت الحالة أن أذّن المؤذّن لصلاة الفجر فلما قال (الله أكبر) أخذوا ينكّتون على الله ثم لما قال المؤذن (أشهد أن محمّدا رسول الله) أخذوا ينكّتون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(1/2)
وهنا بدأ الانفعال الداخلي والبركان الإيماني الفطري يغلي وإذا أراد الله خيراً بعباده بعد أن أراه الظلمات يسرّ له أسباب ذلك إذا قال رئيس الخلية: لقد رأيت الشيوعية الحقيقية في لقائي مع الأبنودي الشاعر الشعبي بمصر وهو الوحيد الذي رأيته يطبّقها تطبيقاً كاملاً.
فقلت: عجباً… ما علامة ذلك؟!!.
قال: (إذا خرجنا في الصباح الباكر عند الباب فكما أن زوجته تقبله تقبلني معه أيضاً وإذا نمنا في الفراش فإنها تنام بيني وبينه…) هكذا يقول… والله يحاسبه يوم القيامة فلما قال ذلك نَزَلَتْ ظلمة على عينيّ وانقباض في قلبي وقلت في نفسي: أهذا فكر؟!! أهذه حرية؟!! أهذه ثورة؟!! لا وربّ الكعبة إن هذا كلام شيطاني إبليسي!!
ومن هنا تجرأ أحد الجالسين فقال له: يا أستاذ مادمت أنت ترى ذلك فلماذا لا تدع زوجتكم تدخل علينا نشاركك فيها؟ قال: (إنني ما أزال أعاني من مخلفات البرجوازية وبقايا الرجعية. وسيأتي اليوم الذي نتخلص فيه منه جميعا...)
ومن هذه الحادثة بدأ التحول الكبير في حياتي إذ خرجت أبحث عن رفقاء غير أولئك الرفقاء فقدّر الله أن ألتقي باخوة في (ديوانية)
كانوا يحافظون على الصلاة... وبعد صلاة العصر يذهبون إلى ساحل البحر ثم يعودون وأقصى ما يفعلونه من مأثم أنهم يلعبون (الورقة).
ويقدّر الله أن يأتي أحدهم إلىّ ويقول: يا أخ أحمد يذكرون أن شيخاً من مصر اسمه (حسن أيوب) جاء إلى الكويت ويمدحون جرأته وخطبته، ألا تأتي معي؟ قالها من باب حبّ الاستطلاع..
فقلت: هيا بنا.. وذهبت معه وتوضأت ودخلت المسجد وجلستُ وصليتُ المغرب ثم بدأ يتكلم وكان يتكلم وافقاً لا يرضى أن يجلس على كرسي وكان شيخاً كبيراً شاب شعر رأسه ولحيته ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيوف من خشب.(1/3)
وبعد أن فرغ من خطبته أحسستُ أني خرجت من عالم إلى عامل آخر.. من ظلمات إلى نور لأول مرة أعرف طريقي الصحيح وأعرف هدفي في الحياة ولماذا خلقت وماذا يراد مني وإلى أين مصيري..
وبدأت لا أستطيع أن أقدم أو أؤخر إلا أن أعانق هذا الشيخ وأسلّم عليه.
ثم عاد هذا الأخ يسألني عن انطباعي فقلت له: اسكت وسترى انطباعي بعد أيام..
عدتُ في الليلة نفسها واشتريت جميع الأشرطة لهذا الشيخ وأخذتُ أسمعها إلى أن طلعتِ الشمس ووالدتي تقدم لي طعام الإفطار فأردّه ثم طعام الغداء وأنا أسمع وأبكي بكاءً حارّاً وأحسّ أني قد ولدتُ من جديد ودخلتُ عالماً آخر وأحببتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هو مثلي الأعلى وقدوتي وبدأتُ أنكبُ على سيرته قراءةً وسماعاً حتى حفظتها من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، فأحسستُ أنني إنسان لأول مرة في حياتي وبدأت أعود فأقرأ القرآن فأرى كل آية فيه كأنها تخاطبني أو تتحدث عني (أوًمنْ كانَ ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها…) سورة الأنعام
نعم.. لقد كنت ميتاً فأحياني الله… ولله الفضل والمنة… ومن هنا انطلقتُ مرة ثانية إلى أولئك الرفقاء الضالين المضلين وبدأت أدعوهم واحداً واحداً ولكن… (إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)… أما أحدهم فقد تاب بإذن الله وفضله، ثم ذهب إلى العمرة فانقلبتْ به السيارة ومات وأجره على الله.
وأما رئيس الخلية فقابلني بابتسامة صفراء وأنا أناقشه أقول له: أتنكر وجود الله؟!! وتريد أن تقنعي بأن الله غير موجود؟!! فابتسم ابتسامة صفراء وقال: يا أستاذ أحمد.. إنني أحسدك لأنك عرفت الطريق الآن.. أما أنا فاتركني.. فإن لي طريقي ولك طريقك.. ثم صافحني وانصرفت وظل هو كما هو الآن؟(1/4)
وأما البقية فمنهم من أصبح ممثلاً ومنهم من أصبح شاعراً يكتب الأغاني وله أشرطة (فيديو) يلقي الشعر وهو سكران... وسبحان الذي يُخرج الحي من الميت... ومن تلك اللحظة بدأت أدعو إلى الله رب العالمين.
(2) توبة والد الشيخ أحمد القطان
الشيخ أحمد القطان -جزاه الله خيراً- كان هو السبب -بعد توفيق الله- في هداية والده يروي لنا القصة فيقول (1)
أصيب والدي -رحمه الله- بمرض في الغوص حيث كانوا على ظهر سفينة فضربتهم صاعقة..
فقد كانوا داخلين في شط العرب يحملون التمور وكانت هناك سفينة كويتية معطلة تحتاج إلى بعض التصليح فطلب ربّان هذه السفينة من ربّان السفينة الأخرى التي فيها والدي أن يساعده فيجر معه (المحمل) حتى يخرجه من المكان الضحل إلى المكان العميق. فوعده أن يساعده في وقت آخر بعد أن يستقي الماء ويجره إلى المكان العميق إلا أنه كان مستعجلاً وكان محمّلا بضاعة ثقيلة فلم يف بوعده إذ (خطف) بالليل خفية وترك صاحبه الذي وعده قال والدي -رحمه الله -: فلما خرجنا من الخليج العربي جاءت سحابة فوق السفينة فبرقت ورعدت ونزلت منها صاعقة على الشراع فاحترق كله..
فكان والدي ممن أصيب بهذه الصاعقة إذ أصيب بمرض أشبه بالشلل.
وكان التجار يلومون ربان السفينة ويقولون له: لو أنك ساعدت ذلك الرجل صاحب السفينة المعطلة لما حدث ما حدث... ولكن... قدرّ الله وما شاء فعل...
ثم عادوا بوالدي -رحمه الله- إلى بيته وأصبح مقعداً لا يستطيع المشي وأكل ما عنده من مدخرات حتى أصبح يخرج وهو يزحف إلى الشارع لعله يجد من يجود عليه ولو بكسرة خبز.
__________
(1) هذه القصة ذكرها الشيخ في درس له بعنوان: (سلامة الصدر من الأحقاد),(1/5)
ولما بلغت به هذه الحالة وامتد مرضه ما يقارب العشر سنوات وهو جالس البيت بلا علاج وصفوا له شيخاً من المنتسبين للدين يقرأ على الناس الآيات والأحاديث للاستشفاء. واستدعي ذلك الشيخ الذي يسمونه (الملا) وكان أول سؤال وجّهه إلى والدي -مع الأسف الشديد- : (كم تدفع على هذه القراءة؟!فقال والدي -رحمه الله- : أنا رجل فقير ومقعد وليس معي في جيبي إلا هذه النصف روبية هي ثمن طعامي أنا ووالدتي.. فقال (الملا) هذه لا تكفي .. وطلب أكثر من ذلك.. فلما لم يعطه والدي ما يريد خرج ولم يقرأ عليه شيئاً.
وهنا أحسّ والدي بامتعاض شديد وتولد عنده ردّ فعل عنيف جعله يكره الدين ويكره من ينتسب إلى هذا الدين... وأصبحت هذه الحادثة دائماً على لسانه لاسيما وأنه كان فصيحاً وذكياً يقول الشعر ويضرب الأمثال.. فسلط تلك الفصاحة وذلك الذكاء للسخرية بالمتدينين بسبب ذلك الموقف الذي وقفه ذلك الملا.
ومرت الأيام...
ويقدر الله -جل وعلا- أن يأتيه رجل فيقول له: لماذا لا تذهب إلى المستشفى (الأمريكاني) الذي يمدحه الناس ويثنون عيه وفيه طبيب جيد اسمه سكيدر... الخ وهو مستشفى تابع لإرساليات التبشير (النصرانية) التي تعمل لتنصير المسلمين أو إخراجهم من دينهم على الأقل..
فقال والدي ولكن كيف أستطيع الوصول إلى هذا المستشفى وهو بعيد عني بيتي وأنا لا أستطيع المشي.
ولم تكن في ذلك الوقت مواصلات تنقلهم كما هو الآن إلا عند أناس يعدون على الأصابع ومن هؤلاء المعدودين ذلك المستشفى المذكور حيث كان يملك سيارة وعند الدكتور سكيدر..
وعند أذان الفجر زحف والدي رحمه الله على فخذيه من بيته إلى المستشفى (الأمريكاني) فما وصله –زحفاً- إلا قبيل الظهر وكان ذلك في فصل الصيف.(1/6)
يقول رحمه الله : فلما وصلت إلى جدار المستشفى لم تبق فيّ قطرة ماء لا في فمي ولا في عيني ولا جسمي... وأحسست أن الشمس تحرقني وأكاد أموت حتى إني لا أستطيع أن أتكلم أو أصرخ أنادي.. فدنوت من الجدار ونمت وبدأت أتشهد استعداداً للموت.
يقول: ثم أغمي عليّ وظننت أني متّ فلما فتحت عيني إذا أنا في بيتي وبجواري دواء..
قال: فسألت الناس الذين كانوا يعالجون في المستشفى: ماذا حدث؟ فقالوا: إن الناس قد أخبروا الطبيب بأن هناك رجلاً قد أغمي عليه عند جدار المستشفى فنظر من النافذة فرآه فنزل مع الممرضين وحملوه ودخلوا به ثم بعد ذلك قام بتشخيصه تشخيصاً كاملاً حتى عرف المرض وأعطاه حقنة ثم بعد ذلك أعطاه الدواء وحمله بسيارته الخاصة وأوصله إلى البيت.
قال والدي -رحمه الله-: فلما وضعتُ يدي في جيبي وجدتُ بها خمس روبيات فسألت: من الذي وضع هذه الروبيات في جيبي؟ فقالت الوالدة وضعها الدكتور الذي أحضرك إلى هنا!!!.
وهنا يظهر الفرق الكبير بين ما فعله هذا (المبشر) النصراني وبين ما فعله ذلك (الملا) سامحه الله.
إن هذا النصراني لم يدعُ والدي إلى دينه بطريقة مباشرة وإنما أحسن معه المعاملة لكي يستميل قلبه ومن أصول الإرساليات التبشيرية (التنصيرية) التي تدرس لهم وقرأناه في الكتب ودرسناها نحن أنه ليس من الشرط أن تجعل المسلم نصرانياً.. -إن جعلته نصرانياً فهذا تشريف للمسلم (هكذا يقولون)- ولكن إذا عجزت أن تجعله نصرانياً فاحرص على أن تتركه بلا دين فإن تركته بلا دين فقد حققت المطلب الذي نريد.(1/7)
الشاهد أن الوالد رحمه الله شُفي وقام يمشي وظل ذلك الطبيب يزوره في كل أسبوع مرة ويتلطف معه ويمسح عليه وينظفه ويعالجه إلى أن تحسنت صحته وقام يمشي وبدأ يعمل ثم بعد تزوج فلما رزقه الله بابنه الأول -وهو أنا- ظل ولاؤه لهذا الطبيب لدرجة أنني لما بلغت الخامسة من عمري وبدأت أعقل بعض الأمور كان يأخذني كل أسبوع في زيارة مخصصة إلى ذلك الدكتور ويلقنني منذ الصغر ويقول: انظر إلى هذا الرجل الذي أمامك. إنه هو سبب شفاء والدك.. هذا الذي كان يعالجني في يوم من الأيام ويضع في جيبي خمس روبيات بينما يرفض (الملا) علاجي لأني لا أملك هذه الروبيات..ثم يأمرني بتقبيل يده.. فأقوم أنا وأقبل يده.
واستمرت هذه الزيادة المخصصة لذلك الدكتور إلى أن بلغت العاشرة من عمري.. في كل أسبوع زيارة وكأنها عبادة.. يدفعني إليه دفعاً لكي أقبّل يده.
ثم بعد ذلك استمر والدي يسخر من المتدينين ويستهزئ بهم، فلما هداني الله إلى الطريق المستقيم وأعفيت لحيتي بدأ يسخر ويستهزئ باللحية.
فقلت في نفسي: إنه من المستحيل أن أنزع صورة ذلك (الملا) من رأسه وصورة ذلك الدكتور من رأسه أيضاً إلا أن أحسن المعاملة معه أكثر من (الملا) وأكثر من الدكتور وبدون ذلك لن أستطيع.
فظللت أنتظر الفرصة المناسبة لذلك طمعاً في هداية والدي. وجاءت الفرصة المنتظرة.. ومرض الوالد مرضاً عضالاً.. وأصبح طريح الفراش في المستشفى حتى إنه لا يستطيع الذهاب إلى مكان قضاء الحاجة إذا أراد ذلك وكنتُ أنا بجواره ليلاً ونهاراً فقلتُ في نفسي هذه فرصة لا تقدّر بثمن.
وفي تلك الحال كان -رحمة الله عليه- يتفنّن في مطالبة يختبرني هل أطيعه أم لا؟(1/8)
ومن ذلك أنه في جوف الليل كان يأمرني بأن أحضر له نوعاً من أنواع الفاكهة لا يوجد في ذلك الوقت فأذهب وأبحث في كل مكان حتى أجدها في تلك الساعة المتأخرة ثم أقدمها له فلا يأكلها.. فإذا أراد أن يقضي الحاجة لا يستطيع القيام فأضع يدي تحت مقعدته حتى يقضي حاجته في يدي.. ويتبول في يدي.. وأظل واضعاً يدي حتى ينتهي من قضاء الحاجة، وهو يتعجّب من هذا السلوك... ثم أذهب إلى دورة المياه وأنظف يدي مما أصابهما.
وقد تكررت هذه الحادثة في كل عشر دقائق مرة.. نظراً لشدة المرض حتى أنني في النهاية لم أتمكن من وضع يدي كلما تبرز أو تبول.. لكثرة ذلك.
فلما رأى والدي هذا التصرف يتكرر مني أكثر من مرة أخذ يبكي.. فكان هذه البكاء فاتحة خير وإيمان في قلبه.. ثم قال لي: إنني ما عرفت قيمتك إلا في هذه اللحظة.
ثم سألني: هل جميع هؤلاء الشباب المتدينين مثلك؟.. قلت له: بل أحسن مني، ولكنك لا تعرفهم.. وكانوا يزورونه ويسلمون عليه.
فبدأ يصلي ويصوم ويحب الدين ويذكر الله.. ولا يفتر لسانه عن ذكر الله وقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأسبغ الله عليه هذا الدين فقلتُ: سبحان الله.. حقاً إن الدين هو المعاملة.
(3) الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني
في لقاء مفتوحٍ مع الشيخ سعيد بن مسفر -حفظه الله- طلب منه بعض الحاضرين أن يتحدث عن بداية هدايته فقال:
حقيقةً.. لكل هداية بداية… ثم قال بفطرتي كنت أؤمن بالله، وحينما كنتُ في سن الصغر أمارس العبادات كان ينتابني شيء من الضعف والتسويف على أمل أن أكبر وأن أبلغ مبلغ الرجال فكنتُ أتساهل في فترات معينة بالصلاة فإذا حضرتُ جنازة أو مقبرة، أو سمعتُ موعظةً في مسجد ازدادتْ عندي نسبة الإيمان فأحافظ على الصلاة فترة معينة مع السنن ثم بعد أسبوع أو أسبوعين أترك السنن... وبعد أسبوعين أترك الفريضة حتى تأتي مناسبة أخرى تدفعني إلى أن أصلى..(1/9)
وبعد أن بلغت مبلغ الرجال وسن الحلم لم أستفد من ذلك المبلغ شيئاً وإنما بقيت على وضعي في التمرد وعدم المحافظة على الصلاة بدقة لأن من شبّ علي شيء شاب عليه.
وتزوجت... فكنت أصلي أحياناً وأترك أحياناً على الرغم من إيماني الفطري بالله.. حتى شاء الله -تبارك وتعالى- في مناسبة من المناسبات كنت فيها مع أخ لي في الله وهو الشيخ سليمان بن محمد بن فايع -بارك الله فيه- وهذا كان في سنة 1387هـ نزلت من مكتبي -وأنا مفتش في التربية الرياضية- وكنتُ ألبس الزي الرياضي والتقيتُ به على باب إدارة التعليم وهو نازل من قسم الشئون المالية فحييته لأنه كان زميل الدراسة وبعد التحية أردتُّ أن أودعه فقال لي إلى أين؟ -وكان هذا في رمضان- فقلت له: إلى البيت لأنام.. وكنت في العادة أخرج من العمل ثم أنام إلى المغرب ولا أصلى العصر إلا إذا استيقظت قبل المغرب وأنا صائم.. فقال لي: لم يبق على صلاة إلا قليلاً فما رأيك لو نتمشى قليلا؟ فوافقته على ذلك ومشينا على أقدامنا وصعدنا إلى السد (سد وادي أبها) -ولم يكن آنذاك سداً- وكان هناك غدير وأشجار ورياحين طيبة فجلسنا هناك حتى دخل وقت صلاة العصر وتوضأنا وصلينا ثم رجعنا وفي الطريق ونحن عائدون… ويده بيدي قرأ علي حديثاً كأنما أسمعه لأول مرة وأنا قد سمعته من قبل لأنه حديث مشهور… لكن حينما كان يقرأه كان قلبي ينفتح له حتى كأني أسمعه لأول مرة… هذا الحديث هو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يُلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر – قالها مرتين أو ثلاثاً – ثم قال (إن المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه(1/10)
ملائكة من السماء بيض الوجوه..) الحديث.
فذكر الحديث بطوله من أوله إلى آخره وانتهى من الحديث حينما دخلنا أبها وهناك سنفترق حيث سيذهب كل واحد منا إلى بيته فقلت له: يا أخي من أين أتيت بهذا الحديث؟ قال: هذا الحديث في كتاب رياض الصالحين فقلت له: وأنت أي كتاب تقرأ؟ قال أقرأ كتاب الكبائر للذهبي.. فودعته.. وذهبتُ مباشرة إلى المكتبة -ولم يكن في أبها آنذاك إلا مكتبة واحدة وهي مكتبة التوفيق- فاشتريتُ كتاب الكبائر وكتاب رياض الصالحين وهذان الكتابان أول كتابين أقتنيهما.
وفي الطريق وأنا متوجه إلى البيت قلت لنفسي: أنا الآن على مفترق الطريق وأمامي الآن طريقان الطريق الأول طريق الإيمان الموصل إلى الجنة، والطريق الثاني طريق الكفر والنفاق والمعاصي الموصل إلى النار وأنا الآن أقف بينهما فأي الطريقين أختار؟
العقل يأمرني باتباع الأول… والنفس الأمارة بالسوء تأمرني باتباع الطريق الثاني وتمنيني وتقول لي: إنك مازلت في ريعان الشباب وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة فبإمكانك التوبة فيما بعد.(1/11)
هذه الأفكار والوساوس كانت تدور في ذهني وأنا في طريق إلى البيت... وصلتُ إلى البيت وأفطرت وبعد صلاة المغرب صليت العشاء تلك الليلة وصلاة التراويح ولم أذكر أني صليت التراويح كاملة إلا تلك الليلة.. وكنت قبلها أصلي ركعتين فقط ثم أنصرف وأحياناً إذا رأيت أبي أصلي أربعاً ثم أنصرف.. أما في تلك الليلة فقد صليت التراويح كاملةً.. وانصرفت من الصلاة وتوجهت بعدها إلى الشيخ سليمان في بيته، فوجدته خارجاً من المسجد فذهبت معه إلى البيت وقرأنا في تلك الليلة -في أول كتاب الكبائر- أربع كبائر الكبيرة الأولى الشرك بالله والكبيرة الثانية السحر والكبيرة الثالثة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة وانتهينا من القراءة قبل وقت السحور فقلت لصاحبي: أين نحن من هذا الكلام فقال: هذا موجود في كتب أهل العلم ونحن غافلون عنه.. فقلت: والناس أيضاً في غفلة عنه فلابدّ أن نقرأ عليهم هذا الكلام.
قال: ومن يقرأ؟ قلت له: أنت. قال: بل أنت واختلفنا من يقرأ وأخيراً استقر الرأي علي أن أقرأنا.
فأتينا بدفتر وسجّلنا فيه الكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة. وفي الأسبوع نفسه، وفي ويوم الجمعة وقفت في مسجد الخشع الأعلى الذي بجوار مركز الدعوة بأبها -ولم يكن في أبها غير هذا الجامع إلا الجامع الكبير- فوقفت فيه بعد صلاة الجمعة وقرأت على الناس هذه الموعظة المؤثرة التي كانت سبباً -ولله الحمد- في هدايتي واستقامتي وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه إنه سميع مجيب.
(4) توبة الممثلة شمس البارودي (1)
في حوار أجرته إحدى الصحف مع شمس البارودي الممثلة المعروفة التي اعتزلت التمثيل وردّاً على سؤال عن سبب هدايتها قالت:
__________
(1) من كتابها (رحلتي من الظلمات إلى النور) من ص 16-29.(1/12)
البداية كانت في نشأتي.. والنشأة لها دور مهم. والدي -بفضل الله- رجل متدين، التدين البسيط العادي.. وكذلك كانت والدتي -رحمهما الله- كنت أصلي ولكن ليس بانتظام.. كانت بعض الفروض تفوتني ولم أكن أشعر بفداحة ترك فرض من فروض الصلاة.. وللأسف كانت مادة الدين في المدارس ليست أساسية وبالطبع لم يكن يرسب فيها أحد ولم يكن الدين علماً مثل باقي العلوم الأخرى الدنيوية.. وعندما حصلت على الثانوية العامة كانت رغبتي إما في دخول كلية الحقوق أو دراسة الفنون الجميلة، ولكن المجموع لم يؤهلني لأيهما.. فدخلت معهد الفنون المسرحية، ولم أكمل الدراسة فيه حيث مارست مهنة التمثيل.. وأشعر الآن كأنني دفعت إليها دفعاً.. فلم تكن في يوم من الأيام حلم حياتي ولكن بريق الفن والفنانين والسينما والتليفزيون كان يغري أي فتاة في مثلي سني -كان عمري آنذاك 16-17 سنة- خاصة مع قلة الثقافة الدينية الجيدة.
وأثناء عملي بالتمثيل كنت أشعر بشيء في داخلي يرفض العمل حتى أنني كنت أظل عامين أو ثلاثة دون عمل حتى يقول البعض: إنني اعتزلت..
والحمد لله كانت أسرتي ميسورة الحال من الناحية المادية فلم أكن أعمل لحاجة مادية.. وكنت أنفق العائد من عملي على ملابسي ومكياجي وما إلى ذلك.. استمر الوضع حتى شعرت أني لا أجد نفسي في هذا العمل.. وشعرتُ أن جمالي هو الشيء الذي يُستغل في عملي بالتمثيل.. وعندها بدأت أرفض الأدوار التي تُعرض عليً، والتي كانت تركز دائماً على جمالي الذي وهبني الله إياه وعند ذلك قلّ عملي جداً.. كان عملي بالتمثيل أشبه بالغيبوبة.. كنت أشعر أن هناك انفصاماً بين شخصيتي الحقيقية والوضع الذي أنا فيه.. وكنت أجلس أفكر في أعمالي السينمائية التي يراها الجمهور.. ولم أكن أشعر أنها تعبّر عني، وأنها أمر مصطنع، كنت أحسّ أنني أخرج من جلدي.(1/13)
وبدأت أمثل مع زوجي الأستاذ حسن يوسف في أدوار أقرب لنفسي فحدثت لي نقلة طفيفة من أن يكون المضمون لشكلي فقط بل هناك جانب آخر. أثناء ذلك بدأت أواظب على أداء الصلوات بحيث لو تركت فرضاً من الفروض استغفر الله كثيراً بعد أن أصلّيه قضاءً.. وكان ذلك يحزنني كثيراً.. كل ذلك ولم أكن ألتزم بالزي الإسلامي.
وقبل أن أتزوج كنتُ أشتري ملابس من أحدث بيوت الأزياء في مصر وبعد أن تزوجت كان زوجي يصحبني للسفر خارج مصر لشراء الملابس الصيفية والشتوية!!.. أتذكر هذا الآن بشيء من الحزن، لأن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغلني.
ثم بدأت أشتري ملابس أكثر حشمةً، وإن أعجبني ثوب بكمّ قصير كنت أشتري معه (جاكيت) لستر الجزء الظاهر من الجسم.. كانت هذه رغبة داخلية عندي.
وبدأت أشعر برغبة في ارتداء الحجاب ولكن بعض المحيطين بي كانوا يقولون لي: إنكِ الآن أفضل!!!.
بدأت أقرأ في المصحف الشريف أكثر.. وحتى تلك الفترة لم أكن قد ختمت القرآن الكريم قراءة، كنت أختمه مع مجموعة من صديقات الدراسة.. ومن فضل الله أنني لم تكن لي صداقات في الوسط الفني، بل كانت صداقاتي هي صداقات الطفولة، كنت أجتمع وصديقاتي -حتى بعد أن تزوجت- في شهر رمضان الكريم في بيت واحدة منا نقرأ الكريم ونختمه وللأسف لم تكن منهن من تلتزم بالزي الشرعي.
في تلك الفترة كنت أعمل دائماً مع زوجي سواء كان يمثل معي أو يُخرج لي الأدوار التي كنت أمثلها.. وأنا أحكي هذا الآن ليس باعتباره شيئاً جميلاً في نفسي ولكن أتحدث عن فترة زمنية عندما أتذكرها أتمنى لو تمحى من حياتي ولو عدت إلى الوراء لما تمنيت أبداً أن أكون من الوسط الفني!!
كنت أتمنى أن أكون مسلمة ملتزمة لأن ذلك هو الحق والله –تعالى- يقول: (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليَعبدون).(1/14)
كنت عندما أذهب إلى المصيف أتأخر في نزول البحر إلى ما بعد الغروب ومغادرة الجميع للمكان إلا من زوجي، وأنا أقول هذا لأن هناك من تظن أن بينها وبين الالتزام هُوَّةٌ واسعة ولكن الأمر -بفضل الله- سهل وميسور فالله يقول في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلىّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلى ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً).
وكانت قراءاتي في تلك الفترة لبرجسون وسارتر وفرويد وغيرهم من الفلسفات التي لا تقدم ولا تؤخر وكنت أدخل في مناقشات جدلية فلسفية وكانت عندي مكتبة ولكني أحجمت عن هذه القراءات دون سبب ظاهر.
كانت عند رغبة قوية في أداء العمرة وكنت أقول في نفسي: إنني لا أستطيع أن أؤدي العمرة إلا إذا ارتديت الحجاب لأنه غير معقول أن أذهب لبيت الله دون أن أكون ملتزمة بالزي الإسلامي.. لكن هناك من قلنَ لي: لا.. أبداً.. هذا ليس شرطاً.. كان ذلك جهلاً منهن بتعاليم الإسلام لأنهن لم يتغير فيهن شيء بعد أدائهن للعمرة.
وذهب زوجي لأداء العمرة ولم أذهب معه لخوفي أن تتأخر ابنتي عن الدراسة في فترة غيابي.. ولكنها أصيبت بنزلة شعبية وانتقلت العدوى إلى ابني ثم انتقلت إليّ فصرنا نحن الثلاثة مرضى فنظرت إلى هذا الأمر نظرة فيها تدبر وكأنها عقاب على تأخري عن أداء العمرة.
وفي العام التالي ذهبت لأداء العمرة وكان ذلك سنة 1982م في شهر (فبراير) وكنتُ عائدة في (ديسمبر) من باريس وأنا أحمل أحدث الملابس من بيوت الأزياء.. كانت ملابس محتشمة.. ولكنها أحدث موديل.. وعندما ذهبتُ واشتريت ملابس العمرة البيضاء كانت أول مرة ألبس الثياب البيضاء دون أن أضع أي نوع من المساحيق على وجهي ورأيت نفسي أكثر جمالا..
ولأول مرة سافرت دون أن أصاب بالقلق على أولادي لبُعدي عنهم وكانت سفرياتي تصيبني بالفزع والرعب خوفاً عليهم.. وكنت آخذهم معي في الغالب.(1/15)
وذهبتُ لأداء العمرة مع وفد من هيئة قناة السويس.. وعندما وصلتُ إلى الحرم النبوي بدأت أقرأ في المصحف دون أن أفهمَ الآيات فهماً كاملاً لكن كان لدي إصرار على ختم القرآن في المدينة ومكة.. وكانت بعض المرافقات لي يسألنني: هل ستتحجبين؟ وكنت أقول: لا أعرف.. كنت أعلق ذلك الأمر على زوجي.. هل سيوافق أم لا... ولم أكن أعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي الحرم المكي وجدت العديد من الأخوات المسلمات اللائى كُنَّ يرتدين الخمار وكنت أفضل البقاء في الحرم لأقرأ القرآن الكريم وفي إحدى المرات أثناء وجودي في الحرم بين العصر والمغرب التقيتُ بإحدى الأخوات وهي مصرية تعيش في الكويت اسمها (أروى) قرأتْ عليّ أبياتاً من الشعر الذي كتبته هي فبكيت، لأنني استشعرت أنها مسّت شيئاً في قلبي وكنت في تلك الفترة تراودني فكرة الحجاب كثيراً ولكن الذي من حولي كانوا يقولون لي: انتظري حتى تسألي زوجك.. لا تتعجلي… أنت مازلتِ شابة… الخ) ولكن كانت رغبتي دائماً في ارتداء الحجاب قالت الأخت (أروى):
فليقولوا عن حجابي ... لا وربي لن أبالي
قد حماني فيه ديني ... وحباني بالجلال
زينتي دوماً حيائي ... واحتشامي هو مالي
ألأني أتولى ... عن متاعٍ لزوالِ
لامني الناس كأني ... أطلب السوء لحالي
كم لمحت اللوم منهم ... في حديث أو سؤال
وهي قصيدة طويلة أبكي كلما تذكرتها… استشعرت تتحدث بلسان حالي… وأنها مست شغاف قلبي.(1/16)
وبعد ذلك ذهبت لأداء العمرة لأخت لي من أبي توفيت وكنت أحبها كثير -رحمها الله- وبعد أداء العمرة لم أنم تلك الليلة واستشعرت بضيق في صدري رهيب وكأن جبال الدنيا تجثم فوق أنفاسي… وكأن خطايا البشر كلها تخنقني… كل مباهج الدنيا التي كنت أتمتع بها كأنها أوزار تكبلني… وسألني والدي عن سبب أرقي فقلت له: أريد أن أذهب إلى الحرم الآن… ولم يكن الوقت المعتاد لذهابنا إلى الحرم قد حان ولكن والدي -وكان مجنداً نفسه لراحتي في رحلة العمرة- صحبني إلى الحرم… وعندما وصلنا أديتُ تحية المسجد وهي الطواف وفي أول شوط من الأشواط السبعة يسّر الله لي الوصول إلى الحجر الأسود ولم يحضر على لساني غير دعاء واحد… لي ولزوجي وأولادي وأهلي وكل من أعرف… دعوت بقوة الإيمان… ودموعي تنهمر في صمت ودون انقطاع… طوال الأشواط السبعة لم أدعُ إلا بقوة الإيمان وطوال الأشواط السبعة أصل إلى الحجر الأسود وأقبّله، وعند مقام إبراهيم عليه السلام وقفت لأصلي ركعتين بعد الطواف وقرأت الفاتحة، كأني لم أقرأها طوال حياتي واستشعرت فيها معانٍ اعتبرتها منة من الله، فشعرت بعظمة فاتحة الكتاب… وكنت أبكي وكياني يتزلزل… في الطواف استشرت كأن ملائكة كثيرة حول الكعبة تنظر إلي… استشعرت عظمة الله كما لم أستشعرها طوال حياتي.
ثم صليت ركعتين في الحِجر وحدث لي الشيء نفسه كل ذلك كان قبل الفجر… وجاءني والدي لأذهب إلى مكان النساء لصلاة الفجر عندها كنت قد تبدلت وأصبحت إنسانة أخرى تماماً. وسألني بعض النساء: هل ستتحجّبين يا أخت شمس؟ فقلت: بإذن الله… حتى نبرات صوتي قد تغيرت… تبدلت تماماً… هذا كل ما حدث لي… وعدتُّ ومن بعدها لم أخلع حجابي… وأنا الآن في السنة السادسة منذ ارتديته وأدعو الله أن يُحسن خاتمتي وخاتمتنا جميعاً أنا وزوجي وأهلي وأمة المسلمين جمعاء.
(5) توبة شاب عاق لأمه(1)
__________
(1) هذه القصة نشرت في جريدة البلاد /عدد9021/ إعداد عبد العزيز الحمدان.(1/17)
ح. ح. م. شابّ ذهبت إلى الخارج… تعلم وحصل على شهادات عالية ثم رجع إلى البلاد… تزوج من فتاة غنية جميلة كانت سبباً في تعاسته لولا عناية الله… يقول ح. ح. م:
مات والدي وأنا صغير فأشرفتْ أمي على رعايتي… عَمِلَتْ خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف علي، فقد كنت وحيدها… أدخلتني المدرسة وتعلمتُ حتى أنهيت الدراسة الجامعية… كنت بارّاً بها… وجاءت بعثتي إلى الخارج فودّعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك… أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك.
أكملتُ تعليمي بعد مضي زمن طويل ورجعت شخصاً آخر قد أثّرتْ فيه الحضارة الغربية… رأيتُ في الدين تخلفاً ورجعية… وأصبحتُ لا أؤمن إلا بالحياة المادية -والعياذ بالله-.
وتحصلتُ على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة ولكني أبيتُ إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة لأني كنتُ أحلم بالحياة (الأرستقراطية) (كما يقولون)… وخلال ستة أشهر من زواجي كانتْ زوجي تكيد لأمي حتى كرهتُ والدتي… وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجي تبكي فسألتها عن السبب فقالت لي: شوف يا أنا يا أمك في هذا البيت… لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.
جنّ جنوني وطردتُّ أمي من البيت في لحظة غضب فَخَرجَتْ وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي.
وبعد ذلك بساعات خَرجتُ أبحث عنها ولكن بلا فائدة… رجعتُ إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة.
انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أُصِبْتُ خلالها بمرض خبيث دخلت على إثره المستشفى… وعَلِمتْ أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي وقبل أن تدخل علي طردتْها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا… ماذا تريدين منا… اذهبي عنا… رجعت أمي من حيث أتت!.(1/18)
وخرجتُ من المستشفى بعد وقت طويل انتكستْ فيه حالتي النفسية وفقدت الوظيفة والبيت وتراكمت علي الديون وكل ذلك بسبب زوجتي فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة… وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: مادمتَ قد فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريد… طلقني.
كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعتْ على رأسي… وطلقتها بالفعل… فاستيقظتُ من السُّباتِ الذي كنت فيه.
خرجتُ أهيم على وجهي أبحث عن أمي وفي النهاية وجدتها ولكن أين وجدتها؟!! كانت تقبع في أحد الأربطة تأكل من صدقات المحسنين.
دخلت عليه… وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة… وما إن رأيتها حتى ألقيتُ بنفسي عند رجليها وبكيتُ بكاءً مرّاً فما كان منها إلا أن شاركتني البكاء.
بقينا على هذه الحالة حولي ساعة كاملة… بعدها أخذتُّها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه.
وها أنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر: أمي -حفظها الله- وأسأل الله أن يُديم علينا الستّر والعافية.
(6) توبة فتاة نصرانية (1)
(سناء) فتاة مصرية نصرانية، كتب الله لها الهداية واعتناق الدين الحق بعد رحلة طويل من الشكّ والمعاناة، تروي قصة هدايتها فتقول:
(نشأت كأي فتاة نصرانية مصرية على التعصب للدين النصراني، وحرص والديَّ على اصطحابي معهما إلى الكنيسة صباح كل يوم أحد لأقبّل يد القس، وأتلو خلفه التراتيل الكنسية، وأستمع إليه وهو يخاطب الجمع ملقناً إياهم عقيدة التثليث، ومؤكداً عليهم بأغلظ الإيمان أن غير المسيحيين مهما فعلوا من خير فهم مغضوب عليهم من الربّ، لأنهم -حسب زعمه- كفرة ملاحدة.
__________
(1) مجلة الفيصل، العدد 165 (بتصرف).(1/19)
كنت أستمع إلى أقوال القس دون أن أستوعبها، شأني شأن غيري من الأطفال، وحينما أخرج من الكنيسة أهرع إلى صديقتي المسلمة لألعب معها، فالطفولة لا تعرف الحقد الذي يزرعه القسيس في قلوب الناس.
كبرت قليلاً، ودخلت المدرسة، وبدأت بتكوين صداقات مع زميلاتي في مدرستي الكائنة بمحافظة السويس… وفي المدرسة بدأت عيناي تتفتحان على الخصال الطيبة التي تتحلّى بها زميلاتي المسلمات، فهن يعاملني معاملة الأخت، ولا ينظرن إلى اختلاف ديني عن دينهن، وقد فهمت فيما بعد أن القرآن الكريم حث على معاملة الكفار -غير المحاربين- معاملة طيب طمعاً في إسلامهم وإنقاذهم من الكفر، قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المُقسطين).
إحدى زميلاتي المسلمات ربطتني بها على وجه الخصوص صداقة متينة، فكنت لا أفارقها إلا في حصص التربية الدينية، إذ كنت -كما جرى النظام- أدرس مع طالبات المدرسة النصرانيات مبادئ الدين النصراني على يد معلمة نصرانية.
كنت أريد أن أسأل معلمتي كيف يمكن أن يكون المسلمون -حسب افتراضات المسيحيين- غير مؤمنين وهو على مثل هذا الخُلق الكريم وطيب المعشر؟! لكني أم أجرؤ على السؤال خشية إغضاب المعلمة حتى تجرأت يوماً وسألت، فجاء سؤالي مفاجأةً للمعلمة التي حاولت كظم غيظها، وافتعلت ابتسامة صفراء رسمتها على شفيتها وخاطبتني قائلة: (إنك مازلت صغيرة ولم تفهمي الدنيا بعد، فلا تجعلي هذه المظاهر البسيطة تخدعك عن حقيقة المسلمين كما نعرفها نحن الكبار…).
صمتُّ على مضض على الرغم من رفضي لإجابتها غير الموضوعية، وغير المنطقية.(1/20)
وتنتقل أسرة أعز صديقاتي إلى القاهرة، ويومها بكينا لألم الفراق، وتبادلنا الهدايا والتذكارات، ولم تجد صديقتي المسلمة هدية تعبر بها عن عمق وقوة صداقتها لي سوى مصحف شريف في علبة قطيفة أنيقة صغيرة، قدمتها لي قائلة: (لقد فكرتُ في هدية غالية لأعطيك إياها ذكرى صداقة وعمر عشنا سوياّ فلم أجد هذا المصحف الشريف الذي يحتوي على كلام الله).
تقبّلت هدية صديقتي المسلمة شاكرة فرحة، وحرصت على إخفائها عن أعين أسرتي التي ما كانت لتقبل أن تحمل ابنتهم المصحف الشريف.
وبعد أن رَحَلَتْ صديقتي المسلمة، كنت كلما تناهى إليّ صوت المؤذن، منادياً للصلاة، وداعياً المسلمين إلى المساجد، أعمد إلى إخراج هدية صديقتي وأقبلها وأنا أنظر حولي متوجسة أن يُفاجأني أحد أفراد الأسرة، فيحدث لي ما لا تُحمد عُقباه.
ومرت الأيام، وتزوجت من (شماس) كنيسة العذراء مريم، ومع متعلقاتي الشخصية، حملت هدية صديقتي المسلمة (المصحف الشريف)، وأخفيته بعيداً عن عني زوجي، الذي عشت معه كأي امرأة شرقية وفيّة ومخلصة وأنجبت منه ثلاثة أطفال.
وتوظفت في ديوان عام المحافظة، وهناك التقيتُ بزميلات مسلمات متحجبات، ذكرني بصديقتي الأثيرة، وكنت كلما علا صوت الأذان من المسجد المجاور، يتملكني إحساس خفي يخفق له قلبي، دون أن أدري لذلك سبباً محدداً، إذ كنت لا أزال غير مسلمة، ومتزوجة من شخص ينتمي إلى الكنيسة بوظيفة يقتات منها، ومن مالها يطعم أسرته.
وبمرور الوقت، وبمجاورة زميلات وجارات مسلمات على دين وخلق بدأت أفكر في حقيقة الإسلام والمسيحية، وأوازن بين ما أسمعه في الكنيسة عن الإسلام والمسلمين، وبين ما أراه وألمسه بنفسي، وهو ما يتناقض مع أقوال القس والمتعصبين النصارى.(1/21)
بدأت أحاول التعرف على حقيقة الإسلام، وأنتهز فرصة غياب زوجي لأستمع إلي أحاديث المشايخ عبر الإذاعة والتلفاز، علي أجد الجواب الشافي لما يعتمل في صدري من تساؤلات حيري، وجذبتني تلاوة الشيخ محمد رفعت، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد للقرآن الكريم، وأحسستُ وأنا أستمع إلى تسجيلاتهم عبر المذياع أن ما يرتلانه لا يمكن أن يكون كلام بشر، بل هو وحي إلهي.
وعمدتُ يوماً أثناء وجود زوجي في الكنيسة إلى دولابي، وبيد مرتعشة أخرجتُ كنزي الغالية (المصحف الشريف)، فتحته وأنا مرتبكة، فوقعت عيناي على قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون). ارتعشت يدي أكثر، وتصبب وجهي عرقاً، وسرتْ في جسمي قشعريرة، وتعجبت لأني سبق أن استمعت إلى القرآن كثيراً في الشارع والتلفاز والإذاعة، وعند صديقاتي المسلمات، لكني لم أشعر بمثل هذه القشعريرة التي شعرت بها وأنا أقرأ من المصحف الشريف مباشرةً بنفسي.
هممتً أن أواصل القراءة إلا أن صوت أزيز مفتاح زوجي وهو يفتح باب الشقة حال دون ذلك، فأسرعت وأخفيت والمصحف الشريف في مكانه الأمين، وهرعت لأستقبل زوجي.
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة ذهبتُ إلى عملي، وفي رأسي ألف سؤال حائر، إذ كانت الآية الكريمة التي قرأتها وضعتْ الحد الفاصل لما كان يؤرقني حول طبيعة عيسى عليه السلام، أهو ابن الله كما يزعم القسيس -تعالى الله عما يقولون- أم أنه نبي كريم كما يقول القرآن؟! فجاءت الآية لتقطع الشك باليقين، معلنة أن عيسى، عليه السلام، من صلب آدم، فهو إذا ليس ابن الله، فالله سبحانه وتعالى: (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ).
تساءلت في نفسي عن الحلّ وقد عرفت الحقيقة الخالدة، حقيقة أن (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، أيمكن أن أشهر إسلامي؟! وما موقف أهلي مني، بل ما موقف زوجي ومصير أبنائي؟!(1/22)
طافت بي كل هذه التساؤلات وغيرها وأنا جالسة على مكتبي أحاول أن أؤدي عملي لكني لم أستطع، فالتفكير كاد يقتلني، واتخاذ الخطوة الأولى أرى أنها ستعرضني لأخطار جمة أقلّها قتلي بواسطة الأهل أو الزوج والكنيسة.
ولأسابيع ظللتُ مع نفسي بين دهشة زميلاتي اللاتي لم يصارحني بشيء، إذ تعودنني عاملة نشيطة، لكني من ذلك اليوم لم أعد أستطيع أن أنجز عملاً إلا بشق الأنفس.
وجاء اليوم الموعود، اليوم الذي تخلصتُ فيه من كل شك وخرف وانتقلت فيه من ظلام الكفر إلى نور الإيمان فبينما كنتُ جالسة ساهمة الفكر، شاردة الذهن، أفكر فيما عقدتُّ العزم عليه، تناهى إلى سمعي صوت الأذان من المسجد القريب داعياً المسلمين إلى لقاء ربهم وأداء صلاة الظهر، تغلغل صوت الأذان داخل نفسي، فشعرت بالراحة النفسية التي أبحث عنها، وأحسست بضخامة ذنبي لبقائي على الكفر على الرغم من عظمة نداء الإيمان الذي كان يسري في كل جوانحي، فوقفتُ بلا مقدما لأهتف بصوت عالٍ بين ذهول زميلاتي: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)، فأقبل عليّ زميلاتي وقد تحيرنَ من ذهولهن، مهنئات باكيات بكاء الفرح، وانخرطتُ أنا أيضا معهن في البكاء، سائلة الله أن يغفر لي ما مضى من حياتي، وأن يرضى عليّ في حياتي الجديدة.
كان طبيعياً أن ينتشر خبر إسلامي في ديوان المحافظة، وأن يصل إلى أسماع زملائي وزميلاتي النصارى، اللواتي تكلفن -بين مشاعر سخطهن- بسرعة إيصاله إلى أسرتي وزوجي، وبدأن يرددنَ عني مدّعين أن وراء القرار أسباب لا تخفى.
لم آبه لأقوالهن الحاقدة، فالأمر الأكثر أهمية عندي من تلك التخرصات: أن أشهر إسلامي بصورة رسمية، كي يصبح إسلامي علناً، وبالفعل توجهتُ إلى مديرية الأمن حيث أنهيتُ الإجراءات اللازمة لإشهار إسلامي.(1/23)
وعدتُ إلى بيتي لأكتشف أن زوجي ما إن علم بالخبر حتى جاء بأقاربه وأحرق جميع ملابسي، واستولى على ما كان لديّ من مجوهرات ومال وأثاث، فلم يؤلمني ذلك، وإنما تألمت لخطف أطفالي من قَبَل زوجي ليتخذ منهم وسيلة للضغط عليّ للعودة إلى ظلام الكفر... آلمني مصير أولادي، وخفتُ عليهم أن يتربوا بين جدران الكنائس على عقيدة التثليث، ويكون مصيرهم كأبيهم في سقر.
رفعتُ ما اعتمل في نفسي بالدعاء إلى الله أن يعيد إلىّ أبنائي لتربيتهم تربية إسلامية، فاستجاب الله دعائي، إذ تطوع عدد من المسلمين بإرشادي للحصول على حكم قضائي بحضانة الأطفال باعتبارهم مسلمين، فذهبت إلى المحكمة ومعي شهادة إشهار إسلامي، فوقفت المحكمة مع الحق، فخيرتْ زوجي بين الدخول في الإسلام أو التفريق بينه وبيني، فقد أصبحتُ بدخولي في الإسلام لا أحلُّ لغير مسلم، فأبى واستكبر أن يدخل في دين الحق، فحكمتِ المحكمة بالتفريق بيني وبينه، وقضتْ بحقي في حضانة أطفالي باعتبارهم مسلمين، لكونهم لم يبلغوا الحُلم، ومن ثم يلتحقون بالمسلم من الوالدين.
حسبت أن مشكلاتي قد انتهت عند هذا الحد، لكني فوجئت بمطاردة زوجي وأهلي أيضاً، بالإشاعات والأقاويل بهدف تحطيم معنوياتي ونفسيتي، وقاطعتني الأسر النصرانية إلي كنت أعرفها، وزادت على ذلك بأن سعت هذه الأسر إلى بث الإشاعات حولي بهدف تلويث سمعتي، وتخويف الأسر المسلمة من مساعدتي لقطع صلتهن بي.
وبالرغم من كل المضايقات ظللتُ قوية متماسكة، مستمسكة بإيماني، رافضة كل المحاولات الرامية إلى ردَّتي عن دين الحق، ورفعتُ يديّ بالدعاء إلى مالك الأرض والسماء، أن يمنحني القوة لأصمد في وجه كل ما يشاع حولي، وأن يفرّج كربي.(1/24)
فاستجاب الله دعائي وهو القريب المجيب، وجاءني الفرج من خلال أرملة مسلمة، فقيرة المال، غنية النفس، لها أربع بنات يتامى وابن وحيد بعد وفاة زوجها، تأثرتْ هذه الأرملة المسلمة للظروف النفسية التي أحياها، وتملكها الإعجاب والإكبار لصمودي، فعرضتْ عليّ أن تزوجني بابنها الوحيد (محمد) لأعيش وأطفالي معها ومع بناتها الأربع، وبعد تفكير لم يدم طويلاً وافقتُ، وتزوجتُ محمداً ابن الأرملة المسلمة الطيبة.
وأنا الآن أعيش اليوم مع زوجي المسلم (محمد) وأولادي، وأهل الزوج في سعادة ورضا وراحة بال، على الرغم مما نعانيه من شظف العيش، وما نلاقيه من حقد زوجي السابق، ومعاملة أسرتي المسيحية.
ولا أزال بالرغم مما فَعَلَته عائلتي معي أدعو الله أن يهديهم إلى دين الحق ويشملهم برحته مثلما هداني وشملني برحمته، وما ذلك عليه -سبحانه وتعالى- بعزيز.
(7) توبة حدث (1)
يروي أحد المدرسين في دار الملاحظة -وهي دار مخصصة للأحداث الذين يرتكبون الجرائم الأخلاقية أو غيرها من الجرائم- يقول:
من أعجب الحالات التي قابلتنا في ميدان العمل الاجتماعي حالة (حَدَث) كان موجوداً لدينا في الدار محكوماً عليه في قضية (أخلاقية). فبعد انتهاء مدته في الدار قمت بإبلاغه بانتهائها وأنه سيُطلَق سراحه في الأسبوع القادم ومطلوب منه إبلاغ أهله في الزيارة لإحضار الكفالة اللازمة… فانخرط الحدث في بكاء شديد ظننت في البداية أنه دموع الفرح لخروجه من الدار ولكن استمرار البكاء وتعبيرات الحزن والقلق على وجهه جعلتني أنتحي به بعيداً عن إخوانه وأسأله عن سبب ذلك… فإذا به يقول: لا لأريد أن أطلع من الدار... أرجو إبقائي هنا…!! ماذا تقول؟ قلتها وأنا في دهشة… قال: أريد أن أبقى في الدار فالدار بالرغم مما بها من قيود لحريتي فهي أفضل من بيت أبي…!!
__________
(1) هذه القصة نشرف في مجلة دار الملاحظة العدد الثاني. بعنوان (أب للبيع).(1/25)
قلت له: لا شك أنك مخطئ… فلا يوجد مكان أفضل من منزل الأسرة… رد قائلا: اسمع قصتي واحكم بنفسك.
قلت: هات ما عندك.
بدأ الحدث ابن الثالثة عشرة يروي قصته فقال: توفيتْ والدتي منذ حوالي ثمانية أعوام وتركتنْي أنا وشقيقة أصغر مني بعامين وبعد وفاتها بعدة شهور أبلغني أبي أنه سيتزوج… وستكون لي خالة في مقام أمي… لم أستوعب جيداً لصغر سني هذا الكلام… وبعد حوالي أسبوع أقام والدي حفل عرس كبير وجاءت زوجة ابي إلى المنزل.
عاملتنا خالتي في بداية الأمر معاملة طيبة ثم بدأت معاملتها تتغير بالتدرج فكانت دائمة الشكوى لوالدي كلما عاد إلى المنزل من عمله… فتقول له: ابنك عمل كذا وابنتك سوّت كذا… ولم يكن أبي الذي يعود مرهقاً من عمله لديه استعداد لسماع المشكلات وحلها كما أن صغر سننا وضعف قدرتنا أنا وشقيقتي على التعبير لم يكن يسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا أمام القصص التي تختلقها زوجة أبي وتجيد حبكها وروايتها.(1/26)
في البداية كان أبي ينصحنا وأحياناً يوبخنا… ثم تطور الأمر مع استمرار القصص والشكاوي إلى الضرب والسباب والإهانات وازداد الأمر سوءاً بعد أن رزق أبي بثلاثة أولاد من زوجته… وبمرور الأيام تحولتُ أنا وشقيقتي إلى خدم بالمنزل علينا أن نلبي طلبات خالتي وأبنائها فأنا مسئول عن شراء كل ما يحتاجه البيت من السوق وشقيقتي مسئولة عن التنظيف والعمل بالمطبخ… وكنا ننظر بحسد إلى أبناء أبي الذين يتمتعون بالحب والتدليل وتستجاب رغباتهم وطلباتهم… وكان أبي يشعر أنني أنا وشقيقتي عبء عليه وعلى سعادته، وأننا دائماً نتسبب في تكدير جو البيت بما تقصه عليه خالتي من قصص مختلقة عنا… وكان رد فعل أبي السباب الدائم لنا، ونعتنا بالأبناء العاقين… وأنه لن يرضى عنا إلا إذا رضيتْ عنا زوجته وأبناءه… كما أطبق علينا النعوت السيئة، وكان الجميع بالمنزل ينادوننا بها حتى كدنا ننسى أسماءنا الحقيقية… وكنا محرومين من كل شيء -حتى المناسبات التي تدعى إليها الأسرة- كنا نحرم منها ولا نذهب معهم. ونجلس وحدنا في الدار ننعي سوء حظنا.(1/27)
وهناك حادثة لا أنساها حدثت في الشتاء الماضي فقد أحسستُ بتعب شديد في بطني وطلبتْ مني خالتي أن أخرج لشراء خبز للعشاء… وكانت البرودة شديدة فقلتُ لها إنني مريض ولا أستطيع الخروج الآن فقالت لأبي إنني أتمارض حتى لا أقوم بما هو مطلوب مني… فانهال أبي علي ضرباً وصفعاً وركلاً حتى سقطتُّ من المرض والإعياء واضطروا إلى نقلي إلى المستشفى عندما ساءت حالتي ومكثتُ في المستشفى خمسة أيام وعلى الرغم من الألم والتعب فقد استبشرت خيراً بهذه الحادثة وقلت لعلها توقظ ضمير أبي وتجعله يراجع نفسه إلا أنه للأسف استمر على ما هو عليه… وبدأت بعد ذلك أعرف طريق الهروب من المنزل… والتقطني بعض الشباب الأكبر سناً وأظهروا لي بعض العطف الذي كنت في حاجة شديدة إليه… ومن خلال هذه المشاعر المزيفة استطاعوا خداعي… وانزلقتُ معهم في الانحراف الأخلاقي ولم أكن أدرك بشاعة ذلك لصغر سني وعدم إدراكي… ثم قبض علي في قضية أخلاقية وأدخلت الدار، وعرفتُ فيها مقدار الخطأ الذي وقعت فيه… وأحمد الله على توبتي… فهل أنا على حق في بكائي وحزني وتمسّكي بداركم أم لا؟… وسكتُّ بعد أن أثقل ضميري بالحمل الذي ينوء بحمله الرجال فكيف بطفل لم يبلغ مرحلة الشباب؟ ومن المسئول عن هذه المأساة؟… هل هي زوجة الأب التي لم ترع الله في أبناء زوجها، أو هو ذلك الأب الذي لم ترع الله في أبناء زوجها، أم هو ذلك الأب الذي أنسته زوجته الجديدة عاطفة الأبوة وأبعدته عن العدل وجعلت منه دمية تحركها بخيوط أكاذيبها وألاعيبها.
وشرد خيالي بعيداً وأنا أتخيل لو أن هناك سوقاً يختار فيه الأبناء الأباء الجيدين لدفع هذا الحدث كل ما يملكه ثمناً لأب جيد ولكن… كم يساوي رجل مثل أبيه الحقيقي في مثل هذا السوق.
(8) توبة عاص(1)
قال الراوي:
__________
(1) هذه القصة نشرت في مجلة الأمة القطرية العدد السبعين بقلم: حسين عويس مطر بعنوان توبة.(1/28)
لقد تغير صاحبي… نعم تغير… ضحكاته الوقورة تصافح أذنيك كنسمات الفجر الندية وكان من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصلّ الآذان وتؤذي المشاعر… نظراته الخجولة تنم عن ظهر وصفاء وكانت من قبل جريئة وقحة… كلما تخرج من فمه بحساب وكانت من قبل يبعثرها هنا وهناك… تصيب هذا وتجرح ذاك… لا يعبأ بذلك ولا يهتم… وجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة وتحيط به هالة من نور وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة… نظرتُ إليه وأطلت النظر ففهم ما يدور بخلدي فقال: تريد أن تسألني: ماذا غيّرك؟
قلت: نعم هو ذلك… فصورتك التي أذكرها منذ لقيتك آخر مرة من سنوات، تختلف عن صورتك الآن…
فتنهد قائلا: سبحان مغيّر الأحوال… قلت: لابدّ أن وراء ذلك قصة؟ قال: نعم… قصة كلما تذكرتها ازدادت إيماناً بالله القادر على كل شيء قصة تفوق الخيال… ولكنها وقعت لي فغيرتْ مجرى حياتي… وسأقصها عليك…
ثم التفت إلي قائلا:
كنت في سيارتي متجهاً إلى القاهرة… وعند أحد الجسور الموصلة إلى إحدى القرى فوجئت ببقرة تجري ويجري وراءها صبي صغير… وارتكبت… فاختلت عجلة القيادة في يدي ولم أشعر إلا وأنا في أعماق الماء (ماء ترعة الإبراهيمية) ورفعت رأسي إلى أعلى عليّ أجد متنفساً… ولكن الماء كان يغمر السيارة جميعها… مددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح… هنا تأكدت أني هالك لا محالة.
وفي لحظات -لعلها ثوان- مرتْ أمام ذهني صور سريعة متلاحقة، هي صور حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون… وتمثل لي الماضي شبحاً مخيفاً وأحاطت بي الظلمات كثيفة… وأحسست بأني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة فانتابني فرع شديد فصرختُ في صوت مكتوم… يا رب… ودرت حول نفسي مادّا ذارعي أطلب النجاة لا من الموت الذي أصبح محقّقّاً… بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت عليّ الخناق.(1/29)
أحسست بقلبي يخفق بشدة فانتفضتُ… وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة وأستغفر ربي قبل أن ألقاه وأحسست كأن ما حولي يضغط علي كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد فقلت إنها النهاية لا محالة… فنطقت بالشهادتين وبدأت أستعد للموت… وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ… فراغ يمتد إلى خارج السيارة… وفي الحال تذكرتُ أن زجاج السيارة الأمامي مكسور… شاء الله أن ينكسر في حادث منذ أيام ثلاثة… وقفزت دون تفكير ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ فإذا الأضواء تغمرني وإذا بي خارج السيارة… ونظرتُ فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ كانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها… ولما رأوني خارج السيارة نزل اثنان منهم وصعدا بي إلى الشاطئ.
وقفتُ على الشاطئ ذاهلاً عما حولي غير مصدق أني نجوت من الموت وأني الآن بين الأحياء… كنت أنظر إلى السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيل حياتي الماضية سجينة هذه السيارة الغارقة… أتخيلها تختنق وتموت… وقد ماتت فعلاً… وهي الآن راقدة في نعشها أمامي لقد تخلصت منها وخرجت… خرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب… وأحسست برغبة شديدة في الجري بعيداً عن هذا المكان الذي دفنت فيه ماضي الدنس ومضيتُ… مضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات.
دخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لبعض الممثلات والراقصات وصور النساء عاريات… واندفعت إلى الصور أمزقها… ثم ارتميت على سريري أبكي ولأول مرة أحس بالندم على ما فرطت في جنب الله… فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني… وأخذ جسمي يهتز… وفيما أنا كذلك إذ بصوت المؤذن يجلجل في الفضاء وكأنني أسمعه لأول مرة… فانتفضت واقفاً وتوضأت… وفي المسجد وبعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي ودعوت الله أن يغفر لي ومنذ ذلك الحين وأنا كما ترى…
قلت هنيئاً لك يا أخي وحمداً لله على سلامتك لقد أراد الله بك خيراً والله يتولاك ويرعاك ويثبت على الحق خطاك.(1/30)
(9) الشاب ح م ج (1)
يروي هذا الشاب قصته فيقول:
كنت أعمل سائقاً للمسافات الطويلة وكان خط سيري ما بين جدة – المدينة وبالعكس… وبالجهد والكفاح استطعت -بفضل الله- أن أشتري سيارة أعمل عليها وكان العمل يشتد في مواسم رمضان والحج وفي عطلة الربيع… وأنا لا أستطيع أن أواصل الليل بالنهار لأني كنت أحلم بالحياة الوردية -كما يقولون- مما أدى بي إلى استعمال الحبوب المنبهة فأصبحت أواصل السهر والسفر من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام دون نوم.
بقيتُ على هذا الحال ما يقرب من سنتين جمعت خلالهما مبلغًا كبيراً… وذات يوم فكرت في الراحة فصممت على أن تكون هذه الراحة آخر ]رد[ وبعدها أرتاح من هذا العناء… وكانت إرادة الله فوق كل شيء… ركب المسافرون السيارة وخرجنا من مدينة جدة وقطعت مسافة لا بأس بها وإذا بي أفاجأ بسيارة تمر من جواري تسير بسرعة جنونية أحسست بداخلي بأن أمراً ما سوف يحدث… وبالفعل فما هي إلا لحظات حتى رأيت السيارة المذكور وهي تتقلب أماي… ومع تقلبها كنت أرى أشلاء السائق وجثته تتقطع وتتطاير في الهواء.
هالني المنظر… فلقد مرّت بي حوادث كثيرة ولكن الذي رأيت كان فوق تصوري… وجُمتُ للحظات… أفقت بعدها على صوت بعض المسافرين وهو يرددون: لا حول ولا قوة إلا بالله… إنا لله وإنا إليه راجعون…
قلت في نفسي: كيف لو كنت مكان هذا الشاب… كيف أقابل ربي… بلا صلاة ولا عبادة ولا خوف من الله… أحسستُ برعدة شديدة في جسمي ثم لم أستطع قيادة السيارة إلا بعد ثلاث ساعات… بعدها أوصلت الركاب إلى المدينة وعدتُ إلى جدة… وفي الطريق أديت صلاة المغرب والعشاء وكانتا أول صلاتين أصليهما في حياتي.
__________
(1) هذه القصة نشرت في جريد ة البلاد العدد 9016 إعداد عبد العزيز الحمدان.(1/31)
دخلت إلى منزلي… وقابلتني زوجتي… فرأتْ تغيراً واضحاً وجلياً في هيئتي ظنتْ بأني مريض فصرخت في وجهي: (ألم أقل لك اترك هذه الحبوب… حبوب البلاء إنك لن تدعها حتى يقصف الله عمرك فتذهب إلى النار…) كانت هذه الكلمات بمثابة صفعات وجهتْها لي زوجتي فقلت لها: أعاهد الله أنني لن أستعمل هذا الخبيث… وبشرتها بأني صليت المغرب والعشاء وأني تبت إلى الله وأجهشتُ بالبكاء… بكيتُ بكاءً مرّاً وشديداً.
أيقنت زوجتي أني صادق فيما أقول فما كان منها إلا أن انخطرت تبكي قبلي فرحة بتوبتي ورجوعي إلى الحق.
في تلك الليلة لم أتناول عشائي… نمت وأنا خائف من الموت وما يليه… فرأيت فيما يرى النائم أن أملك قصوراً وشركات وسيارات وملايين الريالات… وفجأة… وجدت نفسي بين القبور أنتقل من حفرة إلى حفرة أبحث عن ذلك الشاب المقطع فلم أجده… فأحسست بضربة شديدة على رأسي… أفقت بعدها لأجد نفسي على فراشي… تنفست الصعداء وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل… قمت وتوضأت وصليت حتى بزغ الفجر… فخرجت من البيت إلى المسجد ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملتزم ببيوت الله لا أفارقها وأصبحتُ حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تقام في المساجد وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة.
(10) توبة شاب مدمن للمخدرات(1)
__________
(1) هذه القصة نشرت في مجلة الأمن العدد 31 بقلم النقيب مساعد اللحياني.(1/32)
كان شاباً يافعاً… شُجاعاً… يعرفه كل أولاد الحارة بالنخوة… بالشهامة… كان دوماً لا يفارق ذلك المقهى المنزوي والذي تُظلله تلك الشجرة الكبيرة… أولاد الحارة يخافونه… ويستنجدون به في وقت الأزمات… كانت عصاه لا تخطيء… وكانت حجارته كالسهام… كانت أخباره في كل الحارات… كان إذا دخل ذلك المقهى وأخذ (مركازه) الذي اعتاد الجلوس عليه… وشاهده (القهوجي) ترك كل شيء في يده وأحضر (براد الشاهي) (أبو رابعة) الذي تعود أن يتناوله باستمرار وخاصة بعد صلاة المغرب… إنه لا يخافه ولكنه يحترمه… يحترم نخوته… وشهامته.
ظل ذلك الشاب طويلاً على هذه الحال… بلا منافس… غير أن هذه الأحوال لم تعجب مجموعة من أشرار الحي… كيف يأخذ هذا الشاب كل هذه الشهرة… كل هذا الحب والاحترام … لابدّ من حل سمعته… فكر كبيرهم ملياً وقال: إنني لا أستطيع مقاومة ذلك الشاب… ولكن لدي سلاح سهل وبسيط… إذا استخدمته… دمرته به… إنها المخدرات… ولكن كيف… قفز واحد من تلك المجموعة الشريرة وصاح: (براد الشاهي)… (براد الشاهي)… إنه يحب أن يتناوله يومياً بعد صلاة المغرب.
تسلل واحد منهم بخفية وسرعة إلى ذلك المقهى… ووضع كمية من الحبوب المخدرة في (براد الشاهي) وجلسوا في (المركاز) المقابل يراقبون تصرفاته… لقد وقع في الفخ… وتمر بالصدفة دورية الشرطة… ترى حالته غير طبيعية فتلقى القبض عليه… إنها المخدرات
وكم كان اندهاش قائد الدورية… إنه يعرفه تماما… كيف تحول بهذه السرعة إلى الملعونة… الحبوب المخدرة.
وأدخل السجن ولكن لا فائدة… لقد أدمن… نعم أدمن… ولم يستطع الإفلات من حبائلها… إنه في كل مرة يخرج من السجن… يعود إلى ذلك المقهى ويقابل تلك المجموعة… استمر على تلك الحال عدة سنوات… وكانت المفاجأة.(1/33)
لقد فكر والداه وأقاربه كثيراً في حاله… في مصيره… في سمعتهم بين الناس… وكان القرار… أن أصلح شيء له هو الزواج ومن إحدى البلاد المجاورة… يحفظه… ينسيه ذلك المقهى وتلك الشلة… وأبلغوه ذلك القرار فكان نبأ سارّاً… أعلن توبته… عاهد والديه… بدأ في الترتيب للخطوبة… لعش الزوجية… اشترى –فعلاً- بعض الأثاث… دخل مرحلة الأحلام… الأماني… زوجة… بيت… أسرة… أبناء… ما أجمل ذلك.
وتحدد موعد السفر ليرافق والده للبحث عن زوجة… إنه يوم السبت لكن الله لم يمهله… نام ليلة الخميس وكان كل تفكيره في الحلم الجديد… في الموعد الآتي… حتى ينقضي هذا اليوم… واليوم الذي بعده… إيه أيتها الليلة إنك طويلة… وكان الجواب… إنها ليلتك الأخيرة… فلا عليك وأصبح الصباح… واعتلى الصياح… وكانت النهاية… أن يكون في مثواه الأخير(1).
(11) توبة في مرقص(2)
قصة غربية… غريبة جداً… ذكرها الشيخ علي الطنطاوي في بعض كتبه قال:
دخلت أحد مساجد مدينة (حلب) فوجدت شاباً يصلي فقلت -سبحان الله- إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً يشرب الخمر ويفعل الزنا ويأكل الربا وهو عاقّ لوالديه وقد طرداه من البيت فما الذي جاء به إلى المسجد… فاقتربتُ منه وسألته: أنت فلان؟!! قال: نعم… قلت: الحمد لله على هدايتك… أخبرني كيف هداك الله؟؟ قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص… قلت مستغرباً… في مرقص؟!! قال: نعم… في مَرقص!! قلت: كيف ذلك؟!! قال: هذه هي القصة… فأخذ يرويها فقال:
__________
(1) سئل سماحة الشيخ محمد ابن عثيمين عن التعبير عن القبر بقولهم: (مثواه الأخير) فأجاب بأن ذلك حرام ولا يجوز، لأنه يتضمن إنكار البعث فالواجب تجنب مثل هذه العبارة. انظر مجلة المجاهد، العدد 31.
(2) هذه القصة ذكرها الشيخ العوضي في درس له بعنوان (فوائد عض البصر).(1/34)
كان في حارتنا مسجد صغير… يؤم الناس في شيخ كبير السن… وذات يوم التَفَتَ الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟!… ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه؟!!… فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي… قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟!!… ردّ عليه أحد المصلين: المرقص صالة كبيرة فيها خشبة مرتفعة تصعد عليها الفتيات عاريات أو شبه عاريات يرقصنَ والناس حولهنَ ينظرون إليهن… فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟ قالوا: نعم… قال: لا حول وقوة إلا بالله… هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس… قالوا له: يا شيخ… أين أنت… تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟! قال: نعم… حاولوا أن يثنوه عن عزمه وأخبروه أنهم سَيُواجَهون بالسخرية والاستهزاء وسينالهم الأذى فقال: وهل نحن خير محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص… وعندما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون؟!! قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص… تعجب صاحب المرقص… وأخذ يمعن النظر فيهم ورفض السماح لهم… فأخذوا يساومونه ليأذن لهم حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي.
وافق صاحب المرقص… وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي..
قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً المرقص… بدأ الرقص من إحدى الفتيات… ولما انتهت أسدل الستار ثم فتح… فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي فبدأ بالبسملة وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة وتملكهم العجب وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية… فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم أخذوا يسخرون منه ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء وهو لا يبالي بهم… واستمر في نصحه ووعظه حتى قام أحد الحضور وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.(1/35)
قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل… تلا علينا آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية وقصصاً لتوبة بعض الصالحين وكان مما قاله: أيها الناس… إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيراً… فأين ذهبت لذة المعصية. لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ستسألون عنها يوم القيامة وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى… أيها الناس… هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم فكيف بنار جهنم… بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان…
قال فبكى الناس جميعاً… وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه وكانت توبتهم على يده حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.
(12) توبة رجل في بانكوك(1)
(بانكوك) بلد الضياع والفساد… بلد العربدة والفجور بلد المخدرات والهلاك أنه رمز لذلك كله.
مئات الشباب… بل والشيوخ يذهبون إلى بانكوك يبحثون عن المتعة الحرام فيعودون وقد خسروا… السعيدة… دينهم ودنياهم… خسروا الراحة والحياة السعيدة… وبعضهم يعود وقد خسر الدنيا والآخرة يعود جنازة قد فارق الحياة ويا لها من خاتمة بئيسة!!
وفيما يلي قصة لرجل قد بدأ الشّيبُ يَشتعلُ في رأسه ذهب إلى هناك تاركاً زوجته وأولاده ولكنه استيقظ في النهاية يروي قصته فيقول:
لم أخجل من الشيب الذي زحف إلى رأسي… لم أرحم مستقبل ابنتي الكبرى التي تنتظر من يطرق الباب طالباً يدها للزواج… لم أعبأ بالضحكات الطفولية لابنتي الصغرى التي كانت تضفي السعادة والبهجة على البيت… لم أتلفت إلى ولدي ذي الخمسة عشر ربيعاً والذي أرى فيه أيام صباي وطموحات شبابي وأحلام مستقبلي… وفوق كل هذا وذاك لم أهتم بنظرات زوجتي… شريكة الحلو والمرّ وهي تكاد تسألني إلى أين ذلك الرحيل المفاجئ.
__________
(1) هذه القصة نشرت في جريدة المسلمون العدد (202).(1/36)
شيئا واحداً كان في خاطري وأنا أجمع حقيبة الضياع لأرحل… قفز هذا الشيء فجأة ليصبح هو الحلم والأمل… ليصبح هو الخاطر الوحيد… وميزان الاختيارات الأقوى.
ما أقسى أن يختار المرء تحت تأثير الرغبة… وما أفظع أن يسلك طريقاً لا هدف له فيه سوء تلبية نداء الشيطان في نفسه وهكذا أنا… كأنه لم تكفني ما تمنحه زوجتي إياي… تلك المرأة الطيبة التي باعت زهرة عمرها لتشتري فقري… وضحت كثيراً لتشبع غروري الكاذب… كانت تمر عليها أيام وهي تقتصر على وجبة واحدة في اليوم لأن مرتبي المتواضع من وظيفتي البسيطة لم يكن يصمد أمام متطلبات الحياة.
صبرت المسكينة… وقاست كثيراً حتى وقفت على قدمي… كنت أصعد على أشلاء تضحياتها… نسيتُ أنها امرأة جميلة صغيرة… يتمناها عشرات الميسورين واختارتني لتبني مني رجلاً ذا دنيا واسعة في عالم الأعمال يسانده النجاح في كل خطوة من خطواته.
وفي الوقت الذي قررّت فيه أن ترتاح تجني ثمرات كفاحها معي فوجئتْ بي أطير كأن عقلي تضخم من أموالي… وكأني أعيش طيش المراهقة التي لم أعشها في مرحلتها الحقيقية.
بدأت يومي الأول في بانكوك… وجه زوجتي يصفع خيالي كلما هممتُ بالسقوط هل هي صيحات داخلية من ضمير يرفض أن ينام… أم هو عجز (الكهولة) الذي شل حركتي.
(إنك لا تستطيع شيئاً… أعرض نفسك على الطبيب) عبارة صفعتني بها أول عثرة فنهضت وقد أعمى الشيطان البصيرة ولم يعد همي سوى رد الصفعة… توالت السقطات وتوالى الضياع… كنت أخرج كل يوم لأشتري الهلاك وأبيع الدين والصحة ومستقبل الأولاد وسلامة الأسرة… ظننت أنني الرابح والحقيقة أنني الخاسر الضائع الذي فقد روحه وضميره وعاش بسلوك البهائم يغشى مواطن الزلل.
أخذت أتجرع ساعات الهلاك في بانكوك كأنني أتجرّع السم الزعاف… أشرب كأس الموت… كلما زلّت القدم بعثرات الفساد… لم تعد في زمني عظة ولم يسمع عقلي حكمة.(1/37)
عشت غيبوبة السوء يزينها لي مناخ يحمل كل أمراض الخطيئة… مرت سبعة أيام أصبحت خلالها من مشاهير رواد مواطن السوء … يُشار إلي بالبنان… فأنا رجل الأعمال (الوسيم) الذي يدفع أكثر لينال الأجمل!
أحياناً كان همي الوحيد منافسة الشباب القادمين إلى بانكوك في الوجاهة… في العربدة… في القوة… أعرفهم جيداً… لا يملكون جزءاً يسيراً مما أملكه لكنهم كانوا يلبسون (أشيك) مما ألسبه لذا كنت اقتنص فوراً الفريسة التي تقع عليها أعينهم… وعندها أشعر أنني انتصرت في معركة حربية وفي النهاية سقطت سقطة حولتني إلى بهيمة… فقدت فيها إنسانيتي ولم أعد أستحق أبوتي… فكانت الصفعة التي أعادت إلى الوعي… قولوا عني ما تشاءون… اصفعوني… ابصقوا في وجهي… ليتكم كنتم معي في تلك الساعة لتفعلوا كل هذا… أي رعب عشته في تلك اللحظات وأي موت تجرعته.
أقسم لكم أنني وضعت الحذاء في فمي لأن هذا أقل عقاب أستحقه… رأيت -فجأة- وجه زوجتي يقفز إلى خيالي… كانت تبتسم ابتسامة حزينة… وتهز رأسها أسفاً على ضياعي… رأيت وجه ابنتي الكبرى التي بلغت سن الزواج تلومني وهي تقول: ما الذي جعلك تفعل كل هذا فينا وفي نفسك؟! ورأيت -لأول مرة- صحوة ضميري ولكنها صحوة متأخرة… جمعت حقيبة الضياع التي رحلت بها من بلدي… قذفتها بعيداً… وعدت مذبوحاً من الوريد إلى الوريد.
ها أنذا أبداً أولى محاولتي للنظر في وجه زوجتي… أدعو الله أن يتوب علي… وأن يلهم قلبها نسيان ما فعلته في حقها وحق أولادنا. ولكن حتى الآن لم أسامح نفسي… ليتكُم تأتون إلىّ وتصفعوني بأحذيتكم أنني أستحق أكثر من ذلك.
(13) توبة شاب من ضحايا بانكوك (1)
__________
(1) هذه القصة أيضاً نشرت في جريدة المسلمون في العدد 202.(1/38)
شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره ذهب إلى بانكوك بحثاً عن المتعة الحرام فوجدها ولكنه سقط معها إلى الهاوية لولا عناية الله وفضله تداركته في آخر لحظة… عرفه الشباب الخليجي في بانكوك بالحشاش لأن سيجارة الحشيش لم تكن تفارق يده وشفتيه… هنا تخلى عن مهنته كطالب جامعي واضطره (الكيف) إلى أن يحترف مهنة… ويا لها من مهنة له معها صولات وجولات يروي قصته فيقول:
أنا واحد من أحد عشر أخاً من الذكور… إلا أنني الوحيد الذي سافر هناك… كان سفري الأول قبل عام تقريباً بعد جلسة مع الزملاء تحدثوا فيها عن المتعة في بانكوك!!! وخلال عام واحد سافرت سبع مرات وصل مجموعها إلى تسعة أشهر!!!
بدايتي مع المدرات كانت في الطائرة في أول رحلة إلى بانكوك عندما ناولني أحد الأصدقاء الخمسة الذين كانت معهم كأساً من (البيرة) ولم استسغها فقال لي خذ كأساً أخرى وسيختلف الأمر عليك فأخذتها فكانت هذه بداية الإدمان حيث كان فيها نوع من أنواع المخدر يسمى (الكنشة).
ما إن وصلت إلى بلدي حتى بعت سيارتي وعدت إلى بانكوك… وعند وصولي كنت أسأل عن (الكنشة)… فدخنتها بكثرة… ولم أكتف بل أخذت أبحث وأجرب أنواعاً أخرى من المخدرات فجربت (الكبتيجول) فلم تناسبني.
كنت أبحث عن لذة أخرى يشبه (الكنشة) أو تفوقها فلم أجد وعدت إلى بلدي!!.
وفي منزل أحد أصدقائي الذين سافرت معهم أول مرة عثرت عنده على (الحشيش) فتعاطيته… كان سعره مرتفعاً فاضطررت لضيق ذات اليد أن أخدع أخي وأوهمه أن أحد الأصدقاء يطالبني بمال اقترضته منه فباع أخي سيارته وأعطاني النقود… فاشتريت بها حشيشاً وسافرت إلى بانكوك.(1/39)
وعندما عدتّ إلى بلدي بدأت أبحث عن نوع آخر يكون أقوى من (الحشيش) سافرت إلى بلد عربي في طلب زيت الحشيش ومع زيت الحشيش كنت أتجه إلى الهاوية… لم أعد أستطيع تركه… تورطت فيه… أخذته معي إلى بانكوك ولم تكن سيجارتي المدهونة به تفارق شفتي… عرفني الجميع هناك بالحشاش أصبت به إصابات خطيرة في جسدي أحمد الله أن شفاني منها… فلم أكن أتصور يوماً من الأيام أنني سأشفي من إدمان زيت الحشيش.
أصبح المال مشكلتي الوحيدة… من أين أحصل عليه؟ اضطررت إلى السير في طريق النصب والاحتيال حتى إنني أطلقت لحيتي وقصرت ثوبي لأوهم أقاربي بأنني بدأت ألتزم… واقترضت منهم مالاً… وسرقت من خالي وعمي… وأغريت بعض أصدقائي بالسفر إلى بانكوك لأذهب معهم وعلى حسابهم… بل لقد أصبحتُ نصّاباً في بانكوك فكنت أحتال على شباب الخليج الذين قدموا للتو إلى هناك وأستولي على أموالهم… كنت أخدع كبار السن الخليجيين وأستحوذ على نقودهم حتى التايلنديين أنفسهم كنت أتحدث معهم بلغة تايلندية مكسرة وأنصب عليهم!!.
لم أكن أغادر بانكوك لأن عملي -أقصد مهنة النصب- كان هناك… وفكرت فعلاً في الاستقرار والزواج من تايلندية للحصول على الجنسية التايلندية حتى أنشئ مشروعاً صغيراً أعيش منه.
أصبحت خبيراً في الحشيش أستطيع معرفة الحشيش المغشوش من السليم.
ومضت الأيام وفقدت كل ما أملك فلم أجد من يقرضني… عرف جميع إخوتي وأقاربي وأصدقائي أنني نصّاب… ولم أجد من يرشدني إلى مكان فيه مال لأسرقه… ضاقت بي الدنيا وربطت الجبل لأشنق نفسي بعد أن شربت زجاجة عطر لأسكر… ولكن أخي قال لي: أنت غبي… فغضبت لذلك ونزلت لأناقشه فأقنعني أنني لن أستفيد شيئاً من الانتحار.(1/40)
ركبت السيارة وأنا مخمور وفي ذهني آنذاك أمران إما أن تقبض عليّ الشرطة، وإما أن أصل إلى المستشفى لأعالج من حالة الإدمان التي أعاني منها… والحمد لله ذهبت إلى المستشفى وتعالجت وها أنذا الآن أصبحت سليماً معافى تبتُ إلى الله ولن أعود إلى سابق عهدي.
(14) توبة شاب بعد سماعه لقراءة الشيخ (علي جابر) إمام الحرم ودعائه(1)
كان متأثراً من قصته… كيف لا وقد أتى على محرمات كثيرة الخمر … الزنا… الرقص… الخ.
كل هذه كانت من معشوقاته.
ونتركك -عزيزي القارئ- مع مجريات الأحداث التي مر على التائب ع . أ. س وهو يحدثنا فيقول: من كرم الله على عباده أنه يمهلهم ولا يهملهم… وقد سبقت رحمته غضبه وإلا فما الذي يمنعه سبحانه أن ينزل عذابه وعقابه بعباده متى شاء (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) ولعل الله أراد بي خيراً فقد كنت دائم التفكير في سوء الخاتمة وأسأل نفسي سؤالاً: ما الذي يمنعني من الصلاة مثلا؟ فكانت نفسي والشيطان عوناً علي وتنقلت من دولة إلى دولة… اليونان إلى فرنسا إلى هولندا وكندا وأمريكا وغيرها… وفي أمريكا أمضيت ما يقرب من ثلاث سنوات… لا أذكر أني صليت سوى جمعة واحدة في المسجد.
وكان داعي الفطرة السليمة والبيئة التي عشت فيها صغيراً يدعوني إلى الله… ولكن الشيطان استحوذ علي فأنساني ذكر الله.
__________
(1) من جريد البلاد عدد 9014 إعداد أبو عبد الخالق.(1/41)
أمضيت تلك السنين في أمريكا وأنا بين مدّ وجزر… هناك أصدقاء ملتزمون كانوا يزورونني لحرصهم على هدايتي فكان عندي الميل لهؤلاء وأتمنى أن أكون مثلهم في تعاملهم وسلوكهم وطاعتهم لربهم… وفي المقابل كنت دائم الاستعداد لتلبية دعوة الشيطان… فتجدني كل عطلة أسبوعية أطارد المراقص المشهورة من الديسكو والروك آندورل… لم أكن أتناول الخمر في البداية… وكان الجهاد صعباً في بيئة موبوءة بالفساد والانحلال… وقعت في الفخ… وأخذت أعاقر الخمر… أشرب من جميع الأصناف… ولابدّ أن يقترن الشراب بفعل الفاحشة والزنا والعياذ بالله فبقيتُ على هذه الحال حتى كانت عودتي إلى موطني.
