الطلاق الانفرادي
&
تدابير الحد منه
دراسة مقارنة
بحث
د. أحمد بخيت الغزالي
طبعة أولي
توزيع
دار النهضة العربية
1420 /2000
تمهيد وتقسيم
نحمد الله تعالى القائل " وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " (1) والقائل " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " (2) والقائل " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " (3)
ونصلى ونسلم على نبيه الرؤوف الرحيم ، الذى رغب فى المودة والوئام ودعى إلى أسبابهما فأمر العائدين من غزو بقوله " أمهلوا حتى تدخلوا – أى بيوتكم – ليلا لكى تمتشط الشعثة ، وتستحد المغيبة " (4) وأمر المؤمنين أن يصبروا على زوجاتهم فقال " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا ، رضى منها خلقا آخر"(5) وينهى النساء أن يسألن أزواجهن الطلاق فقال " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة " (6) .
__________
(1) النساء آية (19) .
(2) النساء آية (35) .
(3) النساء آية ( 34) .
(4) رواه البخارى فى كتاب النكاح باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال فى الغيبة ، ومسلم فى كتاب الإمارة . باب كراهة الطروق ، وأبو داود فى كتاب الجهاد ، باب فى الطروق ، والترمذى فى كتاب الاستئذان – باب ما جاء فى كراهية طروق الرجل أهله ليلا ، كما رواه أحمد والدارمى وغيرهم وانظر . الشوكانى " محمد بن على " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار نشر دار التراث 6/214 ، الصنعانى " محمد بن إسماعيل الأمير" سبل السلام شرح بلوغ المرام ط دار الحديث الأولى ، 3/205 ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم أى حتى تتطيب وتتزين المرأة لزوجها فيلقاها وهى فى خير حال .
(5) رواه المنذرى فى الترغيب والترهيب 4/119 وقال رواه مسلم .
(6) أخرجه الحاكم فى مستدركه 2/200 وصححه ، والدارمى فى سننه 2/216 ، وقال الألبانى فى صحيح الجامع 2/392 " صحيح " .(1/1)
ولكن قد يعترض النكاح القائم بالفعل ما يحول دون تحقيق أهدافه ، أو يطرأ عليه ما يمنع استمراره شرعا ، أو يطرأ على العقد ما يستوجب نقضه من أصله ، وإبطاله من مبتدئه ، فعندئذ إن أبقينا على العلاقة بين الرجل والمرأة فقد تتبدل المودة بغضا ، والرحمة سخطا ، أو نبقى على علاقة أمر الشرع أن تقطع ، أو نهى فى الأصل أن توجد، ومن هنا شرع الله سبحانه وتعالى الفرقة دفعا للأضرار ، أو منعا لبقاء ما أمر الله أن يقطع ، أو رفعا لما ليس من حقه اللزوم .
فرق النكاح : والفرق جمع فرقة ، والفرقة فى اللغة : الفصل والمباعدة مأخوذة من الافتراق الذى هو ضد الاجتماع .
وفرق – بفتح الفاء وسكون الراء – النكاح : انحلال عقده وانقطاع العلاقة الناشئة عنه بين الزوجين ، بسبب يقتضى ذلك .
والفرقة جنس يضم أنواعا ، فإن كانت بإرادة الزوج ولو بنائبه أو بإرادة الزوجة ، أو بقضاء القاضى ووردت على نكاح صحيح سميت طلاقا أو تطليقا ، وإن كانت الفرقة لعارض يمنع بقاء النكاح ، أو تداركا لأمر اقترن بالإنشاء جعل العقد غير لازم سميت فسخا . وهذا القدر متفق عليه فى الجملة بين جمهور الفقهاء .
ولم يتفق فقهاء المذاهب على ما ينتظمه كل نوع من نوعى الفرقة من أفراد ، فبعض ما اعتبره بعضهم طلاقا ، اعتبره الآخر ، أو الآخرون فسخا ، من ذلك مثلا : الفرقة بسبب ردة الزوج اعتبرها الجمهور فسخا ، وقال محمد بن الحسن : هى طلاق ، والفرقة بسبب امتناع الزوج عن الإسلام اعتبرها الجمهور فسخا ، وقال أبو حنيفة ومحمد : طلاق .
وقد أغنانا المقنن المصرى عن تقصى اتجاهات المذاهب فى هذا الشأن ، حيث عول على رأى الحنفية فى تصنيف الفرق كما يظهر من عبارة المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 25 لسنة 1929 حيث تقول " ومما تحسن الإشارة إليه هنا أن التفريق بالطلاق بسبب اللعان والعنة ، أو إباء الزوج الإسلام عند إسلام زوجته يبقى الحكم فيه على مذهب الإمام أبى حنيفة" .
مورد البحث(1/2)
الفرقة التى نعنى بمعالجتها هنا نوع من فرقة الطلاق عند جمهور الفقهاء الذين يجيزون النيابة فى الطلاق ، بينما هى صورة الفرقة الوحيدة بالطلاق فى قول الإمام ابن حزم الظاهرى لأن " كل مكان ذكر الله تعالى فيه " الطلاق " فإنه خاطب به الأزواج لا غيرهم ، فلا يجوز أن ينوب غيرهم عنهم – لا بوكالة ولا بغيرها – وإلا كان تعديا لحدود الله عز وجل، وقد قال الله تعالى " ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون "(1) وقد وافق ابن حزم على ذلك بعض العلماء .
ومع اختيارى لمذهب الجمهور على أساس أن يد النائب مستفادة من يد الزوج فى التوكيل والتفويض ، أو من الشارع فى الولاية ضربا على يد المضار وحسما لمادة النزاع ورفعا للخلاف ، مع هذا فإن بحثى ينصب على الطلاق الذى يوقعه الزوج بعيدا عن مجلس القضاء ، ودون توقف على رضا المطلقة وذلك لأسباب عدة منها :-
1- أن هذه الصورة من صور الفرقة هى محلل اللجج اليوم لأنها – كما يزعم البعض– تتنافى وحكم لزوم العقد ، وتخل بالمساواة بين الزوجين فى الحقوق والواجبات .
2- أنها تعرض رابطة الزوجية لخطر الانفراط ، والأسرة لمضار التشتت والضياع .
3- أنها لا تتناسب ومقتضى الحال من ضعف الوازع الدينى وتعقد الظروف الحياتية وتحدياتها .
ومع إيماننا بأن السكن المنشود شرعا وغرضا لا يتحقق إلا إذا روعيت آداب الشرع فى الزواج ابتداء وبقاء ، وبصرف النظر عن جدية الأسباب المحفزة على بحث " الطلاق الانفرادى " أو توهمها فإن الذى لا شك فيه أن هذه القضية تثير كثيرا من اللجج ، ولم يزل الطرف الرافض للحل الإسلامى يتربص بالعامة عساه أن يدخل عليهم فيجتذبهم إلى حظيرته ليعلو بهم صوته ، وتقوى بهم شوكته .
__________
(1) انظر:الإمام ابن حزم " على بن أحمد بن سعيد " المحلى بتحقيق حسن زيدان طلبة ، نشر مكتبة الجمهورية العربية 1970 – 11/513 ، والنص من الآية 229 من سورة البقرة .(1/3)
ودحضا لشبه الذين فى قلوبهم زيغ ، ومؤازرة للمدافعين عن الحق ، وتبصرة للعوام الذين هاجت عواطفهم بالإسلام ، ولم تع قلوبهم دقائق شرعته وأسرارها ، وبيانا للراجح فى الفقه الإسلامى ، وللمعمول به فى التقنينات العربية المعاصرة أعددت هذا البحث عساه أن يحقق شيئا مما أردت .
وقد رأيت أن أقسم بحثى هذا إلى أربعة فصول وخاتمة تمضى على النحو الآتى :
الفصل الأول : الطلاق عند غير المسلمين .
الفصل الثانى : نظرات فى تشريع الطلاق فى الإسلام .
الفصل الثالث : التدابير المقترحة للحد من الطلاق .
الفصل الرابع : التدابير الشرعية للحد من الطلاق
خاتمة : تتضمن نتائج البحث .
الفصل الأول
الفصل الأول
الطلاق عند غير المسلمين
نقل الأستاذ قاسم أمين فى كتابه تحرير المرأة عن الأديب الفرنسى فولتير قوله " إن الطلاق قد وجد فى العالم مع الزواج فى زمن واحد تقريبا ، غير أنى أظن أن الزواج أقدم ببضعة أسابيع ، بمعنى أن الرجل ناقش زوجته بعد أسبوعين من زواجه ، ثم ضربها بعد ثلاثة، ثم فارقها بعد ستة أسابيع " ثم يقول – الأستاذ قاسم – الطلاق قديم فى العالم ، وأنه يكاد أن يكون من الأعراض الملازمة للزواج ، وهذا حق لا يرتاب فيه ، فقد دل تاريخ الأمم على أن الطلاق كان مشروعا عند اليهود والفرس واليونان والرومان ، وأنه لم يمنع إلا فى الديانة المسيحية بعد مضى زمن من نشأتها (1) .
وفى هذا الفصل نقص بإيجاز موقف الشرائع غير الإسلامية من نظام الطلاق ، وسلطة الرجل فيه بوجه خاص ، وذلك فى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الطلاق فى الشرائع الوضعية القديمة .
المبحث الثانى : الطلاق فى الشرائع اليهودية والمسيحية .
المبحث الثالث : الطلاق فى التقنينات الغربية الحديثة .
المبحث الأول
الطلاق فى الشرائع الوضعية القديمة
المطلب الأول
__________
(1) الأستاذ قاسم أمين . تحرير المرأة . ضمن سلسلة المواجهة . نشر الهيئة المصرية للكتاب . ص 123 .(1/4)
الطلاق فى مصر الفرعونية (1)
" لقد هجرتك ولم تعد لى حقوق عليك كزوج ، ابحثى عن زوج غيرى ، لأننى لا أستطيع الوقوف إلى جانبك فى أى منزل تذهبين إليه ، ولا حق لى عليك من اليوم فصاعدا باعتبارك زوجة لى ، تنسب إلى وشريكة لحياتى ، اذهبى فى الحال بلا إبطاء أو تأخير " . (2)
__________
(1) كثيرا ما ينبه المختصون فى دراسة النظم القانونية وتاريخها إلى أن معلوماتنا عن النظم القديمة ظنية ، بل قد يكون أساس معرفتنا ببعض الموضوعات نوعا من الحدس والتخمين الذى قد يرقى إلى درجة الاستنباط من نظم مشابهة ، أو القياس على صور مماثلة سائدة عند بعض الجماعات الوحشية المعاصرة . وعلة ذلك كما يذكر الأستاذ الدكتور صوفى أبو طالب أن الأثريين لم يعثروا إلا على عدد قليل من الوثائق عن عصور مصر الفرعونية ، لا يخص القانون منها إلا النذر اليسير وأكثر ما وصلنا من معلومات يرجع إلى كتابات المؤرخين الذين لم يعاصروا الأحداث التى كتبوا عنها ، وإنما كتبوا فى عهود لاحقة ، ومن أشهر ذوى الكتابات المتاحة المؤرخ الإغريقى هيرودوت " القرن الخامس قبل الميلاد " وديودور الصقلى " القرن الأول ق . م " وكلاهما لم يعاصرا العصر الفرعونى ، ولكنهما كتبا عن سماع أو مشاهدات أو اطلاع خاص، لذلك وجب – كما يقول الدكتور صوفى – " أخذ ما كتباه بمنتهى الحيطة والحذر ، ما لم يقم دليل يؤيد صحة روايتهما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة " . انظر لسيادته . تاريخ النظم القانونية والاجتماعية . الجزء الثانى. الشرائع السامية ط ثانية . نشر دار النهضة العربية ص 31- 33 ، 62- 64 .
(2) يراجع : الأستاذ أحمد الشنتناوى . عادات الزواج وشعائره . ضمن سلسلة اقرأ ع 169 ط دارالمعارف المصرية 1957 .(1/5)
هذا نص وثيقة طلاق اكتشفها البروفسيور " فيتشر " بين لفائف برديات حفريات طيبة ، ويرجع تاريخها إلى الأسرة الرابعة (1)، وهى كما يظهر منها تفيد أن الطلاق بيد الرجل ، وهو ما نصت عليه قوانين " أحمس " حيث جعلت للرجل أن يطلق زوجته الحالية ، ولا يعنى هذا أنهم كانوا يمنعون التعدد ، فقد عرف عنهم العكس من ذلك . (2)
__________
(1) طبقا لحسابات المؤرخ مانيتون فإن الأسرة الرابعة حكمت مصر الفترة ما بين 2476- 2192 قيل الميلاد أى مدة 284 سنة ، واشتهرت باسم بناة الأهرام ، ومن أشهر ملوكها الملك سنفرو وخليفته الملك خوفو ومنهم خفرع ومنكاورع وهو آخر الملوك العظام فى الأسرة . د. ناصر الأنصارى – المجمل فى تاريخ القانون المصرى ضمن سلسلة أعمال خاصة التى تصدر عن مكتبة الأسرة نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 42 وما بعدها.
(2) وإن كان المؤرخون مختلفين فى تقرير مسألة التعدد فالدكتور الأنصارى يقرر فى حسم أن المصرى فى عهد الدولة القديمة لا يتزوج إلا من امرأة واحدة فقط ، وأن التعدد لم يبح إلا فى نهاية عصر ا لدولة القديمة فى الأسرة السادسة . بينما يذكر الدكتور عادل بسيونى أن التعدد عرف طيلة العصر الفرعونى ، ونص عبارته التى استقاها من مصادر عدة " عرف المصريون الزواج الفردى كصورة شائعة لنظام الزواج حيث يكون للرجل زوجة واحدة ، والى جانب هذه الصورة الغالبة عرف المصريون ظاهرة تعدد الزوجات يستوى فى ذلك الملوك والحكام وأفراد الشعب طيلة العصر الفرعونى ، وخصوصا فى الفترات ا لتى ساد فيها النظام الإقطاعى ، فتصور النقوش أحد ملوك الأسرة الرابعة ومعه إحدى زوجتيه تضع يدها على كتفيه والأخرى تلمس ساقه .
وما ذهب إليه الدكتور عادل بسيونى هو الأرجح فى رأى الدكتور صوفى أبو طالب قال " ولا توجد وثائق عن هذه المرحلة – لا حظ أن الدكتور بسيونى أشار إلى نقش من نقوش الأسرة الرابعة – يمكن الاعتماد عليها لترجيح أحد الرأيين الذى أدى إلى انقسام الرأى بين العلماء ، غير أنه من الثابت أن مصر كانت تأخذ بنظام تعدد الزوجات فى عهد الدولتين الوسطى والحديثة ، ويرجح وجوده فى العهد الإقطاعى فى هذه الدورة . انظر . د. الأنصارى . المجمل ص 57 ، 64 وما بعدها ، د. عادل بسيونى . تاريخ القانون المصرى . نشر مكتبة النصر ص ( 75) ، د. صوفى أبو طالب . الشرائع السامية ص 63 .(1/6)
وحسبما يذكر المؤرخون فإن من الجماعات من كان يقرر حق الطلاق للرجل وحده، وبعضها الآخر من كان يقرره لكلا الزوجين (1) .
ويبدو أن ملكية المرأة للطلاق كان أساسه ما للمرأة من حق اشتراط أن تكون العصمة بيدها (2) ، فضلا عن أنهم عرفوا نظاما شبيها بنظام الخلع المعروف فى الإسلام (3).
وعلى الرجل إذا طلق زوجته دون مبرر أن يعوضها عن هذا وذلك بأن يعطيها " اثنين دبن من الفضة وثلاثين كرا من الحنطة ، هذا فضلا عن نصيبها فى كل مكسب قد حصل عليه معها " (4) .
ومن المبررات التى تجيز- في الفكر الفرعوني - التطليق دون تعويض زنا الزوجة وعقمها ، وجشعها (5) .
وإذا ما أرادت المرأةُ المخالعةَ – من الخلع - دون مبرر التزمت برد المهر مضافا إليه ضعفه أو أكثر مع فقدانها حقها فى الأموال المشتركة ،
وأخيرا فإن الطلاق كان يدون فى وثيقة تثبته ، ويشهد عليها عادة أربعة شهود .
ومن الالتزامات المالية ، والإجراءات الشكلية استقى الباحثون أن الفراعنة عمدوا إلى تقييد الطلاق ، ووضع التدابير الضرورية للحد منه وعدم العجلة فيه (6) .
المطلب الثانى
الطلاق فى بابل وآشور
أشهر ما وصلنا عن حضارة الرافدين ، قانون حامورابى والذى حكم هذه البلاد فى الفترة ما بين 1728 ، 1686 قبل الميلاد .
__________
(1) انظر : د. صوفى أبو طالب ، د. جمال عبد العزيز . تاريخ النظم القانونية والاجتماعية " التاريخ العام والشرائع السماوية ، ط خاصة لطلبة التعليم المفتوح شعبة الدراسات القانونية بجامعة القاهرة 1997 ص 51
(2) د. صوفى أبو طالب تاريخ القانون فى مصر " العصرين البطلمى والرومانى " ط ثانية نشر دار النهضة العربية ص 24 .
(3) السابق ص (25 ) والحاشية رقم ( 1 ) من الصحيفة المذكورة .
(4) جزء من وثيقة ترجع إلى عهد بسماتيك الثانى . د. بسيونى ص 97 .
(5) د. بسيونى ص 96 .
(6) السابق ص 98 .(1/7)
ومما تضمنه هذا القانون الشهير نظام الطلاق ، وقد نظمه على النحو التالى (1) .
1- الطلاق مسموح به للرجل والمرأة ، غير أن للرجل " الزوج " أن يطلق دون التقيد بأسباب الطلاق ، أما المرأة فعلى العكس من ذلك ، فلابد أن تبرر أسباب طلاقها للرجل(2) مع حق القضاء المحتم فى التدخل فى هذا الطلاق
2- يحرم الطلاق إذا كانت الزوجة مريضة ، بل يكلف الرجل برعايتها وهى عنده ، وله أن يتزوج عليها ، ولها أن تغادر بيته إذا لم ترض بزواجه عليها .
3- للطلاق تبعات ، فعلى المطلق أن يدفع للمطلقة مبلغا يتفاوت بمقدار ما لها من أبناء ، وإن لم يكن أبناء أعطاها مثل ما دفعه صداقا لها ، وإن لم يكن قد دفع صداقا فلها ما يناسب مكانته الاجتماعية .
4- على المطلق أن يرد للمطلقة بائنتها ، وهى المال والمتاع وكل ما يكون مع المرأة عند ذهابها إلى بيت زوجها ، فهو ملك لها .
__________
(1) يراجع عادات الزواج وشعائره. للشنتناوى ص ( 96 - 103 ) ، د. صوفى أبو طالب الشرائع السامية ص 106 وما بعدها ، د. عبد المنعم درويش مقدمة فى تاريخ النظم القانونية والاجتماعية ط أولى 1997 ص 155 وما بعدها .
(2) وقد حصرها قانون حمورابى فى ثلاثة أسباب هى " غيبة الزوج دون أن يترك فى بيته نفقة ، اتخاذ زوجة ثانية حال مرض الأولى مرضا مزمنا ، وأخيرا الخطأ الجسيم من جانب الزوج مثل دأبه على خيانتها وتحقيرها " د. صوفى أبو طالب . الشرائع السامية ص 106 .(1/8)
وفى قانون البابليين فى القرن الثالث قبل الميلاد ، يحكم على المرأة بالموت غرقا إذا هى قاومت الطلاق وثبت عليها أمام القضاء أنها مشاكسة مهملة. (1)
__________
(1) الأستاذ الشيخ عطية صقر . موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ، مشكلات الأشرة طـ 1990 ص 251 وما بعدها وانظر المادة ( 143) من قانون حمورابى د. عبد المنعم درويش ص 156 ، وإذا هجرت الزوجة زوجها فى غير الحالات الثلاث المجيزة لها طلاقها عوقبت بالإعدام شنقا أو يدق عنقها عن طريق قذفها من أعلى البرج ، د . صوفى أبو طالب ، الشرائع السامية ص 107.
ومن الجماعات السامية القريبة من ألأشوريين الأراميون الذين استقروا على شواطئ الفرات الوسطى وفى المناطق البور شرق نهر دجلة فى المنطقة الواقعة بين بابل وعيلام ، وفى شمال سوريا ووسطها ، وانتهى تاريخهم فى الشرق على يد الأشوريين فانتقلوا من بلادهم إلى مصر ، وحسبما تشير الوثائق فانهم دخلوا إليها فى وقت يسبق قليلا دخول اليهود إليها ، وذلك فى عصر الأسرات خاصة الأسر السابعة والعشرين والثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين .
وعلى ما استخلص الدكتور بولس عياد فى بحثه القيم الأراميون فى مصر منذ بداية ظهورهم فى القرن السابع ق.م . ط دار العالم العربى ، فإن من أسباب الطلاق عند الأراميين :
1- يحدث الطلاق إذا تزوج الرجل بامرأة أخرى بجانب زوجته الأولى .
2- إذا عاشرت الزوجة خلاف زوجها ، أو عاشر الرجل خلافها .
3- إذا امتنعت الزوجة عن معاشرة زوجها . ومتى وقع الطلاق من الزوج فقدت الزوجة المهر، وأخذت كل الذى أحضرته إلى منزل الزوجية ، ويتحمل الرجل نفقات الطلاق . وإذا وقع الطلاق من المرأة فعليها نفقات الطلاق ، وعليها أن تدفع لزوجها مبلغا معينا من المال ، ولا يؤثر ذلك فى حقها فى حاجياتها ، وذهابها إلى أين تشاء أو إلى منزل والدها .انظر د. بولس ص 155 وما بعدها . ويفهم من ذلك أن الطلاق حق لكلا الزوجين ، وأن جهة ما هى التى توقع الطلاق بمقابل مادى يغرمه المطلق ، وأن المهر يفقد بالطلاق سواء وقع من الرجل أو من المرأة ، أما حاجيات المرأة التى أحضرتها إلى منزل الزوجية فإنها لها فى كل حال .(1/9)
.
المطلب الثالث
الطلاق فى الهند وسيلان – سيريلانكا حديثا – وما حولهما (1)
سادت فى هذه البلاد الديانات البرهمية والبوذية ، وشريعة مانو ، وقد عرف براهمة الهند نظاما شبيها بنظام الانفصال الجسدى عند الكاثوليك ، غير أن للرجل أن يتزوج بأخرى ، ويترك مسكن الأولى .
وعند البوذيين الطلاق بيد الرجل ، أو باتفاق الطرفين ، ويكفى الرجل فى طلاق زوجته أن يقول لها :" إنها اتصفت بصفة سيئة يقدرها هو ، كأن تملأ البيت دخانا ، أو تكثر الكلام ، أو تزعج الكلاب بصوتها " .
وفى شريعة " مانو " لا تهجر المرأة زوجها حتى ولو أصيب بالجنون أو الشلل .
ونقل عن أهل سيلان عادات عدة فى شأن الفراق ، ففى قبيلة الفيدا ، المرآة هى التى تحل عقدة الزواج ، وتطرد زوجها من خيمتها .
وفى جزيرة سيلان كان الطلاق أمرا غير مرغوب فيه ، وإذا تم فبعيدا عن أعين السلطات ، إلا إذا زنت المرأة وشاع أمرها بين الناس ، فإن سلطات الجزيرة هى التى تفسخ الزواج .
وفى نيبال بالهند للمرأة أن تطلق زوجها ، وفى سيام لا يباح الطلاق إلا مرة واحدة ، فإذا أراد الرجل بعد ذلك أن يتخلص من امرأة أخرى تزوجها فعليه أن يبيعها إذا وجد من يشتريها .
وفى اليابان كان معدل الطلاق – قبل تحول المجتمع إلى التصنيع – أعلى من أى مجتمع آخر (2) .
المطلب الرابع
الطلاق فى بلاد الغرب القديمة
أولا : الطلاق عند اليونانيين (3) .
__________
(1) الشيخ عطية صقر ص 252 وما بعدها ، د. عبد المنعم درويش ص 169 وما بعدها .
(2) الكاتب الأمريكى بيتر فارب . بنو الإنسان بترجمة زهير الكرمى . ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 67 ص 396 .
(3) د. محمود سلام زناتى ، تاريخ النظم الاجتماعية والقانونية فى مصر ط 1995 ص 292 وما بعدها ، د. الأنصارى ص 135 . د. عادل بسيونى ص 162- 163 ، د. أحمد الغندور – الطلاق فى الشريعة الإسلامية والقانون – الطبعة الثالثة ص 21 ، الشيخ عطية صقر ص 253 .(1/10)
عرف اليونانيون القدماء الطلاق ، وكان عندهم بيد الزوج يوقعه لأى سبب ، دون إجراءات ، أما المرأة فلم يكن لها حق طلب الطلاق من القاضى إلا فى العصر الكلاسيكى .
ويؤكد حق الزوج فى طلاق زوجته عاملان :
أولهما : العقم لأن قصد الزواج هو النسل ، ويقول الأستاذ محمد فريد وجدى : إذا لم تلد المرأة بعد الزواج لمدة عشر سنين انفسخ العقد وحصل الطلاق من تلقاء نفسه . (1)
ثانيهما : الزنا ، بل إنه إذا شاع فسق الزوجات ، وتغاضى عنه الأزواج، فإن الزواج ينفسخ بقوة القانون .
وفى عصر أفلاطون : كان الطلاق معروفا غير أنه مكروه ، وقد اعتبره أفلاطون ظاهرة شاذة
ثانيا : الطلاق عند الرومان (2)
__________
(1) بحث لفضيلته بمجلة الأزهر المجلد الخامس ص 132 .
(2) انظر : عادات الزواج للشنتناوى ص 143-160 د. سلام زناتى ص 396 وما بعدها ، د. الأنصارى ص 157 وما بعدها 167-168 ، د. عادل بسيونى ص 261-265(1/11)
قبل صدور قانون الألواح الاثنى عشر سنة ( 451 ) قبل الميلاد (1) كان الطلاق مكروها عند الرومان ، فكانوا يحاربونه ، إن لم يدع إليه داع من زنا المرأة ، أو شروعها فى سم الرجل ، أو تزييفها مفاتيح داره ، أو إدعاءها الولاية كذبا .
__________
(1) الرواية التقليدية فى وضع هذا القانون تقرر أن لجنة من عشرة رجال تشكلت لتدوين القوانين ، وأعطيت هذه اللجنة سلطات مطلقة ، وانتهت فى خلال هذا العام إلى وضع قوانين نقشت على عشرة ألواح ولكن وجد أن عملها لم يتم فشكلت لجنة أخرى فى العام التالى لإتمام العمل ، ودخل فى عضويتها بعض أفراد العامة ، وقامت هذه اللجنة بوضع لوحين . ولكن نفرا من المؤرخين يقدحون فى هذه الرواية ، ووصل الأمر بالمؤرخ الفرنسى لامبير أن أنكر صفة الرسمية عن هذه المجموعة ، وانتهى إلى أنها مجموعة من القواعد القانونية القديمة وضعها الفقيه باتيوس الذى تولى منصب القنصل عام 198 ق. م . ومع هذا فإن جمهرة الشراح والمؤرخين يدافعون عن صحة الرواية التقليدية ، وإن كان دفاعهم المحموم هذا مما يمكن إلحاقه بالأساطير والتزييف – عن قصد أو بدون قصد – الذى يحفل به تاريخ روما القديمة بهدف تمجيد بعض الأسر الرومانية وإضفاء هالة من الجلال على روما العتيقة . وقد يؤيد ذلك أن تاريخ روما لم يكتب إلا بعد تأسيسها بعدة قرون ، فضلا عن أن معظم آثارها القديمة قد ضاعت حين دمرتها قبائل الغال . انظر د. عبد المنعم البدراوى . تاريخ القانون الرومانى 1949 ص 51- 54 ، د. صوفى أبو طالب تاريخ القانون فى مصر – العصرين البطلمى والرومانى ص 52 .(1/12)
وقد كان الطلاق بيد الرجل يوقعه بالطريقة التى تزوج بها المرأة ، فلما صدر قانون الألواح الاثنى عشر أباح حرية الطلاق بدون قيد أو شرط ، فكثر الطلاق كثرة هائلة ، حتى كان النساء يعددن أعمارهن بعدد مرات طلاقهن ، وقد بلغ من تساهلهم فى شأن الطلاق أن أجاب أحد النبلاء ويدعى " إميليوس " لما سئل عن طلاق زوجته مشيرا إلى حذائه قائلا "أليس هذا الحذاء جميلا ، أليس جديدا ؟ ولكن لا يعرف أحد منكم أين يؤلمنى " .
كما اشتهر من المطلاقين من القياصرة يوليوس قيصر ، وأنطونيوس وأوكتافيوس ، وغيرهم .
فلما كانت ولاية أغسطس أصدر " قانون جوليا " قبل ميلاد السيد المسيح بأربعة عشر أو سبعة عشر عاما للحد من الطلاق ، واشترط لإجازته إعطاء المرأة وثيقة به أمام سبعة من الشهود البالغين . (1)
ولكن أظهر القيود التى وضعت للحد من الطلاق كانت فى عهد قسطنطين عام 331م تحت تأثير العقيدة المسيحية ، وقد نص فى هذا المرسوم على عدة أسباب لإباحة الطلاق لكل من الزوجين ، وإن كان " الطلاق الذى يقع من أى من الزوجين فى غير الحالات المنصوص عليها صحيحا ، إلا أن المطلق يعاقب ببعض الجزاءات كالتزامه برد البائنة أو حرمانه من الزواج مرة أخرى ، أو نفيه إلى إحدى الجزر "
وفى عام 449 أصدر الإمبراطور تيودو زيوس مرسوما وسع فيه كثيرا من أسباب الطلاق ، ومن طريف ما ورد فيه أن المرأة إذا كانت متحررة أكثر من اللازم جاز للرجل أن يطلقها ، كما أن لها الحق فى الطلاق إذا أساء معاملتها، ومع هذا أبقى على الجزاءات المادية التى قررها قسطنطين .
وفى عام 542 م أصدر جستنيان مرسوما يحدد أسباب الطلاق المشروع وهى (2)
1- زنا الزوجة أو معاشرة الزوج لعشيقته فى منزل الزوجية .
2- محاولة أحد الزوجين الاعتداء على الآخر .
3- هجر منزل الزوجية .
4- الجنون والعجز .
__________
(1) انظر د. البدراوى ص 194، د. محمد عبد المنعم بدر . القانون الرومانى طـ 1937 ص75
(2) د. عبد المنعم بدر ص 76(1/13)
5 – ومن الأسباب المسوغة للطلاق أيضاً : ذهاب المرأة إلى الحمام العمومى بدون إذن زوجها ، أو إذا تناولت طعاما فى محل عمومى أو إذا ذهبت إلى الملعب برفقة أجنبى ، ولها تطليقه إذا اشترك فى مؤامرة ضد سلامة الدولة.
وفى غير هذه الحالات يعاقب المطلق ، فإن كان الرجل فقد ما يعادل ثلث ثروته فضلا عن البائنة والمهر وآل كل ذلك إلى المرأة ، وإن كانت المرأة فقدت بائنتها وكل أموالها على أن يؤول النصف إلى الدير الذى ستعيش فيه ، والباقى إلى أقاربها (1) .
كما عرف الطلاق عن الجرمان والتيتون وقبائل الألب والغال ، والكلت، والأنجلو ساكسون . (2)
المبحث الثانى
الطلاق عند اليهود والنصارى
المطلب الأول
الطلاق عند اليهود
جاء فى سفر التثنية إصحاح 24: 1، 2 أن موسى عليه السلام قال " إذا اتخذ رجل امرأة وصار لها بعلا ثم لم تحظ عنده لعيب أنكره عليها فليكتب لها كتاب طلاق ، ويدفعه إلى يدها ، ويصرفها من بيته "
وفى الإصحاح الثالث من كتاب أرميا " إذا طلق رجل امرأته فانطلقت من عنده ، وصارت لرجل آخر فهل يرجع لها بعد ؟ ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة !! وفى سفر التثنية 24: 4 " لأن ذلك رجس لدى الرب فلا تجلب خطية على الأرض " .
ومعنى ذلك أن الطلاق عند اليهود جائز ، ولكن لا يجوز للرجل أن يتزوج مرة أخرى بمن طلقها إذا تزوجت برجل آخر وطلقت منه.
وعند الربانيين تحرم المرأة على مطلقها أيضا إذا كان سبب الطلاق عقما مظنونا ، أو إشاعة كاذبة حول سلوك المرأة ، وعلة هذا التحريم حمل الرجل على التريث بتهديده بأن الطلاق إذا وقع يكون بائنا لا رجعة فيه (3)
__________
(1) انظر عادل بسيونى ص 262- 265 .
(2) انظر الشيخ عطية صقر ص 256 .
(3) انظر تلمود أورشليم باب جطين الفصل 4 فقرة 7، 8 نص المشنا وتعليق الجمرة طبعة "شواب " مجلد 5 قسم 2 ص 12 وما بعدها . نقلا عن د. ثروت أنيس الأسيوطى نظام الأسرة بين الاقتصاد والدين . نشر دار الكتاب العربى ص 235 .(1/14)
وفى العهود القديمة لم يكن للمرأة حل وثاق الزوجية أو طلب الطلاق إلا فى أحوال استثنائية (1)، ولكن بعد احتلال الرومان لفلسطين بعد عام 65 ق . م أخذت عادة تطليق المرأة لزوجها تشيع بين اليهوديات شيئاً فشيئاً بتأثير العادات الرومانية (2)
__________
(1) ويفسر الدكتور ثروت أنيس الأسيوطى هذا الحكم بقوله " ورثت الشريعة التلمودية عن عهد الرعى هيمنة الرجل على مصير المرأة ، كان رعاة الأغنام يشترون المرأة بالمهر فكان لا يتصور أن تفر من وجه الرجل بعدما دفع فيها الثمن فهو سيدها وبعلها ، وهى جزء من البيت مثل الرقيق والماشية ، بل إن العبد إذا أبق امتنع رده إلى سيده ، أما المرأة فرهن مشيئة ذلك السيد لا تستطيع الخلاص منه أبدا ، كما هو الحال عند رعاة الأبقار من قبيلة الماساى . وصدر سفر التثنية فى أواخر عهد الإقطاع متأثرا بالتقاليد الموروثة من عهد الرعى فتحدث عن الطلاق باعتباره حقا خالصا للزوج ، وإن اشترط لحدوثه تحرير كتاب الطلاق ، ثم خصص له التلمود بابا كاملا بعنوان " جطين " فأقحم عادات الرعاة إلى قلب مجتمع التجارة وجاء فى مجموعة حاى بن شمعون " لا يرفع قيد الزواج إلا بالطلاق" ( م 321 ) ، " والطلاق بيد الرجل " ( م324) " وقبول المرأة الطلاق ليس شرطا م "( 325 ) . إن نصوص التلمود تقرن بصريح العبارة طلاق المرأة بعتق العبد ، فكلاهما إجراءان لا يحتاجان سوى لإرادة منفردة هى إرادة السيد ، يصدر قراره بطرد المرأة أو عتق العبد فتنفذ رغبته السنية من غير أدنى مناقشة " . انظر لسيادته فقرة 218 وما بعدها . وقد لخص الشيخ عطية صقر الأحوال الاستثنائية التى للمرأة فيها طلب الطلاق بمثال " الأمة التى رفعها سيدها إلى مرتبة الزوجة أو الحظية – فهذه – لها أن تخرج من عصمته مجانا بلا ثمن ، إذا لم يقم الزوج بواجب إطعامها وكسوتها ومعاشرتها معاشرة زوجية " انظر لفضيلته ص 258 .
(2) الشيخ عطية صقر ص 258 ، ومرد هذا كما يظهر من عبارة المتن إلى العرف ، وهو مصدر من مصادر التشريع عند طائفتى الربانيين والقرائين ، انظر د. محمد عبد الرحيم محمد . الفرقة بين الزوجين بسبب العيوب والأمراض نشر دار الحديث ( 1991) ص 62. ولكن الدكتور ثروت أنيس الأسيوطى يفسر هذا التغير تفسيراً آخر فيرده إلى " شعور علماء التلمود بمدى ما يصيب المرأة من ضيم فى بعض الأحوال ، وما تستدعيه العدالة من ضرورة تخليصها من زوجها ، ولم يتمكنوا من الخروج صراحة على العادات الموروثة والانتقاص المباشر من سلطات الزوج فلجأوا إلى طريق ملتو ، هو إكراه الزوج على الطلاق بشتى الوسائل المعنوية ، كتجريده من الحقوق المالية والاشتراك فى الشعائر الدينية إلى أن يفئ " انظر ص 269 ويمكن التوفيق بين الرأيين على أساس أن عادات الرومان نبهت علماء التلمود إلى ما يصيب المرأة من وحشة تستدعى ضرورة تخليصها من الزوج المضار ففعلوا ما فعلوا .(1/15)
، ولأسباب متعددة تتعلق بقدرة الرجل الجنسية ، أو حالته الدينية ،أو معاملته لزوجته بقسوة ، أو مبالغته فى الفسق والفجور ، أو امتناعه عن الإنفاق عليها ، أو إصابته بمرض خبيث ، أو اشتغاله بتجارة غير مشروعة بعد الزواج .
أما الرجل فالطلاق بيده ، وله أن يوقعه أمام السلطة الشرعية ولو بدون عذر ، ولكن يحسن عندهم شرعاً الطلاق لعيب خٌلقٌى كسوء المعاملة ، وشدة المنازعة ، والعناد ، والإسراف ، أو لعيب خلْقى كالنمش والجدرى وقصر النظر، والرائحة الخبيثة ، وكل عاهة لا يرجى برؤها . (1)
وعند اليهود لو نوى الرجل طلاق زوجته حرمت عليه بمجرد النية ، ووجب تنفيذ طلاقه ، ولا يقع عندهم طلاق الحامل أبداً ، إلا أن يجوزوه (2)، كما يحرم على الرجل أن يطلق – عقوبة له – فى حالتين:
1 – إذا اتهم زوجته بأنها ليست بكراً ، وقدم أبوها ثوبا به بقع دم البكارة أمام الناس ، فيغرم الزوج غرامة تدفع لأبيها ، ثم يحرم عليه طلاقها عقابا له .
2 – إذا هتك عرض فتاة بدون رضاها ألزم بزواجها وحرم عليه طلاقها. كما جاء فى سفر التثنية إصحاح " 21 "
__________
(1) عادات الزواج ص 61-63 ، د . ثروت أنيس ص 259 وما بعدها ، د. جميل الشرقاوى الأحوال الشخصية لغير المسلمين الوطنيين والأجانب . الطبعة الثانية نشر دار النهضة العربية 1966 ص 387 وما بعدها ، 394 وما بعدها ، الشيخ عطية صقر ص 258-259 .
(2) الشيخ عطية صقر ص 259 وشروطه كما أورده حاى بن شمعون ثلاثة هى :
أولا : أن يصدر عن إرادة معتبرة فى الطلاق ، ويحصل ذلك بالعقل والصحو والرشد .