تزوجتُ من فتاة طيبة القلب صالحة ومن أسرة محافظة… رجعت بعد الزواج إلى أمريكا مصطحباً زوجتي وعدتُّ إلى ما كنت عليه قبل الزواج دون علم زوجتي وكان لرفقاء السوء دور كبير وللأسف فهم متزوجون قبل… أشاروا علي أن نستأجر شقة لممارسة المحرمات… وكانت البداية أن رفضت نفسي هذا الوضع المشين المزري… اتجهت فوراً إلى زوجتي الحبيبة قلت: لابدّ من العودة إلى السعودية في أقرب فرصة ممكنة… لم أعد أحتمل… وجاء بعض الأصدقاء يثنوني عن عزمي في العودة رفضت جميع المغريات وتفوقت في الدراسة وعدت إلى بلادي… وبقيت على ما كنت عليه فالله لم يأذن لي بعد في الهداية فكنت أفعل المحرمات وسافرت عدة سفرات بقصد السياحة.
وبعد سنة تقريباً من هذا الحال قدر الله أن أجد في سيارتي شريطاً للشيخ (علي جابر) وفيه آيات من القرآن الكريم ودعاء القنوت وبدأ الشيخ يدعو وكان الوقت صباحاً وأنا ذاهب إلى عملي حتى وجدت نفسي أبكي مثل الطفل بكاءً شديداً ولم أستطع قيادة السيارة فوقفت بجانب الطريق أستمع إلى الشريط وأبكي… وكأني أسمع آيات الله لأول مرة.(1/42)
بدأ عقلي يفكر وقلبي ينبض وكل جوارحي تناديني: اقتل الشيطان والهوى… وبدأت حياتي تتغير… وهيئتي تتبدل… وبدأت أسير على طريق الخير وأسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم أجمعين.
(15) توبة شاب بدعاء أمه له
كان يسكن مع أمه العجوز في بيت متواضع وكان يقضي معظم وقته أمام شاشة التلفاز كان مغرماً بمشاهدة الأفلام والمسلسلات يسهر الليالي من أجل ذلك لم يكن يذهب إلى المسجد ليؤدي الصلاة المفروضة مع المسلمين طالما نصحته أمه العجوز بأداء الصلاة فكان يستهزئ بها ويسخر منها ولا يعيرها أي اهتمام.
مسكينة تلك الأم إنها لا تملك شيئاً وهي المرأة الكبيرة الضعيفة إنها تتمنى لو أن الهداية تباع فتشتريها لأنها وحيدها بكل ما تملك إنها لا تملك إلا شيئاً واحداً… واحداً فقط إنه الدعاء إنها سهام الليل التي لا تخطئ.
فبينما هو يسهر طوال الليل أمام تلك المناظر المزرية كانت هي تقوم في جوف الليل تدعو له بالهداية والصلاح… ولا عجب في ذلك فإنها عاطفة الأمومة التي لا تساوي عاطفة.
وفي ليلة من الليالي حيث السكون والهدوء وبينما هي رافعة كفيها تدعو الله وقد سالت الدموع على خديها… دموع الحزن والألم إذا بصوت يقطع ذلك الصمت الرهيب… صوت غريب… فخرجتْ الأم مسرعة باتجاه الصوت وهي تصرخ ولدي حبيبي فلما دخلت عليه فإذا بيده المسحاة وهو يحطم ذلك الجهاز اللعين الذي طالما عكف عليه وانشغل به عن طاعة الله وطاعة أمه وترك من أجله الصلوات المكتوبة ثم انطلق إلى أمه ليقبل رأسها ويضمها إلى صدره وفي تلك اللحظة وقفت الأم مندهشة مما رأت والدموع على خديها ولكنها في هذه المرة ليست دموع الحزن والألم وإنما دموع الفرح والسرور وهكذا استجاب الله لدعائها فكانت الهداية.
وصدق الله إذ يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) الآية.
(16) توبة شاب من سماع الغناء
طفل صغير لم يتجاوز سن البلوغ كان سبباً في هداية أخيه من سماع الغناء المحرم.(1/43)
عرف ذلك الطفل حكم الإسلام في الغناء وتحريمه له فانشغل عنه بقراءة القرآن الكريم وحفظه، ولكن لابدّ من الابتلاء.
ففي يوم من الأيام خرج مع أخيه الأكبر في السيارة في طريق طويل وأخوه هذا كان مفتوناً بسماع الغناء فهو لا يرتاح إلا إذا سمعه وفي السيارة قام بفتح المسجل على أغنية من الأغاني التي كان يحبها. فأخذ يهز رأسه طرباً ويردد كلماته مسروراً.
لم يتحمل ذلك الطفل الصغير هذه الحال وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). فعزم على الإنكار وهو لا يملك هنا إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه فأنكر بلسانه وقال مخاطباً أخاه: لو سمحت أغلق المسجل فإن الغناء حرام وأنا لا أريد أن أسمعه… فضحك أخوه الأكبر ورفض أن يجيبه إلى طلبه… ومضت فترة وأعاد ذلك الطفل الطلب وفي هذه المرة قوبل بالاستهزاء والسخرية فقد اتهمه أخوه بالتزمت والتشدد!!! الخ… وحذره من الوسوسة (!!!) وهدده بأن ينزله في الطريق ويتركه وحده… وهنا سكت الطفل على مضض ولم يعد أمامه إلا أن ينكر بقلبه ولكن… كيف ينكر بقلبه إنه لا يستطيع أن يفارق ذلك المكان فجاء التعبير عن ذلك بعبرة ثم دمعة نزلت على خده الصغير الطاهر كانت أبلغ موعظة لذلك الأخ المعاند من كل كلام يقال… فقد التفت إلى أخيه… -ذلك الطفل الصغير- فرأى الدمعة تسيل على خده فاستيقظ من غفلته وبكى متأثراً بما رأى ثم أخرج الشريط من مسجل السيارة ورمى به بعيداً معلناً بذلك توبته من استماع تلك التُّرهات الباطل..(1/44)
العائدون إلى الله
مجموعة من قصص التائبين ، من مشاهير
وعلماء ودعاة وغيرهم يرونها بأنفسهم
جمعها
محمد بن عبدالعزيز المسند
المجموعة الثانية
(1) توبة المفكر سيد قطب رحمه الله(1)
في قرية صغير في صعيد مصر ولد سيد قطب رحمه الله، ونشأ في أسرة متدينة متوسطة الثراء، وقد حرص والداه على تحفيظه القرآن الكريم في صغره، فما أتمّ العاشرة إلا وقد حفظه كاملاً ..
ولما بلغ التاسعة عشرة عاش فترة من الضياع، وصفها بنفسه بأنه كانت (فترة إلحاد) حيث قال: (ظللت ملحداً أحد عشر عاماً حتى عثرت على الطريق إلى الله، وعرفت طمأنينة الإيمان.
وفي سنة 1948م غادر سيد القاهرة متوجهاً إلى أمريكا في بعثة لوزارة المعارف آنذاك، فكانت تلك الرحلة هي بداية الطريق الجديد الذي هداه الله إليه، ووفقه لسلوكه والسير فيه.
كان سفره على ظهر باخرة عبرت به البحر المتوسط والمحيط الأطلسي... وهناك على ظهر الباخرة، جرت له عدة حوادث أثرت في حياته فيما بعد، وحددت له طريقه، ولذلك ما إن غادر الباخرة في الميناء الأمريكي الذي وصل إليه، وما إن وطئت قدماه أرض أمريكا حتى كان قد عرف طريقه، وحدد رسالته، ورسم معالم حياته في الدنيا الجديدة.
والآن… لنترك الحديث لسيد ليخبرنا عما حدث له على ظهر السفينة يقول:
(منذ حوالي خمسة عشر عاماً… كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام، على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة ليس فيهم مسلم.
وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة!
والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!
__________
(1) انظر كتاب (شيد قطب...من القرية إلى المشنقة) لعادل حمودة.(2/1)
وقد يسر لنا قائد السفينة -وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها -وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي منهم معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة.
وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.
وقمت بخطبة الجمعة، وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون، يرقبون صلاتنا!
وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح (القداس)!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا.
ولكن سيدة من هذا الحشد -عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية (1)هاربة من جحيم (تيتو) وشيوعيته- كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعره… جاءت تشد على أيدينا بحرارة وتقول -في إنجليزية ضعيفة- إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه، وما فيها من خشوع، ونظام وروح… الخ (2)
وبعد ذلك كله… وفي ظلال هذه الحالة الإيمانية، راح سيد يخاطب نفسه قائلا:
(أأذهب إلى أمريكا وأسير فيها سير المبتعثين العاديين، الذين يكتفون بالأكل والنوم، أم لابدّ من التميز بسمات معينة؟!
وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه، والالتزام بمناهجه في الحياة وسط المعمعان المترف المزوّد بكل وسائل الشهوة واللذة الحرام؟...)
قال: ورأيت أن أكون الرجل الثاني، (المسلم الملتزم)، وأراد الله أن يمتحنني هل أنا صادق فيما اتجهت إليه أم هو مجرد خاطرة؟!
وكان ابتلاء الله لي بعد دقائق من اختياري طريق الإسلام، إذ ما إن دخلتُ غرفتي حتى كان الباب يقرع… وفتحتُ… فإذا أنا بفتاة هيفاء جميلة، فارعة الطول، شبه عارية، يبدو من مفاتن جسمها كل ما يغري… وبدأتني بالإنجليزية قائلة: هل يسمح لي سيدي بأن أكون ضيفة عنده هذه الليلة؟
__________
(1) المسيح عليه السلام، بريء منهم، بعد أن حرفوا دينهم والصحيح أن يقال نصرانية.
(2) الظلال 3، 1786.(2/2)
فاعتذرتُ بأن الغرفة معدة لسرير واحد، وكذا السرير لشخص واحد… فقالت: وكثيراً ما يتسع السرير الواحد لاثنين!!
واضطررت أمام وقاحتها ومحاولتها الدخول عنوة لأن أدفع الباب في وجهها لتصبح خارج الغرفة، وسمعت ارتطامها بالأرض الخشبية في الممر، فقد كانت مخمورة… فقلت: الحمد لله… هذا أول ابتلاء… وشعرتُ باعتزاز ونشوة، إذ انتصرت على نفسي… وبدأت تسير في الطريق الذي رسمته لها(1)…
ولقد واجه سيد رحمه الله ابتلاءات كثيرة بعد ذلك ولكنه تغلّب عليها وانتصر على نفسه الأمارة بالسوء!
ولما وصل إلى أمريكا، يحدثنا عما رأى فيقول: ولقد كنت -في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية- أرى رأي العين مصداق قول الله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مُبلسون). (سورة الأنعام الآية 44).
فإن المشهد الذي ترسمه الآية مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب، لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك!
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه… وشعورهم بأنه وَقف على الرجل الأبيض… وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية كذلك بشعة… وفي صلف على أهل الأرض كلهم، كنتُ أرى هذا كله فأذكر هذه الآية… وأتوقع سنة الله… وأكاد أرى خطواتها وهي تدبّ إلى الغافلين(2).
وبعد سنتين قضاهما سيد في أمريكا، عاد رحمه الله إلى مصر… ولكنه عاد رجلاً آخر… رجلاً مؤمناً ملتزماً صاحب رسالة ودعوة وغاية.
رحم الله سيداً وأسكنه فسيح جناته وعفا عنا وعنه.
(2) توبة الشرطيين شهدا إعدام سيد قطب رحمه الله (3)
__________
(1) انظر (أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب)، للدكتور صلاح الخالدي.
(2) الظلال 2، 1091 باختصار.
(3) مجلة الدعوة السعودية/ العدد 1028/ بقلم: محمد المجذوب، باختصار.(2/3)
إن في بذل العلماء والدعاة والمصلحين أنفسهم في سبيل الله حياة للناس، إذا علموا صدقهم؛ وإخلاصهم لله عز وجلّ.
ومن هؤلاء الدعاة والمفكرين.. (سيد قطب) رحمه الله، فقد كان لمقتله أثر بالغ في نفوس من عرفوه وعلموا صدقه، ومنهم اثنان من الجنود الذين كُلفّوا بحراسته وحضروا إعدامه.
يروي أحدهما القصة فيقول:
هناك أشياء لم تكن نتصورها هي التي أدخلت التغيير الكلي على حياتنا..
في السجن الحربي كنا نستقبل كل ليلة أفراداً أو مجموعات من الشيوخ والشباب والنساء، ويقال لنا: هؤلاء من الخونة الذين يتعاونون مع اليهود ولابدّ من استخلاص أسرارهم.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بأشدّ العذاب. وكان ذلك كافياً لتمزيق لحومهم بأنواع السياط والعصي.. كنا نفعل ذلك ونحن مُوقنون إننا نؤدي واجباً مقدّساً… إلا أننا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا أمام أشياء لم نستطع لها تفسيراً، لقد رأينا هؤلاء (الخونة)، مواظبين على الصلاة أثناء الليل وتكاد ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله حتى عند البلاء.
بل إن بعضهم كان يموت تحت وقع السياط، أو أثناء هجوم الكلاب الضارية عليهم، وهو مبتسمون على الذكر.
ومن هنا… بدأ الشك يتسرب إلى نفوسنا… فلا يعقل أن يكون مثل هؤلاء المؤمنين الذاكرين من الخائنين المتعاملين مع أعداء الله.
واتفقتُ أنا وأخي هذا سراً على أن نتجنب إيذائهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلا. وأن نقدم لهم كل ما نستطيع من العون.
ومن فضل الله علينا أن وجودنا في ذلك السجن لم يستمر طويلاً… وكان آخر ما كُلفنا به من عمل هو حراسة الزنزانة التي أفرد فيها أحدهم وقد وصفوه لنا بأنه أخطرهم جميعاً، أو أنه رأسهم المفكر وقائدهم المدبر (1)
وكان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادراً معه على النهوض، فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية التي تنظر في قضيته.
__________
(1) هو سيد رحمه الله(2/4)
وذات ليلة جاءت الأوامر بإعداده للمشنقة، وأدخلوا عليه أحد الشيوخ!!! ليذكره ويعظه!!! وفي ساعة مبكرة من الصباح التالي، أخذت أنا وأخي بذراعيه نقوده إلى السيارة المغلقة التي سبقنا إليها بعض المحكومين الآخرين… وخلال لحظات انطلقت بنا إلى مكان الإعدام… ومن خلفنا بعض السيارات العسكرية تحمل الجنود المدججين بالسلاح للحفاظ عليهم…
وفي مثل لمح البصر أخذ كل جندي مكانه المرسوم محتضناً مسدسه الرشاش، وكان المسئولون هناك قد هيئوا كل شيء… فأقاموا من المشانق مثل عدد المحكومين… وسيق كل منهم إلى مشنقة المحددة، ثم لفّ حبلها حول عنقه، وانتصب بجانب كل واحدة (العشماوي) الذي ينتظر الإشارة لإزاحة اللوح من تحت قدمي المحكوم.. ووقف تحت كل راية سوداء الجندي المكلف برفعها لحظة التنفيذ.
كان أهيب ما هنالك تلك الكلمات التي جعل يوجهها كل من هؤلاء المهيئين للموت إلى إخوانه، يبشره بالتلاقي في جنة الخلد، مع محمد وأصحابه، ويختم كل عبارة الصيحة المؤثرة: الله أكبر والله الحمد.
في هذه اللحظات الرهيبة سمعنا هدير سيارة تقترب، ثم لم تلبث أن سكت محركها، وفتحت البوابة المحروسة، ليندفع من خلالها ضابط من ذوي الرتب العالية، وهو يصيح بالجلادين: مكانكم!
ثم تقدم نحو صاحبنا الذي لم نزل إلى جواره على جانبي المشنقة، وبعد أن أمر الضابط بإزالة الرباط عن عينه، ورفع الحبل عن عنقه، جعل يكلمه بصوت مرتعش:
يا أخي.. سيد.. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس الحليم الرحيم، كلمة واحدة تدليها بتوقيعك، ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء.
ولم ينتظر الجواب، وفتح الكراس الذي بيده وهو يقول: اكتب يا أخي هذه العبارة فقط: (لقد كنت مخطئاً وإني أعتذر...).
ورفع سيد عينه الصافيتين، وقد غمرت وجهه ابتسامة لا قدرة لنا على وصفها.. وقال للضابط في هدوء عجيب: أبداً.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول!
قال الضابط بلهجة يمازجها الحزن... ولكنه الموت يا سيد.(2/5)
وأجاب سيد: (يا مرحباً بالموت في سبيل الله..)، الله أكبر!! هكذا تكون العزة الإيمانية، ولم يبق مجال للاستمرار في الحوار، فأشار الضابط للعشماوي بوجوب التنفيذ.
وسرعان ما تأرجح جسد سيد رحمه الله وإخوانه في الهواء... وعلى لسان كل منهم الكلمة التي لا نستطيع لها نسياناً، ولم نشعر قط بمثل وقعها في غير ذلك الموقف، (لا إله إلا الله، محمد رسول الله...)
وهكذا كان هذا المشهد سبباً في هدايتنا واستقامتنا، فنسأل الله الثبات.
(3) توبة المغني البريطاني المشهور (كات ستيفنز ) (1)
رفض كل مغريات الدنيا بكل شهرتها وشهواتها، هرب من هجير هذا العالم إلى وهج الإيمان، فوجد فيه الهناء والطمأنينة… إنها قصة الفنان البريطاني الذي ضربت شهرته الآفاق، (كات ستيفنز)، الذي أصبح اسمه فيما بعد (يوسف إسلام). ها هو يرويها بنفسه في هذه السطو البليغة التعبير، البالغ التأثير فيقول:
(ولدتُ في لندن قلب العالم الغربي...
ولدتُ في عصر التلفزيون وارتياد الفضاء..
ولدتُ في عصر وصلتْ فيه التكنولوجيا إلى القمة في بلد معروف بحضارته في بريطانيا.. ترعرعتْ في هذا المجتمع، وتعلمت في مدرسة (كاثوليكية)، حيث علمتنْي المفهوم المسيحي (النصراني)، للحياة والعقيدة، وعرفت ما يفترض أن أعرفه عن الله، وعن المسيح (عليه السلام)، والقدر والخير والشر.
حدثوني كثيراً عن الله، وقليلاً عن المسيح، وأقلّ من ذلك عن الروح القدس.
كانت الحياة حولي ماديّة تنصبُّ من كل أجهزة الإعلام، حيث كانوا يعلموننا بأن الغنى هو الثروة الحقيقية، والفقر هو الضياع الحقيقي، وأن الأمريكي هو المثل للغنى، والعالم الثالث هو المثل للفقر والمجاعة والجهل والضياع!!
ولذلك لابدّ أن أختار طريق الغنى، وأسلك مسلكه، لأعيش حياة سعيدة، وأفوز بنعيم الحياة، ولهذا فقد بنيت فلسفة الحياة على ألا علاقة لها بالدين، وانتهجت هذه الفلسفة، لأدرك سعادة النفس.
__________
(1) المجلة العربية/ العدد 104.(2/6)
وبدأت أنظر إلى وسائل النجاح، وكانت أسهل طريقة أن أشتري (جيتاراً)، وأؤلف بعض الأغاني، وألحنها، وأنطلق بين الناس، وهذا ما فعلته بالفعل باسم (كات ستيفنز).
وخلال فترة قصيرة حيث كنت في الثامنة عشرة من عمري، كان لي ثمانية شرائط مسجلة، وبدأت أقدم الكثير من العروض، وأجمع الكثير من المال حتى وصلت إلى القمة!!
وعندما كنتُ في القمة، كنت أنظر إلى أسفل، خوفاً من السقوط!! وبدأ القلق ينتابني، وبدأت أشرب زجاجة كاملة في كل يوم، لأستجمع الشجاعة كي أغني، كنت أشعر أن الناس حولي يلبسون أقنعة، ولا أحد يكشف عن وجهه القناع -قناع الحقيقة!!
كان لابدّ من النفاق، حتى تبيع وتكسب -وحتى تعيش!!
وشعرت أن هذا ضلال، وبدأت أكره حياتي واعتزلت الناس وأصابني المرض، فنقلتُ إلى المستشفى مريضاً بالسل، وكانت فترة المستشفى خيراً لي حيث إنها قادتني إلى التفكير.
كان عندي إيمان بالله، ولكن الكنيسة لم تعرّفني ما هو الإله، وعجزت عن إيصال حقيقة هذا الإله الذي تتحدث عنه!!
كانت الفكرة غامضة وبدأت أفكر في طريقي إلى حياة جديدة، وكان معي كتب عن العقيدة والشرق، وكنت أبحث عن السلام والحقيقة، وانتابني شعور أن أتجه إلى غاية مّا، ولكن لا أدرك كنهها ولا مفهومها.. ولم أقتنع أن أظل جالساً خالي الذهن، بل بدأت أفكر وأبحث عن السعادة التي لم أجدها في الغنى، ولا في الشهرة، ولا في القمة، ولا في الكنيسة، فطرقت باب (البوذية والفلسفة الصينية)، فدرستها، وظننت أن السعادة هي أن تتنبأ بما يحدث في الغد حتى تتجنب شروره، فصرت قدريّاً، وآمنت بالنجوم، والتنبؤ بالطالع، ولكنني وجدت ذلك كله هُراء.
ثم انتقلت إلى الشيوعية، ظنّاً مني أن الخير هو أن نقسم ثروات هذا العالم على كل الناس، ولكنني شعرت أن الشيوعية لا تتفق مع الفطرة، فالعدل أن تحصل على عائد مجهودك، ولا يعود إلى جيب شخص آخر.(2/7)
ثم اتجهت إلى تعاطي العقاقير المهدئة، لأقطع هذه السلسلة القاسية من التفكير والحيرة.
وبعد فترة أدركت أنه ليست هناك عقيدة تعطيني الإجابة، وتوضح لي الحقيقة التي أبحث عنها، ويئست حيث لم أكن آنذاك أعرف شيئاً عن الإسلام، فبقيت على معتقدي، وفهمي الأول، الذي تعلمته من الكنيسة حيث أيقنت أن هذه المعتقدات هراء، وأن الكنيسة قليلاً منها.
عدت إليها ثانيةً وعكفت من جديد على تأليف الموسيقي، وشعرت أنها هي ديني، ولا دين لي سواها!!
وحاولت الإخلاص لهذا الدين، حيث حاولت إيجاد التأليف الموسيقي، وانطلاقاً من الفكر الغربي المستمد من تعاليم الكنيسة الذي يوحي للإنسان أنه قد يكون كاملاً كالإله إذا أتقن عمله أو أخلص له وأحبه!!
وفي عام 1975م حدثت المعجزة، بعد أن قدّم لي شقيقي الأكبر نسخة من القرآن الكريم هدية، وبقيت معي هذه النسخة حتى زرت القدس في فلسطين، ومن تلك الزيارة بدأت أهتم بذلك الكتاب الذي أهدانيه أخي، والذي لا أعرف ما بداخله وماذا يتحدث عنه، ثم بحثت عن ترجمة للقرآن الكريم بعد زيارتي للقدس، وكان المرة الأولى التي أفكر فيها عن الإسلام، فالإسلام في نظر الغرب يُعتبر عنصريا عرقياً والمسلمون أغراب أجانب سواء كانوا عرباً أو أتراكاً، ووالديّ كانا من أصل يوناني، واليوناني يكره التركي المسلم، لذلك كان المفروض أن أكره القرآن الذي يدين به الأتراك بدافع الوراثة، ولكني رأيت أن أطلع عليه -أي على ترجمته- فلا مانع من أن أرى ما فيه.
ومن أول وهلة شعرت أن القرآن يبدأ بـ (بسم الله) وليس باسم غير الله، وعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) كانت مؤثرة في نفسي، ثم تستمر فاتحة الكتاب: (الحمد لله رب العالمين،) كل الحمد لله خالق العالمين، ورب المخلوقات.
وحتى ذلك الوقت كانت فكرتي ضئيلة عن الإله، حيث كانوا يقولون لي: إن الله الواحد، مقسم إلى ثلاثة، كيف؟!! لا أدري.
وكانوا يقولون لي إن إلهنا ليس إله اليهود...!!(2/8)
أما القرآن الكريم، فقد بدأ بعبادة الله الواحد رب العالمين جميعاً، مؤكداً وحدانية الخالق، فليس له شريك يقتسم معه القوة، وهذا أيضاً مفهوم جديد، ثم كنت أفهم قبل معرفتي بالقرآن الكريم، أن هناك مفهوم الملائمة والقوى القادرة على المعجزات، أما الآن فبمفهوم الإسلام، الله وحده هو القادر على كل شيء.
واقترن ذلك بالإيمان باليوم الآخر وأن الحياة الآخرة خالدة، فالإنسان ليس كتلة من اللحم تتحول يوماً ما إلى رماد كما يقول علماء الحياة.. بل ما تفعله في هذه الحياة يحدد الحالة التي ستكون عليها في الحياة الآخرة.
القرآن هو الذي دعاني للإسلام، فأجبت دعوته، أما الكنسية التي حطمتني وجلبتْ لي التعاسة والعناء فهي التي أرسلتْني لهذا القرآن، عندما عجزت عن الإجابة على تساؤلات النفس والروح.
ولقد لاحظت في القرآن، شيئاً غريباً، هو أنه لا يشبه باقي الكتب، ولا يتكوّن من مقاطع وأوصاف تتوافر في الكتب الدينية التي قرأتها، ولم يكن على غلاف القرآن الكريم اسم مؤلف، ولهذا أيقنت بمفهوم الوحي الذي أوحى الله به إلى هذا النبي المرسل.
لقد تبين لي الفارق بينه وبين الإنجيل الذي كتب على أيدي مؤلفين مختلفين من قصص متعددة.
حاولت أن أبحث عن أخطاء في القرآن الكريم، ولكني لم أجد، كان كله منسجماً مع فكرة الوحدانية الخالصة (1).
وبدأت أعرف ما هو الإسلام.
لم يكن القرآن رسالة واحدة، بل وجدت فيه كل أسماء الأنبياء الذين شرفهم وكرمهم الله ولم يفرق بين أحد منهم، وكان هذا المفهوم منطقياً، فلو أنك آمنت بنبي دون آخر فإنك تكون قد دمرت وحدة الرسالات.
ومن ذلك الحين فهمتُ كيف تسلسلت الرسالات منذ بدء الخليفة، وأن الناس على مدى التاريخ كانوا صنفين: إما مؤمن، وإما كافر.
__________
(1) الأخ يوسف قرأ ترجمة معاني القرآن، ولم يقرأ القرآن بلغته التي نزل بها، فكيف لو قرأ لغته التي نزل بها من عند الله؟(2/9)
لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي، وبذلك شعرت بالسعادة، سعادة العثور على الحقيقة.
وبعد قراءة القرآن الكريم كله، خلال عام كامل، بدأت أطبق الأفكار التي قرأتها فيه، فشعرت في ذلك الوقت أنني المسلم الوحيد في العالم.
ثم فكرتُّ كيف أكون مسلماً حقيقياً؟ فاتجهت إلى مسجد لندن، وأشهرت إسلامي، وقلت (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله).
حين ذلك أيقنت أن الإسلام الذي اعتنقته رسالة ثقيلة، وليس عملاً سهلاً ينتهي بالنطق بالشهادتين.
لقد ولدتُّ من جديد! وعرفتُ إلى أين أسير مع إخواني من عباد الله المسلمين، ولم أقابل أحداً منهم من قبل، ولو قابلت مسلماً يُحاول أن يدعوني للإسلام لرفضت دعوته بسبب أحوال المسلمين المزرية، وما تشوهه أجهزة إعلامنا في الغرب، بل حتى أجهزة الإعلام الإسلامية كثيراً ما تشوه الحقائق الإسلامية، وكثيراً ما تقف وتؤيد افتراءات أعداء الإسلام، العاجزين عن إصلاح شعوبهم التي تدمرها الآن الأمراض الأخلاقية، والاجتماعية وغيرها!!
لقد اتجهتُ للإسلام من أفضل مصادره، وهو القرآن الكريم، ثم بدأت أدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه بسلوكه وسننه، علّم المسلمين الإسلام، فأدركت الثروة الهائلة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسننه، لقد نسيت الموسيقى، وسألت إخواني: هل أستمر؟ فنصحوني بالتوقف، فالموسيقى تشغل عن ذكر الله، وهذا خطر عظيم.
لقد رأيت شاباً يهجرون أهلهم، ويعيشون في جو الأغاني والموسيقى، وهذا لا يرضاه الإسلام، الذي يحث على بناء الرجال.
أما الملايين التي كسبتها من عملي السابق (وهو الغناء) فوهبتها كلها للدعوة الإسلامية). هذه هي قصة المغني البريطاني المشهور، كات ستيفنز (يوسف إسلام) الذي رفض الشهرة والملايين، بعد أن هداه الله إلى طريق الحق، نهديها إلى جميع الفنانين والمغنين في عالمنا العربي والإسلامي، بل في العالم أجمع، لعلها تكون عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين.(2/10)
(4) توبة الممثلة هناء ثروت)(1)
هناء ثروت ممثلة مشهورة، عاشت في (العفن الفني) فترة من الزمان، ولكنها عرفت الطريق بعد ذلك فلزمته، فأصبحت تبكي على ماضيها المؤلم.
تروي قصتها فتقول:
أنهيت أعمالي المنزلية عصر ذلك اليوم، وبعد أن اطمأننت على أولادي، وقد بدءوا في استذكار دروسهم، جلست في الصالة، وهممت بمتابعة مجلة إسلامية حبيبة إلى نفسي، ولكن شيئاً ما شد انتباهي، أرهفت سمعي لصوتٍ ينبعث من إحدى الغرف. وبالذات من حجرة ابنتي الكبرى، الصوت يعلو تارة ويغيب بعيداً تارةً أخرى.
نهضت بتعجل لأستبين الأمر، ثم عدت إلى مكاني باسمة عندما رأيت صغيرتي ممسكة بيدها مجلداً أنيقاً تدور به الغرفة فرحة، وهي تلحّن ما تقرأ، لقد أهدتْها إدارة المدرسة ديوان (أحمد شوقي)، لتفوقها في دراستها، وفي لهجة طفولية مرحة كانت تردد:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء
لا أدري لماذا أخذت ابنتي في تكرار هذا البيت، لعله أعجبها.. وأخذتُ أردده معها، وقد انفجرتْ مدامعي تأثراً وانفعالاً. أناملي الراعشة تضغط بالمنديل الورقي على الكرات الدمعية المتهطلة كي لا تفسد صفحات اعتدت تدوين خواطري وذكرياتي في ثناياها، وصوت ابنتي لا يزال يردد بيت شوقي:
(خدعوها)؟!
نعم، لقد مُورستْ عليّ عمليات خداع، نصبتها أكثر من جهة.
تعود جذور المأساة إلى سنوات كنتُ فيها الطفلة البريئة لأبوين مسلمين، كان من المفروض عليهما استشعار المسئولية تجاه وديعة الله لديهما -التي هي أنا- بتعهدي بالتربية وحسن التوجيه وسلامة التنشئة، لأغدو بحق مسلمة كما المطلوب، ولكن أسأل الله أن يعفو عنهما.
__________
(1) مجلة الأمة/ العدد62/ بعنوان: مهاجرة إلى الله. وقد نشرت هذه القصة أيضاً باختصار في مجلة لبنانية، وقد قامت هذه المجلة بنشر صور هذه الممثلة قبل الحجاب وبعده!!!(2/11)
كانا منصرفين، كل واحد منهما لعمله، فأبي -بطبيعة الحال- دائماً خارج البيت في كدح متواصل تاركاً عبء الأسرة لأمي التي كانت بدورها موزعة الاهتمامات ما بين عملها الوظيفي خارج المنزل وداخله، إلى جانب تلبية احتياجاتها الشخصية والخاصة، وبالطبع لم أجد الرعاية والاعتناء اللازمين حتى تلقفتني دور الحضانة، ولمّا أبلغ الثالثة من عمري.
كنت أعيش في قلق وتوتر وخوف من كل شيء، فانعكس ذلك على تصرفاتي الفوضوية الثائرة في المرحلة الابتدائية في محاولة لجذب الانتباه إلى شخصي المهمل (أُسريّاً) بيد أن شيئاً ما أخذ يلفت الأنظار إلي بشكل متزايد.
أجل، فقد حباني الله جمالاً، ورشاقة، وحنجرة غريدة، جعلت معلمة الموسيقى تلازمني بصفة شبه دائمة، تستعيدني الأدوار الغنائية -الراقصة منها والاستعراضية- التي أشاهدها في التلفاز، حتى عدوت أفضل من تقوم بها في الحفلات المدرسية، ولا أزال أحتفظ في ذاكرتي بأحداث يوم كُرّمتُ فيه لتفوقي في الغناء والرقص والتمثيل على مستوى المدارس الابتدائية في بلدي، احتضنتني (الأم ليليان)، مديرة مدرستي ذات الهوية الأجنبية، وغمرتني بقبلاتها قائلة لزميلة لها فقد نجحنا في مهمتنا، إنها -وأشارت إليّ- من نتاجنا، وسنعرف كيف نحافظ عليها لتكمل رسالتنا!! (1)
لقد صور لي خيالي الساذج آنذاك أني سأبقى دائماً مع تلك المعلمة وهذه المديرة، وأسعدني أن أجد بعضاً من حنان افتقدته، وإن كنت قد لاحظتُ أن عطفهما من نوع غريب، تكشفت لي أبعاده ومراميه بعدئذ، وأفقت على حقيقة هذا الاهتمام المستورد!!
صراحة، لا أستطيع نكران مدى غبطتي في تلك السنين الفائتة، وأنا أدرج من مرحلة لأخرى، خاصة بعد أن تبناني أحد مخرجي الأفلام السينمائية كفنانة (!!) دائماً وسط اهتمام إعلامي كبير بي!
__________
(1) صدق الله إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين). آل عمران، الآية 100).(2/12)
كما أخذت تفخر أمي بابنتها الموهوبة (!!) أمام معارفها، وصويحباتها، وتكاد تتقافز سروراً وهي تملي صوري على شاشة التلفاز، جليسها الدائم.
كانت تمتلكني نشوة مكسرة، وأنا أرفل في الأزياء الفاخرة والمجوهرات النفيسة والسيارات الفارهة، كانت تطربني المقابلات، والتعليقات الصحفية، ورؤية صوري الملونة، وهي تحتل أغلفة المجلات، وواجهات المحلات، حتى وصل بي الأمر إلى أن تعاقد معي متعهدو الإعلانات والدعايات، لاستخدام اسمي -اسمي فقط- لترويج مستحضراتهم وبضائعهم!
كانت حياتي بعمومها موضع الإعجاب والتقليد في أوساط المراهقات، وغير المراهقات على السواء، وبالمقابل كان تألقي هذا موطن الحسد والغيرة التي شب أوارها في نفوس زميلات المهنة -إن صح التعبير- وبصورة أكثر عند من وصل بهن قطار العمر إلى محطات الترهل، والانطفاء، وقد أخفقت عمليات التجميل في إعادة نضارة شبابهن، فانصرفن إلى تعاطي المخدرات، ولم يتبق من دنياهن سوى التشبث بهذه الأجواء العطنة، وقد لُفظْن كبقايا هياكل ميتة في طريقها إلى الزوال.
قد تتساءل صغيرتي: وهل كنت سعيدة حقاً يا أمي؟!!
ابنتي الحبيبة لا تدري بأني كنت قطعة من الشقاء والألم، فقد عرفتُ وعشت كل ما يحمل قاموس البئوس والمعاناة من معانٍ وأحداث(1)!
إنسانة واحدة عاشت أحزاني، وترفقت بعذاباتي رحلة الشقاء (المبهرجة)، وعلى الرغم من أنها شقيقة والدتي إلا أنها تختلف عنها في كل شيء، ويكفيها أنها امرأة فاضلة، وزوجة مؤمنة، وأم صالحة.
__________
(1) هذا هو حال أولك الفنانين والفنانات!! شقاء وتعاسة وبؤس ومعاناة، وإن بلغوا ما بلغوا من الشهرة والغنى.(2/13)
كنتُ ألجأ إليها بين الحين والآخر، أتزود من نصائحها وأخضع لتحذيراتها، وأرتضي وسائلها لتقويم اعوجاجي، وهي تحاول فتح مغاليق قلبي ومسارب روحي بكلماتها القوية ومشاعرها الحانية، ولكن -والحق يُقال- كان شيطاني يتغلب على الجانب الطيب الضئيل في نفسي لقلة إيماني، وضعف إرادتي، وتعلقي بالمظاهر، وعلى الرغم من هذا العالم لم يكن بالمستطاع إسكات الصوت الفطري الصاهل، المنبعث في صحراء قلبي المقرور.
بات مألوفاً رؤيتي ساهمة واجمة، وقد أصبحتُ دمية يلهو بها أصحاب المدارس الفكرية -على اختلال انتماءاتها العقائدية- لترويج أغراضهم ومراميهم عن طريق أمثالي من المخدوعين والمخدوعات، واستبدالنا بمن هم أكثر إخلاصاً، أو إذا شئت (عمالة)، في هذا الوسط الخطر، والمسئول عن الكثير من توجهات الناس الفكرية.
وجدت نفسي شيئاً فشيئاً أسقط في عزلة نفسية قائظة، زاد عليها نفوري من أجواء الوسط الفني -كما يُدعى- !! معرضة عن جلساته وسهراته الصاخبة التي يُرتكب فيها الكثير من التفاهات والحماقات باسم الفن أو الزمالة!!
لم يحدث أن أبطلت التعامل مع عقلي في ساعات خلوتي نفسي، وأنا أحاول تحديد الجهة المسئولة عن ضياعي وشقائي، أهي التربية الأسرية الخاطئة؟ أم التوجيه المدرسي المنحرف؟ أم هي جناية وسائل الإعلام؟ أم كل ذلك معاً؟!!
لقد توصلت -أيامها- إلى تصميم وعزم يقتضي تجنيب أولادي -مستقبلاً- ما ألقاه من تعاسة مهما كان الثمن غالياً إذ يكفي المجتمع أني قُدمت ضحية على مذبح الإهمال والتآمر والشهوات، أو كما تقول خالتي: على دين الشيطان.
وفجأة، التقينا على غير ميعاد.
كان مثلي، دفعته نزوات الشباب -كما علمت بعدئذ- إلى هذا الوسط ليصبح نجماً! -وعذراً فهذه اصطلاحاتنا آنذاك- ومع ذلك كان يفضل تأدية الأدوار الجادة -ولو كانت ثانوية- نافراً من التعامل مع الأدوار النسائية.(2/14)
ومرة احتفلت الأوساط الفنية والإعلامية بزيارة أحد مشاهير (هوليوود) لها، واضطررت يومها لتقديم الكثير من المجاملات التي تحتمها مناسبة كهذه!!، وانتهزت فرصة تبادل الأدوار وتسللت إلى مكان هادئ لالتقاط أنفاسي، لمحته جالساً في مكان قريب مني، شجعني صمته الشارد أن أقتحم عليه عزلته.
سألته -بدون مقدمات- عن رأيه في المرأة لأعرف كيف أبدأ حديثي معه.
أجابني باقتضاب أن الرجل رجل، والمرأة امرأة، ولكل مكانه الخاص، وفق طبيعته التي خلق عليها.
استرسلت في التحادث معه، وقد أدهشني وجود إنسان عاقل في هذا الوسط!… ٍفهمت من كلامه أنه سيضحي -غير آسف- بالثراء والشهرة المتحصلين له من التمثيل، وسيبحث عن عمل شريف نافع، يستعيد فيه رجولته وكرامته.
لحظتها قفز إلى خاطري سؤال عرفت الحياء الحقيقي وأنا أطرحه عليه.
لم يشأ أن يحرجني يومها، ولكن مما وعيت من حديثه قوله: ]إذا تزوجت فتكون زوجتي أمّاً وزوجاً بكل معنى الكلمة، فاهمة مسئولياتها وواجباتها، وستكون لنا رسالة نؤديها نحو أولادنا لينشئوا على الفضيلة والاستقامة، كما أمر الله، بعيداً عن المزالق والمنعطفات، وقد عرفت مرارة السقوط وخبرت تعاريج الطريق[.
وقال كلاماً أكثر من ذلك: أيقظ فيّ الصوت الفطري الرائق، يدعوني إلى معراج طاهر من قحط القاع الزائف إلى نور الحق الخصيب وأحسستُ أني أمام رجل يصلح لأن يكون أباً لأولادي، على خلاف الكثير ممن التقيتُ، ورفضت الاقتران بهم.
وبعد فترة، شاء الله وتزوجنا.
وكالعادة كان زواجنا قصة الموسم في أجهزة الإعلام المتعددة، حيث تعيش دائماً على مثل هذه الأخبار.
ولكن المفاجأة التي أذهلت الجميع كانت بإعلاننا -بعد زيارتنا للأراضي المقدسة-عن تطليق حياة الفراغ والضياع والسوء، وأني سألتزم بالحجاب، وسائر السلوكيات الإسلامية المطلوبة إلى جانب تكريس اهتمامي لمملكتي الطاهرة -بيتي المؤمن- لرعاية زوجي وأولادي طبقاً لتعاليم الله ورسوله.(2/15)
أما زوجي فقد أكرمه الله بحسن التفقه في دينه، وتعليم الناس في المسجد.
أولادي الأحباء لم يعرفوا بعد أن أباهم في عمامته، وأمهم في جلبابها، كانا ضالين فهداهما الله، وأذاقهما حلاوة التوبة والإيمان.
خالتي المؤمنة ذرفت دموعها فرحة، وهي ترى ثمرة اهتمامها بي في الأيام الخوالي، ولا تزال الآن تحتضنني كما لو كنت صغيرة، وتسأل الله لي الصبر والثبات أمام حملات التشهير والنكاية التي استهدفت إغاظتي بعرض أفلامي السافرة التي اقترفتها أيام جاهليتي، على أن أعاود الارتكاس في ذاك الحمأ اللاهب وقد نجاني الله منه.
ومن المضحك أن أحد المنتجين، عرض على زوجي أن أقوم بتمثيل أفلام، وغناء أشعار، يلصقون بها مسمى (دينية) !!!(1) ولا يعلم هؤلاء المساكين أن إسلامي يربأ بي عن مزاولة ما يخدش كرامتي أو ينافي عقيدتي.
نعم، لقد كانت هجرتي لله، وإلى الله، وعندما تكبر براعمي المؤمنة، سيدركون إن شاء الله لِمَ وكيف كنت؟! وتندفع صغيرتي إلى حجري بعد الاستئذان، وأراها تضع بين يديّ الديوان، تسألني بلهجة الواثق من نفسه أن أتابع ما حفظت من قصيد، وقيل أن أثبت بصري على الصفحة المطلوبة، اندفعتْ في تسميعها:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء
(5) توبة الراقصة هالة الصافي (2)
روت الفنانة الراقصة، المعروفة، هالة الصافي، قصة اعتزالها الفن وتوبتها، والراحة النفسية التي وجدتها عندما عادت إلى بيتها وحياتها، وقالت: بأسلوب مؤثر عبر لقاء صحفي معها:
__________
(1) من أساليب الشيطان وأعوانه في الإغواء التدرج، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) فالواجب الحذر من ذلك.
(2) المجلة العربية: العدد 140.(2/16)
(في أحد الأيام كنت أؤدي رقصة في أحد فنادق القاهرة المشهورة، شعرت وأنا أرقص بأنني عبارة عن جثة،، دمية تتحرك بلا معنى، ولأول مرة أشعر بالخجل وأنا شبه عارية، أرقص أمام الرجال ووسط الكؤوس.
تركت المكان، وأسرعت وأنا أبكي في هستيريا حتى وصلت إلى حجرتي وارتديت ملابسي.
انتابني شعور لم أحسه طيلة حياتي مع الرقص الذي بدأته منذ كان عمري 15 سنة، فأسرعت لأتوضأ وصليت، وساعتها شعرت لأول مرة بالسعادة والأمان، ومن يومها ارتديت الحجاب على الرغم من كثرة العروض، وسخرية البعض.
أديت فريضة الحج، ووقفت أبكي لعل الله يغفر لي الأيام السوداء..).
وتختتم قصتها المؤثرة قائلة: (هالة الصافي ماتت ودفن معها ماضيها، أما أنا فاسمي سهير عابدين، أم كريم، ربة بيت، أعيش مع ابني وزوجي، ترافقني دموع الندم على أيام قضيتها من عمري بعيداً عن خالقي الذي أعطاني كل شيء.
إنني الآن مولودة جديدة، أشعر بالراحلة والأمان بعد أن كان القلق والحزن صديقي، بالرغم من الثراء والسهر واللهو).
وتضيف: (قضيت كل السنين الماضية صديقة للشيطان، لا أعرف سوى اللهو الرقص، كنت أعيش حياة كريهة حقيرة، كنت دائماً عصبية، والآن أشعر أنني مولودة جديدة، أشعر أنني في يد أمينة تحنو علي وتباركني، يد الله سبحانه وتعالى).
(6) توبة شاب أسرف على نفسه بالمعاصي(1)
ضيفنا هذه المرة شاب له قصة طويلة، لم يدع معصية إلا فعلها، ولا كبيرة إلا ارتكبها، كل ذلك بحثاً عن السعادة، ولكنه لم يجد إلا الشقاء والتعاسة.
أغلقت في وجهه جميع الأبواب إلا باب واحد، باب الله الذي لا يُغلق. فلجأ إلى الله وعاد إليه، وهنا وجد السعادة التي كان يبحث عنها، التقيت به فحدثني بقصته فقال:
نشأت في بيت (عادي) من بيوت المسلمين، وكنت أصلي الصلاة المعتادة، أرى الناس يذهبون إلى المسجد فأذهب معهم، ولم أكن -لصغر سني- أدرك قيمة الصلاة وأهميتها.
__________
(1) هذه القصة رواها لي هذا الشاب بنفسه.(2/17)
ولما كبرت قليلاً اشترى لي والدي سيارة -وكنت آنذاك في بداية المرحلة الثانوية- فكانت بداية الانطلاق.
وجاء دور رفقاء السوء، ليقضوا على ما تبقى لديّ من خير وفضيلة وصلاح!! فقد تعرفتُ على مجموعة منهم، وكنتُ الوحيد من بينهم الذي يملك سيارة، فتوليتُ القيادة، وكنت أغدو بهم وأروح، فصار كل واحد منا يظهر ما يوحي به إليه شيطانه من الأفكار والابتكارات، في فن الاختطاف والمخدرات، وغيرها من الفنون... فبدأت شيئاً فشيئاً أتعلم هذه الأمور.
انتقلنا من الحي الذي كنا فيه، إلى حي آخر، وهناك وجدتُّ مجموعةً أخرى من الشباب فتسلمت القيادة أيضاً، فما تركتُ معصية إلا ارتكبتها ابتداءً من المعاصي الصغيرة وانتهاءً بالمخدرات والمسكرات حتى وصل بنا الحال بحثاً عن شرب الخمور في نهار رمضان، كنا نفعل ذلك كله بحثاً عن السعادة الموهومة.
كنتُ من أشد الناس عداوةً وبغضاً للملتزمين الطيبين، وكان في الحارة رجل يقال له: (عبد الواحد) كنتُ أشد الناس عداوةً له، لأنه كان من المجتهدين في نصح الشباب في (الحارة)، فكان هدفنا هو إيذاء هذا الرجل، وقد حاولنا كثيراً ولكن لم نجد إلى ذلك سبيلاً.
مرّتْ أعوام طويلة، وأنا على هذه الحال، بين المخدرات والمشكلات الأخلاقية، وغيرها حتى أني تركتُ الدراسة واتجهتُ إلى العمل، فإذا جاء آخر الشهر وتسلمتُ راتبي صرفته كله في المخدرات.
وبعد فترة، منّ الله على أخي الأصغر بالهداية، فكان قدوة لنا في البيت في حسن التعامل، كنا نضايقه ونهدده!! ونحذره! من مصاحبة عبد الواحد وغيره من الشباب الطيبين، بل كنا نمنعه من تطبيق بعض شعائر الإسلام الظاهرة كإعفاء اللحية، وتقصير الثياب، فكان يُقابل إساءتنا هذه بالإحسان، ويردّ علينا بكلمات طيبة مثل (إن شاء الله) و(جزاكم الله خيراً) ونحوها، فبدأتُ أشعر بارتياح نحوه لحسن معاملته، وكانت هذه بداية التحول.(2/18)
ثم جاء بعد ذلك دور الشيخ عبد الواحد، فقد كان يجتهد في نصحنا، ويكثر من ذلك، فكنا نثير عليه المشكلات، ونحاول تشويه سمعته، واتهامه بما هو منه براء كذباً وبهتاناً.
وفي يوم من الأيام أشار علي بعض الزملاء -وكان ذلك في بداية التزامه- أن نذهب إلى مكة لأداء العمرة، وبعد رجوعنا من العمرة كنتُ أنا وأصحابي مجتمعين في أحد الشوارع، فمرّ بنا الشيخ عبد الواحد بسيارته، فأخذنا نسبّه ونشتمه ونطلق عليه الألفاظ البذيئة فوقف، ثم عاد إلينا فقلنا هذه فرصة فلابدّ من ضربه والقضاء عليه، فنزل الشيخ من سيارته، وبادر قائلاً: السلام عليكم، ثم أقبل عليّ وعانقني وضمني إلى صدره وقال: (الحمد لله على السلامة وتقبل الله منا ومنك، ما شاء الله، أخذت عمرة؟..).. فخجلتُ خجلاً شديداً، وتغيرتْ ملامح وجهي، ثم سلّم على بقية الأصحاب، وسألهم عن أحوالهم، وكأنه لم يسمع كلمةً واحدةً مما قلناه، ومضى في طريقه، فأخذنا نتلاوم، وكل واحد منا يقول للأخر: أنت السبب، ومن تلك اللحظة بدأنا نهتم بهذا الرجل ونقدره، ونحترمه، وتغيرت نظرتنا له.
وبعد فترة، رغبتُ في الالتحاق بالعسكرية، فاضطررتُ إلى إجراء عملية جراحية، لعلة بي.
ودخلتُ المستشفى، فكان رفقاء السوء يزورونني فيؤذونني بشرب الدخان والكلام البذيء.
وفي المقابل كان الشيخ عبد الواحد يزورني، هو وبعض أصحابه، فكانوا يُقبّلون رأسي، ويُسمعونني كلمات ملؤها التفاؤل والأمل، فأصبحتُ أشعر بارتياح لزيارتهم وجلوسهم معي.
وفي إحدى الزيارات، سألني أحدهم عن نومي، فأخبرتهم أني لا أنام إلا بمخدر طبي، وأن عندي بعض المجلات والصحف والقصص أقرأ فيها فلا يأتيني النوم، فقال لي أحدهم: ليس لك علاج إلا القرآن، فطلبتُ منهم مصحفاً فأعطوني، وفي تلك الليلة قرأت سورة البقرة كاملةً، فنمت مباشرةً، وفي الليلة الثانية، قرأت سورة آل عمران، فنمتُ كذلك، ثم سألوني بعد ذلك عن حالي ونومي فأخبرتهم بأني أصبحتُ أنام بارتياح.(2/19)
خرجتُ من المستشفى، ومع أني كنت أشعر بارتياح شديد لهؤلاء الشباب الطيبين الملتزمين، إلا أني مازلتُ مع أولئك الأشرار الخبثاء.
وفي يوم من الأيام، كنتُ على موعد مع فعل معصية، وكان ذلك الموعد في مكان بعيد، في منطقة أخرى، ولم أكن بعد قد استعدت كامل صحتي بعد تلك العملية، ولكني خاطرت، فركبت سيارتي وانطلقتُ متوجهاً إلى تلك المنطقة، وفي الطريق انفجرتُ إحدى العجلات بقوة، فاضطررتُ إلى الخروج عن الطريق، والدخول في منطقة رملية.
كنتُ في تلك اللحظات أشعر بألم شديد من آثار تلك العملية الجراحية التي لا تزال آثارها باقية، حتى أني أكاد أعجز عن حمل نفسي، وبصعوبة نزلتُ من السيارة وحاولت أن أرفعها، ولكني كلما رفعتها سقطت، حاولت مراراً ولكن دون جدي، فلما يئست، وقفت على جانب الطريق وحاولت أن أستعين بعض المارة، ولكنهم لم يقفوا لمساعدتي.
اقتربتِ الشمس من الغروب، وأحسستُ بأني وحيد في هذا المكان الموحش، فضاقتْ بي الدنيا، ولم أدر ما أفعل، وهنا لم أجد من ألتجئ إليه إلا الله الواحد الأحد، ومن غير شعور، جثوت على ركبتي، ومددت كفي إلى الله -عز وجل- فدعوته في تلك اللحظات أن يُفرج همي ويكشف كربتي.. ولم يكن ذلك عن إخلاص منيّ ولكنها الفطرة. وعدتُ إلى سيارتي وبعد عدة محاولات تمكنت بعون الله من رفعها، وقمت بتبديل العجلة التالفة وأخرجت السيارة وقد أوشكت الشمس على الغروب.
وبعد هذا كله لم أتعظ بل واصلتُ سيري طمعاً في فعل تلك المعصية، ولكن الله عصمني منها حيث فاتَ الموعد، فصليتُ المغربَ هناك ثم عدتُّ من حيث أتيتُ، وبدأ أولئك الشباب الطيبون يكثرون من زيارتي، ويُلحون عليّ في حضور مجالسهم، فكنت أتردد عليهم وأجلس معهم، فكانت رائحة الدخان تفوح من ثيابي، ومن فمي، فلم يظهروا لي انزعاجهم من ذلك، بل كانوا يقتربون مني ويرحبون بي ثم (يطيّبونني)، ويمسحون علي يديّ من دهن العود، فكنت أستغرب عملهم هذا ومعاملتهم الطيبة.(2/20)
كنتُ أجلس معهم من بعد صلاة المغرب إلى العشاء، وبعد صلاة العشاء أعود إلى أصحابي الآخرين (السيئين)، فأجلس معهم إلى الفجر فلا أسمع منهم إلا السب والشتم والكلمات البذيئة والألفاظ النابية، واستمر الحال على ذلك، أجلس مع هؤلاء وهؤلاء، مع ارتياحي لأولئك الطيبين لما أسمعه منهم.
ثم جاءتْ الضربةُ القاضيةُ، فقد بدأتُ أخطط للزواج، فتقدمتُ لخطبة فتاة ملتزمة، فخدعتُ أهلها وأقنعتهم بأني شاب صالح، أصلي وأخاف الله، ولكن الفتاة رفضتُ إلا شابًا ملتزماً، وحاولت إقناعها، ولكنها أصرتْ على موقفها، وقالت: لن أقبل إلا شاباً ملتزماً، وكان مظهري لا يوحي بأني شاب ملتزم، فأصبتُ بصدمة عنيفة، وقلت في نفسي: ما معنى (شاب ملتزم)؟!
وعدتُّ إلى البيت، وأنا أفكر في قولها، وأقول في نفسي: لماذا لا أكون شاباً ملتزماً؟ وكان الله ألهمني في تلك اللحظة أن أكون كذلك... فذهبتُ إلى الشيخ عبد الواحد، وأخبرته بأني سوف أبدأ حياة جديدة، وأكون شاباً مستقيماً.
وبالفعل بدأتُ حياةً جديدةً فابتعدتُّ عن رفقاء السوء، الذين كانوا هو سبب شقائي وتعاسي، وأصبحتُ شابّاً ملتزماً، والله سبحانه أعانني على ذلك، والآن قد مضى على التزامي -ولله الحمد- خمس سنوات تقريباً.
فأسأل الله أن يثبتني وإياكم على دينه، إنه سميع مجيب.
(7) توبة فتاة متبرجة(1)
إن الفرق بين المرأة المتحجبة الطاهرة، والمرأة المتبرجة السافرة، كالفرق بين الجوهرة الثمينة المصونة وبين الوردة التي في قارعة الطريق.
فالمرأة المحجبة مصونة في حجابها، محفوظة من أيدي العابثين، وأعينهم.
أما المرأة المتبرجة السافرة، فإنها كالوردة على جانب الطريق، ليس لها من يحفظها أو يصونها، فسرعان ما تمتد إليها أيدي العابثين، فيعبثون بها، ويستمتعون بجمالها بلا ثمن حتى إذا ذبلتْ وماتتْ، ألقوها على الأرض، ووطئها الناس بأقدامهم.
__________
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(2/21)
فماذا تختارين أختي المسلمة؟ أن تكوني جوهرة ثمينة مصونة، أم وردة على قارعة الطريق؟
وإليك أختي المسلمة هذه القصة، لفتاة كانت من المتبرجات، فتابت إلى الله، وعادت إليه، فها هي تروي قصتها فتقول:
(نشأتُ في بيتٍ مترفٍ وفي عائلة مترفة، ولما كبرتُ قليلاً بدأتُ أرتدي الحجاب، وكنت أرتديه على أنه من العادات والتقاليد لا على أنه من التكاليف الشرعية الواجبة التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها، فكنتُ أرتديه بطريقة تجعلني أكثر فتنةً وجمالاً.
أما معظم وقتي فكنتُ أقضيه في سماع لهو الحديث الذي يزيدني بعداً عن الله وغفلة.
أما الإجازات الصيفية فكنّا نقضيها خارج البلاد، وهناك كنت ألقي الحجاب جانباً وأنطلق سافرة متبرجة، (1) وكأن الله لا يراني إلا في بلدي، وكأنه لا يراقبني هناك.
وفي إحدى الإجازات سافرنا إلى الخارج، وقدّر الله علينا بحادث توفي فيه أخي الأكبر، وأصيب بعض الأهل بكسور والآم، ثم عدنا إلى بلادنا،.
كان هذا الحادث هو بداية اليقظة، كنتُ كلما تذكرته أشعر بخوف شديد ورهبة، إلا أن ذلك لم يغير من سلوكي شيئاً، فما زلتُ أتساهل بالحجاب، وألبس الملابس الضيقة، وأستمع إلى ما لا ينفع من لهو الحديث.
والتحقتُ بالجامعة، وفيها تعرفت على أخوات صالحات، فكنّ ينصحنني ويحرضن على هدايتي.
وفي ليلة من الليالي ألقيت بنفسي على فراشي، وبدأت أستعرض سجل حياتي الحافل باللهو واللغو والسفور والبعد عن الله سبحانه وتعالى، فدعوت ربي والدموع تملأ عيني أن يهديني وأن يتوب عليّ.
وفي الصباح، ولدتُّ من جديد، وقررتُ أن أواظب على حضور الندوات والمحاضرات والدروس التي تقام في مصلى الجامعة.
__________
(1) هذا حال بعض الفتيات اللاتي يسافرن إلى الخارج، فالويل لهن من رب السماوات والأرض، الذي يراهن في كل مكان.(2/22)
وبدأت -فعلاً- بالحضور، وفي إحدى المرات ألقتْ إحدى الأخوات محاضرة عن الحجاب وكررت الموضوع نفسه في يوم آخر، فكان له الأثر الكبير على نفسي وبعدها -والله الحمد- تبتُ إلى الله، والتزمتُ بالحجاب الشرعي، الذي أشعر بسعادة كبيرة وأنا أرتديه).
(8) توبة فتاة من ضحايا الغزو الفكري(1)
تقول هذه التائبة:
(كنت لا أصلي إلا نادراً، منهمكة في قراءة ما لا ينفعني، ومطالعة ما لا يفيدني، منشغلة بسماع ما يغضب الله عز وجل.. غارقة في عالم المعاصي.
كانت بداية الهداية عندما دخلتُ المطبخ ذات مرة واخترقت يدي، فأخذت أبكي، واستغفرتُ الله، وأحسست بأنه عقاب لي وتذكير بنار جهنم التي هي أشد حراً، فأخذت أصلي تلك الليلة، وأستغفر الله، وداومت على الصلاة، ولكني لم أكن أخشع في صلاتي، لأني مازلت مصرة على ذنوبي السابقة، فكنت أصلي صلاة جافة بلا روح، أركعُ وأسجد دون استشعار لما أقرأه من آيات أو أقوله من أدعية، لأن قلبي ممتلئ بالمعاصي، وليس فيه محل لذكر الله أو الخشوع في الصلاة.
كانت إحدى صديقاتي تلح عليّ دائماً في حضور مجالس الذكر، ولكنني كنت أرفض وأتهرب منها.
وذات مرة ألحت عليّ صديقتي فذهبت معها مرغمةً، وكانت المحاضرة عن الصلاة، فأحسستُ أني بحاجة لهذا الموضوع، خاصة حين أخذتِ المحاضرة تشرح قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فقالت: إن الصلاة تجعل الإنسان أو المصلي يبتعد عن كل فاحشة وكل منكر، فهي تنهاه عنه، وهذه حقيقة أثبتها الله تعالى، ولكنا نجد أن أغلب المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، بل إن أحدهم ليفكر في صلاته ماذا سيفعل بعد قليل، فصلاته لم تنهه عن المنكر، وهذا دليل على أن الصلاة ناقصة، فعليه أن يراجع نفسه، هل نقص من خشوعها،؟ هل نقص من اطمئنانها؟ هل استشعر وتدبر كل ما يقرأ ويقول؟ إلى آخر ما قالت:
__________
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(2/23)
فوقعتْ كلماتها عليّ كالماء البارد على الظمأ، فهذا ما أحسه وأفتقده، ومن تلك اللحظة، أخذت أستشعر كل ما أقرأه، حتى سورة الفاتحة اكتشفتُ فيها معانٍ لم أكن أستشعرها من قبل، فحمدت الله على أن هداني إلى الصراط المستقيم، ودعوتُ لهذه المحاضرة في ظهر الغيب... واقتديتُ بها فأصبحت من الدعاة إلى الله، لعل الله أن ينفع بكلماتي ويفتح بها قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، والحمد لله رب العالمين.
(9) توبة شاب رأى الموت بعينيه(1)
شاب من ضحايا رفقاء السوء، كانت له صولات وجولات في عالم الضياع والمخدرات، حدثت في حياته حادثة أيقظته من غفلته، وأعادته إلى خالقه، التقيتُ به في أحد مساجد الرياض، فحدثني عن قصته، فقال:
نشأتُ في بيت متدين جدّاً، في حي من أحياء مدينة الرياض، والدي رحمه الله كان شديد التدين، فلم يكن يسمح بدخول شيء من آلات اللهو والفساد إلى البيت.
ومضتِ الأيام، وتجاوزت مرحلة الطفولة البريئة، ولما بلغت الرابعة عشرة من عمري -وكنت في السنة الثانية من المرحلة المتوسطة- حدث في حياتي حادث كان سبباً في تعاستي وشقائي فترة من الزمن، فقد تعرفت على (شلة) من رفقاء السوء، فكانوا ينتظرون الفرصة المناسبة لإيقاعي في شباكهم (2).
وجاءت الفرصة المناسبة، فترة الامتحانات، فجاءوني بحبوب بيضاء منبهة، فكنت أسهر عدداً من الليالي المتواليات في المذاكرة دون أن يغلبني نعاسٌ، أو أشعر بحاجة إلى نوم، وانتهتِ الامتحانات، ونجحتُ بتفوق!!
__________
(1) هذه القصة رواها لي هذا الشاب بنفسه.
(2) مصاحبة الأشرار من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والفساد والبعد عن الله والوقوع في المعاصي والذنوب وربما الكفر، وبالمقابل فإن مصاحبة الأخيار من أعظم أسباب الهداية والصلاح والقرب من الله. فالواجب الحذر من رفقاء السوء.(2/24)
وبعد الامتحانات داومت على تعاطي هذه الحبوب البيضاء، فأرهقني السهر، وتعبتُ تعباً شديداً، فجاءني أولئك (الشياطين)، وقدموا لي في هذه المرة حبوباً حمراء (مخدرات)، وقالوا لي: إنها تطرد عني السهر وتجلبُ لي النوم والراحة، ولم أكن -لصغر سني- أدرك حقيقة هذه اللعبة، وهذا التآمر وهذا المكر الخبيث من هؤلاء الشياطين، شياطين الإنس.
أخذت أتعاطى هذه الحبوب الحمراء يومياً وبالعشرات، وبقيتُ على هذه الحال ثلاث سنوات تقريباً أو أكثر، وفشلت في دراستي، ولم أتمكن من إتمام المرحلة المتوسطة من الدراسة والحصول على الشهادة، فصرتُ أنتقل من مدرسة إلى مدرسة عليّ أحصل عليها، ولكن دون جدوى، وبعد هذا الفشل الذريع الذي كان سببه هذه الحبوب المشؤومة، فكرتُ في الانتقال إلى مدينة أخرى، حيث يقيم عمي وأولاده في محاولة أخيرة لإتمام الدراسة.
وفي ليلة من ليالي الشتاء البرادة -وكان والدي قد اشترى سيارة جديدة- أخذت هذه السيارة دون علم والدي، واتجهتُ إلى تلك المدينة، وكنتُ أحمل في جيبي كمية كبيرة من الحبوب الحمراء.
وفي الطريق توقفت عند بعض الأصحاب، وفي تلك الليلة أسرفتُ في تناول هذه الحبوب حتى أصبحتُ في وضع يرثى له.
وقبيل الفجر، ركبتُ السيارة وانطلقت في طريقي، وما هي إلا دقائق حتى غبتُ عن الدنيا ولم أفق إلا وأنا في المستشفى في حالة سيئة، قد كسرت ساقي اليمنى، وأصبحت بجروح كثيرة، بعد أن مكثت في غرفة الإنعاش ثمانٍ وأربعين ساعةً، فقد كان حادثاً شنيعاً حيث دخلتُ بسيارتي تحت سيارة نقل كبيرة، ومن رحمة الله بي أن كتب لي الحياة، ومنحنى فرصة جديدة، لعلي أتوب وأقلع عمّا أنا فيه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
نقلت من المستشفى إلى بيت والدي بالرياض، وفي البيت كنت أتعاطى هذه الحبوب النكدة.
قد تسألني وتقول: كيف تحصل على هذه الحبوب، وأنت على فراش المرض؟(2/25)
فأقول: لقد كان أولئك الشياطين يأتون إليّ في البيت فيعرضون علي بضاعتهم، فأشتري منهم، بالرغم من حالتي السيئة.
بقيتُ على هذه الحال أياماً، حتى أحسست بتحسن بسيط، وكانت فكرة السفر تراودني حتى تلك اللحظة أملاً في إكمال دراستي المتوسطة.
وفي عصر أحد الأيام، وبعد أن تناولت كمية كبيرة من هذه الحبوب، خرجت أتوكأ على عكازي وأخذت أبحث عن سيارة تنقلني إلى المدينة، حاولت أن أوقف عدداً من السيارات إلا أن أحداً لم يقف لي، فذهبت إلى موقف سيارات الأجرة واستأجرت سيارة أوصلتني إلى هناك.
وهناك، بادرت بالتسجيل في إحدى المدارس المتوسطة بعد جهود بذلها عمي وغيره في قبولي، وحصلتُ على شهادة الكفاءة، وكنت أثناء الدراسة مستمراً على تعاطي المسكرات، إلا أنني تركتُ المخدرات ووقعتُ في الشراب (الخمر)، وفي الوقت نفسه كنت أقوم بترويج تلك الحبوب الحمراء، وبيعها بسعر مضاعف، ولم أكن أدرك فداحة هذا الأمر وخطورته، فقد كان همي جمع المال -أسأل الله أن يتوب عليّ-.
ثم وقعتُ بعد ذلك في الحشيش وأدمته، وكنت أتعاطاه عن طريق التدخين، فكنت أذهب إلى المدرسة وأنا في حالة هستيرية فأرى الناس من حولي كأنهم ذباب أو حشرات صغيرة، لكني لم أكن أتعرض لأحد، لأن الذي يتعاطى هذا البلاء يكون جباناً يخاف من كل شيء.
بقيت على هذه الحال سنتين تقريباً، وكنت آنذاك أسكن بمفردي في بيت يقع في مكان ناءٍ في طرف البلد.
وفي يوم من الأيام جاءني اثنان من شياطين الإنس الذين أعرفهم -وكان أحدهم متزوجاً- فأوقفت سيارتي وركبت معهم، وكان ذلك بعد صلاة العصر، فأخذنا ندور وندور في شوارع البلد.
وبعد جولة دامت عدة ساعات، أوقفوني عند سيارتي، فركبتها واتجهت إلى البيت فلم أستطع الوصول إليه، فقد كنت في حالة سكر شديد.
ظللت مدة ساعتين أو أكثر أبحث عن البيت فلم أجده!!!(2/26)
وفي نهاية المطاف وبعد جهد جهيد وجدته... فلما رأيته فرحتُ فرحاً شديداً، فلما هممتُ بالنزول من السيارة أحسستُ بألم شديد جداً في قلبي، وبصعوبة بالغة نزلت ودخلت البيت، وفي اللحظات تذكرت الموت.
نعم، والله أيها الاخوة لقد تذكرتُ الموت كأنه أمامي يريد أن يهجم عليّ، ورأيت أشياء عجيبة أعجز عن وصفها الآن فقمتُ مسرعاً ومن غير شعور، ودخلت دورة المياه وتوضأت، وبعد خروجي من الدورة عدتُّ وتوضأت ثانية.. ثم أسرعت إلى إحدى الغرف وكبرت ودخلت في الصلاة، وأتذكر أني قرأت في الركعة الأولى بالفاتحة، و (قل هو الله أحد) ولا أتذكر ما قرأته في الركعة الثانية.
المهم أنني أديت تلك الصلاة بسرعة شديد قبل أن أموت!!
وألقيت بنفسي على الأرض، على جنبي الأيسر، واستسلمت للموت، فتذكرت تلك اللحظات أنني سمعت أن الميت من الأفضل أن يوضع على جنبه الأيمن فتحولت إلى الجنب الأيمن، وأنا أحس بأن شيئاً ما يهز كياني هزاً عنيفاً.
ومرت في خاطري صور متلاحقة من سجل حياتي الحافل بالضياع والمجون، وأيقنت أن روحي قد أوشكت على الخروج.
ومرّت لحظات كنت أنتظر فيها الموت، وفجأة حرّكتُ قدمي فتحركتْ، ففرحتُ بذلك فرحاً شديداً، ورأيت بصيصاً من الأمل يشعّ من بين تلك الظلمات الحالكة، فقمت مسرعاً وخرجت من البيت وركبت سيارتي، وتوجهت إلى بيت عمي.
دفعت الباب ودخلت، فوجدتهم مجتمعين يتناولون طعام العشاء، فألقيت بنفسي بينهم.
قام عمي فزعاٍ وسألني: ما بك؟!!
فقلت له: إن قلبي يؤلمني.(2/27)
فقام أحد أبناء عمي، وأخذني إلى المستشفى، وفي الطريق أخبرته بحالي وأنني قد أسرفت في تعاطي ذلك البلاء، وطلبتُ منه أن يذهب بي إلى طبيب يعرفه، فذهب بي إلى مستوصف أهلي، فلما كشف عليّ الطبيب وجد حالتي في غاية السوء حيث بلغت نسبة الكحول في جسمي 94%، فامتنع عن علاجي، وقال لابدّ من حضور رجال الشرطة، وبعد محاولات مستمرة وإلحاح شديد وإغراءات وافق على علاجي، فقاموا بتخطيط للقلب ثم بدءوا بعلاجي.
كان والدي في ذلك الوقت موجوداً في تلك المدينة، فلما علم أني في المستشفى جاء ليزورني، وقد رأيته وقف فوق رأسي فلما شم رائحتي ضاق صدره فخرج ولم يتكلم.
أمضيت ليلة تحت العلاج، وقبل خروجي نصحني الطبيب بالابتعاد عن المخدرات، وأخبرني بأن حالتي سيئة جداً.
وخرجت من المستشفى، وأحسست بأني قد منحت حياة أخرى جديدة، وأراد الله بي خيراً، فكنت فيما بعد كلما شممت رائحة الحشيش أصابني مثل ما أصابني في تلك الليلة وتذكرت الموت، فأطفئ السيجارة، وكنتُ كلما نمت بالليل أشعر بأن أحداً يوقظني ويقول لي: قم، فأستيقظ وأنا أنتفض من الخوف، فأتذكر الموت والجنة والنار والقبر، كما كنت أتذكر صاحبين لي من رفقاء السوء لقيا حتفهما قبل وقت قصير، فأخاف أن يكون مصيري كمصيرهما، فكنت أقوم آخر الليل فأصلي ركعتين -ولم أكن أعرف صلاة الوتر في ذلك الحين- ثم بدأت أحافظ على الصلوات المفروضة، وكنتُ كلما شممت رائحة الحشيش أو الدخان أتذكر الموت فأتركهما.
وبقيت على هذه الحال أربعة أشهر أو أكثر حتى قيض الله لي أجد الشباب الصالحين فالتقطني من بين أولئك الأشرار، وأخذني معه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وبعدها ولله الحمد تبت إلى الله وعدت إليه.
ونصيحتي للشباب المسلم أن يحذروا كل الحذر من شياطين الإنس، ورفقاء السوء، الذين كانوا سبباً في شقاقي وتعاستي سنوات طويلة، ولولا رأفة الله ورحمته حيث أنقذني من بين أيديهم لكنت من الخاسرين.(2/28)
وأسال الله أن يتوب عليّ، وعلى جميع المذنبين والعاصيين إنه توّاب رحيم.
(10) توبة امرأة مغربية بعد إصابتها بالسرطان وشفائها منه في بيت الله(1)
(ليلى الحلوة) امرأة مغربية، أصيبت بالمرض الخبيث (السرطان)، فعجز الأطباء عن علاجها، ففقدت الأمل إلا بالله الذي لم تكن تعرفه من قبل، فتوجهت إليه في بيته الحرام، وهناك كان الشفاء، والآن -عزيزي القارئ- أتركك مع الأخت ليلى لتروي تفاصيل قصتها بنفسها، فتقول:
منذ تسع سنوات أصبتُ بمرض خطير جداً، وهو مرض السرطان، والجميع يعرف أن هذا الاسم مخيف جداً وهناك في المغرب لا نسميه السرطان، وإنما نسميه (الغول) أو (المرض الخبيث).
أصبتُ بالتاج الأيسر، وكان إيماني بالله ضعيفاً جداً، كنتُ غافلة عن الله تعالى، وكنت أظن أن جمال الإنسان يدوم طوال حياته، وأن شبابه وصحته كذلك، وما كنت أظن أبداً أني سأصاب بمرض خطير كالسرطان، فلما أصبتُ بهذا المرض زلزلني زلزالاً شديداً، وفكرت في الهروب، ولكن إلى أين؟! ومرضي معي أينما كنت، فكرت في الانتحار، ولكني كنتُ أحب زوجي وأولادي، وما فكرت أن الله سيعاقبني إذا انتحرت، لأني كنت غافلة عن الله كما أسلفت.
وأراد الله سبحانه وتعالى أن يهديني بهذا المرض، وأن يهديني بي كثيراً من الناس فبدأت الأمور تتطور.
لما أصبتُ بهذا المرض رحلت إلى بلجيكا، وزرت عدداً من الأطباء هناك، فقالوا لزوجي لابدّ من إزالة الثدي.. وبعد ذلك استعمال أدوية حادّة تُسقط الشعر وتزيل الرموش والحاجبين، وتعطي لحية على الوجه، كما تسقط الأظافر والأسنان، فرفضتُ رفضاً كلياً، وقلت: إني أفضل أن أموت بثديي وشعري وكل ما خلق الله بي ولا أشوّه، وطلبتُ من الأطباء أن يكتبوا لي علاجاً خفيفاً ففعلوا. فرجعتُ إلى المغرب، واستعملتُ الدواء فلم يؤثر علىّ ففرحتُ بذلك، وقلت في نفسي: لعل الأطباء قد أخطئوا، وأني لم أصب بمرض السرطان.
__________
(1) هذه القصة نقلتها من شريط مسجل بصوتها هي. (باختصار).(2/29)
ولكن بعد ستة أشهر تقريباً، بدأت أشعر بنقص في الوزن، لوني تغير كثيراً وكنت أحس بالآلام، كانت معي دائماً، فنصحني طبيبي في المغرب أن أتوجه إلى بلجيكا، فتوجهت إلى هناك.
وهناك، كانت المصيبة، فقد قال الأطباء لزوجي: إن المرض قد عمّ، وأصيبت الرئتان، وأنهم الآن ليس لديهم دواء لهذه الحالة.. ثم قالوا لزوجي من الأحسن أن تأخذ زوجتك إلى بلدها حتى تموت هناك.
فُجِعَ زوجي بما سمع، وبدلاً من الذهاب إلى المغرب ذهبنا إلى فرنسا حيث ظننا أننا سنجد العلاج هناك، ولكنا ولم نجد شيئاً، وأخيراً حرصنا على أن نستعين بأحد هناك لأدخل المستشفى وأقطع ثديي وأستعمل العلاج الحاد.
لكن زوجي يذكر شيئاً كنا قد نسيناه، وغفلنا عنه طوال حياتنا، لقد ألهم الله زوجي أن نقوم بزيارة إلى بيت الله الحرام، لنقف بين يديه سبحانه ونسأله أن يكشف ما بنا من ضرّ، وذلك ما فعلنا.
خرجنا من باريس ونحن نهلل ونكبر، وفرحتُ كثيراً لأنني لأول مرة سأدخل بيت الله الحرام، وأرى الكعبة المشرفة، واشتريتُ مصحفاً من مدينة باريس، وتوجهنا إلى مكة المكرمة.
وصلنا إلى بيت الله الحرام، فلما دخلنا ورأيتُ الكعبة بكيتُ كثيراً لأنني ندمت على ما فاتني من فرائض وصلاة وخشوع وتضرع إلى الله، وقلت: يا رب.. لقد استعصى علاجي على الأطباء، وأنت منك الداء ومنك الدواء، وقد أغلقتْ في وجهي جميع الأبواب، وليس لي إلا بابك فلا تغلقه في وجهي وطفتُ حول بيت الله، وكنت أسأل الله كثيراً بأن لا يخيبني، وأن يخذلني، وإن يحيّر الأطباء في أمري.(2/30)
وكما ذكرت آنفاً، فقد كنت غافلة عن الله، جاهلة بدين الله، فكنت أطوف على العلماء والمشايخ الذين كانوا هناك، وأسألهم أن يدلوني على كتب وأدعية سهلة وبسيطة حتى أستفيد منها، فنصحوني كثيراً بتلاوة كتاب الله والتضلع من ماء زمزم -والتضلع هو أن يشرب الإنسان حتى يشعر أن الماء قد وصلى أضلاعه- كما نصحوني بالإكثار من ذكر الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
شعرت براحة نفسية واطمئنان في حرم الله، فطلبتُ من زوجي أن يسمح لي بالبقاء في الحرم، وعدم الرجوع إلى الفندق، فأذن لي.
وفي الحرم كان بحواري بعض الأخوات المصريات والتركيات كنَّ يرينني أبكي كثيراً، فسألنني عن سبب بكائي فقلت: لأنني وصلتُ إلى بيت الله، وما كنت أظن أني سأحبه هذا الحب، وثانياً لأنني مصابة بالسرطان.
فلازمنني ولم يكن يفارقنني، فأخبرتهن أنني معتكفة في بيت الله، فأخبرن أزواجهن ومكثن معي، فكنا لا ننام أبداً، ولا نأكل من الطعام إلا القليل، لكنا كنا نشرب كثيراً من ماء زمزم، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (ماء زمزم لما شرب له)، إن شربتَه لتشفى شفاك الله، وإن شربته لظمأك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، فقطع الله جوعنا، وكنا نطوف دون انقطاع، حيث نصلي ركعتين ثم نعاود الطواف، ونشرب من ماء زمزم ونكثر من تلاوة القرآن، وهكذا كنا في الليل والنهار لا ننام إلا قليلاً، عندما وصلتُ إلى بيت الله كنت هزيلة جداً، وكان في نصفي الأعلى كثير من الكويرات والأورام، التي تؤكد أن السرطان قد عمّ جسمي الأعلى، فكنّ ينصحنني أغسل نصفي الأعلى بماء زمزم، ولكني كنت أخاف أن ألمس تلك الأورام والكويرات، فأتذكر ذلك المرض فيشغلني ذلك عن ذكر الله وعبادته، فغسلته دون أن ألمس جسدي.(2/31)
وفي اليوم الخامس ألحّ عليّ رفيقاتي أن أمسح جسدي بشيء من ماء زمزم فرفضتُ في بداية الأمر، لكني أحسستُ بقوة تدفعني إلى أن آخذ شيئاً من ماء زمزم وأمسح بيدي على جسدي، فخفت في المرة الأولى، ثم أحسست بهذه القوة مرة ثانية، فترددت ولكن في المرة الثالثة ودون أن أشعر أخذت يدي ومسحت بها على جسدي وثديي الذي كان مملوءاً كله دماً وصديداً وكويرات، وحدث ما لم يكن في الحسبان، كل الكويرات ذهبت ولم أجد شيئاً في جسدي، لا ألماً ولا دماً ولا صديداً.
فاندهشتُ في أول الأمر، فأدخلت يدي في قميصي لأبحث عما في جسدي فلم أجد شيئاً من تلك الأورام، فارتعشتُ، ولكن تذكرتُ أن الله على كل شيء قدير، فطلبت من إحدى رفيقاتي أن تلمس جسدي، وأن تبحث عن هذه الكويرات، فصحن كلهن دون شعور: الله أكبر الله أكبر.
فانطلقتُ لأخبر زوجي، ودخلتُ الفندق، فلما وقفتُ أمامه مزقتُ قميصي وأنا أقول، انظر رحمة الله، وأخبرته بما حدث فلم يصدق ذلك، وأخذ يبكي ويصيح بصوت عالٍ ويقول: هل علمتِ أن الأطباء أقسموا على موتك بعد ثلاثة أسابيع فقط؟ فقلت له: إن الآجال بيد الله سبحانه وتعالى ولا يعلم الغيب إلا الله.
مكثنا في بيت الله أسبوعاً كاملاً، فكنت أحمد الله وأشكره على نعمه التي لا تُحصى، ثم زرنا المسجد النبوي بالمدينة المنورة ورجعنا إلى فرنسا.
وهناك حار الأطباء في أمري واندهشوا وكادوا يُجنّون، وصاروا يسألونني هل أنت فلانة؟! فأقول لهم: نعم –بافتخار- وزوجي فلان، وقد رجعت إلى ربي، وما عدت أخاف من شيء إلا من الله سبحانه، فالقضاء قضاء الله، والأمر أمره.
فقالوا لي: إن حالتك غريبة جداً وإن الأورام قد زالت، فلابد من إعادة الفحص.
أعادوا فحصي مرة ثانية فلم يجدوا شيئاً وكنت من قبل لا أستطيع التنفس من تلك الأورام، ولكن عندما وصلت إلى بيت الحرام وطلبت الشفاء من الله ذهب ذلك عني.(2/32)
بعد ذلك كنتُ أبحث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سيرة أصحابه رضي الله عنهم وأبكي كثيراً، كنت أبكي ندماً على ما فاتني من حُب الله ورسوله، وعلى تلك الأيام التي قضيتها بعيدة عن الله عز وجل، وأسأل الله أن يقبلني وأن يتوب عليّ وعلى زوجي وعلى جميع المسلمين.
(11) توبة تحت الأمواج (1)
شاب عشق البحر وأحبه، ولأجل ذلك اشترى مركباً ليبقى في البحر أطول وقت ممكن، كيف لا وقد أصبح الموج النغمة الحالمة التي يحب أن يسمعها دائماً.
كان يتنزه مع أصدقائه فأراد الله به خيراً فحدثتِ المفاجأة يقول: م. ص. ر:
كنت ذات يوم في البحر مع قاربي وحيداً، أقطع الأمواج وكان الوقت قد قارب على المغرب، وأنا أحب أن أبقى منفرداً في هذه الساعة بالذات، أعيش مع أحلامي، وأقضي أجمل أوقاتي مع الأطياف، وأنا وحيد على الماء الأزرق، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، ورأيت القارب وقد اعتلاني، وأصبحت بين الماء أصارع الأمواج والموت معاً.
لم أستطع أن ألتزم بقارب النجاة أو بالطوق المعد لمثل هذه الحالات، صرخت بأعلى صوتي: يا رب أنقذني، صدرتْ هذه الصيحة من أعماق قلبي، ولم أدر بنفسي.
غبت عن الوعي.. استيقظت، أجَلْت بصري يمنة ويسرة، رأيت رجالاً كثيرين يقولون: (الحمد لله، إنه حي لم يمت)، ومنهم اثنان قد لبسا ملابس البحر.
قالوا لي: (الحمد لله الذي نجاك من الغرق)، لقد شارفت على الهلاك، ولكن إرادة الله كانت لك رحمة ومنقذا.
لم أتذكر مما مضى في تلك الحادثة إلا ندائي لربي.
دارت بي الدنيا مرة أخرى، وأصبحت أحدث نفسي، لماذا تجافي ربك؟ لماذا تعصيه؟ كان الجواب: الشيطان والنفس، والدنيا كانت تصرفني عن ذكر الله!!
أفقت من دواري، قلت للحاضرين: هل دخل وقت العشاء؟ قالوا: نعم.
__________
(1) جريد البلاد: إعداد: عبد العزيز الحمدان.(2/33)
قمت بين دهشة الحضور، توضأت وصليت، قلت: واعجباً هل حقيقة أني أصلي؟! لم أكن أؤدي هذه الصلوات في حياتي إلا مرات قليلة جداً، وفوق ذلك رحمني ربي وأكرمني بجوده ومنّه.
عاهدتُ ربي أن لا أعصيه أبداً، وإن أزلني الشيطان أستغفر، فإن ربي غفور رحيم.
وبقيت متخوفاً ألا يقبل الله توبتي حتى قرأت هذه الآية (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
وتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم، (إن التوبة تجبُّ ما قبلها)... فاطمأنت نفسي، واستكانت، وعرفت أن الله جواد كريم يفرح بتوبة عبده مهما بلغت ذنوبه.
أسأل الله أن يتوب عليّ وعليكم وعلى المسلمين أجمعين، إنه سميع مجيب.
واغرورقت عينها بالدموع وانفجر باكياُ حتى أبكانا معه.
(12) توبة شاب بعد سماعه موعظة (1)
الوعظ أسلوب من أساليب التأثير والدعوة إلى الله، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتخول أصحابه بالموعظة، فإن الموعظة إذا خرجتْ من قلب صادق فإنها تخترق الحواجز وتصل إلى القلوب، فتكون كالغيث يُصيب أرضاً ميتة فتهتز وتحيا بإذن الله، وفيما يلي قصة شاب كان على موعد مع فعل الحرام، فسمع موعظة من بعيد لامستْ شغاف قلبه فاستيقظ من غفلته وعاد إلى الله يروي قصته فيقول: أنا شاب نشأتُ في بيت (مسلم)، ولكنه كان إسلاماً (وراثياً) لم يكن أهلي يحثونني على الطاعة واتباع شرع الله وينصحونني بذلك، ولكنهم كانوا يتحمسون لنصحي -وأحياناً تهديدي- إذا أنا تخلفت عن المدرسة أو عصيتهم في الأمور الدنيوية (2) ومما لا شك فيه أن من كان هذا حاله فسوف يتجه إلى الهاوية، وهذا ما حدث لي، فلقد ابتليت بصحبة رفقاء سوء زينوا لي الفواحش والمنكرات، وأوقعوني في معاصي الله.
__________
(1) هذه القصة كتبها لي هذا الشاب بنفسه.
(2) هذا واقع كثير من الأسر وللأسف الشديد، والواجب على الآباء أن يحرصوا على تربية أولادهم تربية إسلامية وأن يختاروا لهم الرفقاء الصالحين، وإلا فإن العاقبة وخيمة.(2/34)
فكنا نسخر من أهل الدين والصلاح ونستهزئ بهم!!! ومع استهزائنا بهم كنا نفعل الموبقات وكبائر الذنوب عل أنه من الرجولة والبطولة، وندفع كل ما نملك في سبيل ذلك ولو آل الأمر بنا إلى السجن، وكنا مع ذلك نتعاطي المخدرات والمسكرات، أما الصلاة فلم نكن نعرفها أبداً أبداً، وكنت إذا دخلت دورات المياه التابعة للمسجد يستغرب الناس دخولي إليها، لما عرفوا عني من الشر والفساد وعدم الاستقامة.
وفي ليلة من الليالي وفي وقت صلاة العشاء كنت قريباً من أحد المساجد، وعلى موعد للجلوس مع بعض (الصبيان)، فإذا بصوت مؤثر ينطلق من مكبر الصوت من ذلك المسجد، يتحدث عن الجنة والنار، والموت والقبر، فأحسست أن ذلك الصوت يخاطبني ويهزني هزّاً عنيفاً وكأنه يقول لي: أيها الغافل، أما تستحي من الله؟ أما تخاف من الموت أن يأتيك بغتة وأنت على هذه الحال؟ انتبه، انتبه، فتأثرت بذلك، وشعرت بخوف شديد ورهبة.
ومضت تلك الليلة.
وفي الغد وبعد أن أذن المؤذن لصلاة العشاء، قمت وتوضأت واغتسلت ودخلت المسجد، وبدأ الشيخ في حديثه وكنتُ في طرف الصف، فبدأت بالبكاء على نفسي وعلى ما مضى من عمري من التفريط في حق الله وحق الوالدين، وبعد أن أديت الصلاة رجعت إلى البيت مبكراً، فاستبشر أهلي خيراً، فلم يكن من عادتي أن أرجع إلى البيت إلا في منتصف الليل أو آخره.
ومن ذلك الحين تُبتُ إلى الله، ورجعت إليه، وأنا أدعو الله أن يثبتني وإياكم، وأن يغفر لنا وللشيخ الذي كان -بعد الله- سبباً في إنقاذي من الهلاك.
(13) توبة فتاة من عالم الأزياء إلى كتب العلم والعقيدة (1)
إن إفساد المرأة المسلمة وإخراجها من دينها من أهم ما يسعى إليه أعداء الإسلام باسم (تحرير المرأة)، ذلك أن المرأة هي المدرسة التي تتربى فيها الأجيال وتتخرج، وبفسادها تفسد الأجيال.
يقول (يوبه) المأسوني سنة 1879م:
__________
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(2/35)
(تأكدوا تماماً أننا لسنا منتصرين على الدين إلا يوم تشاركنا المرأة فتمشي في صفوفنا)، ولكي تمشي المرأة في صفوفهم أخذوا يحيكون المؤامرات، والمخططات ليلاً ونهاراً، ومنها إشغال المرأة بالتوافه من الأمور كالاهتمام الزائد باللباس والزينة والتجمل، وإغراق الأسواق بمجلات الأزياء المتخصصة التي تحمل في طياتها آخر ما تفتّق عن العبقرية اليهودية (1) من الأزياء العارية الفاتنة، و(الموديلات) الرخيصة الماجنة التي تتنافى مع ما أمر الله به المرأة من الحشمة والعفاف والستر، وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
والآن سنقف قليلاً مع إحدى الأخوات، لتحدثنا عن رحلتها مع عالم الأزياء والجمال الزائف إلى عالم آخر، عالم الكتب وطلب العلم، فتقول:
عشتُ بداية حياتي في ضلال وضياع وغفلة، بين سهر على معاصي الله، وتأخير للصلاة عن وقتها، ونوم وخروج إلى الحدائق والأسواق، ومع ذلك كله فقد كنت أصلي أصوم، وأحاول أن ألتزم بأوامر الشرع التي تعلمتها منذ نعومة أظفاري، حتى أني -في المرحلة المتوسطة- كنت أعدّ ملتزمة بالنسبة لغيري من الفتيات الأخريات، ولكن حب المرأة للزينة والجمال والشهرة وميلها الغريزي إليه كان من أكبر مداخل الشيطان عليّ.
فقد كنتُ مفتونة جدّاً بالأناقة وحبّ ابتكار (الموديلات) التي قد يستصغرها البعض ويقول: إنها ليست بمعصية، ولكني أقول: إنها قد تكون من أكبر المعاصي، فقد كانت هي وقتي كله، كنت أفكر فيها عند الطعام والشراب والنوم والسفر، وأثناء الحصص المدرسية، حتى الاختبارات، مع حرصي الشديد على المذاكرة والتفوق حيث كنت من الأوائل على المرحلة بكاملها.
__________
(1) بيوت الأزياء الكبرى يهودية وكذلك بيوت الزينة، واليهود يكسبون مها كسباً مضاعفاً، يكسبون أرباحاً خيالية لا تدرها الصناعات الأخرى، ويكسبون سريان الفساد كالسم في مجتمع الأميين (غير اليهود). (محمد قطب/ مذاهب فكرية ص 150، الهامش.(2/36)
وأعظم من ذلك، أن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغل تفكيري حتى في الصلاة والوقوف بين يدي الله، فإذا انتهيتُ من الصلاة بدأت في وصف الموديل الذي فكرت به في الصلاة لأختي، وهي كذلك.
وأذكر مرة أني حضرت زواجاً لإحدى قريباتي، وحزتْ على إعجاب الكثيرات من بنات جيلي من إطراء ومديح بطريقة اللبس مما زاد من غروري، وجعلني أتحسر وأتألم لِمَ لم ألبس أفضل لأحوز على مديح أكثر، وأخذت أتحسر لمدة سنة تقريباً.
قد تستغربون ذلك، ولكن هذا كله بسبب الصديقات المنحلات اللاتي كنت أختارهنّ، فكنت بالنسبة لهن ملتزمة.
وفي نهاية المرحلة الثانوية يسر الله لي طريق الهداية، فقد كنت أذهب أثناء الاختبارات إلى مصلى المدرسة لأذاكر مع صديقاتي، فأجد هناك بعض حلقات العلم فأجلس إليها وأستمع أنا وزميلاتي، فأثر ذلك فيّ، مما جعلني بعد التخرج ودخول الجامعة ألتحق بقسم الدراسات الإسلامية.
وفي الجامعة، تعرفتُ على أخوات صالحات، وبفضل الله ثم بفضل أخواتي الصالحات ومجالس الذكر والإلحاح في الدعاء أعانني الله على أن استبدل حب الدنيا بطلب العلم، حتى أني أنسى حاجتي للطعام والشراب مع طلب العلم، ولا أزكي نفسي ولكن الله يقول: (وأما بنعمة ربّك فحدّث). سورة الضحى الآية 11.
كما أصبحت بعد الالتزام أشعر بسعادة تغمر قلبي فأقول: بأنه يستحيل أن يكون هناك إنسان أقل مني التزاماً أن يكون أسعد مني، ولو كانت الدنيا كلها بين عينيه، ولو كان من أغنى الناس.
وهكذا تمت رحلتي من السهر على الفيديو والأفلام الماجنة إلى كتب العقيدة والحديث وأبحاث الفقه.
ومن النوم إلى الظهيرة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في النوم فالإنسان محاسب على وقته، وعليه استغلال كل دقيقة، فإذا كنت في وضع لا يسمح لي بطلب العلم فلساني لا يفتر -والله الحمد- من ذكر الله والاستغفار.(2/37)
وفي الختام أسأل الله لي ولجميع المسلمين والمسلمات الهداية والثبات.. فأكثر ما ساعدني على الثبات -بعد توفيق الله- هو إلقائي للدروس في المصلى، بالإضافة إلى قراءتي عن الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من اللباس والجمال والزينة، والأسواق، والزيارات بين الناس، وهذه من أحب الأشياء إلى قلبي.
فكنت كلما أردت أن أشتري شيئاً من الملابس التي تزيد على حاجتي أقول: ألبسها في الآخرة أفضل.
فتذكري للجنة ونعيمها من أكثر الأسباب المرغبة لي في ترك ملذات الدنيا طمعاً في الحصول عليها كاملةً في الآخرة بإذن الله.
ومن أكثر الأسباب المرغبة لي في ترك المعاصي تذكري للصراط، وأهوال يوم القيامة، وأن الأعمال تعرض على الله أمام جميع الخلائق، وهناك تكون الفضيحة.
(14) توبة شاب كان يتعرض للنساء (1)
إنها قصة مؤثرة، يرويها أحد الغيورين على دين الله، يقول:
خرجت ذات يوم بسيارتي لقضاء بعض الأعمال، وفي إحدى الطرق الفرعية الهادئة قابلني شاب يركب سيارة صغيرة، لم يرني، لأنه كان مشغولاً بملاحقة بعض الفتيات في تلك الطريق الخالية من المارّة.
كنتُ مسرعاً فتجاوزته، فلما سرت غير بعيد قلت في نفسي: أأعود فأنصح ذلك الشاب! أم أمضي في طريقي وأدعه يفعل ما يشاء؟
وبعد صراع داخلي دام عدة ثوانٍ فقط اخترتُ الأمر الأول.
عدتُ ثانية، فإذا به قد أوقف سيارته وهو ينظر إليهن ينتظر منهن نظرة أو التفاته، فدخلن في أحد البيوت.
أوقفت سيارتي بجوار سيارته، نزلت من سيارتي واتجهت إليه، سلمت عليه أولاً، ثم نصحته فكان مما قلته له: تخيل أن هؤلاء الفتيات أخواتك أو بناتك أو قريباتك فهل ترضى لأحد من الناس أن يلاحقهن أو يؤذيهن؟
كنت أتحدث إليه وأنا أشعر بشيء من الخوف، فقد كان شابّاً ضخماً ممتلئ الجسم، كان يستمع إليّ وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة.
__________
(1) هذه القصة رواها لي أحد الاخوة فكتبتها ثم عرضتها على صاحبها فأجازها.(2/38)
وفجأة الفَتَ إليّ، فإذا دمعة قد سالتْ على خده، فاستبشرتُ خيراً، وكان ذلك دافعاً لي لمواصلة النصيحة، لقد زال الخوف مني تماماً، وشددتُّ عليه في الحديث حتى رأيت أني قد أبلغت في النصيحة.
ثم ودّعته لكنه استوقفني، وطلب مني أن أكتب له رقم هاتفي وعنواني، وأخبرني أنه يعيش فراغاً نفسياً قائلاً، فكتبتُ له ما أراد.
وبعد أيام جاءني في البيت، لقد تغير وجهه وتبدلتْ ملامحه، فقد أطلق لحيته وشعَّ نور الإيمان من وجهه.
جلستُ معه، فجعل يحدثني عن تلك الأيام التي قضاها في (التسكع) في الشوارع والطرقات وإيذاء المسلمين والمسلمات، فأخذت أسليه، وأخبرته بأن الله سبحانه واسع المغفرة، وتلوت عليه قوله تعالى: (قل يا عباديَ الله أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم). سورة الزمر، الآية 53. فانفرجتْ أسارير وجهه، واستبشر خيراً، ثم ودعني وطلب مني أن أردّ الزيارة، فهو في حاجة إلى من يعينه على السير في الطريق المستقيم، فوعدته بالزيارة، مضت الأيام وشُغلت ببعض مشاغل الحياة الكثيرة، وجعلت أسوّف في زيارته. وبعد عدة أيام، وجدت فرصة وذهبت إليه.
طرقت الباب، فإذا بشيخ كبير يفتح الباب وقد ظهرت عليا آثار الحزن والأسى، إنه والده.
سألته عن صاحبي، أطرق برأسه إلى الأرض، وصَمَتَ برهةً، ثم قال بصوت خافت: يرحمه الله ويغفر له، ثم استطرد قائلا: حقاً إن الأعمال بالخواتيم.
ثم أخذ يحدثني عن حاله وكيف أنه كان مفرطاً في جنب الله بعيدًا عن طاعة الله، فمنّ الله عليه بالهداية قبل موته بأيام، لقد تداركه الله برحمته قبل فوات الأوان.
فلما فرغ من حديثه عزيته ومضيت، وقد عاهدتُ الله أن أبذل النصيحة لكل مسلم.
(15) توبة فتاة في العشرين(1)
أ. هـ. فتاة في العشرين من عمرها، أراد الله بها خيراً فوفقها للتوبة والهداية، تروي قصتها فتقول:
__________
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(2/39)
كانت حياتي أشبه بحياة الجاهلية، على الرغم من أني ابنة أناس محافظين ومتمسكين بالقيم والمبادئ الإسلامية، كنت لا أحافظ على أوقات الصلاة، حتى أن صلاة الفجر لا أصلّيها إلا بعد الساعة العاشرة.
أرى اخوتي يسهرون في رمضان لقيام الليل وقراءة القرآن، وأنا أحيي الليل بالسهر على أشرطة الفيديو والنظر إلى ما يغضب الله.
وفي ليلة من الليالي وبعد أن آويت إلى فراشي رأيت فيما يرى النائم أني مع مجموعة من الصديقات (قرينات السوء)، وكنا نلعب كعادتنا، فمرتْ من أمامي جنازة فجلست أنظر إليها، وكنَّ يحاولن صدّي عنها، حاولت أن ألحق بها فلم أستطع، فركضت وركضت إلى أن وصلت إليها، وبعد مرورنا بطريق وعر عجزتُ عن مواصلة الطريق، فوجدتُ غرفة صغيرة مظلمة، دخلتها وقلت: ما هذه؟ قالوا لي هذا قبرك، هذا مصيرك، عندها أردتُّ أن أتدارك عمري فصرخت بأعلى صوتي أريد مصحفاً، أريد أن أصلي، أريد أن أخرج دمعة تنجيني من عذاب الله الأليم.
فجاء صوت من خلفي قائلا: هيهات هيهات، انقضى عمرك وأنت منهمكة بالملذات.
وفجأة استيقظت من نومي على صوت الإمام في صلاة الفجر وهو يتلو قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحق). سورة الحديد الآية 16.
سبحان الله، شريط حياتي أخذ ينطوي أمامي، وقد تداركتني نعمة ربي بأن جعلني أوب إليه قبل الوفاة، فلله الحمد والمنّة.(2/40)
العائدون إلى الله
مجموعة من قصص التائبين ، من مشاهير
وعلماء ودعاة وغيرهم يرونها بأنفسهم
جمعها
محمد بن عبدالعزيز المسند
المجموعة الثالثة
(1) توبة الشيخ عادل الكلباني (1)
جامع الملك خالد بأم الحمام من المعالم البارزة في مدينة الرياض، مئات المصلين يقصدون هذا المسجد في رمضان وغيره، ليستمعوا إلى الشيخ عادل الكلباني (إمام المسجد) بصوته الخاشع الجميل، ونبرته الحزينة المؤثرة، وكغيره من شباب الصحوة كانت له قصة مع الهداية، يرويها لنا فيقول:
لم أكن ضالاًّ بدرجة كبيرة نعم.. كانت هناك كبائر وهفوات أرجعها إلى نفسي أولا، ثم إلى الأسرة والمجتمع.
لم يأمرني أحد بالصلاة يوماً، لم ألتحق بحلقة أحفظ فيها كتاب الله، عشتُ طفولتي كأي طفل في تلك الحقبة، لَعِبٌ ولهوٌ وتلفاز و(دنّانة) و (سيكل) ومصاقيل و (كعابة)، وتتعلق بالسيارات، ونجوب مجرى البطحاء، ونتسكع في الشوارع بعد خروجنا من المدرسة، ونسهر على التلفاز والرحلات وغيرها.
لم نكن نعرف الله إلا سَمَاعاً، ومن كانت هذه طفولته فلابدّ أن يشبّ على حب اللهو والمتعة والرحلات وغيره، وهكذا كان.
وأعتذر عن التفصيل والاسترسال، وأنتقل بكم إلى بداية التعرف على الله تعالى، ففي يوم من الأيام قمتُ بإيصال والدتي لزيارة إحدى صديقاتها لمناسبة ما -لا أذكر الآن- المهم أني ظللت أنتظر خروجها في السيارة، وأدرتُ جهاز المذياع، فوصل المؤشر –قَدَراً- إلى إذاعة القرآن الكريم، وإذ بصوت شجي حزين، يُرتل آيات وقعتْ في قلبي موقعها السديد لأني أسمعها لأول مرة: (وجاءتْ سكرةُ الموتِ بالحقّ ذلكَ مَا كنتَ منه تحيد). صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي -رحمه الله-، كان مؤثراً جداً.
__________
(1) كتبها لي بنفسه جزاء الله خيراً.(3/1)
صحيح أني لم أهتدي بعدها مباشرة، لكنها كانت اللبنة الأولى لهدايتي، وكانت تلك السنة سنة الموت، مات فيها عدد من العظماء والسياسيين والمغنين، وظل معي هاجس الموت حتى كدت أصاب بالجنون، أفزع من نومي، بل طار النوم من عيني، فلا أنام إلا بعد أن يبلغ الجهد مني مبلغه. أقرأ جميع الأدعية، وأفعل جميع الأسباب ولكن لا يزال الهاجس.
بدأت أحافظ على الصلاة في وقتها مع الجماعة، وكنت فيها متساهلا، ولكن كنت أهرب من الصلاة، أقطعها، خوفاً من الموت. كيف أهرب من الموت؟ كيف أحِيدُ منه؟ لم أجد إلا مفراً واحداً، أن أفرُّ إلى الله، من هو الله؟ إنه ربي.. إذن فلأتعرّف عليه.
تفكرت في القيامة.. في الحشر والنشر.. في السماء ذات البروج.. في الشمس وضحاها.. في القمرِ إذا تلاها، وكنت أقرأ كثيراً علماً بأني كنتُ محباً لكتاب الله حتى وأنا في الضلالة.. ربما تستغربون أني حفظتُ بعض السور في مكان لا يُذكر بالله أبداً.
عشتُ هذه الفترة العصيبة التي بلغت سنين عدداً حتى شمَّرت عن ساعد الجدِّ، ورأيت -فعلاً- أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن الموت آت لا ريب فيه، فليكن المرء منا مستعداً لهذا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنت مسلمون). تفكروا –إخواني- في هذه الآية ترَوا عجباً، تفكروا في كل ما حولكم من آيات الله، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟ عقلاً ستدركون أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.. فكيف –إذن- يكون الحل؟.. أن نعود إلى الله، أن نتوب إليه، أن نعمل بطاعته.(3/2)
المهم أني عدت إلى الله، وأحببت كلامه سبحانه، ومع بداية الهداية بدأ ارتباطي الحقيقي بكتاب الله العظيم، كنتُ كلما صليتُ خلف إمام أعجبتني قراءته أو الآيات التي قرأها، أعود مباشرة إلى البيت لأحفظها، ثم عُيِّنتُ إماماً بجامع صلاح الدين بالسليمانية، وصليت بالناس في رمضان صلاة التراويح لعام 1405هـ نظراً من المصحف، وبعد انتهاء الشهر عاهدتُ الله ثم نفسي أن أحفظ القرآن وأقرأه عن ظهر قلب في العام القادم بحول الله وقوته، وتحقق ذلك، فقد وضعت لنفسي جدولاً لحفظ القرآن بدأ من فجر العاشر من شهر شوال من ذلك العام، واستمر حتى منتصف شهر جماد الآخرة من العام الذي بعده (1406هـ)، في هذه الفترة أتممت حفظ كتاب الله -ولله الحمد والمنة -.
وقد كانت (نومة بعد الفجر) عائقاً كبيراً في طريقي آنذاك، كنت لا أستطيع تركها إطلاقاً إلى أن أعانني الله، وعالجتها بالجد والمثابرة والمصابرة، حتى أني كنت أنام -أحيانا- والمصحف على صدري، ومع الإصرار والمجاهدة أصبحت الآن لا أستطيع النوم بعد صلاة الفجر إطلاقاً.
ثم وفقني الله فعرضت المصحف على شيخي فضيلة الشيخ أحمد مصطفى أبو حسين المدرس بكلية أصول الدين بالرياض، وفرغت من ذلك يوم الثلاثاء 19رمضان 1407هـ، وكتب لي الشيخ إجازة بسندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية حفص عن عاصم، ولعل الله أن يوفقني لإتمام العشر بحوله وقوته.
هذه قصتي مع القرآن ونصيحتي لكل من يريد أن يحفظ القرآن أن يحفظ القرآن.
وكلمة في ذيل القصة أشير فيها إلى مسئولية الأسرة في تربية الابن، ومسئولية المجتمع، ومسئولية الفرد نفسه، في التفكر والبحث عن الحقيقة والعمل بها.(3/3)
ثم أشير إلى أهمية كتاب الله، هذا الكتاب العظيم الذي يطبع بالملايين، وتصدر التسجيلات الإسلامية مئات الأشرطة منه.. تريدون الخير في الدنيا عليكم به، تريدون الخير في الآخرة عليكم به.. فوالله الذي رفع السماوات بغير عَمَدٍ لا أجد في شخصي شيئاً أستحق به أن أصدّر في المجالس، أو أن يشار إليّ ببنان مسلم، أو أن يحبني شخص وهو لم يَرَني… إلا بفضل كتاب الله عليّ.. ما أهون هذا العبد الأسود على الناس لولا كتاب الله بين جنبيه.. وكلما تذكرت هذا لا أملك دمعة حَرَّى تسيل على مُقْلَتي فألجأ إلى الله داعياً أن يكون هذا القرآن أنيساً لي يوم أموت، وحين أوسَّد في التراب دفيناً، وحين أُبعث من قبري إلى العرض على ربي.
أرجوه -جلت قدرته- أن يقال لي: اقرأ وارق، ورتّل كما كنت تُرتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
وأسأله -جلت قدرته- أن أكون مع السّفرَة الكرام البَررة، وأن يجعل حب الناس لي عنوان محبته، ورفعهم لي رفعة لدرجتي في الجنة إنه جواد كريم.
ثم اسمعوا ما قاله القحطاني رحمه الله في نونيته:
أنت الذي أدنيتني وحبوتني ... وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب محبةً ... والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسناً ... وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذكري في البرية شائعاً ... حتى جعلت جميعهم إخواني
والله لو علموا قبيح سريرتي ... لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملَوا صُحبتي ... ولبُؤت بعد قرابة بهوانٍ
لكن سترت معايبي ومثالي ... وحَلِمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها ... بخواطري وجوارحي ولساني
أخوكم
العبد الفقير إلى رحمة ربه المنان
أبو عبد الله عادل بن سالم الكلباني
(2) توبة اللاعب عبد الله عبد ربه
طالما صفقت له الجماهير.
وطالما اهتزت من قذائفه الشباك.
وطالما عرفته الملاعب.. وأتعب خصومه وسبب لهم المتاعب إنه اللاعب (سابقاً) والداعية حالياً: عبد الله عبد ربه.(3/4)
قابلته في مجلس من مجالس العلم والإيمان فطلبت منه أن يحدثني عن رحلته إلى الهداية فقال:
(نشأت –كغيري- في بيت من بيوت المسلمين .. والدي -رحمه الله- كان على جانب كبير من التدين والتمسك بالقيم والأخلاق السامية، وكذلك والدتي -رحمها الله تعالى- فكان لذلك أثر كبير في استقامتي ورجوعي إلى الله فيما بعد.
ولما بلغت سن المراهقة كنت أقضي معظم نهاري في الشارع مع زملائي في ممارسة هوايتي المفضلة: كرة القدم:
كنت أحلم -كغيري من الشباب في تلك السن- أن أكون لاعباً مشهوراً تصفق له الجماهير وتهتف باسمه الجموع.. وقد تحقق ذلك الحلم، ففي عام 1397هـ سجلت اسمي في كشوفات نادي النصر بالرياض، وشاركتُ في عدد من المباريات الهامة للنادي حتى عرفتني الجماهير، وكتبتْ عني الصحف والمجلات، وبدأت أشق طريقي نحو الشهر.. ولا أخفيكم أنني شعرت –حينذاك- بشيء من الغرور والاعتزاز، إلا أني في الوقت نفسه كنت أشعر بالاكتئاب والقلق ولا أدري ما السبب؟
وبعد سنوات قليلة تم اختياري لأكون لاعباً في المنتخب، فكانت خطوة أخرى نحو مزيد من الشهرة، لا على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العربي والعالمي، وهذا ما حدث.
ظللت على هذه الحال عدة سنوات، فبدأت أشعر بشيء من الملل، وأعاني من فراغ نفسي قاتل، وأحسست بأنني بحاجة شديدة إلى شيء ما أملأ هذا الفراغ، الذي كنت أعانيه، ففكرت في ترك الكرة والابتعاد عن الأجواء الرياضية.. ولزمت بيتي فترة من الزمن، وعلى الرغم من محافظتي على الصلوات المفروضة، إلا أنها كانت صلوات جافة، لا ورح فيها ولا خشوع.. كانت بالنسبة لي أشبه بالحركات الرياضية التي كنت أؤديها في المعسكر وأثناء التمارين إلى أن جاءت ساعة الهداية.(3/5)
ففي يوم من الأيام زارني الأخ منصور بشير -بارك الله فيه- ومعه أحد الاخوة الصالحين، وقال لي كلاماً أيقظني من الغفلة التي كنت أعيشها، وأخبرني بأن السعادة الحقيقية والطمأنينة والراحة في الرجوع إلى الله، والتمسك بحبله المتين.. في مجالسة الصالحين وحضور مجالس العلم والذكر: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
ومن تلك اللحظة استمعت إلى نصيحة أخي -وفقه الله- وتعرفت على بعض أهل الخير وطلاب العلم، فأحسست بسعادة عظيمة تغمرني لا أستطيع لها وصفاً، وندمت على أيام خلت قضيتها بعيداً عن خالقي - عز وجل-.
ونصيحتي أخواني اللاعبين وغيرهم أن يتمسكوا بهذا الدين العظيم، وأن يعودوا إلى ربهم وخالقهم، وهذا لا يتعارض مع الرياضة ولعب الكرة، فالإسلام حث على بناء الأجسام وتقويتها، ولكن لا نجعل ذلك غاية نحب من أجله ونبغض من أجله، ويكن هو همنا الشاغل، بل وسيلة إلى كسب رضا الله، والوصول إلى جنته.
وإنني أدعو جميع اللاعبين أن يكونوا قدوة لشبابنا الحائر، وخير سفير لبلادنا في الخارج، ولو فعلوا ذلك لدخل كثير من الكفار في دين الله أفواجاً، لعرفوا عظمة هذا الدين المتمثل في سلوك أبنائه ومعتنقيه.
(3) توبة الممثل المغربي المشهور سعيد الزياني(1)
في مكة أم القرى، شرفها الله ومن جوار بيت الله الحرام، وفي العشر الأخيرة من رمضان، حدثنا الممثل سابقاً، والداعية حالياً، الأخ سعيد الزياني عن قصة رجوعه إلى الله، وهدايته إلى الطريق المستقيم، فقال:
نشأت في بيت من بيوت المسلمين، ولما بلغتُ من المراهقة كنتُ أحلم -كما كان يحلم غيري من الشباب المراهق- بتحقيق شيئين مهمين في نظري آنذاك، وهما: الشهرة والمال، فقد كنت أبحث عن السعادة وأسعى إلى الحصول عليها بأية طريقة كانت.
__________
(1) هذه القصة كتبها لي أحد الاخوة الثقات وقد سمعها بنفسه من الأخ سعيد(3/6)
في بداية الأمر،. التحقتُ بالإذاعة المغربية، وشاركتُ في تقديم بعض الفقرات التي تربط بين البرامج، ثم تقدمت فأصبحت أقدّم برامج خاصة حتى اكتسبتُ خبرة في هذا المجال، ثم اتجهت إلى التلفزيون وتدرجت فيه حتى أصبحت مقدماً من الدرجة الأولى -وهي أعلى درجة يحصل عليها مذيع أو مقدم- وأصبحت أقدِّم نشرات الأخبار، والكثير من برامج السهرة والمنوعات وبرامج الشباب، واشتهرت شهرة كبيرة لم يسبقني إليها أحد، وأصبح اسمي على كل لسان، وصوتي يُسمع في كل بيت.
وعلى الرغم من هذه الشهرة إلا أني كنت غير سعيد بهذا.. كنت أشعر بضيق شديد في صدري، فقلت في نفسي لعلي أجد السعادة في الغناء.. وبالفعل، فقد ساعدتني شهرتي في الإذاعة والتلفزيون أن أقدم من خلال أحد البرامج التلفزيونية أغنية قصيرة كانت هي البداية لدخول عالم الغناء.
ودخلتُ عالم الغناء، وحققت شهرة كبيرة في هذا المجال، ونَزَل إلى الأسواق العديد بل الآلاف من الأشرطة الغنائية التي سجلتها بصوتي.
وعلى الرغم من ذلك كله كنت أشعر بالتعاسة والشقاء، وأحس بالملل وضيق الصدر، وصدق الله إذ يقول: (فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يُضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعّدُ في السماء).
فقلت في نفسي: إن السعداء هم الممثلون والممثلات، فأردتُّ أن أشاركهم في تلك السعادة، فاتجهت إلى التمثيل، وأصبحت ممثلاً من الدرجة الأولى، فكنت لا أمثل إلا أدوار البطولة في جميع الأعمال التي أقدمها.. والحقيقة ودون مبالغة أصبحت شخصاً متميزاً في بلدي، فلا أركب إلا أغلى السيارات وأفخمها، ولا ألبس إلا الملابس الثمينة.. مكانتي الاجتماعية أصبحت راقية، فأصدقائي هم كبار الشخصيات من الأمراء وغيرهم، فكنت أنتقل بين القصور، من قصر إلى قصر، وتُفتح لي الأبواب وكأني صاحب تلك القصور.
ولكن.. وعلى الرغم من ذلك كله، كنت أشعر بأني لم أصل إلى السعادة التي أبحث عنها.(3/7)
وفي يوم من الأيام.. أجرى معي أحد الصحفيين لقاء صحفياً طويلا، وكان من بين الأسئلة التي وجهها إليّ هذا السؤال: (الفنان سعيد الزياني.. من المصادفات أن اسمك ينطبق على حياتك.. فاسمك سعيد، ما تقول في ذلك؟
وكان الجواب:
(في الحقيقة أن ما تعتقده ويعتقده كثير من الناس غير صحيح، فأنا لستُ سعيداً في حياتي، واسمي في الحقيقة لايزال ناقصاً، فهو يتكون من ثلاثة أحرف وهي: س، ع، ي: (سعي)، وأنا ما زلت أسعى، أبحث عن الحرف الأخير، وهو حرف (الدال) ليكتمل اسمي وتكتمل سعادتي، وإلى الآن لم أجده، وحين أجده سوف أخبرك).
وقد أجري معي هذا اللقاء وأنا في قمة شهرتي وثرائي.. ومرت الأيام والشهور والأعوام.. وكان لي شقيق يكبرني سناً، هاجر إلى بلجيكا.. كان إنساناً عادياً إلا أنه كان أكثر مني التزاماً واستقامة، وهناك في بلجيكا التقى ببعض الدعاة المسلمين فتأثر بهم وعاد إلى الله على أيديهم.
فكرتُ في القيام برحلة سياحية إلى بلجيكا أزور فيها أخي فأمر عليه مرور الكرام، ثم أواصل رحلتي إلى مختلف بلاد العالم.
سافرت إلى بلجيكا، والتقيتُ بأخي هناك، ولكني فوجئت بهيئته المتغيرة، وحياته المختلفة، والأهم من ذلك، السعادة التي كانت تشع في بيته وحياته، وتأثرتُ كثيراً بما رأيتُ، إضافةً إلى العلاقات الوثيقة التي تربط بين الشباب المسلم في تلك المدينة، وقد قابلوني بالأحضان، ورحّبوا بي أجمل ترحيب، ووجهوا لي الدعوة لحضور مجالسهم واجتماعاتهم والتعرف عليهم بصورة قوية.
أجبت الدعوة، وكنت أشعر بشعور غريب وأنا أجلس معهم، كنتُ أشعر بسعادة عظيمة تغمرني لم أشعر بها من قبل، ومع مرور الأيام قمتُ بتمديد إجازتي لكي تستمر هذه السعادة التي طالما بحثتُ عنها فلم أجدها.(3/8)
وهكذا.. كنت أشعر بالسعادة مع هؤلاء الأخيار تزداد يوماً بعد يوم، والضيق والهم والشقاء يتناقص يوماً بعد يوم.. حتى امتلأ صدري بنور الإيمان، وعرفتُ الطريق إلى الله الذي كنت قد ضللت عنه مع ما كنت أملكه من المال والثراء والشهرة، وأدركت من تلك اللحظة أن السعادة ليست في ذلك المتاع الزائل، إنما هي في طاعة الله عز وجل: (مَنْ عمل صالحاً منْ ذكرٍ أو أنثى وَهُو مُؤمِنٌ فَلَنُحْيِينّه حياةً طيبةً ولَنَجْزِينَّهُمْ أجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُوْنَ). (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى). امتدت إجازتي عند أخي أكثر من سنتين، وأرسلتُ رسالة إلى الصحفي الذي سألني السؤال السابق، وقلت له:
الأخ........ رئيس تحرير صحيفة......... في جريدة..........
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، .. أود أن أذكّرك بالسؤال الذي سألتني فيه عن السعادة، وذلك في يوم....... وتاريخ........ وقد أجبت بالجواب التالي:....... ووعدتك أن أخبرك متى ما وجدت حرف (الدال)، والآن: يطيب لي ويسعدني ويشرفني أن أخبرك بأني قد وجدتُ حرف الدال المُتمم لاسمي حيث وجدته في الدين والدعوة.. وأصبحت الآن (سيعد) حقاً.
شاع الخبر بين الناس، وبدأ أعداء الدين والمنافقون يطلقون عليّ الإشاعات، ويرمونني بالتهم، ومنهم من قال: إنه أصبح عميلاً لأمريكا أو لروسيا... إلى غير ذلك من الإشاعات المغرضة.. كنتُ أستمعُ إلى هذه الإشاعات فأتذكر دائماً ما قوبل به الأنبياء والرسل والدعاة على مرّ العصور والدهور، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- فازداد ثباتاً وإيماناً ويقيناً، وأدعو الله دائماً: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنَا منْ لّدنك رحمة إنّك أنتَ الوَّهاب).
(4) توبة الممثلة هالة فؤاد (1)
__________
(1) مجلة (كل الناس)، العدد/85، والكواكب، العدد/2056.(3/9)
(أرى أنني ارتكبت معصية وخطأ كبيراً في حق ربي وديني، وعلى هذا الأساس أتمنى أن يغفر الله لي ويسامحني).
هذا ما قالته الممثلة (سابقاً) هالة فؤاد بعد توبتها واعتزالها الفن، وارتدائها الحجاب، وإعلانها التفرغ التام لرعاية زوجها وأولادها وبيتها، تروي قصتها فتقول:
(منذ صغري وبداخلي شعور قوي يدفعني إلى تعاليم الدين، والتمسك بالقيم والأخلاق الحميدة، وبالتحديد: عندما كنت في المرحلة الإعدادية.
كنت لا أحب حياة الأضواء، أو الظهور في المجتمعات الفنية، وكانت سعادتي الكبرى أن أظل داخل منزلي، ولكن النفس الأمارة بالسوء والنظر إلى الآخرين وتلك التبريرات الشيطانية كانت وراء اتجاهي لهذا الطريق (1).
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبتليني بمصيبة أعادتني إلى فطرتي، وتبين لي من خلالها الضلال من الهدى، في لحظ كنت فيها قاب قوسين أو أدنى من الموت، وذلك أثناء عملية الولادة الأخيرة، حيث سدت المشيمة عنق الرحم، وكان الأطباء يستخدمون معي الطلق الصناعي قبل الولادة بثلاثة أيام، وحدث نزيف شديد هدد حياتي بخطر كبير، فأجريت لي عملية قيصرية، وبعد العملية ظللت أعاني من الآلام، وفي اليوم السابع، الذي كان من المفروض أن أغادر فيه المستشفى، فوجئت بألم شديد في رجلي اليمنى، وحدث ورم ضخم، وتغير لونها، وقال لي الأطباء: إنني أصبحت بجلطة.
وأنا في هذه الظروف شعر بإحساس داخلي يقول لي: إن الله لن يرضى عنكِ ويشفيك إلا إذا اعتزلت التمثيل، لأنك في داخلك مقتنعة أن هذا التمثيل حرام، ولكنك تزينينه لنفسك، والنفس أمّارة بالسوء، ثم إنك في النهاية متمسكة بشيء لن ينفعك.
__________
(1) هكذا يراد لأجيالنا المسلمة، أن تتجه للفن والتمثيل، لتنصرف عما خلقت من أجله من عبادة الله وحده، والجهاد في سبيله، فمتى نتنبه لذلك.(3/10)
أزعجني هذا الشعور، لأنني أحب التمثيل جداً، وكنت أظن أني لا أستطيع الحياة بدونه، وفي نفس الوقت خفت أن أتخذ خطوة الاعتزال ثم أتراجع عنها مرة أخرى، فيكون عذابي شديداً.
المهم عدتُّ إلى بيتي، وبدأت أتماثل للشفاء، والحمد لله، رجلي اليمنى بدأ يطرأ عليها تحسن كبير، ثم فجأة وبدون إنذار انتقلت الآلام إلى رجلي اليسرى، وقد شعرت قبل ذلك بآلام في ظهري، ونصحني الأطباء بعمل علاج طبيعي، لأن عضلاتي أصابها الارتخاء نتيجة لرقادي على السرير، وكانت دهشتي أن تنتقل الجلطة إلى القدم اليسرى بصورة أشد وأقوى من الجلطة الأولى.
كتب لي الطبيب دواء، وكان قوياً جداً، وشعرت بآلام شديدة جداً في جسمي، واستخدم معي أيضاً حقناً أخرى شديدة لعلاج هذه الجلطة في الشرايين، ولم أشعر بتحسن، وازدادت حالتي سوءاً، وهنا شعرت بهبوط حاد، وضاعت أنفاسي، وشاهدت كل من حولي في صورة باهتة، وفجأة سمعت من يقول لي قولي: (لا إله إلا الله) لأنك تلفظين أنفاسك الأخيرة الآن، فقلت: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).
نطقتُ الشهادة، وفي هذه اللحظة تحدثتُ مع نفسي وقلتُ لها: سوف تنزلين القبر، وترحلين إلى الله والدار الآخرة، فكيف تقابلين الله، وأنت لم تمتثلي لأوامره، وقضيتِ حياتك بالتبرج، والوقوف في مواقف الفتنة من خلال العمل بالتمثيل؟ ماذا ستقولين عند الحساب؟ هل ستقولين إن الشيطان قد هزمني.
نعم، لقد رأيت الموت فعلاً، ولكن للأسف، كلنا نتناسى لحظ الموت، ولو تذكر كل إنسان تلك اللحظة فسوف يعمل ليوم الحساب، يجب أن نتثقف دينياً حتى لا نكون مسلمين بالوراثة، ويجب أن نتعمق في دراسة القرآن والسنة والفقه، وللأسف فإننا نعاني من (أمية دينية)، ولابدّ من تكاتف كل الجهات لتثقيف المجتمع دينياً، ولن يتم ذلك من خلال تقديم برنامج واحد أو برنامجين.(3/11)
وباختصار، قمت بمحاكمة سريعة لنفسي في تلك اللحظات ثم شعرت فجأة بأنني أسترد أنفاسي، وبدأت أرى كل من يقف بوضوح تام.. أصبح وجه زوجي شديد الاحمرار، وبكى بشدة، وأصبح والدي في حالة يُرثى لها، أما والدتي فقد قامت في ركن من الحجرة تصل وتدعو الله.
سألت الطبيب: ماذا حدث؟!
قال: (احمدي ربنا، لقد كُتب لك عُمر جديد).
بدأت أفكر في هذه الحادثة التي حدثتْ لي وأذهلتِ الأطباء بالإضافة إلى من حولي... فكرت في الحياة كم هي قصيرة، ولا تستحق منا كل هذا الاهتمام، فقررت أن أرتدي الحجاب وأكون في خدمة بيتي وأولادي، والتفرغ لتنشئتهم النشأة الصحيحة، وهذه أعظم الرسالات).
وهكذا عادت هالة إلى ربها، وأعلنت قرارها الأخير باعتزال مهنة التمثيل، تلك المهنة المهينة التي تجعل من المرأة دمية رخيصة يتلاعب بها أصحاب الشهوات وعبيد الدنيا، إلا أن هذا القرار لم يَرق لكثير من أولئك التجار (تجار الجنس) فاتهموها بالجنون، وأنها إنما تركت التمثيل بسبب المرض وعجزها عن المواصلة، فترد على هؤلاء وتقول:
(إن هناك في (عالم الفن) مَن هم أكثر مني (نجومية)!! شهرةً، وقد تعرضوا لتجارب أقسى كثيراً مما تعرضتُ له، ولكنهم لم يتخذوا نفس القرار).
ثم تضيف: (والغريب أن الوسط الفني) قد انقسم أمام قراري هذا إلى قسمين: فالبعض قدم لي التهنئة، والبعض الآخر اتهموني بالجنون، فإذا كان الامتثال لأوامر الله جنوناً، فلا أملك إلا أن أدعو لهم جميعاً بالجنون الذي أنا فيه).
وفي معرض حديثها عن حاله قبل التوبة، وموقفها من زميلاتها اللاتي سبقنها إلى التوبة والالتزام تقول:
(لقد كنت أشعر بمودة لكل الزميلات اللاتي اتخذن مثل هذا القرار، كهناء ثروت، وميرفت الجندي... وكنت أدعو الله أن يشرح لما يحب، وأن يغلقه عما لا يحب، وقد استجاب الله دعائي وشرح صدري لما يحب).
وفي ختام حديثها تقول:(3/12)
(هالة فؤاد الممثلة توفيت إلى غير رجعة، وهالة فؤاد الموجودة حالياً لا علاقة لها بالإنسانة التي رحلت عن دنيانا).
هذه هي قصة الممثلة هالة فؤاد مع الهداية كما ترويها بنفسها، ونحن بانتظار المزيد من العائدين إلى الله من (الفنانين) وغيرهم، اللاحقين بركب الإيمان قبل فوات الأوان، فمن العائد الجديد يا ترى؟؟
(5) توبة مفحط مشهور (1)
(يا شباب الإسلام: لن تجدوا السعادة في التفحيط، ولا في السفر والمخدرات، لن تجدوها أو تشموا رائحتها إلا في الالتزام والاستقامة على دين الله).
هذا ما قاله المفحط المشهور سابقاً... (أبو خالد) بعد أن منّ الله عليه بالهداية، بعد رحلة طويلة مؤلمة، مليئة بالعجائب والمغامرات، يحدثنا عنها فيقول:
أنا شاب نشأت في بيت محافظ نوعاً ما، كنت متفوقاً في دراستي، وفي بداية المرحلة الثانوية حاول مجموعة من الشباب الصالحين في لمدرسة ضمي إليهم أنا وصديق لي خوفاً علينا من رفقاء السوء، ونظراً لصغر سني، وجهلي بما ينفعني، رفضت الانضمام إليهم، وكنت أحاول التهرب منهم، ومن الطبيعي أن يتلقفني رفقاء السوء، وما أكثرهم في هذا الزمان، وفي كل زمان، ومما زاد الأمر خطورةً أن والدي -عفا الله عنه- اشترى لي سيارةً، وإنني -بهذه المناسبة- أذكّر الآباء وأولياء الأمور بأن يتقوا الله في أولادهم، وألا يهيئوا لهم أسباب الفساد والانحراف، ومنها السيّارة ،لاسيما من كانوا في سن المراهقة، فهذه نصيحة مجرب، وفي المثل: (أسأل مجرب ولا تسأل حكيم).
المهم: تطورت الأمور، واشترى لي أبي سيارة جديدة، وازداد عدد الشلة (شلة المصالح)، ورسبت سنتين متتاليتين في السنة الأولى من المرحلة الثانوية بسبب الهروب المستمر من المدرسة.
__________
(1) كتبها لي بنفسه جزاه الله خيراً.(3/13)
وفي تلك السنة كانت ظاهرة التفحيط قد بلغت أوج قوتها وانتشارها، فتعلمت التفحيط على أيدي رفقاء السوء، وأنا حين أذكر التفحيط، أذكر ما يُجر إليه من مشكلات ومصائب (مخدرات، سرقات، فواحش... الخ) فكما أن الخمر أم الخبائث، فالتفحيط هو أبوها، ولكن بحمد الله وفضله، ثم بفضل أبي وإخواني الذين أفاقوا من سباتهم وانتبهوا لي حيث سارع أحد إخواني بنقلي إلى مدرسة أخرى، فبدأت أهتم بالدراسة نوعاً مّا، وابتعدتُ عن كثير من الخبائث التي تصاحب التفحيط، كالمخدرات وغيرها، وإن كنت مصراً على التفحيط ومعاصٍ أخرى، أسأل الله عفوه ومغفرته.
واصلت مسيرتي في التفحيط حتى أصبحتُ رمزاً من رموزه المشهورين الذين يشار إليها بالبنان، وكثر حولي الأصدقاء والمحبون والمعجبون!! حتى الأموال والسيارات كنت أستطيع أن أحصل عليها بكل يسر وسهولة عن طريق المعجبين!!
ولكني مع هذا كله، لم أجد السعادة التي كنتُ أبحث عنها، أبتسمُ وأضحكُ في نهاري، وفي الليل أبكي وأحزن على واقعي الأليم، كنت أشعر أن بداخلي منادياً يناديني يقول:
(هذه ليست رسالتك في الحياة)، فإذا خرجتُ من المنزل، أجد التشجيع والتبجيل والتعظيم، فضلاً عن تضليل الشيطان وكيده، فأتجاهل ذلك المنادي الصارم.
وإني اليوم أوجه هذا السؤال لكل شاب ملتزم: أين أنتم عنا وعن أمثالنا؟ لماذا تركتمونا نتخبط في ذلك الوقت العصيب؟ ألا تزكون علمكم؟ ألا تشكرون نعمة الله عليكم بالهداية فتهدون غيركم؟.
نعم أين أنتم من الشباب الضائع؟ والله لا أذكر أن أحداً من الصالحين جاء لمناصحتي وإنقاذي من ذلك الضلال والضياع إلا رفيقاً سابقاً منّ الله عليه بالهداية فحاول نصحي وهدايتي.
المهم أني واصلت دراستي باجتهاد وتخرجتُ من الثانوية بتقدير (جيد) مع إصراري على التفحيط حتى أن رجال المرور لما جاءوا يبحثون عني في المدرسة تعجب المدير، وقال: إن هذا الطالب من أحسن الطلاب خلقاً وحضوراً.(3/14)
وانتقلتُ إلى المرحلة الجامعية، والتحقت بالجامعة، وكان قريب لي يدرس في أمريكا يضغط عليّ لإكمال دراستي هناك عنده فكنتُ أرفض بشدة، فما زال منادي الخير يناديني ويذكرني بالله، ولكن موعد الهداية لم يحن بعد.
اتسعت شهرتي كمفحط، حتى إن بعض الصحفيين جاءني ليجري معي مقابلة صحفية فرفضت، لأنني كنت أشعر في قرارة نفسي بأني أسير في طريق خاطئ.
لماذا يجري معي مقابلة صحفية؟ هل أنا من العلماء والدعاة الذين نذروا أنفسهم، وجعلوها وقفاً له سبحانه؟ أم أنا من المجاهدين في سبيله؟ ماذا قدمت لديني وأمتي؟
ولكن هذه حال كثير من كتّاب صحفنا ومجلاتنا – وللأسف الشديد – إنهم يتجاهلون أموراً عظيمة، وقضايا حساسة، ويجرون خلف أمور تافهة هامشية بغرض الإثارة، وترويج بضاعتهم على حساب أوقات الناس وعقولهم.
وتطورت الأمور، وأصبحت أملك سيارة خاصة للتفحيط، حصلت على ثمنها من طريق بعض المعجبين ومن طريق الحرام، ولا عجب، فالتفحيط يجرّ إلى أكبر من ذلك.
وفي تلك الفترة التي بلغت فيها قمة الشهرة، -قدّر الله جلّ وعلا- وتوفي صديق لي -وهو من كبار المفحطين -بحادث انقلاب، فثبتُ واستقمتُ أياماً قليلا، ثم عدتُّ إلى ما كنتُ عليه وكأن شيئاً لم يكن.
ثم إني وجدتُّ (شلة) متطورة ومتخضرة -كما يدّعون- (شلة بانكوك ومانيلا)، وبدأت أسافر إلى الخارج، أطلب السعادة في أحضان المومسات (1)
__________
(1) هذا هو واقع بعض الشباب والشيب الذين يسافرون إلى الخارج طلباً للمتعة الحرام، وينفقون الأموال الطائلة من أجل ذلك، في الوقت الذي يأتي فيه رجال تلك البلاد ليعملوا سائقين وعمالاً وخدماً فربما مارسوا نفس الجريمة –وبدون مقابل- مع محارم أولئك وبناتهم وأخواتهم جزاءً وفاقاً، وقد جاء في الأثر: (عفوا تعف نساءكم)، ويقول الشاعر:
عفوا تعف نساؤكم في الحرم
وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دَيْنٌ فإن أقرضته
كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
من يزنِ في قوم بألفي درهم
في بيته يُزنى ولو بالدرهم
وهذا أمر مجرب ومعروف، والوقائع تشهد بذلك، إلا من تاب توبة صادقة. فإن الله تواب رحيم. فصونوا أعراضكم يا الإسلام وعليكم بالزواج فإنه هو العلاج.(3/15)
وشرب المسكرات، ولكن القضية هي هي: سكر وضحك وفرح في الليل، وهمّ وغمّ وحزن في النهار، قال تعالى: (ومن أعرضَ عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى).
وقد كنتُ في أيام الدراسة الجامعية تعرفتُ على شاب أصغر مني سناً، فكانت علاقتنا تزداد مع الأيام حتى أننا لا نستطيع الافتراق أكثر من أسبوع، ولم تكن تلك الصداقة لله، وإنما للتعاون على الإثم والعدوان، مع أنها لا تخلو من بعض الخير.
وفي السنة الثالثة من المرحلة الجامعية، بدأ منادي الخير يقوي في قلبي ويذكرني ببعض أصدقائي الذين منّ الله عليهم بالهداية فبدءوا يتعهدونني بالزيارة والنصيحة، ومن جهة أخرى، أشرق في بيتنا نور جديد، وغرّد داع للهدى، فأختي بدأت في طريق الالتزام، فبدأت تناصحني وترغبني في الهداية.
ووالله يا أحبة لقد كان المنادي يقوى، والظروف تتحسن من حولي، ولكنّ موعد الهداية لم يحن بعد.
وفي ذلك العام ذهبتُ بالأهل إلى مكة في شهر رمضان المبارك، وفي العشر الأواخر من رمضان عشتُ حياة جديدة أقلعتُ فيها عن كثير من المعاصي، واستبدلتُ بالدخان السواك، وبالأغاني القرآن، وحافظتُ على صلاة التراويح والقيام والرفقة الطيبة.
هذه هي السعادة الحقيقية، التي أبحثُ عنها طوال عمري، حياة نقية، طاهرة زكية، ما أحلاها من لذة عندما تشعر أنك تنتصر على نفسك الأمّارة بالسوء، وتدحض الشيطان، وترضي الرحمن.
قد تظنونها النهاية، لا والله، فما زال موعد الهداية لم يحن بعد.
عدتُ إلى الرياض وأنا عازم على السير في تلك الطريق، وكنتُ في المسجد الحرام أدعو ربي وأسأله أحد أمرين: إما أن يفتح على قلب صاحبي فيصحبني في هذا الطريق، أو أن يفرق بيننا، واستجاب الله -عز وجل- لدعائي، فبعد يوم واحد من لقائي بصاحبي حدث بيننا خلاف، وكان الفراق، ولكن -ويا للأسف- لم أجد البديل من الرفقاء الصالحين.(3/16)
وأقبلت الامتحانات، فبدأتُ بالمذاكرة، وكنتُ محافظاً على الصلاة مقلعاً عن الكبائر، مقيماً على الصغائر، فدعاني قريبي الذي يدرس في أمريكا مرةً ثانيةً للذهاب إليه في الصيف، وتعلّم اللغة الإنجليزية هناك لصعوبتها عليّ في الجامعة، فقلت في نفسي: هذه فرصة سانحة لأبتعد عن الجو الذي أعيش فيه ثم أعود بعد زمن، وأسلك الطريق المستقيم. ولكن أبى الله -عز وجل- إلا أن يتم أمره ومشيته، ففي يوم من الأيام الاختبارات دخلت قاعة الامتحان وقد نسيتُ في جيبي ورقة تتعلق بمادة الاختبار، وبعد ساعة من الزمن، لمح المراقب تلك الورقة، فأدخل يده في جيبي، وأخرجها ثم سجّل عليّ محضراً بالغش ومن ثم حرماني من دخول الامتحان في المواد المتبقية، وعندها شعرت بالظلم، وأظلمتْ الدنيا في عيني، وظننتُ أن ذلك شرٌ لي ولكن الله لا يقضي إلا خيراً، وإن كان بالنسبة لنا قد يكون شراً، فالشر المحض لا ينسب إلى الله أبداً.
خرجتُ من قاعة الامتحان غاضباً مهموماً، وانطلقتُ أبحث عما يزيل عني ذلك الهم، فانهمكتُ في سماع الغناء ومشاهدة الأفلام والمباريات وشرب الدخان، فلم أزدد إلا همّاً على هم.
كانت تلك الحادثة يوم السبت، ورحلتي إلى أمريكا يوم الأربعاء، وفي مساء السبت جاء الفرج من الله، وتنزلت رحمته، وكان موعدي مع الطهر والنقاء، والسعادة والطمأنينة، والاستجابة الحقيقية لداعي الله -عز وجل- فبينما أتناول طعام العشاء في أحد المطاعم إذ بداعي الخير يناديني مرة أخرى، ولكن في الليلة بقوة وإلحاح، يقول لي: أتذهب إلى بلاد الكفر تجالس المومسات وتتعاطى المسكرات، كيف لو أتاك هادم اللذات ومفرّق الجماعات وأنت على هذه الحال، أما أن لك أن تعود إلى طريق الاستقامة؟(3/17)
فخرجت من المطعم كالتائه الذي يبحث عن أهله، وكالأم التي تبحث عن ولدها، وكالمريض الذي يبحث عن علاجه.. فركبت سيارتي، وانطلقتُ أهيم على وجهي من شارع إلى شارع، وفتحتُ درج سيارتي فوجدتُ شريطاً للشيخ محمد المحيسني -جزاه الله عني كل خير- كان هذا الشريط قد أهدي إلىّ من قبل أحد الأصدقاء، فاستمعتُ إلى قراءة الشيخ وكان يقرأ بخشوع ويبكي، والناس من وراءه يبكون، فلم أتمالك نفسي من البكاء، فقد نزلتْ هذه الآيات على قلبي وكأني أسمعها لأول مرة.
بكيتُ بكاءً مرّاً، ثم أوقفت سيارتي على جانب الطريق، وأخرجت علبة (السجائر) وأشرطة اللهو والباطل، وأعدمتها بدون محاكمة، واعتزمت على التوبة النصوح والاستقامة على دين الله، وأن أكون داعية خير بعد أن كنت داعية شر وفساد.
عدتُّ إلى البيت، فاستقبلني أبي، ولاحظ على وجهي تغيراً وخشوعاً ونوراً فاحتضنني وضمني إلى صدره، فبكيتُ بين يديه، واعتذرتُ له عمّا سببته له هو ووالدتي وإخواني من مصائب ومشكلات، ففرحوا بتوبتي فرحاً شديداً.
وبعد التوبة كان من الطبيعي أن يضاعف الشيطان جهوده ويكلف أولياؤه وجنده من الجن والإنس بالعمل -ولو (خارج دوام)- من أجل إضلالي وإعادتي إلى مدرسته، ولكن الله -سبحانه- ثبتني فواجهت تعنيف الشيطان من داخلي وهو يقول لي: لِمَ لم تذهب -يا غبي- إلى الخارج حيث الحرية (1) والانطلاق..، ولكني كنت قد قطعتُ على نفسي خط الرجعة، فأول مكان ذهبت إليه بعد توبتي هو محل الحلاقة حيث أزلتُ شعر رأسي بالكلية، حتى صديق العزيز لم أستجب له وقد جاءني يذكرني بالأيام الماضية من حياتي، ويرغبني فيها، وصبرتُ على الغم والهم والحزن الذي أصابني في بداية الأمر حتى استحال ذلك وانقلب إلى سرور وطمأنينة وراحة بال.
__________
(1) إنها ليست حرية، بل فوضى، وعبودية للشيطان وأتباعه وللنفس الأمارة بالسوء.(3/18)
وصدق الإمام ابن القيم -رحمه الله- حين قال: (إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد، مَن تركها لغير الله، أما من تركها صادقاً مخلصاً من قبله لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؟ فإن صبر على تلك المشقة قليلاُ استحالت لذة...(1)
وتعرفت على مجموعة من الشباب الأخيار، وازداد إيماني بالله ويقيني به سبحانه، وتفضل الله عليّ بمنة أخرى ألا وهي هداية صديقي العزيز على يديّ.
وفي ختام حديثي، أوجهها نصيحة صادقة لجميع الشباب فأقول: يا شباب الإسلام، لن تجدوا السعادة في السفر، ولا في المخدرات والتفحيط، لن تجدوها أو تشموا رائحتها إلا في الالتزام والاستقامة.. في خدمة دين الله.. في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ماذا قدمتم -يا أحبة- للإسلام؟ أين آثاركم؟ أهذه رسالتكم؟
شباب الجيل للإسلام عودوا ... فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سرُّ نهضته قديماً ... وأنتم فجره الزّاهي الجديدُ
أسأل الله لي ولكم الثبات، وصلى الله على نبينا محمد..
أبو خالد
(6) توبة أشهر عارضة أزياء فرنسية (2)
(فابيان) عارضة الأزياء الفرنسية، فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، جاءتها لحظة الهداية وهي غارقة في عالم الشهرة والإغراء والضوضاء.. انسحبت في صمت.. تركتْ هذا العالم بما فيه، وذهبتْ إلى أفغانستان لتعمل في تمريض جرحى المجاهدين الأفغان وسط ظروف قاسية وحياة صعبة.
تقول فابيان:
(لولا فضل الله عليّ ورحمته بي لضاعت حياتي في عالم ينحدر فيه الإنسان ليصبح مجرد حيوان كل همه إشباع رغباته وغرائزه بلا قيم ولا مبادئ).
ثم تروي قصتها فتقول:
__________
(1) كتاب الفوائد، ص 141.
(2) جريدة المسلمون العدد 238.(3/19)
(منذ طفولتي كنت أحلم دائماً بأن أكون ممرضة متطوعة، أعمل على تخفيف الآلام للأطفال المرضى، ومع الأيام كبرت، ولفتّْ الأنظار بجمالي ورشاقتي، وحرّضني الجميع -بما فيهم أهلي- على التخلي عن حلم طفولتي، واستغلال جمالي في عمل يدرّ عليّ الربح المادي الكثير، والشهرة والأضواء، وكل ما يمكن أن تحلم به أية مراهقة، وتفعل المستحيل من أجل والوصول إليه.
وكان الطريق أمامي سهلاً -أو هكذا بدا لي-، فسرعان ما عرفت طعم الشهرة، وغمرتني الهدايا الثمينة التي لم أكن أحلم باقتنائها.
ولكن كان الثمن غالياُ.. فكان يجب عليّ أولاً أن أتجرد من إنسانيتي، وكان شرط النجاح وتألق أن أفقد حساسيتي وشعوري، وأتخلى عن حيائي الذي تربيت عليه، وأفقد ذكائي، ولا أحاول فهم أي شيء غير حركات جسدي، وإيقاعات الموسيقى، كما كان عليّ أن أحرم من جميع المأكولات اللذيذة وأعيش على الفيتامينات الكيميائية والمقويات والمنشطات، وقبل كل ذلك أن أفقد مشاعري تجاه البشر... لا أكره.. لا أحب... لا أرفض أي شيء.
إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول.. فقد تعلمتُ كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل، لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس، فكنتُ بذلك، بل كلما تألّقت العارضة في تجردها من بشيريتها وآدميتها زاد قدرها في هذا العالم البارد... أما إذا خالفت أيّاً من تعاليم الأزياء فتُعرِّض نفسها لألوان العقوبات التي يدخل فيها الأذى النفسي والجسماني أيضاً.
وعشت أتجول في العالم عارضة لأحدث الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل أو حياء).
وتواصل (فابيان) حديثها فتقول:
(لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ -إلا من الهواء والقسوة- بمهانة النظرات واحتقارهم لي شخصيّاً واحترامهم لما أرتديه.(3/20)
كما كنت أسير وأتحرك.. وفي كل إيقاعاتي كانت تصاحبني كلمة (لو).. وقد علمت بعد إسلامي أن لو تفتح عمل الشيطان.. وقد كان ذلك صحيحاً، فكنا نحيا في عالم الرذيلة بكل أبعادها، والويل لمن تعترض عليها وتحاول الاكتفاء بعملها فقط).
وعن تحولها المفاجئ من حياة لاهية عابثة إلى أخرى جادة نقول:
(وكان ذلك أثناء رحلة لنا في بيروت المحطمة، حيث رأيتُ كيف يبني الناس هناك الفنادق والمنازل تحت قسوة المدافع، وشاهدت بعيني انهيار مستشفى للأطفال في بيروت، ولم أكن وحدي، بل كان معي زميلاتي من أصنام البشر وقد اكتفين بالنظر بلا مبالاة كعادتهن.
ولم أتمكن من مجاراتهن في ذلك.. فقد انقشعت عن عيني في تلك اللحظة غُلالة الشهرة والمجد والحياة الزائفة التي كنت أعيشها، واندفعت نحو أشلاء الأطفال في محاولة لإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة.
ولم أعد إلى رفاقي في الفندق حيث تنتظرني الأضواء، وبدأت رحلتي نحو الإنسانية حتى وصلت إلى طريق النور وهو الإسلام.
وتركتُ بيروت وذهبتُ إلى باكستان، وعند الحدود الأفغانية عشت الحياة الحقيقية، وتعلمتُ كيف أكون إنسانة.
وقد مضى على وجودي هنا ثمانية أشهر قمت فيها بالمعاونة في رعاية الأسر التي تعاني من دمار الحروب، وأحببت الحياة معهم، فأحسنوا معاملتي.
وزاد اقتناعي بالإسلام ديناً ودستوراً للحياة من خلال معايشتي له، وحياتي مع الأسر الأفغانية والباكستانية، وأسلوبهم الملتزم في حياتهم اليومية، ثم بدأت في تعلّم اللغة العربية، فهي لغة القرآن، وقد أحرزت في ذلك تقدماً ملموساً.
وبعد أن كنت أستمد نظام حياتي من صانعي الموضة في العالم، أصبحت حياتي تسير تبعاً لمبادئ الإسلام وروحانياته.(3/21)
وتصل (فابيان) إلى موقف بيوت الأزياء العالمية منها بعد هدايتها، وتؤكد أنها تتعرض لضغوط دنيوية مكثفة، فقد أرسلوا عروضاً بمضاعفة دخلها الشهري إلى ثلاثة أضعافه فرفضت بإصرار.. فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليها هدايا ثمينة لعلها تعود عن موقفها وترتد عن الإسلام.
وتمضي قائلة:
(ثم توقفوا عن إغرائي بالرجوع.. ولجئوا إلى محاولة تشويه صورتي أمام الأسر الأفغانية، فقاموا بنشر أغلفة المجلات التي كانت تتصدرها صوري السابقة أثناء عملي كعارضة للأزياء، وعلقوها في الطرقات وكأنهم ينتقمون من توبتي، وحاولوا بذلك، الوقيعة بيني وبني أهلي الجدد، ولكن خاب ظنهم والحمد لله).
وتنظر (فابيان) إلى يديها وتقول:
(لم أكن أتوقع يوماً أن يدي المرفهة التي كنت أقضيها وقتاً طويلاً في المحافظة على نعومتها سأقوم بتعريضها لهذه الأعمال الشاقة وسط الجبال، ولكن هذه المشقة زادت من نصاعة وطهارة يدي، وسيكون لها حسن الجزاء عند الله سبحانه وتعالى إن شاء الله).
(7) توبة شابين في المطار على يد أحد المشايخ (1)
(على حضرات الركاب المسافرين على الرحلة رقم ...، والمتوجهة إلى ....، التوجه إلى صالة المغادرة، استعداداً للسفر).
دوّي هذا الصوت في جنبات مبنى المطار، أحد الدعاة كان هناك جالساً في الصالة، وقد حزم حقائبه، وعزم على السفر إلى بلاد الله الواسعة للدعوة إلى الله –عز وجل- سمع هذا النداء فأحس بامتعاض في قلبه، إنه يعلم لماذا يسافر كثير من الناس إلى تلك البلاد، وخاصةً الشباب.
وفجأة لمح هذا الشيخ الجليل شابين في العشرين من عمرهما أو تزيد قليلاً، وقد بدا من ظاهرهما ما يدل على أنهما لا يريدان إلا المتعة الحرام من تلك البلاد التي عرفت بذلك.
__________
(1) هذه القصة سمعتها من الشيخ أحمد الطويل وفقه الله.(3/22)
(لابدّ من إنقاذهما قبل فوات الأوان) قالها الشيخ في نفسه، وعزم على الذهاب إليهما ونصحهما، فوقف الشيطان في نفسه، وقال له: ما لك ولهما؟! دعهما يمضيان في طريقهما ويرفها عن نفسيهما، إنهما لن يستجيبا لك).
ولكن الشيخ كان قوي العزيمة، ثابت الجأش، عالماً بمداخل الشيطان ووساوسه، فبصق في وجه الشيطان، ومضى في طريقه لا يلوي على شيء، وعند بوابة الخروج، استوقف الشابين بعد أن ألقى عليهما التحية، ووجه إليهما نصيحة مؤثرة، وموعظة بليغة، وكان مما قاله لهما: ما ظنكما لو حدث خلل في الطائرة، ولقيتما -لا قدر الله- حتفكما وأنتما على هذه النية قد عزمتما على مبارزة الجبار -جل جلاله-، فأي وجه ستقابلان ربكما يوم القيامة؟؟).
وذرفت عينا هذين الشابين، ورق قلباهما لموعظة الشيخ، وقاما فوراً بتمزيق تذاكر السفر، وقالا: يا شيخ: لقد كذبنا على أهلينا، وقلنا لهم إننا ذاهبان إلى مكة أو جدة، فكيف الخلاص؟ ماذا نقول لهم؟.
وكان مع الشيخ أحد طلابه، فقال: اذهبا مع أخيكما هذا، وسوف يتولى إصلاح شأنكما.
ومضى الشابان مع صاحبهما وقد عزما على أن يبيتا عنده أسبوعاً كاملاً، ومن ثم يعود إلى أهلهما.
وفي تلك الليلة، وفي بيت ذلك الشاب (تلميذ الشيخ) ألقى أحد الدعاة كلمة مؤثرة زادت من حماسهما، وبعدها عزم الشابان على الذهاب إلى مكة لأداء العمرة، وهكذا: أرادا شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، فكان ما أراد الله -عز وجل-.
وفي الصباح، وبعد أن أدى الجميع صلاة الفجر، انطلق الثلاثة صوب مكة -شرفها الله- بعد أن أحرموا من الميقات، وفي الطريق كانت النهاية.. وفي الطريق كانت الخاتمة.. وفي الطريق كان الانتقال إلى الدار الآخرة، فقد وقع لهم حادث مروّع ذهبوا جميعاً ضحية، فاختلطت دماؤهم الزكية بحطام الزجاج المتناثر، ولفظوا أنفاسهم الأخيرة تحت الحطام وهو يرددون تلك الكلمات الخالدة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. الخ).(3/23)
كم كان بين موتهما وبين تمزيق تذاكر سفرهما لتلك البلاد المشبوهة؟! إنها أيام، بل ساعات معدودة، ولكن الله أراد لهما الهداية والنجاة، ولله الحكمة البالغة سبحانه.
أخي المسلم: إذا نازعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى معصية الله ورسوله فتذكر هادم اللذات وقاطع الشهوات ومفرّق الجماعات، الموت، واحذر أن يأتيك وأنت على حال لا ترضي الله -عز وجل- فتكون من الخاسرين.
وإذا خَلَوتَ بريبة في ظُلمةٍ ... والنفس داعية إلى العصيان
فاستحيي من نظرِ الإله وقل لها ... إن الذي خَلَقَ الظلام يراني
شتان بين من يموت وهو في أحضان المومسات، ومن يموت وهو ساجد لرب الأرض والسماوات.
شتان بين من يموت وهو عاكف على آلات اللهو والفسوق والعصيان، ومن يموت وهو ذاكر لله الواحد الديان، فاختر لنفسك ما شئت.
(8) توبة شاب بعد رؤية ليوم القيامة (1)
ع. أ. غ. شاب يافع، لديه طموح الشباب، كان يعيش مثل بعض أقرانه لا يأبهون بأوامر الله، وذات ليلة أراد الله به خيراً، فرأى في المنام مشهداً أيقظ من غفلته، وأعاده إلى رُشده، يحدثنا هذا الشاب عن قصته فيقول:
__________
(1) جريد البلاد، العدد 9198، إعداد: عبد العزيز الحمدان.(3/24)
في ليلة من الليالي ذهبتُ إلى فراشي كعادتي لأنام، فشعرتُ بمثل القلق يساورني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ونمتُ، فرأيتُ فيما يرى النائم، أن شيئاً غريباً وضخماً قد وقع من السماء على الأرض.. لم أتبين ذلك الشيء، ولا أستطيع وصفه، فهو مثل كتلة النار العظيمة، رأيتها تهوى فأيقنتُ بالهلاك... أصبحت أتخبط في الأرض، وأبحث عن أي مخلوق ينقذني من هذه المصيبة... قالوا هذه بداية يوم القيامة، وأن الساعة قد وقعتْ، وهذه أولى علاماتها... فزِعت، وتذكرت جميع ما قدمت من أعمال، الصالح منها والطالح، وندمت أشد الندم.. قرضت أصابعي بأسناني حسرةً على ما فرطتُ في جنب الله.. قلت والخوف قد تملكني ماذا أفعل الآن؟ وكيف أنجو؟... فسمعت منادياً يقول: اليوم لا ينفع الندم.. سوف تُجازَى بما عملت.. أين كنتَ في أوقات الصلوات؟ أين كنتَ عندما أتتك أوامر الله؟ لِمَ لمْ تمتثل الأوامر وتجتنب النواهي؟ كنتَ غافلاً عن ربك...قضيتَ أوقاتك في اللعب واللهو والغناء، وجئتَ الآن تبكي.. سوف ترى عذابك.
زادت حسرتي لما سمعت المنادي يتوعدني بالعذاب.. بكيتُ وبكيتُ ولكن بلا فائدة.. وفي هذه اللحظة العصيبة استيقظت من نومي.. تحسست نفسي فإذا أنا على فراشي.. لم أصدق أني كنت أحلم فقط حتى تأكدت من نفسي.. تنفست الصعداء، ولكن الخوف ما زال يتملكني، ففكرت، وقلت في نفسي: والله إن هذا إنذار لي من الله.. ويوم الحشر لابدّ منه، إذن لماذا أعصي الله... لِمَ لا أنتهي عما حرم الله.. أسئلة كثيرة جالت في خاطري ولم أجد إجابة واحدة: عُدْ إلى الله حتى تنجو في ذلك اليوم العظيم.
أصبح الصباح، وصليت الفجر، فوجدتُ حلاوة في نفسي.. وفي ضحى ذلك اليوم نزلتُ إلى سيارتي.. نظرت بداخله فإذا هي مليئة بأشرطة الغناء.. أخرجتها واكتفيت ببعض الأشرطة الإسلامية النافعة.
بقيتُ على هذه الحال، في كل يوم أتقدم خطوة إلى طريق الهداية التي أسأل الله أن يثبتني وإياكم عليها.(3/25)
واليوم ما أكثر المغترين بهذه الدنيا الفانية، والغافلين عن ذلك اليوم الرهيب الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فهل من عودة إلى الله قبل الموت.
(9) توبة شاب غافل بعد وفاة أخته المؤمنة (1)
يقول صاحب القصة:
(كنت شاباً غافلاً عن الله، بعيداً عنه، غارقاً في لُجَج المعاصي والآثام، فلما أراد الله لي الهداية، قدّر لي حادثاً أعادني إلى رشدي، وردّني إلى صوابي.. وإليكم القصة:
في يوم من الأيام، وبعد أن قضينا أياماً جميلة في نزهة عائلية في مدينة الدمام، انطلقتُ بسيارتي عبر الطريق السريع بين الدمام والرياض ومعي أخواتي الثلاث، وبدل أن أدعو بدعاء السفر المأثور، استفزني الشيطان بصوته، وأجلب عليّ بخَيله ورَجله، وزين لي سماع لهو الحديث المحرم لأظل سادراً غافلاً عن الله.
لم أكن حينذاك أحرص على سماع إذاعة القرآن الكريم أو الأشرطة الإسلامية النافعة للمشايخ والعلماء، لأن الحق والباطل لا يجتمعان في قلب أبداً.
إحدى أخواتي كانت صالحة مؤمنة، ذاكرة لله، حافظة لحدوده.. طلبتْ مني أن أسكتَّ صوت الباطل، وأستمع إلى صوت الحق، ولكن ... أنى لي أن أستجيب لذلك وقد استحوذ عليّ الشيطان، وملك عليّ جوارحي وفؤادي، فأخذتني العزة بالإثم ورفضتُ طلبها، وقد شاركني في ذلك أختاي الأخريان.. وكررتْ أختي المؤمنة طلبها فازددتُّ عناداً وإصراراً، وأخذنا نسخر منها ونحتقرها، بل إني قلتُ لها ساخراً: أن أعجبك الحال وإلا أنزلتُكِ على قارعة الطريق.
فصمّتت أختي على مضض، وقد كرهتْ هذا العمل بقلبها، وأدّت ما عليها، والله -سبحانه- لا يكلف نفساً إلا وسعها.
__________
(1) هذه القصة سمعتها من صاحبها مختصرة.(3/26)
وفجأةً .. وبقدر من الله سبق، انفجرت إحدى عجلات السيارة ونحن نسير بسرعة شديدة، فانحرفت السيارة عن الطريق، وهوت في منحدر جانبي، فأصبحت رأساً على عقب بعد أن انقلبتْ عدة مرات، وأصبحنا في حال لا يعلمها إلا الله العلي العظيم، فاجتمع الناس حول سيارتنا المنكوبة، وقام أهل الخير بإخراجنا من بين الحطام والزجاج المتناثر.. ولكن... ما الذي حدث؟
لقد خرجنا جميعاً سالمين -إلا من بعض الإصابات البسيطة- ما عدا أختي المؤمنة.. أختي الصابرة.. أختي الطيبة.
فقد لفظت أنفاسها الأخيرة تحت الركام.
نعم.. لقد ماتت أختي الحبيبة التي كنا تستهزئ بها، واختارها الله إلى جواره، وإني لأرجو أن تكون في عداد الشهداء الأبرار وأسأل الله -عز وجل- أن يرفع منزلتها ويُعلي مكانتها في جنات النعيم.
أما أنا فقد بكيتُ على نفسي قبل أن أبكي إلى أختي، وانكشف عني الغطاء، فأبصرت حقيقة نفسي وما كنتُ فيه من الغفلة والضياع، وعلمت أن الله -جل وعلا- قد أراد بي خيراً وكتب لي عمراً جديداً، لأبدأ حياة جديدة ملؤها الإيمان والعمل الصالح.
أما أختي الحبيبة فكلما تذكرتها أذرف دموع الحزن والندم، وأتساءل في نفسي: هل سيغفر الله لي؟ فأجد الجواب في كتاب الله -عز وجل- في قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).
وختاماً أحذّركم -إخواني في الله- من الغفلة، فأفيقوا أيها الغافلون، وخذوا من غيركم العبرة قبل أن تكونوا لغيركم عبرة.
فيا غافلاً في غمرة الجهل والهوى *** صريع الأماني عن قريبٍ ستندم
أفقْ قد دنا اليوم الذي ليس بعده *** سوى جنة أو حرَّ نار تضرَّم
وبالسنة الغرّاء كن متمسكاً *** هي العُروة الوُثقى التي ليس تُفصم
تمسّك بها مَسك البخيل بماله *** وعُضَّ عليها بالنَّواجذ تسلم
(10) توبة شاب بعد ذهاب بصره(3/27)
كان ينظر إلى الحرام، فلما فقدَ بصرَه عرف قدر نعمة الله عليه، فتاب إلى الله وندم على ما مضى.
يقول هذا التائب:
لا أحد يدرك قيمة النعمة حتى يفقدها.
لقد كنتُ من المولعين جدّاً بالقراءة... كنت لا أستغني عن القراءة يومياً لمدة تزيد على خمس ساعات.. لا أترك جريدة أو مجلة أو كتاباً جديداً إلا وأقرأه حرفاً حرفاً حتى أدمنت هذه الهواية، وصارت جزءاً من حياتي اليومية.
وفي يوم من الأيام كنت أقود سيارتي بسرعة مذهلة، فانحرفت بي السيارة نتيجة للسرعة القصوى التي أسير بها وتدحرجت كالكرة، وارتطمتْ بأحد الأعمدة الضخمة، وأصبتُ في رأسي بكدمات قوية، وقد عولجت لفترة طويلة في المستشفى، وعلى الرغم من جود الأطباء وتوافر الأجهزة الطبية المتطورة، إلا أن إرادة الله -جلّت قدرته- كانت فوق ذلك، فقد قدّر الله علي بفقد البصر، ولم تنجح أية حيلة أو طريقة للعلاج، وأصبحت كفيفاً لا أقدر على ممارسة هوايتي التي نَمتْ معي منذ الصغر، وأصبحت جزءاً من كياني وحياتي اليومية.
ووسط هذه المعاناة الشديدة بفقد هذه النعمة الكبرى، كان ذكر الله والدعاء، والصبر والاحتساب، والاستماع المنتظم لتلاوة القرآن الكريم هو المخرج الوحيد بفضل الله تعالى.
وأنني هنا أنقل للجميع هذه التحولات في حياتي، لأذكرَ إخواني المسلمين بضرورة تقوى الله، والاستفادة من كل ملكة وجارحة فيما يرضي الله.. لقد كنت في زمن مضى من المفرطين -للأسف- فكنت معرضاً عن تلاوة كتاب الله والتمعن فيه، وأختلس النظرات المحرمة.. واليوم أعضُّ أصابع الندم على ما فَرط مني، وأرفع كفي إلى الله نادماً، تائباً لوجه الله تعالى، وأسوق حكايتي هنا لعل فيها عبرة للآخرين.
التائب: إبراهيم. ع. ن.
(11) توبة مدمن (1)
يقول هذا التائب:
(كان المنعطف الأول في حياتي في سن مبكرة جداً حيث كان عمري آنذاك ست سنوات لا غير، وقبل أن أعي الحياة وأدركها كما ينبغي صحوت على (مأساة عائلية).
__________
(1) عكاظ، العدد 8641.(3/28)
لقد طلّق والدي أمي، وانفصلتْ عنه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ازداد الأمر تعقيداً حينما قررتْ أمي أن تتزوج.. واختار أبي زوجة أخرى، فأصبحت تائهاً، ضائعاً بين الاثنين.. وكما يقولون: (أمران أحلاهما مر).. فعند أبي كنت أقابل بمقالب زوجة أبي، أما عند أمي فكان زوج أمي يكشر عن أنيابه دائماً في وجهي، ومن الطريف أنني كنت دائماً حاضراً عند كليهما، وكنت أيضاً غائباً عن كليهما.. فكنتُ الحاضر الغائب، والموجود المفقود.
ومع هذه الظروف العائلية غير الطبيعية، ومع التفكك والاضمحلال الأسري، سقطتُ في هوة الإدمان مع رفقاء السوء، ووجدتُ معهم الملاذ الذي افتقدته، والعطف والاهتمام اللذين حرمت منهما، طبعاً لم يكن عطفاً واهتماماً خالصاً لوجه الله، وإنما من أجل الوصول إلى أغراضهم الخبيثة.
أصبحتُ أقضي معظم وقتي مع أولئك الأشرار ما بين شرب وتعاطٍ وإدمان، وحينما يسألني أبي أين كنت؟ أقول له عند أمي، وحينما تستفسر عن غيابي، أقول لها كنت عند أبي، وهكذا يظن كلاهما أنني موجود، وكنت مفقوداً ويعتقد كلاهما أني حاضر، وكنت في تلك الأثناء الغائب الوحيد.. الغائب عن الحياة.. الساقط في التيه والضياع.
كان هذا هو المنعطف الذي ألقى بي في هاوية الإدمان، ولكن كيف خرجت إلى شط الأمان؟
تلك قصة أخرى سأرويها لكم:
ففي ليلة من الليالي، وبعد سهرة تطايرت فيها الرؤوس، وتلاعبت بها المخدرات، خرجنا من (الوكر) لكي نتنفس الهواء العليل ليزيدنا طرباً على طرب!! ونشوة إلى نشوة!! وبينما كنا في سعادة موهومة غامرة، وغيابات كاذبة، إذ بالسيارة تنقلب عدة مرات.