ثانيا : أن يتم الطلاق كتابة بحضور شاهدين مع ذكر التاريخ ، وحسب مجموعة الربانيين فالكتابة الواجبة هى الكتابة الرسمية مما يستلزم إيقاع الطلاق أمام المحكمة ,
ثالثا : إعلام المرأة بالطلاق عن طريق شخص المطلق أو بوكيل عنه . د. ثروت الأسيوطى ص 260 وما بعدها .(1/16)
أما اليهود الربانيون – الذين يؤمنون بالتوراة والتلمود – فمنافذ الطلاق عندهم أوسع كثيراً من تلك التى هى عند القراءين ، وأيا كان الأمر فإن أصل الطلاق عند اليهود بيد الرجل.(1)
المطلب الثانى
الطلاق عند المسيحيين
يظهر من تعاليم الإنجيل أنها تحض على الحد من الطلاق ، ففى إنجيل متى الإصحاح 19 رقم 2 وما بعده " جاء إليه – يعنى السيد المسيح – الفريسيون ليجربوه ، قائلين له : هل يحق للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب ؟
فأجاب وقال لهم : أما قرأتم أن الذى خلق من البدء خلقهما ذكرا أو أنثى، وقال : من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ، ويكون الاثنان جسدا واحدا ، إذ ليسا بعد اثنين ، بل جسدا واحدا ، فالذى جمعه الله لا يفرقه إنسان
قالوا له : فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلق ؟
قال لهم : إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ، ولكن من البدء لم يكن هذا .
ولكن فى نفس الإنجيل الإصحاح (31،32) " أما أنا فأقول لكم من طلق امرأته إلا لعلة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنا " فالجمع بين النصين يقتضى التقييد لا المنع (2) .
__________
(1) انظر د. محمد عبد الرحيم ص 63- 66 د. صوفى أبو طالب الشرائع السامية ص 167 ، الشيخ عطية صقر ص 260 .
(2) أستاذنا الدكتور عبد الناصر العطار . أحكام الأسرة عند المسيحيين المصريين . الطبعة الثالثة ، ص (173) كما نقل الدكتور على عبد الواحد وافى فى كتابه حقوق الإنسان فى الإسلام عن العلامة الإنجليزى بنتام صاحب كتاب أصول الشرائع قوله : تحريم الانفصال أمر منكر لا يسيغه إنسان ، والقانون الكنسى يحكم به فيتدخل بين العاقدين حال التعاقد ويقول لهما أنتما تقترنان لتكونا سعداء ، فلتعلما أنكما ستدخلان سجنا سيحكم غلق بابه ، ولن أسمح بخروجكما وإن تقاتلتما بسلاح العداوة والبغضاء انظر ص (87) من طبعة وزارة الأوقاف .(1/17)
وبانتشار المسيحية وتقوى الكنائس اختلف اتباعها اختلافا شديدا حول تفسير موقف الإنجيل من الطلاق ، فمنهم من يرى أن الإنجيل لم يبح الطلاق ، وإنما أباح الفراق أو الانفصال الجسدي، ومنهم من يرى أنه أباح الطلاق لعلة الزنا فقط ، وفى رأى فريق ثالث فإن النص على التطليق للزنا مجرد مثال يقاس عليه كل الحالات الأخرى التى تشبهه ، والتى ينبغى اعتبارها كذلك نظرا لخطورتها ، ومع ذلك فإن الظروف السياسية كثيرا ما أبعدت اتجاها وقربت أخر(1) ولم تستطع الكنيسة الغربية – بوجه أخص – فرض مبدأ عدم قابلية الزواج للانحلال إلا فى غضون القرن العاشر الميلادى (2) .
وتعتبر الكنيسة الأرثوذكسية أكثر الكنائس توسعا فى التطليق (3)أما الكنيسة الكاثوليكية فهى أكثرها تشددا ، بل لا تبيح التطليق البتة ، وإن وسعت من أسباب بطلان الزواج لتستوعب جزءا من أسباب الطلاق .
المبحث الثالث
الطلاق فى القوانين الغربية الحديثة
__________
(1) الدكتور توفيق حسن فرج . الوجيز فى أحكام الأحوال الشخصية لغير المسلمين من المصريين ، الطبعة الثانية ص (264،268 – 269) ، د. جميل الشرقاوى ص 334 وما بعدها .
(2) د. العطار ص (175) ، د. الشرقاوى ص 335 .
(3) وإن اختلفت طوائف الأرثوذكس فى حصر مجيزات التطليق ، بل إن من يطالع المجموعات الكنسية لطائفة الأقباط الأرثوذكس يلحظ أن هناك اتجاهين فى مفهوم سبب واحد من أسباب التطليق وهو العيب ، فالخلاصة القانونية ، وقوانين ابن لقلق وابن العسال ومجموعة 1938 جميعها توسع من مفهوم العيب ليشمل " كل ما يمتنع معه الاجتماع المقصود بالزيجة " بينما قصرت مجموعة 1955 العيب على " الجنون والعته " راجع د.محمد عبد الرحيم ص 78- 80 .(1/18)
الطلاق كما يقولون " مشكلة متأصلة فى الزواج نفسه الذى يتعين فيه على ذكر وأنثى ، لكل منهما قيمه الخاصة ، وحاجاته ، وأماله أن يعيشا معا بأقل قدر من التوتر والقلق"(1) ومن هنا كان من الحتم اعتماد الطلاق حلا أخيرا ، باعتباره أكثر البدائل عدلا لوضع حد للنزاعات الزوجية ، وكان طبيعيا أيضا أن يخرج أتباع الكنائس المتشددة عليها ، وتضطر الكنيسة على إقرارهم على ذلك رغبا أو رهبا (2) بل إن الحكومات التى تدين لبعض هذه الكنائس بالولاء اضطرت تحت ضغوط شعوبها على التدخل فى مشكلة كانت تخص الكنيسة وحدها ، وهى مشكلة الطلاق ، فأصدرت القوانين بإباحة الطلاق .
__________
(1) بنو الإنسان ص (396 – 397) .
(2) فى ذلك يقول الدكتور نظمى لوقا – وهو مسيحى – فى كتابه محمد الرسالة والرسول ص(17) أن فرصة الإنسان فى الحياة واحدة ، فلماذا تجعلوها عذابا مقيما لزوجين تبين أن الوفاق بينهما مستحيل . وقد توصلت السيدة الدكتورة سلوى على ميلاد فى بحثها القيم " وثائق أهل الذمة فى العصر العثمانى ، وأهميتها التاريخية" نشر دار الثقافة للنشر والتوزيع 1983 إلى أن أقباط مصر كثيرا ما كانوا يلجئون إلى قضاة المسلمين لإيقاع الطلاق بينهم ، تقول " لقد وجدنا عددا غير قليل من وثائق الطلاق الخاصة بأهل الذمة ، وقد أمدتنا تلك الوثائق بمعلومات قيمة وجديدة فى هذا الشأن ، فقد طبقت الشريعة الإسلامية فى طلاق إحدى النصارى اليعاقبة ( طلقة بائنة مسبوقة بأولى على باقى صداقها عليه وقدره أربعة دنانير ) لدى القاضى الحنبلى ، أى أن هذه الزوجة سبق وأن طلقت طلقة أولى ورجعت ، ثم طلقت هذه الطلقة الثانية البائنة بينونة صغرى وهذا ما لا يحدث عادة عند النصارى ، ولكن هذه الوثيقة تقطع بلا شك فى حدوث الطلاق البائن على غرار الشريعة الإسلامية . كما طلقت نصرانية يعقوبية طلاقا بائنا بينونة كبرى وتم ذلك لدى القاضى الحنفى " انظر ص 22 وما بعدها .(1/19)
ففى 1/11/1970 أقر البرلمان الإيطالى - معقل البابوية الكاثوليكية - قانونا بإباحة الطلاق فى حالات منها ، الإصابة بالجنون ، والحكم بالسجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات ، والسجن بسبب ارتكاب جريمة جنسية ، والهجر لمدة خمس سنوات ، " ولم تعبأ الدوائر الإيطالية بحالات الحزن الشديد التى انتابت البابا بولس السادس ، وغيره من الكاردينلات "(1)
وفى أسبانيا عددت المادة الثالثة من القانون الصادر فى 2 مارس 1932 ثلاثة عشر سببا لانحلال رابطة الزوجية بالحكم النهائى القاضى بالطلاق بين الزوجين مهما كانت الجهة المدنية أو الدينية التى عقدته .
وفى ألمانيا يجيز القانون رقم 16 لسنة 1946 فى مواده 42-48 الطلاق لستة أسباب ، وتوقعه المحكمة بناء على طلب أحد الزوجين متى رفعت دعوى التطليق فى الميعاد ، ويجب أن تتخذ إجراءات للسعى فى الصلح بين الزوجين قبل توقيع الطلاق .
وفى بريطانيا أجيز الطلاق بمقتضى قانون صدر سنة 1937 فأدخل تعديلات جوهرية على الأنظمة السابقة ، وأباح صورا كانت محرمة من قبل كطلب الطلاق للهجر ، والإساءة والمرض العقلى والعيب التناسلى الخطير .
وفى بلجيكا يجيز القانون الطلاق لأسباب عدة منها : إذا اتفق الزوجان على الطلاق وصمما على طلبه ، فى حدود أحكام القانون ، اعتبر تراضيهما دليلا كافيا على تعذر استمرار الحياة بينهما مما يبرر الحكم بالطلاق .
وفى حكم قديم لمحكمة بروكسل – 3 يناير 1923 – قضت بأن :
" الشريعة الصينية التى لا تعطى حق الطلاق إلا للزوج فقط يعتبر حكمها مخالفا للنظام العام ، فللبلجيكية التى تتزوج من صينى أن تطلب تطليقها من زوجها أمام المحكمة البلجيكية ، التى يجب عليها فى هذه الحالة أن تطبق القانون البلجيكى ".
__________
(1) ذكرت ذلك صحيفة الأنوار اللبنانية عدد 3622 بتاريخ 2/11/1970 ، وقد كان الشاغل الإيطالى محل اهتمام صحف الشرق فى ذلك الحين .(1/20)
وفى بولندا يجيز قانون الزواج الصادر فى 25 سبتمبر 1945 الطلاق لأسباب كثيرة منها إذا زاول أحد الزوجين مهنة غير شريفة أو انتفع منها ، وكذلك إذا اعتاد تعاطى المشروبات الروحية أو المخدرات .
كما يجيز القانون التشيكى الطلاق لجميع المواطنين دون تمييز ، ولأسباب متعددة ، ومثله القانون الرومانى ، وينص على أن اتفاق الزوجين على الطلاق دليل كاف على أن المعيشة بينهما أصبحت لا تطاق .
ويتوسع القانون السويسرى فى الأسباب التى تبيح طلب الطلاق ومن ذلك إساءة أحد الزوجين معاملة الآخر ، وعلى غراره القانون المجرى .
وفى فرنسا يجيز القانون المدنى الفرنسى الطلاق للزنا ، ولسبب صدور حكم بعقوبة بدنية أو شائنة ضد أحد الزوجين ، وكذا لاعتداء أحد الزوجين على الآخر ، أو إساءة معاملته ، أو إهانته ، ويتوسع القضاء الفرنسى فى تفسير الإساءة مما يؤدى إلى ارتفاع نسبة الطلاق بما يناهز 40% من عدد الزيجات كل عام ويقولون : الطلاق ناجم عن الحرية الشخصية ، والعقد الذى لا يمكن تلاشيه يكون مضيعا لهذه الحرية ، أو حاجزا لها .
ويأتى القانون اليوغسلافى على القمة من حيث التسامح فى أسباب الطلاق ، فيبيحه لاختلاف الطباع ، وسوء التفاهم المستمر ، وغير ذلك من الأسباب التى تؤدى إلى اضطراب فى العلاقات الزوجية بحيث يستعصى معه دوام المعاشرة بين الزوجين ، ويقاربه القانون اليونانى .
وفى أمريكا يحكم بالطلاق فى كثير من الحالات لأتفه الأسباب ، بل إن من لا يجاب طلبه فى ولايته انتقل إلى ولاية أخرى أكثر تساهلا فى إجابة طلب الطلاق ، مما عرف بالطلاق المتنقل ، والنتيجة أن معدل الطلاق فى أمريكا أعلى منه فى أى مجتمع آخر .(1/21)
والأمريكيون أنفسهم يمتدحون ذلك ، ففى رأيهم " لا يعكس الطلاق أى احتقار لمؤسسة الزوجية ، وفى الواقع يكون الناس الذين يمنحون طلاقا أكثر أفراد المجتمع حماسة لدعم تلك المؤسسة ومعظم المطلقين فى الولايات المتحدة يعودون فيتزوجون ثانية ، ويتم ذلك بسرعة " (1) .
وحاصل كل ما تقدم أننا قل أن نجد دولة من تلك التى تدين بالمسيحية لم تبح الطلاق لأسباب متعددة ، بعضها لا يرقى إلى درجة الأمر الذى تستحيل معه الحياة أو تستعصى فعلا ، غاية الأمر أنها جعلت قرار التفريق بيد القاضى .
وقد آثرنا الإسهاب فى واقع العالم المسيحى (2) ليعلم القارئ مدى الفرية التى يطلقها الأوربيون وببغاواتهم على نظام الطلاق فى الإسلام ، والذى نعنى بالكلام عنه قصدا فى هذا البحث ، حيث يمكننا القول: إنه لم يبق من أثر القانون الكنسى إلا استلزام صدور حكم بالطلاق(3) وإن تبدلت الهيئة الكنسية بهيئة قضائية مدنية .
__________
(1) بنو الإنسان ص 398
(2) اعتمدنا فى المعلومات المسجلة على مؤلف الأستاذ / جميل خانكى الأحوال الشخصية للأجانب فى مصر المطبوع سنة 1950 فى مصر وهو مؤلف رائع فى موضوعه ولا نخشى من قدم ما أورده سيادته من أحكام، لأن الظاهر من حال الغرب أنه يزحف نحو التحرر من ربقة إحكام مبدأ " عدم انحلال الزواج " لا أن يعود القهقرى إليه .
(3) نقل الدكتور جميل الشرقاوى ص 338 حاشية (2) عن الخلاصة القانونية . المسألة 25 رقم 67 ما نصه " اعلم أن ا لطلاق ممنوع فى الشريعة المسيحية ، فليس لإنسان أن يطلق امرأته بمجرد اختياره ، أو يفارقها بحسب إيثاره ، وإنما الزيجة ما عدا انحلالها بالموت تفسخ أيضا بأسباب وضعية شرعية بحيث لا يعتبر الفسخ حكما شرعيا ما لم ينظر السبب الموجب لدى الحاكم الشرعى الروحى المتصرف فى ذلك ، ويوقع حكم الفسخ رسميا بناء على ما يثبت من التحقيق " .(1/22)
وما انتهى إليه الغرب المسيحى من تقييد إيقاع الطلاق بحكم القاضى هو ما تسعى إلى تعميمه مؤتمرات السكان والتنمية ، وقد أدخل على بعض المستغربين فتحمسوا لهذه الدعوة وما زالوا ، وللأسف فإن مسعاهم وجد طريقه إلى بعض التقنينات العربية كما سنرى .
الفصل الثانى
الفصل الثانى
نظرات فى تشريع الطلاق فى الإسلام
تمهيد وتقسيم :
نقصد بالطلاق هنا ذلك التصرف المملوك للزوج على أن يوقعه بإرادته المنفردة ، وأعنى بالإرادة المنفردة إنشاء التزام أو تعهد فى جانب صاحب الإرادة بعبارته الكاشفة عنها وحدها دون توقف على شئ أخر (1) .
وأعنى بالتفريق بالإرادة المنفردة استقلال إرادة الزوج وحده دون معقب عليها من قاض أو غيره برفع قيد النكاح حالا أو مآلا بلفظ مخصوص ، وهو ما اشتمل على مادة طلق ، أو ما فى معناها ، مما يفيد ذلك صراحة أو دلالة ، وذاك ما اصطلح عليه شرعا بالطلاق(2) .
__________
(1) الدكتور عبد المجيد مطلوب نظرية الإرادة المنفردة فى الفقه الإسلامى ط 1987 ص (25) .
(2) انظر فى تعريف الطلاق : ابن الهمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسى شرح فتح القدير على الهداية، نشر دار إحياء التراث بيروت 3/325 ، ابن نجيم زين الدين إبراهيم بن نجيم . البحر الرائق شرح كنز الدقائق . ط دار المعرفة . بيروت . الثانية 30/252 ، داماد أفندى عبد الله الشيخ محمد بن سليمان . مجمع الأنهر فى شرح ملتقى الأبحر ط دار إحياء التراث العربى بيروت 1/280 ، الحطاب أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربى . مواهب الجليل شرح مختصر خليل ط دار الفكر بيروت الثانية 4/18 ، الخطيب الشربينى محمد بن أحمد مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج طـ مصطفى الحلبى 1370 هـ 3/279 ، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسى . المغنى على مختصر الخرقى ط دار الفكر الأولى 7/296 .(1/23)
والمراد من رفع قيد النكاح حالا الطلاق البائن ، لأنه يزيل الحل فى الحال ، والمراد من رفع القيد مآلا الطلاق الرجعى لأنه يرفع قيد النكاح فى المآل ، أى بعد انتهاء العدة .
وبعد أن هدأت ثورة الغرب على نظام الطلاق فى الإسلام – لأنه فى زعمهم يقوض الأسر – إثر علو أصوات مفكريه ، وتظاهرات شعوبه ، وأنين الأزواج والزوجات من بنى قومه تصرخ منادية بحل الطلاق ، فاضطرت حكوماته إلى تقرير الطلاق والتصريح بجوازه على شروط بينها وأوسعت له محلا من قوانينها (1)– كما رأينا - ومن ثم لم يعد لها من حجة ترتكن عليها ، خاصة وقد أهدرت عن عمد التمسك بمقولة الإنجيل الشائعة " ما جمعه الله لا يصح أن يفرقه الإنسان " إلا أنها لم تزل ترى فى تخويل الإسلام الرجل حق الطلاق بإرادته المنفردة عصبية وتخلفا وجورا على المرأة ، وهضما لحقها ، على أن الزواج يقع باتفاق إرادتين ، فكيف يستبد أحد طرفيه بإيقاع الطلاق وحده وإنهاء تلك الرابطة التى أقل ما يقال عنها إنها رابطة مقدسة ؟
وقد نجح الغرب فى أن ينفث سمومه فى بعض أبناء المسلمين ممن يخضعون الشرع لعقولهم ، ولا يخضعون عقولهم وأهواءهم للشرع فتحمسوا – وما زالوا – لفكرة جعل الطلاق بيد القاضى ، وغل حق الرجل فى طلاق زوجته إلا بتوافق إرادتيهما على ذلك ، ولإدخال الباطل على بسطاء الناس زينوه فى صور وأعمال فنية ، فضلا عن الكتابة بشتى صورها ، واستصرخوا المرأة بنداء"آسفة أرفض هذا الطلاق" ( (2) ).
__________
(1) الأستاذ قاسم أمين : تحرير المرأة – ص 124
(2) هذا عنوان عرض سينمائي مصري ، لاحظت أن من خطة التلفاز المصري تعمد تكرار عرضه في أوقات العرض المميزة بغية إشاعة الفكرة التي يدعو الفيلم إليها .(1/24)
وقد نجح المستصرخون أن يتدثروا بعباءة الأمم المتحدة ، وأن يرقى مطلبهم إلى توصية من توصيات المجلس الاجتماعى لهيئة الأمم المتحدة أصدرها فى عام 1965 ، ولم تزل الهيئة تنوه بذلك كلما تعرضت لموضوع يتعلق بالمرأة ، وقد اعتمدته اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو ) في القمة من أهدافها .
وتنص التوصية على :
1 – عدم جواز إيقاع الطلاق أو التفريق القضائى إلا بواسطة سلطة قضائية مختصة مع وجوب تسجيله قانونا .
2 – وجوب تمتع الزوجين بذات الحقوق ، وتوافر ذات الأسس القانوينة فى إجراءات الطلاق ، أو فسخ الزواج أو التفريق القضائى .
3 – وجوب توفير الضمان القانونى لكل من الزوجين بالموافقة الحرة الكاملة فى حالة الطلاق الرضائى .