كنا أربعة من الشياطين داخل السيارة، توفي الثلاثة ولم يبق إلا أنا نجوت بأعجوبة.. بفضل الله تعالى.
ومكثتُ في المستشفى عشرة أيام كاملة ما بين الحياة والموت، غيبوبة كاملة تماماً، كتلك التي كنتُ أحياها من قبل.(3/29)
وأفقتُ من الغيبوبة الصغرى عقب الحادث، على حقيقة الغيبوبة الكبرى التي كنتُ أحياها، واكتشفتْ نفسي من جديد، وشعرت بالإيمان بعد أن مات الإحساس لديّ، وعدتُ إلى الله ضارعاً مستغفراً حامداً شاكراً لأنه تولاني وأنقذني من موتتين: موت السيارة، وموت الإدمان، وخرجت من المستشفى إلى المسجد مباشرةً، وقطعتُ كل صلتي بالماضي، وأحمد الله أنني دخلتُ المسجد بدلاً من السجن، والقرآن الكريم هو أوفى صديق لي الآن يلازمني وألازمه.
هذه قصتي باختصار، وأنصح إخواني الشباب وغيرهم بالحذر من رفقاء السوء، الذين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، كما أنصحهم بالبعد عن المخدرات فإنها رأس كل خطيئة، والله الموفق.
(12) توبة شاب مجاهد (1)
أبو ثابت شاب عرف الله، فطلّق حياة العربدة والفجور، وانطلق إلى أفغانستان ليروي ببعض دمه أرض البطولة والفداء، يروي قصة توبته فيقول:
(كنا مجموعة من الشباب لا نعرف للوقت أهمية ولا للحياة هدفاً أكثر من أن نعيشها يوماً بيومٍ. وساعة بساعة، ويشاء الله، ويسبقنا قريب لي -وهو ابن خالتي سالم- إلى الله، ثم إلى الجهاد.
ومكث هناك ما شاء الله أن يمكث، ثم عاد.
عاد سالم من الجهاد شخصاً آخر، وأصبح محل احترام الجميع في العائلة وبين الأصدقاء.
وجاء يزورنا مرة، وتحدث إلينا عن الجهاد وفضائله، وحض والدتي وجدتي على التبرع من ذهبهما للجهاد، وكان كلامه مقنعاً.. وبالفعل تبرعتا بالذهب.
أما أنا فأخرجت مائة ريال كانت في جيبي، وقلت: يا سالم، ليس عندي غير هذه المائة، فخذها للمجاهدين، فردّ علي بهدوء: (لا.. أنت تتبرع بنفسك لا بمالك، أنت تذهب إلى الجهاد إن شاء الله..).
__________
(1) المسلمون 271 (بتصرف).(3/30)
نظرتُ إلى والدتي، وقلت: أذهب، إذا وافقتْ الوالدة.. وكانت المفاجأة أنها وافقت، وبحماس شديد (1).. ومن ذلك اليوم بدأتُ رحلتي إلى الله، ورافقتُ سالماً، وتعرفت معه على المساجد وحِلَقِ العلم، والطريف أن علاقتي بالوالدة تحسّنت عما كانت عليه زمن المعصية، فبعد أن يئستْ مني في الماضي، وأراحت نفسها بعدم الاهتمام بسفري وغيابي، أصبحتُ الآن تقلق عندما أتأخر، وتحب أن تجلس معي لنتحدث، هنالك عرفت معاني جديدة لعلاقة الأم بابنها..
وانطلقتُ إلى أفغانستان..
وهناك، فوق رمال صحراء قندهار الدافئة، تذكرت البرّ حول مدينة الدمام حيث تعودتُ أن أقضي أمسيات طويلة مع الشباب.
كما ذكرني منظر اللهب الذي تحدثه صواريخ وقذائف الشيوعيين، بمنظر اللهيب المتصاعد من آبار النفط حول مدينة الدمام.
ولكنّ الفارق الكبير.. رأيت مدافع الشيوعيين وقذائفهم وهي تنهال على المجاهدين العزّل إلا من بعض الأسلحة الخفيفة، فيستقبلونها وهم يرددون، (الله أكبر)، وكل واحد منهم قد استعد للقاء الله في جنة عرضها السماوات والأرض، أو سحق أولئك الشيوعيين الملحدين.
وفي تلك اللحظات، فوجئت بصور عديدة من حياتي وهي تتسارع أمامي كان أوضحها وجه والدتي الحبيبة وهي تودعني.. صورة إخواني.. منزلنا بالثقبة.
عدت قليلاً إلى الوراء لأتذكر الرحلات المشبوهة إلى شرق آسيا وما دون ذلك.. صور كثيرة مؤلمة رأيتها أمامي... فتساءلت: هل سيغفر الله لي؟ أرجو ذلك.
هذه قصة (أبو ثابت) مع الهداية، وهكذا تحي الأمة الميتة بالجهاد في سبيل الله، وهكذا تتحوّل النفوس المنهزمة إلى نفوس حرة أبيّة حينما تدب فيها روح الجهاد في سبيل الله.
(13) توبة طبيب نصراني وإسلامه على يد داعية مسلم (2)
__________
(1) الله أكبر، هكذا فلتكن الأمهات.
(2) جريدة المسلمون، عدد/260.(3/31)
جي ميشيل (36 سنة) مسئول هيئة تنصيرية جاءت من ألمانيا الغربية للعمل في الصومال، ولأن البعثة جاءت للعمل فكان لابدّ من تسميتها بعثة (المشروع الوطني لمحاربة الأمراض العمى) كان ميشيل من النابغين في الإشراف على فريق التمريض، لذلك لم يفاجأ بخبر تعيينه مسئولاً للبعثة إضافةً إلى إدارة المشروع، تحركت البعثة في منتصف عام 1978م وأمامها خريطة للتنصير في القرن الإفريقي تحت لافتة: (محاربة أمراض العمى). حديث (ميشيل) يأتي عذباً صافياً لأنه نابع من القلب، ولأن حديثي يختلف بالتأكيد عن حديث (ميشيل) من حيث الصدق والإحساس سأتركه لكم:
يقول جي ميشيل:
سعادتي بالصومال والصوماليين كانت كبيرة، ربما لحسن استقبالهم لنا، وربما لإحساسنا بمدى الفقر الذي يعانونه في الوقت الذي يعتزون فيه بأنفسهم، كما لو كانوا من أثرى الأثرياء، ربما لوجوههم الطيبة التي تستطيع رغم سمرتها أن تترجم كل حركة أو إشارة صادرة منها بسهولة.
أشياء كثيرة كانت وراء فرحتي بمكان المهمة.
يبدو أنني في زحمة انشغالي بالعمل وفرحتي واحترامي للشعب الصومالي نسيتُ مهمتي الأصلية، التي جئت وجاء الفريق من أجلها! فبسرعة عجيبة كان لي أصدقاء مسلمون يسألون عني وأسأل عنهم، تفانيت في محاربة أمراض العمى، وأشرفت على علاج عشرات الحالات، وكانت كلمات المديح والإطراء تخرج من كل الأفواه أثناء مروري على أي تجمع أو في أي شارع، كنت أفهم كلماتهم رغم أنها صادرة بلغة غير لغتي لكنها لغة الإحساس، في زحمة ذلك كله وبعد خمسة أشهر من النجاح الباهر في محاربة العمى جاءتني برقية من قصر رئاسة المنظمة الألمانية التي تتولى تنفيذ المشروع من ألمانيا!(3/32)
قلت لنفسي: لعلها بشرى سارة فقد أمروني بالعودة فوراً، ربما ليشكروني على التفاني في العمل، وربما ليقدموا لي ولأفراد الفريق هدايا أو أوسمة. لم أستطيع أن أفسر طلبهم العجيب بضرورة توجهي إلى إنجلترا لأخذ دورة جديدة تساعدني في إنجاح مهمتي، إن مهمتي ناجحة تماماً والعمل هناك يمضي بصورة رائعة فما جدوى هذه الدورة مع رجل مثلي كان الأول على كل الدورات السابقة؟ لم أستطع التفسير وبالتالي لم أستطع الرد بأكثر من نعم. سافرت إلى إنجلترا وأمضيت هناك شهراً كاملاً، وعدتُ إلى ألمانيا الغربية وأنا أتوق إلى أوامر بعودتي إلى الصومال، وبعد أسبوع جاء الأمر: توجه إلى تنزانيا! ومرة أخرى لا أجد تفسيراً لتوجهي إلى تنزانيا رغم نجاحي في الصومال، ولأنني لم أناقشهم في سبب ذلك. اطمأنوا تماماً لي وأرسلوا لي برقية بعد أربعة أسابيع يطلبون فيها عودتي إلى الصومال، وبكيتُ فرحاً!
عدتُ إلى الصومال بعد خمسة أشهر من الانقطاع عن الوجوه الطيبة والقلوب الدافئة، التحقتُ بالمشروع على الفور، ومارستُ عملي وإشرافي، كانتْ فرحةُ الصوماليين بعودتي تكاد تقترب من فرحة مريض بمرض في عينه وتم علاجه، ولولا اتهامي بالمبالغة لقلتُ أن فرحتهم بي كانت كفرحة الأعمى بعودة البصر إلى عينيه، هذا ما أحسستُ به خاصةً من صديقي (محمد باهور).
دعاني (محمد باهور) لزيارة منزله، وهناك كان الترحيب بي من أسرته ومن جيرانه رائعاً، وفوجئتُ أثناء جلوسي معهم برجل يتحدث الإنجليزية بشكل جيد، فرحتُ كثيراً بذلك وفرحت أكثر عندما علمتُ أنه والد (محمد) ها هي الفرصة تتحقق وها هو الجزء الثاني والأهم في مهمتي إلى الصومال سيتحقق! إن اللغة تقف عائقاً كبيراً في عملية التنصير لكن وجود مثل هذا الرجل سيساعدني كثيراً في شرح أبعاد التبشير بالنصرانية خاصةً وأن هذا الرجل يحترمه الجميع ويقدّرونه بصورة تكاد تقترب من الخوف!(3/33)
وبدأتُ مع هذا الرجل الذي توقعتُ أن يكون مفتاحَ التبشير والتنصير في المنطقة كلها، قلت لنفسي فلأبدأ معه بالحديث عن الأديان عموماً وأنتقل للحديث عن الإنجيل وعن المسيح الذي أدركتُ واكتشفتُ أكثر من مرة أن المسلمين جميعاً يحبونه ويعترفون به! ولا أدري ماذا حدث وكيف اكتشف هذا الرجل أن حديثي معه سيكون عن الأديان! قبل أن أبدأ حديثي وجدته ممسكاً بنسخة من (القرآن) في يديه وسألني: أتعرفُ هذا الكتاب؟ ابتسمتُ ولم أجب خشية إثارته أو التلميح له بمهمتي! مرة أخرى أحسستُ أن الرجل يدرك ما يدور بعقلي منحني فرصةَ الخروج من المأزق وبدأ هو يتحدث عن الإنجيل وعن المسيح، وطلب مني أن أوجه له أي سؤال أريد الإجابة عنه سواء في الإنجيل أو في القرآن! قلت: كيف؟ قال: في القرآن كل شيء!
انتهتْ زيارتي وعدتُ إلى عملي ثم إلى مقر إقامتي وأنا أفكر في كيفية اختراق عقل وفكر هذا الرجل، إنني لو نجحتُ في ذلك سأكون بلا شك قد قطعتُ شوطاً كبيراً وسيسهل بعد ذلك اصطياد الواحد تلو الآخر عدتُ إلى بعض النشرات والكتيبات، وسخرتُ من نفسي وأنا أشعر وكأني تلميذ مقبل على امتحان خطير! طمأنت نفسي وقلت: إنها مهمة بسيطة ويبدو أنني أضخّمها أكثر من اللازم، إن السيطرة على تفكير رجل مثل والد محمد مسألة سهلة، هي بالتأكيد سهلة وخرجتُ إلى عملي، أنهيته وبدأتُ في البحث عن (محمد باهور) طامعاً في وعد بزيارة جديدة حتى ألتقي بالرجل (المفتاح).(3/34)
كان الموعد وكان اللقاء وكانت البداية المباغتة: فور جلوسي سألني الرجل عن طبيعة مهنتي فقلتُ: الطب! قال لي: إن (القرآن الكريم) يشرح بالتفصيل عملية (الخلق) و (النشأة) وكل ما يحدثُ في الإنسان من تغيرات! قلتُ: كيف؟ وكأن الرجل كان ينتظر الإشارة الخضراء، اندفع يتحدثُ بلغة إنجليزية جيدة، وليس هذا مهماً، لكن المهم أنه كان يتحدث بإحساس شديد لكل كلمة تخرج من فمه. أقول لكم بصراحة أنني دهشتُ لدرجة الانبهار بكتاب (عمره) أكثر من 1400 عام يتحدث عن كيفية نمو الجنين في رحم المرأة! لقد درستُ لسنوات طويلة وتدربتُ تدريباً شاقّاً وأعرف مراحل نمو الجنين، لكن ما ذكره هذا الرجل شدني كثيراً وقد آلمني ذلك كثيرا!!
كالعادة طمأنت نفسي وهدأتُ من روعها حتى أستطيع النوم، أوكلتُ بعض مهامي في العمل للفريق، وبدأت أفكر كيف أنجح في الجزء الثاني من المهمة (التنصير) مثلما نجحتُ في الجزء الأول منها (محاربة أمراض العمى). صحيح أنني أحب الصومال والصوماليين، لكنني أحب عملي وأحب النصرانية فلماذا لا أجذبهم إليها.
من جديد اضطررتُ لأن أطلب محمد (محمد باهور) أن أزوره، لكنني قبل أن أطلب منه ذلك فوجئتُ به يطلب مني أن أزور والده يومياً إن أمكنني ذلك لأنه يريدني ويحب دائماً الجلوس معي! فرحتُ في البداية لكنني قلتُ لنفسي: كيف أفرح وأنا حتى الآن لم أتمكن من السيطرة عليه، إنه هو البادئ دائماً فلماذا لا أبدأ أنا بالهجوم أو بالغزو؟
لن أحكي لكم تفاصيل ما حدث في الزيارة الثالثة والرابعة والخامسة لقد وجدتني محاصراً تماماً، أذهب إلى الرجل وأنا مستعد تماماً للمواجهة لكن حديثه وصدقه وقدرته الفائقة على الشرح والتوضيح جعلتني أبدو أمامه تلميذاً يسمع دروساً في الدين لأول مرة .(3/35)
لم أكن أدري أنني مراقب منذ أول زيارة إلى منزل والد (محمد باهور) ويبدو أن المراقبة كانت دقيقة للغاية حتى أنها وصلتْ إلى أن يواجهني أفراد الفريق الطبي ويطلبون مني عدم الذهاب إلى هذا المنزل أو الاتصال بهذه العائلة.
اكتملتْ المراقبة وتوِّجتْ بقرار صادر من ألمانيا الغربية ينص على ضرورة مغادرتي للمعسكر! وقبيل تنفيذ الأمر بيوم واحد اكتشفتُ وجود قرار آخر ينقل (محمد باهور) من عمله إلى مكان آخر!
لم تكن هناك قوة تستطيع أن تمنعني من أن أحب (محمد باهور) وأحب والده وأسرته وأحب الصوماليين جميعاً، مكثتُ في مقديشو أياماً معدودة، وكنت أتسلل ليلاً وأركب شاحنة أخرى حتى أصل إلى منزل عائلة (محمد) لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد قام رئيس فريق العمل الألماني بدفع أموال كبيرة لبعض مسئولي الأمن بالمنطقة، وذلك لمنعي من الوصول إلى هذه المنطقة، وعندما نجحتُ في إقناع مسؤولين آخرين على قدر من التقوى والجدية في العمل كان الخبر المؤلم، لقد تم اعتقال (محمد) لعلاقته بي!
بكيتُ كثيراً من أجل (محمد) وتألمتُ كثيراً من عدم تمكني من مواصلة المشوار مع والده للنهاية، كنت أريد أن أصل إلى نهاية، أو بمعنى أوضح إلى بداية، فإما نهاية للشكوك التي بدأتْ تتسرب إلى عقلي من حديث هذا الرجل، وإما بداية لرحلة جديدة! أثناء ذلك جاءتني برقية أخرى من ألمانيا تطلب مني مغادرة الصومال خلال أيام والانتقال إلى كينيا لتقضية (إجازة ممتعة)!
تعللت بضرورة أخذ بعض أوراقي من مكان المعسكر وأبلغت مسؤول الأمن بذلك، وفور دخولي توجهتُ إلى منزل (محمد باهور).
وجدتُ في المنزل فرحة غير عادية، قال لي الوالد لقد جئتَ مع إطلالة شهر الخير والبركة، سألتُه عن هذا الشهر فقال إنه رمضان! تناولت وجبة (السحور) معهم وقبيل الفجر شاهدتُّ المنطقة كلها تخرج للصلاة! مكثتُ معهم يوماً كاملاً واضطررتُ احتراماً لمشاعرهم أن أصوم لأول مرة في حياتي يوماً كاملاً عن الطعام والشراب!(3/36)
وفي (نيروبي) وجدتُ في المطار من يستقبلني ويخبرني بأنني سأقيم في منزل كبير بدلاً من الفندق، وكانت الحفاوة بي واضحة، لكنني بعد عدة أسابيع أخبرتُ بخبر آخر أشد ألماً. جاءت البرقية تقول: (لن تستطيع العودة مرة أخرى إلى الصومال لأسباب أمنية)! لماذا؟ كيف؟ ولمصلحة من هذا القرار؟ لم أجد من يجيبني عن تساؤلاتي. هدأتُ قليلاً وأنا أذكر موقف (محمد) ووالده وأسرته معي وأتذكرُ كل الوجوه الصومالية التي التقيتُ بها. ووصلتني رسالة ساخنة من والدي يطالبني فيها بالعودة إلى ألمانيا بأسرع ما يمكن، كانت سطور الرسالة تقول أو توحي بأن والدي تلقى ما يفيد خطورة موقفي إذا سافرتُ إلى الصومال!
اكتشفتُ كذلك أن الرئاسة في ألمانيا الغربية لديها تقرير مفصل عني وعن تحركاتي الكاملة، واتخذت قراري!
قارنتُ بين ما يحدث في ألمانيا وما يحدث في الصومال من لهفة الناس عليّ وقلقهم البالغ وسؤالهم المستمر عني وأغلقتُ بابي على نفسي ورحتُ أراجع الدروس التي سمعتها من والد محمد.
جهزتُ ورقة بيضاء ناصعة وأحضرت القلم وكتبتُ هذه البرقية إلى رئاستي في ألمانيا الغربية: اطمئنوا تماماً كل شيء على ما يرام. سأعتنق الإسلام.
وضعتُ رسالتي في صندوق البريد لأنهي رحلة من القلق والتوتر، كنتُ أشعر وأنا أتوجه إلى صندوق البريد وكأنني عريس في يوم زفاف، وتوجهتُ إلى أصدقائي في (نيروبي) قلتُ لهم: قررتُ العودة إلى الصومال مهما كلفني ذلك! سأعود حتى ولو أدى ذلك إلى قتلي! كان من الطبيعي ألا أجد شيئاً أنفذ به قراري بالعودة، بعت حاجاتي وملابسي كلها باستثناء ما أرتديه، وثلاثة أحذية كنتُ أحضرتها معي، وتمكنتُ من تحصيل سعر التذكرة إلى الإيمان! نعم فقد وصلتُ إلى مقديشو ومنها إلى منزل الوالد (باهور) وفور أن عانقني قلتُ هامساً: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)!.(3/37)
لم يكن لدي وقتاً للفرح، عكفتُ على الدراسة والحفظ الجيد للقرآن الكريم والأحاديث الشريفة وكان إعجاب الصوماليين بي شديداً ولأن المسؤولين في المنطقة جزء من نسيج هذا الشعب فقد نجحوا في استصدرا قرار يسمح لي بالتحرك والانتقال والتعايش مع الصوماليين في أي وقت وفي أي مكان كشقيق وأخ مسلم اسمه الجديد (عبد الجبار). الآن فقط فكرتُّ في المشروع الذي كنا نقوم بتنفيذه لقد توقف المشروع بحمد الله دون أن ينجح في الجزء الثاني أو الأول منه وهو الخاص بالتنصير، لكنه حقّق نجاحات باهرة في الجزء الخاص بالعلاج، لذلك لم أفاجأ بموافقة الدكتور عبد الله نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة على أن أواصل العمل في المشروع في وجهه الجديد وجه الخير والعمل الخالص لوجه الله، وها أنا أعود!).
(14) توبة أسرة كاملة عن أكل الحرام على يد أحد أبنائها
أسرة كاملة كانت تعيش على الحرام، وتأكل الحرام.. ويقدّر الله ويهتدي أحد أبنائها فيكون سبباً في هداية الأسرة كلها.. يروي القصة فيقول:
(أنا شاب عشتُ حياة مترفة مع أبي في أحد الأحياء الراقية بالقاهرة، وكان الخمر يقدم على المائدة بصورة طبيعية.. وكنتُ أعرف تماماً أن دخل والدي كله من الحرام وخاصةً الربا... وكان بجوار بيتنا مسجد كبير فيه شيخ يسمى (إبراهيم) وفي يوم من الأيام كنتُ جالساً في شرفة المنزل والشيخ يتحدث، فأعجبني كلامه، فنزلتُ من الشرفة وذهبتُ إلى المسجد لأجد نفسي كأنني قد انسلختُ من كل شيء، وأصبحت شيئاً آخر.(3/38)
كان الشيخ يتحدث عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به) فوجدتُ نفسي لا أريد أن أدخلَ البيت، ولا أن آكل منه شيئاً، صرتُ أدخل وأخرج، وأتعمدُ ألا آكل شيئاً وأجلسُ بعيداً عن أسرتي، وأضع أمامي قطعة من الجبن وبعض (الفلافل)، وأسرتي أمامها كل ما تشتهيه النفس من الطعام. كادتْ أمي تموت همّاً من أجلي، تريدني أن آكل معهم ولكني رفضتُ وأفهمتها أن مال أبي حرام، وأنهم يأكلون حراماً ويشربون حراماً، فانضمتْ أمي إلىّ، والتزمتْ بالصلاة، وبعدها انضمت إلينا أختي، أما أبي فقد أصرّ على فعله عناداً واستكباراً.
كنت أتعامل مع أبي بأدب واحترام، وقمتُ أنا وأمي وأختي كل منا يجتهد في الدعاء لأبي، كنتُ أقوم الليل فأسمع نحيب أمي وأختي وتضرعهما إلى الله أن يهدي والدي.
وفي صباح يوم من الأيام استيقظ لأجد أبي قد تخلص من كل الخمور التي في البيت، ثم أخذ يبكي بكاءُ شديداً ويضمني إلى صدره ويقول:
سوف أتخلص من كل شيء يُغْضبُ الله.
ولما حان وقت الصلاة، أخذتُ والدتي وذهبنا إلى المسجد، وصار يسمع خطب الشيخ، والحمد لله تخلص من الربا ومن الخمور وأصبح بيتنا -ولله الحمد- مملوءاً بالطاعات..).
(15) توبة رجل بعد موت صاحبه من المخدرات (1)
يروي قصته فيقول:
كنت أتمايل طرباً، وأترنح يمنة ويسرة، وأصرخ بكل صوتي وأنا أتناول مع (الشلة) الكأس تلو الكأس.. وأستمع إلى صوت (مايكل جاكسون) في ذلك المكان الموبوءة، المليء بالشياطين الذي يسمونه (الديسكو).
كان ذلك في بلد عربي، أهرب إليه كلما شجعني صديق أو رفيق، فأصرف فيه مالي وصحتي، وأبتعد عن أولادي وأهلي.. وأرتكبُ أعمالاً عندما أتذكرها ترتعد فرائصي، ويتملكني شعور بالحزن والأسى، لكن تأثير الشيطان عليّ كان أكبر من شعوري بالندم والتعب.
__________
(1) جريدة البلاد، العدد: 9105.(3/39)
استمرأت هذه الحال، وانطلق بي هوى النفس إلى أبعد من ذلك البلد العربي، وأصبحتُ من عشاق أكثر من عاصمة أوروبية، وهناك، أجد الفجور بشكل مكشوف وسهل ومرن.
وفي يوم من أيام أواخر شهر شعبان أشار عليّ أحد الأصدقاء بأن نسافر إلى (بانكوك) وقد عرض عليّ تذكرة مجانية، وإقامة مجانية أيضاً (1) ففرحتُ بذلك العرض، وحزمت حقائبي وغادرنا إلى بانكوك حيث عشتُ فيها انحلالاً لم أعشه طوال حياتي.
وفي ليلة حمراء، اجتمعتُ أنا وصديقي في أحد أماكن الفجور، وفقدنا في تلك الليلة عقولنا، حتى خرجنا ونحن نترنح، وفي طريقنا إلى الفندق الذي نسكن فيه، أصيب صديقي بحالة إعياء شديدة، ولم أكن في حالة عقلية تسمح لي بمساعدته، لكن كنتُ أغالب نفسي فأوقفت سيارة أجرة حملتنا إلى الفندق.
وفي الفندق.. استُدعي الطبيب على عجل، وأثناءها كان صديقي يتقيّأ دماً، وبعد ثلاثة أيام من العلاج المركز، عدنا إلى أهلينا وحالة صديقي الصحية تزداد سوءاً.
وبعد يوم من وصولنا، نقل إلى المستشفى، ولم يبق على دخول رمضان غير أربعة أيام.
وفي ذات مساء، ذهبتُ لزيارة صديقي في المستشفى، وقبل أن أصل إلى غرفته لاحظت حركة غريبة، والقسم الذي يوجد فيه صديقي (مقلوب) على رأسه، وقفتُ على الباب، فإذا بصراخ وعويل.
لقد مات صاحبي لتوه بعد نزيف داخلي عنيف، فبكيتُ، وخرجت من المستشفى وأنا أتخيل أنني أنا ذلك الإنسان الذي ضاعت حياته، وانتهتْ في غمضة عين، وشهقت بالبكاء وأنا أتوب إلى الله.. وأنا أستقبل رمضان بالعبادة والاعتكاف والقيام، وقراءة القرآن، وقد خرجت من حياة الفسق والمجون، إلى حياة شعرتُ فيها بالأمن والأمان والاطمئنان والاستقرار، وقد كنت بعيداً عن ذلك، أستمرئ المجون والفجور، حتى قضى صاحبي نحبه أمامي.. فأسأل الله أن يتوب علي.
(16) توبة مدرسة على إحدى طالباتها (2)
__________
(1) هكذا يفعل شياطين الإنس ليوقعوا غيرهم في شباكهم، فالحذر.. الحذر.. أيها الشباب.
(2) عكاظ، العدد:8755.(3/40)
إن الاهتمام بالحجاب والمحافظة عليه هو الخطوة الأولى في طريق الالتزام والاستقامة بالنسبة للمرأة، ولستُ أعني بالحجاب حجاب العادة والتقليد الذي تلبسه المرأة فتزداد به فتنة في أعين ذئاب البشر، وإنما أعني الحجاب الشرعي الكامل الذي يُكسب المرأة احتراماً وتقديراً، كما قال تعالى عن نساء المؤمنين في آية الحجاب: (ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين). فإذا رأى الناس المرأة المتحجبة الحجاب الشرعي الكامل، عرفوا أنها من النساء العفيفات، فلم يجرءوا على إيذائها والتعرض لها.
وبلادنا -ولله الحمد- قد تميزت نساؤها بارتداء الحجاب الكامل الذي يشمل الوجه بالدرجة الأولى، وإن كانت هناك محاولات مستمرة من قبل بعض الأدعياء لإقناع المرأة بنزع غطاء الوجه كخطوة أولى في طريق طويل لنزع الحجاب بأكمله ليصل الأمر في نهاية الطريق إلى العري الكامل والاختلاط في الأماكن العامة وعلى شواطئ البحار وغيرها كما هو الحال في كثير من البلاد التي نجح فيها ألئك المفسدون في الوصول إلى مآربهم، ولكن هذه البلاد تختلف عن غيرها، ونساؤها -والله الحمد- على وعي تام بما يدبره الأعداء، وإن لبسوا لباس الدين، وظهروا بمظهر الناصحين والمشفقين.
والقصة التي سأرويها لكم هي مثال رائع الفتيات هذا البلد المسلم.
تقول صاحبة القصة:
(وتعودت -في بلادي- أخرجُ بلا حجاب.. أرتدي الأزياء المتعارف عليها... وأحرص على آخر خطوط الموضة.
شاء الله -عز وجل- أن أحضر إلى المملكة بعقد عمل مع إحدى الجهات، وفي بداية عملي كان لابدّ من الالتزام بعادات البلد وتقاليدها، فلبست العباءة والغطاء (1)، وظللت على هذه الحال حتى جاء موعد سفري لبلدي.
__________
(1) الحجاب ليس من العادات والتقاليد كما يعتقد البعض، وإنما هو أمر فرضه الله على نساء المؤمنين، قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن). الآية.(3/41)
وفي المطار خلعت العباءة والحجاب، وفوجئت بإحدى طالباتي مسافرة معي لبدي لقضاء العطلة.
سعدت جدّاً برؤية طالبتي، وما إن سلّمت عليّ حتى فاجأتني بقولها:
(لم أتوقع -يا معلمتي- إنك لا ترتدين الحجاب، عكس ما كنت أراك فيه أثناء الدراسة..).
سألتها: لماذا تقولين هذا.. إنني حريصة على أداء واجباتي الدينية كالصلاة والصيام وعدم فعل أي منكر.
فأجابت: إن ما أنتِ عليه الآن هو عين المنكر.
شعرت في تلك اللحظة بالحرج من طالبتي التي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، وهي التي تنصحني وتوجهني إلى طريق الصواب.
حقيقة شعرت بضآلة وضعي، وتمنيت أن الأرض ابتلعتني من شدة خجلي من الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك اليوم قررت ارتداء الحجاب طاعةً لله سبحانه وتعالى وامتثالاً لأمره، وحفظاً لكرامتي ونفسي من عيون الأجانب.
فلله در هذه الطالبة النجيبة -بنت الستة عشرة ربيعاً- ما أروع ما صنعتْ، وإن المسلم ليفتخر بوجود أمثال هذه الفتاة المؤمنة في مجتمعه، ويضرع إلى المولى القدير -عز وجل- أن يحفظ نساء المسلمين وبناتهم من كل مفسد عميل وكل فكر دخيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(16) توبة فتاة في السكن الجامعي (1)
تقول هذه التائبة:
ما أتعس الإنسان حينما يعيش في هذه الحياة بلا هدف، وما أشقاه حين يكون كالبهيمة، لا همّ له إلا أن يأكل ويشرب وينام دون أن يدرك سر وجوده في هذه الحياة.
__________
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(3/42)
لقد كان هذا هو حالي قبل أن يمنّ الله علي بالهداية، لقد عشتُ منذ نعومة أظفاري في بيت متدين، وبين أبوين متدينين ملتزمين، كانا هما الوحيدين الملتزمين من بين سائر الأقارب والمعارف، وكان بعض الأقارب يلومون والدي -رحمه الله- لأنه لا يُدخل بيته المجلات الهابطة وآلات اللهو والفساد، وينعتونه بالمتزمت والمعقد (!!!) بخلاف ذلك، كنت مسلمة بالوراثة فقط، بل كنت أكره الدين وأهله، وأكره الصلاة، وطوال أيام حياتي في المرحلة الدراسية المتوسطة والثانوية لم أكن أركع لله ركعة واحدة، وإذا سألني والدي: هل صليت؟ أقول: نعم.. كذباً ونفاقاً ولقد كان لرفيقات السوء دور كبير في فسادي وانحرافي حيث كنّ يوفرنَ لي كل ما أطلبه من مجلات هابطة وأغانٍ ماجنة وأشرطة خليعة دون علم والدي.
أما اللباس فكنت لا ألبس إلا القصير أو الضيق.. وكنت أتساهل بالحجاب وأتضايق منه، لأنني لم أكن أدرك الحكمة من مشروعيته.
ومضت الأيام وأنا على هذه الحال إلى أن تخرجت من المرحلة الثانوية، واضطررتُ بعد التخرج إلى مغادرة القرية التي كنا نسكنها إلى الرياض لإكمال الدراسة الجامعية.
وفي السكن الجامعي، تعرفتُ على صديقات أخريات، فكنَّ يشجعنني على ما كنتُ عليه من المعاصي والذنوب، إلا أنهن كنَّ يقلن لي: (على الأقل صلي مثلنا ثم اعملي ما شئت من المعاصي).
ومن جهة أخرى كان هناك بعض الأخوات الملتزمات، كن دائماً يقدمن لي النصيحة، إلا أنهن لم يوقفن في نصحي بالحكمة والموعظة الحسنة، فكنتُ أزداد عناداً وإصراراً وبُعداً.(3/43)
ولما أراد الله لي الهداية وفقني للانتقال إلى غرفة أخرى في السكن، ومن توفيق الله سبحانه أن رفيقاتي هذه المرة كنَّ من الأخوات المؤمنات الطيبات، وكن على خلق عظيم وأدب جم، وأسلوب حسن في النصيحة والدعوة، فكنَّ يقدمن لي النصيحة بطريقة جذابة، وأسلوب مرح، وطوال إقامتي معهن، لم أسمع منهن تأففاً أو كلاماً قبيحاً، بل كن يتبسمن لي، ويقدمن لي كل ما أحتاجه من مساعدة، وإذا رأينني أستمع إلى الموسيقى والغناء كن يظهرن لي انزعاجهن من ذلك ثم يخرجن من الغرفة دون أن يقلن لي شيئاً، فأشعر بالإحراج والخجل مما فعلت، وإذا عدنَ من الصلاة في مصلى السكن، كن يتفقدنني في الغرفة، ويبدين قلقهن لعدم حضوري الصلاة، فأشعر في قرارة نفسي أيضاً بالخجل والندم، فأنا لا أحافظ على الصلاة أصلاً حتى أصليها جماعة.
وفي أحد الأيام.. أخذتُ دوري في الإشراف على الوحدة وقد ارتفع صوت الغناء، جاءتني إحدى رفيقاتي في الغرفة، وقالتْ لي: ما هذا؟ لماذا لا تخفضي الصوت، إنك الآن في موقع المسئولية فينبغي أن تكوني قدوة لغيرك.
فصارحتها بأنني أستمع إلى الأغاني وأحبها، فنظرت إلىّ تلك الأخت وقالت: لا يأ أختي، هذا خطأ، وعليك أن تختاري إما طريق الخير وأهله، أو طريق الشر وأهله، ولا يمكنك أن تسيري في طريقين في آن واحد.
عندها أفقت من غفلتي، وراجعت نفسي، وبدأت أستعرض في مخيلتي تلك النماذج الحية المخلصة، التي تطبق الإسلام وتسعى جاهدةً إلى نشره بسوائل وأساليب محببة.
فتبت إلى الله، وأعلنت توبتي، وعدت لى رشدي، وأنا الآن -ولله الحمد- من الداعيات إلى الله، ألقي الدروس والمحاضرات، وأؤكد على وجوب الدعوة، وأهمية سلوك الداعية في مواجهة الناس، كما أحذر جميع أخواتي من قرينات السوء... والله الموفق.
(17) توبة شاب غافل (1)
__________
(1) هذه القصة رواها لي هذا الشاب بنفسه.(3/44)
س. ع. شاب أردني، قدم إلى هذه البلاد بحثاً عن عمل، فوجد عملاً، ولكنه وجد شيئاً آخر لم يخطر له على بال، لقد وجد الهداية، وجد حلاوة الإيمان، يروي القصة فيقول:
أنا شاب أردني، قدمت إلى السعودية (تبوك) بحثاً عن عمل، ولم أكن آنذاك مسلماً حقيقياً، وإنما كنت مسلماً بالوراثة كحال كثير من المسلمين في هذا الزمن العصيب.
في البداية عملتُ في أحد المطاعم، ثم طلب مني صاحب المطعم أن أعمل في محلٍ آخر له لبيع أشرطة الفيديو، وما أدراك ما أشرطة الفيديو، وما فيها من الخلاعة والمجون، -أو في أكثرها على الأقل-.
عملت في هذا المحل -وهو من أشهر المحلات الفيديو بتبوك- خمس سنوات تقريباً، وفي السنة الرابعة، وفي إحدى الليالي، دخل عليّ شاب مشرق الوجه، بهي الطلعة، تبدو عليه علامات الصلاح والالتزام.
(عجبا.. ماذا يريد هذا الشاب) قلتها في نفسي.
مدّ هذا الشاب يده، وصافحني بحرارة، وقد علت محياه ابتسامة رائعة، تأسِر القلب، وتزيل الوحشة، وتحطم الحواجز النفسية التي كثيراً ما تقف حائلا، تمنع وصول الخير إلى من هم في أمسّ الحاجة إليه، ثم نصحني نصيحة موجزة، وحذرني من عاقبة مثل هذا العمل نوما يترتب عليه من إفساد للمجتمع، ونشر للرذيلة بين أفراده، وأن الله سيحاسبني على ذلك يوم القيامة، وبعد أن فرغ من حديثه، أهدى إلىّ شريطاً للشيخ تميم العدناني عن (كرامات المجاهدين).
كنت أسكن بمفردي، وأعاني من وحدة قاتلة، وقد مللت سماع الأغاني ومشاهدة الأفلام، فدفعني الفضول لاستماع ذلك الشريط الذي يتحدث عن كرامات المجاهدين.
وما إن فرغت من سماعه حتى انتابني شعور بالخوف والندم، واكتشفتُ حقيقة حالي وغفلتي عن الله، وتقصيري تجاه خالقي سبحانه فانخرطت في البكاء.(3/45)
بكيت بكاء مرّاً كما يبكي الطفل الصغير من شدة الندم، لقد تحدث الشيخ -وهم ممن نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل الله- تحدث عن كرامات المجاهدين وبطولاتهم، أولئك الذين يقفون على قمم الجبال وهم يرفعون راية لآ إله إلا الله، وقد باعوا أنفسهم لله، وحملوا أرواحهم على أكفهم ليقدموها رخيصة في سبيل الله، فعقدت مقارنة بينهم وبين من ينشر الرذيلة والفساد، ويعيش كما تعيش البهائم لا همّ له إلا إشباع شهواته البهيمية، والأدهى من ذلك أنني لم أركع لله ركعة واحدة منذ اثني عشر عاماً مضتْ عمري الحافل بالضياع والمجون.
لقد ولدت تلك الليلة من جديد، وأصبحت مخلوقاً آخر لا صلة له بالمخلوق السابق، وأول شيء فكرت فيه، التخلص من العمل في ذلك المحل، والبحث عن عمل شريف يرضي الله -عزّ وجل-.
ولكن أأنجو بنفسي، وأدعُ الناس في غَيهم وضلالهم؟ فرأيت أن أعمل في محل الفيديو سنة أخرى، ولكنها ليست كالسنوات السابقة، لقد كنت في تلك السنة أنصح كل من يرتاد المحل بخطورة هذه الأفلام وأبيّن لهم حكم الله فيها، راجياً أن يغفر الله لي ما سلف وأن يقبل توبتي.
ولم تحض أيام حتى جاء شهر رمضان وما أدراك ما شهر رمضان؟ شهر الرحمة والغفران، هذا الشهر الذي لم أشعر بحلاوته وروحانيته إلا في هذه السنة التي منّ الله عليّ فيها بالهداية، فقد أقبلت على تلاوة القرآن، وسماع الأشرطة النافعة من خطب ودروس ومحاضرات، وأذكر أنني استمعت إلى شريطين لم أتأثر بشيء من الأشرطة مثلما تأثرت بهما وهما: (هادم اللذات) و (وصف الجنة والنار) للمورعي.
أما العمل، فقد كان بجوار محل الفيديو الذي كنت أعمل فيه تسجيلات لبيع الأشرطة الإسلامية، وكانت أمنيتي أن أعمل فيها، وبعد أن مضت السنة الخامسة، تركت محل الفيديو فارّاً من غضب الله ولعنته، ومكثت مدة شهرين بلا عمل إلى أن حقق الله أمنيتي، ويسرّ لي العمل في التسجيلات الإسلامية، وشتان بين العملين.(3/46)
أما صاحب المحل فقد قمنا بنصحه وتذكيره بالله، ونحمد الله أنه استجاب، وترك المحل لوجه الله تعالى.
وأذكر أنني في مرحلة الانتقال من عقر الفساد إلى عقر الإيمان رأيت رؤيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما زاد في إيماني بالله في تلك الفترة، كما رأيت رؤيا أخرى، رأيت فيها الشيخ عبد الله عزام -رحمه الله- الذي تأثرت لمقتله كثيراً وبكيت لذلك، كما رأيت رؤيا لبعض المشايخ، وكلها زادت في إيماني وتثبيتي على الحق.
وفي الختام أسأل الله أن يثبتني وإياكم على دينه، كما أسأله أن يجعل ما قلته عبرة لكل غافل، فالسعيد من اعتبر بغيره.
س. ع/ تبوك
(18) توبة عدد من الشباب
بعد قرائتهم للجزء الأول من هذا الكتاب
رسالة وصلتني من السودان الشقيق، من شاب سوداني مسلم، منّ الله عليه بالهداية بعد قراءته للجزء الأول من هذا الكتاب.
يقول هذا الشباب في رسالته:
بسم الله الرحمن الرحيم
مرشدي إلى الصراط المستقيم.
تحية الإسلام الخالدة أبداً بإذن الله.
لقد فرغت من قراءة كتاب (العائدون إلى الله) قبيل لحظات.. قد تتعجب من استهلالية خطابي هذا.. ولكن -والله على ما أقول شهيد- إنك وبجهدك هذا، أصلحت نفسي، وقومت خلقي، فلذا أقل ما يمكن قوله تعبيراً عن امتناني، وتقديراً لصنيعك هو: (مرشدي إلى الصراط المستقيم).
وبعد هذه المقدمة التي لا أستحقها، عرفني على نفسه، ثم بدأ يذكر لي حاله قبل الهداية فقال:
كنت أتساهل في فترات الصلاة ولا أعيرها أدنى اهتمام على الرغم من الإيمان التام بأن ما أفعله ليس بصحيح، وأنني سأحاسب عليه يوم القيامة.(3/47)
نعم، كنت أصلي أحياناً وأتركها أحياناً، ويمكن القول بأني كنت أعيش في ظلام دامس، ودهليز كالح، هائم على ظهر هذه البسيطة، لا أدري أين المرفأ ولا أين الطريق.. ربما هذا كله مرجعه ومرده إلى الخواء الروحي، والانحراف عن طريق الهدى، وكذلك مجالستي للغالبية العظمى من الذين افتتنوا بالحياة اللاهية العابثة، فلا همّ لهم سوى الحديث عن الليالي الحمراء، وحفلات الديسكو، والمغامرات العاطفية، وأين تسهر هذا المساء ووو.., الخ.
باختصار لم أجالس من يحرك فيّ الوازع الديني، وهذا يرجع لانشغالي بأماني النفس الكاذبة وتخرجي، والمركز المرموق بعد التخرج.
يزداد إيماني بمجرد سماعي لخطبة أو موعظة أو عند سماعي للقرآن الكريم.. ليس هذا فحسب بل أذرف الدمع لهذا، وأتفاعل تفاعلاً (لحظويّاً)، لكن سرعان ما يموت هذا الدافع الوجداني، وتتبدد تلك التفاعلات، وأعود لما كنتُ فيه من تجاهل لأمر الدين والصلاة، حتى حظيت بنسخة من كتاب (العائدون إلى الله)، أهدانيها والدي جزاه الله ألف خير، وقرأتها بكل تمعن، فوجدتُ فيها ضالتي، وعاهدت الله -عز وجل- أن أسلك الصراط المستقيم، وذلك لما فيه من دروس وعبر جمعها شخصكم الكريم لهداية أمثالي ممن يؤمنون بالإسلام إيماناً سطحياً دون تعمق وتطبيق لأحكامه وشرائعه.
ها أنذا اليوم، وبعد أن كنت أعاني من فراغ روحي، وخواء ديني، أعود إلى حظيرة الإسلام والإيمان القوي بإذن الله.
أخوك/ حامد مهدي
جامعة أم درمان الأهلية
السودان
كما تلقيتُ رسالة أخرى من السودان أيضاً، كتبها أحد الشباب يقول فيها:
أخبركَ بأني كنت من أتباع الشيطان منذ سنين عدة، ولكن الله هداني وأرجعني إلى صوابي. فلقد أهدى إلىّ أحد الخيريين هذا الكتاب (العائدون إلى الله)، فوجدت فيه مفتاح التوبة، وخرجتُ من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، ومن نكد السيئات إلى نعيم الحسنات.(3/48)
أسأل الله أن يكتبك من الصديقين والشهداء والصالحين، وأن نلتقي في جنة الفردوس.. الخ.
المخلص/ نصر الدين عبد الرحمن
السودان – الخرطوم
ومن مصر -أرض الكنانة- تلقيتُ هذه الرسالة من الشاب أحمد عزت يقول فيها:
(كنت لا أعرف غير كتب المدرسة فقط، ولذلك كنتُ في غفلة من أمري، إلى أن منّ الله عليّ بقراءة المجموعة الأولى من كتابكم (العائدون إلى الله) ، فهداني إلى سبيل الرشاد..).
ومن الإسكندرية تلقيتُ هذه الرسالة من الشاب أحمد محمد، جاء فيها:
بعد إطلاعي على رسالتكم: (العائدون إلى الله)، ومدى تأثري بها، بقراءتها وشعوري أنها خرجتْ قصصها من قلوب قائليها، وصدق جامعها، جعلتني أتأثر بها، وأقف مع نفسي كثيراً لأجدد المسير إلى الله، وأصلح ما أنا فيه بإذن الله -عز وجل-...).
هذه بعض الرسائل التي وصلت وإذا كان الله -عز وجل- بفرح بتوبة عبده إذا تاب، ويحب عباده التائبين، فنحن نحبهم كذلك لحب الله لهم، ونفرح بتوبتهم فرحاً شديداً ونقول بماء أفواهنا: اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين.(3/49)
العائدون إلى الله
مجموعة من قصص التائبين ، من مشاهير
وعلماء ودعاة وغيرهم يرونها بأنفسهم
جمعها
محمد بن عبدالعزيز المسند
المجموعة الرابعة
(1) ذكريات مؤلمة
وجه مدفون بين كفين ملأى بالدموع.. قلبٌ يرتجف كورقة خريفية مآلها السقوط.. دموعٌ تنهمر بغزارة في صمت رهيب.. تنهار من مآقي عينه كالسيول الجارفة مشبعة بمرارة مضنية.. آلام غائرة مستكنة في قرارة نفسه.. هموم وغموم رابضة على قلبه.. ! الليل يتأوه لحزنه.. لكربه.. موجاتٌ من الندم والحسرة تهدر أعماقه بل تمتد فتقبض أنفاسه..! كم عصفت به أعاصير الهوى فحركت مركبه حيث شاءت.. حيث العوج الخُلقي.. حيث السطو على العواطف.. حيث تلّون القلب بالأقذار..!
كم انتابه ذاك السعار الملهوف.. وتلك الشهوات المجنونة فبصمت على آثارها.. كم مرة خلع فيها خير لباس.. لباس التقوى، وتدثر بذلك الثوب الخلِق.. البالي.. القذر.. المزركش بتلك الخطايا..!
كم خطفته تلك النشوة المؤقتة إلى منزلقٍ خطير.. بل إلى منحدر سحيق حيث التمرغ بأوحال الخطايا والآثام..!
ها هي مقابر الأحزان تلتف حول عنقه.. ها هو بين الحين والحين يحمل الأكفان المثقلة بأجساد الذكريات النتنة.. العفنة..
والآن..
أسئلة سوَّرت قلب ذلك العبد الفقير.. فتحت بوابة إلى مدخل في ذاكرته.. مدخل موحش تعلقت على جدرانه آثام..
قال لي: هل يغفر الله لي..!
قلت: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
قال: لكن ذنوبي عظيمة… كثيرة..
قلت: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات).
قال: والذكريات رابضة.. جاثمة على عقلي.. رائحتها زكمت أنفي.. ثقلها يقبض نفسي..؟
قلت: عليك أن تشد تلك الذكريات وتدفنها في مقبرة الاستغفار.. وفي سجدات الأسحار..
قال: نعم.. صدقت.. سأتوشح بحسام التوبة وبرمح الأوبة.. سأعمل تقطيعاً بتلك الذكريات التي تكبلني.. سأمزقها إرباً إربا..!(4/1)
ثم استغرقتُ أرتل بخشوع (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).
عندها كغضبة الجمر في ليلة شاتية قارسة.. امتلأ ثقةً ورجاءً بعفو الله.. أصبح متفائلاً كالصباح.. مؤملاً فرحاً بمغفرة المولى كعشبة بريّة تطرب لأنشودة المطر.. غدا أكثر صبراً من الصبار على الآلام..!
ثم قال: حقاً لن يمسح الجراح المنفتحة في زفة الأحزان سوى الإيمان بتبديل السيئات إلى حسنات والصبر خير ذخر..
ثم سَكَت وسَكتُّ (1)
(2) الشيخ سليمان الثنيان
(المخرج السينمائي سابقا) (2)
من الهندسة الكيميائية والإخراج السينمائي بألمانيا إلى كلية الشريعة بالرياض، هذه باختصار رحلة الشيخ سليمان الثنيان من الضياع والتخبط إلى الهداية والإيمان.
كانت البداية.. ابتعاث الدكتور سليمان الثنيان إلى ألمانيا لدراسة الهندسة الكيميائية، وهناك حدث التحول الأول في حياته، حيث وجد أن دراسة الكيمياء ليست كافية، وأراد أن يدرس شيئاً جديداً يستطيع التأثير من خلاله، فنصحه عددٌ من الأساتذة الألمان بدراسة الفن والتخصص في الإخراج السينمائي. وبروح التحدي استطاع أن يستكمل دراسة الهندسة الكيميائية، وفي نفس الوقت كان يدرس السينما والتلفزيون والمسرح.
ثماني سنوات قضاها في دراسة هذه الفنون، وضع خلالها منهجاً للدراسة يتيح له الحصول على المعلومات والمهارة الفائقة في مجال الإخراج وذلك بمساعدة متخصصين ألمان ودرس في عدة معاهد فنية وفي الأكاديمية الوطنية للسينما والمسرح والتليفزيون.
__________
(1) أبى بعض القراء إلا أن يشاركني في إعداد هذا الكتاب فكانت هذه المشاركة الرائعة من أحد الأخوة من جدة، بارك الله فيه، وقد نشرتها كما هي دون زيادة أو نقصان.
(2) سمعتها منه بنفسي.(4/2)
ونترك الحديث للدكتور الثنيان ليحدثنا عن رحلته يقول: لم أترك مجالاً يحتاجه المخرج إلا ودخلته، فقد التحقتُ بمدارس ركوب الخيل وقيادة السفن ودخلتُ معاهد التمثيل والموسيقى، ودرستُ أنواع الصوت وجزئيات الإضاءة والمؤثرات الصوتية والملابس والديكور، وبذلك أنهيتُ المرحلة الأولى بنجاح، وبدأتُ المرحلة الثانية التي تميزتْ بالممارسة العملية من إخراج وتصوير وعمليات مسرحية وإنتاج فكري وكتابة قصص، وباليوم والساعة أنهيتُ هذه المرحلة، وبنهايتها انهالتْ عليّ العروض من (مسرح شلرد) ومن بعض الشركات لكي أعمل فيها كمخرج أو مساعد مخرج أو ممثل لفترة معينة.
ولكني لم أستجب لهذه العروض… فقد حدث تحول ثان في حياتي، فقد التقيتُ بمدير عام التليفزيون السعودي في ذلك الوقت الذي طلب مني العودة مع وعدٍ منه بأنني سوف أنتج أشياء جديدة، ولم تكن طموحاتي هي مجرد إخراج فيلم أو مسرحية، وإنما كنتُ أريد أن أقوم بأعمال أُسمِعُ من خلالها كلمة الإسلام والمسلمين للعالم أجمع، ومن هنا كانت استجابتي السريعة بالعودة.
عملتُ في التليفزيون السعودي أربع سنوات، ومثلتُ بلادي في مؤتمر (جينس) بميونج وكان حول دور التليفزيون في تربية الشباب، وفي عام 1396هـ، قررتُ أن أترك مجال الإعلام، لأنني وجدتُ أنني لن أحقق طموحي من خلال الإعلام التليفزيوني، فالسينما كانت أحبُ إلى نفسي، لأن إمكاناتها هائلة، وكانت (المادة) تقف حائلاً أمام تحقيق هذا الطموح، حيث إنني لم أجد إلا المال المشروط بالربح التجاري.(4/3)
سنة ونصف السنة قضيتها بعد ذلك في حالة تردد. جاءتني الكثير من العروض التجارية ورفضتها تماماً، وفي إحدى رحلاتي من القصيم إلى الرياض حدث التحول الثالث، كان الوقت ضحى، وكنت في سيارتي، حيث رأيت سروراً عظيماً، وشعرتُ كأنني كنتُ مغمض العينين وأزيحتِ الغشاوة عني، لقد رأيتُ الدنيا من جديد وكدتُّ أطير فرحاً تعذبتُّ عاماً ونصف العام وها هو الخير أراه أمامي أصابني شيء من البكاء والضحك من شدة سعادتي، فقررتُ أن أستدرك بقية عمري وأن أتصل بالله سبحانه وتعالى ورأيت أنه لابدّ من العلم، وهذا ما تعودتُّه منذ طفولتي، فأنا لا أعمل شيئاً إلا بالعلم، وحتى أحقق ذلك عزمت على دراسة الشريعة والعلم الشرعي دراسة متعمقة.
انطلقت إلى كلية الشريعة وأنا في غاية الفرح والنشوة، قالوا لي: لك أن تقدم للدراسات العليا إن شئت. قلتُ لهم: لا.. أريد أن أبدأ الرحلة من أولها، أي من الصف الأول. وهذا ما حدث.. انتظمتُ في الدراسة حتى حصلتُ على البكالوريوس. دون أن أتغيبَ يوماً واحداً وبعد ذلك حصلتُ على الماجستير، ثم جاءت مرحلة الدكتوراه، وانتهيتُ منها في فترة وجيزة.
توقع الجميع ألا أصمد في دراسة الشريعة لصعوبتها، خاصةً وأنني -في رأيهم- تعودت على الشهرة والمال، وقالوا لي: ستعرف يوماً أنك أخطأت الطريق، ولن تتحمل الكراسي الخشبية التي تجلس عليها لتدرس الشريعة، ولكن بحمد الله حدث العكس، لم يكن يمر يوم إلا وتزداد رغبتي في الدراسة، ولم أندم لحظة واحدة على تغيير مسار حياتي.
ثم يضيف: إني مستعد في أي لحظة أن أعود إلى الإعلام، إذا ناسب ما أريد، دعني أقول لك رأيي فيما يطرح حالياً من أفلام في السوق العربية، كثير من هذه الأفلام كلام فارغ وعمل رخيص لا يستحق العرض وبذل المال، وضياع الوقت في مشاهدتها، إنها تسلب العقل وتضيع الفكر، وتجعل الإنسان يتخبط دون وعي أو بصيرة.(4/4)
لم أر مثيلاً للدول العربية في تخبطها في إنتاج الأفلام. كلٌ ينتج ما يريد دون ضوابط أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، أنها أفلام هابطة في معناها وتعبيرها وفي طريقة عرضها وأبعادها.
ثم يعقب الدكتور الثنيان بقوله: إنني مستعد أن أستغنى عن أدوار النساء تماماً، وقد جربت ذلك في مسرحية (خادم سيدين) حيث استغنيت فيها عن النساء تماما، واستعضت عن الموسيقى بمؤثرات وأشياء خاصة بالإيقاع تغني عن الموسيقى، بل أضعاف ما تعطيه الموسيقى.
ويضيف: إنني أستطيع أن ألغي دور أمرأة وأعوّضه بما هو أحسن منه، وأخرج أي عمل بواسطة الرجال، ويكون ذا تأثير وقوة ومتعة للمشاهد، وأجمع فيه بين الفكر والعلم والمتعة. وهذا هو النموذج مسرحية (خادم سيدين)، وهي في الأصل مليئة بالنساء والمواقف الطريفة، وقد استبعدت أدوار النساء منها، وجعلتها بالعربية الفصحى، وأعجب الناس بها.
وعموماً فإن تجربة المسرح الذي من العنصر النسائي ليست تجربة جديدة بل هي تجربة يتميز بها المسرح السعودي بعامة والذي استطاع على امتداد ثلاثين عاماً على الأقل أن يقدم عشرات المسرحيات التي تخلو من العنصر النسائي، وقد نجح في هذا تماماً بل إن أمريكا مسرحاً يقدم تجارب جيدة وهو يخلو من النساء أيضاً، المهم هو الفن ليس المرأة.
(3) توبة الممثل محسن محيي الدين
وزرجته نسرين (1)
__________
(1) نشرت في بعض الصحف والمجلات.(4/5)
لقد أصبح الفن الرخيص في زمننا هذا وسيلة للكسب المادي، وتجارة رابحة، على حساب الغافلين والمغفلين من أبناء هذه الأمة، هذا إلى كونه من أعظم الوسائل لهدم القيم والأخلاق وتحطيمها.. ولقد ظهرتْ في السنوات الأخيرة ظاهرة أقلقت تجار الفن والغرائز وجعلتهم يفقدون صوابهم ويطلقون كل ما في جعبتهم من الإشاعات والتهم الباطلة دفاعاً عن كيانهم المتداعي وبنيانهم المنهار.. تلكم الظاهرة هي عودة كثير من الممثلين والممثلات أو ما يمسون بالفنانين والفنانات (1) إلى الله -عز وجل- وإعلانهم بالتوبة والهروب من تلك الأوساط العفنة إلى أجواء الإيمان بالعقبة الطاهرة، وكان من آخر هؤلاء التائبين الممثل محسن محيي الدين وزوجته الممثلة المشهورة نسرين.
وقد روى الممثل سابقاً محسن محيي الدين قصته مع الهداية فقال: (أنا شاب كغيري من الشباب، تخبطي في فترات حياتي السابقة كان ناتجاً عن انبهاري بمظاهر الحياة الخادعة والتي أعمتْ بصري وأصمَّتْ أذني عن معرفة أشياء كثيرة كنتُ أجهلها؛ خاصةً وأني لم أكن أقرأ من قبل على الرغم من أن الله تعالى بدأ أول آية أنزلها بكلمة: (اقرأ) .. وبعد أن بدأت أقرأ في كتب الدين شعرت بأنني من أجهل خلق الله، وقد كنتُ أعتقد أنني من المثقفين.. فأخذت أقرأ بنهم شديد في كتب السيرة والتراث والتفسير.. وبعد هذه القراءة المتأنية وجدتُّ أن المؤثرات المحطية بي جعلتني في ضلال مبين، فكان قراري باعتزال التمثيل.. وقد شجعني على اتخاذه ارتداء زوجتي الحجاب الذي كنت أسعد الناس به).
ثم يضيف: (هذا القرار -إن شاء الله- لا رجعة فيه لأني اتخذته بكامل اقتناعي وإرادتي، وندمت لأنني تأخرت فيه حتى الآن، فأضواء ليست غالية حتى أحنّ إليها مرة أخرى.. فالشهرة والمال والأضواء لا تساوي ركعتين لله...).
ثم يضيف:
__________
(1) الفنان معناه في لغة العرب الحمار، انظر لسان العرب، مادة (فنن).(4/6)
(إننا اعتزلنا ونحن في القمة الزائفة.. فقد كان قرارنا بعد مهرجان القاهرة السينمائي الذي أقيم في العام الماضي، وبعد النجاح الكبير الذي حققناه، وليس لأننا لم نجد أدواراً نمثلها كما يقول البعض.. وقد أدركنا الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع وهي أن الإنسان مهما طال عمره فمصيره إلى القبر، ولا ينفعه في الآخرة إلا عمله الصالح).
ثم يوجه نصيحته لإخوانه الشباب قائلا:
(سامحوني على كل ما قدمتُ لكم من أعمال فنية سابقة لا ترضي الله -عز وجل- ولا تقتدوا بي في ما كنتُ أفعله في مسلسلاتي وأفلامي فقد كنت ضالاً جاهلاً، والجاهل لا يقتدى به).
أما زوجته الممثلة نسرين فقد قررتْ الاعتزال وارتداء الحجاب بعد أن رأتْ أمها رؤيا في المنام، حيث رأتْ والد نسرين وهو غاضب على ابنته، فاستنتجت الأم أن سبب غضبه تقصير نسرين في أداء الصلاة بانتظام مما جعل نسرين تراجع نفسها وترجع إلى الله.
تقول نسرين: (الحمد لله.. كان يومي يضيع دون إحساس بالسعادة ودون أن أشعر بالسلام.. والآن ليس لدي وقت كافٍ.. لأن هناك أموراً كثيرة نافعة يجب اللحاق بها.. لقد وجدت السلام الداخلي).
وفي لقاء أجري معها قالت: (الناس مليئة بالريا والفسوق ويظهرون الفجور.. كيف نتعامل معهم؟) ولعلها تعني الناس الذين كانت تتعامل معهم في (الوسط الفني).
وقالت أيضاً: (لقد كرم الله المرأة التي ترتدي الحجاب وهو يحميها من القلوب المريضة والفسوق.. وعلى الأقل إنها ليست نافذة عرضٍ متحركة ليتفرج الناس عليها ويعجبوا بها).
(4) توبة الممثلة نورا
جاءت إلى مكة المكرمة لأداء العمرة والاستغفار بعد اعتزالها التمثيل منذ عدة أشهر.. كانت لا تفارق الحرم إلا لماماً، ولا يبرح المصحف الشريف يدها، ولا تكف عن البكاء.(4/7)
إنها الممثلة (نورا) سابقاً، وشاهيناز قدري حالياً وهو اسمها الحقيقي.. وجواباً على سؤال وُجّه إليها عن رحلتها مع التوبة قالت: (إنها لحظة كانت من أعظم لحظات حياتي.. عدتُّ فيها من غربتي.. وولدتُ فيها من جديد حينما ذهبتُ مع صديقة لي لمقابلة عالم جليل، وكان من المقرر أن يمتد اللقاء لمدة ساعة، ولكنه امتد لمدة ساعات سمعت فيها -مع غيري من المسلمين والمسلمات- ما لم أسمعه من قبل.. وارتعدتْ فرائصي واهتز كياني وأنا أسمع كلمات الشيخ عن الإسلام والمعصية والتوبة، والطريق الخطأ والطريق الصواب.. فعدتُّ مع صديقتي إلى منزلي وأنا أرتعش، وأحسست بزلزال رهيب في أنحاء جسمي.. وفي اليوم الثاني -وعلى الفور- توجهتُّ إلى مسجد من مساجد القاهرة حيث الداعية الكبيرة شمس البارودي وهناء ثروت، وجلست أقرأ القرآن وأتفقه في دين الله والسنة المطهرة، وداومتُ على ذلك بصفة مستمرة ودون انقطاع.
وفي لحظة روحانية قررتُ وحسمتُ أمري بأن أكون مسلمةً مؤمنةً تائبةً إلى ربها، وأن أقطع كل صلتي بالتمثيل.
وتخلصتُ -والحمد لله- من كل ارتباطي الفنية مع المخرجين والمنتجين وكل ما يتعلق بالفن، بلا رجعة.. فمن يعرف طريق الله لن يجد له بديلاً.
وأنا الآن -والحمد لله- أعيش من رزق حلال طيب، أسأل الله -عز وجل- أن يبارك فيه).
وحول الشبهة التي يثيرها البعض من أن توبة الفنانين نتيجة تهديد من جهات ما أجابت:
(أنا عن نفسي رجعتُ إلى الله، وتبتُ وندمتُ خوفاً منه -سبحانه- واقتناعاً بما أفعل وليس خوفاً من تهديد مطلقاً ولا يخفى علينا جميعاً الحملة الشعواء لهذه الأقلام المغرضة التي تخشى الإسلام وقوّته)
وسُئلتْ: من واقع تجربتك الفنية هل تعتقدين أن الفن حرام؟ فأجبت: (إن الفن -والله تعالى أعلم- بالنسبة للنساء حرام حرام لأن المرأة عورة، وفن هذه الأيام فن مبتذل فيه إسفاف.. ولن يكون رسالة سامية مطلقاً.. فهو بعيد كل البعد عن الإسلام).(4/8)
هذا هو ملخص ما قالته الممثلة التائبة نورا بعد اعتزالها الفن والتمثيل.. وأني -بهذه المناسبة- أنصح كل فتاة تتخذ من هؤلاء (الفنانين) قدوة لها، أو تفكر في الزج بنفسها في وسط تلك الأجواء العفنة؛ أن تقف طويلاً وتمعن النظر في أحوالهم وأقوال التائبين منهم وألا تغتر بما هم فيه من المظاهر الجوفاء وبريق الشهرة الخادع، فما هو إلا كظل زائل أو سراب كاذب سرعان ما يزول فتنكشف الحقيقة.
(5) توبة رجل من أدعياء تحرير المرأة (1)
(ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئاً، فلبث فيها بضع سنين ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه عنه شيء. ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة.. وذهب بقلب نقي طاهر، يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر، وعاد بقلب مظلم مدخول، لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها، والنقمة على السماء وخالقها. وذهب بنفس غصة خاشعة ترى كل نفس [مسلمة] فوقها، وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها، ذهب وما على وجه الأرض أحب إليه من دينه وأهله، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما.
__________
(1) هذه القصة ذكرها المنفلوطي –رحمه الله- في 0العبرات)، وقد نبهني إليها أحد الاخوة –جزاه الله خيراً- وقد اختصرتها لطولها واشتمالها على بعض العبارات التي لا نوافقه عليها، ولا لو خشية الإطالة لذكرتها بتمامها مع التعليق على تلك العبارات.(4/9)
كنت أرى أن هذه الصورة الغريبة التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً تطلع عليه شمس المشرق فتمحوها كأن لم تكن، وأن مكان المدنية الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرأة؛ أذا انحرف عنها زال خياله منها، فلم أشأ أن أفارقه وفاء لعهده السابق، ورجاء لغده المنتظر، محتملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره؛ ما لا طاقة لمثلي باحتمال مثله، حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب، فكانت آخر عهدي به.(4/10)
دخلت عليه فرأيته واجماً مكتئباً، فحييته، فأومأ إلىّ بالتحية إيماءً. فسألته ما باله؟ فقال: مازلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه، ولا أدري مصير أمري فيه.. قلت: وأي امرأة تريد؟ قال: تلك التي يسميها الناس زوجتي، وأسميها الصخرة العاتية؛ القائمة في طريق مطالبي وآمالي.. قلت: إنك كثير الآمال؛ فعن أي آمالك تتحدث؟ قال: ليس لي في الحياة إلا أمل واحد وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى غطاءُ على وجه امرأة في هذه الأمة..(!!) (1) قلت: ما لا تملكه ولا رأى لك فيه قال: إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي، ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بينهم وبين تمزيقه عن وجه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد(!!)، فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي (2) القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً(!!) وأن يتم على يدي من ذلك ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعه... (3) فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته، وخيل إليها أنني جئتها بنكبة من نكبات الدهر أو رزية من رزاياه، وزعمت أنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز للنساء من بعد ذلك حياءً وخجلاً.. ولا خجل هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود(!!) فلابدّ ينتهي بإحدى الحسنين(!!) إما بشفائه أو بكسره.
فورد من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً وقلت له: أعالم أنت أيها الصديق بما تقول؟! قال: نعم؛ أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها، واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت.
__________
(1) جميع علامات التعجب من عندي
(2) أي القديم نسبه إلى قبيلة عاد.
(3) سترى فيما بعد ما الذي حدث؟.(4/11)
قلت: هل تأذن لي أن أقول لك: إنك عشت برهة من الزمان في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم، بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك، فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟ قال: ربما وقع لي شيء من ذلك، فماذا تريد؟
قلت: أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلم به من الرجال ما ألمَّ بأغراض الرجال منك.
قال: إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها في حصن حصين لا تمتد إليه الأعناق (!!!)..
فتداخلني ما لم أملك نفسي معه، وقلت له: تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء، والثلمة التي يعثر بها في رؤوسكم؛ فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم.. فالشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم فإنا لا نجدها.. قال: أتنكر وجود العفة بين الناس؟!
قلت: لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة عند كثير من الناس ولكني سقط من بينهما الحجاب وخلا وجهة كل منهما لصاحبه..
إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه، وتطلبون عندها ما لا تجدونه عند أنفسكم، فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعد ذلك أم تخسرونها، وما أحسبكم -إن فعلتم- رابحين..
ما شكت المرأة إليكم ظلماً، ولا تقدمت إليكم طالبة أن تحلوا قيدها وتطلقوها، إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم، ولصوقكم بها، ووقوفكم في وجهها حيثما سارت، وأينما حلت، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها من سبيل إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها، تبرماً بكم، وفراراً من فضولكم، فوا عجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها.(4/12)
إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جَوُّها تبرجاً وسفوراً، ويتدفق حرية واستهتاراً، وتودون لو ظفرتم هنا بهذا العيش الذي خلفتموه هناك.
عاشت المرأة حقبة من دهرها مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشتها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها فتبثها ذات نفسها، وتستبثها سريرة قلبها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عند رضاهما، وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج، رأت هي أن الزواج أساس الحب، فقلتم لها إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرت أباها وتمردت على زوجها، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة، مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها.
قلتم لها: لابدّ لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسه أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم.
وقلتم لها إن الحب أساس الزواج فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج.
وقلتم لها أن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق، فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات القديم، فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت.
وقلتم لها لابدّ لكِ أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شؤون بيتك، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شؤون بيتها.(4/13)
وقلتم لها إنا لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا، فكان لابدّ لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومسارح أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس أعمالكم في حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات والمستهترات والضاحكات اللاعبات، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن، فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم تقدمتْ إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما يعرض النخاس أمته في سوق الرقيق، فأعرضتهم عنها، ونبوتم بها، وقلتم لها إنا لا نتزوج النساء العاهرات كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة، وقد أباها الخليع، وترفع عنها المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت.
وهكذا انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعها، وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها، فتحاجز الفريقان، وأظلم الفضاء بينهما وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاٍ متبرهبين ونساء عانسات، ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون.
فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية، وقال: تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها، فلنصبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها. فقلت له: لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن أختلف إليك بعد اليوم إبقاء عليك وعلى نفسي، لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانبُ سترٍ من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك في حضرتك تقتلين حياء وخجلاً، ثم انصرفت وكان هذا آخر ما بني وبينه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه وأصدقائه، وأنه قد أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه، فذرفت عيني دمعة لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المدال أو الحزن على الصديق المفقود.(4/14)
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام، لا أزوره فيها ولا يزورني، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب، ثم أنطلق في سبيلي.
فإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس وقد مضى الشطر الأول من الليل إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية المضطرب الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده، فأهمني أمره ودنوت منه وسألته عن شأنه فقال: لا أعلم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة، ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب، فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي القديم بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذا علني أحتاج إلى معونتك فيما قد يعرض هناك من الشؤون؟ قلت: لا أحب إلىّ من ذلك، ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يُزوّر في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إليّ فيمنعه الخجل والحياء، ففاتحته الحديث وقلت له: ألم تستطع أن تتذكر لهذه الدعوة سبباً؟ فنظر إليّ نظرةً حائرة وقال: إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث مؤلم، فقد رابني من أمرها الليلة، وإنها لم تعد إلى منزلها حتى الساعة وما كان ذلك شأنها من قبل. قلت: أما كان يصحبها أحد؟ قال: لا، قلت: ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه؟ قال: لا. قلت: ومما تخاف عليها؟ قال: لا أخاف شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيورة حمقاء، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما خصومة، انتهت إلى رجال الشرطة.. وكنا قد وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور حتى صرن بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمهما ثم استدنى الفتى إليه وقال: يسؤوني يا سيدي أن أقول لك إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان ما من أمكنة الريبة على رجل وامرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لك بها صلة فدعوناك لتكشف لنا(4/15)
الحقيقة في أمرها وأمرها وأمر صاحبها فإذا كانت صادقة إذنّا لها بالانصراف معك إكراماً لك، وإبقاء على شرفك، وإلا فهي امرأة فاجرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات، وها هما وراءك، وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى فنظر فإذا المرأة زوجته، وإذا الرجل أحد أصدقائه، فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذه وأبوابه عيوناً وآذاناً ثم سقط في مكانه مغشياً عليه.
فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل، وأمر بصاحبها إلى السجن، ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله ودعونا الطبيب فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة، ولبث ساهراً بجانبه بقية الليل يعالجه حتى دنا الصباح فانصرف الطبيب على أن يعود متى دعوناه، وعهد إلىّ بأمره فلبثت بجانبه أرثي لحاله وأنتظر قضاء الله فيه حتى رأيته يتحرك في مضجعه ثم فتح عينيه فرآني فلبِثَ شاخصاً إلىّ هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيع فدنوت منه وقلت هل من حاجة يا صديقي؟ فأجاب بصوت ضعيف خافت: حاجتي أن لا يدخل عليّ من الناس أحد، قلت: لن يدخل عليك إلا من تريد، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه فإذا عيناه مبتلتان بالدموع، فقلت: ما بكاؤك يا صديقي؟ قال: لا شيء سوى أن أقول لها أني عفوت عنها، قلت: إنها في بيت أبيها، فقال: وارحمناه لها ولأبيها ولجميع قومها فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاد فألبستهم منذ عرفوني ثوباً من العار لا تبلوه الأيام.
من لي بمن يبلغهم جميعاً أنني رجل مريض مشرف وأنني أخشى لقاء الله إذا لقيته بدمائهم وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا ذنبي فيغفر لي الله لغفرانه، قبل أن يسبق إلىّ أجلي.
لقد كنت أقسمت لأبيها يوم أهتديتها (1) أن أصون عرضها صيانتي لحياتي، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي، فحنثتُ في يميني فهل يغفر لي ذنبي فيغفر لي الله بغفرانه.
__________
(1) اهتدى الرجل امرأته؛ جمعها إليها وضمها.(4/16)
إنها قتلتْني ولكني أنا الذي فتحتُ باب بيتي لصديقي إلى زوجتي فلم يذنب لي أحد سواي.
ثم أمسك عن الكلام برهة فنظرتُ إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً، حتى لبست وجهه فزفر زفرة خلت أنها خرقت حجاب قلبه ثم أنشأ يقول:
آه ما أشد الظلام أمام عيني، وما أضيق الدنيا في وجهي، في هذه الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقف، كنت أراهما جالسين يتحدثان فتمثليء نفسي غبطة وسروراً، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفيّ يؤنس لي زوجتي في وحدتها، وزوجة سمحة كريمة تكرم صديقي في غيبتي، فقولوا للناس جميعاً إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم قد أصبح يعترف أنه أبله إلى الغاية من البلاهة، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها.
والهفاه على أم لم تلدني، وأب عاقر لا نصيب له في البنين!
لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى بعض ويحدقون النظر إلىّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجود البله، والغباوة في وجوه الأغبياء، ولعل الذين كانوا يطوفون بي ويتوددون إليّ من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي، ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم وبين أنفسهم قواداً، ويسمون زوجتي موسماً، وبيتي ماخوراً (1)، فوا رحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ولو ساعة واحدة، ووالهفاه على زاوية من زوايا قبر عميق يطويني ويطوي عاري معي.
ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه.
__________
(1) الماخور: بيت الريبة.(4/17)
وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها حتى دنت به من فراشه فتركته وانصرفت، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا صدر أبيه فلأحسّ به ففتح عينيه فرأه فابتسم لمرآة، وضمه إليه ضمة الرفق والحنان، وأدنى فمه من وجهه كأنما يريد أن يقبله ثم انتفض فجأة ودفعه عنه بيده دفعاً شديداً، فانكفأ على وجهه يبكي ويصيح وقال: أبعدوه عني، لا أعرفه ليس لي أولاد ولا نساء، سلوا أمه عن أبيه أين مكانه، واذهبوا به إليه، لا ألبس العار في حياتي، وأتركه أثراً خالداً ورائي بعد مماتي، وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به فمسع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً فأنصت إليه واستعبر باكياً وصاح أرجعوه إلىّ فعادت به المرضع فتناوله وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول:
في سبيل الله يا بني ما خلف لك أبوك من اليتم وما خلفت لك أمك من العار فاغفر لهما ذنبهما إليك فلقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال الأمانة، فسقطت، وكان أبوك حسن النية في الجريمة التي اجترمها فأساء من حيث أراد الإحسان.
سواء أكنت ولدي يا بني أم ولد الجريمة فإني قد سعدت بك برهة من الدهر فلا أنسى يدك عندي حياً أو ميتاً.
ثم احتضنه إليه وقبّله في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم أو الرجل الكريم.
وكان قد بلغ منه الجهد فعاودته الحمى وغلت نارها في رأسه وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خفتُ عليه التلف فأرسلت وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرة طويلة ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً.
ثم بدأ ينزع نرعاً شديداً ويشن أنيناً مؤلماً، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا رفضت كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها.
فإنّا لَجلوس حوله وقد بدأ الموت يُسبل أستاره السوداء حول سريره فإذا بامرأة متزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه ثم أكبت على يده الممتدة فوق صدره فقبلتها وأخذت تقول له:(4/18)
لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك أنها وإن كانت دنت من الجريمة، فإنها لم ترتكبها، فاعف عني يا والد ولدي، وأسأل الله -إن متُّ- أن يلحقني بك فلا خير لي في الحياة من بعدك.
ثم انفجرت باكية ففتح عينيه وألقى على وجهها نظرة باسمة كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى.
(6) توبة شاب على يد رجل من أهل الحسبة (1)
قال من أعرفه: أمام تلك المرأة القابعة في الزاوية الشرقية من غرفتي كنت أسرح شعري في أصيل يوم قائظ.. وكانت نغمات الموسيقى تملأ الجو صخباً وضجيجاً.. وفجأة خفق قلبي خفقاناً شديداً لم أعرف سببه.. اتجهتُ إلى المسجل وأسكتُّ تلك الموسيقى الغربية وذلك الضجيج الذي لا أفهم منه شيئاً.. وزاد قلبي خفقانا.. اتجهتُ إلى النافذة لأستنشق الهواء، إلا أنني أحسست بشعور غريب لا أعلم كنهه ولا أدرك سببه! فما هي أول مرة أستعد هذا الاستعداد.. ثم أتجه إلى أحد الأسواق كي أُنقِّلَ طرفي هنا وهناك.. وأستأثم بمعاكسة الفتيات.
وخلال عبوري البيت متجهاً إلى الباب الخارجي مررتُ بأمي.
وبعد أن تجاوزتها ببضع خطوات نادتني: أحمد لقد رأيتك البارحة في المنام.. إلا أني تظاهرت بعد السماع وواصلت المسير.. لحقتْني وأمسكتْ بذراعي وقالت: ألن تضع حداً لهذا الاستهتار وضياع الوقت يا أحمد؟.
وعندما التقتْ عيناي بعينيها عاودني ذلك الخفقان القلبي المريب.. واتجهتُ إلى الباب صامتاً ومن ثم خرجتُ إلى صديقي وبعد أن امتطيت سيارتي الفارهة.. التفَتَ إلىّ مبتسماً ونفثَ في وجهي شيئاً من دخان سيجارته الملتهبة.
أما أنا فلا زال قلبي يضرب بقوة.. رفعتُ صوت المسجل علّه يصرف عني ما بي.. أي سوق سنذهب إليه الآن؟
__________
(1) جريدة الجزيرة عدد (6999) عبد الله العلي.(4/19)
سألني.. وعندما سمعت هذه الكلمة التي سمعتها ليلة البارحة وكأنما صمّت أذناي فلم أعد أسمع شيئاً سوى صدى تلك الكلمات المتدفقة بالحياة: أخي أليس من العيب أن تضيّع شبابك لاهياً.. ساعياً.. وراء بنات المسلمين، وأن تساهم في إفساد المجتمع وأن تدعم مخططات الأعداء وأنت من فلذات أكبادنا ومن أبنائنا.. أخي ألا تتقي الله؟).
وهكذا أصحبت هذه الكلمات تدوّي في سماء عقلي كالرعد المجلجل.. وصورة ذلك الرجل الذي يضيء وجهه إيماناً وطهراً لا تفارق مخيلتي رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمسك معصمي البارحة وأنا أتجول في أحد الأسواق ألاحق الفتيات.. وهمس في أذني بتلك الكلمات التي كانت أبلغ من كل تهديد أو وعيد..
فتحت عيني فإذا بصديقي يهزني بيده سائلا: ما بك؟
التفتُّ إليه وقلت: لا شيء .. أريد أن أرجع إلى البيت. ولا أدري ما هي القوة التي دفعت بصاحبي بأن يرجعني إلى البيت بدون مناقشة.
هبطتُ من السيارة واتجهتُ إلى البيت دون أن أودع صاحبي.. وكم كان عجبي شديداً عندما رأيتُ البيت ممتلئاً.. رجالا.. ونساءً ذهلتُ.
اتجهتُ إلى أخي الصغير لما رأيته ينتحب باكياً.. سألته ما بك؟! نشج.. ثم سعل.. ثم رفع رأسه الصغير إلىّ وقد امتلأت عيناه دموعاً وقال: أحمد.. لقد ماتت أمي.. أصيبت بنوبة قلبية.. وماتت.. أحسست بقلبي يتوقف رويداً رويداً، وتمنيتُ أن يعاوده ذلك الخفقان، إلا أنه لم يفعل. لقد مضى على هذه القصة ثلاث سنوات، وها أنذا الآن أرويها بدموعي.. وأردد الدعاء وجزيل الشكر لذلك الرجل الذي منحني عاطفة صادقة وكلمات ناصحة من القلب.
(7) توبة فتاة بعد سماعها لآيات من القرآن الكريم (1)
تقول هذه الفتاة:
__________
(1) كتبتها لي بنفسها من الإمارات العربية المتحدة.(4/20)
نشأت في بيت متدين بين والدين صالحين، يعرفان الله -عز وجل- كنتُ ابنتهم الوحيدة.. فكانا يحرصان دائماً على تنشئتي تنشئة صالحة، ويحثانني على الالتزام بأوامر الله -عز وجل- وخاصة الصلاة وما إن قاربتُ سن البلوغ حتى انجرفت مع التيار، وانسقت وراء الدعايات المضللة، والشعارات البراقة الكاذبة التي يروج لها الأعداء بكل ما يملكونه من طاقات وإمكانيات.. ومع ذلك كنت بفطرتي السليمة أحب الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، وأخجل أن أرفع عيني في أعين الرجال.. كنت شديدة الحياء، قليلة الاختلاط بالناس، ولكن -وللأسف الشديد- زاد انحرافي وضلالي لدرجة كبيرة بعد أن ابتُليت بزوج منحرف لم أسأل عن دينه.. كان يمثل عليّ الأخلاق والعفة.. عرّفني على كثير من أشرطة الغناء الفاحش الذي لم أكن أعرفه من قبل، وأهدى إلىّ الكثير من هذه الأشرطة الخبيثة التي قضت على ما تبقى فيّ من دين حتى تعودتْ أذنيّ سماع هذا اللهو الفاجر.. تزوجته ووقع الفأس في الرأس.. زواجي في بدايته كان فتنة عظيمة لما صاحبه من المعازف وآلات الطرب والتبذير والإسراف والفرق الضالة والراقصات الخليعة.. مما صد كثيراً من الحاضرين عن ذكر الله في تلك الليلة.
ومع مرور الأيام التي عشتها مع هذا الزوج الذي كان السبب الأول في انحرافي وشرودي عن خالقي؛ تركت الصلاة نهائياً، ونزعت الحجاب الذي كنت أرتديه سابقاً.. ولأنني لم أعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجه)، قطعتُ الصلة بربي فقطع الصلة بي ووكلني إلى نفسي وهواي.. ويا شقاء من كان هذا حاله.. (ولا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قلْبُه عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً).(4/21)
ولكني لم أجد السعادة بل الشقاء والتعاسة.. كنت دائماً في هم وفارغ كبير جداً، أحسه بداخلي رغم ما وفّره لي زوجي من متاع الدنيا الزائل. لقد أنزلني هذا الزوج إلى الحضيض.. إلى الضياع.. إلى الغفلة بكل معانيها.. كنت دائماً عصبية المزاج غير مطمئنة.. ينتابني قلق دائم واضطراب نفسي.. وكما كنت متبرجة ينظر إلىّ الرجال، كذلك كان زوجي يلهث وراء النساء، ولم يخلص لي في حبه، فقد تركني وانشغل بالمعاكسات، والجري وراء النساء.. تركني وحيدة أعاني ألم الوحدة والضياع، وأتخبط في ظلمات الجهل والضلال.. حاولت مراراً الانتحار، لكي أتخلص من هذه الحياة الكئيبة، ولكن محاولاتي باءت بالفشل، وأحمد الله على ذلك.. إلى أن تداركني الله بفضله ورحمته واستمعتُ إلى شريط للقارئ أحمد العجمي، وهو يرتل آيات من كتاب الله بصوته الشجي.. آيات عظيمة أخذتْ بمجامع فكري وحرّكت الأمل بداخلي.. تأثرتُ كثيراً.. وكنت أتوق إلى الهداية، ولكني لا أستطيعها، فهرعتُ إلى الله ولجأتُ إليه في الأسحار أن يفتح لي طريق الهداية ويزيّن الإيمان في قلبي ويحببه إلىّ، ويكرّه إلىّ الكفر والفسوق والعصيان.. كنتُ دائماً أدعو الله بدعاء الخليل إبراهيم -عليهم السلام- (رَبِّ اجْعَلْنِيْ مُقِيْمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِيْ رِبَّنَا وَتَقَبَّلّ دُعَاء).
ورزقني الله بشائر الهداية فحافظتُ على الصلاة في أوقاتها، وارتديتُ الحجاب الإسلامي، وتفقّهتُ في كثير من أمور ديني.. حافظتُ على تلاوة كتاب الله العزيز باستمرار، وأحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة، والكثير من الكتب النافعة، وأصبحت أشارك في الدعوة إلى الله، وقد حصل كل هذا الخير بعد أن فارقتُ هذا الزوجَ المنحرفَ الذي كان لا يلتزم بالصلاة، رغم حبي له، وآثرتُ قرب خالقي ومولاي، فلا خير في زوج طالح صدني عن ذكر الله.. (ومن ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه).(4/22)
وها أنا الآن -والحمد لله- أعيش حياة النور الذي ظهرت آثاره على قلبي ووجهي، هذا بشهادة من أعرفه من أخواتي المسلمات، يقلنَ لي إن وجهك أصبح كالمصباح المنير، وقد لاحظنَ أن النور يشع منه، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه.
أدعو الله أن يثبتني على دينه وسائرالمسلمين.
أختكم:
ع. أ.
(8) توبة شاب في طليطلة (1)
يقول هذا التائب:
عشتُ حياتي في سعادة بالغة أتلقى كل الرعاية والاهتمام من والديَّ، بعد أن كرسا حياتهما من أجل إسعادي؛ لأني كنتُ الطفل الوحيد لهما.. وعندما حصلتُ على شهادتي الجامعية، أهداني والدي سيارة، وأبلغني بضرورة الاستعداد للعمل معه في شركته الخاصة.
وفي ذلك الوقت كنتُ أرتبط بعدد من زملاء الدراسة بصداقة وطيدة.. وكان أكثر هؤلاء قرباً مني شخص اسمه علي.. وزاد من ارتباطي به تشابه ظروفنا الاجتماعية، فقد كان هو الآخر وحيد والديه وكانا في حال مادية متيسرة مثل والدي تماماً.. ويسكنان بالقرب من منزلنا مما ساعد على لقائنا المستمر بصفة يومية.
وعقب تخرجنا من الجامعة معاً، عرض علي ضرورة السفر إلى الخارج، كما يفعل الآخرين من زملائنا الذين يعرفون كيفية الاستمتاع بأوقاتهم!!
وطرحتُ الفكرةَ على والديّ اللذان وافقا على سفري بعد إلحاح شديد من جانبي.. وأبدى والدي تخوفه من حدوث انحراف في أخلاقياتي مثلما حدث للكثير من الشباب، فطمأنته ووعدتُّه بأن أكون مثالاً للابن الصالح.. ووسط دعوات والديّ بسلامة العودة قمت بشراء تذكرتي سفر لنفسي ولصديقي إلى أسبانيا.
وفور وصولنا إلى هناك.. لاحظتُ أن صديقي يصرُّ على إقامتنا في أحد الفنادق دون غيرها.. ولما سألتُه عن السبب أخبرني بأن هذا الفندق يقع بجوار العديد من حانات الشراب التي سوف نجدد فيها حياتنا كالآخرين!!
__________
(1) الأمة الإسلامية عدد (17)، وطليطلة مدينة من المدن الأسبانية.(4/23)
وهنا تذكرتُّ نصائح والديّ لي بالابتعاد عن كل ما يسيء إلى ديني، فرفضتُ الذهاب بصحبته في اليوم الأول... لكن تحت ضغوط إلحاحه الشديد وافقتُ على الذهاب معه.
ومنذ اليوم الأول جرّني إلى مزالق كثيرة ومساويء أخلاقية مشينة، ولم أحس بالآثام التي ارتكبتها، إلا في اليوم التالي. وهنا أحسستُ بالندم الشديد على ما ارتكبتُه من إثم في حق ديني ونفسي.
ولكن الندم لم يدم طويلاً .. ومن أجل التغيير سافرنا إلى غرناطة وطليطلة.. وكان بصحبتي فتاة غير مسلمة أخذتْ تتجول معي في مناطق الآثار الإسلامية.
وفي طليطلة شاهدتُ القصور العظيمة التي بناها أجدادنا المسلمون.. وشرحتْ لي الفتاة كيف أن أهلها لا يذكرون المسلمون إلا بكل خير؛ لأنهم لم يسيئوا لأحد من أهل الأندلس عندما قاموا بفتحها.
وكانت خلال شرحها المسهب لعظمة التاريخ الإسلامي في هذا البلد يزداد إحساسي بالخجل مما ارتكبتُه من آثام في هذه المدينة، التي لم يفتحها أجدادنا إلا بتقوى الله -عز وجل-.
ووصل أحساسي بالذنب إلى أقصاه، عندما رأيت أحد المحاريب داخل قصر إسلامي بالمدينة كتبتْ عليه آيات من القرآن الكريم.. وكنتُ كلما نظرتُ إلى كلمات هذه الآيات أحس وكأن غصة تقف بحلقي لتفتك بي من جراء تلك الذنوب التي ارتكبتها في حق نفسي في اليوم الأول من وصولي إلى تلك البلاد التي تنتسب إلى ماضينا الإسلامي المجيد.
وانسابتْ الدموع الغزيرة من عيني عندما رأيتُ قول الله تعالى: (وَلا تَقْرَبوا الزِّنى إنَّه كانَ فَاحِشَةً وَّسَاءَ سَبِيْلاً). ودهشتِ الفتاة التي رافقتني لتلك الدموع فأخبرتُها أنني تذكرتُ بعض الذكريات المؤلمة في حياتي لإدراكي أنها لن تفهم ما سأخبرها به.
وفي هذه اللحظة قررتُ العودةَ إلى المملكة على أول طائرة تغادر برشلونة.. وحاول صديقي إقناعي بالبقاء معه لمواصلة رحلتنا، لكنني رفضتُ بإصرار، بعد أن أدركتُ بشاعة ما يرتكبه في حق دينه ونفسه.(4/24)
وهكذا عدتُ إلى بلدي نادماً على ما فعلتُ متمنياً من الله تعالى أن يغفر لي الذنوب التي ارتكبتُها.. ومنذ أن وطئتْ قدماي أرضَ بلادي، قررتُ قطع كل علاقة لي بهذا الصديق الذي كاد أن يوقعني في موارد التهلكة لكن الله تعالى أنقذني قبل فوات الآوان.
م. د. – جدة
(9) توبة شاب في روما
روما عاصمة إيطاليا، معقل النصرانية ومقر الفاتيكان.. هناك.. عاد هذا الشاب إلى ربه فوجد حلاوة الإيمان.. ولكن على يد من؟ على يد فتاة إيطالية. كانت سبباً في هدايته.. حدثني بنفسه عن قصته فقال:
ولدتُّ في مدينة الرياض ونشأتُ بين أبوين مسلمين، وفي مجتمع مسلم معروف بصفاء العقيدة وسلامتها من البدع والخرافات.. منذ الصغر كانت لي ميول (فنية) في الرسم والتشكيل، لذا تخصصت في هذا الفن، وحزتُ على شهادة في التربية الفنية، وعملتُ في سلك التدريس ملعماً لهذه المادة لمدة عام كامل، ثم أُعلن عن بعثة إلى إيطاليا للدراسة في مجال الفن وهندسة الديكور، فسارعت إلى التسجيل، فكنت ضمن قائمة المرشحين للسفر في هذه البعثة.
سافرتُ إلى إيطاليا -وكان ذلك عام 1395هـ- وكان اتجاهي آنذاك منحرفاً.. نعم.. كنتُ مقراً بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم.. ولكن لا أقيم شعيرةً من شعائر الله اللهم إلا النطق بالشهادتين.. وماذا يغني قول بلا عمل؟!
مضتْ عليّ سنتان وأنا على هذه الحال، اكتشفتُ خلالها حقيقة الحياة الغربية، وما يمكن أن أصل إليه في المستقبل، إن أنا سرتُ في هذا الطريق.. نظرتُ إلى من حولي، فلم أر إلا قطعان من الذئاب والحيوانات البشرية، التي لا همَّ لها إلا الأكل والشرب واللهو، والسعي وراء الشهوة بأي ثمن. فساد أخلاقي. أثرة وحب للذات.. هذا ما رأيته بنفسي، وبما تعلمتُه من مجتمعي المسلم المحافظ.
كنتُ أحدّث نفسي دائماً وأقول: لابدّ وأن يأتي يوم أعود فيه إلى الله وألتحق بركب الإيمان.. ولكن متى يأتي هذا اليوم؟! لا أدري.(4/25)
ومضتِ الأيام وأنا على تلك الحال من الغفلة والضياع إلى أن قررتُ الالتزام، فبدأتُ بالمحافظة على الصلاة وبعض الشعائر الظاهرة، فكان التزاماً ظاهرياً فقط دون إدراكٍ لروح الدين وحقيقته.
كنتُ أقيم هناك في مدينة تدعى (فلورنسا)، وفي إحدى الإجازات كان من المقرر أن أسافر بالقطار إلى روما -أنا وصاحب لي- لقضاء بعض الأعمال، وفي اليوم المحدد للسفر شاء الله -عز وجل- أن نصل متأخرين إلى محطة القطار، وتفوتنا الرحلة فوجدنا قطاراً آخر.
كان هذا القطار قد امتلأ بالركاب، وأوشك على المسير، فكنتُ أنا وزميلي آخر راكبين قبل إغلاق الباب.
نظرنا يميناً وشمالاً فلم نر مقعداً خالياً، فأخذنا نبحث عن مكان نجلس فيه، وبعد زمن ليس بالقصير لمحت مقعداً خالياً في إحدى المقصورات بينما وجد صاحبي مقعداً آخر في المقصورة التي تليها.
دخلتُ إلى تلك المقصورة -وهي في العادة تتسع لستة أشخاص- فلم يكن بها إلا أربعة فقط كلهن نسوة، أما المقعدان الباقيان فقد كانا مشغولين ببعض الحقائب، فاستأذنتهن في إخلاء المقعدين والجلوس فيه فأذنّ لي.
ثلاث ساعات ونصف الساعة هي المسافة الزمنية بالقطار بين فلورنسا وروما.. مضتْ ساعتان ولم يتفوه أحد منا بكلمة واحدة.. بعضنا كان يقرأ، والبعض الآخر كان يقلب نظراته تارة من خلال النافذة وتارة في وجوه الآخرين.
كنتُ أحمل في يدي كتيباً صغيراً ولكني شعرت بالملل -وهو ما لاحظته على وجوه البقية- فأردتُ أن أكسر حاجز الصمت، وأبدأ في الكلام.
فقلتُ: إننا منذ ساعتين لم نتحدث ولم ننطق بكلمة واحدة.. فوافقنني على ذلك، وبدأ النقاش..
قالت إحداهن: من أين أنت؟ قلت: من السعودية.. وأنت؟ قالت: أنا إيطالية ]نصرانية[ .. وجاء دور الثالثة لتعرّف بنفسها فقالت: إنها يهودية من إسرائيل.
ما أن أطلقتْ هذه اليهودية كلمتها حتى انتفضتُ كما ينتفض العصفور إذا بلله القطر، وتمعر وجهي، وتسارعت نبضات قلبي، فكانت تلك نقطة التحول.(4/26)
(يهودية من إسرائيل)!! قالتها بتحدٍ واضح وتعالٍ واستكبار وكأنها تقول لي: إنني من الأرض التي انتزعناها من أيديكم وطردناكم منها فمتْ بغيظك..
كانت لحظات معدودة ولكني أذكر تفاصيلها بدقة ولن أنساها ما حييت.. ثم تفجر البركان..
لقد فقدتُ شعوري في تلك اللحظات، وانفجرتُ بالكلام على الرغم من قلة بضاعتي في العلم الشرعي، بل حتى في التحدث مع الآخرين.. وقمت بشن هجوم عنيف لا هوادة فيه على هذه اليهودية، وقلتُ كلاماً كثيراً -لا أتذكره الآن- ولم يتوقف هذا البركان المتدفق عن الكلام المتواصل إلا حينما توقف القطار في محطته في روما..
ساعة كاملة ونصف الساعة من الحديث المتواصل دون انقطاع.. كانت الأفكار تتدفق كالسيل وتسبق الكلام أحياناً على الرغم من ضحالة ثقافتي العامة -كما أسلفت- إلا فيما يتعلق بالألوان والرسم.
وإن مما أذكره الآن أنني بدأت بالقضية الفلسطينة، وأن اليهود مغتصبون وخونة، وهي عادتهم على مرّ التاريخ، وأنهم شعب مشرد جبان.. الخ، وجرني هذا الحديث إلى الحديث عن الديانة اليهودية وما طرأ عليها من التحريف، وكان من الطبيعي أن يجرني الحديث إلى النصرانية كذلك وما طرأ عليها من تحريف النصارى.. وهذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها عن مثل هذه الموضوعات المتعلقة بالأديان.
وواصلتُ الحديث بحماس واندفاع منقطع النظير.. وقد ظهرت واضحة أثناء حديثي الحمية الدينية والقومية والوطنية.. وما شئت من الحميات لاسيما وأنني لم أكن -آنذاك- قد التزمت التزاماً حقيقيا.
وبعد الفراغ من الحديث عن الديانتين اليهودية والنصرانية؛ تحدثت عن الإسلام وسماحته ويسره.. ومن ثم عقدتُّ مقارنة بين هذه الديانات الثلاث.. وأنا حين أتذكر ذلك أضحك من نفسي، وأعجب كيف حدث هذا.
كنتُ أتحدث والجميع ينصتون إليّ وقد حدجوني بأبصارهم إلا اليهودية، فقد نكّست رأسها خوفاً أو خجلاً -لا أدري- ولسان حالها يقول ليتني لم أقل شيئا...(4/27)
ولما توقف القطار كانت أول نازل منه.. أما الآخريات فقد شكرني على ما قلتُ إما مجاملة أو خوفاً.. لا أدري أيضاً.
وعند نزولي من القطار كانت الإيطالية تنتظرني -وهي فتاة في العشرينات من عمرها- فأثنتُ على ما قلتُ وطلبتْ مني مزيداً من المعلومات عن الإسلام فأخبرتُها بأني لا أعلم الآن شيئاً غير ما قلته.. ولكني سأحاول البحث مستقبلاً وسؤال أهل العلم عما يشكل.. وكتبتُ لها عنواني، ومن توفيق الله أنها كانت تسكن في ذات المدينة التي أسكنها وهي فلورنسا، وأنها قدِمتْ إلى روما لعمل وستعود بعد أيام، وأنا كذلك.
كانت تسكن في فلورنسا مع أخيها للدراسة بعيداً عن أهلها الذين يسكنون في الجنوب. وفي أول لقاء تم بيننا كان الحديث عادياً بعيداً عن الدين، وتكررتْ الزيارات بيننا وكنتُ أتجنب الحديث عن الدين لوجود أخيها معنا، ولكنها هي كانت تسألني دائماً عن الإسلام، فقد كان لديها شغف عجيب للتعرف على هذا الدين، وكما قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَّهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرُه لِلإسلام، وَمَنْ يُّردْ أنْ يُْضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقاً كأنمّا يَصَّعَدُ في السَّمَاءِ..).
أما أخوها فلم يكن يعجبه الحديث حول هذه الأمور، فكان يتهرب عند اللقاء ويبتعد عن المجلس، متظاهراً بالانشغال بأمور أخرى.
كانتْ تسألني أسئلة كثيرة معظمها لا أعرف له جواباً، فكنتُ لا أجيبها إلا بعد سؤال أهل العلم أو البحث والقراءة.
والحقيقة أنني -بسبب أسئلتها- تبينتُ حقيقة نفسي وجهلي المطبق بأحكام ديني الذي تنكرت له زمناً طويلاً.
وفي الإجازة عدتُ إلى المملكة في زيارة، وعند عودتي حملتُ معي مجموعة من الكتب في أصول الدين وفروعه، وانهمكتُ في القراءة بشغف شديد ونهم غير معتاد.
كنتُ أقرأ أولاً ثم أحاول فهم ما قرأته فهماً جيداً لأترجمه إلى الإيطالية بعد ذلك، ومثل هذا العمل يستغرق وقتاً طويلاً وجهداً مضاعفاً.(4/28)
وهناك قدّر الله عليّ بمرض أُدخلت بسببه المستشفى وقد مكثتُ فيه خمسة عشر يوماً، وخلال هذه الأيام المعدودة قرأت صحيح الإمام مسلم بكامله، وقمتُ بترجمته لها، ولك أن تتخيل مدى الجهد، الذي يمكن أن يبذل في مثل هذا الأمر -قراءة وترجمة- خلال هذه المدة القصيرة، فقد كنتُ أقرأ يوماً وأترجم ما قرأته في اليوم التالي.
فتغيرتْ حياتي ومفاهيمي وسلوكي، وأصبحتُ إنساناً آخر غير ذلك الإنسان العابث اللاهي.
أما هي فقد اقتنعتْ بالإسلام، وقالت لي بكل وضوح: (إنني الآن مسلمة).
لقد أسلمتْ هذه الفتاة الإيطالية في معقل النصرانية، إلا أنها لم تعلن إسلامها، وإنما جعلته بينها وبين ربها، وأصبحتْ تحرص على تطبيق تعاليم الإسلام في كل ما تعلم، ومن ذلك اللباس والمأكل والهيئة.
وعَلِمَ أخوها بالخبر، فأرسل إلى أهله يخبرهم بما حدث، فغضبوا عليها وقطعوا عنها المعونة الشهرية، وبدؤوا بمضايقتها وتهديدها عن طريق الرسائل وغيرها، إلا أن ذلك كله لم يصدها عن اتباع الدين الحق، لاسيما وأنها منذ البداية لم تكن مقتنعة بدين النصارى وخرافاتهم، فقد كانت تمقت وبشدة شرب الخمر الذي يعتبرونه دم المسيح -عليه السلام-، كما كانت تمقت التعري على البحر، وتعاف لحم الخنزير، ومنذ أن بلغتْ السابعة من عمرها لم تدخل الكنيسة قط.. وبالجملة كانت تمقت دين النصارى بكل ما فيه من شرك وخرافات.
كنتُ أعلم أنها في ضائقة مالية ولكني تعمدتُّ ألا أعطيها شيئاً من المال إلا القليل لأرى صدق إيمانها ويقينها؛ فكانت صادقة والحمد لله.
ولما كثرتْ التهديدات والمضايقات من أهلها، قامتْ بتوكيل محامٍ للدفاع عنها، فكفاها الله شرهم وكفوا عن أذاها.(4/29)
وأعلنتْ إسلامها، وبدأتْ في التطبيق بشكل جدي وبحماس شديد يفوق حماس بعض المسلمات العربيات هناك، بل كانتْ تنصحهنَّ أحياناً حتى أصبحن يتوارين منها خجلاً، ولم يكن ذلك بفضلي وإنما بتوفيق الله -عز وجل- وحده بل لقد كانت هي سبباً في هدايتي ورجوعي إلى الله.
لم أكن آنذاك متزوجاً، وفي الوقت نفسه لم أكن أفكر في الزواج من أجنبية، فقد كنت -ولازلتُ- ضد ذلك، وقد كنتُ تقدمتُ لخطبة إحدى الفتيات السعوديات هناك، وكان من المقرر أن يتمَّ الزواج بعد الإجازة، وحينما ذهبتُ إليهم بصحبة هذه الفتاة الإيطالية -وقد أرادتْ أن تستفيد منهم- أساؤوا بي الظن، مما أدى إلى سوء تفاهم بيننا، ومن ثمّ تأجيل الزواج أو إلغاؤه، ولكنهم بعد زمن علموا حقيقة الأمر وإني ما أردتُّ إلا خيراً.
وشاء الله أن يحدث بيني وبين تلك الفتاة خلاف، فغضبتُ عليها، فجاءني أحدهم ليصلح بيننا، فعجبتُ لمجيئه، وهو الذي أساء بي الظن من قبل، وفسخ خطوبتي من قريبته، فأخبرني بأنه قد علم حقيقة الأمر، وأنه يأسف لما حدث، ثم نصحني بالزواج من تلك الفتاة الإيطالية وترك التفكير في قريبته.
وهنا انقلبت لدي كل الموازين، فأنا لم أكن أفكر في الزواج من أجنبية أصلاً، بل لقد أخبرتُ صاحبتي الإيطالية بأني لن أزوجها وألا تفكر في ذلك أبداً –علماً بأن علاقتي بها كانت نظيفة، لا يشوبها فعل محرم حتى أني لم أخلُ بها قط- (1) ولكن عندما عرض عليّ الأخ هذا الموضوع بدأت أضرب حسابات أخرى، وفكرتُ في الأمر جدياً، فاستخرتُ الله -عز وجل- وانشرح صدري لذلك ففاتحتها بالموضوع..
لم تصدق باديء الأمر وظنتْ أني أسخر منها، ولكني أخبرتُها أن الأمر جد، فوافقتْ بلا تردد، لاسيما وأن الظروف كانتْ مهيأ لإتمام هذه الزيجة.
__________
(1) لا يجوز للرجل أن يصاحب امرأة أجنبية عنه مهما ادعى أن علاقته بها نظيفة أو بريئة.(4/30)
فقمنا بإتمام عقد النكاح على سنة الله ورسوله، ورزقتُ منها بأربعة أولاد -ولله الحمد- ونحن الآن نعيش في سعادة وهناء، وقد أنهيتُ بعثتي وعدتُّ إلى أرض الوطن.. ذهبتُ ضالاً وعدتُ مهتدياً غانماً، فلله الحمد والمنة.
(10) توبة طالبة على يد معلمتها (1)
تقول هذه التائبة:
(لا أدري بأي كلمات سوف أكتب قصتي.. أم بأي عبارات الذكرى الماضية التي أتمنى أنها لم تكن؛ سوف أسجلها..)
فقد كان إقبالي على سماع الغناء كبيراً حتى أني لا أنام ولا أستيقظ إلا على أصوات الغناء.. أما المسلسلات والأفلام فلا تسأل عنها في أيام العطل.. لا أفرغ من مشاهدتها إلا عند الفجر في ساعات يتنزل فيها الرب -سبحانه- إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟.. هل من سائل فأعطيه سؤاله؟.. وأنا ساهرة على أفلام الضياع..
أما زينتي وهيئتي فكهيئة الغافلات أمثالي في هذه السن: قصة غريبة، ملابس ضيقة وقصيرة، أظافر طويلة، تهاون بالحجاب.. الخ.
في الصف الثاني ثانوي دخلتْ علينا معلمة الكيمياء، وكانت معلمة فاضلة صالحة.. شدني إليها حسن خلقها، وإكثارها من ذكر الفوائد، وربطها مادة الكيمياء بالدين، حملتني أقدامي إليها مرة، لا أدري ما الذي ساقني إليها لكنها كانت البداية.
جلستُ إليها مرة ومرتين، فلما رأتْ مني تقبلاً واستجابةً نصحتْني بالابتعاد عن سماع الغناء ومشاهدة المسلسلات.
قلتُ لها: لا أستطيع.
__________
(1) كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(4/31)
قالت: من أجلي.. قلتُ: حسناً من أجلك، وصمتُ قليلاً ثم قلتُ لها: لا.. ليس من أجلك بل لله إن شاء الله.. وكانت قد علمتْ مني حب التحدي. فقالتْ: ليكن تحدٍ بينك وبين الشيطان، فلننظر لمن ستكون الغلبة، فكانت آخر حلقة في ذلك اليوم، فلا تسأل عن حالي بعد ذلك وأنا أسمع من بعيد أصوات الممثلين في المسلسلات.. أأتقدم وأشاهد المسلسل.. إذن سيغلبني الشيطان.. ومن تلك اللحظة تركتُ سماع الغناء ومشاهدة المسلسلات ولكني -بعد شهر تقريبا- عدتُ إلى سماع الغناء خاصة، واستطاع الشيطان -على الرغم من ضعف كيده كما أخبرنا الله- (1) إن يغلبني لضعف إيماني بالله.
وفي السنة الثالثة -وهي الأخيرة- دخلتْ علينا معلمة أخرى، كنت لا أطيق حصتها وعباراتها الفصيحة ونصائحها.. إنها معلمة اللغة العربية، وفي أول امتحان لمادة النحو، فوجئتُ بالحصول على درجة ضعيفة جداً، وقد كتبتْ المعلمة في ذيل الورقة بخطها عبارات عن إخلاص النية في طلب العلم، وضرورة مضاعفة الجهد، فضاقتْ بي الأرضُ بما رحبت؛ فما اعتدتُّ الحصول على مثل هذه الدرجة ولكن.. عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم...
__________
(1) قال تعالى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)(4/32)
ذهبتُ أحث الخطى إليها، فبأي حق توجه إليّ هذه العبارات، فأخذتْ تحدثني عن إخلاص النية في طلب العلم، و...، وفي اليوم التالي أخبرتني إحدى الأخوات أن المعلمة تريدني، فلم ألق لذلك بالاً، ولكن شاء الله أن أقابلها عند خروجها وهي تحمل في يدها مصحفاً صغيراً.. صافحتني، ووضعتْ المصحفَ في يدي، وقبضتْ على يدي، وقالت: لا أقول لك هدية بل هي أمانة، فإن استطعتِ حملها وإلا فأعيديها إلىّ.. فوقع في نفسي حديثها، ولكني لم أستشعر نقل تلك الأمانة إلا بعد أن قابلت إحدى الأخوات الصالحات فسألتني: ماذا تريد منك؟ فقلتُ: إنها أعطتني هذا المصحف وقالت لي: أمانة.. فتغير وجه هذه الأخت الصالحة، وقالت لي: أتعلمين ما معنى أمانة؟!.. أتعلمين ما مسؤولية هذا الكتاب؟! أتعلمين كلامَ مَن هذا، وأوامر مَن هذه؟!.. عندها استشعرتُ ثقل هذه الأمانة.. فكان القرآن الكريم أعظم هدية أهديت إلىّ.. فانهمكتُ في قراءته، وهجرتُ -وبكل قوة وإصرار- الغناء والمسلسلات، إلا أن هيئتي لم تتغير.. قصة غريبة، وملابس ضيقة.. أما تلك المعلمة فقد تغيرت مكانتها في نفسي، وأصبحت أُكِنُّ لها كل حب وتقدير واحترام.. هذا مع حرصها على الفوائد في حصتها، وربط الدرس بالتحذير مما يريده منا الغرب من التحلل والإباحية ونبذ كتاب الله جانباً .. وفي كل أسبوع كانت تكتب لنا في إحدى زوايا السبورة آية من كتاب الله، وتطلب منا تطبيق ما في هذه الآية من الأحكام.. وهكذا ظلتْ توالي من نصائحها إصافةً إلى نصائح بعض الأخوات حتى تركتُ قَصةَ الشعر الغربية عن اقتناع، وأنها لا تليق بالفتاة المسلمة المؤمنة، وأنها ليست من صفات أمهات المؤمنين.. فتحسن حالي -ولله الحمد- والتزمتُ بالحجاب الكامل من تغطية الكفين والقدمين بعدما كنتُ أنا وإحدى الصديقات نحتقر لبس الجوارب حتى إننا كنا نلبسه فوق الحذاء (!!) استهزاءً، ونضحك من ذلك المنظر.(4/33)
أنهيتُ الثانوية العامة، والتحقتُ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وفي يوم من الأيام ذهبتُ مع إحدى الأخوات إلى مغسلة الأموات، فإذا بالمغسلة تغسَّل شابة تقارب الثالثة والعشرين من عمرها -وكانت في المستوى الثالث في الجامعة-.. ولا أستطيع وصف ما رأيت.. تُقلب يميناً وشمالاً لتُغسّل وتكُفّن، وهي باردة كالثلج.. أمها حولها وأختها وأقاربها، أتراها تقوم وتنظر إليهم آخر نظرة، وتعانقهم وتودعهم؟!.. أم تراها توصيهم آخر وصية.. كلا لا حراك.
وإذ بأمها تقبّلها على خديها وجبينها -وهي تبكي بصمت- وتقول: اللهم ارحمها.. اللهم وسعّ مدخلها.. اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة.. وتقول لها: قد سامحتك با ابنتي.. ثم يسدل الستار على وجهها بالكفن..
ما أصعبه من منظر.. وما أبلغها من موعظة.. لحظات وستوضع في اللحد، ويهال عليها التراب، وتسأل عن كل ثانية من حياتها.. فوالله مهما كتبتُ من عبارات ما استطعتُ أن أحيط بذلك المشهد..
لقد غيّر ذلك المشهد أموراً كثيراً بداخلي، وزهدني بهذه الدنيا الفانية.. وإني لأتوجه إلى كل معلمة، بل إلى كل داعية أيّاً كان مركزها، أن لا تتهاون في إسداء النصح وتقديم الكلمة الطيبة حتى وإن أقفلت في وجهها جميع الأبواب.. حسبها أن باب الله مفتوح.
كما أتوجه إلى كل أخت غافلة عن ذكر الله.. منغمسة في ملذات الدنيا وشهواتها.. أن عُودي إلى الله -أُخيّة- فوالله إن السعادة كل السعادة في طاعة الله..
وإلى كل من رأت في قلبها قسوة، أو ما استطاعت ترك ذنب ما.. أن تذهب إلى مغسلة الأموات؛ وتراهم وهم يغسلون ويكفنون.. والله إنها من أعظم العظات (وكفى بالموت واعظاً).
أسأل الله لي ولكن حسن الخاتمة.
أختكم أم عبد الله.
(11) توبة شاب مصري (1)
__________
(1) كتبها لي بنفسه.(4/34)
يقول المنصر جيفورد بالكراف: (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه) (1).
في إندونيسيا المسلمة قام مجموعة من المنصّرين بتنصير عدد كبير من المسلمين مستغلين ما هو فيه من الجهل والحاجة، وبعد أن فرغوا من تعميدهم في الكنيسة قالوا لهم: والآن ماذا تريدون؟؟ قالوا: نريد أن نذهب مكة..(2)
إن العقيدة الإسلامية راسخة في قلوب المؤمنين رسوخ الجبال الرواسي، ولولا جهل كثير من المسلمين بدينهم، وشدة حاجتهم وفقرهم؛ ما تنصر مسلم واحد على وجه الأرض مهما انفق المنصرون وغيرهم من الأموال الطائلة لصد المسلمين عن دينهم، وأخراجهم منه.. يقول الله -عز وجل- : (إنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا يُنْفِقُونَ أموَالَهُمْ لِيَصُدُّوْا عَنْ سَبِيْلِ الله، فَسَيُنْفِقُوْنَهَا ثُمَّ تَكُوْنُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُوْنَ، وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا إلى جهنَّمّ يُحْشَرُوْنَ).
وقصة هذا الشاب شاهد على ما أقول.. يقول:
أنا شاب مصري من محافظة أسيوط، نشأت بين والدين مسلمين في سعادة غامرة إلا أن سعادتي لم تدم طويلاً إذ شاء الله أن يطلق والدي والدتي فقررنا -أنا واخوتي- العيش مع والدتي، مما جعل والدي يقطع عنا المصروف لنعيش في حال لا يعلمها إلا الله؛ من الفقر والحاجة.
__________
(1) الإسلام على مفترق الطرق، لمحمد أسد.
(2) لست - بذكر هذه القصة- أقلل من شر التنصير والمنصرين. فالتنصير يجتاح العالم الإسلامي بطرقه ووسائله الملتوية الخبيثة، لا لمهارة المنصرين ولكن لضعف المسلمين وابتعادهم عن دينهم.(4/35)
كنتُ أعمل عملاً متواصلاً لتوفير لقمة العيش لي ولإخوتي، ولما ضافت بي الحياة في بلدتي الصغيرة قررتُ السفر إلى القاهرة للبحث عن عمل أفضل، فوجدتُ عملاً في أحد المقاهي وهنا تبدأ القصة، فقد تعرفتُ من خلال عملي هذا على أصدقاء كثيرين، من بينهم عدد من النصارى.. كانوا يعاملونني معاملة خاصة وباهتمام شديد.. فكنتُ أقضي معهم معظم الأوقات. نضحك ونلهوا. مع جهلي الشديد بديني حيث كنتُ منهمكاً في البحث عن الشهوات وتعاطي المخدرات أحياناُ على الرغم من حالتي الاقتصادية السيئة.
أعود إلى الحديث عن (أصدقائي) النصارى فقد كانوا خمسة، يعملون في مصنع للأحذية يمتلكه أحدهم، وشيئاً فشيئاً بدؤوا يحدثونني عن المسيح، ويخوضون معي في حوارات دينية.. وذات مرة دخلت عليهم في مصنعهم وهم يستمعون -من شريط مسجل- إلى ترانيم دينية لرجل نصراني كان يرتل بعض الأناشيد عن يسوع المسيح (عيسى عليه السلام) وأمه العذراء، ونحن المسلمين نؤمن بعيسى -عليه السلام- عبداً ورسولاً، كما نؤمن بأمه العذراء، فلاحظوا عليّ تأثراً وانفعالاً.. فكانوا كلما غبتُ عنهم سألوا عني، وإذا علموا بقدومي إليهم أعدوا لي شريطاً دينياً ليسمعوني إياه، ثم يعدونني بشريط آخر جديد، وفي الوقت نفسه لا يردون لي طلباً مهما كان، وإذا أحضروا شيئاً من الطعام -كالجبن والسمك- حفظوا لي منه، في الوقت الذي أجد فيه معاملة قاسية من إخواني المسلمين بل من أقرب الناس إليّ، والدي -سامحه الله- الذي كان يعمل على تجويعنا وتحطيم حياتنا.
ثم بدأ هؤلاء النصارى يمنعون عني الأشرطة فكنت أشتاق إليها لجهلي، فيعدونني بها لكن لا يفون بوعدهم، فأصبحتُ حائراً، وبصراحة كرهتُ المسلمين، وبدأتُ أتقرب إلى النصارى بشدة(!!)(4/36)
وذات مرة سألوني: ما رايك في دين المسيح؟.. قلت لهم: من الأديان السماوية ولا شك (1) .. ثم سألتُهم عن دين الإسلام.. فقالوا: إن الإسلام ليس ديناً صحيحاً.. قلتُ لهم: كيف ذلك؟!.. قالوا لي: ذات مرة كان المسيح -عليه السلام- يجلس مع تلاميذه، فسألوه: أأنت هو أم يوجد أحد بعدك فنتبعه؟ قال المسيح -والكلام لهم-: أنا هو لا يوجد غيري (2)..
أي أنهم لا يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كاذب...
ولم يكونوا يصرحون بذلك، وإنما يأتون بكلمات معسولة وبطرق ملتوية.. وهذا ما غرني بهم، وجعلني أقترب منهم أكثر، وأبتعدُ عن كل ما هو من الإسلام.. حتى بلغت بهم الوقاحة والجرأة إلى شتم الحبيب صلى الله عليه وسلم، بشتائم أعجز عن ذكرها، ولفرط جهلي كنت أصدقهم فيما يقولون -أسأل الله أن يغفر لي-.
واستمر هؤلاء في حوارهم معي، وتطرقنا لمسألة صلب المسيح، وجرنا الحديث إلى حقيقة المسيح -عليه السلام- فقلتُ لهم: كيف يكون عيسى -عليه السلام- إلها؟! قالوا: أولاً نحن لا نسمي المسيح عيسى، وإنما نسميه (يسوع).. قلت لهم إن اسمه عندنا عيسى.. قالوا: ألم نقل لك من قبل إن دينكم ليس بصحيح.
__________
(1) الدين النصراني من الأديان السماوية قبل أن يطرأ عليه التحريف، وأما اليوم فهو كسائر الأديان البشرية الوثنية، ثم إن الإسلام جاء ناسخاً لجميع الأديان السابقة. قال تعالى: (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
(2) كذبوا على أنفسهم وعلى المسيح -عليه السلام- فإن نبينا محمداً، صلى الله عليه وسلم، مذكور في الأناجيل الصحيحة التي لم تمسها أيدي النصارى.(4/37)
قلتُ: إذاً كيف يكون إلهاً؟! إن الرب عندما أرسل رسله إلى الناس وجدهم يعادون هؤلاء الرسل، ويعذبونهم، فقرر الرب (!!) أن ينزل إلى الأرض لكي يدعو الناس بنفسه، ولكن لو نزل على صورته الحقيقية مات الناس جميعاً، لذا قرر أن ينزل على صورة إنسان ويكون هو آخر الرسل إلى يوم القيامة فاختار امرأة كانت على قدر من التقوى.. إلى آخر تلك الخرافات التي يعتقدونها والتي لا تليق بالله -عز وجل- (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً).
ولفرط جهلي آنذاك قلتُ لهم: بالفعل هذا الصيحيح.
وتمضي الأيام وأنا أزداد منهم قرباً ومن الإسلام بعداً حتى أصبحوا يسخرون من المسلمين جميعاً ويشتمون الصحابة -رضي الله عنهم- وعلماء المسلمين كأبي حنيفة وغيره وأنا معهم في ما يقولون -أسأل الله أن يعفو عني ويغفر لي-.
ثم تحدثنا عن مسألة صلب المسيح فقلتُ لهم: إن القرآن يقول: (وما قتلوه وما صَلَبُوه وَلكنْ شُبّهَ لهم) (1) فقالوا: لقد حدثناك من قبل عن موضوع القرآن.. قلت: تعنون أن القرآن محرف؟. قالوا -والابتسامة تملأ وجوههم-: إنه لا أصل له نهائياً.
واقتنعتُ بكلامهم، وكرهتُ ديني الإسلام، كما كرهتُ كل مسلم على وجه الأرض، ثم سألتُهم: ما شعوركم حين تسمعون أن نصرانياً قد أسلم؟ قالوا: كأنك مررتَ بشارع فرأيتَ كلباً دهستْه سيارة فحزنتَ لذلك، ثم عدتَّ إلى البيت ونيستَ ما حدث.. أرأيت -أخي المسلم- إنهم يعتبرون المسلمين كالكلاب.. عفواً، فما كنتُ أريد أن أكتب كل هذا، ولكن لتتضح الحقيقة كاملة.
ثم بدؤوا يدعونني بشدة، وأنتظر لقاءهم بشوق حتى قال لي أحدهم لماذا لا تتنصر؟؟ قلتُ: إني أخاف أن يقتلني أهلي، قالوا: لا وهناك سنعطيك ما تريد.. فقلتُ: أمهلوني إذن أسبوعاً واحداً.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 157.(4/38)
وفي هذا الأسبوع، وفي الأيام منه كنتُ أسبح في بحر من التفكير والهموم والخطرات المتلاحقة، وقبل نهايته بيومين عزمتُ على الذهاب إليهم للتخلي عن إسلامي، الذي لم أكن أعرفه حق المعرفة، وهنا أدعوكم أن تتأملوا معي لطف الله -عز وجل- فبينما أنا ذاهب إليهم وقد تعلق قلبي بهم، مررتُ في طريقي بمسجد صغير -وكان الوقت ظهراً- وجدتُّ المسجد مفتوحاً، وخالياً من المصلين، فدلفت إليه وقلتُ في نفسي: سوف أرى الآن هل الإسلام حق أم باطل.. فتوضأت وصليتُ ركعتين، ودعوتُ ربي وتضرعتُ إليه أن يهديني إلى الدين الحق، فشعرتُ بإحساس غريب يسري في كياني ويهزني هزّاً عنيفاً... أحسستُ بأني لستُ ذلك الرجل الذي سبّ دينه وأراد أن يتخلى عنه من أجل حفنة من المال أو الطعام.. وخرجتُ من المسجد مندفعا تسوقني أقدامي إلى ذلك المصنع.
دخلت عليهم دون تحية فإذا بهم يهابونني على غير العادة أحسست وكأن بداخلي بركاناً تأثراً يريد أن يتفجر.. وتفجر البركان.. وتكلمتُ بكلام طويل كأنما قد حفظته من قبل عن ظهر قلب.. كنتُ أتكلم بقوة وهم يستمعون إلىّ والدهشة قد عقدتْ ألسنتهم. لم أقف لحظة واحدة وكأنما هناك قوة تدفعني للكلام.. وآثار الوضوء لازالت تتقاطر من وجهي.
أحسستُ بأن الله ينصرني في وجه الباطل.. قلتُ لهم منفعلا: أريد أن أسألكم سؤالاً واحداً قبل أن أتنصر، إن أجبتم عليه تنصرت فوراً -وكنت واثقاً من أنهم لن يجيبوا عليه-.
قلت لهم -متهكماً- لنفرض أن المسيح هو الإله.. ففرحوا بذلك.. قلتُ: فكيف كان حال الكون والمسيح والرب- حسب زعمكم- موجود في بطن امرأة من خلقه؟!.. كيف كان حال الدنيا ونظام الكون بأكمله وقد قتل المسيح الإله -بزعمكم- وصُلب.. هل الإله يقتل ويصلب؟؟ وهل الإله تحمله امرأة في بطنها؟!!
فرأيت الوجوم باد على وجوههم وقد صوبوا إليّ أبصارهم وهم في غاية الدهشة.(4/39)
قلت لهم -متهكما- لنفرض أن المسيح إله ولكن أليس الذي قتل المسيح وصلبه أقوى منه؟ فالأولى أن نعبد من قتله وصلبه.. ولكن أين الذين قتلوه -حسب زعمكم-؟ لقد ماتوا جميعاً.. ومن الذي أماتهم؟ إنه الله -عز وجل- فإن للكون إلهاً واحداً، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
قلت لهم أجيبوا.. فلم يجيبوا وبهتوا جميعاً، فخرجتُ مسرعاً وكأني قد ملكتُ الدنيا بأسرها، وتمنيت لو أحتضن كل مسلم يمشي على وجه الأرض وأطلب منه السماح بسبب ما ارتكبتُه في حقه.. لقد خنت ديني، وكدت أن أخلى عنه، ولكني أحمد الله الذي هداني وأعادني إليه، ووالله إن ديني خير من المال والطعام ومن كل متاع الدنيا الزائل.
ولكن هل تركني أهل الباطل؟ كلاً فقد أرسلوا ورائي أحد (البلطجية) ودفعوا له مبلغاً من المال لضربي والاعتداء عليّ ولكني لم آبه لذلك بل كنت مسروراً لأنني سأضرب في سبيل الله بعد أن انتصرت لديني وعقيدتي.
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشاء ... يبارك على أوصال سلو ممزع
وتركتُ القاهرة وعدتُّ إلى بلدتي الصغيرة ولما أهتد بعد هداية كاملة فقد كنت أدخن بشراهة وأتردد على المقاهي، واستمع إلى الغناء المحرم، حتى قابلت رجلاً آخر نصرانياً، وخضت معه في حوار حول الدين، فرآني أحد الإخوة الفضلاء -وكان يعلم ما حدث لي في القاهرة- فأبعدني عن هذا النصراني الكافر، وعرفني على أحد المشائخ الفضلاء، فأخبرتُه بما حدث لي فجعل يتعهدني بالرعاية والاهتمام، وأخذ بيدي إلى بر الأمان، فبدأت أصلي، وأقترب من المسلمين وأحبهم، وأسير على النهج الإسلامي القويم، وأنا الآن في العشرين من عمري.. وإني -بهذه المناسبة- أدعو المسلمين عامة والشباب خاصةً أن يعضوا على دينهم وألا يختاروا عنه بديلاً، فهو الدين الحق الذي لا يقبل الله ديناً سواه.(4/40)
قال تعالى: (وَمَنْ يَّبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ فَلَنْ يَّقْبل مِنه وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِيْنَ).
(12) توبة رجل عاص على يد ابنته الصغيرة
كان يقطن مدينة الرياض.. يعيش في ضياع ولا يعرف الله إلا قليلاً.
منذ سنوات لم يدخل المسجد، ولم يسجد لله سجدة واحدة.. ويشاء الله -عز وجل- أن تكون توبته على يد ابنته الصغيرة.
يروي القصة فيقول:
كنتُ أسهر حتى الفجر مع رفقاء السوء في لهو ولعب وضياع، تاركاً زوجتي المسكينة، وهي تعاني من الوحدة والضيق والألم ما الله به عليم، لقد عجزتْ عني تلك الزوجة الصالحة الوفية، فهي لم تدخر وسعاً في نصحي وإرشادي، ولكن دون جدوى...
وفي إحدى الليالي، جئت من إحدى سهراتي العابثة، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً، فوجدتُ زوجتي وابنتي الصغيرة وهما تغطان في سبات عميق، فاتجهت إلى الغرفة المجاورة لأكمل ما تبقى من الفيديو.. تلك الساعات، والتي ينزل فيها ربنا -عز وجل-، فيقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه سؤاله؟..).
وفجأة.. فتح باب الغرفة، فإذا هي ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة.
نظرِتْ إلىّ تعجب واحتقار، وبادرتني قائلة: (يا بابا، عيب عليك، اتق الله...). ردّدتْها ثلاث مرات، ثم ألقت الباب وذهبت.. أصابني ذهول شديد، فأغلقت جهاز الفيديو، وجلستُ حائراً وكلماتها لا تزال تتردد في مسامعي وتكاد تقتلني.. فخرجتُ في إثرها فوجدتها قد عادت إلى فراشها..
أصبحت كالمجنون، لا أدري ما الذي أصابني في ذلك الوقت، وما هي إلا لحظات حتى انطلق صوت المؤذن من المسجد القريب؛ ليمزق سكون الليل الرهيب، منادياً لصلاة الفجر.
توضأت، وذهبت إلى المسجد، ولم تكن لدي رغبة شديدة في الصلاة، وإنما الذي كان يشغلني ويقلق بالي، كلمات ابنتي الصغيرة.(4/41)
وأقيمت الصلاة.. وكبر الإمام، وقرأ ما تيسر له من القرآن، وما إن سجد وسجدتُ خلفه ووضعتُ جبهتي على الأرض حتى انفجرتُ ببكاء شديد لا أعلم له سبباً، فهذه أول سجدة أسجدها لله -عز وجل- منذ سبع سنين.
كان ذلك البكاء فاتحة خير لي، لقد خرج مع ذلك البكاء كل ما في قلبي من كفر ونفاق وفساد، وأحسستُ بأن الإيمان بدأ يسري بداخلي..
وبعد الصلاة جلستُ في المسجد قليلاً، ثم رجعتُ إلى بيتي فلم أذق طعم النوم حتى ذهبتُ إلى العمل، فلما دخلتُ على صاحبي استغرب حضوري مبكراً فقد كنت لا أحضر إلا في ساعة متأخرة بسبب السهر طوال ساعات الليل، ولما سألني عن السبب، أخبرته بما حدث لي البارحة.. فقال: احمد الله أن سخر لك هذه البنت الصغيرة التي أيقظتك من غفلتك، ولم تأتك منيتك وأنت على تلك الحال.
ولما حان وقت صلاة الظهر، كنت مرهقاً حيث لم أنم منذ وقت طويل، فطلبتُ من صاحبي أن يتسلم عملي، وعدتُّ إلى بيتي لنال قسطاً من الراحة، وأنا في شوق لرؤية ابنتي الصغيرة التي كانت سبباً في هدايتي ورجوعي إلى الله؟
دخلتُ البيت، فاستقبلتني زوجتي وهي تبكي... فقلت لها: ما لك يا امرأة؟! فجاء جوابها كالصاعقة: لقد ماتت ابنتك..
لم أتمالك نفسي من هول الصدمة، وانفجرتُ بالبكاء.. وبعد أن هدأت نفسي، تذكرتُّ أن ما حدث لي ما هو إلا ابتلاء من الله -عز وجل- ليختبر إيماني، فحمدتُ الله -عز وجل- ورفعتُ سماعة الهاتف، واتصلتُ بصاحبي، وطلبتُ منه الحضور لمساعدتي.
حضر صاحبي، وأخذ الطفلة وغسّلها وكفّنها، وصلّينا عليها، ثم ذهبنا بها إلى المقبرة، فقال لي صاحبي: لا يليق أن يدخلها في القبر غيرك.. فحملتها والدموع تملأ عينيَّ، ووضعتها في اللحد.. أنا لم أدفن ابنتي، وإنما دفنت النور الذي أضاء لي الطريق في هذه الحياة، فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلها ستراً لي من النار، وأن يجزي زوجتي المؤمنة الصابرة خيرالجزاء.
(12) توبة امرأة غافلة بعد موت زوجها (1)(4/42)
ن. ع. ص. تحولت حياتها تماماً عندما مات زوجها، تروي لنا القصة فتقول:
كنا في زيارة لأخت زوجي فلما دخلنا (الشقة)، جلسنا في غرفة الاستقبال.. وفجأة وبدون مقدمات سقط زوجي على الكرسي.. صرختُ وأنا مذهولة.. توقعتُ كل شيء إلا أن يكون قد مات.. واتصلنا بالإسعاف وفجأة أخبرنا الطبيب أن زوجي مات.. مات.. مات.. صرتُ أبكي وأصرخ وأنا غير مصدقة لما قاله الطبيب.
لم يخطر ببالي شيء أقوله.. فلم أكن أعرف الله.. ولم أكن أصلي.. ولم أكن ملتزمة بالزي الشرعي.. غير أنني كنتُ خجولة وكنتُ أستحي من الناس.. وكانت نفسي تراودني أن ألبس لباساً ساتراً طويلاً.. إلا أن زوجي كان يمنعني ويعتبر أن هذا عودة إلى عهد (ستّي العجوزة)!!.
كان زوجي لا يصلي وكان بيننا وفاق وحب زائف.. لم يكن همنا سوى الأكل والشرب والفسح والخروج.. والتعرف على آخر موديلات الأزياء..
وبعد موت زوجي انتقلتُ إلى بيت أبي.. فإذا بأختي التي تصغرني بسبع سنوات تلبس الحجاب.. وكانت هي الوحيدة التي تواسيني بحرص وحب.. خففت من صدمتي، وعلمتني أن أقول دعاء ما سمعته من قبل (اللهم أؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها..) قلتها وأنا أبكي.. وعلمتني الصلاة.. وعلى الرغم من اني أعرف الصلاة إلا أنني شعرت أن صلاتي هذه المرة فيها خشوع وخضوع ولذة.. ولبست لباساً محتشماً.. ووجدتُ نفسي مستريحة من داخلي ومطمئنة.. والذي زاد من راحتي هو قراءة القرآن.. فبدأتُ أحفظ من قصار السور، وعلمتْني أختي أحكام التجويد.. واصطحبتْني معها لبعض الأخوات اللائي ملأن كل فراغي.. وقد بحثن لي عن زوج طيب، فحمدتُ الله الذي هداني.. وأسأل الله أن يغفر لي ما قد سلف.
هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومَهرَب ... متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة ... عليه مضى طفلٌ وكهل وأشيب
ولكن علا الرانُ القلوب كأننا ... بما قد علمناه يقيناً.. نكذب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها ... وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب(4/43)
ونبني القصور المشمخرات في الهوى ... وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكوا قسوة في قلوبنا ... وفي كل يومٍ واعظ الموت يندب
(13) توبة فتاة غافلة (1)
التائبة ع. ص. س. تقول: سبب هدايتي بعد توفيق الله معلمتي الفاضلة..
ثم تروي قصة هدايتها فتقول:
كنت مغرية أشد الغرام بسماع الغناء الذي حرّمه الله ورسوله، فلا يكاد الحديث عنه وعن أخباره يفارق لساني في أي مجلس من المجالس.. كنتُ أتحدث عنه بسبب وبلا سبب حتى صار الغناء هو غذائي وهوائي ومائي، أستغني عن كل شيء ولا أستغني عنه.
جهاز التسجيل لا يفارقني ليلاً ونهاراً. أتابع أحداث (الفن) وكل جديد، عربياً كان أو غربياً.. لقد اتسحوذ عليّ الشيطان فلأنساني ذكر الله حتى صرت من حزبه، وكدتُّ أن أكون من الخاسرين لولا أن الله جل وعلا تداركني برحمته ومنّ عليّ بالهداية.
فقد شاء الله -عز وجل- أن تحضر معلمة جديدة، وكان ذلك في منتصف العام الدراسي تقريباً، كانت مربّية فاضلة وأمّاً حنوناً.. كانت تشفق عليّ وأنا أترنم ذهاباً وإياباً، فاستوقفتني مرةً، وقالت لي ألا تعرفين أن الغناء محرم؟ قلتُ: بلى ولكن، مضيعة وقت وتوسعة صدر، فكان ردي السخيف هذا لإسكاتها فقط... ومن تلك اللحظة وأنا أتحدى تلك المعلمة المؤمنة التي أرادتْ لي الخير والصلاح، فكنتُ كلما رأيتُها أشدو بإحدى الأغنيات، وأرفع صوتي متحديةً لها.
كنت –لفرط جهلي وضلالي- أعتبرها عدواً لي.. أما هي –جزاها الله كل خير- فكانت تنظر إليّ نظرة شفقةٍ ورحمةٍ، فأنا مع الشيطان وهي مع الرحمن.
قالت لي يوماً: ماذا تفعلين لو داهمك الموت وأنتِ على هذه الحال؟؟
قلتُ: إن الله غفور رحيم.. فقاطعتني قائلة: ولكنه شديد العقاب.
قلتُ: ولكن ماذا أفعل؟ لو لم أستمع إلى الغناء.. كيف أقضي وقتي؟!
قالت: اسمعي أشرطة إسلامية.. خطب، ندوات، محاضرات، أناشيد. فكأني أسمع ذلك لأول مرة.
قلتُ: ولكن من أين آتي بها؟!(4/44)
قالت: الذي أحضر لك أشرطة الغناء يحضر لك الأشرطة الإسلامية المفيدة.
ولما رأتنْي جادة في قولي أحضرت لي شريطاً بعنوان (تحريم الغناء) وشريطاً آخر عن مشاهد يوم القيامة.
وفي المنزل.. عشتُ صراعاً عنيفاً مع نفسي الأمارة بالسوء ومع الشيطان، فتارة أخرج شريط الغناء من جهاز التسجيل وتارةً أخرج شريط الخطبة.. لا أدري إلى أيهما أستمع، إلى هذا أم إلى ذاك، وأخذت أقول: يا رب ماذا أفعل؟ وما هي إلا لحظات حتى وقع سمعي على أهوال يوم القيامة، ووصف الجنة والنار. فأحسستُ أن قلبي يكاد ينفطر وانفجرتُ بالبكاء حتى ظننت أني أبكي بدل الدموع دماً وشريط العمر يمر أمامي سريعاً.. أحاول أن أتناسها بالبكاء وبالنحيب ولكن دون جدوى.. فأسرع إلى ما لديّ من أشرطة الغناء أكسّرها واحداً تلو الآخر.. أحطم ما وقعت عليه يدي قبل عيني معلنة التوبة الخالصة لله تعالى ولسان حالي يقول: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً).
ونصيحتي لأخواتي المسلمات أن يحذرن من سماع الغناء، الذي لا يزيد الإنسان إلا بعداً عن الله تعالى وغفلة عن ذكره، وذلك -والله- هو الخسران المبين.
(14) توبة عدد من الإخوة والأخوات بعد قرائتهم للأجزاء الأولى من هذا الكتاب(1)
من الكويت بعثتْ إليّ الأخت مريم محمد برسالة تقول فيها: ... لقد قرأت كتاب (العائدون إلى الله) قبل قليل، وكم أثّر في نفسي، وحملني على الذهاب فوراً إلى خزانتي الممتلئة بالمجلات الفاسدة والأشرطة الأجنبية فقمتُ برميها في القمامة، أما الأشرطة فسوف أستبدل بها -بإذن الله- أشرطة قرآن.
أتمنى من الله العلي القدير أن يصل هذا الكتيب إلى يد كل مسلم ويقرأه ويأخذ العبرة مما فيه.
ومن السودان أرسل إلىّ الأخ بابكر محمد يوسف يقول:(4/45)
... أنا شاب في العشرين من عمري، نشأتُ في أسرة متدينة، فوالدي رجل وقور متمسك بالإسلام وكان يحثني على أداء الصلاة منذ صغري.. ويراقبني، فأصبحتُ متمسكاٍ بالإسلام حتى بلغتُ الثانية عشرة من عمري حيث ابتعدتُ عن القرية التي يسكن فيها والديّ، وذهبتُ إلى المدينة لمواصلة تعليمي.. وفي المدينة تعرفتُ على أصدقاء، وقد كانوا بئس الأصدقاء.. فعلى أيديهم تعلمتُ كل أنواع الفساد، ومعهم سلكت طريق الغواية والضلال، وابتعدتُ عن طريق الهدى والنور، وتركتُ الصلاة، وأصبحتُ مسلماً بالاسم فقط.
وفي هذا الجو المعفم بالإحباط استمرت حياتي مع هؤلاء اللئام، أصبحتُ أعيش في فراغ قاتل تنقصه السعادة، وكنتُ كلما عزمتُ على التوبة يلاحقني أصدقاء السوء، فأعود إلى الضلال والتشرذم.
وأنا على هذه الحال من الضياع وفقدان الهوية إذ أراد الله بي خيراً.. فوجدت كتابك (العائدون إلى الله) وقد قرأتُه دون أن يؤثر فيّ حتى وصلت إلى الخاتمة: (إن في قصصهم لعبرة...) فاغرورقت عيناي بالدموع، وانفجرتُ بالبكاء، فأعدت قراءة الكتاب من جديد، وبدأت من الإهداء:
(إلى الغافلين عن الله والهاربين منه... إلى الذين ظلموا أنفسهم واسرفوا عليها بالمعاصي والذنوب...) وشعرت بأنك تخاطبني بهذه الكلمات، وكأن الكتاب قد أُهدي إليّ وحدي، فازددت في البكاء.. وهنا أحسست بأنه لابدّ من وضع حد لهذه المعاصي وهذا البعد عن الله.
ومن مكاني هذا قمتُ واغتسلتُ ونطقتُ بالشهادتين من جديد وأديتُ الصلاة وبدأتُ في قراءة القرآن..) إلى آخر ما ذكر في رسالته.
ومن الإمارات العربية المتحدة كتب إلىّ الأخ مروان محمد يقول:
أكتبُ لك هذه الرسالة بعد قراءتي للجزء الثالث من كتاب (العائدون إلى الله)، وأشكر الله على وصوله إليّ لأخذ العبرة والعظة منه والتوبة إلى الله من كل المعاصي التي وقعت فيها قبل قراءتي لهذا الكتاب.(4/46)
والحقيقة أني قبل سنتين أو ثلاث كنتُ من الطيبين الملتزمين بدين الله ولكن كثرة أصحاب السوء حولي، وكثرة المغريات جعلتْني أنجذب إليها... ولكن بعد قراءتي لهذا الكتاب رجعتُ فحاسبت نفسي فوجدتُ أني على خطأ، وأرجو الله أن يتوب عليّ ويغفر لي.
ومن الإمارات أيضاً تلقيت هذه الرسالة من الأخ (ج. ع.) يقول فيها:
لقد كنت من الذين لا يحسبون للدين حساباً... كنت أتهاون بالصلاة، غير مبالٍ بشيء من الأخلاق والقيم، بل كنتُ من أصحاب المكالمات الهاتفية، مغشوش النفس، ساقطاً في قبضة الشيطان، أعيش في ظلام كالح لا يُرى فيه نور أبداً. وفي يوم من الأيام دخلتُ إحدى المكتبات فرأيت نسخة من كتاب (العائدون إلى الله) وعندما قرأتُه زادني إيماناً وهدايةً، وأرشدني إلى الطريق المستقيم.. لقد غيّر كل ما في حياتي... إلخ.(4/47)
العائدون إلى الله
مجموعة من قصص التائبين ، من مشاهير
وعلماء ودعاة وغيرهم يرونها بأنفسهم
جمعها
محمد بن عبدالعزيز المسند
المجموعة الخامسة
توبة عالم هندي من شتم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
(رحمه الله الجميع)
قال الشيخ العالم العلاّمة محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية في عصره رحمة الله عليه: حدثنا عبد الرحمن البكري النجدي -وهو من طلاب العلم التجار الذين يذهبون إلى الهند للتكسب وربما مكث هناك الأشهر- قال: كنت بجوار مسجد في الهند، وكان في هذا المسجد عالم كلما فرغ من تدريسه رفع يديه ولعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإذا خرج من المسجد مرّ بي، وقال: (أنا أجيد العربية، لكن أحب أن أسمعها من أهلها).. ويشرب من عندي ماءً بارداً، فأهمني ما يفعل في درسه من سب الشيخ.. قال: فاحتلتُ عليه بأن دعوته، وأخذت كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، ونزعتُ ديباجته (غلافه) ووضعته على رفٍ في منزلي قبل مجيئه لكي يراه، فلما حضر قلت: أتأذني لي أن آتي ببطيخة؟ فذهبت، فلما رجعت إذا هو يقرأ فيه ويهز رأسه، فقال: لمن هذا الكتاب؟ -وقد أعجبه- ثم قال: هذه التراجم -يعني تراجم الكتاب- تشبه تراجم البخاري -رحمه الله- هذا والله نفس البخاري!! فقلت: لا أدري، ثم قلت: ألا نذهب للشيخ الغزوي لنسأله –وكان صاحب مكتبة وعالم بالكتب- فدخلنا عليه، فقلتُ للغزوي: كان عندي أوراق سألني الشيخ من هي له؟ فلم أعرف، ففهم الغزوي ما أريده، فنادى مَن يأتي بكتاب مجموعة التوحيد، فأتى بها، فقابل بينهما فقال: هذا لمحمد بن عبد الوهاب.. فقال العالم الهندي مغضباً وبصوت عالٍ: الكافر؟!.. فسكتنا، وسكت قليلاً، ثم هدأ عضبه فاسترجع.. ثم قال: إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه.. ثم إنه صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه، وتفرق تلاميذه له في الهند، فكانوا إذا فرغوا من القراءة دعوا جميعاً للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-.(5/1)
قال الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم تعليقاً على هذه القصة:
(إن العماية الكبرى كلها من المنتسبين إلى الإسلام، وإن الداعي إلى الله أن يدعو إلى العقائد أولا، لا إلى الأعمال الظاهرة كالصلاة والزكاة والصيام والحج..).
وقال: (ومع الأسف.. أهل التوحيد والدعوة قليل فيهم هذا أو معدوم) (1)
توبة الشيخ عبد الرحمن الوكيل من ضلالات الصوفية إلى أنوار العقيدة السلفية(2)
أثر عن شيخ من مشائخ الطرق الصوفية أنه قال: كل الطرائق الصوفية باطلة، وإنما هي صناعة للاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل، وتسخيرهم واستعبادهم (3).
وقد صدق وهو كذوب، ومن قُدّر له الدخول في بعض هذه الطرق سيدرك ذلك لا محالة لاسيما إن كان ذا عقل ذكي وقلب نيّر.
والشيخ عبد الرحمن الوكيل ممن خاض في هذه المستنقعات الآسنة، وتلوث بشيء منها حتى هيأ الله له بمنه وكرمنه من أخرجه منها، وقد سجّل قصته بنفسه لتكون عبرة للغافلين بل المغفلين فقال:
(الحمد لله وحده وبعد...: فإنه قد كانت لي بالتصوف صلة؛ هي صلة العبرة بالمأساة. فهنالك -حيث كان يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطروب- هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة جثم على صدري صنم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، كنت أجلس بين شيوخٍ تغضنتْ منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشى الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم نحولاً ذابلاً يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهامَ رجاءٍ ضيّعتْه الخيبة، وبقايا آمال عصف اليأس.
__________
(1) انظر فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، المجلد الأول المسألة الـ 14 وهي بعنوان: (جهل الكثير بدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب.
(2) انظر مقدمة كتاب تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وكتاب الفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق ص 480، ط3 باختصار وتصرف
(3) انظر الفكر الصوفي ص 470، ط 3.(5/2)
كانت ترانيم الشيوخ -ومن بينها صوت الصبي- تتهدج تحت أضواء السحر بالتراتيل الوثنية، وما زلت أذكر أن صلوات ابن مشيش ومنظمة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، ومازلت أذكر أن أصوات الشيوخ كانت تَشْرُق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: (اللهم انشلني من أوحال التوحيد) (!!!) ومن الثانية: (وجُد لي بمجمع الجمع منك تفضلا) (!!!)...
يا للصبي الغرير التعس المسكين !! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتاً وصفةً، ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله، ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه.
ويشب الصبي فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين، وهناك سمعت الكبار من الشيوخ يقسمون لنا أن (البدوي) قطب الأقطاب، يُصرِّف من شئون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية.. فتجرأتُ مرة فسألتُ خائفاً مرتعداً: وماذا يفعل الله؟؟!! فإذا بالشيخ يهدرغضباً، ويزمجر حنقاً فلذتُ بالرعب والصمت؛ وقد استشعرت من سؤالي وغضب الشيخ أنني لطّخت لساني بجريمة لم تُكتَبْ لها مغفرة، ولِمَ لا؟ والشيخ هذا، كبير، جليل الشأن والخطر، ما كنتُ أستطيع أبداً أن أفهم أن مثل هذا الشيخ الأشيب -الذي يسائل عنه الموت- يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب، فصدّق الشاب شيخه وكذّب ما كان يتلو قبل من آيات الله: (ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه). (يونس: 3) (!!)(5/3)
كنتُ أقرأ في الكتب التي ندرسها: أن الصوفي فلاناً غسلتْه الملائكة، وأن فلاناً كان يصلي كل أوقاته في الكعبة في حين كان يسكن جبل قاف، أو جُزُر الواق الواق(!!!) وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدّ يده من القبر وسلم على الرفاعي (!!) وأن فلاناً عذبته الملائكة لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، لكنه لم يحفظ كتاب الجوهرة في التوحيد (!!) وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده، لأنه أحاديث حذفت أسانيدها (!!).. كنتُ أقرأ كل هذا وأصدّقه وأؤمن به، وما كان يمكن إلا أن أفعل هذا.
كنتُ أقول في نفسي: لو لم تكن هذه الكتب حقاً ما دُرِّست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون الأحبار، ولا أخرجتها المطابع (!!).
وتموج طنطاً بالوفود، وتعج بالآمين بيت الطاغوت الأكبر من حدب وصوب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم بخنّات الأنوف، ورجّات الأرداف ووثنية الدفوف، وأسمع مُنشد القوم يصيح راقصاً: (ولي صنم في الدير أعبد ذاته) فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: (إيوه كِدَه اكفر، اكفر يا مربي) فأرى على وجوه القوم فرحاً وثنياً راقص الإثم بما سمعوا من المنشد الكافر، ثم سألت شيخنا: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟! فيزم الشيخ شفتيه ثم يقول: (انته لسه صغير) (!!)
وسكتُّ قليلاً، ولكن الكفر ظل يضج بالنعيق فكنت أستمع إلى المنشد وهو يقيء: (سلكت طريق الدير في الأبدية) (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا) فأسئل نفسي في عجب وحيرة وذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير؟.. حتى رأيتُ بعض شيوخي الكبار يطوفون بهذه الحمآت يشربون (القرفة) ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد (!!!) بمولد القطب سيدهم، (السيد البدوي).
ومضى من عمر الشباب سنوات، فأصبحت طالباً في كلية أصول الدين، فدرستُ أوسع كتب التوحيد -هكذا تسمى- فوعيتُ منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادتني دراستها إلا قلقاً حزيناً، وحيرة مسكينة.(5/4)
ودار الزمن فأصبحت طالباً في شعبة التوحيد والفلسفة، ودرست فيها التصوف، وقرأت في كتاب صنفه أستاذ من أستاتذتي رأي ابن تيمية في ابن عربي، فسكنت نفسي قليلاً إلى ابن تيمية وكنت قبل أراه ضالاًّ مضلاً، فبهذا البهتان الأثيم نعته الدردير!!
وكانت عندي لابن تيمية كتب، بيد أني كنت أرهب مطالعتها خشية أن أرتاب في الأولياء -المزعومين- كما قال لي بعض شيوخي من قبل!! وخشية أن أضل ضلال ابن تيمية (!!). لكني هذه المرة تشجعت وقرأتها، واستغرقتُ في القراءة؛ فأنعم الله عليّ بصبح مشرق هتك عني حُجُب الليل الذي كنتُ فيه، فاستقر بي القرار عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقيتُ بها الواحة الندية بعد دويٍ ملتهب الهجير، فقد دُعيت من قِبل الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الشيخ محمد بن حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة على فهم سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- أجمعين.
وبدأتُ أقرأ ولكن هذه المرة بتدبر وتمعن، ورويداً رويداً ارتفعتْ الغشاوة عن عينيّ، فبهرني النور السماوي؛ رأيت النور نوراً، والإيمان إيماناً، والحق حقاً، الضلال ضلالاً، وكنتُ من قبل -بسحر التصوف- أرى في الشيء عين نقيضه؛ فأؤمن بالشرك توحيداً، وبالكفر إيماناً، وبالمادية الصماء من الوثنية روحانية علياً، فأدركتُ حينئذٍ أن التصوف دين الوثنية والمجوسية، دين ينسب الربوبية والإلهية إلى كل زنديقٍ، وكل مجرم، وكل جريمة!! دين يرى في إبليس وفرعون وعجل السامري وأوثان الجاهلية أرباباً، وإلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده!! دين يرى في كل شيء إلهاً يُعبد، ورباً يخلق ما يشاء ويختار، دين يقرر أن حقيقة التوحيد الأسمى هي الإيمان بأن الله -سبحانه- عين كل شيء!!! دين يقول عن الجيف التي يتأذى منها النتن، وعن الجراثيم التي تفتك سمومها بالبشرية إنها هي الإله، وسبحان ربنا ما أحلمه.(5/5)
هذه هي الصوفية، ولسان حاله يقول: لِمَ هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لِمَ هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله؟ -تعالى الله عما يقولون- ألا فأطلقوا غرائزكم الحبيبة ودعوها تعش في الغاب، وحوشاً ضارية، وأفاعي فتاكة..
وأنت يا بني الشرق؛ دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل المهين، دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معالٍ، وينسف كل ما اسستم من أمجاد، ثم الثموا -ضارعين- خناجره وهي تمزق منكم الأحشاء، واهتفوا لسياطه وهي تشوي منكم الجلود، فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعيّن في صورة مستعمر.
دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج، ومباءات البغاء تفتح ذراعيها لكل شريد من ذئاب البشر، وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا لها ساجدين، مسبّحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلافه، فقد أباح لكم أن تعبدوا الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة!!
ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته، وتلك هي روحانيته العليا..)
هذا بعض ما سجله لنا الشيخ عبد الرحمن رحمه الله، وهو كلام وافٍ لا يحتاج إلى تعليق سائلين المولى جل وعز أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق الواضح المبين إنه ولي ذلك.
توبة شاب قبل موته بلحظات في المسجد (1)
حقاً ما أتعس الإنسان حين تستبد به عاداته وشهواته فينطلق معها إلى آخر مدى.
لقد استعبدت محمداً الخطيئة والنزوة فأصبح منقاداً لها، لا يملك نفسه، ولا يستطيع تحريرها؛ فحرفته إلى حيث لا يملك لنفسه القياد؛ إلى حيث الهلاك.. فكان يسارع إلى انتهاك اللذات، ومقارفة المنكرات؛ فوصل إلى حال بلغ فيها الفزع منتهاه، والقلق أقصاه.. يتبدى ذلك واضحاً على قسمات وجهه ومحياه.
__________
(1) حدثني بها أحد الاخوة الثقات، وقد سمعها من فم إمام المسجد بنفسه.(5/6)
لم يركع لله ركعةً منذ زمن . ولم يعرف للمسجد طريقاً.. كم من السنين مضت وهو لم يصلّ.. يحس بالحرج والخجل إذا ما مرّ بجانب مسجد الأنصار -مسجد الحي الذي يقطنه- لكأني بمئذنة المسجد تخاطبه معاتبة: متى تزورنا...؟؟
كيما يفوح القلب بالتقى..
كيما تحس راحةً.. ما لها انتها..
كيما تذوق لذة الرجا....
ليشرق الفؤاد بالسنا..
لتستنير الورح بالهدى...
..متى تتوب؟؟.. متى تؤوب؟؟..
فما يكون منه إلا أن يطرق رأسه خجلاً وحياءً.
شهر رمضان.. حيث تصفد مردة الشياطين، صوت الحق يدوي في الآفاق مالئا الكون رهبةً وخشوعاً.. وصوت ينبعث من مئذنة مسجد الأنصار... وصوت حزين يرتل آيات الذكر الحكيم.. إنها الراحة.. إنها الصلاة.. صلاة التروايح.
وكالعادة؛ يمر محمد بجانب المسجد لا يلوي على شيء. أحد الشباب الطيبين يستوقفه، ويتحدث معه ثم يقول له: ما رأيك أن ندرك الصلاة؟ هيّا، هيّا بنا بسرعة.
أراد محمد الاعتذار لكن الشاب الطيب مضى في حديثه مستعجلاً.. كانت روح محمد تغدو كعصفور صغير ينتشي عند الصباح، أو بلله رقراق الندى.. روحه تريد أن تشق طريقها نحو النور بعد أن أضناها التجوال في أقبية الضلال.
قال محمد: ولكن لا أعرف لا دعاء الاستفتاح ولا التحيات.. منذ زمن لم اصلِّ، لقد نسيتها.
-كلا يا محمد لم تنسها؛ بل أنسيتها بفعل الشيطان وحزبه الخاسرين.. نعم لقد أنسيتها.
وبعد إصرار من الشاب الطيب، يدلف محمد المسجد بعد فراق طويل. فماذا يجد..؟ عيوناً غسلتها الدموع، وأذبلتها العبادة.. وجوهاً أنارتها التقوى.. مصلين قد حلّقوا في أجواء الإيمان العبقة..(5/7)
كانت قراءة الإمام حزينة مترسلة.. في صوته رعشة تهز القلوب، ولأول مرة بعد فراق يقارب السبع سنين، يحلق محمد في ذلك الجو... بيد أنه لم يستطع إكمال الصلاة.. امتلأ قلبه رهبة.. تراجع إلى الخلف، استند إلى سارية قريبة منه.. تنهد بحسرة مخاطباً نفسه: بالله كيف يفوتني هذا الأجر العظيم؟! أين أنا من هذه الطمأنينة وهذه الراحة؟! ثم انخرط في بكاء طويل.. ها هو يبكي.. يبكي بكل قلبه، يبكي نفسه الضائعة.. يبكي حيرته وتيهه في بيداء وقفار موحشة.. يبكي أيامه الماضية.. يبكي مبارزته الجبار بالأوزار...!
كان قلبه تحترق.. فكأنما جمرة استقرت بين ضلوعه فلا تكاد تخبو إلا لتثور مرة أخرى وتلتهب فتحرقه.. إنها حرقة المعاصي... أنها حرقة الآثام.
لك الله أيها المذنب المنيب، كم تقلبت في لظى العصيان، بينما روحك كانت تكتوي يظمأ الشوق إلى سلوك طريق الإيمان..!
كان يبكي -كما يقول الإمام- كبكاء الثكلى.. لقد أخذتْه موجة ألمٍ وندمٍ أرجفتْ عقله فطبعتْ في ذهنه أن الله لن يغفر له.
تحلّق الناس حوله.. سألوه عما دهاه.. فلم يشأ ان يجيبهم.. فقط كان يعيش تلك اللحظات مع نفسه الحزينة.. المتعبة، التي أتعبها التخبط في سراديب الهلاك.
في داخله بركان ندمٍ وألمٍ، لم يستطع أحدٌ من المصلين إخماده.. فانصرفوا لإكمال صلاتهم..
وهنا يأتي عبد الله، وبعد محاولات؛ جاء صوت محمد متهدجاً، ينم عن ثورة مكبوتة: لن يغفر الله لي.. لن يغفر الله لي.. ثم عاد لبكائه الطويل..
أخذ عبد الله يهون عليه قائلا: يا أخي، إن الله غفور رحيم.. إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
هنا يرفع محمد رأسه وعيناه مخضلتان بالدموع.. ونبرات صوته أصداء عميقة.. عميقة الغور قنوطاً من رحمة الله، قائلا: بشهقات كانت تتردد بين الفينة والأخرى: كلا؛ لن يغفر الله لي.. لن يغفر الله لي..(5/8)
ثم سكَتَ ليسترد أنفاسه؛ وليخرج من خزانة عمره ماحوت من أخبار.. وعاد الصوت مرة أخرى متحشرجاً يرمي بالأسئلة التائهة الباحثة عن فرار.. كان صوته ينزف بالحزن.. بالوجع.. ثم أردف قائلا: أنت لا تتصور عظيم جرمي.. وعظم الذنوب التي تراكمتْ على قلبي.. لا ..لا.. لن يغفر الله لي، فأنا لم أصلِّ منذ سبع سنوات!!!
ويأبى عبد الله إلا أن يقنع محمداً بسعة عفو الله ورحمته، فها هو يعاود نصحه قائلا: يا أخي، احمد الله أنك لم تمت على هذه الحال.. يا أخي إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة)، ثم إن قنوطك من رحمة الله عز وجل أعظم من عصيانك له.. ثم أخذ يتلو عليه آيات الرحمة والرجاء، وأحاديث التوبة، وكرم الله وجوده في قبول التائبين.. ولكأني به قد أيقظ في نفس محمد بارقة أمل، فيحس محمد أن باب التوبة فد انفرج عن فتحة ضيقة يستطيع الدخول فيها.
وهنا تكسرت أمواج قنوط محمد العاتية على شطآن نصائح عبد الله الغالية، فشعر بثقل هائل ينزاح عن كاهله.. فيخف جناحه، وترفرف روحه، تريد التحليق في العالم الجديد.. في عالم الأوبة والتوبة..!
ها هو ذا صدره أرضاً بكراً يستقبل أول غرسة من النصائح المثمرة.. تلك النصائح التي نشرت الأمان والطمأنينة والرجاء في نفس محمد كما ينشر المطر -بإذن الله- الاخضرار على وجه الصحاري المفقرة المجدبة..!
وها هو ذا عبد الله يعرض عليه أمراً: ما رأيك يا أخي الكريم أن تذهب إلى دورة المياه لتغتسل.. لتريح نفسك.. ولتبدأ حياة جديدة..
فما كان من محمد إلا أن وافق ناشداً الراحة.. وأخذ يغتسل، ويغسل من قلبه كل أدران الذنوب وقذارتها التي علقت به.. لقد غسل قلبه هذه المرة، وملآه بمعان مادتها من نور..
وسارا نحو المسجد، وما زال الإمام يتلو آيات الله.. تتحرك بها شفتاه، وتهفو لها قلوب المصلين.(5/9)
وأخذا يتحدثان .. وصدرت الكلمات من شفتي عبد الله رصينة تفوح منها رائحة الصدق والحق والأمل، بريئة من كل بهتان..
وهز محمداً الحديث فكأنما عثر على كنز قد طال التنقيب عنه..! ثم أخذ يحدث نفسه: أين أنا من هذا الطريق..؟ أين أنا من هذا الطريق..؟.. الحمد لله غص بها حلقه من جرّاء دموع قد تفجرت من عينيه.. سار والدموع تنساب على وجنتيه، فحاول أن يرسم ابتسامة على شفتيه، بيد أنها ابتسامة مخنوقة قد امتقع لونها؛ فنسيت طريقها إلى وجهه؛ فضاعت..
قال: عسى الله أن يغفر لي -إن شاء الله-.
فبادره عبد الله: بل قل اللهم اغفر لي واعزم في المسألة يا رجل.
واتجها صوب المسجد، ونفس محمد تزداد تطلعاً وطمعاً في عفو الله ورضاه..
دخل المسجد ولسان حاله يقول: اللهم اغفر لي.. اللهم ارحمني.. يا إلهي قد قضيت حياتي في المنحدر.. وها أنذا اليوم أحاول الصعود، فخذ بيدي يا رب العالمين..
يا أرحم الرحمين.. إن ذنوبي كثيرة .. ولكن رحمتتك أوسع..
ودخل في الصلاة وما زال يبكي.. الذنوب القديمة تداعى بناؤها.. وخرج من قلب الأنقاض والغبار قلباً ناصعاً مضيئاً بالإيمان..!
وأخذ يبكي.. وازداد بكاؤه.. فأبكى من حوله من المصلين.. توقف الإمام عن القراءة، ولم يتوقف محمد عن البكاء.. قال الإمام: الله أكبر وركع.. فركع المصلون وركع محمد.. ثم رفعوا جميعاً بعد قول الإمام: سمع الله لمن حمده.. لكن الله أراد أن لا يرتفع محمد بجسده.. بل ارتفعتْ روحه إلى بارئها.. فسقط جثة هامدة..
وبعد الصلاة.. حركوه.. قلبوه.. أسعفوه علهم أن يدركوه.. ولكن (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
توبة النجل الأكبر لطلال مداح
(عبد الله) هو النجل الأكبر لطلال مداح؛ منّ الله عليه بالهداية فسلك سبيل المؤمنين، روى قصة توبته ورجوعه إلى الله فقال:(5/10)
كان لي عالمي الخاص، وهوايتي التي تتمثل في نظم الكلمات الغنائية، والغناء كذلك. كانت حياتي تسير على هذا المنوال، وحين وقعت أزمة الخليج وجدتُ الدنيا تلبس ثوب تربص وخوف من المجهول. كان الناس أشبه بأصحاب الفُلك، ومن هؤلاء من عاد بعد النجاة ليفسد في الأرض، ومنهم من صدق ما عاهد الله عليه.
أذكر في تلك الآونة -إضافةً إلى تلك المشاعر- أن شباباً جيدين كانوا يزورون أخَوَيّ رأفت وأحمد، وعندما أتيحت لي فرصة مجالستهم وجدتُ كلاماً غير الكلام، وتفكيراً غير التفكير. هناك سمعت لأول مرة عن الأنس بالله، والنوم المبكر، وترك ما لا يعني، ومعاني الطمأنينة التي لمستها بعد ذلك، وأصبحت أحرص عليها فأجدها في صلاة الجماعة وفي تلك القراءات النافعة.
لا أحد يعلم كم أصبح يسرني زيارة أولئك الرفاق وكم يريحني كلامهم.
في تلك الأيام -وقد بدأت النفس تهفو إلى المسجد، والمكوث فيه- سأل عني والدي فأخبرتْه أمي أنني في المسجد، وأنني أنحو في تفكيري في اتجاه آخر أفضل، فجاء والدي إلى المسجد -وكنا في صلاة المغرب- فصلى معنا ثم سألني عن أحوالي فأخبرته.
فرح الوالد بي ودعا لي بخير. لقد كان والدي ممن شجعوا رأفت ومحمداً كثيراً.
وعن سؤالٍ عن العوائق التي تعترضه قال:
من الطبيعي أن تنهض العوائق، ولعل أشدها رفقاء السوء الذين عشت معهم زمناً بتفكير واحد ورؤية واحدة، ومحاولات بعضهم إعادتي إلى سابق عهدي بشكل أو بآخر.