إذا فالأمر لم يعد سطورا فى كتاب ، أو نقدا فى عمل فنى ، وإنما هو حملة عالمية ترعاها الهيئة الدولية ، وقد وجدت طريقها إلى التطبيق فى غير تقنين عربى معاصر ، وهو ما يضفى على المشكلة بعداً خاصاً .
وفى هذا الفصل أبحث مشروعية الطلاق ، والحكمة من هذه المشروعية وأبين حكم الطلاق ، وأتعرض بإيجاز لموقف التقنينات والمحاكم العربية من قضية الأصل فى الطلاق وذك فى مباحث ثلاثة .
المبحث الأول : مشروعية الطلاق وحكمة ومشروعيته .
المبحث الثانى : حكم الطلاق .
المبحث الثالث : موقف التقنينات والمحاكم العربية من قضية الأصل فى الطلاق .
المبحث الأول
مشروعية الطلاق وحكمة مشروعيته
أولاً : مشروعية الطلاق :
ثبتت مشروعية الطلاق بأدلة متعددة من القرآن الكريم والسنة المشرفة وعلى مشروعيته أجمع علماء الإسلام ، فضلا عن استساغة العقل الطلاق .
1 – مشروعية الطلاق من الآيات القرآنية :(1/25)
ورد ذكر الطلاق وأحكامه وآثاره ثلاث عشرة مرة فى القرآن الكريم حظيت سورة البقرة بأكثرها ، كما أن من سور القرآن الكريم سورة الطلاق، والمثير للانتباه أن أكثر الآيات وردت فى النص على أحكام الطلاق وآثاره ، وآية منها فقط نصت على حل الطلاق ، وتلك قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " (1) وما عدا ذلك يفيد الحل ضمنا، لأن تنظيم المعاملة وتقرير آثارها يقتضى بالضرورة مشروعيتها ، وذلك ما نجده فى قول الله تعالى " الطلاق مرتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " (2) وفى قوله " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " (3) وفى قوله " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة"(4).
والذى أفهمه من نص القرآن الكريم على نفى الجناح فى الطلاق قبل المسيس خاصة، أن مثل هذا الطلاق أدعى إلى الوقاية من رابطة يبدو احتمال تصدعها أقرب إلى الواقع من استقرارها وتحقيق الهدف الشرعى منها ، ونظرا لأن العلاقة فى الابتداء ، ولم تدخل بعد حيز التنفيذ فإن فضها – مع الحاجة – أنفع لطرفيها وللمجتمع من المضى فى إتمامها ، ومن هنا تفردت هذه الصورة بالنص على نفى الجناح – أى الإثم – (5) .
أما الصور الأخرى فسياقاتها أقرب إلى تقرير ضوابط الطلاق وآثاره منها إلى تقرير إباحته .
خذ مثلا قول الله تعالى " الطلاق مرتان " قال بعض المفسرين : جاءت لبيان عدد الطلاق ، وقال آخرون : جاءت لبيان الوقوع ، قال ابن العربى : قال مالك : الطلاق المسنون مرتان ، وقال أبو حنيفة : الطلاق الجائز مرتان ، وقال آخرون : الطلاق المشروع مرتان ، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع .
__________
(1) البقرة آية 236
(2) البقرة آية 229
(3) البقرة آية 213
(4) الطلاق آية 1
(5) قريب من هذا المعنى الشيخ محمد أبو زهرة الأحوال الشخصية ط دار الفكر العربى . الثالثة ص ( 284 )(1/26)
ثم يعلق ابن العربى على هذا الأخير بقوله " وقد كنا نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار والآثار وانعقاد الإجماع من الأمة بأن من طلق طلقتين أو ثلاثاُ أن ذلك لازم له " (1)
ويصفوا لنا المعنى أكثر بالمقارنة بين تبيان مشروعية النكاح ومشروعية الطلاق فى القرآن الكريم .
فبينما نجد تبيان مشروعية الطلاق على ما وصفنا ، نجد تبيان مشروعية الزواج على نحو يبدو مغايرا تماما ، حيث يرد النص على المشروعية غالبا بلفظ الأمر كما فى قوله " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " (2) وقوله " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ، (3) وقوله " فأنكحوهن بإذن أهلهن " (4)
وقليلا ما يرد النص على المشروعية بنفى الجناح ، كما فى قوله " ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن " (5) أو بالنهى عن منع النساء من حقهن فى الزواج بمن يرغبن ، كما فى قوله " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف "(6).
وشتان بين الإباحة برفع الإثم ، والإباحة بلفظ الأمر ، الذى وإن لم ترد به حقيقته – من طلب الفعل على سبيل الحتم والإلزام – فإنه يشعر بالندب والاستحباب .
وحاصل ذلك :
أن آيات القرآن الكريم تشهد لمشروعية الطلاق مشروعية يبدو جانب الإباحة المطلقة فيها غير موجود ، فهو تشريع وسيلة دعت إليها ضرورة دفع مفسدة أكبر ، أو كما يقول الإمام ابن عابدين " هو مشروع من جهة ومحظور من الجهة الأخرى " (7) .
__________
(1) ابن العربى أبو بكر محمد بن عبد الله أحكام القرآن بتحقيق على محمد البيجاوى ط . دار الجيل بيروت 1987 1/189-191، وسنناقش فيما بعد دعوى لزوم الثلاث
(2) النساء آية (3)
(3) النور آية (32)
(4) النساء آية ( 25 )
(5) الممتحنة آية ( 10 )
(6) البقرة آية ( 232 )
(7) ابن عابدين محمد أمين . رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار والمشتهر بحاشية ابن عابدين ط دار الفكر 1995 . 3/251 .(1/27)
2 – مشروعية الطلاق من السنة :
وردت أدلة كثيرة من السنة المشرفة على مشروعية الطلاق ، ومن ذلك:-
أ – ما أخرجه البخاري فى صحيحه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه : "طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء " (1) .
ب – وقد أخرج الحاكم فى مستدركه ، وأبو داود فى سننه أن النبى صلى الله عليه وسلم طلق حفصه ثم راجعها (2)
وفى طبقات ابن سعد عن حماد بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتانى جبريل فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة ، وإنها زوجتك فى الجنة " (3)
ووجه الدلالة : من هذين الحديثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق ، كما أقر ما بلغه من طلاقات الصحابة ، وإن أمر أن يوقع الرجل الطلاق على وجه خاص .
3- وقد أجمع المسلمون على مشروعية الطلاق وإن اختلفوا فى أصل مشروعيته(4)
4 – وأما المعقول : فإن العشرة إذا فسدت بين الزوجين ، وتعذر الإصلاح بينهما فلابد من اختيار أحد الأمور الآتية :
1 – بقاء الحياة الزوجية مع النفرة والضغينة
__________
(1) رواه البخارى فى كتاب الطلاق ، باب قوله تعالى " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء .
(2) انظر : المستدرك على الصحيحين 2/197 ، وسنن أبى داود كتاب النكاح باب فى المراجعة .
(3) الطبقات الكبرى بتحقيق وتعليق د. حمزة النشرتى وآخرين نشر المكتبة القيمة 1997 8/94
(4) انظر مثلا : الموصلى عبد الله بن محمود بن مودود . الاختيار لتعليل المختار . ط دار المعرفة بيروت . الثالثة 1995 3/121 ، مغنى المحتاج للشربينى 3/279 ، المغنى لابن قدامة 10/82(1/28)
2 – أن تبقى الزوجية قائمة مع التفريق بين الزوجين جسدياً ، فتصير المرأة كالمعلقة .
3 – أن يفرق بينهما بالطلاق فيغنيهما الله من فضله بزواج كل منهما من زوج آخر يجد عنده ما افتقده عند صاحبه الأول .
ولا شك أن العقلاء يسوغون الحل الأخير درءا لمفاسد الخلاف وقطعا للشحناء والتدابر ، وتمكينا لكلا الطرفين من الاستمتاع المشروع – عن طريق زواج آخر – وفاء بحاجات جسدية تتقاضاها طباع البشر أتم التقاضى ، ولو سد عنها باب المباح لتطلعت إلى الحرام .
ثانياً : حكمة مشروعية الطلاق :(1/29)
الأسرة هى الخلية الأساسية التى أرادها الله من عباده المؤمنين لعمارة الكون وتحقيق خلافته فى الأرض ، قال تعالى " يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء " (1) ولهذه الخلية فى الإسلام وكافة الشرائع السماوية طريق واحد هو الزواج (2) وقد شرعه الله ليحقق أهدافاً ثلاثة لا غنى عنها لأى إنسان .
أولها : الحصول على الولد على نحو مشروع لا شبهة فى نسبه .
ثانياً : إرضاء الغريزة الفطرية من خلال قناتها المشروعة .
ثالثها : الأنس النفسى إلى الإلف ، والسكن إليه والتعاون معه على شدائد الحياة ، وأحداثها وصروفها .
__________
(1) النساء آية 1
(2) فهو فى الإسلام سنة فى الأصل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " النكاح سنتى فمن رغب عن سنتى فليس منى " وهو الأصل إلى التكاثر قال صلى الله عليه وسلم " تناكحوا تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة " وفى المسيحية " سر مقدس به يرتبط ويتحد الرجل والمرأة اتحادا مقدساً بنعمة الروح القدس للحصول على ولادة البنين وتربيتهم التربية المسيحية " انظر المواد (15) من قانون الأحوال الشخصية للأقباط الاثوذكس ، (1) للكاثوليك ، (6) للإنجيليين. ويعتبر الأخيرون الزواج أفضل من التبتل فى كل الأحوال . وفى التوراة " فأتمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا فى الأرض وتكاثروا فيها " ويعتبر العبرانيون أن الشخص الذى لا يتزوج متهم بإراقة الدماء ، وبتغيير صورة الله ، كما أنه يتسبب فى انسحاب الحضرة الإلهية من إسرائيل . ولا يختلف الأمر كثيرا عند كثير من أصحاب المذاهب الوضعية . راجع : د. أحمد شلبى – مقارنة الأديان ط 1966 ، مشكلات المجتمع المصرى والعالم العربى وقصة الزواج والعزوبة فى العالم للمرحوم الدكتور على عبد الواحد وافى .(1/30)
ولهذه الأهمية كان الزواج أرجح فى مقصود الشرع الإسلامى من الجهاد ومحض العبادة (1) لما له من أثر على الفرد والمجتمع .
فإذا تحققت هذه الأهداف فهنيئاً للزوجين وبشرى للمجتمع ، وإن اختلت أو بعضها فقد يعترى الأسرة القلق ، والمجتمع الضعف والوهن ، ولهذا شرع الله الطلاق ، راحة للزوجين ، وضمانا لأداء الأسرة لواجبها الاجتماعى والإنسانى كما قال سبحانه " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " (2) .
1 – فقد يكون أحد الزوجين عقيما لا ينجب ، ونفس الآخر تتوق إلى طلب الولد ، وهو من مقاصد الزواج ، وعليه جبلت النفوس ، فإن حرمنا الراغب فى الولد من فراق العقيم إلى زوج ولود آذيناه ، وقد يؤدى حرمانه إلى تقصيره فى حق الآخر ، أو مساكنته على ضغينة وشقاق لهذا كان الفراق أسهل الحلول .
2 – وقد يكون بأحدهما عيب من مرض معد ، أو فقر مدقع ، أو سوء عشرة وخشن معاملة لم يجد معها نصح ولا صلح ولا تقويم ، فإن أبقينا على زواجهما كانت حياتهما نفورا وخصاما وإيذاء على أى نحو من الأنحاء ، فتتبدل المودة التى أراد الشرع قطيعة وجفاء ، والرحمة ظلماً وقسوة ، ومن الطبيعى أن الأولاد الذين ينشأون فى أسرة كتلك لا يرون فيها إلا البؤس والنزاع والشقاء تستمرئ نفوسهم الأذى فيخرجون إلى المجتمع جيلا يهدم ولا يبنى ، يفسد ولا يصلح ، وعندئذ يكون من صالح الزوجين والمجتمع أن يفترقا تطويقا لعنق الشر، وإغلاقا لمنافذ الشيطان ، وحماية للمجتمع .
__________
(1) انظر : فتح القدير للكمال بن الهمام ط دار الفكر الثانية 3/184 ، السرخسى محمد بن أبى سهل المبسوط ط دار المعرفة – مصورة عن ط السعادة 1978 4/194 ، د. الحسينى سليمان جاد وثيقة مؤتمر السكان والتنمية ، رؤية شرعية ضمن سلسة كتاب الأمة العدد 53 ص 47 وما بعدها .
(2) النساء آية 130(1/31)
3 – وقد يسلم الزوجان من المرض والفقر ولكن قد تدب النفرة فى قلبيهما ، أو قلب أحدهما ، وتفشل أسباب استمالته وتطييب نفسه وفرصة الإنسان – كما يقولون – فى الحياة واحدة ، فلماذا نجعلها عذابا لزوجين تبين أن الوفاق بينهما مستحيل ، وأن حياتهما معا إهدار لحياتيهما معا (1) فكان الفراق أسهل الحلول وأجداها .
وقد تكون هناك أسباب أخرى دون ذلك فى الاعتبار ، وقد يسئ البعض إلى المخرج بابتداع أسباب ، أو التهويل من شأن صغائر الأمور ، فيبدو الطلاق فى بعض الأحايين مفسدة ، ولكن ذلك لا يهدر قيمته كعلاج لأسباب الشقاء والعداء من أغراض فقدت ، وحياة تبدلت ، فعلمائنا يقولون " لا تخل مصلحة من مفسدة " ، فقد خلق الله النهار معاشاً ، وقد يسعى فيه للإتلاف والتخريب ، كما خلق الليل لباسا وسكنى ، وقد يتستر به المجرمون واللصوص ، ولم يقل عاقل إن الليل والنهار ليسا من رحمة الله .
يقول الكاتب الأمريكى " بيتر فارب " ورغم سيئات الطلاق فقد اعتمدته بعض المجتمعات حلا أخيرا ، وفى رأيى أن الطلاق يجب أن يمدح بدلا من أن يلعن ، فمن بين كل البدائل المتاحة للمجتمعات لوضع حد للنزاعات الزوجية ، يبرز الطلاق كأكثرها عدلاً للفريقين ، إذ أنه البديل الوحيد الذى يسمح للزوجة كما يسمح للزوج بأن يبدأ بداية جديدة عن طريق الزواج مرة أخرى " (2).
المبحث الثانى
حكم الطلاق
__________
(1) د. نظمى لوقا ص 117 ، وانظر أحكام القرآن لابن العربى 1/425
(2) بنو الإنسان ص 398(1/32)
أولاً : الحكم العام للطلاق أو الأصل فيه : (1)
مع اتفاق العلماء على مشروعية الطلاق إلا أنهم اختلفوا حول الأصل فيه أهو الحظر أم الإباحة ، والأثر العملى لهذا الخلاف أنه على اعتبار الحظر هو الأصل فإن الطلاق لا يباح إلا لحاجة ، بل هو كالكى آخر الدواء ، كما يصح تقييده بكل ما يتناسب مع الأصل فيه ، وعلى القول بأن الأصل فيه الإباحة فلصاحب الحق فيه أن يوقعه متى شاء وكيف شاء ، ولا يتقيد حقه إلا لعارض .
__________
(1) يراجع فى هذا الحكم : النووى " يحى بن شرف " شرح صحيح مسلم بتحقيق وضبط عصام الصبابطى وآخرين ط دار الحديث . الثانية 5/324 ، ابن حجر العسقلانى " أحمد بن على " فتح البارى بشرح صحيح البخارى بتحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز ، وترقيم العلامة محمد فؤاد عبد الباقى ط دار الحديث الأولى 9/431، 467 ، حاشية ابن عابدين والدر المختار 3/250 وما بعدها ، المغنى مع الشرح الكبير بتحقيق أستاذنا الدكتور محمد شرف الدين وآخرين ط دار الحديث الأولى 10/83 ، الإمام ابن تيمية الحفيد " تقى الدين أحمد بن عبد الحليم " الفتاوى نشر دار الغد العربى 3/15 ، 41 ، 55 وما بعدها ، نيل الأوطار 6/221 ، سبل السلام شرح بلوغ المرام 3/247 وما بعدها ، الشهيدان محمد بن جمال الدين العاملى ، وزين الدين الجبعى الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية ط دار التعارف للمطبوعات . بيروت 6/25 وما بعدها ، أستاذنا الدكتور يوسف قاسم حقوق الأسرة فى الفقه الإسلامى . نشر دار النهضة العربية 1987 ص 292- 294 . الشيخ محمد حسين الذهبى الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بين مذاهب أهل السنة ومذهب الجعفرية 1968 ص 248 وما بعدها ، والمراجع الآتية بعد(1/33)
1 – فقال بعضهم الأصل فى الطلاق الإباحة (1)
استدلالاً بقول الله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء " (2) فقد نفى الله الإثم والحرج عن المطلقين ، ونفى الحرج يفيد الإباحة وينافى الحظر (3).
ولأن الله لم يقيد الطلاق بسبب أو حاجة ، فكان مباحاً .
كما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ، والظاهر أن النبى صلى الله عليه وسلم طلقها من غير ريبة ولا كبر سن .
كما صح أن بعض الصحابة طلقوا زوجاتهم ، فلو كان محظورا ما أقدموا على تطليقهن ، ويروى – ولم نحققه- أن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما كان مزواجا مطلاقا ، فقال على رضى الله عنه على المنبر " إن ابنى هذا مطلاق فلا تزوجوه، فقالوا نزوجه ثم تزوجه ، ثم نزوجه " (4)
__________
(1) نسبة الحصكفى فى الدر المختار 3/250 إلى عامة الحنفية ، ورجحه ابن نجيم فى البحر الرائق 3/253 ، وقال القرطبى " محمد بن أحمد الأنصارى الجامع لأحكام القرآن بتحقيق وتخريج د. محمد إبراهيم الحفناوى، د. محمود حامد عثمان ط دار الحديث الثانية 1996 3/130 " دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور " وهو إحدى روايتى القاضى عن أحمد . المغنى والشرح الكبير 10/83 ، ومال إليه الشوكانى فى النيل 6/221 .
(2) البقرة آية ( 236 )
(3) انظر : حاشية ابن عابدين 2/415 ، البحر الرائق لابن نجيم 3/253
(4) المصدران السابقان ، الإمام أبو زهرة ص 284 ، د. يوسف قاسم ص 293 ، د. أحمد يوسف . أحكام الزواج والفرقة ط 1985 ص 196(1/34)
2 – وقال الأكثرون : الأصل فى الطلاق الحظر لا الإباحة (1)
واستدلوا على ذلك بأدلة منها :-
أ – قول الله تعالى " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " (2)
فقد نهى الأزواج عن التعرض للزوجات بكل سبيل ، إذا استقام أمرهن وصلح حالهن، وهو مفيد لحظر الإقدام على الطلاق عند عدم الحاجة (3) .
ب – كما أن فى القرآن الكريم ما يشعر بالتنفير من الطلاق ، وعدم اللجوء إليه إلا بعد استنفاد كل أسباب الصلح والوفاق .
فمن الأول قول الله تعالى " وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيراً " (4) فحث على الصبر مع رؤية ما يكرهون ، فكيف يكون الأمر إذا لم يروا منهن ما يكرهون ؟ (5) .
__________
(1) من هذا الرأى الإمام البخارى على ما فهمه ابن حجر من ترجمته لباب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق ؟ انظر الفتح 9/431 ، ورجح النووى الكراهة إن كان الطلاق من غير سبب ، وقال فى شرح مسلم 5/324 " قال أصحابنا : الطلاق أربعة أقسام … ولا يكون مباحا مستوى الطرفين " وحكى ابنا قدامة فى المغنى والشرح الكبير 10/83 عن القاضى رواية " أنه محرم ، لأنه ضرر بنفسه وزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حراما كإتلاف المال ، ولقول النبىصلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " . وأكثر الناس حرصا على إبراز أن الأصل فى الطلاق الحظر ابن تيمية كما فى الفتاوى 3/15 ، 41، 55 ، 56 ، والكمال ابن الهمام كما فى الفتح 3/327 ، وابن عابدين كما فى الحاشية 3/350- 352 ، والى هذا القول يميل المعاصرون من علمائنا
(2) النساء آية 34
(3) د. بدران أبو العينين ، الزواج والطلاق فى الإسلام ، نشر مؤسسة شباب الجامعة ص 310
(4) النساء آية 19
(5) انظر : أحكام القرآن لابن العربى 1/363 وما بعدها ، د. عبد الرحمن الصابونى نظام الأسرة وحل مشكلاتها فى ضوء القرآن . الطبعة التاسعة ص 121(1/35)
ومن الثانى " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " (1) .