أذكر ذات مساء أنه اتصل بي أحدهم قائلا: خير يا أبا طلال؟!! .. شدة وتزول.. مرض وتشفى منه قريباً!!!
وعن رأيه في شباب الصحوة قال:
الشباب الخيّر أراه نتاج الشعور بالمرارة، ونتاج مخاض الأمة التي عاشت وتعيش وسط عداء خارجي ظاهر.
أما أخوه الأصغر (رأفت) فقد سبقه إلى طريق الهداية، وله قصة أخرى يحدثنا عنها فيقول:(5/11)
كان لمنظر أخي محمد بثوبه القصير وذهابه الدؤوب إلى المسجد الأثر الكبير على نفسي؛ إذ كثيراً ما كنتُ أراه في تأهبه ذاك وهو يتجه لأداء صلاة الفجر فيما كنتُ أعود أنا من سهري خارج المنزل. كان محمد أقربنا وأبرنا بوالديه وأحبنا إليهما، إضافةً إلى تفوقه في الدراسة كذلك.
ويقول: وبعبث الشباب كنا نؤذيه محمداً مستغلين سننا الأكبر فكان يقابل أذيتنا بالصبر الجميل، لا بل كان يدعونا إلى الصلاة، ولا أخفي عليكم أنني على الرغم من عنادي كنتُ أستجيب له من الداخل، وكانت الوالدة تدعونا بإصرار لأداء الصلاة، وتعمل جاهدةً -حفظها الله- لتربيتنا تربية حسنة.
ثم وقفتُ -ولله الحمد- برفقة صالحة دلتني على الخير، وأخذتْ بيدي إلى طريق الهدى والنور.
كانت هذه العوامل مجتمعة هي التي أخرجتني من عالم إلى عالم بفضل الله وتوفيقه. وها أنذا والله الحمد أعيش حياةً سعيدةً إن شاء الله، وأرشف من شهد الحياة ما لا يعرفه الآخرون ولن يعرفوه إلا بالعبودية الحقة لله، والانقياد لأوامره. هناك حيث الأنس بالله والشعور بحلاوة القرب منه سبحانه.
انتهى الحوار مع الأخوين التائبين، فسبحان من بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء (1)
توبة شيوعي (2)
قال سيد قطب رحمه الله تعالى: (إن أقصى مدى أتصوره للمد الشيوعي لن يتجاوز جيلنا هذا الذي نحن فيه وأوائل الجيل القادم إذا سارت الأمور سيرتها الحالية) (3).
هذا ما تصوره سيد رحمه الله قبل ما يقارب من ثلاثين عاماً، فلم تمضِ سنوات معدودة حتى كانت الشيوعية قد سقطت وأفلس أصحابها.
وأترككم الآن مع صاحبنا ليروي لنا رحلته من الشيوعية مروراً بالصوفية وانتهاءً بالعقيدة السلفية النقية، يقول:
__________
(1) انظر جريدة المسلمون العدد: 456.
(2) كتبها لي بنفسه.
(3) نحو مجتمع إسلامي ص 39 ط 6.(5/12)
كنت شيوعياً داعياً إلى الإلحاد، جنّدتُ كثيراً من الشباب -من الجنسين- في الأحزاب الشيوعية، وترقيتُ في مراتبها حتى وصلتُ إلى مرتبةٍ عاليةٍ، ثم تبيَن لي سخف هذه العقيدة وهذا الفكر وضلاله ومصادمته للفطرة الإنسانية، فقررتُ تركه إلى غير رجعة، فبحثتُ عن الإسلام فوجدته -بحسب فمهي الوراثي- عند المتصوفة؛ فاعتنقتُ الطريقة السمانية، ومؤسسها في الأصل من طيبة الطيبة، ومقرها الآن بالسودان، وهذه الطريقة تعتقد من العقائد الكفرية ما الله به عليم، ولها مؤلفات درستُ أهمها، وكنت أعتقدُ أني قد أحسنتُ صنعاً، وفرح أهلي وأصدقائي من الطرق الأخرى بتركي للحزب الشيوعي واختياري لطريقة آبائي وأجدادي، وترقيتُ في هذه الطريقة حتى وصلتُ إلى مرتبة (شيخ) وأُجزتُ في أخذ العهد على المريدين (!!)، وإرشاد العباد من الجنسين، وإعطاء الأوراد المبتدعة، وعلاج المرضى ]الجن[ ... الخ.
وحصلتْ لي بعض الخوارق للعادة فكنتُ أظنها -والناس كذلك- تكريماً من الله وهي في الحقيقة إضلال الشيطان وتلبيسهم.
ولا أجد حرجاً أن أقول أنني قد استفدتُ من الحزب الشيوعي كثرة الإطلاع والجدال، الأمر الذي جعلني أتطاول وأقرأ -لمجرد النقد- كتاب (صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان)، وهو كتاب قيم في الرد على المتصوفة والخرافيين، فكانت النتيجة تركي للطريقة السمانية، وبدأتُ أقرأ في كتب مَن كنت أبغضهم بغضي للشيطان أو أشد، وهم الآن من أحب الناس إليّ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب عليهم رحمة الله جميعاً وغيره من أصحاب العقيدة السلفية النقية، والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنتُ لأهتدي لو لا أن هداني الله، وإني بهذه المناسبة أنصح إخواني المسلمين لا سيما من ابتلوا باتباع هذه الطرق وهذه الأحزاب بأن يُعملوا عقولهم ويتجردوا للحق، ويحذروا من الدجاجلة والمخرفين، ولا يقولوا كما قال أهل الجاهلية: (إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).(5/13)
والله الهادي إلى سواء السبيل.(1)
توبة قبوري (2)
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته؛ ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفنتة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم واتخذتْ أوثاناً، وبُنيت عليها الهياكل والأنصاب...) إلى أن قال: (فلو رأيتَ غلاة المتخذين لها عيداً؛ وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبّلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعتْ أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يُبدي ولا يُعيد، ونادوا.. ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنه قد أحرزوا من الأجر فوق أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملئوا أكفّهم خيبة وخسراناً، فلغير الله بل للشيطان ما يُراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت الحاجات، ويُسأل من تفيرج الكُربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يُفعل به وفدُ بيت الله الحرام؟ ثم عفّروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تُغفَّر مثل بين يديه في السجود، ثم قرّبوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين..).
__________
(1) يراجع في موضوع الصوفية كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) لبعد الرحمن عبد الخالق.
(2) حدثني بها بنفسه..(5/14)
إلى أن قال رحمه الله: (هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح...) (1)
أخي القارئ: بعد هذه المقدمة الرائعة والتي لا أجد مزيداً عليها؛ أتركك الآن مع صاحب القصة ليحدثنا عن رحلته، يقول:
نشأت في مجتمع قبوري وبيئة قبورية قي قرية من قرى باكستان كانت تسمى (مدينة الأولياء) لكثرة ما فيها من الأضرحة والقبور... منذ نعومة أظفاري كنت أرى والدي ووالدتي وإخوتي الكبار وسائر أقربائي، بل سائر مَنْ في قريتنا يذهبون إلى ما يسمى بالولي أو السيد، حتى بلغتْ بهم السفاهة إلى أن يذهبوا إلى غرفة خالية، فيها سرير ليس عليه أحد، ويزعمون أنه ضريح الولي الحي الذي لا يموت، وينسون قول الله عز وجل: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير).
كنت أشاركهم في شركهم وطقوسهم وخرافاتهم، حتى أصبحت تلك الخرافات عقيدة راسخة في قلبي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه..) الحديث.
فلو مِتُّ على هذه العقيدة لكنتُ من أهل النار: (إنه من يُشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنةَ ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
ظللتُ على هذه العقيدة الشركية حتى بعد أن أصبحتُ زوجاً وأباً، فكنتُ أربّي أولادي على هذه العقيدة.. أحملهم إلى ضريح الولي المزعوم فأحلق شعر أحدهم هناك تقرباً وتبركاً(!!!)، وأحمل معي الهدايا والقربات والذبائح والنذور، وأرش الماء على القبر...
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لبن القيم ج 1 ص 182/194 باختصار وتصرف. وهو كتاب عظيم جدير بكل مسلم أن يقرأه.(5/15)
ولئن كان غيرن متعلماً، فقد كنتُ أمياً جاهلاً، حتى يسّر الله لي القدوم إلى هذه البلاد. مهبط الوحي ومنبع الرسالة، فلم أجد فيها ما كنتُ معتاداً عليه من الأضرحة والقبور ومظاهر الشرك، ومع ذلك لم أفكر في تغيير عقيدتي الباطلة، كنتُ متعلقاً بتلك الأضرحة وإن كانت بعيدة عني، وليس أعجب من ذلك أنني لم أكن أصلي الصلوات المفروضة، بل حتى الجمعة لا أحضرها، وأدخن بشراهة، وأرتكبُ كثيراً من المحرمات..! فليس بعد الكفر ذنباً.
ويشاء الله عزّ وجلّ أن ألتقيَ بأحد الدعاة الباكستانيين مَن الذين درسوا في هذه البلاد، وبعد محاورات لم تدم طويلاً استطاع أن ينتشلني من أوحال الشرك وغَوره السحيق، إلى رياض التوحيد في علو سامق، حيث استنشقت عبير الإيمان الصحيح، وها أنذا اليوم أنظر إلى أهلي وقومي من هذا العلو، أمد لهم يدي، أحاول انتشالهم من مستنقعات الشرك الآسنة: (ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
توبة السفاح (1)
هكذا كان يُلقب لكثرة جرائمه، التي لم تقف عند حد، فقد كان مضرب المثل في الجريمة والإرهاب، الكل يرهبه ويخافه، كان الناس يقولون: لو استقام العصاة والمجرمون كلهم ما استقام فلان -يعنونه- فسبحان من بيده قلوب العباد.. من كان يُصدّق أن مثل هذا القلب القاسي سَيَلِيْنُ في يوم من الأيام؟! لكنها إرادة الله عزّ وجلّ، ومشيئته: (اعْلَمُوْا أن الله يحيي الأرضَ بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون)، وقد روى لي قصته كاملة يوم أن هداه الله، فإذا فيها أمور عظام تقشعر منها الأبدان، وتمتعض لهولها القلوب، اقتصرت منها على ما يحسن ذكره في مثل هذا المقام، قال عفا الله عنا وعنه:
__________
(1) رواها لي بنفسه.(5/16)
توفي والدي قبل أن أتم التاسعة من عمري، وكنت أكبر أولاده فانتقلتْ أمي إلى بيت أبيها (جدي لأمي)، أما أنا فاستقر بي المقام عند أعمامي، في بيت جدّي لأبي، كنتُ بينهم كاللقيط، الذي لا يعرف نسبه، أو كاليتيم على مائدة اللثام، بل لقد كنتُ كذلك، وكأنهم لم يسمعوا قول الله عز وجل: (فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ) أو ما ورد في الأثر: (خير بيت في المسلمين فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه).
وليتَ الأمر اقتصر على ذلك؛ بل كانت التهم دائماً توجه إليّ.. بالسرقة.. والفساد... وغير ذلك، في الوقت الذي كنت فيه أشد الحاجة إلى العطف والحنان واليد الرحيمة المشفقة، كنت أرى الآباء وهم يقبلون أبناءهم ويلاعبونهم، ويشترون لهم الحلوى واللُّعب والثياب الجديدة، أما أنا... فتدمع عيني، ويتقطع قلبي ألماً وحسرة.
أصبحتُ أكره كل من حولي.. انتظر اللحظة السانحة لأنتقم من الجميع.
وحين بلغتُ سن الخامسة عشرة بدأتُ التمردَ.. تلفتُّ يميناً وشمالاً فلم أجد إلا رفقاء السوء، فانخرطتُ معهم في غيهم، وتعلمتُ منهم التدخيَن والسهرَ إلى أوقات متأخرة، وعلم عمي أنني أصبحتُ مدخناً فضربني دون مفاهمة وطردني من البيت وكأنه ينتظر هذه اللحظة، فلجأتُ إلى بيت جدي لأمي حيث تقيم والدتي، ولم تكن والدتي مع اخوتها في بيت جدي أحسن حالاً مني، فقد كانوا يعاملونها هي الأخرى كالخادمة في البيت فهي التي تطبخ وتنظف وتغسل و... ولا أنسى مرة أنني دخلتُ عليها وأنا في أوج انحرافي وهي تبكي ألماً وتقول: يا بني، اعقل وعد إلى رشدك، وابحث لك عن وظيفة تنقذني بها من هذا العذاب، فلم أكن ألقي لها بالاً.(5/17)
وعلمتُ مع أخوالي في الزراعة والحرث تحت الضرب والتهديد، فضاقتْ بي الدنيا، فاقترضتُ من والدتي بعض المال، فاشتريتُ به سيارة، وتوظفتُّ في إحدى الشركات، فتعرفتُ على رفقاء جدد عرّفوني على المخدرات وأنواع أخرى من الشرور، فلما علمتْ والدتي أصابها الهمُ والحزن والمرض، وفزعَتْ إلى عمي وخالي لنصحي وإنقاذي قبل فوات الأوان، لكنهم انهالوا عليّ ضرباً وما هكذا تكون النصيحة؛ فلم أزدد إلا بعداً وتمرداً وتمادياً في الانحراف، وعرفتُ طريق الهروب من البيت، فكنتُ أقضي وقتي كله مع رفقاء السوء، ولم أعد أفرق بين الحلال والحرام، أما العقوق وقسوة القلب فقد بلغت فيها حداً لا يوصف.. وأذكر مرة أنني دخلتُ على والدتي وهي تبكي وقد أعياها المرض وشحب وجهها -فشتمتها، وقذفتها بكلام جارح جداً وخرجتُ، وكأن شيئاً لم يكن، أسأل الله أن يعفو عني بمنه وكرمه.. فلكِ الله يا أمي الحبيبة، ما ذنبك؟ وقد ربيتيني وأنفقتِ عليّ، وربما كانت هدايتي بسبب دعوة صالحة في جوف الليل خرجتْ من قلبك الطاهر.. (قتل الإنسان ما أكفره)
أغرى امرؤ يوماُ غلاماً جاهلاً ... بنقوده حتى ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ... ولك الدارهم والجواهر والدرر
فمضى وأغمد خنجراً في صدرها ... والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط دهشته هوى ... فتدحرج القلبُ المخضب إذ عثر
فاستلّ خنجره ليطعن نفسه ... طعناً سيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم: كُفَّ بُنيَّ لا ... تطعن فؤادي مرتين على الأثر
واشتهرتُ بالغناء والعزف على العود -وكان صوتي جميلاً-.. ثم بالتفحيط وما يصاحبه من أمور لا تخفى على الكثيرين حتى أُطلِقَ علىَّ لقب السفاح لكثرة الجرائم التي كنت أقوم بها، فكان لا يركب معي إلا الكبار الذين لا يخافون على أنفسهم، أما البقية فكانون يلوذون بالفرار.(5/18)
ودخلتُ السجن مرات عديدة، فلما أراد الله هدايتي هيأ لذلك الأسباب؛ فقد كان لي صديق عزيز، كنتُ أحبه كثيراً، فقد كان جميل الوجه، بهي الطلعة، فلم تكن هذه المحبة في الله، بل كانت مع الله، فسألت عنه يوماً فقيل لي إنه أدخل المستشفى في العناية المركزة، وهو في حالة خطرة جداً من جرّاء حادث مروع، فانطلقتُ مسرعاً لزيارته، فلما رأيته لم أكد أعرفه؛ فقد ذهب جماله وبهاؤه، وصار منظره مخيفاً مفزعاً، فكنت كلما رأيته أبكي من هول ما أرى..!
فلم تمض أيام معدودة حتى قيل أنه مات، فبكيتُ يومين كاملين خوفاً من الموت فكان هذا الحدث فاتحة خير لي، وكنتُ عندما أتوضأ أحس براحة نفسية عظيمة، وأتذكر الموت وسكراته وشدائده فأعزم على التوبة إلى الله قبل حلول الأجل.
وألقى الله في نفسي بعض المعاصي كلها، وحبب إليّ الإيمان والعمل الصالح، فجمّعتُ ما عندي من أشرطة الغناء والباطل وذهبتُ إلى مكتب الدعوة فاستبدلتها بأشرطة إسلامية نافعة.
أما والدتي الحبيبة فقد عدتُّ إليها، وأخذتها معي معززةً مكرمةً، وطلبت منها العفو والسماح، فبكتْ فرحاً وسروراً، وحَمِدَتِ الله عزّ وجلّ على هدايتي، فما كانت تظن أن ذلك سيحدث في يوم من الأيام.
ولكن هل تركني رفقاء السوء؟؟
كلا، بل كانوا يزورونني، ويدعونني إلى الرجوع ما كنتُ عليه في الماضي، ويقولون لي: لا توسوس، ارجع إلى الفن، أين العزف؟ أين الشهرة؟ أين... وأخذوا يذكرونني بالعود والغناء والتفحيط والأمور التي أستحي من ذكرها، بل إن بعضهم -والعياذ بالله- لم يستح أن يعرض نفسه عليّ مقابل الرجوع!! فأي ضلال أعظم من هذا الضلال؟.(5/19)
ومضتْ شهور فغرني أحد السفهاء ودعاني إلى جلسة عود؛ فعزفت؛ لأني كنت حديث عهد بالتزام، وبدأتُ أضعف شيئاً فشيئاً، حتى عدتُ إلى سماع الغناء، وذات ليلة رأيت فيما يرى النائم أن ملك الموت قد هجم عليّ، فأخذتُ أذكر الله، وأحاول النطق بالشهادة، فحلفتُ بالله إن أصبحتُ حياً أن أتوب إلى الله توبة نصوحاً ولا أنصح أحداً بمفردي، لأن الأول قد غرني، فلما أصبح الصباح قمتُ بتحطيم جميع أشرطة الغناء، وقصّرتُ ثوبي، وعزمتُ على الاستقامة الحقة، وقد مضى على ذلك الآن أربع سنوات ولله الحمد والمنّة.
أما حالي بعد التوبة فإني أشعر الآن بسعادة لا يعلمها إلا الله، وقد أشرق وجهي بنور الطاعة وذهب سواده وظلمته، وأحبني من كان يبغضني أيام الغفلة، أما والدتي الحبيبة فقد شفيَتْ من جميع الأمراض ولله الحمد.
ومما زادني فرحاً وسروراً ما أجابني به أحد العلماء حينما سألته عن ذنوبي السابقة فقال: إن الله قد وعد بتبديل سيئات التائبين حسنات، فلله الحمد والمنة الذي لم يجعل منيتي قبل توبتي..
مايكل جاكسون في صندوق القمامة (1)
توبة شاب من ضحايا التغريب
المدينة في أمسيات الصيف الحارة.. الأضواء تتلألأ.. روائح (الشاورما) تنبعث على مفارق الشوارع العريضة.. البعض يمشي بخطوات وئيدة أمام الواجهات الزجاجية.. البعض الآخر مسرع الخطى..
سيارة (اسبور) حمراء ينبعث منها صخب لموسيقى غربية متناغمة مع صوت مايكل جاكسون تأخذ جانباً على الرصيف بجوار محل لبيع الأشرطة الغربية.. نزل منها شاب دون العشرين قد قص شعره على الطريقة الغربية.. يلبس نظارة سوداء.. وأثناء انطلاقه إلى المحل -وهو يدندن مع الأنغام التي تنبعث من سيارته- اصطدم برجل من المارة، كث اللحية، بهي الطلعة..
(هلا مطوع).. قالها بشيء من اللامبالاة، ممزوجة بنبرات من الاستخفاف..!
__________
(1) جريدة المدينة 9380، بلقم عبد الرحمن عبد الوهاب (بتصرف).(5/20)
نظر إليه الشيخ بابتسامة يشوبها شيء من الاستغراب.. لمنظر سيارته.. لقصة شعره.. ثم أشار إلى الصورة التي على صدره متسائلا: ما هذا يا بني؟!
-هذا مايكل... ألا تعرف جاكسون..؟!!
-لم يحصل لي الشرف من قبل. (قال الشيخ ذلك تنزلاً، وإلا فأي شرف يناله المرء في معرفة أمثال هؤلاء؟؟؟!).
قال الشاب مفتخراً: هذا الذي يغني في السيارة.. رد الشيخ: ربما قد سمعت به، ولكنه لا يعنيني. ثم استطرد الشيخ قائلا: هل تعرف ماذا يقول؟!
أجاب الشاب: صراحة؛ لا أعرف..فردّ عليه الشيخ بشيء من الجدية: تعال معي لأعرّفك ماذا يقول...
ومضى معه الشيخ بخطوات متزنة إلى سيارته الحمراء.. وجلس إلى جواره في المعقد الأمامي، وأخذ يترجم له كلمات الأغنية.. مقطعاً... حتى الكورس.
هنا أحس هذا الشاب بالانهزامية أمام لغة الشيخ الوقور.. وهو الذي انطبع في ذهنه غير ذلك.. أحس بأن شخصيته ذات الرتوش الغربية أشبه بسيارته الحمراء.. المرقعة بالملصقات الإفرنجية..
وبينما هو غارق في تفكيره، إذ سمع صوت الشيخ يقول: إن الشخصية الإسلامية هي الشخصية السوية، وإن المسلم الحق هو الذي يعتز بشخصيته، ولا يرضى أن يكون تابعاً مقلداً لغيره، بل متبوعاً شامخ الرأس مرفوع الجبين.
تمتم الشاب بصوت خافت وهو مطرق الرأس: نعم.
سأله الشيخ: هل تقرأ القرآن؟
قال: نعم، قرأته في رمضان الماضي.
فأخرج الشيخ من جيبه مصحفاً، وقال: خذ هذا يا بني.. إنما تحيا الأمة بعقيدتها..
عاد الشاب إلى البيت.. دخل غرفته.. استرجع اهتماماته التي كانت تدور في فلك الجديد من العطورات.. الجديد من الموديلات.. الجديد من أشرطة مايكل جاكسون وديمس روسس و....غيرهم كثير.. أحس أن هذا العالم ليس عالمه... وأنه لم يخلق لهذا...
أحضر كرتونة كبيرة... جمع فيها هذه الأشياء وكأنه يكفن ماضيه إلى الأبد.. ليبدأ صفحة جديدة.. ثم نادى خادمه وقال في لهجة حازمة: ارمِ بهذا كله في صندوق القمامة..(5/21)
نظر إليه الخادم مندهشاً... أين؟؟!
قال: في القمامة..
- متأكد؟؟!!
- نعم
توبة متأخرة(1) توبة قاتل
الحسد داء وبيل، ومرض قاتل.. بسببه لُعن إبليس وطُرد من رحمة الله.. وبسببه وقعتْ أول جريمة قتلٍ على وجه الأرض، كما سطرها الله في كتابه الكريم، في قصة ابني آدم عليه السلام..
وقد سُئل الحسن البصري رحمه الله: أَيَحسِد المؤمنُ؟ قال: ما أنساك لاخوة يوسف! ولهذا أمر الله بالاستعاذة من الحسد كما في قوله تعالى: (ومن شر حاسدٍ إذا حسد).
ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترضِ لي ما وهب
وقصتنا هذه شبيهة بقصة ابني آدم، وفيها عبرة لكل حاسد، يقول صاحبها وهو يذرف دموع الندم خلف القضبان الحديدية:
كانت القرية هادئة، والناس منصرفين إلى أعمالهم، فلا تسمع إلا صياح الأطفال وصراخهم، وهم يلعبون ويتراكضون في براءة متناهية؛ مما يضفي على القرية الوادعة جواً من الأمن والأمان..
أنا وابن جارنا محمد كنا صديقين متلازمين، بل كروحين في جسد واحد، لا نكاد نفترق أبداً، فقد وصلتْ الصداقة بيننا إلى درجة أن شباب القرية إذا رأوا أحدنا يمشي بمفرده سألوه عن توأمه، لما قد ألفوه منا.
وظللنا على هذه الحال إلى أن وصلنا إلى المرحلة الثانوية.. في ذلك الوقت شاركنا -مع شباب القرية- في نقل أثاث جارنا الجديد إلى داخل منزله.. كان هذا الجار رجلاً طيباً في أواسط العمر، ومعه عائلته المكونة من زوجته وبنت واحدة.
وما إن بدأتْ الزيارات المتبادلة بين نساء القرية وزوجة هذا الجار الجديد، حتى بدأ أهالي القرية في مدح جمال ابنة جارنا وكمال خلقها، وكنتُ أنا ومحمد من بين من استمع لتلك الروايات.
__________
(1) الأمة الإسلامية 32، (بتصرف).(5/22)
وصارت هذه الفتاة بعد حوالي سنة من إقامتها مع أسرتها حلم أكثر شباب القرية، وكنتُ أنا ومحمد في مقدمة من يراودنا مثل هذا الحلم، لعلاقة أسرتنا الوطيدة بأسرتها، حيث كنا نستطيع تتبع أخبار هذه الفتاة أولاً بأول.
لم أكن أظهر لصديقي محمد شيئاً عن حبي لتلك الفتاة لإحساسي أنه ربما كان يحمل نفس الشعور والرغبة في الارتباط بها، لكنه لم يكن يفكر مثل تفكيري.. فقد أخذ يجدُّ ويجتهد في دراسته حتى التحق بالجامعة ثم تخرج بتفوق، مما جعل أهل القرية يذكرونه بكل خير (1)، بينما لا يذكرني أحد بسبب فشلي ورسوبي المتكرر في الثانوية مما اضطر والدي إلى سحب أوراقي من المدرسة للعمل معه في المحل التجاري الذي يمتلكه.
وحين بلغني إعجاب محمد بهذه الفتاة، وعزمه على التقدم لخطبتها؛ بدأ الحسد يغلي في داخلي، وتغيرتْ معاملتي له كثيراً فأصبحتُ أتجنبُ الجلوس معه بكثرة، وأقدم تبريرات واهية لأتهرب من لقائه.. كل ذلك بسبب تفوقه، الذي يتحدث عنه أهل القرية، بينما أصبحتُ أنا في نظرهم لا شيء.
وجاءت اللحظة الحاسمة.. وتقدم محمد للزواج منها.. فسمعت الزغاريد تنطلق من بيتها، فأحسستُ كأن صاعقة وقعتْ على رأسي، ولم يعد سراً اتفاق أهل العروسين على إتمام إجراءات الزواج خلال شهر واحد..
كان الدم يغلي في عروقي.. لقد أصبح توأمي رجلاً متميزاً بعلمه عني، بينما ويلات الفشل تتعقبني، وتحول بيني وبين ما كنت أتمناه وأحلم به منذ ثمان سنوات.
أحسست أن محمداً سرقها مني.. فجعلتُ كل همي أن أثار منه بأية وسيلة حتى أطفئ نار الحقد التي اشتعلتْ في صدري... وتملكني الشيطان بشكل لم أتخيله من قبل فقمت بشراء مسدس ملأته بالطلقات..
وفي ليلة الزفاف دخلتُ على محمد متظاهراً بتهنئته.. وعلى حين غِرة؛ أخرجتُ مسدسَ الغدر من جيبي لأطلق عليه أربعة أعيرة نارية استقرتْ في صدره...!!!
__________
(1) التفوق العملي وحده لا يكفي ما لم يصاحبه دين وخلق.(5/23)
ويضج المكان، وتختلط الأصوات، ويسقط محمد بين أهله مضرجاً بدمائه.. وتصطبغ ثيابه البيضاء الناصعة البياض بدمه الأحمر القاني، ويتحول الفرح إلى حزن.. ويُسدل الستار عن مشهد مبكٍ حزين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعده له عذاباً عظيماً).
أما المجرم الأثيم فقد تم إلقاء القبض عليه، وها هو الآن يحدثكم من خلف القضبان، والدموع تتساقط من عينيه.. نعم، تتساقط من عينيّ ندماً على ما اقترفته في حق صديق طفولتي الذي لم يؤذيني يوماً من الأيام.. ولكن، بعد فوات الأوان هل ينفع الندم؟
كل ما أرجوه أن يطهرني القصاص من خطيئتي، ويتقبلني الله عنده من التائبين.
توبة عاق (1)
بدأ هذا التائب حديث بقوله:
كم تحملا مني الكثير، وسمعتهما أكثر من مرة وهما يطيبان خاطر بعضهما: إنه شاب طائش، وعندما يتزوج، ويرزقه الله بأولاد سوف يدرك ما قدمناه له.
قال ذلك بصعوبة، ودموعه تكاد تخنقه... ثم واصل حديثه قائلا:
والداي اللذان فعلا الكثير من أجلي... وعندما كبرتُ، وكبرا؛ لم أكن أطيق نظرة لوم أو عتاب منهما..
وظللتُ على عقوقي لهما، وظلا متعلقين بالأمل في أن أتغير بعد الزواج.. وفعلاً تغيرتُ، ولكن إلى الأسوأ؛ فقد ابتليتُ بزوجة مغرورة متعجرفة، كانت تتعالى حتى على لغتنا العربية، فنادراً ما كانت تنطق بكلمة منها، إذ كان يحلو لها أن تتحدث بالإنجليزية، وبلهجة أمريكية!!.
تغاضيت عنها كثيراً وأنا أراها تحتقر أمي وأبي.. وأتذكر الآن كيف كانت تحبسهما في إحدى غرف المنزل بعيداً عن أعين صديقاتها...!! ومع ذلك لم يبديا أي اعتراض أو شكوى.
وأعترفُ أنني كنتُ أخافُ غضبَ زوجتي، مما شجعها على التمادي في إذلال أبي وأمي، والتفرد بي.
__________
(1) الأمة الإسلامية 3/6/1413هـ، يوسف الزهراني.. (بتصرف).(5/24)
وفي إحدى ليالي العام المنصرم خرجتُ أنا وزوجتي وطفلي الوحيد للنزهة.. وأظنكم تدركون من سياق كلامي أنني لا أجرؤ على اقتراح أخذ أبي وأمي معنا.. وهما من جانبهما قد اعتادا هذا الإهمال المتعمد من قبلنا..
وفي تلك الليلة، عدتُّ إلى المنزل لأجد أبي بمفرده.. ولما سألته عن والدتي عرفتُ التفاصيل المخزية...
لقد شعرتْ والدتي -في تلك الليلة- بأحشائها تتقطع .. طرق أبي باب أحد الجيران فقام بحملها إلى أقرب مستشفى.. الطبيب قرر أن حالتها خطيرة، ولابدّ من بقائها في غرفة العناية المركزة.
لم أستمع إلى باقي القصة من فم أبي الواهي؛ فقد جذبتني زوجتي من ثوبي، وأغلقتْ باب غرفتنا في وجه أبي.. وقالت: لنستريح الآن، وفي الصباح نذهب إليها..!!
وفي الصباح.. كان الموت أسبق..
صُدمتُ حين علمتُ أن والدتي قد فارقت الحياة.. استدرتُ زوجتي.. طلقتها.
والآن، أكرس ما بقي من عمري لخدمة أبي وولدي الصغير.. وأدعو الله من كل قلبي أن يرحم أمي، ويغفر لي زلتي..
نعم أنا نادم أشد الندم.. ولكن هل يعيد الندم والدتي إلى قيد الحياة كي أصحح غلطتي، وأعوض ما فات؟
توبة شاب بعد سماع شريط (1)
(إن الشريط الإسلامي وسيلة عظيمة من وسائل الدعوة، وإن استعمالك لهذا الشريط جزء من الدعوة إلى الله عز وجل، فبادر بإسماع هذا الشريط من عرفتَ ومن لم تعرف، فلعل الله أن ينفع به) بهذه العبارة يختم بعض أصحاب التسجيلات الإسلامية مواد أشرطتهم.. وهي عبارة طيبة.. فكم من عاصٍ وعاصية، وكم من مجرم، وكم من فاجر هداه الله وفتح على قلبه بعد سماع شريط، سمع فيه عن الجنة والنار أو القبر وأهوال الآخرة أو غير ذلك مما يحيي القلب، ويوقظ الضمير...
__________
(1) رواها أحد الاخوة وقد سمعها من التائب نفسه.(5/25)
وصاحبنا هذا هو واحد من هؤلاء الغافلين.. درس في أمريكا.. وعاد بقلب مظلم، قد عصفتْ فيه رياح الأهواء والشبهات، فأطفأتْ سراج الإيمان في قلبه، واقتلعتْ ما فيه من جذور الخير والصلاح والهدى، إلى أن جاء من بذر، فيه بذرة طيبة، أنبتت نباتاً طيباً بإذن الله.
يقول هذا التائب: لم أكن أطيق الصلاة، وحينما أسمع المؤذن وهو ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أخرج بسيارتي هائماً على وجهي إلى غير وجهةٍ حتى ينتهي وقت الصلاة ثم أعود إلى المنزل، تماماً كالشيطان عندما يسمع النداء للصلاة فيولي وله ضراط، كما ثبت ذلك في الحديث الشريف.
وفي يوم من الأيام خرجتُ كعادتي أهيم على وجهي.. وعند إحدى الإشارات المرورية، وقف بجانبي شاب بهي الطلعة -وكانت أصوات الموسيقى الصاخبة تنبعث من سيارتي بشكل ملفت- .. نظر إليّ مبتسماً ثم سلم عليّ وقال: ما أجمل هذه الأغنية، هل يمكنني استعارة هذا الشريط؟..
عجبتُ لطلبه.. ولكن نظراً لإعجابه بالموسيقى التي أسمعها، أخرجتُ له الشريط وقذفتُ به إليه.. عند ذلك ناولني شريطاً آخر، بدلاً عنه، وقال: استمع لهذا الشريط.
الشريط كان للشيخ ناصر العمر، بعنوان: (السعادة بين الوهم والحقيقة).. لم أسمع باسم هذا الشيخ من قبل.. قلتُ في نفسي: لعله أحد الفنانين المغمورين.. كدتُّ أحذف بالشريط من النافذة، ولكن؛ نظراً لأني قد مللتُ استماع الأشرطة التي معي في السيارة؛ قلتُ: لأستمع إلى هذا الشريط فلعله يعجبني..
وبدأ الشيخ يتكلم.. فحمد الله وأثنى عليه، ثم ثنّى بالصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم- .. أنصتُّ قليلاً، فإذا بالشيخ يروي قصصاً عن أشخاص كنتُ أعتقد أنهم في قمة السعادة، فإذا هو يثبت بالأدلة والبراهين أنهم في غاية التعاسة..
كنت مشدوداً لسماع هذه القصص.. وقد انتصف الشريط.. فحار في ذهني سؤال لم أجد له جواباً: ما الطريق إذاً إلى السعادة الحق!!.(5/26)
فإذا بالجواب يأتي جلياً من الشيخ في النصف الثاني من الشريط.. لا أستطيع اختصار ما قاله الشيخ جزاه الله خيراً، فبإمكانكم الرجوع إلى الشريط والاستماع إليه مباشرةً.
ومنذ ذلك اليوم بدأتُ بالبحث عن أشرطة الشيخ ناصر العمر، وأذكر أنني في ذلك الأسبوع استمعتُ إلى أكثر من عشرة من محاضرات الشيخ ودروسه.. وأثناء ترددي على محلات التسجيلات الإسلامية سمعتُ عن المشائخ والعلماء والدعاة الفضلاء الآخرين -وهم كثير والحمد لله، لا أستطيع حصر أسمائهم-.. فظللتُ أتابع الجديد للكثير منهم، وأحرص على حضور محاضراتهم ودروسهم.. كل ذلك ولم أكن قد التزمتُ بعدُ التزاماً حقيقياً.. وبعد حوالي أربعة أشهر من المتابعة الحثيثة لهذه الأشرطة؛ هداني الله عز وجل..
توبة شاب ذكي من شتم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-(1)
__________
(1) رواها لي بنفسه.(5/27)
يقول المولى عز وجل في محكم التنزيل: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم). ]سورة التوبة[ : 100 (1)
ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً؛ ما بلغ مُدّ أحدهم، ولا نصيفه) متفق على صحته:
أولئك أتباع النبي وحزبه ... فلولا هم ما كان في الأرض مسلم
ولكن هم فيها بدور وأنجم ... فيا لائمي في حبهم وولائهم
تأمل - هداك الله- مَن هو ألوَمُ ... بأي كتاب؟.. أم بأية حجة؟
ترى حبهم عارٌ علي وتنقم ... وما العار إلا بغضهم واجتنابهم
وحب عداهم، ذاك عار ومأثمُ
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير لهذه الآية: (أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذي اتبعوهم بإحسان؛ فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيرهم وأفضلهم؛ أعني الصدّيق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه-، فإن بعض الطوائف المخذولة، يُعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم -عياذاً بالله من ذلك-، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون مَن رضي الله عنهم؟!! وأما أهل السنة، فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون، وعباده المؤمنون) انتهى كلامه رحمه الله (بتصرف بسيط).(5/28)
ليس عجباً أن تسمع ملحداً أو يهودياً أو نصرانياً يشتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينتقصهم، وإنما العجب أن يحدث هذا ممن يدعي الإسلام، وينطق بالشهادتين، ثم يتخذ من شتمهم وبغضهم ديناً ومذهباً، ولو أعمل هؤلاء عقولهم، وفكروا بتجرد، لعلموا أن الطعن فيهم طعن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي تولى تربيتهم وإعدادهم، ليكونوا قادة الدنيا وسادتها، فعاشوا في كنفه الدافئ، ونهلوا من معينه الصافي، ولما اختاره الله إلى جواره، وارتدتْ قبائل العرب عن دين الإسلام، قام أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- قومته العظيمة، ومعه سائر الصحابة الكرام، وقاتل المرتدين حتى أخضعهم لدين الله، وقال قولته المشهورة: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه. فدانتْ له الجزيرة، وعاد إليها الأمن والأمان بعد حروب طاحنة، استشهد فيها كثير من الصحابة الأطهار رضوان الله عليهم أجمعين، فكيف يقال بعد ذلك إن الصحابة قد ارتدوا جميعاً؟! هذا من أعجب العجب، وأمحل المحال..!
وبمثل هذا لا عجب قص عليّ هذا الشباب قصته فقال:
أنا شاب عربي، أسرتي وقبيلتي كلها تعتنق مذهباً غير مذهب أهل السنة والجماعة، هاجرتُ إلى هذه البلاد للعمل عام 1401هـ، ولم يتجاوز عمري آنذاك الخامسة عشرة.. بدأ التحول في حياتي يوم أن التحقت بإحدى المدارس الليلة لمحو الأمية بمدينه جدة.. لم يكن مدير المدرسة آنذاك يعلم باعتقادي الباطل، فكان يثني عليّ وعلى ذكائي، وبالفعل؛ فقد كان ترتيبي الأول على جميع الطلاب.(5/29)
كان المدرسون والطلاب يؤدون صلاة العشاء جماعة في ساحة المدرسة، فكنتُ أتهرب، وأتعمد الخروج خفيةً حتى لا يعلم بي أحد..!! وبحكم نشأتي الطائفية فقد امتلأ قلبي حقداً وكراهيةً لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمني أهلي أن أصحاب المذاهب الأربعة التي تنتسب لأهل السنة؛ كلهم كفرة وخارجون عن الملة.. لا يؤمنون بإمام الزمان!! ولا يدينون دين الإسلام.. ويتخبطون في ظلمات الكفر والضلال.. ولا يهتدون سبيلاً..!! أي والله هذه هي الحقيقة المؤلمة.
كنتُ عندما أشاهد زملائي في المدرسة يصلون، أشعر بإحساس أنهم على الحق، فهم أفضل مني.. يصلون، ويتحدثون عن الدين عن علم ودراية، ومعرفة مقرونة بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، أما أنا...
وفي ذات يوم، قابلني أحد الاخوة الطيبين -وهو زميل لي في الفصل الذي أدرس فيه-قابلني خارج المسجد.. فإذا بضربات قلبي تشتد، ولساني ينعقد عن الإجابة.. ماذا أقول له؟؟ هو يظن أنني على دينه، فبمَ أجبيه في هذا الموقف الحرج؟.. لقد أصابني ذعر شديد لأني لا أملك الحجة لمقارعته، وإذا ذهبتُ معه إلى المسجد فقد يصل الخبر إلى أهلي فيؤذونني، فالمسألة معتقد.
ثم إني لا أعرف من صلاتهم شيئاً، فماذا أصنع لو دخلت المسجد؟!! هذه حقيقة أقولها بكل صدق، أسأل الله أن يغفر لي جميع ذنوبي؟
ولكني لم أجد بداً من الاعتراف أمام ذلك الأخ، فأخبرتُه بأن مذهبنا لا يجيز لي الصلاة خلف (سُني) كما كان يلقنِّني أهلي.. فتعجب ذلك الأخ من قولي، ثم جذبني بقوة، وأدخلني المسجد.. وصليتُ معهم، ولا أدري كيف صليتُ!!!
بعد ذلك، كنتُ أذهب إلى بيت أحد أقربائي فأسأله كثيراً من مذهبنا؛ فوجدته من أجهل الناس، رغم أنه يعتبر من العالمين بذلك الدين أو المذهب.. كان يجيبني بعنف، ويكثر من الوقيعة في أهل السنة بأقذع الشتائم والسباب، ويرميهم بأقسى التهم.. مما جعلني أتخذ خطاً معاكساً لما هو عليه.(5/30)
وتوجهتُ إلى المكتبات، وبدأتُ أقرأ عن الإسلام على خوف، ثم دخلتُ مرحلة من الشك القاتل استمرتْ أكثر من خمس سنوات تقريباً.. لم أذق خلالها طعم النوم إلا قليلاً.. ولا أبالغ إذا قلتُ إن وزني قد انخفض قريباً من خمسة وعشرين كيلو جرام.. فما زلتُ على هذه الحال، حتى توصلتُ إلى اقتناع تام بأن ما كنتُ عليه ما هو إلا باطل وضلال.. فدخلت بعدها مرحلة جديدة من الكتمان الشديد، خوفاً من الأهل ومن بطشهم.. فكنت أذهبُ إلى المساجد للصلاة سراً.. ثم بدأتُ أستمع إلى خطب ودروس بعض الشيوخ الفضلاء، منهم الشيخ حسن أيوب رحمه الله في مسجد العمودي.. وأتابع الجديد من الكتب والأشرطة الإسلامية.. أستمع وأقرأ بشغف.. وحفظتُ من كتاب الله ما شاء الله أن أحفظ.. فدخلتْ السعادة قلبي.. وأصبحتُ أجد طعم النوم والراحة.. وأحسستُ أنه يجب عليّ أن أعمل من أجل تعريف الناس بالدين الصحيح.. لما لاحظتُه من بُعد الكثيرين عن تعاليم هذا الدين.
خلال هذه الفترة لم يعلم بحالي أحد سوى بعض الاخوة الملتزمين من أبناء هذا البلد، إلا أني -وللأسف الشديد- لم أجد منهم رغم التزامهم التشجيع الكافي. (أسأل الله أن يغفر لنا جميعاً).(5/31)
ثم كانت عودتي إلى بلدي عقب أزمة الخليج.. وهناك؛ كان الزلزال العظيم الذي كان يعصف بي لو لا فضل الله ورحمته، قال تعالى: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ولقد فتنّا الذين من قبلهم فَلَيعلمنَّ الله الذين صدقوا ولَيَعلمن الكاذبين). سورة العنكبوت:2.. لقد علم أهلي بالأمر.. بل القبيلة كلها.. وكعادة القبائل هناك في التمسك بأعرافها وتقاليدها.. رأوا أنه قد لحقهم العار من جراء ما فعلتُ، فتعرضوا لي بأنواع من الأذى والمضايقات.. ووصل بهم الأمر إلى أن أجبروني على تطليق زوجتي التي رزقني الله منها بولدين.. وجردوني من كل ما أملكه عن طريقها.. هددوني بالضرب مرة.. ومرة بالقتل.. وأخرى بالطرد من البلاد.. وتحقق لهم ما أرادوا؛ فقد قام والدي بطردي من البلد في يوم عيد الفطر المبارك، وإهدار دمي، لأني لم أصلّ معهم صلاة العيد، وصليتُ مع جماعة المسلمين من أهل السنة.
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودنَّ في ملتنا فأوحى إليهم لنهلكنَّ الظالمين ولَنُسكننَّكم الأرضَ من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد).
وخرجتُ من بلدتي -مسقط رأسي.. ومنشأ صباي- إلى منطقة أخرى جاورتُ فيها أناساً صالحين، لم يدخروا وسعاً في مساعدتي -جزاهم الله عني كل خير-.(5/32)
هذه هي قصة باختصار شديد.. ولن أتراجع -بإذن الله- عن قراري أبداً، ولقد قلتُ لهم كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه عمه أبو طالب يساومه من طرف المشركين لكي يتخلى عن هذا الدين، ويعطونه ما يريد، فقال لهم: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الدين؛ ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه).. لن أساوم رغم المغريات الكثيرة التي قدموها لي.. ورغم مفارقتي لأهلي ووطني، والحالة الاقتصادية السيئة التي أمرُّ بها.. لن أتراجع أبداً، بل سوف أعمل بكل جهد وإخلاص -بمشيئة الله- في الدعوة إلى الله، وكشف أستار الظلام للمسلمين؛ ليروا الطريق الصحيح أمامهم واضحاً... ولقد بدأتُ بالفعل، وكسبتُ بعض الأنصار لشرع الله ولله الحمد، خصوصاً بعد ظهور الصحوة الإسلامية في كل قطر وناحية..
هذا وأسأل الله أن يرزقني وإياكم الإخلاص والتوفيق والسداد.. إنه ولي ذلك..
أخوكم/ أبو صلاح الدين
وبعد، فإني -بهذه المناسبة- أوجه كلمة إلى نفسي، وإلى كل مسلم ومسلمة، بل إلى كل إنسان على وجه الأرض (أياً كان دينه ومذهبه وعقيدته)، أدعوهم فيها إلى التفكير وإعادة النظر فيما يعتقدونه من معتقدات، ويحملونه من أفكار، بتجرد وإخلاص، وبذل الجهد في معرفة الحق حيثما كان، والتحرر من عبودية الهوى والتبعية والتعصب الأعمى، وتقليد الآباء والأجداد: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أوَ لو كان آبائهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). (البقرة:17) فإن الحق واحد لا يتعدد، ولابدّ للباحث عن الحق من الإطلاع على آراء الآخرين من مصادرها الأصلية، والنظر بتجرد وإخلاص، مع التضرع إلى الله عز وجل وطلب الهداية منه سبحانه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).
العلم يدخل قلب كل موفق ... من غير بواب ولا استئذان(5/33)
والحق ركن لا يقوم لهدِّه ... إحدٌ ولو جُمعت له الثقلان
تأمل -هداك الله- مَن هو ألوَمُ ... بأي كتاب؟.. أم بأية حجة؟
توبة شاب ماجن (1)
الشباب هم عماد الأمة وذخيرتها الحية، وأملها المرتقب، ومستقبلها المنشود، لذا؛ فإن الأعداء لا يألون جهداً في تحطيم نفوس الشباب وهدم أخلاقهم بشتى السبل والوسائل.. يقول المستشرق شاتلي: (وإذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتكسروا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضتْ على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانتْ السبب الأول والرئيس لعزة المسلمين وشموخهم، وسيادتهم وغزوهم للعالم.. إذا أردتم غزو هذا الإسلام، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية؛ بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم: القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك، لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أغصانها..)(2).
وما كان للأعداء أن يحققوا شيئاً لو تمسك المسلمون بدينهم وصبروا عليه، لأن الله يقول: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط) (آل عمران: 120)
يقول هذا التائب:
كنتُ في ضلال وضياع وفجور، تربيتُ كسائر الناس على طاعة الوالدين، لكني لم أكن أعرف الصلاة وكذلك سائر العبادات إلا رياءً... تعلمتُ التدخين في سن مبكرة، فكنتُ أدخن كثيراً.. لم أكن أعرف عن قضايا المسلمين شيئاً؛ اللهم إلا القضية الفلسطينية.. وعند دراستي في الجامعة تعرفتُ على شاب أبيض ذي لحية سوداء صغيرة، لا تفارق الابتسامة محياه.. لا أدري لماذا كنتُ أكرهُ هذا الشابَ وأحقد عليه.. ربما لأنه كان دائماً ينصحني، ويحثّني على ترك التدخين، وكل ما يُغضب الله..
__________
(1) رواها أحد زملائه، وقد سمعها منه بنفسه.
(2) انظر: كتاب (الغارة على العالم الإسلامي).(5/34)
وفي يوم من الأيام، حضر إلى الجامعة وبيده بعض المنشورات عن المجاهدين، وما أن اطلعتُ عليها حتى سَرَتْ في نفسي رعشةٌ وقشعريرةٌ لم أدرِ لها سبباً، لكنها سرعان ما زالت بعد دقائق معدودة..
وذات يوم، كان الوقت عصراً وكنتُ أستمع إلى أغنية في المذياع، وصوت المؤذن يجلجل في الآفاق منادياً لصلاة العصر، ولكن:
فلا الأذان أذان في منارته ... ... إذا تعالى، ولا الآذان آذانُ
كنتُ أنا والجدار متشابهين في القسوة والجمود وعدم الإجابة... وبعد انتهاء الأغنية، جاءت الأخبار، فأستمع إليها وإلى أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك وما يتعرضون له من القتل والتشريد؛ فلم ألقِ لذلك بالاً.
وفي الصباح، ذهبتُ إلى الجامعة كالعادة، فقابلني أحد رفقاء السوء، وعرض عليّ (فلماً) خليعاً فأخذتُه مسروراً، وسهرتُ تلك الليلة لمشاهدته، وهكذا في كل صباح كنا نتبادل هذه الأفلام المدمرة بيننا في الجامعة وللأسف الشديد..!! فكيف يمكن للمسلمين أن يتقدموا على أعدائهم وهذا حال شبابهم.
وجاء اليوم الموعود، فإذا بذلك الشاب الذي كنتُ لا أطيقه يأتيني ويقول لي: هل تريد فلماً؟ فقلتُ له متعجباً: أعندك؟!.. قال: نعم. قلتُ: هات.
وأخذتُ الفلم، وفي الوقت الذي كنتُ أقضيه في السهر لمشاهدة تلك الأفلام؛ سهرتُ على هذا الفيلم الجديد الذي لا أدري ما محتواه.. كنتُ أظنه كتلك الأفلام التي أعرفها.. ولكن كانت المفاجأة.
تسجيلات قرطبة الإسلامية تقدم:
الصليب يتحدى
كان هذا هو عنوان الشريط..
ثم توالت بعد ذلك الصور المفزعة.. دماء... أشلاء.. أجساد ممزقة.. أعضاء متناثرة... نساء ثكالى.. أطفال حيارى... دمار وخراب....
أحلَّ الكفر بالإسلام ضيماً ... يطول به على الدين النحيب
فحق ضائع وحمىً مباح ... وسيف قاطع ودمث صبيبُ
وكم من مسلم أمسى سليباً ... ومسلمة لها حرمُ سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً ... على محرابه نُسب الصليب
أمور لو تأملهن طفل ... لطفل في مفارقه المشيبُ(5/35)
أتسبى المسلماتُ بكل ثغر ... وعيش المسلمين إذاً يطيبُ
أما لله والإسلام حقُ ... يدافع عنه شبان وشيبُ
فقل لذوي البصائر حيث كانوا ... أجيبوا الله ويحكم.. أجيبوا
لم أتمالك نفسي من البكاء.. أحسستُ برعشة تسري في أوصالي.. كنتُ أتخيل نفسي واحداً من هؤلاء، وقد ذُبحت من الوريد إلى الوريد، ورُسم على صدري الصليب.. يا إلهي.. ألهذه الدرجة بلغ الحقد الصليبي على هؤلاء الغُزّل، لا لشيء.. إلا لأنهم مسلمون..؟؟!! (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
لم أنم تلك الليلة من شدة الخوف.. استلقيتُ على فراشي وأنا لا أدري ماذا أصنع.. نظرتُ من حولي، فإذا بضوء القمر الخافت قد تسرب من خلال النافذة، وألقى بأشعته الفضية على طاولة مكتبي الذي أذاكر عليه.. وإذا بي ألمح مصحفي القديم الذي تقطعتْ بعض أوراقه من الإهمال.. فأسرعتُ إلى أخذه وبدأتُ أقرأ فيه حتى وصلتُ إلى آية الكرسي من سورة البقرة.. (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم..) فتوقفتُ عن القراءة ثم انهمرتْ عيناي بالدموع، فلم أتوقف عن البكاء إلا على صوت المؤذن وهو يجلجل في الآفاق.. (.. الله أكبر.. الله أكبر..) .. فقمتُ مسرعاً، وذهبتُ إلى المسجد خائفاً ترتعد فرائصي.. فدخلتُ دورة المياه، فوجدتُ شيخاً كبيراً يتوضأ، فطلبتُ منه أن يعلمني الوضوء والصلاة، وكانت تلك الحادثة هي نقطة التحول في حياتي..
رسائل العائدين إلى الله
من فلسطين المحتلة.. من جوار بيت المقدس، كتب إليّ الأخ.... هذه الرسالة:(5/36)
(أعرفك على نفسي: شاب مسلم من بيت المقدس، قرأت كتابك: ]العائدون إلى الله[ وقد تأثرتُ به كثيراً.. وقصتي تبدأ منذ الصغر، حين دعاني أبي إلى الذهاب إلى المسجد، حيث تقام دورات رياضية لتقوية أجسام الشباب المسلم، للدفاع عن أنفسهم في مواجهة بني صهيون، إضافةً إلى الدورات العقدية والإيمانية، لتقوية الإيمان، الذي هو السلاح الأول في الأزمات.. دعاني أبي إلى المسجد ولم يكن هو يصلي آنذاك، وكأنه يقول لي: يا بني، لقد مضى زمننا، وهذا زمنكم، وإن المعركة التي بيننا وبين بني صهيون، معركة عقائدية وليست قومية أو وطنية أو.. الخ، كما يريد البعض تصويرها، معركة تنطلق من المساجد لا من بيوت الـ...
كان أبي آنذاك -في الوقت الذي يدعوني فيه إلى الذهاب إلى المسجد- يجلس هو وجميع الأهل، وأنا معهم في بعض الأحيان، أمام شاشة التلفاز (!!!) وما أدراك ما التلفاز، حتى اعتادتْ قلوبنا رؤية المنكر، وألفناه.. وحين بلغتُ سن المراهقة ازداد تعلقي بالمسجد، وأصبحتُ في صراع مرير بين صوت الحق وصوت الباطل، وأثر ذلك في دراستي، حيث ملأ التفكير ذهني وعقلي..
وفي ذات ليلة، عدتُّ إلى غرفتي متعباً، فوجدتُّ كتاباً على مكتبي.. مددتُ يدي إليه.. حملته.. قرأتُ عنوانه: العائدون إلى الله.. شدّني هذا العنوان، فما تركته إلا بعد أن أكملتُ قراءتَه.. والحمد لله، أتتْ من بعده الهداية..
وأنا الآن وأنا أسطر هذه السطور، قد عقدتُّ النية على الالتزام الحق بإذن الله، وأن أجاهد نفسي على مرضاة الله، وكل ما أتمناه هو الاستشهاد في سبيل الله على ثرى فلسطيننا السليبة.
ومن جزائر الإسلام كتب إليّ الأخ أبو أمامة.. هذه الكلمات:(5/37)
من طالب علم يزعم أنه يلبس ثوب الالتزام، وهو خالعه منذ زمان.. من شاب تائه حائر عبثتْ به الشهوات والملذات، واستدرجه الشيطان؛ حتى كاد يعميه عن نور الإيمان.. إلى أخ كريم.. أهدي هذه التحية العطرة الحارة التي تسوقها مجاري الدموع عبر موجات الأثير، إلى هناك.. وما أدراك ما هناك.. حيث مهبط الوحي، ومهوى الأفئدة..
لقد كنتُ ضالاً فهداني الله.. تربيتُ في أسرة محافظة، ووالدي جزاه الله خيراً كان إماماً، لكن إسلامي، كان وراثياً، لا يخلو من الشرك والبدع والضلالات.. أسأله الله أن يغفر لي، لأني كلما تذكرتُّ تلك الأيام، أعض على أصابع الندم..
نشأتُ وتربيتُ على ذلك، وبعد أن كبرتُ ووصلتُ سن المراهقة؛ بدأتُ أقوم بأعمال قد يستحي الشيطان من فعلها، ثم زعمتُ أني التزمت بشرع الله، ولكن تلك القبائح بقيتْ معي، وظلتْ تعيقني، إلى أن أعارني أخ لي قادم من أرض الحرمين الشريفين، سلسلة العائدون إلى الله، فبدأتُ بقراءتها، فما إن قرأتُ قصتين أو ثلاث حتى شعرتُ أن كياني قد تزعزع، وبكيتُ بكاءً شديداً على ما فاتني من عمر في معصية الله، وشعرتُ بسعادة تغمرني من جديد.. أسأل الله أن يثبتني وإياكم على الحق المبين..
ومن الجزائر أيضاً بعث إليّ الأخ عبد الحميد.. برسالة يقول فيها:
أرفع قلمي وأسطر لكم هذه الرسالة من كل أعماق قلبي أبشركم فيها بهدايتي إلى الصراط المستقيم بسبب قراءتي للأجزاء الثلاثة الأولى من هذا الكتاب، وهذه هي القصة:(5/38)
فأنا شاب جزائري من هواة المرسلة، مسلم بالوراثة، تعرفتُ على كثير من الشباب والشابات(!!) عن طريق ركن التعارف في بعض المجلات الساقطة، وشاء الله أن أتعرفَ على شاب من بلاد الحرمين اسمه غلام حسين، فلأول مرة بعثَ لي بمجموعة من الكتب ومنها كتاب (العائدون إلى الله)، فبعثتُ له برسالة شكر، ثم بعثَ لي بمجموعة أخرى، فلما رأى ذلك أفراد عائلتي فرحوا بي كثيراً، وخاصة والدي، فبدأتُ أطالع هذه الكتب وخاصةً (العائدون إلى الله)، فوجدتُ فيه مفتاح التوبة، وخرجتُ من طريق الظلمات إلى الطريق المستقيم، وأنا نادم على أيام ماضية قضيتها بعيداً عن الله...(5/39)
العائدون إلى الله
مجموعة من قصص التائبين ، من مشاهير
وعلماء ودعاة وغيرهم يروونها بأنفسهم
تأليف
محمد بن عبد العزيز المسند
المجموعة السادسة
الحمد الله غافر الذنب ، وقابل التوب، شديد العقاب ، ذي الطَول لا إله إلا هو إليه المصير ، والصلاة والسلام على البشير النذير ، والسراج المنير ، نبيّنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، ومن اهتدى بهديه إلى يومِ الدِّين ، أمّا بعد :
فإنّ قصص التائبين لا تنقضي ، وأخبارهم لا تنتهي ، فمع إشراقة شمس كلّ يوم جديد يتوب إلى الله تائب ، ويؤوب إلى حظيرة الإيمان ، آيب، فطوبى لمن بادر بالتوبة النصوح قبل خروج الروح ، وأَخَذ من صحته لسقمه ومن حياته لموته ، ومن شبابه لهرمه ، ومن غناه لفقره :
إنّا لنفرح بالأيَّام نقطعها وكلّ يوم مضى يدني من الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنّما الربح والخسران في العملِ
أخي القارئ الكريم :
هذه هي المجموعة السادسة من قصص التائبين ؛ العائدين إلى الله عزّ وجلّ ، كتبها أصحابها بمداد من دموع الندم والتوبة ، لتكون عبرة لكلّ عاص ومذنب ، علّه أن يتوب ويعتبر ، فهي مفاتيح للتوبة ، ومجاديف لقارب النجاة والأوبة (( وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) ( الحجرات : 11) .
محمّد المسند
الرياض : 11457- ص . ب : 29459
هـ / ف : 2390210
البريد الأليكتروني :
malmosned@gawab.com .
قال جمال الدين القاسميّ – رحمه الله –
(( إنّ كتاباً واحداً تتناوله الأيدي على اختلاف طبقاتها، خير من مئة داعٍ وخطيب؛ لأنّ الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف ))
توبة الشيخ محمد جميل زينو
من ضلالات الصوفيّة إلى نور العقيدة السلفيّة(6/1)
الشيخ محمّد جميل زينو – حفظه الله – عرفناه من خلال مؤلّفاته النافعة التي تُعنى بنشر العقيدة السلفيّة، وبيانها بأسلوب واضح ميسر ، وقد نفع الله بهذه المؤلّفات ، وهدى بها من الضلال بإذنه .. وللشيخ قصّته مع الهداية إلى هذه العقيدة الصحيحة ، وقد رواها بنفسه (1) ، فقال :
ولدتُ في مدينة حلب بسورية .. ولمّا بلغتُ العاشرة من عمري التحقتُ بمدرسة خاصّة تعلّمت فيها القراءة والكتابة ، ثم التحقت بمدرسة دار الحفّاظ لمدّة خمس سنين حفظت خلالها القرآن الكريم كاملاً ولله الحمد ، ثمّ التحقت بما يسمّى آنذاك بالكليّة الشرعيّة التجهيزيّة – وهي الآن الثانوية الشرعيّة – وهي تابعة للأوقاف الإسلامية ، وهذه المدرسة تجمع بين تدريس العلوم الشرعيّة والعصريّة .
وأذكر أنّني درست فيها علم التوحيد في كتاب اسمه : (( الحصون الحميديّة )) والذي يقرّر فيه مؤلّفه توحيد الربوبيّة ، وأنّ لهذا العالم ربّاً وخالقاً !.. وقد تبيّن لي فيما بعد خطأ هذا المنهج في تقرير العقيدة ، فإنّ المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرّين بأنّ الله هو الخالق الرازق : (( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )) ( الزخرف : 87) ، بل إنّ الشيطان الذي لعنه الله كان مقرّاً بذلك ؛ (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي )) ( الحجر : 39) .
أمّا توحيد الإله الذي هو الأساس والذي به ينجو المسلم ، فلم أدرسه ولا كنت أعلم عنه شيئاً .
كنت نقشبنديّاً :
__________
(1) - انظر : كتابه ( كيف اهتديت ) ، وقد أطال في ذكر قصّته والتعليق على أحداثها ، وقد ذكرتها هنا باختصار وتصرّف يسير .(6/2)
لقد كنت منذ الصغر أحضر الدروس وحلقات الذكر في المساجد ، وقد شاهدني شيخ الطريقة النقشبندية فأخذني إلى زاوية المسجد ، وبدأ يعطيني أوراد الطريقة النقشبندية ، ولكن لصغر سنّي لم أستطع أن أقوم بها ، لكنّي كنت أحضر مجالسهم مع أقاربي في الزوايا ، وأستمع إلى ما يردّوونه من أناشيد وقصائد ، وحينما يأتي ذكر اسم الشيخ كانوا يصيحون بصوت مرتفع ، فيزعجني هذا الصوت المفاجئ ، ويسبب لي الرعب والهلع ، وعند ما تقدّمت بي السنّ بدأ قريب لي يأخذني إلى مسجد الحيّ لأحضر معه ما يسمّى بالختم ، فكنّا نجلس على شكل حلقة ، فيقوم أحد الشيوخ ويوزّع علينا الحصى ويقول : (( الفاتحة الشريفة ، الإخلاص الشريف )) ، فنقرأ بعدد الحصى سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ، والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة التي يحفظونها ، ويجعلون ذلك آخر ذكرهم . ثم يقول الشيخ الموكّل ، لأنّ الشيخ – بزعمهم – هو الذي يربطهم بالله ؛ فيهمهمون ، ويصيحون ، ويعتريهم الخشوع ، حتّى إنّ أحدهم ليقفز فوق رؤوس الحاضرين كأنّه البهلوان من شدّة الوجد .. إلى آخر ما كانوا يفعلونه من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان .
كيف اهتديت إلى التوحيد ؟
كنت أقرأ على شيخي الصوفيّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما ، وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .. ))
فأعجبني شرح الإمام النوويّ - رحمه الله – حين قال : ( ثمّ إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه ، كطلب الهداية والعلم، وشفاء المرضى، وحصول العافية ، سأل ربّه ذلك . وأمّا سؤال الخلق ، والاعتماد عليهم فمذموم )) .
فقلت للشيخ : هذا الحديث وشرحه يفيدان عدم جواز الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
فقال لي : بل تجوز !!(6/3)
قلت له : وما الدليل ؟ فغضب الشيخ ، وصاح قائلاً : إنّ عمّتي كانت تقول : يا شيخ سعد ( وهو من الأولياء المزعومين الأموات ) فأقول لها : يا عمّتي ، وهل ينفعك الشيخ سعد ؟ فتقول : أدعوه فيتدخّل على الله فيشفيني !!
قلت له : إنّك رجل عالم ، قضيت عمرك في قراءة الكتب ، ثمّ تأخذ عقيدتك من عمّتك الجاهلة !!
فقال لي : عندك أفكار وهّابيّة ! (نسبة إلى الشيخ المجدد محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله ) .
وكنت لا أعرف شيئاً عن الوهّابية إلا ما أسمعه من المشايخ ، فيقولون عنهم : إنّهم مخالفون للناس ، لا يؤمنون بالأولياء وكراماتهم المزعومة ، ولا يحبّون الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى غير ذلك من التهم الكثيرة الكاذبة التي لا حقيقة لها .
فقلت في نفسي ؛ إن كانت الوهّابيّة تؤمن بالاستعانة بالله وحده ، وأنّ الشافي هو الله وحده ، فلا بدّ أن أتعرّف عليها .
وبحثت عن هذه الجماعة ، فاهتديت إليها ، كان لهم لقاء مساء كلّ خميس يتدارسون فيه التفسير والفقه والحديث ، فذهبت إليهم بصحبة أولادي وبعض الشباب المثقّف .. دخلنا غرفة كبيرة ، وجلسنا ننتظر الدرس ، وبعد برهة من الزمن دخل الشيخ ، فسلّم علينا ، ثمّ جلس على مقعده ، ولم يقم له أحد ، فقلت في نفسي ، هذا الشيخ متواضع ، لا يحب القيام له.(6/4)
وبدأ الشيخ درسه بقوله : إنّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره .. إلى آخر الخطبة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه ودروسه ، ثمّ بدأ يتكلّم باللغة العربية الفصحى ، ويورد الأحاديث ، ويبيّن صحّتها وراويها ، ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما ذكر اسمه . وفي ختام الدرس وجّهت له الأسئلة فكان يجيب عليها بالدليل من الكتاب والسنّة ، ويناقشه بعض الحاضرين فلا يردّ سائلاً أو متكلماً ، ثمّ قال في آخر درسه : الحمد لله ، إنّنا مسلمون سلفيون ، وبعض الناس يقولون إنّنا وهّابيون ، فهذا تنابز بالألقاب ، وقد نهانا الله عن ذلك بقوله : (( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ )) ( الحجرات ك 11) .
ولمّا انتهى الشيخ من درسه ، خرجنا ونحن معجبين بعلمه وتواضعه ، وسمعت أحد الشباب يقول : هذا هو الشيخ الحقيقيّ .
ومن هنا بدأت رحلتي إلى التوحيد الخالص ، والدعوة إليه ، ونشره بين الناس اقتداء بسيّد البشر صلى الله عليه وسلم . وإنّي لأحمد الله - عزّ وجلّ - الذي هداني لهذا ، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله ، والحمد لله أوّلاً و آخراً .
توبة مطرب الصومال الأول عبد الله زلفى (1) )
في إحدى المدارس الابتدائية بمقديشيو تجمّع المعلّمون والإداريّون ، ومعهم مدير المدرسة ، يستمعون بشغف إلى ذلك الفتى الأسمر النحيل وهو يشدو بصوته الساحر ، ويردّد أبياتاً من عيون الشعر العربيّ ..
كانت الصومال وقتها تعيش الحقبة الاشتراكية من عهد الرئيس (( سياد بري )) فكان لا بدّ لموهبة الفتى أن تسخّر في هذا الاتجاه ، فتسابق الشعراء في تنظيم قصائد المدح والإشادة بالرئيس وعهده ، كي ينشدها الفتى الذي ذاع صيته في مدارس العاصمة ، وأصبح محطّ أنظار مسؤولي التعليم .
__________
(1) - نُشرت هذه القصّة في مجلّة الأسرة ، العدد 63 ( بتصرّف يسير ) .(6/5)
تقدّم الفتى إلى المرحلة المتوسطة ، ثمّ الثانويّة ، وتقدّمت معه موهبته التي جذبت انتباه وزير التعليم ، فأصدر قراراً بتأسيس فرقة موسيقية تحت إشراف الفتى ...
تلكم كانت بداية عبد الله زلفى مطرب الصومال التائب ، الذي قرّر أن يغرّد خارج سربه بعد أن تبيّن له أنّ السرب يسير نحو الجحيم ..
ذاعت شهرته ، وأصبح يعرفه كلّ صوماليّ وجيبوتيّ ، ولقّبوه بمطرب الصومال الأوّل ، وفي عام 1396هـ شهدت الصومال نقطة تحوّل في توجّهها حيث تمّ طرد الخبراء السوفيت ، واعتماد سياسة الانفتاح ، فكان لا بدّ لمطرب الصومال الأوّل أن يتجاوب مع توجّهات بلاده ، فترك الفرقة الموسيقية الحكوميّة وعمل لحسابه ، وتحوّل من الغناء للاشتراكية ، إلى الغناء للانفتاح ..
يقول عبد الله زلفى :
اشتريت ملهى ليلياً كنت أغنّي فيه ، وكانت فنادق مقديشيو وملاهيها تتسابق لاستضافتي ، فكنت أغنّي في أكبر فندقين في العاصة : ( العروبة وجوبا ) .. كانت مهمّتي تتمشّي مع متطلبّات المرحلة ، فقد كان عليّ إغراق الشباب في اللهو والمجون ، والضرب على غرائزهم ، بحيث لا يفكّرون فيما يحدث لبلادهم من تمزيق ، ولثرواتهم من نهب ..
كان الشباب حولي يرقصون ، فيما كانت مدافع وصواريخ إيثيوبيا تدّك المساجد في ( هرجيسا ) و ( برعو ) وغيرهما من المدن المسلمة ، قدّمتُ السخافات الغربيّة بدعوى : ( الفرانكو أراب )) ، وسافرت إلى لندن وباريس وروما وغيرها من العواصم الأوربيّة والأفريقية لتقديم الفنّ الصوماليّ الحديث !!
وازداد إقبال الشباب علي ّ – والموت في انتظار كلّ من يتحدّث عن الشأن العام – ورافق ذلك إطراء وتهليل من وسائل الإعلام للغناء الذي أقدّمه ، وكان ذلك يعني مزيداً من الأموال تصبّ في جيبي ..(6/6)
عام 1983م ( 1403هـ ) كان فاصلاً في حياتي ، فقد أراد والدي أن يكملا فرحتهما بابنهما الذي أصبح موضع إعجاب شباب وشابات الصومال ، وقد خشيا أن أتزوّج فتاة لا يعرفونها فأبتعد عنهما ، فرشّحا لي إحدى قريباتي عروساً ، كانت على درجة عالية من الثقافة والجمال ، فوافقت عليها بلا تردّد ، وتوقّعت أن تطير فرحاً بي ، كيف وقد وقع اختياري عليها من بين آلاف الفتيات اللاتي يتمنينني زوجاً ، لكنّ توقّعي خاب ، فمنذ الليلة الأولى لمحتُ في عينيها حزناً دفيناً لم تخفه كاميرات التلفزيون والمصوّرين التي ملأت قاعة الاحتفال .. ظننت أنّ المسألة مجرّد إرهاق أو خجل يعتري الفتيات في مثل هذه المواقف ، ولكنّ الأمر لم يكن كذلك ..
كنت أعود من الملهى قبيل الفجر ، فأجد زوجتي تقرأ القرآن .. وإذا حكيت لها ما حدث لي في عملي تكتفي بتحيّتي ، وتدعو لي بالهداية ، ثمّ تمضي لصلاة الفجر ، وأمضي إلى فراشي .. وكلّما حدّثتها عن عملي أجابتني : (( الرزّاق هو الله )) ولم أكن وقتها أفهم مغزى هذا الكلام فلم نكن نشكو الفقر أو قلّة الرزق .
وبعد خمس سنوات رأت زوجتي أن تواجهني مباشرة ، فعند ما عدت إلى المنزل في أحد الأيّام ، كانت مساجد المدينة تصدح بآذان الفجر.. سألتني مستنكرة : لِمَ لم تدخل المسجد وأنت تسمع آذان الفجر ؟! )) كانت هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها أنّ بإمكاني أن أدخل المسجد ، وأصبح مسلماً صالحاً ..
كانت تلك بداية معركة في داخلي بين فطرتي التي تدعوني إلى الاستجابة لنصيحة زوجتي ، وواقعي الغارق في وحل الفنّ ، وفي المساء كنت أهندم ملابسي استعداداً للذهاب إلى الملهى فإذا بزوجتي تهمس في أذني برقّة : (( استرح يا أخي ، فالرزّاق هو الله )) ..(6/7)
خشيت أن أضعف أمامها ، فأسرعت خارجاً من البيت ، لكنّ رحمة الله عزّ وجلّ كانت لي بالمرصاد ، فما إن نزلت من سيّارتي وهممت بدخول الملهى حتّى سمعت المؤذّن ينادي لصلاة العشاء : ( حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله )) .. وكأنّي أسمع هذا النداء للمرّة الأولى .. فما كان منّي إلا أن غيّرت وجهتي .. ودخلت المسجد .. توضأت ، وصلّيت مع المصلّين الذين تجمّعوا حولي يمطرونني بالترحاب ، وقد غطّت وجوههم السعادة ، وأهدي إليّ أحدهم كتاب : ( شرح أحاديث البخاري ) .
خرجت من المسجد ، وركبت سيارتي ، وقفلت عائداً إلى البيت لأبشّر زوجتي بمولدي الثاني ، وتلك كانت منحة في ثوب محنة .
تلك كانت قصّة مطرب الصومال الأول مع الهداية ، وقد برهن على صدق توبته بخطوات عمليّة ، بدأها بالتبرّع بالأجهزة الصوتيّة ، والاستديو الذي يملكه لخدمة الدعوة الإسلامية ، وبدأ دخله يتراجع ، وأمواله تقلّ ، فهو مغنٍ ، وليس له دخل سوى ما يكسبه من هذه المهنة ، فلم يفتّ ذلك في عضده ، وباع سيارته ومنزله الكبير ، وكان عزاؤه في ذلك حلاوة الإيمان التي تغمر قلبه ، والسعادة التي تحيطه بها زوجته وهي تردّد ؛ (( الرزّاق هو الله )) .. لقد أصبح لهذه العبارة الآن معنى ومذاق طالما غاب عن عبد الله قبل ذلك .
ولمّا كان طريق الإيمان والتوبة محفوفاً بالمكاره اختباراً وامتحاناً ، فقد استدعته السلطات وعاتبته على خطواته التي عدّوها (( متهوّرة )) وظنّوا أنّ الأمر لا يعدو مجرّد نزوة من فنّان أراد أن يجذب الانتباه إليه ، لكنّهم وجوده إنساناً آخر غير الذي عهدوه طيلة ثمانية عشر عاماً – عمر مشواره الفنّي - .. هدّدوه ، وطلبوه منه أن يظهر في التلفاز ويعلن أسفه على خطوته تلك ، ويعتذر لمعجبيه من الشباب والشابات ، ويؤكّد لهم أنّه قد غرّر به .. فرفض . فلمّا أدركوا حجم تصميم الرجل لم يجدوا بدّاً من سجنه !!(6/8)
نعم .. سجنوه لأنّه تخلّى عن دور مهمّ كان يقوم به في تغييب الشباب ، وأصبح قدوة من نوع آخر .. نوع يقلق أهل الباطل ، ويهدّد أركان مشروعهم ..
لم تفلح العصا ، فعادوا يلوّحون بالجزرة .. عرضوا عليه مبلغاً من المال على أن يعود إلى الفنّ ، لكنّه أبى .. اقترحوا عليه أن ينظّموا له حفل اعتزال عسى أن يكون ذلك بداية لاجتذابه إلى الغناء مرة أخرى ، ولكنّه فهم المخطّط ورفض بإصرار ..
يقول عبد الله زلفى : (( كانت عقيدتي قويّة ، وكانت زوجتي تقف معي في محنتي ، فكان قراري الرفض الحاسم للعودة إلى الطرب )) .
وفي عام 1410هـ أراد أن يخرج من جوّ الحصار الذي يحيط به ، والملاحقات المتوالية التي تضغط عليه ، فلم يجد وجهة خيراً من بيت الله الحرام ، وهناك تزوّد بشحنة إيمانيّة جديدة كان لها بالغ الأثر في تثبيته على طريق الإيمان ، فقد تلقّفته الأيدي الطاهرة في مكّة ، وأحاطته بالرعاية حتى أتمّ حفظ عشرة أجزاء من القرآن ، ولمّا دوّت صفّارات الحرب في الصومال ، واشتبكت القبائل والميليشيّات في حرب أهلية طاحنة ، قرّر العودة إلى الصومال حيث يفرّ الناس منه ، فما أحوج الصومال إلى دور عبد الله الجديد داعيةً ومصلحاً .. أراد أن يكفّر عمّا ارتكبه من جرم في حقّ شباب الصومال ، فراح يطوف هناك يحثّ الشباب على الصبر والثبات والسلام ، ويحذّرهم من الانسياق وراء عصابات الحرب والإفساد والدمار ..
فلّما رأى أن الشر قد استفحل ، عاوده الحنين إلى مكّة ، فمن ذاق عرف ، فجاء ملبياً ، وطاب له المقام ، وقطع شوطاً كبيراً في حفظ القرآن الكريم .(6/9)
والآن عبد الله يعمل داعية إلى الله عز وجل .. دعاه بعض أصدقائه إلى استخدام موهبته في خدمة الدعوة ، فهو صاحب صوت نديّ يمكن أن يشدو به أعذب الأناشيد ، لكنّه رفض ، وقال : أخشى إن دخلت الفنّ مرّة أخرى من باب الأناشيد أن أعود إلى سابق عهدي ، وعندنا مثل في الصومال يقول : اليد التي تسرق القليل مصيرها إلى السرقة ، الفنّ بوصفه الحالي حرام ، ولا يصلح لخدمة الإسلام ، وأنا اخترت مجال الدعوة بعيداً عن الفنّ .. لبعض العلماء فتاوى في جواز الغناء بلا مزامير بهدف بثّ الحماس أو العظة أو التمسك بالدين ، ولكن لا أحبّذ لنفسي ذلك ، ولا أمنع من يرى في نفسه المقدرة على استخدام الفنّ في تربية الروح الإسلامية في نفوس الناس .
إنّ الوضع في الصومال لا يحتاج إلى فنّ ، بل يحتاج إلى دعوات في الثلث الأخير من الليل ، مع الأخذ بالأسباب ، لانتشاله من الوضع المأساويّ الذي يعانيه .
****
توبة الراقصة زيزي مصطفى (1) .
عشرون عاماً من عمرها قضتها في حياة الرقص والمجون والعبث ، وفي (( عرفات )) عرفت طريق الحق وذاقت حلاوة الإيمان ، فكانت التوبة :
تقول زينب مصطفى ( زيزي مصطفى سابقاً )) في بداية حديثها :
ظروفي الماديّة العصيبة هي التي جعلتني أعمل في هذا المجال حوالي عشرين سنة ، فأنا أعول أمّي المريضة ، وأخواتي البنات ، وليس لي مصدر آخر للرزق (2) .
ثمّ لم أكن أدري أنّ هذا العمل حرام! ولم يكلّمني أحد في ذلك ، وظللت على هذه الحال حتّى أنجبت ابنتي الوحيدة .
ثمّ تضيف :
بعد إنجابي لابنتي هذه حدثت تحوّلات جذريّة في حياتي ..
__________
(1) - مجلّة الأسرة ، العدد : 50( بتصرّف يسير )) .
(2) - يقول تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب .. ) ( الطلاق : 2، 3) وفي المثل : تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها .(6/10)
فجأة ، ودون سابق إنذار بدأت أصلّي وأشكر الله على هذه النعمة – نعمة الإنجاب - ، ثمّ بدأت أفكّر لأوّل مرّة أنّه لا بدّ أن أنفق على ابنتي من حلال ، ولا أدري من أين جاءني هذا الشعور ، الذي يعني أنّ عملي حرام ، وأنّ المال الذي أجنيه من ورائه حرام .
وبدأت أشعر بتغيّرات نفسية دون أن أدري مصدرها .
وشيئاً فشيئاً بدأت أتوضّأ ، وأنتظم في أداء الصلاة ، وبدأت أدخل في نوبات بكاء حادّ ومتواصل أثناء صلاتي ، دون أن أدري لذلك سبباً .ومع كلّ هذه البكاء ، وتلك الصلاة ، كنت أذهب إلى صالة الرقص ، لأنّني ملتزمة بعقد ، وفي مسيس الحاجة إلى ما يدرّه عليّ من دخل .
وظللت على هذه الحال : أصلّي ، وأبكي ، وأذهب إلى الصالة ، حتّى شعرت بأنّ الله – سبحانه وتعالى – يريد لي التوبة من هذا العمل ، عندها أحسست بكرهي الشديد للبدلة التي أرتديها أثناء عملي .
كنت كثيراً ما أستفتي قلبي : هل بدلة الرقص التي أرتديها يمكن أن أنزل بها إلى الشارع ؟ فكنت أجيب نفسي ، وأقول : طبعاً لا ، وبعد عشرين سنة من الرقص ، لم يمنعني عملي المحرّم أن أميّز بين الحلال والحرام . إنّ الحلال والحرام بداخلنا ، ونعرفهما جيداً حتّى دون أن نسأل أهل العلم .
لكنّ الشيطان يزيّن لنا طريق الحرام حتّى يغرقنا فيه .
كانت هناك رسائل ذات معنى أرسلها الله سبحانه لي حتّى أستيقظ من الغفلة التي أحاطتني من كلّ جانب .
كان الحادث الذي تعرّضت له هو أوّل هذه الرسائل .. وبسبب هذا الحادث قُطع الشريان الذي بين الكعب والقدم ، وقال لي أحد الأطباء : بحسب التقرير ، وحسب العلم الذي تعلّمناه ، سوف تعيشين بقيّة حياتك على عكّاز .
وبعد فكّ الضماد وجدتني أسير بطريقة طبيعية وسليمة مع تساوي قدميّ كما أفادت التقارير الطبيّة .(6/11)
اعتبرت ذلك رسالة لها معنى من الله – سبحانه وتعالى – وأنّ قدرته المعجزة فوق كلّ شيء ،فقد نجوت من موت محقّق ، ونجوت من عمليّات كثيرة في قدمي كان من الممكن أن أعيش بعدها عاجزة .
أمّا الرسالة الثانيّة فقد كانت أشدّ وضوحاً ، أرسلها الله إليّ عن طريق صديقة ابنتي في المدرسة عند ما عيّرتها بمهنتي ، وجاءت ابنتي تبكي ، فبكيت معها ، وتأكدّ لي أنّ مهنتي غير مقبولة في المجتمع .
ثم جاءت الرسالة الثالثة ، وكان لها صوت عالٍ بداخلي ، فكثيراً ما كنت أحدّث نفسي أنّني أريد أن أربّي ابنتي من مال حلال ، وأن أعلّمها القيم والمثل والأخلاق الفاضلة ، وكنت أسخر من نفسي ، وأقول : وأيّ قيم سوف أعلّمها ابنتي وأنا أقوم بذلك العمل .
ثمّ مرضت ابنتي ، فكنت أهرع إلى سجّادة الصلاة .. أركع ، وأسجد ، وأدعو الله أن يشفيها . وبعد أن شفيت ، كان لا بدّ من التفكير في الاعتزال النهائي ، لأنّه لا يجتمع في قلب المؤمن إيمان وفجور ، ولأنّ الصورة أصحبت واضحة تماماً أمامي ، ولا تحتاج إلى تفسير آخر .