قال الإمام ابن العربى " هى من الآيات الأصول فى الشريعة ، وهى من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ، فإن الله قال : الرجال قوامون على النساء ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها فإن أنابت وإلا هجرها فى المضجع ، فإن ارعوت وإلا ضربها ، فإن استمرت فى غلوائها مشى إليها الحكمان ، فإن يكن ما اطلعا عليه فى الماضى يخاف منه التمادى فى المستقبل فرقا بينهما " (2)
جـ- وفى السنة المشرفة أحاديث كثيرة تشهد للحظر كأصل فى الطلاق ، أشهرها قول النبى صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال عند الله الطلاق " (3) وفى رواية " ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق " (4) .
__________
(1) النساء آية 35
(2) أحكام القرآن ص 421 ، 422 ( بتصرف )
(3) أخرجه أبو داود فى كتاب الطلاق – باب كراهية الطلاق ، والبيهقى فى سننه 7/322 وقال ابن حجر فى بلوغ المرام 3/247 وفتح البارى 9/431 " ورواه ابن ماجة ، وصححه الحاكم ورجح أبو حاتم إرساله " وقال الصنعانى " رجح الدار قطنى والبيهقى إرساله " .
(4) رواه أبو داود والبيهقى فى الموضعين السابقين ، والحاكم فى مستدركه 2/196 ، وانظر نيل الأوطار 6/220 والقرطبى 3/130 . وفى فتاوى الإمام ابن تيمية 3/55 " إن الله يبغض الطلاق ، وإنما يأمر به الشياطين والسحرة ، كما فى قوله تعالى فى السحر " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ويبعث جنوده ، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة ، فيأتى أحدهم فيقول : ما زلت حتى شرب الخمر ، فيقول : الساعة يتوب ، ويأتى الآخر فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته ، فيقبله بين عينيه ويقول : أنت أنت " .(1/36)
وهذا الحديث وإن كان فى بعض طرقه ضعف فإن كثرة طرقه تفيد أن له أصلا فى الجملة ، خاصة وقد وردت أحاديث أخرى تقويه ، كما أن الأمة تلقته بالقبول ، والقواعد العامة فى الفقه الإسلامى تؤيد القول بمعناه (1) .
فإن قيل : إن كون الطلاق مبغضا إلى الله عز وجل مناف لكونه حلالاً؟(2)
أجيب : بأن المراد من الحلال فى الحديث ما يقابل الحرام فيشمل المكروه أيضاً ، وهو المراد من الحديث بقرينة إضافة البغض إلى لفظة "الحلال" المذكورة فى الحديث . (3)
3 – ثم أن يكون الأصل الحظر فهذا ما يسوغه العقل ، لأن الطلاق دون سبب شرعى ، أو حاجة داعية إيذاء للغير وإيذاء الغير ممنوع ومحظور .
والراجح :
ما ذهبت إليه الكثرة من اعتبار الأصل فى الطلاق الحظر لقوة أدلته واتساقه مع مبادئ الشرع التى تؤكد على نعمة الزواج ، وصيانة الأسر عن التفرق والأولاد عن التشرد ، كما أن الحظر هو الأنسب لأبدية الزواج ولزومه ، فإن لم تكن حاجة وجب اعتبار الأصل فى الأبدية واللزوم .
وما تمسك به القائلون بأصل الإباحة فضعيف يحتمل الرد .
1 – أما الآية فقد بينا فى المبحث السابق إنها فى الطلاق قبل المسيس دون غيره (4) وعلى النحو الذى أوضحنا فهى تضعف قولهم ، لا أن تكون له سندا .
__________
(1) د. يوسف قاسم ص 294
(2) انظر : البحر الرائق 3/254 ، سبل السلام للصنعانى 3/168
(3) حاشية ابن عابدين 3/251 سبل السلام 3/247، 248 ، د. محمد سلام مدكور . الوجيز لأحكام الأسرة فى الإسلام نشر دار النهضة العربية 1978 ص 212 .
(4) انظر مجمع البيان للطبرسى 2/157 ، الشيخ على الخفيف : فرق الزواج فى المذاهب الإسلامية ص (15)(1/37)
2 – وما ورد من طلاق النبى صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه لم يثبت بخصوصه إنه كان بغير سبب يدعو إليه حتى يكون دليلا ، بل الظاهر من حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن طلاقهم كان للحاجة ، لأن الطلاق بلا سبب فيه ظلم للمرأة وإضرار بها دون سبب ، ونحن ننزه النبى وأصحابه عن ذلك (1) .
وبذا يصفو لنا القول بأن الأصل فى الطلاق الحظر فهو " تشريع استثنائى لا يلجأ إليه إلا عند الحاجة " (2) مع ملاحظة أن الرجل إن طلق بغير حاجة أثم " ديانة " أما فى القضاء فطلاقه واقع ، متى استوفى شروطه فى الإيقاع (3).
ثانياً : حكم الطلاق بالنسبة إلى الحالات الفردية :
إذا كان الأصل العام فى الطلاق هو الحظر ، فإنه بالنظر إلى بعض الحالات الفردية قد يبدو الحكم غير ذلك .
1 – فقد يجب الطلاق : وذلك متى كان الزوج عاجزا عجزا مطلقا عن أن يمسك زوجته بالمعروف مما يعرضها إذا استمرت الزوجية بينهما للعنت ، فيجب عندئذ التفريق بإحسان (4) .
2 – ويكون الطلاق مكروها : إذا كان لغير حاجة لما فيه من إلحاق الضرر بالزوج والزوجة ، وتفويت للمصلحة الحاصلة بالزواج من غير حاجة داعية إليه (5)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3/215، الإمام أبو زهرة ص ( 284 ) د. بدران أبو العينين . ص (311)، د. يوسف قاسم ص 294
(2) د. يوسف قاسم ص 294
(3) د. محمد البلتاجى . دراسات فى أحكام الأسرة ص ( 370 )
(4) السابق ص 369
(5) البحر الرائق 3/552 ، حاشية ابن عابدين 3/251 ، البهوتى " منصور ابن إدريس كشاف القناع عن متن الإقناع . نشر مكتبة نزار الباز ط أولى 1996 ، 5/2623 ، الشيخ محمد زيد الابيانى ، شرح الأحكام الشرعية فى الأحوال الشخصية 1/291 وقارن المغنى 10/83 .(1/38)
3 – ويكون الطلاق حراماً : إذا كان فى الحيض ، أو فى طهر جومع فيه(1)
4 – ويكون الطلاق مندوبا إليه : إذا وجد الرجل من تزوجها غير عفيفة لا يأمن إفسادها لفراشه وإلحاقها به ولدا ليس منه فلا ينبغى له إمساكها ، لأن فيه نقصا لدينه (2)
5 – ويكون مباحاً : وذلك عند الحاجة إليه ، لسوء خلق المرأة ، وسوء عشرتها والتضرر بها من غير حصول الغرض منها (3) .
ويختلف العلماء فى تقدير بعض الصور لكن الأمر المؤكد أن الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة .
المبحث الثالث
موقف التقنينات والمحاكم من الأصل فى الطلاق
يستخلص موقف القوانين والأقضية من قضية الأصل فى الطلاق على حسب موقفها من تقرير حق المطلقة دون سبب من قبلها فى تعويض أو عدمه .
ذلك أننا إذا قلنا إن الأصل فى الطلاق الحظر ما لم يكن سبب يدعو إليه فإن من يطلق والحال هذه يعد مضاراً – وبالتعبير الدارج متعسفا فى استعمال الحق – والمضار يغرم، وإن قلنا الأصل الإباحة فلا غرم وإن لم يكن سبب أو مسوغ شرعى .
أولاً : منذ زمن غير قصير والمحاكم المصرية تقف من هذه القضية موقفين :
1- فقد ذهب بعضها إلى حق المطلقة فىالتعويض إذا كان استعمال المطلق لرخصة الطلاق قد شابه تعسف فى استعمالها .
__________
(1) انظر الجصاص " أبو بكر أحمد بن على " أحكام القرآن ط دار الكتب العلمية الأولى 1994 1/459 ، شرح النووى على صحيح مسلم 5/324 ، البغوى " الحسين بن مسعود " شرح السنة بتحقيق وتعليق وتخريج سعيد اللحام . نشر دار الفكر 1994 5/433- 424 ، ابن القيم " محمد بن أبى بكر " زاد المعاد فى هدى خير العباد نشر المكتبة القيمة ط أولى 1989 4/71 وما بعدها ، د يوسف قاسم ص 296 .
(2) السابق ص ( 295)
(3) السابق ص 295 وقد أشرنا قبلا إلى أن الإمام النووى قد أسقط المباح من أقسام الطلاق .(1/39)
وفى ذلك تقول محكمة استئناف القاهرة فى حكمها الصادر فى 22/2/1958 " إن القول بأن الشريعة الإسلامية تجيز الطلاق ، لمجرد رغبة الزوج فى الخلاص من الزوجة ، وأنه لا يترتب عليه أية مسئولية غير التى خولها الشرع للمطلقة ، من مؤخر صداق ونفقة ومتعة ، لأن الطلاق يعود إلى رغبة المطلق الشخصية ، وهى التخلص من زيجة لا يجد فيها مودة ولا رحمة بحسب رأيه هو ، لأنها مسألة نفسية يجب سترها ، ولا يجوز أن تعرض على القضاء ، هذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه فى دين الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد أوجبا معاشرة الزوجات بالحسنى ، ونهيا عن العجلة وعدم التمهل فى الطلاق، فإن وقع الطلاق ولو أن أحكاما تترتب عليه ، إلا أنه يكون مخالفا لنصوص القرآن والسنة ، ويكون موقعه آثماً وخارجاً على الشريعة ، فإن الطلاق شأنه شأن سائر الحقوق يخضع لإشراف القضاء ، فإن تبين أن استعماله كان لغرض غير مشروع قضى بالتعويض طبقا للمادتين 4 ، 5 من القانون المدنى " (1) .
وبهذا حاكت محكمة الاستئناف قضاء محكمة مصر الوطنية فى 20 يناير 1926 بأنه " ليس من المروءة ولا الإنسانية والإيمان بالله أن يتزوج شخص بامرأة وبغير سبب يطلقها ، فهو باستعماله ذلك الحق قد أساء إلى الحق ، وإلى نفسه ، وإلى غيره ، وليس لصاحب الحق شرعا أن يسئ إلى الغير " (2) .
__________
(1) انظر ، مجلة المحاماة س 39 ص 857
(2) ذكره مولاى محمد على فى كتابه الطلاق فى الإسلام ص 52 .(1/40)
ويبدو من قضاء النقض القديم تقبل هذا الاتجاه . فقد قضت محكمة النقض المصرية فى 20/2/1940 بأن " تعهد الزوج بتعويض زوجته لا يخالف الشريعة الإسلامية ولا النظام العام ، وإنما ينتفى الالتزام بالتعويض إذا كانت الزوجة هى التى دفعت بفعلها إلى تطليقها"(1).
ويعلق بعض الفقهاء على هذا الحكم قائلا إن محكمة النقض تكون بهذا الحكم قد أقرت مبدأ التعويض عن استعمال حق الطلاق فى الحالة التى لا تكون الزوجة هى الدافعة إليه. (2)
__________
(1) المحاماة س 20 ص 1146 ، كما قضت محكمة النقض فى 30/1/1963 – مجموعة المكتب الفنى س 14 أحوال شخصية ص 189 بأن " الحقوق الشرعية المترتبة على عقد الزواج – كالمهر والنفقة – لا تدخل فى التعويض الذى يقضى به عند الطلاق التعسفى " وانظر أحكاما أخرى للمحاكم الأدنى مشارا إليها فى رسالة الدكتور السعيد مصطفى السعيد . مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به فى الشريعة الإسلامية والقانون المصرى الحديث ص 249 .
(2) م حسين عامر . نظرية التعسف وسوء استعمال الحقوق ط 1974 ص 210(1/41)
2- وعلى نقيض ذلك تماماً ذهبت بعض المحاكم إلى رفض الحكم بالتعويض للمطلقة مبررة قضاءها بأن من طلق زوجته ولو بدون سبب ظاهر فهو مستعمل حقه الشرعى، ولم تكن منه إساءة تستوجب مسئوليته عن الضرر الذى يلحق الزوجة بسبب الطلاق(1)
ثانياً : ويقف الفقه من هذين الاتجاهين القضائيين موقفين متضاربين أيضاً :
__________
(1) انظر مثلا – استئناف مصر فى 18/12/1927 وأحكاما أخرى مشارا إليها . فى الوسيط الدكتور عبد الرازق السنهورى 1/937 ( هامش ) ، رسالة الدكتور السعيد ص (250) . ومما جاء فى حكم الاستئناف المشار إليه " أن المادة (16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية قد صرحت بمنعها من النظر فى مسائل الأنكحة وما يتعلق بها من قضايا المهر والنفقة وغيرها ، وحسنا فعل واضع القانون بحجر ذلك عليها ، لأن السماح به يفتح بابا واسعا فى الخوض فى أسرار البيوت وفى أخفى العلاقات وأجدر بأسباب الطلاق الستر وهذه حكمة تحديد القوانين الفقهية للتعويض بنفقة العدة ، وأن الجرى على خلاف ذلك قد يكون فيه إحراج للأزواج وإلزامهم معاشرة من لا يطيقون معاشرتهن من النساء لعيوب نفسية أو خلقية وفى ذلك من نكد العيش على الزوجين ما لا يخفى " .(1/42)
فبينما ترى ثلة من الفقهاء والشراح : أن القضاء بعدم الحق فى التعويض أرجح وأقرب إلى المبادئ الإسلامية لأن الحاجة إلى الطلاق قد تكون نفسية لا تجرى عليها وسائل الإثبات ، وقد تكون مما يجب ستره وعدم الخوض فيه وتقرير الحق فى التعويض يدفع المطلوب به إلى إذاعة ما ينبغى ستره من أسرار فيكون فى ذلك من التشهير والحط بكرامة الزوجين ما يتضاءل بجانبه أى اعتبار مادى (1)
__________
(1) انظر مثلا : الشيخ أبو زهرة ص ( 285 ) د. بدران أبو العينين ص ( 311 ) وما بعدها ، د. زكى الدين شعبان – الأحكام الشرعية فى الأحوال الشخصية ص (378) د. عبد المجيد مطلوب أحكام الأسرة ط 1984 ص 236- 238 ، د. عبد الناصر العطار . الأسرة وقانون الأحوال الشخصية رقم 100 لسنة 1985 نشر المؤسسة العربية الحديثة 1985 ص ( 153 )(1/43)
بينما يرى بعض الفقه ، ذلك فإن فريقا أخر يناصر القضاء بالتعويض للمطلقة ، ويرى فى إيجاب الشرع المتعة للمطلقة أساساً للحق فى التعويض ، كما إن هذا الحق يتخرج أيضاً على قول بعض فقهاء السلف بحق المطلقة طلاق فرار في الإرث من تركة مطلقها الذى أوقع الطلاق فى مرض موته ، معاملة له بنقيض قصده ، على أن الناس قد تغيرت أخلاقهم ، وظروف المجتمع قد تبدلت فكثرت الإساءات لضعف الوازع الدينى ، وأصبح الحال محتاجاً إلى تدخل الحاكم لمراقبة استعمال حق الطلاق ، ومجازاة المسئ على إساءته (1)
ثالثاُ : وتتجه أكثر التقنينات إلى الأخذ بمبدأ التعويض عن الطلاق التعسفى :
غير أن بعضها تعسف هو أيضاً فى تقرير هذا الحق فأساء ولم يحسن، والبعض الأخر اكتفى بتقرير المتعة واعتبارها بمثابة التعويض عما يلحق الزوجة من ضرر بسبب الطلاق .
__________
(1) الدكتور على حسب الله الفرقة بين الزوجين ص ( 113 ) ، العلامة أحمد محمد شاكر . نظام الطلاق فى الإسلام ص ( 126) د. السعيد مصطفى . الرسالة السابقة ص (253) ، د. سلام مدكور ص (214) وما بعدها ، د. محمد البلتاجى . دراسات فى أحكام الأسرة ص ( 399) وما بعدها ، د. عبد الرحمن الصابونى . نظام الأسرة وحل مشكلاتها ص (130) وما بعدها ، د. يوسف قاسم ص (379) ، وبوجه عام فإن عامة الفقهاء المعاصرين تذهب إلى القول بتقرير حق المطلقة بغير سبب من قبلها فى التعويض، بل إن المؤيدين للقضاء الرافض للتعويض وكما يبدو من جملة عباراتهم ، يرفضون-الاسم-التعويض – لا المسمى ، حيث يقولون " إن ما يترتب على الطلاق من التبعات المالية كدفع مؤخر الصداق ونفقة العدة ، والمتعة لمن تجب لها من المطلقات يعد تعويضاً للزوجة عن الضرر الذى يكون قد لحقها بسبب الطلاق " فكأن ما يتوجه إليه الرفض هو التعويض الزائد على المتعة ، أما المتعة كتعويض فلا اعتراض عليها .(1/44)
ومن الفئة الأولى : قانون الأحوال الشخصية التونسى (1)، ومشروع القانون العربى الموحد للأحوال الشخصية .
__________
(1) جاء فى الفصل (31) من القانون التونسى يحكم بالطلاق بأمور منها :
تراضى الزوجين .
بناء على طلب أحد الزوجين بسبب ما حصل له من ضرر .
بناء على رغبة الزوج إنشاء الطلاق ، أو مطالبة الزوجة به . ويقضى لمن تضرر من الزوجين بتعويض عن الضرر المادى والمعنوى الناجم عن الطلاق فى الحالتين المبينتين فى الفقرتين 2،3 وبالنسبة للمرأة تعوض عن الضرر المادى بجراية تدفع لها بعد انقضاء العدة مشاهرة وبالحلول ، وعلى قدر ما اعتادته من العيش فى ظل الحياة الزوجية بما فى ذلك المسكن ، وهذه الجراية قابلة للمراجعة ارتفاعا وانخفاضا بحسب ما يطرأ من تغيرات، وتستمر إلى أن تتوفى المفارقة أو يتغير وضعها الاجتماعى بزواج جديد ، أو بحصولها على ما تكون معه فى غنى عن هذه الجراية . نقلا عن الدكتور محمود على السرطاوى . شرح قانون الأحوال الشخصية الأردنى – القسم الثانى . من منشورات الجامعة الأردنية 1995 ص (44) وانظر فى قضاء النقض التونسى تطبيقا لهذا الفصل دراسة للأستاذ مكى إبراهيم لطفى ، بمجلة القضاء العراقية س 31 ع1 ، 2 ص (155) وما بعدها ، وانظر أيضاً . دراسة للأستاذ محمد منصور تحت عنوان أحكام الزوج المستحدثة بالتشريع التونسى . منشور بمجلة الحق التى يصدرها اتحاد المحامين العرب س 5 ع2 ص (55) .(1/45)
وقد جاء فى هذا الأخير م (97) فقرة (ب) " للمطلقة حق طلب التعويض إذا تعسف المطلق فى استعمال حقه فى الطلاق ، ويقرره القاضى بما لا يزيد على نفقة ثلاث سنين " . وهذا فضلا عن المتعة التى أوجبها المشروع ( م 97 فقرة أ ) لكل مطلقة مدخولا بها . (1)
ومن الفئة الثانية : قوانين الأحوال الشخصية فى : مصر (2)
__________
(1) ويظهر الشطط فى هذا الاتجاه بتقرير الحق فى التعويض للمطلقة زائداً على المتعة ، وهو كما يظهر من نص المشروع حق لازم ليس للقاضى أن يسقطه متى ثبت تعسف الزوج فى الطلاق ، وحق مطلق لا يتقرر بمناسبة الضرر الزائد عن مجرد إيحاش المرأة بالفرقة ، والتى كفل الشرع علاجها بالمتعة ، ولكنه يتقرر فى كل حال ، مما يعنى أن المرأة ستعوض عن الضرر الواحد مرتين مرة على أساس المتعة ، وأخرى بتعويض أخر . ثم إنه خارج على قواعد التعويض المبنية على الضرر ، حيث قدر التعويض بالنفقة وليس بقدر ما يلحق المطلقة من ضرر . أما الاتجاه التونسى فقد ألزم الرجل ما لا يلزمه ، بل ألزمه ما يقع على كاهل المجتمع بأسره – من كفالة كل فرد محتاج إما بتأمين العمل له ، أو بتوفير العيش الكريم له – وجعله على عاتقه دون سواه ، وفضلا عما فى ذلك من مفارقة غاية فى الغرابة لأحكام النفقة ، فإنه شطط فى إهدار حق الرجل كمواطن فى أن يتحمل من الأعباء ما ينبغى أن تتحمله الدولة.
(2) وقد نص على هذا الحق لأول مرة فى قوانين الأحوال الشخصية فى مصر بالمادة 18 مكررا والمضافة بالقانون 44 لسنة 1979 ، والتى بقيت بنصها فى القانون 100 لسنة 1985 ونصها :
" الزوجة المدخول بها فى زواج صحيح إذا طلقها زوجها دون رضاها ، ولا بسبب من قبلها تستحق فوق نفقة عدتها متعة تقدر بنفقة سنتين على الأقل ، وبمراعاة حال المطلق يسرا وعسرا ، وظروف الطلاق ومدة الزوجية ، ويجوز أن يرخص للمطلق فى سداد هذه المتعة على أقساط"(1/46)
وسوريا(1) ، والمغرب(2) والسودان (3) ، وقانون حقوق العائلة اللبنانى (4)
__________
(1) حيث تنص المادة (117) من القانون السورى على أنه " إذا طلق الزوج زوجته وتبين للقاضى أن الزوج متعسف فى طلاقها دون ما سبب معقول ، وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة ، جاز للقاضى أن يحكم لها على مطلقها بحسب حالة ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز نفقة ثلاث سنوات لأمثالها ، فوق نفقة العدة وللقاضى أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهريا بحسب مقتضى الحال " .
(2) فتنص المادة (60) من القانون المغربى على أنه " يلزم كل مطلق بتمتيع مطلقته إذا كان الطلاق من جانبه بقدر يسره وحالها ، إلا التى سمى لها الصداق ، وطلقت قبل الدخول ، فلها نصف المسمى "
(3) حيث تنص المادة (138) من القانون 42 لعام 1991 والمسمى " قانون الأحوال الشخصية للمسلمين " على أنه :
تستحق المطلقة المتعة ، سوى نفقة العدة ، حسب يسر المطلق ، بما لا يجاوز نفقة ستة أشهر .
تستثنى من أحكام البند (1) الحالات الآتية ، وهى :
أ ) التطليق لعدم الإنفاق بسبب إعسار الزوج .
ب) التفريق للعيب إذا كان بسبب من الزوجة .
جـ) التفريق بالخلع أو بالفدية ، أو على مال .
(4) فقد نص على المتعة فى المادة (84) .(1/47)
والقوانين فى هذا آخذة بقول جمهور العلماء فى وجوب المتعة لكل مطلقة بإرادة الزوج أو بسبب من قبله (1) وبقول الجمهور أيضا أن المتعة لا تحد بقدر ، وإنما هى إلى اجتهاد الحاكم وتقديره ، وتختلف فى ذلك باختلاف الأعراف(2)
الفصل الثالث
التدابير المقترحة للحد من الطلاق
المبحث الأول
لا يقع الطلاق إلا بتوافق الزوجين على إيقاعه
نوهنا فى مستهل الفصل الثانى أن بعض المعاصرين ينادون بعدم وقوع الطلاق إلا بتراضى الزوجين عليه ، بحجة أن الطلاق إنهاء لعقد لا ينشأ إلا بإرادتين – وهو عقد الزواج – فكيف يستبد أحد العاقدين فقط بإنهائه ؟
__________
(1) راجع فى هذا الكاسانى " أبو بكر بن مسعود " بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع ط دار الكتب العلمية 1986 2/302 وما بعدها القرطبى 3/199 ، الماوردى " على بن محمد بن حبيب " الحاوى الكبير ط دار الفكر 1994 12/101 وما بعدها ، المغنى – مع الشرح الكبير 9/584 ، الفخر الرازى " محمد بن الحسين " التفسير الكبير ط دار إحياء التراث العربى . الثانية 1997 2/476 .
(2) القرطبى 3/200 وما بعدها ، الرازى 2/477 ، الحاوى الكبير 12/103 وما بعدها ، المغنى 9/589 وما بعدها .(1/48)
وبأدنى تأمل فى أسباب التطليق فى الغرب المسيحى (1) والتى عرضنا لطرف منها نجد أن المنادين بهذه الصيحة متأثرون جدا بتقنينات الغرب دون مراعاة لآثار الطلاق المالية والتى تقع – من منظور الإسلام – أصلا على عاتق الرجل ، بينما يتحمل غرم الطلاق فى الغرب طالبه .
ومع أن دعوى جعل الطلاق متوقفا على إرادة الزوجين تغفل أنه مع إقرار هذا النظام قلما يمكن إنهاء الزوجية التى لا خير في بقائها ، فقد تدعو الضرورة أحد الزوجين إلى التخلص من الزوجية بينما يتمسك الآخر ببقائها ، ولا يوافق على فصم عراها ، "كما إذا أرادت الزوجة الفرقة لمرض الزوج مرضا لا يرجى شفاؤه منه ، أو أراد الزوج التخلص من زوجته لسوء سلوكها ، والريبة فى عفتها " (2)
مما يجعل مفسدة هذا النظام أعظم من المصلحة المرتجاة منه ، حيث يترتب عليه أحد أمرين :
أولهما : بقاء العلاقة مع ما يكتنفها من بغض وكره وريبة لها أثرها المباشر على النشء ، واحتمال وقوع ما لا يحمد عقباه من أحد الزوجين على الآخر .
__________
(1) والجدير بالذكر أن المحاكم المصرية تجمع على رفض اعتبار الاتفاق سببا من أسباب التطليق فى شريعة الأقباط الأرثوذكس ، استنادا إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر الزواج نظاما دينيا ، وأن القواعد التى تكون منها هذا النظام قواعد آمرة ، لا يملك الزوجان الاتفاق على مخالفتها . وفى الحالات التى قضت فيها المحاكم الوطنية ، أو المجالس الملية – قبل إلغاءها – بالتطليق بناء على الاتفاق تم الحكم بالتحايل . راجع الأستاذ الدكتور العميد إيهاب حسن إسماعيل . انحلال الزواج فى شريعة الأقباط الأرثوذكس ص 227- 232 والأحكام المشار إليها فى هوامش الصحائف المذكورة .
(2) د. بدران أبو العينين ص 308 .(1/49)
الثانى : اضطرار الطرف الراغب فى الفرقة إلى اللجوء إلى القضاء ، وبدهى أنه مع الخصومة يسعى كل طرف إلى تقوية جانبه ، وإضعاف موقف الطرف الآخر ، وغالبا ما لا يرعى فى خصمه عهدا ولا عشرة ، فيفضح ما أمر به الله أن يستر ، وربما ينجح ، بشهود الزور ، فى تأكيد ادعاءات ملفقة تسئ إلى الآخر أيما إساءة ، فيشقى بها هو وبنوه ما عاشوا ، خاصة فى عصر الصحافة الصفراء .
أقول ومع ذلك فإن بعض التقنينات التى تنتمى إلى العالم الإسلامى قد أخذت بهذا النظام وجعلته الطريق الأول لإنهاء رابطة الزوجية ، ومن ذلك القانون التونسى الذى ينص فى ا لمادتين 30، 32 منه على أن :
لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة ، ويحكم بالطلاق فى الحالات الآتية :
أولا : بتراضى الزوجين " .
وكان قانون الأسرة اليمانى – قبل الوحدة – ينص فى المادة ( 25 ) منه على أنه"(أ) يمنع الطلاق من جانب واحد " ولكن والحمد لله مع رجوع الوحدة إلى شطرى اليمن ألغى هذا القانون ، بينما لم يزل القانون التونسى قائما ، وينادى بعضهم بتعميم حكمه فى التقنينات العربية الأخرى ، خصوصا فى ظل اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو ) والتي تبنت – كما قلنا - توصية المجلس الاجتماعى لهيئة الأمم المتحدة والصادرة فى 1965 والتى تقضى "بوجوب تمتع الزوجين بذات الحقوق ، وتوافر ذات الأسس القانونية فى إجراءات الطلاق ، أو فسخ الزواج أو التفريق القضائى " .
ومن المنظور الفقهى الإسلامى فإن دعوى الطلاق بتوافق الارادتين عليه إنما ترفض بايجابها كأحد طريقين لا ثالث لهما فى الفرقة ، فالقائلون بها يوجبونها كسبب يحتم على القاضى الحكم بالتطليق .
ولكنها كطريق لإيقاع الطلاق فضلا عن حق الرجل فيه ، وحق المرأة فى طلبه من القضاء أمر مقبول شرعا ، لأنه يجنب الطرفين المنازعة والشقاق ، ويرفع عن كاهل القضاء عبء اللجج والخصومة ، وقد قاربه الإسلام إذ أخذ بنظام شبيه هو نظام الخلع.(1/50)
والخلع فى اللغة بمعنى النزع والإزالة ، وقد غلب فى العرف استعماله لإزالة الزوجية .
وللخلع فى الاصطلاح الفقهى تعريفات يجمعها معنى الفرقة بعوض يأخذه الزوج .
والأصل فى مشروعية الخلع :
قول الله تعالى " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " (1)
والحديث الصحيح الذى رواه ابن عباس رضي الله عنه " أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ما أعيب عليه فى خُلُق ولا دين ولكنى أكره الكفر فى الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، قال صلى الله عليه وسلم لثابت " اقبل الحديقة وطلقها تطليقه "
ومن الآية والحديث أخذ جمهور العلماء القول بمشروعية الخلع ، ومن قال بغير ذلك فقد شذ .
وقد لوحظ فى الآية :
أن الله سبحانه سمى الخلع فدية ، ومنه أخذ جمهور العلماء أن ذلك " دليل على أن فيه معنى المعاوضة ، ولهذا اعتبر فيه رضى الزوجين " .
ولا يتوقف على حكم حاكم ، قالوا " ولا يجبره السلطان على ذلك "
وروى عن سعيد بن جبير والحسن البصرى وابن سيرين أن الخلع إلى السلطان واختاره أبو عبيد .
والجمهور على أن الخلع تطليقه بائنة ، وقال بعض الصحابة وبعض التابعين والشافعى فى أحد قوليه أن الخلع فسخ ، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور والناصر – فى أحد قوليه – وابن المنذر .
والذى يهمنا التنبيه عليه أن الخلع كطريق فى الفرقة يعتبر فيه رضى الزوجين ولا يتوقف على حكم حاكم ، وهذا هو القول الغالب فى الفقه الإسلامى(2).
المبحث الثانى
لا يقع الطلاق إلا بحكم قضائى
__________
(1) البقرة آية 229
(2) انظر : الجصاص 1/473- 481 ، القرطبى 3/140 – 147 ، صحيح البخارى وفتح البارى 9/477- 478، شرح السنة للبغوى 5/416- 419 ، نيل الأوطار 6/246- 251 ، د. محمود على السرطاوى . شرح قانون الأحوال الشخصية الأردنى – القسم الثانى . انحلال الزواج ص 191- 193 .(1/51)
منذ أن أصدر الأستاذ قاسم أمين كتابه تحرير المرأة سنة 1902 م واقترح فيه نظاما للطلاق بمقتضاه " لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضى أو المأذون ، وبحضور شاهدين ، ولا يقبل إثباته إلا بطريقة رسمية (1) والمطالبة بهذا القيد فى إيقاع الطلاق لا تنقطع ، بل أفسحت لها بعض التقنينات العربية مكانا فى أحكامها محاكاة للنموذج التركى الأتاتركى ، من ذلك مثلا القانون العراقى الذى نص فى المادة ( 39 ) منه على أن :
1- على من أراد الطلاق أن يقيم الدعوى لدى المحكمة الشرعية ، ويطلب إيقاعه واستحصال حكم به ، وإذا تعذر عليه مراجعة المحكمة وجب عليه تسجيل الطلاق فى المحكمة خلال مدة العدة .
2- تبقى حجة الزواج معتبرة إلى حين إبطالها من قبل المحكمة :
وعلى الرغم من أن النص ، على طلاقة الفقرة الثانية ، يعتد بالعلاقة بعد انفصامها شرعا إلى حين إبطالها من قبل المحكمة ، متى وقع الطلاق خارج المحكمة ، فإن بعض الفقه العراقى ينتقده ، لا لاعتبار الباطل ،ولكن لأنه أجاز إيقاع الطلاق خارج المحكمة (2) .
لذا فإن مطالبة الأستاذ قاسم وتصرف المقنن العراقى لم يعدا كافيين فى نظر المتعصبين والمتعصبات لدعوى إيقاع الطلاق أمام القضاء ، فنادوا بأن يكون إيقاع الطلاق بيد القاضى وحده ، على غرار ما يجرى عليه العمل فى قوانين غير المسلمين ، واعتبروا أن ما أخذ به المقنن التونسى من عدم إيقاع الطلاق إلا بحكم القاضى – المواد (30- 32 ) – خطوة إصلاحية هائلة ينبغى أن يقتفى أثرها المقننون الأخر ، خاصة وأن المجلس الاجتماعى لهيئة الأمم المتحدة قد أوصى منذ سنة 1965 م " بعدم جواز إيقاع الطلاق أو التفريق القضائى إلا بواسطة سلطة مختصة مع وجوب تسجيله قانونا " ، علما بأن قرارات هيئة الأمم المتحدة ملزمة لكافة الدول الأعضاء .
__________
(1) تحرير المرأة ص 135 .
(2) الأستاذ مكى إبراهيم لطفى . البحث السابق ص 149 وما بعدها .(1/52)
ويستندون فى مطلبهم هذا إلى الحجج الآتية :
1- أنه ليس فى القرآن ما يمنع من اللجوء إلى القضاء لتقرير الطلاق ، بل على العكس من ذلك ، فقد ورد ما يؤيده كقوله تعالى " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "(1) (وقوله " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " (2)فهذه إشارة واضحة إلى أفضلية القيام بمحاولات الصلح والتحكيم قبل الطلاق من قبل القضاة والمحكمين .
2- يعتبر القضاء أجدر من يستطيع القيام بمهمة المصالحة والتحكيم خاصة بعد انتشار المؤسسات القضائية انتشارا واسعا فى الدول العربية ، حيث سيقوم بتدقيق تقارير المحكمين ، كما أن إجراءاته الطويلة ووجود الباحثات الاجتماعيات ستتيح الفرصة أمام الزوجين للاهتمام بمصير الأسرة والأولاد ، وقد تنتهى محاولات القضاء بإصلاح ذات البين بين الزوجين .
3- إن الاستعانة بالقضاء يتفق مع القاعدة الشرعية القانونية العامة التى تقضى بالقوة الملزمة للعقود ، التى لا يجوز للطرفين المتعاقدين التحلل منها إلا بالتراضى أو التقاضى، لا بإرادة منفردة فحسب .
4- إن الزواج عقد شكلى لا ينعقد إلا إذا روعيت فيه شكليه معينة ، ولا تسمع دعواه – عند الإنكار – إلا إذا كان موثقا ، فكذلك ينبغى مراعاة شكلية معينة فى إنهائه ، ولتكن هذه الشكلية فى إيقاعه بمعرفة القاضى .
__________
(1) النساء الآية ( 35 ) .
(2) النساء الآية ( 128 ) .(1/53)
5- إن استبداد الرجل بأمر الطلاق إنما كان مقبولا فى عصر كانت فيه المرأة محجبة جاهلة تعيش فى الحريم ، أما الآن فالأمر يختلف حيث تعلمت المرأة وتساوت بالرجل مساواة تكاد أن تكون تامة ، وشغلت أرفع المناصب ، فليس من المقبول والحال كذلك أن يستبد الرجل بالطلاق (1) .
هذه أظهر حججهم، والأخيرة منها على وجه خاص تتضمن المنهج الحقيقى الذى يصدر عنه القائلون بذلك ، هذا المنهج الذى لا يقبل التسليم بصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويرى أن ما صلح للبيئة العربية الأولى لا يلائم البيئة المعاصرة بكل ما طرأ عليها من تطور فى العلوم ومظاهر الحياة ، والعلاقات الاجتماعية ، ويتمسك هذا المنهج بتفسير للنصوص أطلق عليه " الدلالة التاريخية للنص " وفحواه ما ذكرنا.
والحقيقة أن الخلاف فى أمر حق إيقاع الطلاق خلاف عقدى بين فريقين ، يؤمن أحدهما بأن النص متبوع لا تابع ، وما دامت النصوص قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك اختصاص الرجل بحق إيقاع الطلاق دون توقف على رضا الزوجة أو حكم القضاء فلا مجال للالتفاف حوله ، وإن خفيت علينا حكمة هذا الاختصاص فى الواقع ، لأنه من عند الله الأعلم بما يصلح لخلقه .
__________
(1) الأستاذ مكى إبراهيم لطفى ص 146- 148 ، المستشار محمد الدجوى الأحوال الشخصية للمصريين المسلمين ص 171- 174 نقلا عن د. البلتاجى ص 353 وما بعدها .(1/54)
بينما يؤمن الفريق الثانى أن الوحى واقعة تاريخية ، وأن كل نص ينبغى أن يعيش فى البيئة التى يطبق فيها ، ويحيا حياة متصلة بما يحيط به من ملابسات وينفصل انفصالا تاما عن المصدر التاريخى الذى أخذ منه ، أيا كان هذا المصدر، ونظرا لأن العقل هو السلطة التى يتأسس عليها الوحى ذاته ، وهى سلطة اجتماعية وتاريخية ، لذا فإن العقل ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة(1)
إذن فمستند المنهج القائل بتقييد إيقاع الطلاق بمعرفة القاضى وحده ليس رعاية المصلحة العامة كما يزعم ، ولا حماية المرأة من عسف الرجل كما يدعى، ولا احتمال النصوص لهذا التقييد كما ظهر من بعض حججه .
وإنما المستند فى صراحة ومكاشفة أن العقل متبوع ، والوحى تابع ، حيث إن الثانى – يعنون الشرع - يتأسس – كما يتوهمون- على سلطة الأول ، أي العقل .
وأبلغ دليل على ذلك أنهم بينما يوصون أنه " لا يطلق الرجل امرأته إلا أمام القاضى وبعد بيان الأسباب " فإنهم يوصون بأن " للزوجة أن تطلب من القاضى طلاقها دون بيان الأسباب (2) .
وعلى ذلك فإنه لا جدوى من تبصيرهم بأن الذى يظهر لنا من حكمة الشرع فى اختصاص الرجل بحق الطلاق هو استهداف الستر على خبايا البيوت وصيانة أسرار الأسرة ، وحفظ المجتمع عن شرور أولى له أن لا تشاع .