وفي الأيّام الأخيرة كنت أشعر شعوراً حقيقيّاً بالشوك يشكّني في جسدي كلّما ارتديت بدلة الرقص ، وفي مرّة من المرّات كنت أصلّي ، وأبكي ، وأدعو الله أن يتوب عليّ من هذا العمل الذي يبغضه ، وفجأة .. وأثناء دعائي وتضرّعي بين يدي الله قمت من فوري لأتوجّه إلى خزانة ملابسي ، وفتحتها ، ونظرت إلى بدل الرقص باحتقار شديد ، وقلت بصوت عالٍ أشبه بالصراخ : لن أرتديكِ بعد اليوم . وكرّرت هذه الجملة كثيراً ، وأنا أبكي كما لم أبكِ من قبل . وبعد هذه النوبة البكائية شعرت براحة نفسيّة عجيبة ، تسري في أنحاء جسدي ، وتُدخلني في حالة إيمانية أخرى مكّنتني من التخلّص من حياتي السابقة بيسر وسهولة ، ولو كنت في أمسّ الحاجة إلى المال الذي أعول به نفسي ، وأمّي ، وأخواتي ، وابنتي .(6/12)
لقد جاء قرار الاعتزال من أعماقي ، وسبقه وقت أمضيته في التفكير والبكاء ، ومراجعة النفس ، حتّى رسوت على شاطيء اليقين بعد حيرة وعذاب ، وشهرة زائفة ، وعمل مُرهِق مجرّد من الإنسانية والكرامة ، كلّه ابتذال ومهانة وعريّ ، وعيون شيطانيّة زائغة تلتهم جسدي كلّ ليلة ، ولا أقدر على ردّها .
هذه الرجعة إلى طريق النور منّة من الله – سبحانه وتعالى – وحده ، فهو الذي امتنّ عليّ بها ، وليس لأحد من الخلق أيّ فضل فيها .
ثمّ أديت العمرة مرّتين ، وفي المرّة الثانية بعد أن عدت إلى بلدي ، قرّرت الاعتزال النهائي ، وبعدها بشهرين فقط كتب الله لي الحجّ ، وفهمت بأنه مكافأة من الله عزّ وجلّ ، وفي الحجّ ، ونحن على صعيد عرفات الطاهر ، بكيت بكاء أشبه بالهستيريا ، حتّى بكى لبكائي جميع من في الخيمة ، ثمّ عدت من الحجّ بحجاب كامل ، أدعو الله أن يغفر لي ، وأن يسامحني ، لأنّني كنت في غفلة ، لا أدرك ما أعمله حرام ، ولم يعظني أحد في ذلك .(6/13)
لم يعجب اعتزالي أولئك المهتمّين بالفن ، وبدأت العروض المغرية تنهال عليّ بأكثر ممّا أتوقّع ، واعتقدت في نفسي أنّ هذه العروض ما هي إلا اختبارات حقيقيّة من الله تعالى ليختبر صدق إيماني ؛ هل أنا صادقة في توبتي أم أنّها لحظات مؤقّتة ، وأعود بعدها لأنجذب من جديد لهذه العروض الشيطانية ، ووقفت أتحدّاهم بالرفض ، وأتحدّى نفسي ، وأوّل هذه العروض التي رفضتها كانت بمبلغ ضخم للعمل في مسرحية مع ممثل مشهور تستمّر عروضه المسرحية لسنوات عديدة . وثاني هذه العروض جاءني من شركة سياحية لا أعرف لحساب من تعمل . إذ عرضت عليّ أن أذهب إلى ألمانيا لتعليم الرقص الشرقي بمبلغ عشرة آلاف دولار شهريّاً ، وسيّارات أحدث موديل ، وشقّة فخمة في حي راقٍ بألمانيا . رفضت كلّ ذلك ولم يصدّقوا ، فاتّصلوا بي وأملوا حججهم : كيف ترفضين عرضاً كهذا ؟ فسوف تعملين بالحجاب ، ثمّ إنّ الفتيات اللاتي ستقومين بتعليمهنّ لسن على دينك ، فلماذا ترفضين ؟! وكان ردّي : إنّ كلّ بنت صغيرة ، أو فتاة يافعة سوف أقوم بتعليمها سوف آخذ وزرها حتى لو كانت غير مسلمة .
أمّا السؤال الأكثر وقاحة ، الذي لم أكن أتوقّعه ، فقد قيل له : إذا كنت اعتزلتِ ، حذا حذوك راقصات ، فأين يذهب الرقص الشرقي ؟! (1) .
وأسئلة أخرى أكثر سخافة وفضوليّة ، مثل : من أين تدبّرين أمورك ؟ وتربيّن ابنتكِ ؟ فأجبتهم بالرفض القاطع من أجل أن أعيش بقية عمري تحت مظلّة الإيمان ، وقلت : أنا سعيدة بوضعي الجديد ، وقانعة به ، وسوف يرزقني ربّي ، ولن يتخلّى عنّي بعد أن منّ عليّ بالتوبة .
__________
(1) - فليذهب إلى الجحيم .(6/14)
أمّا العرض الأكثر إغراء الذي لم أتوقَّعه في حياتي البتّة ، فقد تلقّيته من أحد الغيورين (!) على اندثار الرقص الشرقيّ بخمسين ألف دولار نظير إحياء ليلة واحدة من الرقص ، أحييه وسط النساء فقط ، ولمدّة ساعتين ، وكان جوابي الصارم : لا ، وألف لا ، لأنّ هذه المحاولة دوافعها مفهومة لي ، فإذا كان أكبر أجر تلقّيته في حياتي أثناء عملي في دول أوربيّة كان ألفين أو ثلاثة أو أربعة آلاف دولار ، نظير عقد كامل لمدّة معينة ؛ فلماذا يعرض عليّ هذا المبلغ نظير إحياء ليلة واحدة ؟! المقصود هو إخراجي من حجابي ، ومن دائرة إيماني التي ولجت فيها عن صدق ويقين .
بعد هذا الرفض الأخير أصابهم اليأس ، وتوقّفوا عن محاولاتهم الدنيئة لإغرائي بالابتعاد عن طريق النور الذي سلكته و رضيته ، والحمد لله على كلّ حال ..
***
توبة الممثلة هدى رمزي (1) .
الطريق إلى الله عز وجل مفتوح أمام التائبين ، ومهما كانت الذنوب والآثام فرحمة الله قد وسعت كلّ شيء ، وهو القائل سبحانه : ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) ( الزمر : 53) .
هكذا بدأت الممثلة التائبة هدى رمزي حديثها للمجلّة ، أمّا رحلتها إلى الهداية فترويها بقولها :
منذ نشأتي الأولى وأنا في الوسط الفنّي ، فوالدي كان منتجاً ومخرجاً ، وشقيقي الأكبر كذلك ، وبعد تخرّجي من كليّة الإعلام – قسم الإذاعة والتلفزيون ، سلكت طريق الفنّ لعدّة سنوات ، ظللت خلالها أفكّر كثيراً في جدوى هذا العمل المليء بالذنوب .
__________
(1) - مجلّة الدعوة ، العدد : 1507 ( بتصرّف ) .(6/15)
كنت في رحلة بحث متواصلة عن الفضيلة ، وتزوجت عدّة مرّات بحثاً عن تلك القيم الزائفة ، المفقودة في حياتي ، ورحت أقرأ واستمع كثيراً لشتّى الآراء والأفكار ، حتى شاهدت حديثاً لأحد المشايخ المعروفين في التلفزيون ، ومن فرط تأثّري به حاولت الاتصال بهذا الداعية الجليل .. وبالفعل أعطاني عدّة كتب ، وحدّثني كثيراً عن قيم الإسلام السامية دون أن يصرّح ، ومن تلقاء نفسي وجدت أنّ حظيرة الإسلام هي أفضل ما يمكن اللجوء إليه ، وبعد قراءات واتّصالات مع الشيخ قررّت اعتزال هذا العفن نهائياً ، وإعلان توبتي إلى الله – عزّ وجلّ- ، واكتشفت أنّ هذا التصرّف هو ضالّتي المنشودة التي كنت أبحث عنها منذ سنوات ، ثم وجدتها والحمد لله .
وأنا الآن أقضي معظم وفتي في قراءة القرآن وكتب الفقه حتّى أعوّض ما فاتني من علوم الدين الضرورية التي لا يسع مسلم الجهل بها .
أمّا ما أنوي عمله – إن شاء الله – فهو تأسيس دار لتشغيل الفتيات المسلمات ، وتعليمهن أصول دينهنّ ودنياهنّ أيضاً حتى يستطعن مواجهة الحياة وتربية النشء ، كما أنوي أيضاً – إن شاء الله – تأسيس دار للأيتام ورعايتهم ، لأنّ كافل اليتيم له أجر عظيم عند الله تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين )) وأشار بأصبعه ؛ السبّابة والتي تليها وأنا أطمع في تلك المكانة الرفيعة .
أما رأيها في الفنّ بشكله الحالي ، فتقول :(6/16)
إنّ الوضع القائم الآن باسم الفنّ حرام بكلّ المقاييس ، ولا يمكن أن يسمّى فنّاً ، بل هو عفن وفساد ، ومجون واختلاط ، ودمار للأخلاق والمجتمعات ، فهو لا يخدم المجتمع ، ولا يقدّم قيماً ولا مثلاً للشباب ، فيكف يكون حلالاً . نحن نقول حرام بعد أن خضنا تجربته ، وعندنا الدليل والحجّة على ذلك ، فما يجري فيما يسمّى بالوسط الفنّي حالياً لا يمكن أن يمتّ للدين بصلة ، فالإسلام يحضّنا على الالتزام والصدق والنقاء والفضيلة ، والفنّ اليوم يدعو إلى ضدّ ذلك .
وفي نصيحة للاتي لا زلن في ذلك الوسط تقول :
أقول لهنّ : إنّ الطريق إلى الله خير وأبقى ، وهو دائماً مفتوح للتائبين ، وحين ترجعن إلى حظيرة الدين ستعلمن أنّ ما يقدّم باسم الفنّ ما هو إلا عفن ، ولا علاقة له بالدين ، بل هو من المحرّمات والفساد المنهي عنه ، لأنّه علاوة على كونه لهواً لا يفيد شيئاً فهو أيضاً يعتمد المحرّمات سبيلاً ، ويكرّس الخطيئة ، ولا يهدف إلى الصالح العام، فتبن إلى الله ، فهو توّاب رحيم .
أمّا اللاتي تبن ثمّ عدن إلى غيّهن ، فأقول لهن ما قاله الله – عزّ وجلّ – في سورة التوبة : (( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) ( التوبة : 115) .
فهؤلاء كان في نفوسهن مطمع ومرض ، ولما لم يمكنهن مما أردن ، عدن إلى الشيطان )) .
هذا ما قالته الفنانة سابقاً هدى رمزي عما يسمى بالوسط الفني ، وهو كلام قيم يبين حقيقة ما يجري في ذلك الوسط العفن الذي تتحدث عنه كثيراً وسائل الإعلام ، وتلمع أهله !ّ!
توبة الممثلة سهير البابلي ((1))
من الفنانات اللاتي التحقن مؤخراً بركب الإيمان ، الممثلة سهير البابلي ، تحدّثنا عن رحلتها إلى الإيمان فتقول :
__________
(1) - مجلّة الدعوة ، العدد الصادر في : 2/ 3/ 1414هـ ، وجريدة المسلمون ، العدد : 439( بتصرف ) .(6/17)
منذ خمس سنوات أحسست بأنّ في حياتي شيئاً خاطئاً ، ولكن حبّي لعملي كان كبيراً ، فطغى على هذه الأحاسيس في داخلي ، فكانت تطفو على السطح بين آن وآخر، ، وزادت تلك الأحاسيس عمقاً في داخلي منذ عامين ، فبدأت أغيّر أنماط حياتي بالمزيد من التقرب إلى الله ، فحاولت التعرف على كتاب الله أوّلاً ، وأخذت أقرأ ، وأستفسر ، وأعمل بقول المولى الكريم ، (( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) ( النحل : 43) . فكنت ألجأ إلى العلماء لأستفسر عمّا يستعصي عليّ فهمه من آيات وأحاديث ، فاكتشفت أنه ليس هناك ما هو أجمل ولا أفضل من التقرّب إلى الله ، وبكيت ودعوت الله أن يهديني ، ويأخذ بيدي إلى طريق الحقّ ، حتّى كان يوم من الأيّام التي لا أنساها ، كنت على موعد مع درس من دروس الإيمان من أحد الدعاة ، فإذا باللقاء يمتدّ لأكثر من ثلاث ساعات ، شعرت فيها بشعور يصعب عليّ تفسيره . وعدت إلى منزلي ، وصليت الظهر ، وبكيت كما لم أبكِ من قبل ، ودعوت الله أن يلهمني رشدي ، وأن يباعد بيني وبني الشيطان .
وأمسكت بالمصحف ، وقرأت قوله تعالى : (( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )) ( النور : 1 )
فكان قرار الحجاب الذي نبع عن عقيدة وعزيمة ، بعد ما علمت بفرضيّته ، ودون مناقشة ، امتثلت لأمر الله .
أما زملائي سابقاً في الوسط الفني فأقول لهم بإحساس إيماني صادق ، إنّ طريق الإيمان هو ثمرة الدنيا والآخر ، وإن طاعة الله خير من الدنيا وما فيها .
وأقول لهم أنتم تعيشون في تيه وضياع ، وتعايشون الغفلة والدمار ، وإني أدعو لهم بالهداية .
****
توبة رجل عاصٍ على يد ابنه الأصم (1)
هذه القصة من عجائب القصص، ولو لا أن صاحبها كتبها لي بنفسه ، ما ظننت أنها تحدث..
يقول صاحب القصة ، وهو من أهل المدينة النبوية :
__________
(1) - كتبها لي بنفسه .(6/18)
أنا شابّ في السابعة والثلاثين من عمري ، متزوّج ، ولي أولاد ارتكبت كل ما حرم الله ، من الموبقات . أما الصلاة فكنت لا أؤديها مع الجماعة إلا في المناسبات فقط مجاملة للآخرين ، والسبب أنّي كنت أصاحب الأشرار والمشعوذين ، فكان الشيطان ملازماً لي في أكثر الأوقات .
كان لي ولد في السابعة من عمره ، اسمه مروان ، أصمّ أبكم ، لكنّه كان قد رضع الإيمان من ثدي أمّه المؤمنة .
كنت ذات ليلة أنا وابني مروان في البيت ، كنت أخطط ماذا سأفعل أنا والأصحاب ، وأين سنذهب .
كان الوقت بعد صلاة المغرب ، فإذا بابني مروان يكلّمني ( الإشارات المفهومة بيني وبينه ) ويشير إلي : لماذا أبتِ لا تصلّي ؟! ثم أخذ يرفع يده إلى السماء ، ويهدّدني بأن الله يراك ، وكان ابني في بعض الأحيان يراني وأنا أفعل بعض المنكرات ، فتعجبت من قوله .
وأخذ ابني يبكي أمامي ، فأخذته إلى جانبي لكنّه هرب منّي ، وبعد فترة قصيرة ذهب إلى صنبور الماء وتوضأ ، وكان لا يحسن الوضوء لكنه تعلم من أمه التي كانت تنصحني كثيراً ولكن بدون فائدة ، وكانت من حفظة كتاب الله .
ثم دخل عليّ ابني الأصم الأبكم ، وأشار إليّ أن انتظر قليلاً .. فإذا به يصلّي أمامي ، ثم قام بعد ذلك وأحضر المصحف الشريف ووضعه أمامه وفتحه مباشرة دون أن يقلّب الأوراق ، ووضع أصبعه على هذه الآية من سورة مريم : (( يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً )) ( سورة مريم : 45)) . ثم أجهش بالبكاء ، وبكيت معه طويلاً ، فقام ومسح الدمع من عيني ، ثم قبّل رأسي ويدي ، وقال لي بالإشارة المتبادلة بيني وبينه ما معناه : صل يا والدي قبل أن توضع في التراب ، وتكون رهين العذاب ..(6/19)
وكنت – والله العظيم – في دهشة وخوف لا يعلمه إلا الله ، فقمت على الفور بإضاءة أنوار البيت جميعها ، وكان ابني مروان يلاحقني من غرفة إلى غرفة ، وينظر إلىّ باستغراب ، وقال لي : دع الأنوار ، وهيّا إلى المسجد الكبير – ويقصد الحرم النبويّ الشريف – فقلت له : بل نذهب إلى المسجد المجاور لمنزلنا ، فأبى إلا الحرم النبوي الشريف ، فأخذته إلى هناك ، وأنا في خوف شديد ، وكانت نظراته لا تفارقني ألبتة ، ودخلنا الروضة الشريفة ، وكانت مليئة بالناس ، وأُقيم لصلاة العشاء ، وإذا بإمام الحرم يقرأ من قول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) ( النور : 21)
فلم أتمالك نفسي من البكاء ، ومروان بجانبي يبكي لبكائي ، وفي أثناء الصلاة أخرج مروان من جيبي منديلاً ومسح به دموعي ، وبعد انتهاء الصلاة ظللت أبكي وهو يمسح دموعي ، حتّى إنّني جلست في الحرم لمدّة ساعة كاملة ، حتّى قال لي ابني مروان : خلاص يا أبي ، لا تخف .. فقد خاف عليّ من شدّة البكاء ..
وعدنا إلى المنزل ، فكانت هذه الليلة من أعظم الليالي عندي، إذ ولدتُ فيها من جديد ..
وحضرت زوجتي ، وحضر أولادي ، فأخذوا يبكون جميعاً وهم لا يعلمون شيئاً مما حدث ، فقال لهم مروان : أبي صلّى في الحرم ، ففرحت زوجتي بهذا الخبر إذ هو ثمرة تربيتها الحسنة ، وقصصت عليها ما جرى بيني وبين مروان ، وقلت لها : أسألك بالله ، هل أنت أوعزتِ له أن يفتح المصحف على تلك الآية ، فأقسمت بالله ثلاثاً أنّها ما فعلت ، ثم قالت لي : احمد الله على هذه الهداية ، وكانت تلك الليلة من أروع الليالي .(6/20)
وأنا الآن – ولله الحمد – لا تفوتني صلاة الجماعة في المسجد ، وقد هجرت رفقاء السوء جميعاً ، وذقت طعم الإيمان ، فلو رأيتني لعرفت ذلك من وجهي .
كما أصحبت أعيش في سعادة غامرة وحبّ وتفاهم مع زوجتي وأولادي وخاصّة ابني مروان الأصمّ الأبكم الذي أحببته كثيراً ، كيف لا وقد كانت هدايتي على يديه .
أخوكم / أبو مروان - المدينة المنورة .
***
توبة شاب يمني( (1)
يقول الحق تبارك وتعالى : (( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ )) ( يوسف : 105، 106) .
وصدق الله العظيم ، فإن من تأمل حال الناس اليوم ، رأى مصداق هذه الآية ماثلاً للعيان ، فما أكثر المسلمين اليوم ، وأما أقل الموحدين منهم ، ومن أراد الدليل والبرهان فليطف ببعض مساجد المسلمين ليرى العجب العجاب من التعلق بالقبور والأموات والغائبين ، وهذا من أعظم أسباب تخلف المسلمين ، وتأخرهم . فإن للتوحيد الصحيح أثراً عظيماً في بث روح العزة والأنفة في نفس صاحبه ، فلا يركع إلا لله ، ولا ينحني لغيره ، ولا يدعو إلا إياه ، ولا يدع فعل الأسباب المشروعة بحجة التوكل ، لأن توحيده الصحيح يقول له : إن التوكل الحق لا ينافي فعل الأسباب ، بل لا بنفك عنها ، وإلا صار تواكلاً لا توكلاً ، ولعل في قصة هذا الشاب اليمني أوضح مثال لما أقول :
يقول هذا الشابّ :
أنا شابّ من إحدى قرى اليمن ، نشأت منذ نعومة أظافري على المحافظة على الصلوات ، وحبّ المساجد ، فكنت – ولله الحمد – أقوم بالاعتناء بالمساجد وكنسها وتنظيفها .. وعلى الرغم من كثرة تردّدي عليها ، لم أجد من يقف بجانبي ، أو يعلّمني حتّى كيف أتوضّأ، فقد كنت لا أحسن الوضوء .
__________
(1) - كتبها لي بنفسه .(6/21)
المساجد كانت مليئة بالمصلّين ، لكنّها مليئة بالجهل والشرك والأفّاكين ، كيف وإمام المسجد الذي كنت أصلّي فيه كان من كبار الصوفية الذين يجوّزون دعاء الموتى والالتجاء إليهم في الملمّات (1) . ، ومن الذين يقولون بأن الله – جلّ جلاله موجود في كلّ مكان بذاته العليّة – تعالى الله عن ذلك – فالله عزّ وجلّ – بنصّ القرآن وإجماع السلف – في السماء مستوٍ على العرش استواء يليق بجلاله ، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل : (( َيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) ) الشورى : 11 ) .
وكذلك كانت القرية مليئة بالسحر والشعوذة ، فمنهم من يدّعي علم الغيب ، ويستعين بالشياطين لمعرفة بعض المغيّبات الحادثة ، أمّا المستقبلية فلا سبيل إلى معرفتها ، ومنهم من يقوم بالشعوذة ورقية المرضى ، بالرقى الشركية الشيطانية ، ومنهم السحرة الذين يفرّقون بين المرء وزوجه ، ولكن ، حسبنا هذا الجزاء من الآية الكريمة :(( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ )) ( البقرة : 102) .
__________
(1) - يقول تعالى :(( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) [ ( الأحقاف : 5) .(6/22)
. نشأت وترعرعت ، والجهل مخيّم على هذه القرية ، كنّا – أنا وأفراد أسرتي – نقوم بزيارة بعض القبور المعروفة ، وكذا دأب الأسر الأخرى ، فكنّا نطلب من الأموات ما لا يقدر عليه إلا الله ، والله أعلم هل هؤلاء الموتى من أهل الجنّة أم من أهل النار ، وكنّا نأتي في كلّ عيد نسلّم على هذه الأحجار ، ونقبّلها ، وبينما أنا في هذه الحال ، أتخبط في لجج الظلام ، إذ أتى شهر رمضان المبارك من عام 1412هـ ، وكنت في قرية أخرى غير قريتي ، فدخلت أحد المساجد السلفية ، فلفت نظري دولاب صغير قد وضعت فيه بعض الكتيّبات للاستعارة ، فاستعرت بعضها ، ثمّ أعدت الكرّة ، حتّى قرأتها جميعاً في فترة وجيزة جدّاً ، وكان معظمها يتحدّث عن الشرك ، والتحذير من دعاء غير الله من الأموات والغائبين ، وبيان حقيقة التوحيد ومعنى لا إله إلا الله ، فإذا بأنوار التوحيد تحرق لجج الظلام في قلبي ، وتقتلع الشرك من جذوره ، ومنذ ذلك الحين وأنا أحرص على قراءة الكتب النافعة ، وسماع الأشرطة المفيدة ، وأعبّ منها عبّاً ، كالذي وجد الماء الزلال بعد عطش شديد كاد يودي بحياته .(6/23)
ثمّ بدأت أحضر حلقات العلم في المساجد ، وأتعلّم العقيدة السلفية النقيّة على يد من نذروا أنفسهم لنشر التوحيد، ومحو الشرك ، وكما جرت سنّة الله عزّ وجلّ في سائر العصور أن كلّ من دعا إلى التوحيد الخالص لا بدّ أن يؤذي ويُفترى عليه ، وتوجّه إليه التهم ، فقد أُوذينا في الله ، وواجهنا كثيراً من المصاعب ، وكانت الأعين تراقبنا ، والدعايات الكاذبة تلاحقنا من قبل أهل الأهواء والبدع ، فقد كان شغلهم الشاغل هو : ماذا يشيعون علينا من أخبار سيئة ، وافتراءات أثيمة ، فلم نأبه لهذه الافتراءات بل بدأنا – ولله الحمد – ننتشر في مساجد القرية ، ونقيم الدروس والمواعظ المختصرة بقدر ما فتح الله علينا من العلم ، وبدأ أنصار التوحيد والسنّة يتزايدون ، ثمّ بدأنا بالدعوة الفردية لأعيان البلد من أهل الشرك والشعوذة والسحر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، فأخذتهم العزّة بالإثم ، وقابلوا النصح والتذكير بالسبّ والشتم والتهديد ، بل بعضهم هدّد بالقتل ، وهكذا وقف الجميع ، إلا من رحم الله – في وجه هذه الدعوة ، حتّى أُدخلنا السجن في بعض الفترات ، وأراد منّا من يدّعي الإصلاح أن نتأسف لمن نصحناه ، ونقبّل يده وركبته (!) ، فامتنعنا أشدّ الامتناع ، وقلنا بكلّ وضوح : لا دناءة في دين الله .
ومع هذا كلّه ، فلله الحمد والشكر ، فقد أدّت هذه النصائح ثماراً طيبة ، فقد قبلها بعض الناس ، وترك ما هو فيه من ضلال وشرك . وما زلنا – ولله الحمد – ندعو إلى الله عزّ وجلّ بما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا إليه سلف الأمّة رضوان الله عليهم ، نسأل الله أن يثبتنا على دينه .
أخوكم أبو عبد الله من اليمن .
****
توبة مدمّر الأصنام (1) .
__________
(1) - رسالة الجامعة ، العدد 554( بتصرف ) .(6/24)
إنّه شاب نيجيري ، تبدو على وجهه علامات القوّة والشكيمة ، بدأت رحلته من الإسلام الوراثي المغلوط ، إلى النصرانية المحرّفة ، ثم إلى الإسلام من جديد ، ولكنّه الإسلام الصحيح .
أمّا تفاصيل رحلته فيرويها بنفسه ، يقول :
تعرّفت على الإسلام منذ طفولتي المبكّرة ، وهذا أمر بدهي بحكم إسلام الأسرة الوراثي ، وبدأت تجربتي مع الإسلام تقريباً في أوّل مرحلة للتعليم ، كنت في التاسعة من العمر حين التحقت بالمدرسة الإسلامية الصغرى في نيجريا بناء على رغبة والدي الذي كان يشجعني يحدّثني عن الإسلام ، ويقول لي : إنّ الدين الإسلاميّ عُني بالحياة كلّها ، وبكلّ ما يمتدّ على أديم الأرض المضطرب ، وتشرّبتُ المعاني التي لقّنني إيّاها ، ورسخت في ذهني ، فقد تعلّمت منه أنّ الإسلام جعل لكلِّ مشكلة حلاً ، ولكلّ عملٍ صالحٍ ثواباً ، ولكلّ عملٍ سيءٍ عقاباً ، ولكلّ مستغفر وتائب أجراً ، وهذه القناعات لم تفارقني حتّى داخل الكنيسة يوم أن لبست ثوب النصرانية المحرّفة .
ثمّ في عام 1390هـ التحقت بمدرسة ثانويّة حكوميّة ، وكانت تجربة مثيرة ، التقيت خلالها بالكثير من الطلاب المسلمين الذين على ديني ، وكوّنت علاقات طَوّرت معرفتي بالعبادات ، فكنّا نحيي ليالي رمضان بالقيام وتلاوة القرآن ، وننظّم برامج دينيّة ورحلات وزيارات في عيدي الفطر والأضحى ، وأدركت في تلك المرحلة أنّ الإسلام دين حنيف ، وهو دين الرحمة والقوّة والمحبّة .
ربّما سألني سائل فقال : إذن ، لماذا تنصّرت ؟
فأقول : إنّ هذا السؤال يذكّرني بجملة قرأتها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، معناها : يجب علينا أن نعبد الله بالذوق والوجدان والقلب والروح والضمير .(6/25)
أمّا لماذا تنصّرت ، فأقول : تنصّرت عند ما لاحظت أنّ كثيراً ممّن حولي من المسلمين لا يأبهون بدينهم من ناحية الشعائر والسلوك والمعاملات ، وأنّ كثيراً منهم يتّجهون وجهة مغايرة لدينهم ، إنّهم يتزيّون فقط بزيّ الدين ، والإسلام عندهم اسم فقط ، تبيّن أنّ أعمالهم تناقض عقيدتهم في أصولها وقواعدها ومظاهرها ، نفاق ، وحقد ، وحسد ، وإخلاف للوعد ، ونقض للعهد .. ولهذا تركت بعضهم فوراً ، وتعرّفت على زملاء نصارى في المدرسة نفسها ، وصاحبت بعضهم ، ونمت علاقاتي معهم ، وقويت جداً ، وبعد فترة شعرت أن الشباب النصراني أحسن معاملة ، وأكثر وعياً ورحابة صدر ، وانتماؤهم إلى دينهم كان أقوى من انتماء المسلمين إلى دينهم (1) . علاوة على المساعدات الماديّة والمعنوية التي تلقّيتها منهم (2) . ، ولذا قبلت الدعوة إلى اعتناق النصرانية المحرفة فور أن وجّهت إليّ .
نعم .. لقد أخرجني سلوك المسلمين من الإسلام ، وأدخلني سلوك النصارى إلى النصرانية !! وبالطبع ، لو كنت على علم بالعقيدة الصحيحة وأصولها لكان إيماني بها قوّياً ، ولما تنصّرت . ولعلّي أذكر هنا مقولة مشهورة لأحد كبار المفكرين الذي اعتنق الإسلام مؤخّراً والتي تبيّن أثر السلوك في تحويل عقيدة الفرد ، حيث قال : (( الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف سلوك المسلمين )) .
__________
(1) - هذا الكلام فيه نطر ، فالنصارى في نيجيريا كغيرهم من الأقليات في البلاد الإسلامية ، تحسن أخلاقهم مراعاة للأكثرية المسلمة وليأمنوا على أنفسهم ، في الوقت الذي يشتد فيه انتماؤهم لدينهم لشعورهم بالغربة في المجتمع المسلم ، والدعاة منهم يحسنّون أخلاقهم ليصطادوا الشباب المسلم الجاهل الذي لا يفرّق بين الإسلام بنقائه وصفائه وبين أهله الذين لا يحملون منه إلا مجرد الاسم وبعض الطقوس الظاهرة ورثوها عن الآباء .
(2) - هذا هو مربط الفرس ، كفانا الله فتنة المال .(6/26)
لكنّي منذ أن تنصّرت وأنا مضطرب الوجدان ، ويسكن في داخلي خوف كبير ، خوف لا تحدّه حدود ، وتنتابني حالات من القلق والأرق ولا أدري كنهها .. كنت أهرب إلى الكنيسة بحثاً عن السلوى واليقين ولكن هيهات .. وضاعف هذا الخوف إحساسي بالتمرّد على والدي ، وزعزعة استقرار الأسرة ، وكلّما تذكّرت والدي انتابتني حالة من الفزع والخوف ، وعلمت أنّ والدي لم يتخلّ عنّي ، ولم ييأس ، بل كان يبحث بشتّى الطرق إمكانية إعادتي إلى الإسلام .. لقد كانت لديّ قناعة تامّة بأنّ دعاء والدي سيكون هو السبب في أن يهديني ، وأعود إلى الإسلام من جديد .
وبعد خمس سنوات عشتها في ظلام النصرانية وضلالها ، أسلمت مرة ثانية ، ودرست الإسلام دراسة حقيقية وعميقة ، فعدت إليه بقوّة حتّى حصلت على لقب ( مدّمر الأصنام ) ، وذلك لجهودي التي لم تتوقّف في تدمير الأصنام في قريتي والقرى المجاورة ، وكنت أفعل ذلك بعون من الله ، ودون خوف من وثنيّات أو عرقيّات ، وبسبب ذلك بُذلت محاولات جادّة للنيل منّي ، ولكنّ الله جلّت قدرته أيّدني بنصره ، فأصبحت ظاهراً عليهم ، وأنا فخور بهذا اللقب الذي أطلقه عليّ أستاذي الجليل .
ثمّ حصلت على الثانوية الإنجليزية ، وشهادة معهد اللغة العربية ، والتحقت بعد ذلك بكليّة الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض .(6/27)
عملت بعد ذلك في مجال الدعوة بقوّة ، فأسلم على يديّ سبعون شخصاً قبل دخولي الجامعة وبعده ، وفي العطلة الماضية فقط استطعت إقناع ثلاثة وعشرين نصرانياً بالإسلام ، فأسلموا ، وشهاداتهم معي الآن في الرياض ، ثمّ افتتحت مكتباً للدعوة الإسلامية في نيجيريا ، ومعهداً لتعليم الدراسات الإسلامية والعربية ، وأصبحنا ننظّم قوافل دعويّة بالتعاون مع الندوة العالمية للشباب الإسلاميّ ، وركّزنا جهودنا على العمل في أوساط الشباب النصرانيّ ، وكانت لنا مصادمات مع أساطين التنصير هناك ، اتّبعنا فيها أسلوب التأنّي والحكمة والموعظة الحسنة حتّى لا يتصوّر ضعاف النفوس أنّ الإسلام دين عنف وإرهاب ، ويحتاج العمل الدعوي هناك إلى زيادة عدد الدعاة ففي نيجيريا ثلاثون ولاية ، لا يتجاوز عدد الدعاة فيها جميعاً المائتي داعية .
أما الكنيسة في أفريقية فلها دور بنّاء وفعّال في عملية التنصير في كلّ قارات العالم كما هو معروف ، ومن تجربتي مع النصارى أدركت أنّهم يستغّلون الكنيسة بزينتها وزخرفتها وأثاثها الفاخر في جذب قلوب الضعفاء باعتبارها مقرّ عبادة أفضل وأرقى من المسجد ، ومكان اجتماع الفقراء حيث يتلقون الهدايا والهبات ، ويمارسون الرياضات ، فيشعرونهم براحة نفسية آنية ، وسعادة كاذبة ، كما أنّهم يرسلون الصغار والشباب إلى المدارس بملابسهم الأنيقة ، على أنغام الطبول والدفوف .
والكنيسة ذكية في التعامل مع المواطنين ، فهي توزّع الأموال على الفقراء ، ولا تفرّق بين الأبناء هناك من حيث اللون أو العرق أو الجنس .
وبتجربتي أحسّ بأنّ لليهود دوراً كبيراً في عملية التنصير ، بدليل أنّ الكنيسة تعلّم روّادها أن يحبّوا إخوانهم اليهود ! وإذا سئلوا : لماذا ؟ قالوا : إنّ اليهود أبناء الله ، كما كان عيسى ابن الله ! وصدق الله القائل : (( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )) ( المائدة : 51) .
***
توبة شاب مستهتر
روى لي قصّته بنفسه فقال :(6/28)
يظلّ هذا الإنسان على مفترق طرق كلّها في النهاية تعود إلى طريقين لا ثالث لهما : طريق الأخيار ، وطريق الأشرار .. هذا الإنسان وإن عاش طويلاً فإنّ الأعمال كأنّها لمح بصر .
فرق بين شابّ نشأ في طاعة الله ، وشابّ نشأ على المسلسلات والأفلام ، بين شابّ إن حضر في مجلس أنصت إليه الناس لكي يسمعوا منه كلمةً من قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ، وشابّ إن حضر أو لم يحضر فزملاؤه قائمون على الاستهزاء به ، والضحك منه .
كنت في الصفّ الثاني الثانوي ، فبدأت حياتي تتغيّر إلى الأسوأ ، وتنقلب رأساً ، على عقب ، بدأت لا أصلّي ، ولا أشهد الجماعة في المسجد .. أخذت حياتي تتغيّر حتّى في مظهري الخارجي ... تلك قَصّة شعر فرنسية ، وأخرى إيطالية .. وملابسي لم تعد ثوباً وغترة ، بل أصبحت لباساً غريباً فاضحاً .. وجهي أصبح كالحاً مكفهرّاً .. وفارقت الابتسامة شفتاي .
مرّت سنة وسنتان وأنا على تلك الحال ، حتّى جاء اليوم الموعود ..
كنت جالساً مع (( شلّة )) (1) . لا همّ لهم إلّا الدندنة والعزف على العود ، ودقّ الطبول إلى آخر الليل .. شلّة فاسدة لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً ، بل تحثّ على المنكر ، وتأمر به .
وبينما نحن في لهونا وغفلتنا ، إذ أقبل علينا ثلاثة نفر من الشباب الصالح ، كنت وقتها أكره الملتزمين كرهاً شديداً لا يتصوّره أحد .. أقبل أولئك النفر ، فسلّموا علينا ، وجلسوا بيننا بعد أن رحبنا بهم مجاملة .. كنّا عشرة ، وكنت أنا أشدّ هؤلاء العشرة في الردّ على أولئك الأخيار وتسفيههم كلما تكلموا ، كنت أقول لهم : أنتم لا تعرفون أساليب الدعوة ، ولا كيف تدعون .. إلخ
دار النقاش بيننا وبينهم لمدّة ساعة كاملة كنّا خلالها نستهزئ بهم ، وكانوا يقابلون ذلك بالابتسامة والكلام الطيّب .. ولمّا حان وقت الانصراف صافحني أحدهم وقال لي : إنّ لك شأناً عظيماً ..
__________
(1) - الشلّة : الجماعة .(6/29)
مرّ أسبوع على هذه الحادثة وحالتي لم تتغيّر .. من معصية إلى أخرى ، وفي ليلة من الليالي عدت إلى المنزل بعد منتصف الليل ، بعد سهرة مع تلك الشلّة الفاسدة .. كنت متعباً ، فألقيت بنفسي على الفراش ، ورحت أغطّ في سبات عميق ، فرأيت فيما يرى النائم أنّني أمام حفرة بيضاء لم أر مثلها قط ، فسجدت لله شكراً حيث نجّاني من تلك الحفرة السوداء المظلمة ، فقمت من نومي فزعاً ، فإذا بشريط حياتي الأسود يمرّ أمامي .. لا أدري ما الذي أصابني .. قلت في نفسي : لو أنّى متّ في تلك اللحظة هل تشفع لي حسناتي في دخول الجنّة ؟ .. هل تنفعني تلك الشلّة الفاسدة التي لا همّ إلا السهر إلى آخر الليل ، والتفكّه بأكل لحوم البشر .. فعاهدت الله على الالتزام بمنهج الله ومنهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وعلى تطليق تلك الشلّة الفاسدة ، ومن ترك شيئاً لله ، عوّضه الله خيراً منه .
أخوكم محمد
الرياض
توبة شاب بعد إصابته بمرض الإيدز
(( الإيدز )) اختصار لمرض : فقدان المناعة المكتسبة بحيث يصبح المصاب به بلا مناعة تقيه من الأمراض ، وسببه ارتكاب الفواحش المحرّمة ، ولم يكتشف الأطباء له علاجاً إلى هذه اللحظة ، فهو عقوبة إلهية لأهل الخنا والفجور لعلّهم ينتهون .
أما قصّة هذا الشاب فيرويها لنا ، فيقول :
أنا شاب بحرينيّ ، اكتشفت عن طريق المصادفة أنّني أحمل فيروس مرض الإيدز .. فكان ذلك سبباً في إعادتي إلى رشدي ، أمّا كيف حصل ذلك فإليكم القصّة :
بعد أن أنهيت دراستي الثانوية ، عملت موظّفاً في إحدى الشركات التجارية ، وقد فصلت من العمل لكثرة تغيبي ، عملت بعدها أعمالاً مختلفة من بناء وتجارة وغيرها ، حتّى استطعت أن أكوّن نفسي وأجمع مبلغاً من المال ، كنت أساعد والدي أحياناً وهو في الحقيقة غير محتاج إلى مساعدتي .(6/30)
وفي أحد الأيّام عرض عليّ أحد الشباب فكرة السفر إلى إحدى الدول الآسيوية ، وكان يروي لي مغامراته ومشاهدته في سفرته السابقة ، ويحدّثني كثيراً عن المتع المحرّمة التي كان يمارسها ، وكأنّه يغريني بالسفر ويستنهض همّتي إليه ، حتّى عزمت على السفر ، فكان أوّل المرحبين بذلك ، بل إنّه تكفّل لي بشراء تذكرة السفر ، على أن أتكفل أنا هناك ببقية المصاريف ...
وسافرنا وكانت البلاد تعجّ بالعرب ، وبالخليجيين على وجه الخصوص ، وجلّهم ليس له همّ إلا البحث عن المتعة الحرام ، كنت أنا مع مجموعة من شباب الخليج ، وقد خضنا في تلك الوحول القذرة حتّى بلغنا الحضيض .. وعدنا إلى البحرين ، وبعد فترة وجيزة جمعنا مبلغاً آخر من المال ، وسافرنا ، ولكن هذه المرّة إلى دولة آسيوية آخرى لا تقل فساداً عن الأولى ، وجرّبنا كلّ شيء ..
وفي إحدى الليالي ، رفض أحد الشباب إعطائي الحقنة المعهودة من المخدّرات ، فخرجت من الفندق ، وقابلت مجموعة من المروّجين فدعوني إلى مقرّهم ، وعرضوا عليّ أنواعاً متعدّدة من المخدرات كنت أجهل بعضها ، ومدى تأثيرهم على الجسم ، وبعد تناولها دعاني أحدهم إلى الغرفة المجاورة لممارسة البغاء بعد أن أمرني بالدفع أوّلاً ، وكنت في سكر شديد ، فقبلت العرض ، ولم أدر أنّ في ذلك حتفي . .
ثمّ عدت إلى البحرين ، ومارست حياتي الطبيعية ، لكنّ شبح المخدّرات كان يطاردني في كلّ مكان ، وقد نصحني بعض المخلصين بالتوجّه إلى مستشفى الطبّ النفسي لتلقّي العلاج ، فوعدتهم بالذهاب ،لكنّي لم أذهب .
وتوالت السفرات إلى تلك البلاد الموبوءة ، لممارسة تلك الأعمال المشينة التي أصبحت جزاءً لا يتجزأ من حياتي البائسة ، حتّى نفدت النقود ، فاحترفت السرقة ، فكنت أسرق من المدن الكبيرة هناك ، للحصول على متعي المحرّمة .(6/31)
وفجأة .. شعرت بوعكة صحيّة ، فذهبت إلى المركز الصحّي بحثاً عن العلاج ، وبعد تحليل عيّنة من دمي أخبروني بأنّي .. حامل لفيروس الإيدز ..
يا للهول ، ويا للمصيبة .. لقد ذهبت تلك اللذات ، وانقضت المسرّات ، فلم يبق لي منها إلّا الآلام والحسرات ، وإلا الآثام والأوزار والسيّئات ..
تفني اللذاذة ممّن ذاق صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعارُ
تبقى عواقب سوءٍ في مغبّتها لا خير في لذّة من بعدها النارُ
هذه حكايتي باختصار ، وكلّ ما أعرفه أنّني مصاب بهذا المرض ، وعلى الرغم من أنّي أسير إلى الموت سريعاً ، فلا بأس فقد أفقت من غفوتي ، وأنصح كلّ شاب عاقل بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف ، تلك التي كنت أسمعها لكنّي لم أتّبعها ، وإنّما اتبعت نفسي الأمّارة بالسوء ، وقد خاب من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأمانيّ . ..
أقول للشباب : احذروا من المخدّرات والفواحش فإنّها الهلاك الماحق ، واحذروا رفقاء السوء فإنّهم جنود إبليس اللعين ، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، فلعلّكم تقرؤون كلماتي هذه وأنا رهين التراب ، قد فارقت الروح الجسد ، وصعدت إلى بارئها ، فاللهم يا من وسعتْ رحمته كلّ شيء ، ارحم عبدك الضعيف المسكين ..
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأنّ عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلّا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثمّ إنّي مسلمُ
أخوكم / ......
البحرين
توبة امرأة أوشكت على الهلاك (1)
تقول هذه المرأة :
نشأت في أسرة عربية مهاجرة ، مكوّنة من أب وأم وأربع بنين وبنتين ، كنت أنا أصغرهم .. وفي أحضان هذه الأسرة ترعرعت وتربيت ..
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها .(6/32)
أبي وأمّي يصليّان والله الحمد ، لكنّي لم أرهما يوماً ما يأمران أحداً منّا بالصلاة ، أمّا أنا فقد ألهمني ربّي – ولله الحمد- المحافظة على الصلاة وأنا في السابعة من عمري ، وأواظب عليها . وارتديت الحجاب وأنا في العاشرة من عمري ...
كنت أقوم من الليل ، وأحافظ على نوافل الصلوات والصيام ، وأحيي رمضان وحدي .. ظللت على هذه الحال حتّى التحقت بالمرحلة الثانوية ، فأحسست بشيء من الفتور في العبادة ، وبخاصة النوافل ، وكذا الخشوع في الصلاة ، وتلاوة القرآن ، مع محافظتي على الفرائض .. فكنت إذا ما جنّ الليل أحاسب نفسي ، وأبكي على حالي ، فإذا ما أصبح الصباح نسيت حالي ، وألهمتني مشاغل الحياة ..
وظللت على هذه الحال حتّى أنهيت المرحلة الثانوية وما بعدها ..
ثمّ تقدّم لخطبتي رجل طيّب ، يعمل في أمريكا ، فوافقت عليه وتزوّجنا .. كان – ولله الحمد – خيّراً ، فكان يشجعني على لبس الحجاب حتّى ونحن في وسطٍ كافر ، على الرغم من أنّه في تلك الفترة لم يكن محافظاً على الصلاة والصيام ، وقد طلبت منه صيام شهر رمضان معي ، فصامه والله الحمد ، ودعوته إلى الصلاة فوعد خيراً ، ومع ذلك كلّه كنت متعلّقة بسماع الغناء ، والخروج إلى الأسواق ، فلم تكن صلاتي تنهاني عن كثير من المنكرات والذنوب ، فالقلب لم يزل في أسر المعاصي .(6/33)
وذات يوم خرجت من الحمّام بعد أن اغتسلت ، كانت الريح شديدة وقويّة ، وكانت نافذة المطبخ مفتوحة ، فاتّجهت لإغلاقها ، فأحسست بلفحة هواء ، وبعد فترة قصيرة أحسست بصداع شديد في رأسي ، فتناولت دواءً لتخفيف الصداع ، ولكن دون جدوى ، فبدأ الألم يزداد ، والحالة تتطوّر من صداع إلى حرارة ثمّ رعشة قويّة ، فلمّا حضر زوجي – وكان طبيباً – أعطاني دواء آخر فهدأ جسمي قليلاً لمدّة دقائق ، ثمّ عادت الرعشة من جديد ، فمكثت في البيت على هذه الحال خمسة أيّام مع تناول الدواء ، لكنّ الدواء لم يؤدّ مفعوله .. ثمّ تطوّرت الحال إلى الأسوأ ، حيث أصبت بتورّم في القدمين ، وعدم القدرة على الحركة إلّا قليلاً ، فقرّر زوجي نقلي إلى المستشفى ، وفي الصباح الباكر تركت أطفالي عند جارة لي مسلمة كانت لهم خير أمّ جزاها الله خيراً ..
فلمّا دخلت المستشفى ، ورأى الطبيب حالتي ، أسرع بي إلى قسم الطوارئ . . لقد كنت من قبل أرى مثل هذا المنظر في التلفاز ، ولم أكن أتوقّع في يوم من الأيّام أن أكون أنا صاحبة هذا المنظر .. فترى الممرّضات يضعنني على السرير المتحرّك ، ويسرعن بي إلى غرفة الإنعاش، ثمّ تأتي أخرى فتغرز في يدي إبرة التغذية – وذلك أنّ جسمي كان قد هزل من قلّة الأكل ، لأنّني في تلك الفترة كنت كلّما أكلت شيئاً ولو يسيراً استفرغته .. وأخرى تقوم بقياس الضغط ، وثالثة تسرع لإحضار حقنة لتسحب من دمي وتفحصه .. كأنّي تماماً في مشهد تمثيلي تلفزيوني لا حقيقيّ ...
كنت وقتها لا أملك إلّا نظرات شاردة ، فلساني قد ثقل عن الكلام بسبب الحرارة العالية ، والرعشة القويّة ، وقدماي قد ثقلت عن الحركة بسبب الأورام ، والأعضاء منّي قد سكنت إلّا من قلب واهن ينبض ببطء ، فلم أجد ما أعبّر به عن آلامي في تلك اللحظات إلّا بقطرات من الدموع خرجت بصعوبة بالغة ، ومع ذلك لم أستطع مسحها ، لأنّ يديّ كانتا غير قادرتين على الحركة .(6/34)
وفي صباح اليوم التالي قام الأطبّاء بإجراء فحوصات شاملة لسائر أعضاء الجسم للتعرّف على سبب الحرارة والعمل على خفضها ، إذ هي سبب المشكلة ، فقاموا بفحص القلب والرحم والعظام والدم ، وعمل أشعّة للدماغ والجسم كاملاً ، فكانت النتائج كلّها سليمة !!
فاحتار الأطبّاء في أمري ، حيث عن عجزوا معرفة مسببات الحرارة في جسمي ، فقاموا باستدعاء أطبّاء آخرين من ولاية أخرى ، فاقترحوا أن يستمرّ فحص الدم يومياً لاحتمال وجود جرثومة فيه ، فكانوا يوميّاً يأخذون عينة من دمي ، والنتيجة : لا شيء . فأصبحت في حال لا يعلمها إلا الله ..
أمّا الممرضات المشرفات على حالتي فكنّ يواسينني ، ويطمئنني ، على الرغم من علمهنّ بحالتي شبه الميؤوس منها ، فكنّ يقلن لي : إنّك سوف تخرجين ، وترين أولادك ، وتلاعبينهم .. وذلك أنّني منذ دخلت المستشفى لم أرهم ، لأنّ الزيارة كانت ممنوعة عنّي .
وذات مرّة قامت رئيسة الممرّضات بغسل شعري وتسريحه ، فسرح ذهني بعيداً ، وتذكّرت هادم اللذات : الموت ، وقلت في نفسي: الآن يغسلون شعري ، وغداً يغسلون جسمي ، ويحنّطونه ، ويكفّنونه ، ويصلّون عليّ ، ويدفنوني تحت التراب ، ويفارقني الأحباب ، فأكون رهينة الحساب ..
فبكيت كثيراً ، والممرّضة بجانبي لا تعلم ما يجول في خاطري ، فكانت تواسيني ، وتعدني بالشفاء والخروج من المستشفى ..
وبعد أن فَرَغَتْ من تسريح شعري ، وترتيب ملابسي ، أعادتني إلى غرفتي ، وقالت : أتركك الآن لترتاحي قليلاً .. فكنت أدعو لها بالهداية ، جزاء ما فعلته بي .(6/35)
كان تفكيري لا يزال متعلّقاً بذكر الموت ، فقلت في نفسي : يا نفس : ها أنت تموتين رويداً رويداً ، فماذا قدّمتِ من صالح الأعمال ؟ وبدأت في محاسبة نفسي .. فتذكّرت سيّئاتي من سماع الغناء صباح مساء ، ومشاهدة التلفاز ، وما أدراك ما التلفاز وما فيه من المسلسلات والأفلام .. لدرجة أني كنت أؤدي الصلاة بسرعة حتّى لا يفوتني شيء منها .. ناهيك عن حبّ الأسواق وغيرها من الأماكن المختلطة التي كنت أخرج إليها مع زوجي ..
وبكيت وبكيت ، حتّى أنّى من شدّة البكاء ومحاسبة نفسي نسيت أنّي مريضة ..
وفي اليوم التالي ، وهو اليوم الحادي عشر من تاريخ دخولي المستشفى ، جاء الاطبّاء لرؤيتي ، فلم يلحظوا أيّ تحسّن ، بل لم تزدد حالتي إلا سوءاً ، وأعلن الأطبّاء يأسهم من حالتي ، وقالوا لزوجي : إن كان لزوجتك أهل وأقرباء هنا في أمريكا فليأتوا لرؤيتها ، قبل ألّا يتمكّنوا من ذلك .
كنت أسمع ما يقولون وأفهمه لكنّي لا أتمكّن من الكلام ولا حتّى الحركة .
ثمّ خرج الجميع من عندي ، وكانت ساعة المغرب ، فلم يزدني ذلك إلا بكاءً .. لا أبكي لأني سأفارق أولادي وزوجي ، وإنّما أبكي خوفاً من ذنوبي ، فبمَ أقابل ربّي إن أنا متّ على هذه الحال ؟
وعدت إلى محاسبة نفسي ، فقلت : هل لي من حسنات ألقى الله بها ؟
وتذكّرت ، فقلت : يا ربّ : إنّي كنت بارّة بوالديّ حتّى سافرت إلى هذه البلاد ، ومنذ سنين عديدة لم أرهم ، ورغم البعد عنهم فإنّي أدعو لهم ، وأسألك يا ربّ أن تعينني على البرّ بهم دائماً .
أمّا جيراني وصديقاتي فلا أذكر أنّني آذيت أحداً منهم يوماً ما ، بل كنت بينهم محبوبة مألوفة ..
فقلت في نفسي : وهل يغفر الله لي بهذا العمل ما حصل منّي من تقصير وذنوب ؟(6/36)
فما زلت على هذه الحال من المحاسبة الشديدة والبكاء ، وتذكّر الجنّة والنار ، وما فيهما من النعيم ، والجحيم والأغلال ، حتّى دخل وقت صلاة الفجر ، وعيناي تذرفان الدموع ، وفي ختام هذه المحاسبة ، وبعد استسلامي لأمر الله وقضائه ، دعوت الله عزّ وجلّ بالدعاء المأثور : (( اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفّي إن كانت الوفاة خيراً لي .. )) .
غبت بعدها عن الوعي، فلم أشعر بنفسي إلّا والممرّضة تضع يدها على كتفي ، لتوقظني وتدعوني لتناول الدواء ، وفتحت عيناي ، فإذا بها تنظر إليّ بدهشة بالغة ، وتخرج مسرعة إلى باب الغرفة لتتأكّد من الاسم .. فهل يعقل أن تكون هذه هي المرأة التي عجز الأطباء عن علاجها بالأمس ، بل أعلنوا يأسهم من شفائها ؟!! إنّها الآن في حال مختلف ..
يا إلهي .. ما الذي حدث ، هل أنت حقّاً فلانة ؟!! ، قالت الممرضة بلهجتها الأمريكية ، فنهضتُ ، وجلستُ ، وأخذتُ منها بيدي حبّة الدواء وتناولتها ، فشربت عليها الماء ، ثمّ فتحت حقيبتي وأخرجت منها المصحف فاحتضنته بقوّة وأنا أبكي ، ثمّ قرأت منه بعض الآيات بتدبّر وخشوع .. فإذا بالممرضة تصرخ ، وتنادي الأطباء والممرّضات لينظروا إليّ ، فجاؤوا مسرعين ، وقد ظنّوا أنّي قد فارقت الحياة ، فلمّا دخلوا الغرفة ، ورأوني على تلك الحال ، أصيبوا بالدهشة ، ومن الممرّضات من لم تتمالك نفسها فأجهشت بالبكاء ، وتساءلوا جميعاً .. ماذا جرى ؟ .. وما الذي حدث ؟ .. وكيف حصل الشفاء ؟! ..
فأجبتهم بأنّ الله عزّ وجلّ هو الشافي . ألم يقل سبحانه : (( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ )) ( النمل : 62) .(6/37)
وقال سبحانه : (( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ )) . ( الأنعام : 17) .
المهم هو صدق اللجوء إلى الله والتوجّه إليه سبحانه ، وعدم استعجال الشفاء مهما طالت المدّة ، مع بذل ما يمكن من الأسباب ..
وبعد خروجي من المستشفى قامت إحدى الصديقات بزيارتي ، وأخبرتني عن حلقة أسبوعية لبعض الأخوات العربيات المسلمات ، يتذاكرن فيها العلم ، فوفّقني الله لحضور هذه الحلقة ، ومع أنّ مقرّها يبعد عنّا مسافة خمس وأربعين دقيقة ، إلّا أنّ زوجي كان يوصلني إليها جزاه الله خيراً ..
ثمّ بدأت بالمواظبة على الحضور ، ثمّ المشاركة ببعض الموضوعات ، وبعد سنة من حضوري والتزامي انتخبوني رئيسة للحلقة ..
وبعد سنتين شاء الله عزّ وجلّ أن نغادر بلاد الكفر ، إلى خير البقاع وأطهرها ، هذه البلاد الطيبة ، فقد وُفّق زوجي إلى عقد عمل مع أحد المستشفيات هنا ولله الحمد ، وقد كتب الله لنا أداء فريضة الحجّ ، والاعتمار ثلاث مرّات ولله الحمد والمنّة ..
هذه قصّة هدايتي منذ بدايتها ، وقد مرّ الآن على تلك الحادثة التي أيقظتني من غفلتي ستّة أعوام ، واليوم أسأل الله عزّ وجل أن يثبتني وجميع المسلمين على الدين القويم حتى نلقاه على ذلك ، فإنّ الأعمال بالخواتيم .
أختكم التائبة
أم يوسف
توبة مُعاكِسة (1)
إنّ المعاكسات التي تحدث بين الجنسين لهي من أعظم البلايا وأخطرها على الفرد والمجتمع ، وما أكثر ضحايا هذه المعاكسات من الجنسين ، وبخاصّة النساء ، ولنستمع إلى هذه التائبة لتروي لنا تجربتها المرّة مع هذه المعاكسات .. تقول :
__________
(1) - كتبتها لي بنفسه .(6/38)
تزوجت في سنّ مبكرة ، وكنت مخلصة لزوجي غاية الإخلاص ، حتّى كنت معه كالطفلة المدلّلة ، أفعل كلّ ما يأمرني به ، على الرغم من أنّي نشأت في أسرة ثريّة كنت فيها أُخدَم ولا أَخدِم ، كان أبي قد طلّق أمّي فتزوّجتْ بغيره ، وتزوّج هو بغيرها ، فكان من نتائج ذلك أن فقدت حنان الأمّ، كما فقدت التوجيه السليم .
كان زوجي يذهب لزيارة أهله في كل أسبوعين فيمكث يومين ، فأنتهزها فرصة للذهاب إلى بيت عمّي القريب من بيتنا ، فكنت أجد من زوجة عمّي حناناً غريباً ، وعطفاً زائداً حيث كانت تعطيني كل ما أطلب ، لكنّها لم تكن مستقيمة ، فقد كانت تذهب بي إلى الأسواق ، وإلى هنا وهناك ، وتفعل أشياء مخلّة بالأدب لا ترضي الله تعالى ، فسرت على نهجها ، والصاحب ساحب كما يقولون ، ومن تلك اللحظات تغيّرت الفتاة الوديعة الغافلة إلى فتاة مستهترة متمّردة على كل من حولها ، كانت زوجة عمّي – هداها الله – دائماً تغريني بأنّ خروج المرأة من بيتها حريّة ، ورفع صوتها للحصول على مطالبها أفضل وسيلة ، فصرت أستهزئ بكل من يذكّرني بالله أو يدعوني إليه .. ألهو كما أشاء ، وألعب كما أحبّ على الرغم من أنّي زوجة ، ولي أولاد ، لكنّي لم أكن أبالي ، ولم يقف الأمر عند هذا ، بل رحت أجمع حولي صديقات سيئات الأخلاق ، كن دائماً يدعونني إلى الحفلات والأفراح ، والخروج إلى الأسواق بلا سبب يُذكر ، وبما أنّي كنت أكثرهن ذكاء وجمالاً وتمرّداً ، وأقلهن حياءً ، كنت أنا الزعيمة .
وأدهى من ذلك أنّني كنت أعتقد في السحر، وأستعين بالمشعوذين مع خطورة ذلك على العقيدة.(6/39)
وفي يوم من الأيام جاءتني امرأة من نساء الجيران ، ولم أكن أهتمّ بمن يسكن حولي ، ولا أحبّ الاختلاط بهم ، ولكنّ هذه المرأة تعلّقت بي ، وأصّرت على زيارتي ، وبما أنّها كانت صالحة وملتزمة فقد كرهت الجلوس معها ، وكنت دائماً أحاول الهروب منها ، لكنّها كانت لا تيأس ، وتقول لي : لقد صلّيت صلاة الاستخارة (1) . هل أنزل عندك مرّة أخرى أم لا ، فيقدّر الله لي النزول ورؤيتك .
ومرّت الأيام – حوالي الشهرين – مرّة تكلّمني ، ومرّات لا تستطيع أن تقابلني ، وكانت تذهب كلّ يوم بعد العصر لتعلّم النساء القرآن في المسجد المجاور لنا ، وكلّما رآها زوجي دعا الله أن أكون مثلها ، وكانت هي تدعوني إلى الذهاب معها إلى المسجد ، ولكنّي كنت أعتذر بأعذار واهية ، حتى لا أذهب ، وكانت دائماً تقول لي : إنّي – والله – أقوم من الليل أصلي ، فأدعو الله لكِ بالهداية ، وعند ما أتقلّب في فراشي أذكرك فأدعو الله لكِ ، وذلك لما تفرّسَتْه فيّ من الذكاء ، وقوّة الحجّة ، وفصاحة اللسان ، والقدرة على جذب الناس حولي .
وجاء يوم ذَهَبَتْ فيه خادمتي إلى بلدها ، وكنت بانتظار مجيء أخرى ، فجاءتني جارتي وأنا منشغلة ببعض أعمال البيت ، فاقترحت عليّ الاستغناء عن الخادمة ، وكان موعد قدومها عصر ذلك اليوم ، فقدر الله عزّ وجل أن يتأخّر قدومها أسبوعاً كاملاً ، فكانت جارتي تأتيني فتجدني في البيت ، فتساعدني في بعض الأعمال ، وتُسرّبي سروراً كبيراً ، وكنت أنا في الوقت نفسه قد أحببتها، ورأيتها امرأة مرحة، لا كما كنت أتصوّر ، فإنّ زوجي من الملتزمين ، ولكنّه كان دائماً عابس الوجه ، مقطّب الجبين ، فكنت أظن أنّ ذلك هو دأب الملتزمين جميعاً ، حتّى رأيت هذه المرأة وعاشرتها ، فتغيّرت الصورة التي كانت في ذهني عن الملتزمين .
__________
(1) - صلاة الاستخارة من أعظم أسباب التوفيق والبركة وتيسير الأمور .(6/40)
وبعد ذلك بأيام توفيت قريبة لي ، فذهبت للعزاء ، فإذا امرأة كانت تتكلّم عن الموت ، وما يجري للإنسان عند موته بدءاً من سكرات الموت وخروج الروح ، ومروراً بالقبر وما فيه من الأهوال والسؤال ، وانتهاءً بدخول الجنّة أو النار .. عندها توقفت مع نفسي قائلة .. إلى متى الغفلة ، والموت يطلبنا في كل وقت وفي كل مكان ، وفكّرت .. وفكرت ، فكانت هذه هي البداية ، وفي صباح اليوم التالي وجدت نفسي وحيدة ولأول مرة أحس بالخوف .. فقد تذكرت وحدة القبر وظلمته ووحشته ، فكنت ألجأ إلى جارتي المخلصة لتسليني ، فكانت تجيء إليّ بالكتب الوعظية النافعة ، فكنت عند ما أقرأها أحسّ وكأنّني أنا المخاطبة بما فيها ، خاصّة فيما يتعلّق بمحاسبة النفس ، وظللت أقرأ وأقرأ حتّى شرح الله صدري للهدى والحقّ ، وذقت طعم الإيمان ، عندها أحسست بالسعادة الحقيقيّة التي كنت أفتقدها من قبل ، وتغيّرت نظرتي للحياة ، فلم أعد تلك الإنسانة اللاهية العابثة المستهترة ، وابتعدت عن رفيقات السوء ، وكرهت الأسواق ، بل كرهت الخروج من المنزل إلّا لحاجة أو ضرورة ماسّة ، والتحقت بدار الذكر لتحفيظ القرآن الكريم ، وهذا كلّه بفضل الله ثمّ بفضل الصحبة الصالحة ، والدعوات المخلصة بظهر الغيب من جارتي وزوجي ، ولله الحمد والمنّة .
توبة فتاة من التصوير المحرّم (1)
التصوير المحرّم هو تصوير ذوا ت الأرواح من إنسان أو حيوان ، سواء باليد رسماً أو نحتاً ، أو بآلة التصوير المعروفة ، وإنّما حرّم ذلك لأمرين أحدهما : أنّ في ذلك مضاهاة لخلق الله عزّ وجل ، والثاني : أنّه قد يفضي إلى تعظيم هذه الصور والتعلّق بها ، ومن ثمّ عبادتها من دون الله كما حصل لقوم نوح عليه السلام ، وسأترك الحديث لهذه الفتاة لتروي لنا قصّتها في هذا المجال .
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها من الجزائر .(6/41)
تقول : نشأت منذ نعومة أظفاري أحبّ الرسم وأهواه ، ولقد اكتشفت ذلك من خلال دراستي الابتدائية حيث كانت المعلّمة تكلّفنا ببعض الرسومات ، فكنت الوحيدة التي أجيد الرسم و أتحصّل على أعلى العلامات في هذه المادّة .
كثيرات كنّ يحسدنني على موهبتي الخارقة ، والكلّ كان يشجعني ، أمّا أنا فكنت لا أشكّ بأنّ لي مستقبلاً زاهراً في هذا المجال كما أوهموني ، واستمرّت الأحوال على هذا المنوال ، وانتقلت إلى المرحلة المتوسطة .. كنت مسرورة بهذا فلا أُرى إلاّ مزهوّة فرحة ، كيف لا وقد بهرت الجميع بموهبتي الخارقة ، وكسبت كثيراً من الصديقات والمعارف بسببها .. أصبحت معروفة من قبل الجميع حتّى صرت أتضايق من هذا .. كانوا يطالبونني كثيراً بأن أرسم لهم ، وأنا لا أستطيع أن أرضيهم جميعاً ...
وذات يوم ، وفي حصّة الجغرافيا تبادلنا أطراف الحديث مع المعلّمة في موضوعات شتّى .. كانت دائماً تنصحنا لوجه الله عزّ وجلّ .. حقّاً إنّها معلّمة صالحة فاضلة .. وإذا بإحدى زميلاتي تقول للمعلّمة .. إنّ فلانة تجيد الرسم ، ولو أردتِ أن ترسمكِ فإنِها ستفعل في دقائق معدودة ، وكأنّ الصورة أنتٍ إلا أنّها لا تنطق ..
ونظرت إليّ المعلّمة وابتسمت في وجهي قائلة : إذن أنتِ أليس كذلك ؟
أجبت بنوع من الغرور : بلى هو كذلك .
فقالت : لي : إنّ الإسلام لا يحرّم الرسم مطلقاً ، ولكن ألم تسمعي بالأحاديث النبويّة التي تحرّم رسم ذوات الأرواح ؟
قلت : هذا غير معقول ، وإن كان كذلك فإنّي لم أطّلع على شيء منها من قبل .
قالت : اعلمي إذن أنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة هو المصوّرون كما صحّ ذلك عن النبيِ صلى الله عليه وسلم ، فاتركي ذلك لما فيه من الضرر عليك ، وعصيان الله ورسوله .
قلت : أجل يا معلمتي ، إنّ الحقّ معكِ ، وسأحاول إن شاء الله تعالى تركه .(6/42)
وتلفتّ يمنة ويسرة فإذا بزميلاتي ينظرن إليّ بخبث نظرة سخرية وتعجّب ، وخرجتُ بعد انتهاء الحصّة تائهة حائرة أمشي مطأطأة الرأس ، والأفكار تتصارع في مخيّلتي ، وإذا ببعض زميلاتي من رفيقات السوء يجتمعن إليّ ، ويقلن لي : هل صدّقتِها ، هل أنتِ جادّة في ذلك القرار ؟[!!
غير معقول ، مثلك لا يفعلها ، هاتي يديك أعطيكِ ما تريدين .. وبدأن يتحدّثن ، فقائلة تقول : لو كنت مكانها لتوقفت عن الدراسة وتخصّصت في الرسم ، وأخرى تقول : إنّها معلّمة مغرورة دائماً تتدخّل فيما لا يعنيها ..
لم آبه لما قلن ، ولم أعره أيّ اهتمام ، بل التفتّ إليهنّ ، وقلت لهنّ بصوت خافت ، اتركوني في حالي ، ولتمض كل واحدة في حال سبيلها ، وفي الغد قرّرت أن أستقيم وأبتعد عمّا حرّم الله عزّ وجلّ من الرسم المحرّم ، وعدت إلى المدرسة ، وأعلنت قراري بين زميلاتي ، فبعضهن قذفنني بالخوف ، وبعضهن الآخر بالتهرّب من قضاء ما وعدتهن به من الرسومات ، وبدأن يسخرن منّي وظلّ الأمر على هذه الحال لمدّة أسابيع ، حتّى زيّن لي الشيطان على لسان رفيقات السوء العودة إلى طريق العصيان ، وأنسوني كلّ ما قالته لي معلّمتي الفاضلة ، حتّى إنّها كانت تسألني مراراً : هل توقّفتِ عن رسم ذوات الأرواح ؟ فأجيبها بنفاق : نعم : فتضحك زميلاتي ، وأضحك معهنّ .. نعم ، هكذا يا نعيمة ، هي تكذب – بزعمهنّ – وأنتِ تكذبين عليها ، ثمّ نضحك من جديد .. ولكن في قرارة نفسي لم أكن راضية بما أفعله ، لذا كنت أتحاشا أن أفكّر في هذا الموضوع ..
وكثر المشجعون لي والمعجبون بي ، ولكن يا للعجب ، الجميع يريد مني أن أرسم له ، ولم يفكرّ أحد في شخصي ، لذا لم تكن لي علاقات وطيدة بواحدة منهن على الرغم من كثيرة معارفي ، فقد جعلنني بطلباتهن المستمرة كآلة صمّاء ، ومهما بذلت من جهد فلن أستطيع أن أرضيهن جميعاً .
هكذا كنت حتّى ضعف مستواي الدراسي بسبب هذه الأمور، فيا أسفي ، كم كنت غافلة .(6/43)
طالت مدّة غفلتي إلى ثلاث سنين ، ثمّ يسّر الله لي الانتقال إلى الثانوية العامّة ، فتعرّفت على صديقات جديدات ، كما تعرّفن هنّ عليّ وعلى موهبتي من خلال ملفّاتي التي كنت أحملها معي أينما ذهبت ، وكالعادة إرضاء الناس غاية لا تدرك ، إلى أن شاء الله أن يهديني ، فقد أحببت مادّة علوم الشريعة الإسلامية ، وكنت تلميذة مجتهدة ، بل ممتازة في هذه المادّة ، وتوسّعت فيها إلى قراءة الكتب الشرعية في أوقات الفراغ ، وأصبحت هذه الكتب هي شغلي الشاغل ، ولم أقتصر على الكتب ، بل تجاوزت ذلك إلى الأشرطة الإسلامية بما تحويه من دروس ومحاضرات وخطب ، وما هي إلا أيّام وجيزة حتّى كشفت القناع عن إثمي بالأدلّة القاطعة ، ندمت هذه المرّة ندماً شديداً على ما فاتني . أوّلاً ، لأنّني عصيت الله عزّ وجلّ ، ثمّ إنّي لم أعمل بالنصيحة ، وجالت بخاطري أسئلة كثيرة .
بكيت على إثرها ، وبكيت حتّى تورّمت عيناي من البكاء ، ثمّ أعدت قراءة الأحاديث التي جاء فيها الوعيد للمصوّرين : (( إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون )) (1) .
ثمّ أقول في نفسي : هل سيقبل الله توبتي ؟ ثمّ أواصل القراءة : (( ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرّة ، أو ليخلقوا حبّه ، أو ليخلقوا شعيرة )) (2) .
يا سبحان الله ، هل أستطيع أن أخلق حبّة أو ذرّة ؟ ! سبحانك ، اللهم اغفر لي ..
ثمّ أقرأ : وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً : (( كلّ مصوّر في النار ، يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفساً تعذّبه في جهنّم )) (3) . .. أعوذ بالله من جهنّم ، هل سيكون مصيري إليها ؟! .. ربّاه ، اغفر لي ..
__________
(1) - أخرجه أحمد ومسلم عن ابن مسعود .
(2) - أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة .
(3) - أخرجه مسلم ، ومعنى (( مرفوعاً )) : أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(6/44)
اللهم اغفر لنا جميعاً يا ربّ العالمين ، اللهم إن كنتّ قد غضبتَ فلطالما عفوتَ .. اللهم لا تحرمنا عفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين ..
والآن لا آبه بما يقولونه عنّي من رجعية وجنون وتخلّف .. ولقد حوّلت كلّ طاقتي إلى البحث والتجديد والتفقّه ، والحِرَف التي تناسب الفتيات .. حتّى لا أترك لنفسي مجالاً للسعي إلى المعاصي والذنوب ، وإنّي أشكر الله عزّ وجلّ على نعمته وهدايته ، والحمد لله ربّ العالمين.
توبة شاب يمني من السرقة والتصوير المحرم (1) .
هذه القصة شبيهة بالتي قبلها ، لذا سأذكرها باختصار ، يقول صاحبها :
السرقة كانت هي البداية .. كنت أسرق المال من دكّان أبي ، فأصرفه فيما حرّم الله ، تارة في شراء الأفلام الساقطة ، وتارة في شراء أجود أنواع أقلام التلوين ، لأرسم بها صور ذوات الأرواح ، وكنت مشتهراً بالرسم في حارتنا ، الكل يطلب مني أن أرسم له ، فكنت أرسم صوراً مضحكة فيها تشويه لخلق الله ، فالله عزّ وجلّ لم يخلق عيوناً جاحظة ، ولا آذاناً كبيرة ، ولا رؤوساً أكبر من الأجسام ، بل خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكان بعض أهل العلم يحذّرني من هذا العمل المحرّم ، وأنّ صاحبه يعذّب يوم القيامة ، وينصحونني بالتوبة منه ، لكنّي لم أستجب لنصحهم ..
ظللت على هذه الحال ، أسرق ، وأشتري ما حرّم الله ، حتّى اعتدت شراء الأفلام الساقطة ، والمجلات الهابطة ، وأقلام التلوين المختلفة ،وكنت أشتريها من مكتبة في شارعنا ، حتّى قال لي صاحب المكتبة يوماً من الأيّام . ما هذا الذي تفعله ؟! أبوك يشتغل في الدكّان ويتعب ، وأنت تأخذ أمواله ، وتضيّعها فيما لا فائدة فيه ؟ فلم آبه لما يقول ..
__________
(1) - كتبها لي بنفسه من اليمن .(6/45)
وذاع صيتي بين الناس ، ونمت موهبتي ، حتّى أصبحت معروفاً عند الجميع ، وصاروا لجهلهم بخطورة هذا الأمر – يدعونني بـ ( الرسّام ) ، وذات مرّة ، رسمت لصديق لي صورة ، وطلبت منه أن يحرقها بعد فترة ظنّاً منّي بأنّ ذلك كاف في النجاة من عذاب الله ، وما توعّد به المصوّرين ، حتّى فاجأني أخي يوماً بقوله : ألا تعلم يا أخي بأنّ ما تفعله فيه مضاهاة لخلق الله ! وأنّ من يرسم هذه الصور يطلب منه يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح ، (( وليس بنافخ )) ، فكيف تنجو من عذاب الله غداً ؟
فكانت هذه الكلمات بمثابة المنبّه الذي أيقظني من غفلتي ، حيث قمت بعدها بجمع كلّ ما لديّ من تلك التصاوير والرسومات ، ووضعها في كيس ، وإحراقها خوفاً من عذاب الله تعالى ، وإعلاناً للتوبة النصوح .. وإنّي أحذّر كل من ابتلي بذلك من عذاب الله وأنصحه بالتوبة النصوح قبل فوات الأوان .
أخوكم .........
****
توبة شاب مسلم اعتنق النصرانية
يقول هذا الشاب في رسالة وجّهها إليّ شخصياً :
أخي الفاضل ...(6/46)
إنّ لساني يعجز تماماً كيف يشكرك على كتابك القيّم الذي يغسل القلوب ، ويغيّر النفوس ، كتاب (( العائدون إلى الله )) الذي تحصّلت عليه من طريق أخلص وأوفى مؤسسّة ، إنّها مؤسسة الحرمين الخيريّة ، واللهِ لمّا قرأته تأثرت به كثيراً ، وبكيت طويلاً ، وتذكّرت ذنوبي الكثيرة .. فأنا لم أترك نوعاً من الفواحش إلا اقترفته ، ولا ذنباً تتخيله إلا ارتكبته ، من أصغر ذنب إلى أكبره وهو الكفر بالله ، حيث أنّني في لحظة غضب وضعف وإغراء اعتنقت النصرانية . نعم ، اعتنقت النصرانيّة ، وذلك بسبب مشكلات عدّة كنت أعيشها .. ولا زلت أعيشها .. فأنا شاب في الحادية والعشرين من عمري ، متحصّل على شهادة (( مساعد محاسب )) لكنّني بدون عمل ، وهذا ما دعاني إلى اعتناق النصرانية ، حيث إنّي أعيش مع عائلة محافظة متدينة كثيرة الأفراد ، لكنّها بسيطة ومحتاجة إلى أبسط الضروريات .. أخي الأكبر متزوّج ، وله ثلاثة أطفال ، يعمل لدي عمّي في محلّ تجاري ، وهو المعيل الوحيد لنا بعد الله ، أمّا أبي فهو مريض بالسكّري ، ضعيف الجسد ، لا يقوي على العمل ..
تخيّل عدداً كبيراً من الأفراد يعيش في بيت صغير ليس به سوى ثلاث غرف !! كلّ هذا وعائلتي راضية تماماً بهذه الحياة إلّا أنا وأخي الذي يكبرني بسنتين فلم نكن راضيين بمثل هذه الحياة .. لأنّ أقاربنا – وبخاصّة بني عمّنا – يعيشون في رفاهية تامّة ، وطلبات أبنائهم أوامر تنفّذ على الفور إلا نحن ، وهذا ما ولّد الغيرة والحسد في قلوبنا أنا وأخي ، ولكي نحسّن من حالتنا المادية بحثنا عن عمل ، لكنّ العمل غير متوفّر لأمثالنا ، ومن العسير جدَاً أن نجد عملاً دون وساطة من أحد، أو تقديم رشوة .. وعند ما يئس أخي من الحصول على عمل ، سلك طريق الحرام ، وبدأ يتاجر بالمخدرات سرّاً دون علم أبي وأخي الأكبر ، وأنا – يا لغبائي – كنت أشجعه على ذلك لأنّه كان يعطيني بعض الأموال التي يجنيها .(6/47)
واستمررت في البحث عن عمل زمناً طويلاً ، ولكن دون جدوى .. وفي يوم لا أنساه أصيبت والدتي الحبيبة بالمرض الخبيث ( مرض السرطان ) ، فقد أنشب أظفاره بجسدها ، فلم يمهلها سوى ستّة أشهر، وتأثّرتُ بموتها كثيراً ، واشتدّ الغضب في نفسي ، واسودّت الدنيا في عيني ، واشتعل القلب غيظاً ، ولعنتُ اليوم الذي تزوّجت فيه أمّي بأبي الفقير ، ولعنت اليوم الذي وُلدتُ فيه (1) ، فوالله ما كنت أبحث عن عمل إلّا من أجل والدتي ، لكي أعوّضها ما حُرَمَتْ منه ، حيث إنّها – رحمها الله – لم تعش حياتها مثل باقي زوجات أعمامي أو باقي الأمّهات .. لقد كانت محرومة من كلّ شيء ، كانت لا تأكل طعاماً حتّى تتأكّد أنّنا جميعاً قد أكلنا ، وفي بعض الأحيان تنام على لحم بطنها ، لأنها لم تجد ما تأكله ، وكانت لا تشتري لنفسها أيّ شيء حتّى تتأكّد أنّه لا ينقصنا أيّ شيء ، مع العلم أنّه ينقصنا كلّ شيء .. صدّقني ، وأقسم لك بالله العظيم أنّها كانت تلبس بعض الألبسة التي كانت لديها منذ الاستعمار الفرنسي .. !
ولقد كان موتها قبل أن أحقّق لها ما كنت أحلم به لها وأعدها من أسباب ما تولّد في نفسي من الحقد والكره لأعمامي الأغنياء، الذين لم يساعدونا أبداً ، وهم يعلمون بحالنا ، وكرهت حتّى أبي الذي لم يكن مهتماً بأمّي رحمها الله ، ولم يكن يبالي بحالها الذي يرثى له حتّى إنّه بعد موتها اعترف بأنّه كان مقصّراً في حقها .. .
__________
(1) - لا يجوز لعن الأيام ، ولا سبّ الدهر ، فقد ورد في الحديث : ( لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر )) أخرجه مسلم عن أبي هريرة .(6/48)
المهمّ أنّني بعد موت والدتي خرجت أبحث عن عمل ، وكالعادة لم أجد ، لكنّي لم أيأس ، وفي يوم من الأيّام ذهبت إلى مؤسّسة وطنية لأبحث عن وظيفة ، ودخلت على مدير المؤسّسة ، وبمجرّد دخولي عليه نظر إليّ نظرة غريبة من الأعلى إلا الأسفل ، ورحّب بي ترحيباً لم أكن أتوقّعه ، ظننت في البداية أنّه يعرفني أو يعرف أحداً من عائلتي ، ولكنّ ظنّي كان خاطئاً ، وسرعان ما كشف عن نواياه الخبيثة ، حتى بدأ يتكلّم عن شكلي ، وعن وسامة وجهي ، وأمور يستحي المرء من ذكرها ، وفهمت ما يريد ، وكان الأمر كما فهمت ، فقد بدأ يساومني كالشاة في جسدي مقابل المال والعمل ، فلم أتمالك نفسي حتّى شتمته وأسمعته ما يكره ، وربّما ما لم يسمع في حياته كلّها . .وخرجت وقلبي يملؤه الحسرة والألم ، والدموع تنهال على خدّي .. وفي اليوم نفسه التقيت بصديق أخي الذي يتاجر بالمخدرات ، فاستفسر عن حالي ، فأخبرته بكلّ ما حدث ، ودار حوار بيني وبينه ، فاقترح عليّ مراسلة إحدى الإذاعات النصرانية المعروفة ، وطلب المساعدة منهم ، ومن خلال كلامه عنها أحسست بأنّه على علاقة بها ، وأنّه قد اعتنق النصرانيّة ، وهذا من خلال التغيّر الذي طرأ عليه ، المهمّ أنّي أخذت منه عنوان تلك الإذاعة ، وراسلتها طالباً المساعدة ، ورويت لهم كلّ ما حدث لي بسبب العمل ، وحالتنا الماديّة المزرية ، وبعد مدّة قصيرة وصلني الردّ منهم ، حاملاً في طيّاته كل معاني الترحيب والقبول ! واستمرّت المراسلات بيننا والمكالمات الهاتفية ، وأرسلوا لي عدّة مطبوعات وكتب تنصيريّة ، ثمّ جاءت الرسالة التي طلبوا منّي فيها اعتناق النصرانيّة ، والالتحاق بمدرسة روحية في فرنسا لدراسة الدين النصراني ، ووعدوني بأن يتكفّلوا بجميع مصاريف إقامتي ودراستي هناك ، وبدون تردّد قبلت ، وأعلنت عن دخولي في النصرانيّة ، لأنّني سئمت البطالة والفقر والحرمان ، وفي ظني أني لو بقيت عشرين سنة إلى الأمام لن أجد عملاً .(6/49)
واكتشفت عائلتي الأمر ، وعارضتني بشدّة ، حتّى أخي الذي يتاجر بالمخدّرات عارض فكرتي ، وبما أنّني كنت سأفعل هذا من أجلهم تردّدت قليلاً ، لأنّهم أشاروا عليّ أن أطلب المساعدة من المسلمين ، وبخاصّة دول الخليج العربيّ ، فهي دول غنيّة ، وتحتاج دائماً إلى العمالة الأجنبيّة ، وتحصّلت على بعض العناوين ، وراسلت بعض الشخصيّات الإسلامية لمساعدتي في إيجاد عقد عمل ، كما راسلت عدّة مجلات إسلاميّة ، وعدّة شركات ، ومؤسسات ، ومصانع ، وفنادق ، وعائلات ، ورجال أعمال في كلّ دولة خليجيّة ، وكنت أطلب عقد عمل ولو خادم يقوم بكلّ شيء ، ولكن للأسف لم أتلقّ أي ردّ منهم !! أكثر من خمسين رسالة أرسلتها ، ولكن لم يتفضل أحد منهم للردّ على رسائلي ولو بكلمة واحدة ، مع أنّني كنت أكتب لهم وأشرح لهم ظروفي العائلية الصعبة ، وأرفق مع كلّ رسالة شهادة تثبت حالتنا الاجتماعيّة ، وصوري ، حتّى سئمت المراسلة وإخراج الوثائق من دار البلديّة ..(6/50)
هذا الموقف زاد من تمسّكي بقرار اعتناق النصرانيّة ، والسفر إلى فرنسا لأرتاح من الهمّ الذي أعيش فيه ، وبدأت في إجراءات استخراج التأشيرة من القنصلية الفرنسيّة التي كانت صعبة جداً ، ويشاء الله عزّ وجلّ أن أجد عنوان مؤسسة الحرمين الخيريّة ، كنت أظن أنّها تساعد الفقراء والمحتاجين من خلال اسمها ، لكنّها ساعدتني فيما هو أهمّ من ذلك ، وأهمّ من العمل والمال والسفر ، لقد ساعدتني في أن أعود إلى رشدي وديني ، وتمّت توبتي على يديها ، عن طريق ما تبعثه من رسائل وكتب ، ومنها كتاب العائدون إلى الله ، وبدأت أتغيّر يوماً بعد يوم ، وأحسّت الإذاعة النصرانية بهذا التغيّر لأنّي لم أعد أراسلها ، ولا أردّ على رسائلهم ومكالماتهم الهاتفيّة ، ولكنّهم لم يتركوني في حالي ، وشنّوا عليّ الحرب عن طريق رسائلهم التي كانت تحتوي على المطبوعات النصرانيّة ، وبعض الإغراءات التي أشعر بالضعف أحياناً عند قراءتها ، لكن أنّى لهم أن يستطيعوا زعزعة إيماني وعقيدتي بالله الواحد الأحد )) .