__________
(1) انظر مثلا : الأستاذ زكى نجيب محمود . تجديد الفكر العربى ص 79- 80 ، د. نصر أبو زيد نقد الخطاب الدينى مواضع متفرقة وانظر خاصة ص 130 ، 131 ، 132 ، 190 ، 197- 225 ، الأستاذ مكى إبراهيم لطفى ص 139 هامش وهو يشير فى ذلك إلى وسيط الدكتور السنهورى ط 1964 ، 1/9 ، 60 ،61 .
(2) انظر مثلا التوصيتين العاشرة والحادية عشرة من توصيات مؤتمر النساء المثقفات الذى عقد برئاسة الدكتورة حكمت أبو زيد . نقلا عن د. البلتاجى ص 352 ، 353 هامش .(1/55)
وكذلك إنهاء زوجية لم تستقم عشرتها لأسباب نفسية يعسر على القاضى إثباتها ، وإقامة الدليل عليها ، فإن طلق القاضى بغير سبب ثابت لم يحقق الهدف من التقييد ، وكان طلاقه كطلاق الرجل مما يهدر علة التقييد (1) .
ومع أننا – وإزاء هذا الخلاف العقدى – نشك فى جدوى تبصرة المخالفين بالحق ، إلا أننا لا نستطيع فكاكا من تفنيد حججهم ، حتى لا يدخل بها على العامة فيظنوها إصلاحا ، ورأيهم أبعد ما يكون عن ذلك ، فأقول وبالله التوفيق :
__________
(1) انظر مثلا : الإمام أبو زهرة ص 281 ، 282 ، د. بدران أبو العينين ص 309 ، د. محمد البلتاجى ص 356 ، 357 .(1/56)
1- أما قولهم إن القرآن يشير إلى أفضلية القيام بمحاولات الصلح والتحكيم قبل الطلاق فإنه حق ، بل إن الخطاب القرآنى لا يدل على ذلك إشارة وإنما نصا (1) ، ولا يرشد إلى محاولة الصلح ندبا بل يوجبها إيجابا لازما (2) ولكنه لا يشير بحال إلى قطع حق الرجل فى الطلاق لا كلية بالاتفاق ، ولا فى خصوص حالة الشقاق على رأى جمهور العلماء ، وظاهر الآية يؤيده ، لأن الله سبحانه وتعالى غيّا مهمة الحكمين بإرادة الإصلاح فقال " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " وهذا يقتضى أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما (3)
__________
(1) العبارة والإشارة دلالتان من دلالات النصوص على معانيها غير أن بينهما بونا ليس بالهين عند غير أهل الاختصاص ، فضلا عن ترجيح ما تفيده الدلالة الأولى على ما تفيده الدلالة الثانية عند التعارض . وتعرف دلالة النص أو العبارة بأنها " دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها ، المقصود من سياقها أصالة أو تبعا " أما دلالة الإشارة فتعنى " دلالة النص على معنى لازم له يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه لا أصالة ولا تبعا ، ولا يتوقف عليه صدق الكلام ، ولا صحته شرعا ، ويحتاج إدراكه إلى نوع من التأمل " . انظر د. عبد المجيد مطلوب طرق استنباط الأحكام من النصوص نشر دار النهضة العربية 1993 ص 10/12 .
(2) قال الإمام ابن العربى 1/421 " هى من الآيات الأصول فى الشريعة ولم نجد لها فى بلادنا أثرا ، بل ليتهم يرسلون إلى الأمينة – هكذا نصه ولعله أراد الأمناء – فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزوا ، وقد ندبت – أى دعوت – إلى ذلك فما أجابنى إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد ، …. فلما ولانى الله الأمر أجريت السنة كما ينبغى ، وأرسلت الحكمين ، وقمت فى مسائل الشريعة كما علمنى الله سبحانه وتعالى من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة " .
(3) انظر الإمام الشافعى " محمد ابن إدريس " الأم ط دار الشعب 5/104 ، أحكام القرآن للجصاص 2/242 ، شرح السنة للبغوى 5/415 – المغنى مع الشرح الكبير – 9/748 ، المحلى 11/319 – 321 ، الحلى الجعفرى . المختصر النافع ط دار الكتاب العربى بمصر ص 191 ، الشيخ يوسف الفقيه وولده الشيخ على . الأحوال الشخصية فى فقه أهل البيت ط دار الأضواء الأولى . لبنان 1989 ص 290 ، ابن كثير " إسماعيل " تفسير القرآن العظيم تحقيق الشيخ محمد الصادق قمحاوى . نشر مكتبة جمهورية مصر ، مكتبة النهضة الإسلامية 1980 1/493 .(1/57)
.
وما قيل فى آية الشقاق يقال فى آية الصلح " وإن امرأة خافت من بعلها" فهى تندب إلى حرص المرأة على التئام شمل الأسرة ، ولو بتنازل عن بعض حقوقها ، ففى هذا خيرية لكليهما ، بل للمجتمع عموما (1) ولكنها لا تدل بأى طريق على نزع حق الطلاق من يد الرجل.
2- قالوا : القضاء أجدر من يستطيع القيام بمهمة المصالحة والتحكيم إلخ .
وهذا أيضا حق ، لكنه عصى على التطبيق الفعلى ، إذ على الرغم من النص قانونا على اشتراط محاولة الصلح وعدم التطليق للضرر إلا بعد إثبات عجز القاضى عن الإصلاح بين الزوجين " وفقا للمادة 6 من القانون 25 لسنة 1929 " فإن غاية ما تمخض عنه العمل أنه " يتعين على المحكمة أن تثبت قيامها بعرض الصلح على الطرفين وإثبات ذلك ، يستوى أن يقبله الطرفان أو أحدهما ، وهذا فى حد ذاته كاف لإثبات عجز المحكمة عن الإصلاح بين الزوجين ، وقد قضى بأن عرض الصلح على الطرفين أمام محكمة أول درجة ، ورفض الزوجة ، كاف لتحققه فى الدعوى ، ولا محل لإعادة عرضه مرة أخرى فى الاستئناف " (2) .
__________
(1) انظر د. كوثر كامل على سمو التشريع الإسلامى فى معالجة النشوز والشقاق بين الزوجين. نشر دار الاعتصام 112- 118 .
(2) المستشار أحمد نصر الجندى . التعليق على قانون الأحوال الشخصية نشر دار الكتب القانونية . المحلة الكبرى ص 254 وقد ساق سيادته طائفة كبيرة من أحكام النقض فى هذا الموضوع ص 254- 255(1/58)
ولا يعنى هذا أننا نهمل الدعوة إلى الصلح وضرورة بعث الحكمين ، لأن ذلك مما لا يليق بمؤمن ، ولكننا نقول هى وسيلة وقائية نأمل أن تحقق الغرض منها ، ولكننا لا نسلم البتة أن تكون مقدمة للنتيجة المستهدفة ، لأن حماية شمل الأسرة شئ وغصب الحق فى الطلاق شئ آخر ، لا سيما وقد ثبت من التطبيق إن إرادة الصلح الحقيقية – بما تستوجبه من صدق النوايا وبذل الجهد الكاف – مما يشق على القضاء اليوم ، مع تكدس المنازعات وقلة عدد القضاة ، ونتيجة ذلك غل يد الزوج فى الطلاق دون نتيجة تذكر .(1/59)
3- قالوا : لا تحلل من العقود إلا بالتراضى أو التقاضى . وهذا أيضا صحيح لكن لا على إطلاقه ، لأن من العقود ما هو جائز يقبل الفسخ بإرادة أحد طرفيه ، ومنها ما هو لازم لا يستقل أحد طرفيه بفسخه (1) ، والزواج الصحيح المكتمل الأركان والشروط من هذا النوع الأخير ، غير أن التحلل من الزواج إن كان بفسخ فلابد فيه من حكم حاكم (2) ، وإن كان بالطلاق فلا حاجة لهذا الحكم لأن الطلاق قطع للنكاح فى المستقبل (3) ، وليس نقضا لعقده من مبتدئه ، بدليل أن من آثار الزواج الصحيح ما يثبت دون توقف على دخول ، كنصف المسمى، أو المتعة ، وحرمة الأم ، ولو كان فسخا لما ثبت شئ من ذلك ، ناهيك عن أن الله سبحانه وتعالى قد ملك الرجل هذا القطع رخصة منه سبحانه وتعالى .
4- وأخيرا قالوا : الشكلية معتبرة فى ابتداء الزواج فلتراعى فى انتهائه .
ومع أن الشكلية المدعاة مما يمكن تقبله فى عقد النكاح لخطره وعظم شأنه (4) فإن أحدا لم يقل إن عقد النكاح لا ينشأ إلا على يد قاض ، ولم يقل أحد إنه لا ينشأ إلا بالكتابة الرسمية ، حتى يتسنى القول بضرورة إنهائه بحكم القضاء، وبالكتابة الرسمية .
__________
(1) انظر مثلا:الشيخ محمد أبو زهرة.الملكية ونظرية العقد فى الشريعة الإسلامية ط دار الفكر العربى ص420- 424
(2) وهذا على رأى أستاذتنا – على ما استخلصوه من عبارات السلف – يرد فى أكثر صور الفسخ لا فى جميعها، لأن منها ما لا يتوقف على قضاء قاض ، وهذا صحيح إن لم يقم الطرفان على الرابطة أو لم يمانع أحدهما فى نقضها ، فإن أقاما ، أو نازع أحدهما فلا مفر من أن يرفع الأمر إلى القضاء ليوقع الفرقة أو يأمر بها .
(3) انظر : حاشية ابن عابدين 3/249 وما بعدها ، مغنى المحتاج 3/279 د. محمد البلتاجى ص 349 وما بعدها، د. السرطاوى ص 11، 16- 18 .
(4) انظر : الشيخ أبو زهرة ص 57 ، د. سلام مدكور ص 46 .(1/60)
إن شكلية الزواج استوجبت أن تراعى فيه ألفاظ شرعية أو عرفية تفيد معناه ، وأن يتم بولى عن المرأة ، وفى حضرة شاهدين (1) وأرى أن توثيقة بالكتابة - كدليل إثبات - مما يلزم شرعا (2) ، فإن شئنا أن نقيد الطلاق فليكن بنحو ما قيدنا به الزواج من قيود قد تجد لها أسانيد شرعية فتكون اجتهادا منضبطا لا متسيبا ، وسيأتى ذكر شئ من ذلك .
إيقاع الطلاق فى الشرع الإسلامى حق للرجل :
لا نجد عند فقهاء الإسلام ترددا البتة فى جعل الطلاق بيد الرجل ، وذلك لصراحة النصوص فى تقرير هذا الحق .
1- فالقرآن الكريم – وهو يذكر أحكام الطلاق – ينسب فعله إلى الزوج ومن ذلك قوله تعالى " إذا طلقتم النساء " وقوله " فإن طلقها " وقوله " وإن عزموا الطلاق " " وقوله " إن طلقتم " وقوله " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن" وقوله " إن طلقكن " فأسند الطلاق فى كل إيقاع إلى الرجل ، والأصل فى الإسناد الحقيقة ، ولا ينتقل عنها إلا بدليل يؤيد ذلك ، وليس هناك دليل .
__________
(1) كل ذلك على الراجح فقها وإلا ففى المسألة تفصيلات لا يتسع المقام لعرضها .
(2) ودليلى على ذلك أن حقوق الأموال أخفض من عقود الأبدان والزواج من عقود الأبدان ، وقد أمر الله سبحانه – حسب بعض الأقوال – بالكتابة فى الأموال ، فإن عدم الكاتب فالرهان المقبوضة ، وذلك حسب سياق الآيات من سورة البقرة إن عدم الأمن أو خيف البخس ، والذى أتصوره من واقع أيامنا إختلال الأمن إلى حد كبير مما يرجح فى نظرى ضرورة التوثيق ، وهذا إن لزم فى حقوق الأموال فإنه فى عقود الأبدان ألزم .
انظر : ابن العربى 1/258 وما بعدها ، الرازى 3/92 ، القرطبى 3/399 – 401 .(1/61)
ولا يغير من هذه الحقيقة أن يندب الشرع إرسال الحكمين كما فى قوله تعالى " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما" (1) لأن مراد الله منها – كما يقول المفسرون – علاج حالة خاصة فيها يأتى كل من الزوجين ما يخالف رغبة الآخر دون سعى إلى فك عقدة الزواج من أيهما، لأن الله يقول " إن خفتم " فخاطب الحاكم أو الأولياء ، وقرر أنه " متى علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين ، ولا ينتظر ارتفاعهما كليهما أو أيهما بدعوى – لأن ما يضيع من حقوق الله أثناء ما ينتظر رفعهما إليه لا جبر له (2) فهو حكم على غرار حكمه " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (3) .
2- وقد روى أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فشكا إليه : أن سيدى زوجنى أمته ويريد الآن أن يفرق بيننا ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس فقال " أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما ، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق " ومع أن هذا الحديث ليس قويا فى إسناده لكن مطابقة القرآن لمعناه تقويه (4) .
3- على أن إعطاء حق الطلاق للرجل يتفق والقوامة التى أعطاها الله له فى قوله سبحانه وتعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " (5) اعتبارا بما أودعه الله فيه من صفات ، وما أوجبه عليه من نفقة .
فعلى الاعتبار الأول : الرجل أقرب إلى تحكيم النظر العقلى فى الأمور منه إلى الاستجابة إلى العاطفة ، أما المرأة فهى على وجه العموم أقرب فى معظم حالاتها إلى الاستجابة للعاطفة ومتطلباتها .
__________
(1) النساء الآية ( 35 ) .
(2) ابن العربى 1/427 .
(3) الحجرات آية ( 9 ) .
(4) الأستاذ أبو الأعلى المودودى . حقوق الزوجين . نشر الدار السعودية للنشر والتوزيع 1985 ص 47 هامش ( 16 ) .
(5) النساء آية ( 34 ) .(1/62)
وعلى الاعتبار الثانى : (1) فإن الرجل هو الذى تكلف كل مطالب الزواج والحياة الزوجية بعد من مهر ونفقات ، فهو الذى تصيبه خسارة الطلاق فى ماله ، ومما لا شك فيه أن هذا يمثل عاملا قويا يدفع الرجل عند مواطن النزاع واصطدام المشاعر إلى مزيد من التروى وعدم التسرع فى أمر الطلاق (2) .
ومع هذا فإن الشريعة الغراء لم تجعل هذا الحق للرجل مطلقا وإنما قيدته بقيود كثيرة كما سنرى ، ويكفى أن الأصل فيه الحظر ، كما أنها لم تسلب المرأة حقها فى الخلاص من معيشة تضرها ورجل يؤذيها ، فقررت حقها فى رفع أمرها إلى القاضى – متى ملكت مبررا قويا مقبولا للتفريق – ليطلق على الزوج مع استيفاء المرأة لكافة حقوقها المادية قبل الزوج .
كما قررت حقها فى الاتفاق مع الزوج على الفرقة بالافتداء أو المخالعة أو الإبراء ، مع نهى الرجال عن أن يعضلوا النساء ليذهبوا ببعض ما أعطوهن ، واعتبرت أن الإكراه على الافتداء بهتان وإثم مبين ، وعلى المرأة أن تسلك الطريق الذى تراه محققا لمقاصدها .
المبحث الثالث
لا يقع الطلاق وإن تفوه به الرجل إلا بعد مضى
زمن واستنفاذ إجراءات معينة
نسب الأستاذ عادل أحمد سركيس فى كتابه الزواج فى المجتمع المصرى الحديث(3) إلى الدكتور عبد العزيز العروسى – حسب نسبة الأستاذ سركيس- قوله – فى بحث له غير منشور - :
إن ما تعارف عليه الناس من وقوع الطلاق فور تلفظ الرجل به لا يتفق مع نصوص القرآن الكريم .
__________
(1) د. البلتاجى ص 551 ، 558 ، 559 ، الأستاذ العقاد . حقائق الإسلام ص 155 وما بعدها، وله أيضا الفلسفة القرآنية 61- 64 .
(2) الإمام أبو زهرة ص 283 ، 284 ، د. البلتاجى 559 .
(3) انظر : ص 150- 153 ، وقد آثرنا إيراد هذه الدعوى بنصها رغم ركاكة أسلوبها ، وضحالة منطقها ، لأنه قد أعيد طرحها فى أيامنا الحالية بمناسبة إعداد مشروع قانون للإجراءات الشرعية مع تحوير غير ذى بال فى منطوقها .(1/63)
فقد حددت – حسب رأيه – آيات القرآن الكريم مدة سبعة أشهر لإجراء الطلاق ، تبدأ من تاريخ القسم بالطلاق ، فإذا تم صلح فى خلال هذه الشهور السبعة أو فى نهايتها لا يقع الطلاق ، مهما كانت الصيغة التى تفوه بها الرجل ، ويصبح الطلاق كأن لم يكن ، فلا يقع الطلاق إلا إذا مضت مدة السبعة أشهر كاملة ، ولم يحدث خلالها أى صلح بين الزوجين ، فعندئذ يحضر الرجل الشاهدين ، ويتم الطلاق ، ويوثق المأذون ، وعندئذ يكون قد وقع طلاق واحد .
فإذا تزوج – هكذا - الرجل مطلقته ثانية وأراد تطليقها فإنه يلزم اتخاذ إجراءات الطلاق ثانية لمدة سبعة أشهر أخرى ، وعند تمامها يمكنه إيقاع الطلاق الثانى ، وبذلك يستحيل أن يتم الطلاق ثلاثا دفعة واحدة ، كما كان يتم فى الجاهلية.
وتنقسم هذه الشهور السبعة إلى فترتين :
الفترة الأولى : وقدرها أربعة أشهر تبدأ من يوم القسم بالطلاق ، وفيها تتاح الفرصة للزوجين للتفكير الهادئ فى أمرهما طبقا لنص الآية " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " (1) .
كما تتاح لأهليهما الفرصة لبذل محاولات الصلح بينهما طبقا لنص الآية " وإن خفتم شقاقا بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا " (2) .
الفترة الثانية : إذا لم يتم الصلح خلال فترة الأربعة أشهر ، وأصر الرجل على الطلاق تبدأ الفترة الثانية ، ومدتها نحو ثلاثة أشهر – فترة العدة – وهى الفترة اللازمة لإتمام الطلاق ، وبدون اجتيازها لا يقع الطلاق .
__________
(1) البقرة آية ( 226 ) ، ( 227 ) .
(2) النساء آية ( 35 ) .(1/64)
ويشترط فى هذه الفترة شرط بالغ الحكمة عظيم الأثر - إلا إذا لم يكن من الطلاق بد– هو ضرورة أن يقيم كل من الزوجين فى مسكن الزوجية طوال فترة العدة ، لا يجوز للرجل أن يخرج الزوجة منه ، ولا يجوز للزوجة أن تترك منزل الزوجية ، إلا فى حالة ثبوت جريمة الزنا على الزوجة ، طبقا للآيات من سورتى البقرة والطلاق .
فإذا انتهت فترة العدة يجوز للرجل أيضا أن يبقى زوجته فلا يطلقها ويستأنف معها الحياة الزوجية ، وإلا فإنه يفارقها بالمعروف وتتخذ إجراءات الطلاق بإحضار الشاهدين والمأذون ليشهد الطلاق ، وعندئذ فقط تتم طلقة واحدة وعلى ذلك تكون فترة العدة قبل إثبات الطلاق لدى المأذون وليست بعده ، كما هو شائع الآن ، كما أن إحضار الشاهدين لإثبات الطلاق وإشهاره – وتوثيقه بمعرفة المأذون – لا يكون إلا بعد الأجل بانقضاء العدة " .
هذا هو اقتراح الدكتور العروسى نقلناه عن ناشرة بنصه مع ركاكة عبارته وخلوه من أى مسحة من منطق قانونى ، أو تعبير أدبى ، وظننا قبل الرد عليه أن قائله لو أسلم إلى المتضررات من بطء الإجراءات فى المنازعات الأسرية لفتكن به ، فهو يزيدهن معاناة على معاناتهن .