ثمّ ختم رسالته بقوله :
وشكراً لك مرّة أخرى على كتابك الذي أنار لي الطريق ، وهداني بتوفيق الله ، وجزاك الله خيراً ..
الأخ التائب : ع . ع(6/51)
توبة فتاة من ممارسة الرياضة المحرّمة (1)
تقول هذه الفتاة :
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها من سوريا . والمقصود بالرياضة المحرّمة هنا : تلك الرياضة التي تمارسها أمام الرجال – غير زوجها - ، أو أما م النساء بلباس فاضح وفي أماكن مشبوهة ، أمّا كون المرأة تمارس الرياضة بمفردها أو مع زوجها بعيداً عن أعين الناس فهذا لا بأس به ، فقد ثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سابق عائشة الصدّيقة رضي الله عنها في خلوة بينهما ، فسبقته مرّة وسبقها مرّة . وفي هذا الزمن الذي ظهرت فيه الوسائل الحديثة بإمكان المرأة أن تمارس رياضتها في بيتها بل في غرفة نومها ، وقد أظهرت دراسة أمريكية حديثة أن النساء اللواتي يمارسن الرياضة في المنزل يفقدن وزناً أكثر ، ويصبح شككلهنّ أحسن من النساء اللواتي يمارسن نفس التمارين في النوادي الخاصّة ( انظر : جريدة الرياض ، عدد /10883) .(6/52)
أنا فتاة في المرحلة الجامعية ، عشت في أسرة مسلمة محترمة ، تحبّ الدين ، وتواظب على الفرائض .. فكت أواظب على الصلاة في سنّ مبكّرة من حياتي ، حتّى انتقلت إلى المرحلة الإعداديّة ، عندها بدأت المشكلة ، فقد تعرّفت على معلّمة الرياضة ! وأحببتها كثيراً – طبعاً ليس لله – وأحببت الرياضة كذلك ، فبدأت بممارستها ، وتعلقت بها كثيراً ، فصارت جزءاً لا يتجزأ من حياتي ، حتّى إنّي أمضيت سبع سنوات من عمري في التدريبات والبطولات (!) ، وكنت أتشاجر مع أهلي من أجل الرياضة ، وأسدّ أذني عن سماع نصائحهم لي ، لأنّي آنذاك لم أكن أر إلا شيئاً واحداً فقط ، هو الرياضة ، ثمّ تمكّن الشيطان منّي ، فلبست البنطال القصير ( الشورت ) ، والضيّق ، وقصصت شعري كالرجال ، وكلّ ذلك رغماً عن أهلي .. والدتي عند ما تراني بالشورت كانت تنصحني ، وأحياناً لا تقول شيئاً (!) لكنّي أعرف أنّ هذا لا يرضيها (1) ، ويشاء الله عزّ وجلّ – رحمة بي – أن أمرّ بظروف قاسية اضطرتني إلى ترك الرياضة ، فتركتها، وقد عرفت بعد أن هداني الله أنّ هذه الظروف كانت نعمة وليست نقمة ، فبعدي عن الرياضة جعلني أتذكّر الله عزّ وجلّ ، وأبتعد تدريجاً عن سماع صوت الغناء إلى سماع ما يرضى الله ، وتركت مشاهدة الأفلام والمسلسلات التافهة المنحطّة ، وبدأت أفكّر بلبس الحجاب ، والظهور بمظهر محتشم بعيداً عن التبرّج والسفور المحرّم ، وشعرت بأنّ الرياضة ( ولو كانت منضبطة بضوابط الشرع ) شيء تافه لا يستحقّ أن تُصرف فيه جلّ الأوقات ، لكنّ هذا التفكير لم يتحوّل إلى عمل إلا بعد أن شاهدت منظر الموت بعيني ولأوّل مرّة ، حيث توفي جدّي رحمه الله ، وغُسّل وكُفّن وأنا أشاهد هذا المنظر ، فاهتز كياني كلّه ، وجعل قلبي يخفق بقّوة خوفاً ورهبة ، وقادني ذلك إلى التفكير ، وتذكّر أمور كثيرة كنت أعرفها
__________
(1) - الأم المؤمنة لا يمكن أن تسكت عن مثل هذا العمل أو تقرّه ، فضلاً عن أن ترضاه لابنتها .(6/53)
من قبل ، لكنّي لم أكن أعيرها أيّ اهتمام ، كالموت وسكرته ، والقبر وضمّته وعذابه ، والحساب وشدّته ، كلّ ذلك قادني فيما بعد إلى التوبة النصوح ، والندم الشديد على الأيّام التي ضاعت من عمري سدى ، وأنا الآن أرتدي الحجاب الشرعي ولله الحمد ، وأواظب على الصلاة ، وأستمع إلى نصائح والديّ ، وأفكّر كثيراً في الموت وما بعده من أهوال القيامة ، وأتوق كثيراً إلى سماع آيات الله عزّ وجلّ ، وسماع كلّ ما يقرّبني إلى الله .
أختكم في الله من سوريا
***
توبة شاب خرافي( (1)
الخرافيون هم الذين بنوا دينهم على الخرافة من تعظيم القبور وعبادتها ، والتعلق بالأموات ودعائهم من دون الله ، واعتقاد نفعهم وضرّهم ، والله عزّ وجلّ يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً )) ( الجن : 21) بل قال له : (( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) ( الأعراف : 188) .
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق لا يملك في حياته لأحد ضرّاً ولا رشداً ؛ فكيف بغيره من سائر الخلق ؟! ، وفي قصّة هذا الشاب تتجلّى صور الخرافة التي نشأ عليه أولئك القوم ، وشابت عليها مفارقهم ، يقول هذا الشاب :
__________
(1) - كتبها لي بنفسه .(6/54)
أنا شابّ أبلغ من العمر ثماني عشر عاماً ، نشأت في عائلة ذات دين ، لكنّه دين التقليد والخرافة ، أحببت منذ الصغر قراءة القرآن وحفظه ، والسير على ما سار عليه الآباء والأجداد ، فلقد كانوا – هداهم الله – علي شيء بعيد عن الإسلام من عبادة الأوثان – أعني الأولياء المزعومين – والتبرّك بالقبور وأهلها وأحفادهم ، حتّى إنّنا لنعظّمهم أكثر من أيّ شيء ، وخوفنا منهم أكثر من خوفنا من ربنا ، وقسمنا بهم أكثر من قسمنا بربّنا ، فقد علّمنا آباؤنا أنّنا إذا مررنا بأحفاد هؤلاء ولم نقبّل أيديهم أو نسلّم عليهم فكأنّنا قد حرمنا القرب من الله ، أمّا زيارة قبور الأولياء (1) . والبكاء عليها فأمر لا بدّ منه ، فإذا كان يوم زيارة قبر ذلك الوليّ لبسنا له أحسن الثياب وتطيبنا ، وتنظّفنا ، وذهبنا نبكي عند ذلك القبر بكاء لا نبكيه عند سماع آيات القرآن العظيم، فكنّا نعظّم ذلك الوليّ أكثر من آبائنا و مشايخنا ، بل إنّ علماءنا – علماء السوء – كانوا يشجّعوننا على القيام بمثل هذه الأعمال ، لاعتقادهم بأنّ هؤلاء الأولياء هم سبب توفيقنا للطاعة ، وثباتنا عند السؤال في القبر ، ودفع البلاء عنّا وكلّ مفسدة ، وجلب كلّ مصلحة (!) ، فكنّا نتكلّم بسبّ الإله ولا نبالي لأنّ الله سيغفر لنا ، لكن لا نجرؤ أن نتكلّم عن أوليائنا (!) بما هو فيهم ، حتّى إنّ الشيطان زيّن لي ذلك ، وأصبحت من كثرة تعظيمي لهؤلاء الأولياء أرى نفسي بأنّني قد وصلت إلى مرتبة الولاية ، بل إنّني حدّثت نفسي يوماً من الأيّام : من أنا ؟ فكان الشيطان – لعنه الله – يجيبني بأنّي أحد الأنبياء المقرّبين، فكنت حين أسمع صفات
__________
(1) - لا يمكن القطع بأنّ فلاناً من الناس وليّ من أولياء الله – لا سيّما في العصور المتأخّرة - ، إذ إنّ علم ذلك إلى الله وحده ، وكم سمعنا عن أولياء مزعومين يُطاف على قبورهم (1) وهم من أفجر خلق الله ، وأبعدهم عن دين الله ومن تأمل ذلك ظهر له الأمر جليّاً .(6/55)
النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرة الزكيّة أتمثلها في نفسي ، وكانت تحدث لي إلهامات شيطانيّة ، فحين سمعت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى شيئاً في المنام ، إلا جاء مثل فلق الصبح ، كنت أحدّث نفسي بذلك، وأرى أشياء في المنام، فتأتي علي ما رأيته في النهار ، وكلّ ذلك من كيد الشيطان ووحيه وتضليله ، ولم يكتفِ إبليس اللعين بذلك ، بل كان يوحي إليّ بأنّ على وجهي نوراً مثل نور الشمس ، وإذا توضأت للصلاة فسيذهب هذا النور ، والأحسن ألّا أتوضأ حتّى يراني الناس بذلك النور العظيم (!) ، وكنت – غفر الله لي – أسيّر بعض أصحابي على سيرتي من التبّرك بالأولياء وتعظيمهم ، فكنت أقول لهم : إنّي رأيتهم في المنام قد تحصّلوا على ورقة السعادة ببركة ذلك الولي الذي زرناه ، وكنت أعارض كلّ من يطعن في الأولياء أو يقول فيهم شيئاً يؤذيهم ، حتّى إنّني مرّة تخاصمت مع بعض الإخوة لمّا نفى لي التبرّك بالأولياء ، فكان يقابلني بالحجج والبراهين من الكتاب والسنّة ، فأقابله ببعض القصص الخرافية المختلقة عن الأولياء ... ومتى كانت العقيدة تؤخذ من قصص العجائز والدراويش ؟
ولم يكتفِ الشيطان منّي بهذا ، بل لقد قالت لي يوماً من الأيّام امرأة دجّالة كاهنة بوحي من الشيطان ، بأنّني قد بلغت درجة الأولياء بسبب تعظيمي لهم ، وقالت لي أشياء تتنافى مع الشرع والواقع ، وقالت لي بأنّني منذ ولدت أخذني عباد الله الصالحون (!) .. فكان ذلك ممّا زادني حبّاً لهم واشتياقاً إليهم ، وكنت أجعل هذه المرأة الكاهنة هي الأخرى من أولياء الله الصالحين ، فكنت لا أصلي إلا معها ، وآكل كلّ طعام تبعث به من أجل البركة (!) .. كلّ هذا وأنا في مستنقع التقليد ، وأهلي يشجّعونني على ذلك ، حتّى أصبحت أضع الخبز على قبور الأولياء طلباً للأجر ، وأبدأ بالصدقة من قبورهم حتّى تقبل منّي (!) .(6/56)
وبعد كلّ هذا الضلال والطغيان ، وتقليد الآباء والأجداد ؛ كنت في يوم من الأيّام خارجاً من المسجد ، وكانت دار أحد أصدقائي المخلصين على الطريق ، كانوا يجتمعون فيها لذكر الله عزّ وجلّ ، والتعرّف على حقيقة هذا الدين بعيداً عن التقليد المذموم ، فدعاني إلى الدخول في الدار لمشاركتهم في الذكر والدرس والمناقشة ، فرميتهم – غفر الله لي – بأمور ليست فيهم قبل أن أجلس معهم وأستمع إليهم ، حتّى ألحّ عليّ هذا الأخ بالحضور ، وحين جلست معهم ، واستمعت إلى صفاء نور كلامهم ، قذف الله في قلبي الإيمان الصحيح ، وعرفت أنّ ما كنت عليه من قبل ما هو إلا جهل الأوّلين وضلالاتهم ، فأعلنت إسلامي من جديد ، وصحّحت عقيدتي ، وفتحت عيني على حقيقة هذا الدين ، فخرجت بذلك من مستنقع التقليد الآسن إلى واقع الإسلام الطاهر ، وقد دلّني هؤلاء الإخوة على مكاتب ترسل الكتب النافعة ، فراسلتها ، وصحّحت عقيدتي من الشرك ، ولم يكتفوا بهذا بل كانوا يعطونني كتباً لتقوية إيماني ، وتثبيتي على الحقّ ، فجزاهم الله خيراً .
إمّا إخواني الذين كنت أرميهم بالأوهام الشيطانيّة ، فقد عدت إليهم ، واعتذرت منهم طالباً العفو ، ففرحوا بذلك .. وكلّ هذا قد حدث بفضل الله ورحمته وأنا ابن ستّة عشر عاماً ، وأصبح بعض المشكّكين في العقيدة يقولون لي : لقد كنت على هدى وأصبحت الآن على ضلالة .. فلم أبال بكلامهم هذا ، بل استعنت بالله تعالى ، وصححّت خطئي ، وجهلي وأصبحت ، ولله الحمد – أنا وهؤلاء الإخوة الموحّدون ممّن يُشار إليهم بالبنان ، وعرفت الأحاديث النبوية الشريفة وحفظت ما تيسّر منها ، كما عرفت الحلال من الحرام ، والخطأ من الصواب ، وأنا الآن أطلب من الله المغفرة ، فهل يغفر الله لي ؟؟ .. أرجو ذلك .
***
توبة شاب مغربي بعد سماعه لقراءة إمام الحرم المكي (1)
يقول هذا الشابّ :
__________
(1) - المجلة العربية ، عدد ذي العقدة 1414هـ ( بتصرف ) .(6/57)
كنت ليلة الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك جالساً مع أسرتي أمام شاشة التلفاز ، وهو ينصتون ويتابعون بتأثر نقل صلاة التراويح من الحرم المكّي ، وكنت قد جلست معهم لا للمتابعة ، ولكن لمجرد رؤيتهم ، وكنت قبلها ضالاً ، غير ملتزم بتعاليم الدين الحنيف ، حتى الصلاة لا أحافظ عليها ، وأرتكب المعاصي ولا أبالي ، حتى تكوّن لديّ شعور بالاستمرار على هذا الطريق من منطلق استمراء الذنوب ، وشبه اليأس من مغفرة الله ، ولكن في لحظة واحدة تغير كل شيء ، إذ بينما كنت أشاهد النقل وقع سمعي على صوت إمام الحرم وهو يقرأ قوله تعالى : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) ( الزمر : 53) . فوجدتُني أصغي بتأثّر وأنا أستمع إليه وهو يقرأ هذه الآية ويردّدها بخشوع وتدبّر ، ممتزجاً صوته ببكاء داخل أعماقي ، وفي تلك اللحظة أحسست أنّ رحمة الله واسعة ، وأنه سبحانه – يغفر جميع الذنوب ، فرجعت إلى ربّي من تلك اللحظة . .فجزى الله إمام الحرم خبر الجزاء حيث كانت قراءته وخشوعه المؤثر في هذه الآية السبب الرئيس في هدايتي ، وربما هداية شباب كثيرين أمثالي ممن هم بحاجة إلى من يفتح لهم باب الأمل برحمة الله ، ويطرد اليأس والقنوط من قلوبهم ، وليس أعظم من القرآن هادياً وباعثاً للأمل حين يُتلى بصوت خاشع مؤثّر ، يدعو إلى التدبّر ، ومن أطهر بقعة على وجه الأرض .
هذه قصّتي ، عسى الله أن ينفع بها غيري ، وأسال الله عز وجل أن يثبتني على الطريق المستقيم .
م. ب المغرب .
***
توبة فتاة متبرجة (1) ) .
تقول هذه الفتاة :
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها من الجزائر .(6/58)
تسع بنات وخمس ذكور هم عدد أفراد أسرتي بالإضافة إلى الوالدين .. كان همّ الوالدة الأكبر هو تزويج البنات التسع ، وقد شاع في مجتمعنا الفاسد أنّ البنت لكي تجد عروساً لا بد أن تتعرى باللبس القصير !
، وتتجمل بالماكياج ! وتصفّف شعرها على أحدث خطوط الموضة !!
عشنا الفساد بأكمله .. تزيّنا .. وخرجنا بأحدث زينتنا ، وكنا فرائس لذئاب بشريّة .. هذا بنظرة ، وذاك بكلمة .. وكل على شاكلته ..
في ذلك الوقت ، لم نكن نعرف من الإسلام سوى الأركان الخمسة فقط ، وليتنا عملنا بها .. إلا أن ظاهرة بدأت تظهر بين الفتيات آنذاك ، الواحدة تلو الأخرى ، إنها ظاهرة لبس الحجاب .. كنت أرى تلك الفتيات وأنا جدّ محتارة إلى أن قررت إحدى أخواتي الثمان لبسه فلبسته .. في بادئ الأمر رحبّت به العائلة ، ثم لم تمض أيام حتى بدأت مضايقة الأم لها !
وذلك لما تسمعه من الجيران وخالاتي بأنّ من تتحجّب لن تتزوج ! ، وكلّهم يقول : إنها ربما ارتدت الحجاب لعاهة تريد إخفاءها ! ، فجنّ جنون أمّي ، وبدأت في مشاكستها بكلّ ما تملك ، حتّى أصبحت تناديها بـ ( المسلمة ) ! استهزاءً بها ، حتّى وصل الأمر إلى الضرب في كثير من الأحيان ! ، أمّا أنا فأرجو الله المغفرة ، فقد كنت من أجل أن أفوز برضى أمّي أبالغ في التجمّل والتبرّج ، فكانت تعيرها بي ، وكنت دائماً محل تقدير وثناء ..(6/59)
ومرّت سنتان أو ثلاث وأنا على هذه الحال ، وفي يوم 19 جانفي 1987م ( 1407هـ ) خرجت مع بعض زميلاتي في نزهة (!) ، وفي الطريق مررنا بكنيسة ، وبعد مشاورات قرّرنا الدخول .. فوجدنا العديد من النصارى يصلّون صلاتهم ( هداهم الله جميعاً ) . .خرجت وأنا أحسّ بشيء ما يعتلج في صدري ، لم يعجبني حالي .. وهالني تمسّكهم بدينهم المحرف ، وخشوعهم في صلاتهم (1) . . . أشياء عدّة لا أستطيع حتّى التعبير عنها ، وفي يوم الجمعة 21 جانفي – وهذا اليوم لا أنساه أبداً – كنت منهمكة في غسل الأواني ، فإذ بي أسمع حديثاً كان يدور بين أخواتي ، حيث ذكرت إحداهنّ أنّها رأت البارحة في منامها أن القيامة قد قامت ، ثم بدأت تصف ما رأته من أهوال وشدائد .. ارتجف قلبي بشدّة .. تركت ما في يدي ودخلت عليهنّ الغرفة ، وحلفت يميناً إن هي أعطتني حجاباً أن ألبسه غداً ، وأواظب على الصلاة ولا أتركها أبداً .. والله شهيد على ما أقول ، فأحضرت لي أختي حجاباً ، فعقدت العزم على لبسه وأنا على مائدة العشاء ..
قلت لأبي : أودّ أن ألبس الحجاب غداً إن شاء الله ! ..
صمت قليلاً ، ثمّ قال : موافق ، لكن بشرط .
قلت : ما هو .
قال : ألّا تنزعيه أبداً ..
فقلت : موافقة .
نظرت أمي إليّ نظرة طويلة ولم تقل شيئاً ، لأن الكلمة الأولى والأخيرة في البيت كانت لوالدي .
لم أنم تلك الليلة ، لا أقول من شدة الفرح ، وإنّما خوفاً من الغد .. حامت حولي وساوس الشيطان .. أسئلة كثيرة كانت تدور في مخيّلتي : لمَ تدفني نفسك بهذا الثوب ، وأنت دائماً تحبيّن الانطلاق ، وتعشقين الجمال . .ثيابك . .شعرك .. قدّكِ .. لم تخفين كلّ هذا ؟
__________
(1) - سئل ابن عبّاس رضي الله عنهما : إنّ اليهود يخشعون في صلاتهم ؟ فقال : ما يصنع الشيطان بقلوب خربة ؟! .(6/60)
نهضت باكراً ، وارتديت الحجاب .. كانت خطواتي متثاقلة ، واحدة للأمام ، والأخرى للخلف .. الأولى تقول لي .. تقدّمي والله معك ، والثانية تقول : لمَ تفعلين هذا ؟ وزينتك ، وجمالك .. !
استعذت بالله من الشيطان ، وخرجت .. الجميع جاؤوا يهنّؤنني على هذا القرار .. لن أنسى أبداً ذلك اليوم ، جلّ زميلاتي جئن في أحلى لباس ، وآخر موضة تسريحة شعر ، فبقيت أنظر حائرة في أمري ، لكن الله عز وجل لم يتركني ، بل هيّأ لي مجموعة من الأخوات الصالحات انتشلنني من بحر الندم والضياع إلى عالم لا حدود له ، عالم آخر ملائكي .. فاخضرّت الحياة في وجهي وأزهرت ، ثم أنعم الله عليّ فحملت المصحف وحفظت ما تيسّر منه ، ودخلت المسجد .. فتحت الكتب أمامي في العقيدة والفقه والحديث والسيرة ، وحتّى الأناشيد الإسلامية .. كلام طيب .. علمت بتحريم الغناء ، ومصافحة الأجنبيّ ، وإظهار الزينة ، فإذا الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، وحتّى الوالدة الكريمة بعد أن تحجّبت بناتها التسع ، وبدأنا نُسمعها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه سلم الشيء الكثير ، تغيّرت كثيراً ، وأصبحت الصدر الحنون لنا ولزميلاتنا في المسجد ولله الحمد والمنّة ، أمّا موضوع الزواج ، فقد كان الأمر على عكس ما كانت تعتقد ، فقد تزوج سبع بنات من التسع من إخوة صالحين ، وبقيت اثنتان ، وهما على وشك الزوج إن شاء الله .
أمّا أنا فقد أخذت مكاني في المسجد عوضاً عن الشوارع والأسواق ، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله . .
***
توبة شاب على يد منصّر (1) .
__________
(1) - مجلة الدعوة ، العدد 1450 ( بتصرّف يسير ) .(6/61)
إنه شاب من جملة شباب المسلمين ، وعده والده بالسفر للسياحة في حال نجاحه !! ، وفي لحظات ترك وطنه إلى البلاد المفتوحة .. وصل.. كل شيء كان معدّاً للاستقبال .. فعل كلّ شيء إلا ما يرضي الله .. لم يكن هناك وقت .. يقول هذا الشاب :
مرّ الوقت سريعاً .. لم يبق على انتهاء الرحلة إلا يوم واحد ، وكما هو محدّد في الجدول : نزهة خلويّة ، وحفل تكريم !
مالت الشمس للغروب ، وسقطتْ صريعة خلف هاتيك الجبال الشامخات ، والروابي الحالمات .. عندها بدأ ليل العاشقين ، وسعي اللاهثين ، واختلطت أصوات الموسيقى الحالمة بتلك الآهات الحائرة ، ثمّ أعلن مقدّم الحفل عن بدء حفل الوداع .. أوّل فقرة من فقراته هي اختيار الشاب المثالي في هذه الرحلة الممتعة ..
وأعلن الفائز... الشاب المثالي هو ( أنا ) ! .
فكّرت كثيراً : لمَ اختاروني أنا ! هناك الكثير ممّن هم على دينهم .. ألأنّي مسلم اختاروني ؟! ..
تذكّرت أبي وصلاته ، وأمّي وتسبيحها .. تذكّرت إمام المسجد .. تذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. تخيّلته أمامي ينظر ماذا أفعل ..
وصلت إلى المنصّة .. أمسك القائد بالصليب الذهبي .. إنه يلمع كالحقد ، و يسطع كالمكر .. أمسك بعنقي .. قرّبني إليه .. وهمّ بوضع الص.. .
قف .. إنّني مسلم ..
أمسكت بالصليب الذهبي، وقذفته على الأرض، ودسته تحت قدمي ..
أخذت أجري .. وأجري .. صعدت إلى ربوة .. صرخت في أذن الكون ، وسمع العالم : الله أكبر .. الله أكبر ..
أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن محمداً رسول الله .. وعدت إلى بلدي إنساناً آخر غير ذلك الإنسان العابث اللاهي فسبحان من يحيي القلوب بعد موتها ..
***
توبة شاب مفتون (1)
صحّ في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء )) (2) .
__________
(1) - كتبها لي بنفسه من الجزائر .
(2) - متفق عليه عن أسامة .(6/62)
وهذا العصر هو عصر المرأة ، فإنك أينما ذهبت وجدتها أمامك .. في السوق . في الشارع .. في المستشفى .. في وسائل الإعلام المختلفة ... بل حتّى على المعلّبات . وفي كثير من البلاد : في المدارس والجامعات ّ .. وتلك هي الفتنة الكبرى ..
يقول هذا الشاب :
كنت في مرحلة المراهقة عند التحاقي بالثانوية المختلطة (1) ، وفي أول يوم من دخولها تسلّط عليّ أحد رفقاء السوء ، والذي أعرفه منذ المرحة المتوسطة ، فقال لي أثناء فترة الاستراحة : اختر أيّ فتاة من هؤلاء الفتيات الجميلات ، واجعلها عشيقة لك ! وبدأ يملأ رأسي الطريّ بأشياء جديدة وخبيثة ، فنهرته بلساني ، لكن نفسي الضعيفة استوعبت تلك الكلمات الرّنانة الخبيثة ، ومع مرور الأيام وقعت عيناي على فتاة محجّبة تكبرني سنّاً ، فبدأت ألحّ إليها بالنظرات المحرّمة فقط ، دون التكلّم معها ، وكنت أظن أنها تبادلني نفس الشعور .
__________
(1) - الدراسة المختلطة لا شكّ في تحريمها وفشلها لما يترتب عليها من المفاسد والأضرار الجسمية ، وقد اعترف بذلك الكفّار قبل المسلمين ، وإنّ من العجب أن يصرّ القائمون على التعليم في بعض البلاد الإسلاميّة على هذا النوع من التعلم .(6/63)
ومرت السنة الأولى وأنا على هذه الحال ، حتى تغير كل شيء في حياتي ، من شرود للذهن ، وإهمال للصلاة ، وقلّة لذكر الله، وضعف في المستوى الدراسي ، والمصيبة الأخرى ، وهي ممارسة بعض العادات السيّئة المحرّمة كلّ يوم تقريباً ، فلّما جاءت العطلة الصيفيّة ، ازدادت حالتي سوءاً بعد سوء ، فكنت شديد النرفزة والعدوانيّة تجاه أهلي وأصحابي ، ثمّ وقع في يدي كتاب بعنوان : ( ففرّوا إلى الله )) لأبي ذرّ القلموني ، وكان قد تحدّث فيه عن العشق ودوائه ، وبعد مطالعتي له دعوت الله أن يرينيها في المنام ، غير أنّي لم أر شيئاً في تلك الليلة ، ومرّت الأيام ، ونسيت أمر ذلك الدعاء المزعوم ، حتى جاءت ليلة من الليالي ، فرأيت فيما يرى النائم أنني في يوم حارّ جدّاً ، وقد توسّطت الشمس كبد السماء ، وهذا الفتاة قد وقفت وحيدة أمام باب المدرسة ، وأنا واقف أمامها من مسافة بعيدة ، فأشارت إلى بيدها أن تعال ! وكانت تخفي خلف ظهرها شيئاً ، فاشتعلت في نفسي شرارة شيطانية ، وانطلقت إليها كالكلب المسعور ، وحين وقفت أمامها أخرجت يدها من وراء ظهرها وهي تحمل رسالة وقلماً جميلاً ، فقالت : (( خذهما وانصرف )) .. فحوّلت وجهي عنها إلى ناحية أخرى ، فإذا بشجرة خضراء باسقة الأغصان ، فهرولت إليها وأنا في غاية السرور والفرح بما تحمله يدي ، فجلست في ظلّ الشجرة أتصفّح الرسالة ، فإذا مكتوب فيها : (( اتق الله يا عبد الله ، واتركني في حالي ، إنّي أتعذّب ، اتّق الله .. )) ففهمت مضمون الرسالة ، فهو لا يحتاج إلى تأويل ، فكان ذلك سبباً – ولله الحمد – في توبتي وتجديد إيماني ، وتثبيتي على الحق ، والله على ما أقول شهيد . .
وأما حال تلك الفتاة المؤمنة ، فالله أعلم به ..
***
توبة فتاة صوفية (1) .
__________
(1) - كتبها لي بنفسها من إحدى الدول العربية .(6/64)
الصوفية المعاصرة ليست هي الصوفية القديمة الأولى التي هي بمعنى الزهد في الدنيا والإعراض عنها وعن ملذّاتها ، فالتصوف في هذا العصر أصبح قريناً للشرك بالله عز وجل ، والتعلق بالقبور والأموات ، وتقديس الأشخاص ، على حساب حرية العقل والفكر ، ومخالفة الكتاب والسنة ، وفي هذه القصة أنموذج لجيل الآباء وما يحمله من موروثات خاطئة ، وجيل الأبناء وما يحمله من وعي كبير ، وفكر مستنير ، وإن كان العكس أحياناً قد يحصل ، لكن هذا هو الغالب في زمن التخلف .. تقول هذه الفتاة . .
هذه فرصة أنتهزها للكتابة إليك .. نعم ، هي فرصة عجلى ، والقلب ممتلئ بالآهات .. وألفاظ اللسان قصيرة الباع ، فما على المريض من حرج .
لكنّي - والحق لا يعرف المداراة – صابرة على بلائي ، على الرغم من طول علّتي ، وقد دفعني شغفي إلى الإطلاع ، وحبّي لمتابعة ما يجوب الأسواق من المؤلفات السلفيّة القيّمة ، التي تذبّ عن مذهب أهل الحديث ، مع ضعف الحالة الماديّة – كل ذلك دفعني إلى مراسلتكم لاقتناء مجموعة من الكتب العلميّة التراثية التي أنا في أمسّ الحاجة إليها ، لا سيّما وأنّ أبى – هداه الله – مرجع من مراجع الصوفية ، وله في ميدان التصوّف صولات وجولات ، ولديه مكتبة بها كتب كثيرة للشعراني وابن الفارض ، وابن عربّي ، فضلاً عن كتب أبي حامد الغزالي والقشيريّ والمحاسبيّ وغيرهم من أئمة الصوفية ، وكتب أخرى تُرسل إليه بصفة مستمر من بعض المؤسسات الصوفيّة في العالم الإسلامي ، منها على سبيل المثال كتاب (( تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد )) للمطيعيّ ، و ( التوسل بالنبيّ وجهلة الوهابيين ) لأبي حامد مرزوق ، وغيرها ، وكلها كتب ، تنضح بالشرك والضلال ، ومحاربة العقيدة السلفية النقيّة ، والتلبيس على الناس ..(6/65)
وكان أبي يحرص على تعليمنا – أنا وإخوتي وأمي – مبادئ التصوّف ، وكنت إلى زمن قريب ممن يحافظون على أوراد الطريقة وأذكارها ، وقراءة تلك الكتب الصوفية ، وبخاصّة في الإجازة الصيفية ، حتى إني كنت مولعة بقراءة كتب الطبقات والمقامات الخاصة بمن يسمونهم الأولياء ، وخاصّة الشعراني : الطبقات الكبرى والصغرى ! ..
وبينما أنا ذات يوم أصلّي بمسجد الكليّة الظهر إذ رأيت مع إحدى زميلاتي كتاباً بعنوان : ( هذه الصوفيّة ) لفضيلة الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله ، فاستعرت منها الكتاب وقرأته وأنا متخفيّة مخافة أن يراني أبي ، ثم عرفت من هذه الزميلة أن الدكتور الفلاني هو صاحب هذه النسخة ، فذهبت إليه وناقشته بخصوص موضوع التصوّف والكرامات والكشف والإلهام .. وعن الخضر عليه السلام ومواقفه التي كان يحدثنا عنها أبي .. فحرص الدكتور على إعطائي نسخة من كتاب للدكتور جميل غازي رحمه الله ، بعنوان : ( الصوفيّة ، الوجه الآخر )، ثم أعطاني كتاباً آخر للداعية السلفي كما حدثني عنه الدكتور : الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله ، فعلمت بعدها بأن الطريق الذي عليه أبي ليس هو طريق أهل السنّة والجماعة ، وعزمت على التزوّد بسلاح العلم والمعرفة ، والاطلاع حول هذه القضية المهمّة ، المتعلّقة بالاعتقاد حتى هداني الله عز وجل إلى الاعتقاد الصحيح ، اعتقاد أهل السنة والجماعة وسلف الأمة ، وإني أنصح شباب الأمة بأن يعيدوا النظر فيما ورثوه عن الآباء والأجداد من اعتقادات وتصوّرات ، فإن كان موافقاً للكتاب والسنة فالحمد لله ، وإلا فليضربوا به عرض الحائط ، وليستعينوا في ذلك بالعلماء الربّانيين الصادقين ، الذين تحرّروا من ربقة التقليد والتعصب الأعمى ، سواء كانوا من الأحياء أو الأموات ، والحمد لله أولاً وآخراً ..
***
توبة فتاة من شرك المعاكسات (1)
تقول هذه الفتاة :
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها .(6/66)
أنا فتاة في الخامسة عشرة من عمري : كنت أعيش حياتي بشكل طبيعي ، سواء الأسرية أو الاجتماعية أو المدرسيّة ، وقد تجاوزت المرحلة الابتدائية – ولله الحمد – بخير وسلام ، ولم أتأثّر بشيء كان يحصل آنذاك ، وأظنّ أن السبب في ذلك هو صغر سنّي ، وعدم فهمي للحياة على حقيقتها ، فما بدأت حياة الضلال والتخبط والجهل إلا في المرحلة المتوسطة ، كنت أضل يوماً بعد يوم بشكل غير واضح ، ودون أن أشعر بذلك ، كانت البداية بعض المعاصي الصغيرة التي لا يعاقب عليها الشرع بشدة ، إلى أن وقعت في ذنب كبير أحسست بأن نفسي قد احترقت بسببه ، وكانت الخطوة الأولى مكالمة هاتفية من مجهول ، كنت في تلك الليلة وحدي في غرفتي أذاكر دروسي ، أختي كانت نائمة ، وأخي كان في مدينة أخرى ، ووالدي غير موجود ، أما والدتي فلم يكن همّها إلا حضور المناسبات والحفلات والتجمّعات النسائية ، مما شغلها عن أمور بيتها ، المهم أنني كنت وحدي أذاكر دروسي في جو من الهدوء والسكينة والطمأنينة ، وكنت حقاً أذاكر رغبة في طلب العلم ، والله يعلم ما في نفسي ..
وفجأة ... رنّ جرس الهاتف .. ولم يكن أمامي إلا أن أردّ عليه ، فليس في البيت غيري وأختي النائمة ، فإذا بصوت ذئب من ذئاب البشر ينبعث من سماعة الهاتف ، يخاطبني بأرق عبارة ، لم أعتد ذلك قط ، لذا شعرت بشيء من الخوف والرهبة تسري في أوصالي ، حتى لو كان غرض ذلك المتكلم شريفاً .
قال لي : أهذا بيت فلان ؟ قلت : لا .. النمرة خطأ .. وهو يعلم أن النمرة خطأ ، حتى صارحني بذلك ، ثم طلب مني أن أكلمه .. فقلت له : وماذا تريد ؟ قال أريد التعرف عليك ! .
في البداية رفضت هذا الأمر بشده ، فأنا لم أعتد هذا النوع من المكالمات ، ولم أجرّبها من قبل ، مع أن بعض زميلاتي في المدرسة كن قد جرّبنها كثيراً ! حتى إنّي كنت أتحاشى الجلوس معهن ، وما كنت أظن أنني في يوم من الأيام سأصبح واحدة منهن ..(6/67)
إحداهن كانت تدرس معي في نفس الفصل .. أخبرتها بالأمر طالبة المشورة – و بئس المستشار – فلم تتردد في تشجيعي في السير في ذلك الطريق بكل عزم وإصرار ، لا سيّما وأن هذا الأمر بالنسبة لها شيء هيّن ، أما أنا فهو عندي شيء غريب لا أعرفه ، ولم أجرّبه قط في حياتي .. الشيء الغريب الذي أستغربه من نفسي هو : كيف أنّني استمعت إلى نصائحها الشيطانية ، مع أني أخاف هذا النوع من المكالمات الهاتفية خوفاً شديداً .. حقاً إنه شيء غريب .. لا أدري أين ذهب عقلي آنذاك .. لقد نسيت مراقبة الله لي ، بل لقد نسيت نفسي ، حتى غاب عني الشعور بالخوف من الله ، وزالت عني الرهبة من تلك المكالمات فأصبحت وكأنها شيء لا حرج فيه ، أو كما صورته لي صديقتي أنه مجرد لهو ، وتسلية ، وتنفيس عن النفس !! ، ونسيت المصادر الأساسية الواجب تحكيمها ، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك غاب عني في تلك اللحظات ، وبما أنني قد عرفت أن هذا الشيء منتشر بين الشباب والفتيات ، قلت في نفسي : ولِمَ لا أجرّب ذلك ، فربما أجد فيه السعادة التي أبحث عنها .. .
وبالفعل .. بدأت علاقتي الهاتفية مع ذلك الشابّ ( الذئب ) ، فكنت في كل صباح أنقل لزميلتي في المدرسة كل ما يجري بيني وبينه من أحاديث وأحداث ، فكانت تشجعني ، وترشدني إلى بعض الأقوال والتصرفات ، وأنا أنقل له على لساني ما كانت تقول لي ، حتى إني بعد توبتي وتذكري لتلك الأيام شعرت وكأني كالبلهاء أسمع كلامها ، أو كالخاتم في يدها تديره كيف شاءت ..(6/68)
وفي يوم من الأيام ، وأثناء ما كنت أحكي لصديقتي ما دار بيني وبين ذلك الشاب من حوار ليلة أمس ، سمعتني إحدى صديقاتي الصالحات ، فامتعض وجهها ، وحاولت نصحي ، وإبعادي عن تلك الصديقة ، كنت في بعض الأحيان أشعر بشيء يشدني ويدفعني إلى سماع نصائحها وتصديقها ، لكن تأثير صديقة السوء كان أقوى ، فما كان من تلك الأخت الفاضلة – بعد أن عجزت عن تقويمي – إلا أن أخبرت أختي التي تكبرني في السن ، وتفوقني خبرة في الحياة ، ومن رحمة الله بي أن أختي هذه كانت من النوع الذي يحافظ على الأسرار ويكتمها ، فرأت أن تنصحني قبل أن تخبر أبي وأمي ، فكانت تقص عليّ بعض القصص التي تبين أضرار هذه المكالمات ومخاطرها ، إلا أن لم أكن أصدق ذلك ، فقد كانت تلك الصديقة ( صديقة السوء )) تقف هي والشيطان حاجزاً منيعاً يحول دون وصول صوت أختي إلى أذني أو بالأصح إلى قلبي ، إلا أن أختي لم تيأس من صلاحي ، فكانت تبذل قصارى جهدها لإنقاذي من الحفرة التي وقعت فيها ، والتي حفرها لي شياطين الإنس ، والعناد إلى أن جاءت لحظة الهداية ، كانت قاسية جداً ، بل كانت فاضحة .. ففي يوم من الأيام .. وبينما كنت مشغولة بمكالمة ذلك الشيطان الإنسي إذ بأخي الأكبر الذي عاد من سفره يستمع إلى المكالمة بكل إنصات .. يا للفضيحة .. في تلك اللحظة شعرت بأنني قد انتهيت فعلاً .. ذبت خوفاً وخجلاً .. لا أكون كاذبة إذا قلت إن ذلك الشعور ليس خوفاً من أخي وردة فعله ،أو إخباره لأهلي ، إنما كان ذلك خوفاً من الله عز وجل وحياء منه ، وندماً على تلك الأيام التي ضيّعتها في غير طاعة الله عز وجل ، وشغلتها بالمعاصي والذنوب ..
المهمّ أنّني بعد تلك الحادثة عزمت على التوبة النصوح ، وترك كل ما يخدش ويجرح إسلامي ، وإيماني ، والعمل على ما يرضى الله دائماً ، والشعور بمراقبته في كل أمر وحين .
وإنّي أعتقد أن من أسباب ضلالي وانحرافي ما يلي :(6/69)
أولاً : سنّ المراهقة ، فلا شك أن هذا السن يساعد على الانحراف ، لا سيما في غياب التوجيه السليم ، والقدوة الحسنة ..
ثانياً : رفقاء السوء، وكما في المثل ( الصاحب ساحب ) ، يسحبك إلى ما هو عليه من خير أو شر ، ويجعلك مثله .
ثالثاً : انشغال الأهل عن أولادهم ، وإهمال مراقبتهم ومصاحبتهم ، وهذا ما حدث لي تماماً ، لولا ما حصل من أخي وأختي جزاهما الله خيراً ..
وأخيراً فإني أحمد الله عز وجل على هدايته لي بعد الضلال الكبير الذي عشته ، وانحرافي عن الصراط المستقيم ، ولو أن النهاية كانت قاسية ومؤلمة كما يظهر لبعض الناس ، لكنها أفضل من قسوة وعقوبة الآخرة ..
***
توبة فتاة إماراتية (1) .
منذ صغري تربيت على مائدة القرآن الكريم في أحد المراكز الخيريّة لتحفيظ القرآن في مدينتي ، وكان من توفيق الله لي أن تعلّمت تلاوة القرآن وترتيله وتجويده على يد معلم متفهم لأحكام القرآن (2) . ، فكان يحدثنا كثيراً عن الدين وعن القضايا المتعلقة بالمرأة إلى أن تحصّلت على شهادة تفوق في تعلم القرآن .
ولكني – عياذاً بالله – كنت بئس حاملٍ للقرآن ، فقد كنت – مع إجادتي للقرآن – مغرمة بسماع صوت الشيطان : الغناء ، فقد كنت أحببّه حبّاً جمّاً ، ولا أطيق الصبر عنه .
وفي المرحلة الثانوية وقعت في بليّة أخرى ، فقد أحببت إحدى المعلّمات – وكانت متدينة – لكني عند ما أتذكر طريقة حبّي لها أقول : لقد كان حباً شيطانياً ، وإن ما كان يحدث لي عند مرآها مما لا أستطيع وصفه ، لأكبر دليل على ذلك .. كانت تدعوني وبعض أخواتي في الله إلى حضور المحاضرات النافعة ، وكنت أذهب إليها ليس رغبة في سماع جميل الكلام ومفيده ، ولكن لرؤية تلك المعلّمة ، فكنت أفعل المستحيل من أجل الذهاب ..
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها .
(2) - لا يجوز للمرأة أن تتعلّم على يد رجل أجنبيّ عنها لا قرآن ولا غيره ، فإنّ ذلك من أعظم أسباب الفتنة .(6/70)
وفي مرة من مرات ذهابي إلى إحدى المحاضرات ، وكانت في شهر رمضان المبارك ، تكلّمت المحاضرة عن الحياة البرزخيّة وما بعدها ، فجالت خواطر كثيرة في مخيّلتي .. تذكّرت القبر وما فيه من الأحوال والأهوال ، وتذكرت البعث والنشور والنفخ في الصور ، وما يتبع ذلك من الحساب والعذاب ، ومن ذلك اليوم بدأ عقلي يفكر في سلوك طريق الخير والهدى والرشاد ، وقد واكب بداية اختبارات نهاية العام ، فكنت أبكي لعدم تمكني من الجلوس مع نفسي – ولو قليلاً – لمحاسبتها ، وابتداء السير في الطريق ، وكنت أدعو الله عز وجل أن يبقيني على قيد الحياة حتى انتهاء الامتحانات لأتفرّغ لنفسي !! وانتهت الامتحانات ، فوجدت في نفسي شغفاً لقراءة الكتب الدينية ، وخصوصاً ما يتعلق بالقبر واليوم الآخر ، وقلت : عليّ أن أعمل حتى يقيني الله عذابه ..
ووقع في يدي كتاب ، ولكنه كان أكبر من سني ، ولا يلائم من بدأ لتوّه مثلي في اختيار طريق الصلاح ! إلا أني وجدت لذة في قراءته ، فترك انطباعاً عكسياً في نفسي ، حيث كرهت الجهل الذي أعيش فيه ، واعتزلت أهلي ومن حولي ، وانطويت على قراءة الكتب ، ومحاسبة النفس بشدة ، وأكثرت من العبادات والتسبيح ، فلا أخرج من غرفتي إلا لطعام أو حاجة ملحة ، كنت حتى في صلاتي أحاسب نفسي على عطسة أو تثاؤب صدر مني فيها ، وأذمّها ، وأؤنّبها قائلة : ألا تخجلين أن تفعلي هذا وأنت بين يدي الله .(6/71)
واستمرّ التشدد .. لا خروج ، ولا حتى طعام يسند الجسد ، بل طعام قليل جداً اعتقاداً مني أن ذلك تطبيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذ أكلنا لا نشبع )) (1) . حتى أصابني الهزال ، واصفر لوني ، ثم جاءت السنة الدراسية الجديدة ، فإزدادت متاعبي وآلامي ، إذ كيف لي أن أوفّق بين العبادات – التي كنت أظنّها الصلاة والتسبيح ونحو ذلك فقط - وبين المذاكرة والدراسة !! . وكان من نتيجة ذلك أن ازدادت ساعات نومي ، وفقدت الثقة في نفسي ، حتى أثر ذلك في مستواي الدراسي ، فقد كنت دائمة التأنيب لنفسي ، واتّهامها بالتقصير وعدم الإخلاص .. ، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال : (( .. ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه .. )) (2) . فأنا ممن فعل ذلك حتى سئمت معيشتي الروحانية ، وعلمت بأنني على خطأ ، وكنت أتساءل : إذاً كيف تطهر النفس ؟ .. أريد نفساً زكيّة لا تخشى إلا الله ، فقد كنت أقول أفظع الكلام عن نفسي أمام رفيقة عمري ، فكانت تؤنبني ، وتقول لي : لو كنت لا أعرفِك لصدّقت كلامك ..
وبتوفيق الله عز وجل ، ثم بدعوات والدي العزيزين لي بالهداية وأن يبعد عني الشيطان ووساوسه ، وبدعوات أخواتي لي ، ودعواتي لنفسي أن يفرج كربي ، ويهديني إلى الطريق القويم ، أعادني الرحمن إلى رشدي ، وعرفت طريق العبادة الحقّة ، وأنّ كل ما يفعله المؤمن مما يرضى الله عز وجل هو عبادة ، كما قال سبحانه : ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ) ( الذاريات : 56) /.
وها أنذا أجد الرحمن في كل يوم يزيدني من جوده الفيّاض ، فالحمد له على نعمائه وجوده .. فقد اخترت طريق الحق والصلاح فأعانني وهداني إليه .. والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ..
أم الفضل
***
__________
(1) - هذا ليس بحديث ، وإنّما هو أثر مرويّ عن بعض الصحابة .
(2) - جزء من حديث أخرجه البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة .(6/72)
توبة فتاة من ضحايا التغريب (1)
عجيب أمر هذا الإنسان ، فحين يكون صحيحاً معافى يتعالى على الله عز وجل ، وينسى حقيقة نفسه ، حتى إذا ما مسه الضر لجأ إلى الله تعالى ، وأخلص له الدعاء ، ثم الناس بعد ذلك فريقان ، إما شاكراً وإما كفوراً .
تقول هذه التائبة :
أنا فتاة قبائلية ، أعيش أنا وأسرتي في العاصمة .. لم نكن نعرف من الإسلام شيئاً ، لا صلاة ، ولا غيرها من العبادات .. كل أفراد أسرتي في ضلال وانحراف وضياع .. كنا نعيش حياة على النمط الغربي ، لا نعرف عن الأعراف والتقاليد والمبادئ العربية ، حتى إن لغة الحديث والتخاطب فيما بيننا يتم باللغة الفرنسية ، في جو يخلو من أي علاقة بالله ..
وفي يوم من الأيام ذهبت إلى المستشفى لتحليل الدم ، فلما عدت في المساء لأخذ النتيجة نودي على اسمي ، فإذا برئيس المصلحة المخبرية يهمس في أذني قائلاً ، يؤسفني أن أقول لكِ أنك مصابة بداء ( السيدا )) (2) .
نزل علي هذا الخبر كالصاعقة ، وكدت أن أصاب بالإغماء ، وطلبت من رئيس المصلحة أن يبقي هذا الأمر سراً بيننا ، ثم طلب مني رقم الهاتف لاستدعائي عند الحاجة ، وإجراء الفحوصات اللازمة ..
وعدت إلى المنزل وأنا لا أتمالك نفسي من البكاء ، ولم أنم تلك الليلة من شدة الخوف ، فقد استلقيت على فراشي وأنا لا أدري ماذا أصنع .. كنت في حالة من الهلع والفزع وأنا أتخيل ملك الموت وهو يحث خطاه إلي ، إنه أمر لم أحسب له حساباً من قبل .. تذكّرت حياتي وأيّاماً بارزت الله فيها بالعصيان ، غافلة عن حقيقة كبرى اسمها الموت .. وفي تلك اللحظة تبت إلى الله عز وجل ، وعاهدته على الاستقامة ، وبكيت كثيراً ، فها هو ملَك الموت يقترب منّي ، فماذا أنتظر ؟
__________
(1) - كتبتها لي إحدى الأخوات رواية عن صاحبه القصّة نفسها .
(2) - (( السيدا )) مرض خبيث شبيه بالأيدز .(6/73)
ومن الغد بدأت أصلي ، واشتريت مصحفاً ، فكنت أقرأ فيه ليل نهار ، فتعجب أهلي من هذا التحول المفاجئ ! ، ثم ارتديت الحجاب فزاد تعجبهم ، وصاروا يستهزؤون بي ، ويقذفونني بالكلمات الجارحة ، لكنني لم أبال بهم ، بل لم يزدني ذلك إلا إصراراً واستمراراً في السير في هذا الطريق ، وكنت أدعو الله في كل يوم أن يغفر لي ذنوبي ، وأن يرحمني ..
وبعد شهر تقريباً تلقيت مكالمة هاتفية من طرف رئيس مصلحة المختبر بالمستشفى ، رفعت سماعة الهاتف وقلبي يخفق ، وأعضائي ترتجف ، وكانت المفاجأة .. قال لي : إنني أعتذر عن الخطأ الذي حصل ، إن نتيجة تحليل دمك سليمة ، أما النتيجة الأولى فهي لشخص آخر غيرك ..
كدت أطير من الفرح ، وحمدت الله عز وجل الذي كتب لي حياة جديدة ، لأعمرها بطاعته – سبحانه – واتباع مرضاته ، لا باللهو اللعب والغفلة والضياع ..
****
توبة امرأة من إتيان العرافين والكهنة (1) .
ورد في الحديث الشريف : (( من أتى عرّافاً فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )) (2) ، وفي حديث آخر : (( من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول : فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )) (3) .
قال العلماء في الجمع بين هذين الحدثين : من أتى كاهناً أو عرّافاً ولم يصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ، فإن صدقه ، كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن تاب ، تاب الله عليه .
تقول هذه التائبة :
__________
(1) - كتبتها لي إحدى الأخوات رواية عن التائبة نفسها .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه .
(3) - أخرجه أهل السنن .(6/74)
تزوجت في السابعة عشرة من عمري ، وأنجبت بنتاً واحدة .. عشت حياة ترف مع زوجي : حفلات .. سهرات .. تبرج .. نسينا الله والدار الآخرة ، وجعلنا الدنيا وملذّاتها صوب أعيننا ، وزينها لنا الشيطان فكانت في أبهى زينتها .. ومضت الأيام ، والأعوام ، ولما بلغت ابنتي اثني عشر عاماً ، تاقت نفسي للإنجاب مرة ثانية ، واتفقت أنا وزوجي على ذلك ، فكان الحمل ، لكنّ حملي هذه المرة لم يكن طبيعياً ، ففي كل زيارة للطبيب يقول لي : إن حملك هذا غير سليم ، ولمن يمر هذا الشهر إلا وسيحدث لك إجهاض !! .
صُرفت لي أدوية كثيرة ، وحقن ، و .. و... لكن زوجي لم يكن مطمئناً .. فأخذ يتلفت يميناً وشمالاً ، وفوجئت به مرة يقول لي : لقد وجدته ، إن يده مباركة ! ، وما إن يعمل لك عملاً حتى ينجح فيه ، تعالى نزوره .
وذهبت معه إلى ذلك الرجل ، كان عرافاً ، وما إن مثلت بين يديه حتى بدأ العمل : بخور ، وكلمات ، وهمهمات ..لم أفهم منها شيئاً .. المهم أن كل ما طلبه مني قمت بعمله ، لكن الآلام لم تبرح تعاودني بشكل مستمر ، ولما زرت الطبيب لأسأله مرة ثانية ن قال لي مثل ما قال لي في المرة الأولى : انتظري إجهاضاً .. ثم عرض علي حقناً تساعد على تخفيف الألم .. فكنت أرفض بشدة ، وأعيد زياراتي للعراف الفلاني ، والكاهنة الفلانية ، هذا بالبخور ، وذلك بالتمائم ، وتلك بأعمال مختلفة من ضروب الشعوذة ، حتى ضاق صدري واختنقت ، ولم أعد أطيق الصبر ، وبدأت تترآى لي في المنام أحلام مزعجة لا أفهمها ، ولا أحرص على تفسيرها .. باختصار ، عشت حياة يائسة كادت أن تقودني إلى الجنون ..
وفي لحظة شعرت وكأن الزمن قد توقف .. أخذت بكل تلك التمائم وألقيتها أرضاً ، ورفعت يدي إلى السماء .. وقلت بصوت مسموع والدموع تملأ عيني : (( سلمت أمري لك يا رب ، فأعني )) . .(6/75)
وما هي إلا أيام حتى هدأت العاصفة .. لا ألم ، ولا نزيف ، ولا وساوس .. أحسست باطمئنان غريب في نفسي .. قمت فاغتسلت وتطهّرت ثم صليت ، فكانت أول صلاة لي منذ زمن طويل .. وأحسست براحة عجيبة ، وارتاح من حولي ، وزرت الطبيب ، فاندهش لحالي ، وقال لي : ماذا فعلت ؟ قلت : لا شيء سوى أني توكلت على الله ، ومن توكل على كفاه .
انتهت مدة الحمل ، وأنجبت بنتاً مكتملة الخلق ولله الحمد ، وداومت على صلاتي من غير أن أطبق شيئاً آخر من تعاليم الإسلام من حجاب أو غيره ...
ولما بلغت بنتي العامين ونصف العام بدأت تتحدث بطريقة عجيبة ، كانت تقول ماما ماما ، أتحبين الله ؟ فأجيب : نعم ، بالطبع ، فتقول : ماما ، إن الله يحبّنا إذا أعطانا الخبز والبيض والماء .. !
ومرة قالت : ماما ، صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : إنه جميل جميل جميل .. أعدتها عدة مرات ، فقاطعتني قائلة : إيه جميل !! ماما ، لا تقولي جميل ، قولي : ( منَوَر ) . وهي كلمة عاميّة في الجزائر ، مشتقة من النور ومعاني أخرى عدة ..
كلمات كثيرة كانت تقولها ، أظل أياماً أفكر فيها ، وبعد أن رويت لإحدى أخواتي عن طريقة حملي ، وعن كلام ابنتي ، أهدتني كتاباً عن الدعاء في السنّة ، تعلّمت منه الكثير ، ونصحتني بالحجاب ، فارتديته . ودخلت المسجد لأول مرة ، وتعرفت على الصحبة الصالحة ، التقية النقية ، التي تخاف الله ، فكان ذلك عوناً لي على معرفة ديني بطريقة لو عرضت على الكفار لدخلوا في دين الله أفواجاً .. ويكفيني منهم الكلمة الطيبة ، والابتسامة الصادقة التي يلقونني بها، وحقاً إن تبسمك في وجه أخيك صدقة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .(6/76)
ثم بدأت الجهاد في بيتي مع زوجي وبناتي ، والحمد لله ، فمنذ شهور قليلة فقط بدأ زوجي يعرف الطريق إلى المسجد ، أما ابنتي الكبرى فقد ارتدت الحجاب ، وهي من المستمعات المطيعات ، فهي تقرأ معي الكتب التي أستعيرها من المسجد أو من بعض الأخوات الصالحات ، وقد اقتنعت أخيراً بحرمة الغناء ، واجتنبته بلا جدال ، وكذا أشياء أخرى لا تعد ، فلله الحمد والمنة ، أولاً وآخراً .
***
توبة شاب تيجاني (1) .
يقول هذا الشاب :
لقد ابتلاني الله عز وجل بالدخول في زمرة المتصوفة ، وفي أكبر الطرق الصوفية ، وأصعبها : ( الطريقة التيجانية ) ، وقد مكثت فيها مدة طويلة ، وكنت من المحبوبين والمقربين لدى شيخ الطريقة ( المقدم ) – أي خليفته – لأن كل ولاية لا بد فيها من مقدم يلقن الأوراد ، ويفتتح الجلسة .
__________
(1) - كتبها لي بنفسه .(6/77)
وعقيدة هذه الطريقة ، وما تحمله في ثناياها من الشرك والبدع لا تخفى على ذي بصيرة ، ومع ذلك فهي تعد من أكثر الطرق أتباعاً ، والكثرة ليست دليلاً على الحق ، بل هي في الغالب دليل على الضد من ذلك ، كما قال الحق تبارك وتعالى : ((وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ )) ( الأنعام : 116) . كما أن من أسباب كثرة أتباعها ، قلّة الخارجين منها ، وذلك أن كل مقدم يمنع مريده من مخالطة الناس ، ويقول لهم بخبث : إن فيهم سماً ، فلا تتكلموا معهم ، ولا تخبروهم بما تعملون ، فيؤدي ذلك إلى عدم معرفتهم للحق وتبصرهم فيه ، وإصلاح عقائدهم المنحرفة ، كما أن من يدخلها لأول مرة ، يجد في قلبه انشراحاً موهوماً ، لأنه – حسب تفكيره – لا يرى شيئاً يخالف الشرع المطهّر ، فهم يذكرون الله صباح مساء ، ويشربون الشاي ، ويمازح بعضهم بعضاً ، ويحب بعضهم بعضاً !! فيتعلق بهذا الأمر لجهله ، ويظنه حسناً ، ويظن أنه قد وجد الطريق إلى الجنة ، نسأل الله العافية .
أما سبب خروجي من هذه الطريقة – ولله الحمد والمنّة – فقد كنت دائماً أدعو في سجودي : (( اللهم أرني الحق حقاً ، وارزقني اتباعه )) ، لأنني – في بعض الأحيان – كان ينتابني الشك في صحة منهج هذه الجماعة لما يسبغونه على أنفسهم من الفضل دون غيرهم ، وكأن الجنّة لم تخلق إلا للتيجانيين فقط .(6/78)
وذات يوم كنت جالساً في البيت وحدي أراجع نفسي ، وأتأمل حالي مع هذه الجماعة ، فإذا بي أجد نفسي تراوح في مكانها صباح مساء .. ذكر ، ومزاح ، والوقت يمضي ويضيع ، وأنا في غفلة عن مستقبلي ، وكنت أحب القرآن الكريم ، فعزمت على السفر لحفظ القرآن ، ومن توفيق الله عز وجل أني سافرت مع أخ كريم ، سلفي العقيدة ، تقي نقي – ولا أزكي على الله أحداً – فاستقر بنا المقام في إحدى زوايا مدينة تلمسان لتحفيظ القرآن .. وظهرت علائم الفرج تلوح في الأفق ، فهذا الأخ الكريم لم يكن من المنفّرين بل كان رفيقاً رقيقاً ، لم يهجرني مع علمه بأني من أتباع الطريقة التيجانية الضالة ، ولم يبدأ بالإنكار علي من أول وهلة ، بل عاملني بأحسن الأخلاق ، وكان المرة تلو المرة يذكرني بحديث ، دون أن يبين لي أنه يقصد الطريقة ، وفي بعض الأحيان كان يذكر لي بعض محاسنها ، لأنه ليس من السهل أن يتراجع طرقي أو قبوري عن طريقته ، ولو أردت نصحه لم يزدد إلا تمسكاً بعقيدته ، فلا بد من لزوم الحكمة واللين .. فكنت مرة بعد مرة أقف على بعض الآيات المخالفة لما كنت أعتقده ، فمثلاً قوله تعالى في آية الأعراف : (( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ )) ( الأعراف : 188)) .
ونحن في الطريقة نعتقد أن المريد يدخل الجنة هو وأولاده ، وأولاد أولاده ، وزوجته إلا الحفدة ، ونعتقد بأنه من لم يطع الشيخ فإنه يضره ويهلكه ، والعكس فيمن أطاعه .. ! فبدأت الحيرة والتفكير والحسرة تنتابني ، وهنا تدخل ذلك الرفيق السلفي الصالح فبدأ ينير لي الطريق ، ويقدم لي الرسائل والنصائح ، ولم يأل في ذلك جهداً ، كما كان يدعو لي في سجوده جزاه الله خيراً ، فكان الفضل لله سبحانه وتعالى ، ثم له ، ومما ساعدني على ذلك أيضاً بعدي عن شيخ الطريقة ومريده .(6/79)
وبعد خروجي من هذه الطريقة ، كنت أقلق عند ما أرجع إلى المنزل ، لأن الشيخ كان يطلبني باستمرار ، وكان يعرف أبي ، فكنت أتحرج من مواجهته ، لأنه شيخ كبير . أما بعض المريدين فقد علموا بأني قد خرجت من زمرتهم ، فبدؤوا يظهرون لي العداوة والبغضاء كما هي سنة الله عز وجل في كل من سلك طريق التوحيد ، ونبذ الشكر وأهله ، والآن قد أكملت حفظ كتاب الله عز وجل ، وعزمت التفرغ لطلب العلم الشرعي الصحيح أنا وأخي ذلك الرفيق الطيّب ، وإني أنصح كل شاب مسلم بالحذر من هذه الطرق الصوفية المبتدعة فما ثمة إلا طريق واحد فقط طريق محمد صلى الله عليه وسلم .
***
توبة مدرس على يد طالب صغير (1)
في يوم من الأيام عاد الطفل الصغير الذي لم يتجاوز السابعة من عمره من المدرسة وهي يبكي ، فلما سألته أمه عن السبب أخبرها بأن المدرس الفلاني قد ضربه وشتمه ..
لم يحتمل قلب الأم ما حصل لابنها ، فاتصلت من الغد بالمدرسة ، وسألت المدرس عن سبب ضربه ابنها الصغير وما الجرم الذي أحدثه .. فقال : إنه كثير اللعب في الفصل ، كثير الكلام والحركة ، وقد رفض الانصياع للأوامر وأعلن التمرد ..
سكتت الأم ولم تحر جواباً .. فلما عاد ابنها من المدرسة ، أخبرته بما قال المدرس .. فقال : نعم .. لقد فعلت ذلك ..
فبدت علامات الدهشة على وجه الأم ، وقالت بصوت غاضب : ولم فعلته ..
فجاء الجواب مدهشاً ، قال : لأن هذا المدرس غير ملتزم ، وهو يدخن ، وقد نصحته عدة مرات فلم يطعني !! فلم أجد ما أعبّر به عن سخطي وكراهيتي لعمله سوى أن أسئ الأدب في حصته ..
__________
(1) - أرسلها إليّ أحد الإخوة ، وقد سمعها من أحد الدعاة الفضلاء .(6/80)
فلما سمعت الأم هذه الكلمات زالت من وجهها علامات الدهشة والغضب .. لا سيما وأنه طفل صغير يحمل في قلبه كل معاني البراءة .. لكنها مع ذلك أرادت أن تتثبت ، فاتصلت بالمدرس ، وأخبرته بقول ابنها ، فقال لها وقد أصيب بما يشبه الصدمة : والله إن ما ذكره لصحيح ، وإني من هذه اللحظة أعلن توبتي من كل ما يغضب الله عز وجل ، والفضل لله أولاً ثم لك ولابنك الصغير ..
***
توبة طالبة جامعية من الحب المحرم (1)
تقول هذه الفتاة : عشت في أسرة طيبة .. مسلمة بالوراثة ، وكنت دائماً أظن أن الإسلام مجرد صلاة وصوم وارتداء للحجاب وكف الأذى عن الناس فقط لا غير .. فارتديت الحجاب في المرحلة المتوسطة ، وكان هدفي أن أعيش حياتي القادمة في التزام حقيقي بالدين .
ولكن .. لم أجد من يعرفني بديني .. لم أجد من يُهدي إلى كتاباً أو نصيحة .. كنت أحب الله بطريقة خاطئة ، فلم أسلك الطريق الصحيح لأعرفه – جل وعلا – حق المعرفة .
وانتقلت إلى المرحلة الثانوية بنفس الرغبة في بلوغ أقصى درجات التدين ، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان .. رفيقات السوء للاتي كن أعز الصديقات رسمن لي طريقاً معوجاً ، فتغير هدفي ، وتبدلت غايتي ، وزين لي أولئك الرفيقات ما كنت أستقبحه ، وأذكر أنه كانت لي رفيقة في الصف ، متدينة ومتخلّقة ، وكانت دائماً تقول لي : (( أنت أخجل صديقة عرفتها في حياتي )) .. صحيح أني كنت كذلك ، لكنها لم تقدم لي النصيحة وأنا أنجرف في تيار الأخريات . لم تمد يدها لتنقذني ، بل تركتني على شفا حفرة مظلمة ، ولو لا رحمة ربي الواحد الأحد لكنت الآن في هاوية الضلال ..
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها من الجزائر .(6/81)
لقد أصبح حجابي زينة في نفسه ، وارتكبت برفقة قرينات السوء الكثير من المنكرات .. ثم انتقلت إلى المرحلة الجامعية ، وهناك كانت لدي الحرية المطلقة ، حيث كنت أسكن بسكن الطالبات .. رفيقاتي كن يفقنني جمالاً ، وكان الطلاب في المعهد وخارجه يسألون دائماً صداقتهن ، فكن أغار منهن لأنني – ولحسن الحظ – لم أجلب انتباه أحد ، لأن لباسي لم يكن طراز الموضة ، وكنت أحسب أن لا جمال لدى على الإطلاق ، وصار هذا هو همي : أن أبرهن لصديقاتي المغرورات بجمالهن أن هناك في الجو شاباً أنيقاً يريدني صديقة !! أو حبيبة ! بل زوجة في المستقبل .. ولم لا ؟ . ولأبرهن لنفسي الأمارة بالسوء أني جميلة ومطلوبة ، وكان هذا هو حال معظم الطالبات إن لم أقل كلهن !! فيا أيها الآباء الغيورون على بناتكم ، لا تتركوهن في الأحياء الجامعية ، وامتثلوا أمر الله فيهن : (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )) ( ا لأحزاب : 33)) .
ومع هذه الرغبة الملحة في اقتناء صديق ، منعني حيائي – أو ما تبقى منه – أن أقع في مثل هذا المنكر العظيم ، والله يعلم أني ما كنت أبغي الزنى ، ولكن العين تزني ،(6/82)
لم أكن أغض بصري ، وكأن نظراتي الطليقة تسأل الناس : هل من شاب يناسبني وأناسبه ؟ وكان الشيطان حاضراً ومعيناً ، فسرعان ما وجدت الشاب المناسب !! كان يكبرني بسنة تقريباً ، الكثير من الطالبات فتن به ، كان قرينات السوء يشجعنني على الاستمرار ، ويقلن لي : (( يا لحظك العظيم !! شاب بهذه المواصفات لك أنت ! جميع الطالبات سيغرن منك إذا رأينك تقفين معه )) وكلام من هذا القبيل ، حتى امتد حبه في قلبي جذوراً عميقة ، فمن ذا الذي يستطيع اقتلاع تلك الجذور ، ولكن الله الفعال لما يريد أراد ألا أضيع ، فقد كان ذلك الشاب أفضل مني بكثير .. كان خجولاً جداً ، يكره مصاحبة الفتيات ، وما كادت السنة الجامعية تؤذن بالانتهاء حتى ترك المعهد ورحل دون أن يكترث بما كنت أقدمه له من نظرات !!
زادني رحيله ألماً وحسرة وعذاباً ، حتى إني لم أعد أطيق المذاكرة ، وانتهت السنة ، ثم السنة الموالية ، وما زلت أعيش بنفس الأحزان على فراق الحبيب الموهوم .. حتى جاءت السنة التي تليها .. وجدت أن حياتي لم يعد لها معنى أو هدف .. سنوات مضت وضاعت ، فهل سأعيش هكذا بلا هدف ؟! فكرت ، ثم فكرت ، فلم أجد حلاً أفضل من النسيان .. حدّثت نفسي أنني لو أنصت إلى شريط في وصف الجنة والنار أهداه إلي أحد الأقارب، لربما أتعظ وأنسى .. وبالفعل ، كان لي بالمرصاد ، واقتلع من صدري جذور الوهم .. لقد مزق قلبي ، وأفرغه من القيح والصديد ، وكل ما علق به من آثار المعاصي .. واستمعت إلى أشرطة أخرى كثيرة ، كانت بفضل الله سبباً لتوبتي وأوبتي إلى خالقي جل وعلا ، وأقلعت عن سماع الغناء ، والنظر إلى ما حرم الله في التلفاز وغيره ..(6/83)
وبدلت حجابي المزيف بآخر حقيقي .. لكن بقي شيء واحد لم أغيره .. وجودي المستمر في الجامعة الشيطانية بين قرينات السوء ، والاختلاط ، والمنكرات المتفشية ، وبعون الله تعالى تخلّصت من أمور كثيرة ، وابتعدت عن قرينات السوء ، فاستعدت حيائي الذي ضيّعته سنوات عدة .
وفي هذه الأثناء تقدّم لخطبتي شاب متدين .. لا تتصوّر كم كنت سعيدة .. هل فعلاً سأتزوّج ، وأعيش حياة طاهرة كما كنت أحلم وأنا في المرحلة المتوسّطة .. دين وخلق ..
لكن .. ما زلت بالجامعة .. بقي عام على التخرّج ، فكنت أخادع نفسي بحبّ الدنيا والدين في آن واحد ، وكان ذلك الطالب يطاردني حتّى في الحلم ..
وجاءت الضربة الصاعقة لتوقظني من سبات دام سنوات ... انسحب الخطيب وأهله ، فلقد أخطؤوا المنزل والعنوان .. كانوا يقصدون الشارع الموالي ، ويريدون تلك التي تلبس الجلباب والحجاب ، ولم تدرس بالجامعة قط .. تذكّرت عند ما قالت والدته : (( كان ولدي يصلّي آناء الليل ، ويدعو الله دائماً أن يرزقه الزوجة الصالحة .. ))
إذن لم أكن صالحة على حدّ قولها ، وهذه هي الحقيقة ، لأنّي لم أكن مخلصة ، كنت مخادعة ..
مرّ أسبوع أو أكثر وأنا أذرف الدموع حزناً على نفسي لعدم صفائها وصلاحها ، فجدّدت توبتي لعلّ الله أن يهديني هذه المرّة .
وعدت إلى الجامعة من جديد ، فكنت أجتهد في المذاكرة ، وأجتهد في قراءة القرآن والكتب الفقهية النافعة ، لكنّ الشيطان زيّن لي طريقاً إلى ذلك الوهم فتعلقت بطالب أخر ، كنت كلّما دخلت من باب الجامعة أشعر وكأنّ الشياطين تستقبلني وتحملني على أيديها الخبيثة لتوصلني هدية إلى ذلك الطالب الذي لا يفارق وجوده مكاني ..
أدركت حقيقة نفسي وما الذي تبغيه . احترق قلبي بالدموع المُرّة .. لماذا لم تتغيّر هذه النفس على الرغم من الجهود التي أبذلها في سبيل ذلك ؟
فجأة .. اتّخذت قراراً حاسماً .. تركت الجامعة ..(6/84)
تركها كان هو الحلّ الوحيد لمشكلتي .. رميت بشهادة التخرّج التي كنت أحلم بها عرض الحائط فارّة بنفسي إلى البيت ..
ياه .. كم هي الحياة في البيت سعيدة وهادئة .. خالية من الذنوب والمعاصي ..
أصبحت أجد لذّة عظمية وأنا أقوم بالعبادات والطاعات ، ومعظم وقتي أقضيه في دراسة كتب العقيدة والفقه والسيرة ، وبعون الله تغلّبت على النفس والهوى ..
نصيحتي الوحيدة التي أقدّمها لأخواتي : إيّاكنّ والاختلاط .. إيّاكنّ والاختلاط ..إيّاكنّ ورفيقات السوء ...
وإلى الآباء : لا تتركوا بناتكم في الأحياء الجامعية المختلطة ..
وإلى الأمّهات : رغّبن بناتكنّ المكوث في البيت والبقاء فيه ..
وإلى الشباب عامّة : والطلّاب في الجامعات بخاصّة : اتّقوا الله في أنفسكم ، وفي بنات المسلمين . .عودوا إلى الله ، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا ..
وبعد؛ أسأل الله عزّ وجلّ أن ينفع بقصّتي كل عاشقة للدنيا ، زاهدة في الآخرة ..
وأقول : والله لن تنالي شيئاً ببعدك عن الله .. والسعادة كلّ السعادة تكمن في القرب من الواحد الديّان ..
اللهمّ اجعلني أمّاً صالحة .. واجعلني قدوة لبناتي ، واهد قلوب المسلمين .. آمين ..
أختكم التائبة / أمّ إبراهيم .
****
من رسائل العائدين إلى الله
رسائل العائدين إلى الله كثيرة جداً ، وقد اخترت منها ما يلي :
من سوريا : كتبت إليّ إحدى الأخوات تقول : (( في البدء أشكر لك تفضلّك بتأليف كتاب ( العائدون إلى الله )) ، وجزاك الله كلّ خير فقد كان هذا الكتاب سبباً في هداية الكثيرات من صديقاتي ، وهدايتي أنا الفقيرة إلى الله ، المذنبة ، المقرّة بتقصيري في الكثير من أمور ديني ، ولكن الحمد لله الذي أوقع في يدي الجزء الرابع من كتابك ، فبعد قراءته تحوّلت إلى إنسانة أخرى ، وكأنّي لم أكن أعلم من حقيقة الإيمان شيئاً .. أكرّر شكري الجزيل لك ... )) .(6/85)
ومن مصر : كتب الأخ / ع . ع يقول : ( أكتب إليك هذه الرسالة بعد أن منّ الله عليّ بالتوبة وذلك بعد قراءتي للجزء الثاني من كتاب ( العائدون إلى الله ) ، وقد أهداه إليّ أحد الصالحين ، وكنت من قبل أستهزئ به لالتزامه بالإسلام ، فلمّا قرأت الكتاب وجدت نفسي أبكي بكاء مرّاً ، ثم ذهبت إلى المسجد فوجدت ذاك الأخ جالساً فيه ، فلمّا رآني ، ورأى في وجهي علامات التوبة ، فرح فرحاً شديداً ، ثمّ قام وأعطاني بعض الأشرطة الإسلامية النافعة منها شريطاً عن حكم تارك الصلاة ، فلمّا سمعته ، أخذت ألوم نفسي وأؤنّبها .. فالحمد لله الذي هداني إلى التوبة ، فقد كنت مسرفاً على نفسي بالذنوب ، لم أدع معصية إلا ارتكبتها ، ابتداء من سبّ الدين عياذاً بالله من الكفر والردة ثم شرب الخمر والزنى .. وكان الناس ينظرون إلىّ نظرة احتقار وخوف .. )) إلى آخر ما ذكر ..
ومن الجزائر : كتبت إليّ الأخت / نصيرة . س : تقول : (( بعد إطّلاعي على كتابك ( العائدون إلى الله ) أُعجبت به كثيراً ، وأثّر في نفسي إلى مدى بعيد ، وغيّرني من الأسوأ إلى الأحسن ، وهو الآن يُتداول بين الأخوات المسلمات ، وأثار ضجّة كبيرة ، وكان موضوع درس الجمعة في الأسبوع الفارط .. حقّاً إنّه كتاب رائع ، فبارك الله فيك ، ولك الأجر إن شاء الله .. )) .(6/86)
ومن الجزائر أيضاً كتبت إليّ الأخت / ص . ق تقول : ( أنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري ، ولدت في قرية محافظة ، ولمّا بلغت سن المراهقة دخلت في عالم التشرّد والضلالة ، وتعرّفت على رفيقات السوء فكنت أسير خلفهن وأنا مغمضة العينين ، وتركت الصلاة ،وسائر واجباتي الدينية ، وكثرة القيل والقال حتّى ضيّعت مستقبلي الدراسي ، فقد تركت الدراسة وأنا الفتاة الذكيّة المتفوّقة رغم أنّه لم يبق إلا عام واحد على الحصول على شهادة الثانوية ( الباكالوريا ) .. وتمرّ الأيام وزميلاتي يصعدن إلى الجامعة وأنا قابعة في المنزل حتى ملّني أهلي ، وبدأت أحمل الحقد في قلبي لهم ، وكثرت آلامي ، وأصبت بأزمة نفسية فلم أتّجه إلى الله عز وجل بل كنت أشتم الله .. وأمي . وكلّ من يتكلّم معي ، حتى جاء اليوم الموعود يوم أن التقيت بأخت زوجة أخي – وكانت فتاة ملتزمة جدّاً – وأعطتني كتابكم ( العائدون إلى الله ) .. وعند ما قرأته أحسست بعظم ذنبي ، وكِبَر خطيئتي .. لقد ارتجف جسدي كلّه ، وأحسست بأنني كنت في ضلال ، وفهّمتني هذه الأخت أنّ الشهادة الدراسية ليست كلّ شيء ، فهي حلم إن تحقّق فالحمد لله ، وإن لم يتحقّق فالأمر كلّه لله ..
أخي العزيز : إن كتابك هذا أحسن كتاب قرأته في حياتي ، وهو رائع .. )) .
ومن السودان كتب إليّ الأخ / ع . ش يقول : (( لا أملك شيئاً أقدّمه لك بعد قراءتي لرسالة (( العائدون إلى الله )) الجزء الثالث إلا هذه الأسطر القلائل التي تعبّر عن مشاعري .. لست أدري ماذا أكتب ، وماذا أقول .. فلحديثي شجون أيّما شجون ..(6/87)
كنت في صراع مرير من الباطل ، تائهاً بين الهدى والضلال من جرّاء الفتن التي ابتليت بها ، ولا سيّما جلساء السوء لا كثّرهم الله .. وأنت تعلم حال الكثيرين من أولئك الشباب الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، والآن عندما قرأت هذه الرسالة وكأنّها تحدّثني من القلب إلى القلب حتّى أحرَقتْ فؤادي ، وأقضّتْ مضجعي ، أحسست بل أيقنت أنّني على شفا جرف هار بسبب هؤلاء الشباب اللاهين ، والآن أحمد الله عزّ وجلّ فبدلاً من أن أجلس مع جلساء السوء ، أصبحت أجلس مع الرفقة الصالحة في المسجد ، حتّى أصبحت من عمّار المسجد ... )) .
ومن السودان أيضاً : كتبت إليّ إحدى الأخوات تقول : (( كنت غارقة في المعاصي ، مسرفة على نفسي في الشهوات ، رغم صلاتي وصيامي ، بعيدة عن خطّ الالتزام .. قبل أربع سنوات عند ما كنت في المرحلة الثانويّة ، أهدتني إحدى صديقاتي كتاب (( العائدون إلى الله )) .. أخذت الهدية وألقيتها في المنزل ، ولم أعرها اهتماماً ، وفي الإجازة أخذت في قراءة الكتاب .. ولكم ندمت أني لم أقرأه من قبل .. قرأته مرّة ومرّتين ، ودموعي تنساب على صفحات الكتاب ، كم كنت بعيدة عن طريق الهداية ، لم أكن أعرف غير الأغاني والمسلسلات والحفلات ، أمّا الآن وبعد قراءتي لهذا الكتاب ، تبدّل الحال ولله الحمد والمنّة ، حيث التفتّ إلى العلم الشرعي ، وانتهجت المنهج السلفي ، واستبدلت بالغناء .. القرآن ، وبالحفلات : الخطب والمحاضرات .. )) .(6/88)
ومن قطر كتب إليّ الأخ وليد . ط : يقول : ( أكتب لك خطابي هذا وأنا أعتبرك صاحب فضل كبير عليّ ، فقد منّ الله عليّ بهدايته واتباع صراطه المستقيم ، وكنت أنت السبب في ذلك ، فكتابك ( العائدون إلى الله ) كان له أثر كبير في نفسي ، فقد كنت كسائر الأمة ، يعرفون الله ، ولا يطبّقون شرائعه ، ولكن صدق الله حين قال : (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ )) ، فقد تأثرت بالقصص كثيراً حتّى إنّ النوم فارق لعدّة أيّام ، وقرّرت أن أهب نفسي لله .. )) .
ومن الأردن كتبت إليّ الأخت ن . ك تقول : (( لقد عانيت في حياتي مشكلات كثيرة ، ومن أهمّها عدم الخشوع في الصلاة ، وكلما شكوت ذلك إلى زميلاتي قلن لي : إنّ هذا أمر طبيعيّ ، وفي يوم من الأيّام كنت في زيارة لإحدى صديقاتي ، فوجدت عندها كتاب ( العائدون إلى الله ) فتصفحته ، فأعجبت به كثيراً ، وفور خروجي من بيت زميلتي نزلت إلى السوق ، واشتريت جميع الأجزاء من هذا الكتاب ، والتي كانت فيما بعد شفاء لما في داخلي .. لقد أحسست بجميع أوصالي ترتجف وأنا أقرأ الكتاب في الحافلة ، لا أدري ما السبب ، وفي اليوم التالي كان عندي امتحان لكني لم أتمكن من المذاكرة حتّى أنهيت جميع أجزاء الكتاب ، قمت بعدها وصلّيت صلاة أشهد أنّي لم أتذوق مثل حلاوتها طيلة حياتي ... )) .
هذه بعض رسائل العائدين ، أسأل الله عز وجل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه ، وألا يحرمني الأجر والثواب وصلى الله علي نبينا محمد .
خاتمة المطاف
أخي المسلم :(6/89)
اعلم – وفقني الله وإياك ما يحب ويرضى – بأن باب التوبة مفتوح لجميع العاصين مهما بلغت ذنوبهم ، فرحمة الله عزّ وجلّ قد وسعت كلّ شيء ، وهي أقرب ما تكون إلى التائبين النادمين المنكسرين ، فلا يمنعك من التوبة كثرة ذنوبك وعظم خطاياك ، قال تعالى : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) ( الزمر : 53) .
أخي التائب :
اعلم بأنّ طريق التوبة محفوف ببعض العقبات والمخاطر ، وذلك ليتبيّن الصادق من الكاذب ، كما قال تعالى : (( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ{2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) ( العنكبوت : 2-3 ) .
فلا بدّ من الاختبار والامتحان ، ولا بدّ من توطين النفس على الصبر وتحمّل المكاره في كلّ زمان ومكان ، وإلا فما أكثر التائبين ، وأقلّ الثابتين الصادقين، وإنّما الأعمال بالخواتيم ، ثبتنا الله وإيّاك على الحقّ المبين .
أخي القارئ الكريم : كم يسعدني أن تحمل قلمك بعد قراءة هذا الكتاب ، وتجرّده من غمده ، ثمّ تسطّر به رسالة من قلبك إليّ ، تضمنّها نقداً هادفاً ، أو إحساساً مرهفاً ، أو مشكلة نتعاون معاً على حلّها ، وستجدني إن شاء الله أخاً مخلصاً ، وناصحاً أميناً ..(6/90)