ويبدو لى أن الرجل ممن لا يؤمنون بحجية السنة ، ولا بالإفادة من اجتهادات الآخرين، ومن ثم فقد جمع بعضا من الآيات القرآنية فى أحكام الفرقة واستخلص منها ما ظنه تصويبا لخطأ شائع .(1/65)
والحق أنه قد خالف الصواب تماما ، لأن آيتى البقرة الأوليين نزلتا فى حكم الإيلاء وهو" قصد المضارة بالزوجة وإسقاط حقها من الوطء ، بيمين ، أو بمجرد الامتناع " ولا شك أن ترك الوطء ضرر حادث بالزوجة ، فضربت له فى رفعه مدة فإن رفع الضرر ، وإلا رفعه الشرع عنها ، وذلك يكون بالطلاق كما يحكم فى كل ضرر يتعلق بالوطء كالجب والعنة وغيرهما (1) إذن فالمدة الأولى التى تمسك بها ما هى إلا مهلة أمهلها الشرع المضار بزوجته بترك وطئها بغير عذر ، فإن فاء- أى رجع عن إضراره هذا - فبها ونعمت ، وإن لم يفء عد إيلاؤه عزما على الطلاق فتطلق عليه بعد انقضاء المدة . دون حكم فى رأى جماعة ، وبحكم فى رأى فريق آخر . (2)
إذن لا صلة للآية بالتلفظ بالطلاق ولا بالعدة .
أما آية الشقاق وبعث الحكمين فقد تعرضنا لها قبلا ، وقلنا إنها خطاب للحكام أو الأولياء ألا ينتظروا حتى يرفع إليهم الخلاف ، وعليهم أن يتدخلوا لقطعه قبل أن يقع الشقاق أو الطلاق ، مما يعنى أنه لم يسبق تلفظ بطلاق .
أما العدة فقد أوجبها الله لحق الرجل فى المراجعة أو للتعرف على براءة الرحم (3)، وقطعا لا تكون مراجعة إلا من طلاق ، وقد نهى الشرع عن إخراج المطلقة من بيت الزوجية أو خروجها منه إلا إذا وقع منها بذاء فى حق أهله كما قال ابن عباس وغيره ، وليس المقصود الزنا كما قال " لأن الخروج فى الزنا هو خروج القتل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى فى حلال ولا حرام " (4) .
__________
(1) انظر : أحكام القرآن لابن العربى 1/180/181 .
(2) انظر بدائع الصنائع 3/176 ، بداية المجتهد 2/102 ، مغنى المحتاج 3/349 وما بعدها ، المغنى 10/453 وما بعدها .
(3) أو للتعبد أو لتفجعها على زوجها ، مغنى المحتاج 3/384 وانظر د. السرطاوى ص 253
(4) ابن العربى 4/1831 .(1/66)
على أن عدم الإخراج – الذى يستند إليه – أريد بالأمر به الرغبة فى الرجعة فى قول جميع المفسرين بدلالة قوله " لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " (1) ولا رجعة إلا بعد طلاق كما قلنا .
وبذا يتأكد لنا أن هذا الاقتراح لا يقوم على سند صحيح من منقول أو معقول .
الفصل الرابع
التدابير الشرعية للحد من الطلاق
تمهيد :
رأينا فيما سبق أن إلغاء الفرقة بالكلية أمر يستحيل قبوله ، لذا لم يجد المانعون من نظام الطلاق بدا من إقراره رغبا ورهبا .
كما رأينا أن الاقتراحات التى خرجت من عباءة الآخر ينالها القدح من كل صوب ، خصوصا وقد ثبت بالإحصاءات أنها لم تحل دون انفراط عقد الأسرة فى المجتمعات التى تعتنقها نظاما فى الطلاق ، ناهيك عن المخازى التى نالت من شرف الأسر وسكنها ، ومع هذا فإنها تسربت إلى بعض النظم العربية الإسلامية، وكثيرا ما يحلوا لبعض من يتكلمون بلساننا أن يشيدوا بها .
ونحن إذا كنا ننكر عليهم تقليد الآخر فإننا نشاطرهم الرأى أن من الواجب حماية الشمل الأسرى ، ولكن وفق ما أدبنا الإسلام وعلى هدى من رسالته لنحقق حمايتين فى آن واحد .
أولاهما : حماية الشريعة المطهرة .
والثانية : حماية الناس من الخروج عليها .
وحذرا من سوء الظنة لزلة قدم أو سبق قلم فإننى أردد مع العلامة الإمام ابن قيم الجوزية وصفه بعض مسائل الطلاق بقوله " هذه هى المسألة الضيقة المعترك ، الوعرة المسلك التى يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان ، ويتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان " حتى إذا أخطأنى التوفيق كان لى من عجزى عذر ، وفى عجلة الرأى سبق ، وقد رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى المباحث الآتية :
المبحث الأول : قيد العدد والوقت فى الطلاق .
المبحث الثانى : قيد اللفظ والنية فى الطلاق .
المبحث الثالث : أهلية الطلاق وعوارضها .
المبحث الرابع : الطلاق الانفرادى وحل عقدة النكاح .
المبحث الأول
قيد العدد والوقت فى الطلاق
تمهيد :
__________
(1) الطلاق من الآية (1) .(1/67)
علم من تاريخ الإسلام أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتخبطون فى وثنية عقدية ، وفوضى اجتماعية ، وقد كان من رحمة الله بهم أن تدرج التشريع فى إصلاحهم ، فأخرجهم من نير الشرك إلى نور الإيمان ، ثم لم يزل بهم يزحزهم عن فوضى السلوك إلى الطريق السوى ، حتى انتهى الوحى وهم أصحاء العقيدة، مستقيموا السلوك .
التدرج فى تشريع الطلاق :
تدرج التشريع فى الطلاق تدرجه فى مسائل الحلال والحرام ، لأن الطلاق وإن كان رخصة ، وقد يكون طريقا إلى الغنى عند اليأس من الوفاق (1) ، فإنه فى الوقت نفسه مدية حادة تقطع إن أسئ استعمالها نعمة الزواج ، وعندئذ تصيب القاطع بالندم ، والمرأة بالضرر ، وتعرض الأولاد إلى فقد العائل ، أو الحنون ، ومن ثم فهو لا يخلو من بغض .
ونظرا لما فى تشريع الطلاق من قيود على إرادة المطلق فقد نجّم الله أحكامه ليكون التزامها أيسر على النفس ، وأطوع فى التنفيذ .
وبتدبر سور القرآن الكريم وآياته يلحظ أن أحكام الطلاق وردت جميعها فيما تنزل من القرآن الكريم بالمدينة المنورة ،وأن سورا خمس فقط هى التى جمعت أحكامه ، لعل أولها نزولا سورة البقرة ، وآخرها نزولا سورة التحريم ، وفيما بينهما نزلت سور الأحزاب والنساء والطلاق ، وأكثر السور جمعا لأحكام الطلاق وآثاره سورتا البقرة والطلاق .
__________
(1) أخذا من قول الله تعالى " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما " النساء آية 130 . وقد روى القرطبى 5/407 بسنده عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن رجلا شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح ، فذهب الرجل وتزوج ، ثم جاء إليه وشكا الفقر ، فأمره بالطلاق ، فسئل عن هذه الآية فقال : أمرته بالنكاح لعله من أهل الآية 32 من سورة النور " إن يكونو فقراء يغنهم الله من فضله " فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق لعله يكون من أهل آية النساء . أ . هـ بتصرف .(1/68)
وفى سورة البقرة حدد الله الطلاق بثلاث طلقات مفردات ، وفى سورة الطلاق حدد الله تعالى الوقت الذى تطلق فيه النساء ، فقطع بآيتى البقرة (1) عادة أهل الجاهلية من التطليق بغير عدد ولا حصر ، دون أن يبين العدة التى تطلق فى قبلها النساء .
قال القرطبى " ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد ، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة ، وكان هذا فى أول الإسلام برهة ، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإن كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء ، فقال رجل لامرأته على عهد النبى صلى الله عليه وسلم : لا آويك ولا أدعك تحلين ، قالت : وكيف؟ قال : أطلقك فإذا مضت عدتك راجعتك ، فشكت المرأة ذلك إلى عائشة ، فذكرت ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية " الطلاق مرتان " بيانا لعدد الطلاق الذى للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولى ، ونسخ ما كانوا عليه"(2) .
ومما قيل فى معنى الآية أيضا :
1- أن المراد بها التعريف بسنة الطلاق ، أى من طلق اثنتين فليتق الله فى الثالثة ، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها ، وإما أمسكها محسنا عشرتها.(3) .
2- أن الله سبحانه وتعالى أمر أن الرجل إذا أراد أن يطلق ثلاثا فعليه تفريق الطلاق، فيتضمن الأمر بالطلاق مرتين ثم بعدهما الثالثة . (4) .
__________
(1) الآيات ( 229 ) ، ( 230 ) .
(2) القرطبى 3/129 .
(3) انظر السابق ، ابن العربى 1/189 وما بعدها .
(4) الجصاص 1/458 ، الرازى 2/442 قال " وزعم أبو زيد الدبوسى ، أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلى وعبد الله بن مسعود ، وابن مسعود وابن عمر ، وعمران ابن الحصين ، وأبى موسى الأشعرى ، وأبى الدرداء ، وحذيفة " .(1/69)
والآية تحتمل المعانى الثلاثة وغيرها (1) فهى تبطل فعل الجاهلية ، وتنهى عن الجمع فى الطلاق ، وتبين حكم الرجعة ، وترشد إلى الأناة فى الطلاق، وتحذر من مغبة المضارة به ، قال تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون . فإن طلقها فلا تحل من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون " . (2) .
وبعد فاصل ليس بالقليل فى ترتيب نزول سور القرآن الكريم تنزلت سورة الطلاق " وأغلب الظن أن آياتها هى آخر ما نزل فى شأنه ، تدرجا فى تربية الأمة ، وإصلاحها حسب السنة الإلهية " (3) ، حيث استهلت بخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، الأمر الذى يشعر أكثر بأن على ولى الأمر أن يقيم عامة المسلمين على ما تضمنته من أوامر وتعاليم ، وأن يمنع من تعدى حدود الله ليرده إلى أمر الله(4)
__________
(1) الجصاص 1/459 .
(2) البقرة الآيتان 229، 230 .
(3) الأستاذ كمال أحمد عون . الطلاق فى الإسلام محدد ومقيد من سلسلة مطبوعات الشعب . نشر دار الشعب 1990 ص ( 23 ) .
(4) انظر السابق ص ( 23 ) ، الشيخ محمد الغزالى . تراثنا الفكرى فى ميزان الشرع والعقل من سلسلة إسلامية المعرفة . نشر المعهد العالى للفكر الإسلامى ط ثالثة 1993 ص 132(1/70)
وبعد سبع من آيات السورة البالغة اثنتى عشرة آية ، وتلكم السبع هى التى انتظمت أحكام الطلاق وآثاره ، حتى لا يتحول الطلاق إلى كارثة اجتماعية كالحة، وألا يفقد المسلمون أدبهم وتواصلهم مع هذه المحنة ، بعدها يحذر ربنا من الدمار الاجتماعى الشامل الذى سيحيق بالمجتمع إن افتات على شرع الله فى الأسرة ، ففرط فيها أو عبث بأحكامها فى التطبيق أو التنفيذ ، ولأن هذه الحكمة الدقيقة لا يدركها كل أحد ، فقد خاطب الله بها أولى الألباب الذين آمنوا وقد تنزل عليهم ذكر ربهم (1) .
وبالنظر فى أول الخطاب وآخره ، وبمراعاة المخاطبين والجزاء يترجح فى النفس أن آيات الطلاق هى خاتمة التشريع فى شأنه ، ولهذا من الخطر فى أحكام الطلاق ماله ، كما سنرى بعد قليل .
وأكثر ما يهمنا التنبيه عليه هنا أن الآيات الخواتم فى الطلاق قد حدت لإيقاعه وقتا بعد أن كان خلوا منه قال تعالى " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا " (2) وفى ضوء هذا العطاء القرآنى الوافر نورد بحوث العلماء فى قيدى العدد والوقت ، لنرجح منها ما قوى دليله وسلمت حجته .
المطلب الأول
قيد العدد ومشكلة الطلاق المجموع
__________
(1) فى هذا المعنى الشيخ الغزالى السابق ص 132- 134 .
(2) الطلاق الآية 1، 2 .(1/71)
يقول الله تعالى فى محكم كتابه " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ، تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ، فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره " (1)
وواضح من الآيتين أن الله سبحانه شرع أمد الطلاق ، وبين حده ، وأن الطلاق المشروع ما وقع مفرقا غير مجتمع حتى يمكن الاستدراك بارتجاع المرأة إلى العصمة ، فالآية صريحة فى أن الطلاق لا يكون إلا مرة بعد مرة ، كما يشهد لذلك سبب نزولها (2)
ومع اتفاق العلماء على هذا المعنى ، وعلى أن التفريق واجب ديانة ، إلا أنهم اختلفوا فى وقوع الطلاق المتكرر لفظاً أو إشارة – كأن يقول لها : طلقتك ثلاثاً أو أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، أو يقول أنت طالق ويشير بأصابعه الثلاثة – قضاء ، وفى صفة وقوعه .
1 – فذهب جمهور العلماء إلى القول بأنه واقع .
__________
(1) الآيتان 229 ، 230 من سورة البقرة .
(2) وذلك ما ساقه ابن العربى 1/189 رواية عن عروة بن الزبير رضى الله عنهما قال : كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تقضى عدتها ، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال : لا أقربك ولا تحلين منى ، قالت له كيف ؟ قال : أطلقك حتى إذا جاء أجلك راجعتك ، فشكت ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى " الطلاق مرتان " وانظر ص ( …) من البحث .(1/72)
2 – وقال بعض الشيعة الإمامية لا يقع مطلقاً ، لأنه بدعة ، والشرع أجاز الطلاق مفرقا غير مجتمع ، فمن جمع فقد ابتدع وطلاق البدعة لا يقع (1)
والقائلون بوقوعه اختلفوا فى وصفه .
أ – فحكى عن الأئمة الأربعة أنهم قالوا : يقع كما صدر من المطلق ، فإن قال ثلاثا ، أو أشار بثلاث وقع كما قال أو أشار ، وإن أثم فى رأى أكثرهم (2) ، على أن التعديد فسحة للناس ، فمن ضيق على نفسه لزمه (3) ، وقد سئل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه من رجل طلق امرأته ثمانى تطليقات فقال ابن مسعود : فماذا قيل لك ؟ قال : قيل لى إنها قد بانت منك ، قال ابن مسعود : أجل من طلق كما أمره الله فقد بين الله له ، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم ، هو كما تقولون " .
وروى عن ابن عباس وغيره مثل ذلك (4)
__________
(1) انظر المختصر النافع ص 22 ، الروضة البهية 6/15 ،ويشبه أن يكون من قول غيرهم على ما حكاه الصنعانى فى سبل السلام 3/250 ، 256 وقال الشوكانى فى النيل 6/231 " وحكى ذلك عن بعض التابعين، وروى عن ابن علية وهشام بن الحكم ، وبه قال أبو عبيده وبعض أهل الظاهر ، وسائر من يقول إن الطلاق البدعى لا يقع " .
(2) روى ذلك عن الأئمة أبى حنيفة ومالك فى إحدى الروايتين عنه ، واختاره أكثر أصحابه ، وقال أحمد : تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه هو الطلاق الرجعى غير قوله " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره " . الفتاوى لابن تيمية 3/13 ، البدائع 3/94 .
(3) أحكام القرآن لابن العربى 1/189 ، المدونة للإمام مالك 2/66 ، 68 المنتقى شرح الموطأ لأبى الوليد الباجى 4/3 .
(4) راجع : شرح السنة للبغوى 5/431 .(1/73)
ب – وروى عن بعض الصحابة وبعض التابعين ورواية عن الإمام أحمد وجماعة من علماء آل البيت وكثير من فقهاء قرطبة وطليطلة من أنصار المذهب المالكى ، ورواه بعضهم عن الإمام مالك ، وهو قول بعض أئمة الحنفية، وبه أخذ الإمامان ابن تيمية وابن القيم أن الطلاق المجموع يقع طلقة واحدة رجعية ، سواء أكان ذلك بلفظ واحد أم بألفاظ متفرقات فى مجلس واحد ، إذا كان فى الطهر الذى مسها فيه (1)
وقد أكثر الإمامان ابن تيمية وابن القيم الاستدلال لهذا المذهب .
ومما ذكرا :
1 – أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن الطلاق الذى يخير فيه بين الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان هو ما وقع على دفعتين فقال " الطلاق مرتان " ومن طلق ثلاثاً أو اثنتين بلفظ واحد لم يطلق إلا مرة واحدة ، ومثاله من قيل له سبح مرتين أو ثلاثاً ، فإنه لا يجزيه أن يقول سبحان الله مرتين ، بل لابد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة (2) .
2 – أن الله سبحانه وتعالى لم يبح إلا الطلاق الرجعى وللعدة ، فقال " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة " ثم يقول " لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً . فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " فبين أن :
أ – أن الطلاق لا يكون إلا للعدة أى يطلقها طاهراً قبل أن يمسها ، فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء .
__________
(1) يراجع : البحر الرائق 3/261 ، المنتقى للباجى 4/ 3 ، الفتاوى لابن تيمية 3/16 وما بعدها ولابن القيم زاد المعاد 4/105 ، أعلام الموقعين 3/34 ، 35 الإنصاف للمرداوى 8/453 ، قال الرازى 2/442 " وهذا القول هو الأقيس ، لأن النهى يدل على اشتمال المنهى عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعى فى إدخال تلك المفسدة فى الوجود ، وأنه غير جائز فوجب أن يحكم بعدم الوقوع " .
(2) فى هذا المعنى : الفتاوى 3/15 ، أعلام الموقعين 3/33(1/74)
ب – أن الطلاق المذكور هو الطلاق الرجعى ، لقوله تعالى " لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " قال جميع المفسرين : أراد الله بالأمر هاهنا الرغبة فى الرجعة (1)
فدل ذلك على أنه لا يجوز إرداف الطلاق الطلاق حتى تنقضى العدة أو يراجعها ، لأنه إنما أباح الطلاق للعدة ، أى لاستقبال العدة فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة ولم تستأنفها باتفاق المسلمين (2)
3 – وقد أخرج مسلم فى صحيحه عن طاوس عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم " (3)
والوجه فيه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
__________
(1) انظر : أحكام القرآن للجصاص 3/452، 453 ، 454 ، ابن العربى 4/1824 ، 1825 ، 1826 ، 1828 ، 1832 .
(2) الفتاوى 3/15، وفى البحر الزخار للإمام أحمد بن يحى المرتضى ط دار الحكمة اليمانية 1988 – 3/174 وما بعدها " والطلاق لا يتبع الطلاق حتى تخلل رجعة أو عقد ، فإن ثلث أو ثنى بلفظ واحد ، أو ألفاظ لم تقع إلا واحدة لقوله تعالى " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فجعل وقوع الثالثة كالمشروط بأن يكون فى حال يصح منه فيه الإمساك ، إذ من حق كل مخيرين أن يصح أحدهما فى الحال التى يصح فيها الثانى ، وإلا بطل التخيير ، فإن لم يصح الإمساك إلا بعد الرجعة لم تصح الثالثة إلا بعدها لذلك ، وإذا لزم فى الثالثة ، إذا لم يفصل بينهما أحد " .
(3) أخرجه مسلم فى كتاب الطلاق . باب الطلاق الثالث ، والبيهقى فى سننه 7/336 ، قال ابن القيم فى الأعلام 3/31 " وفى مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل عن ابن أبى مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال : الحديث . ثم قال الحاكم هذا حديث صحيح .(1/75)
أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك فعوقبوا بلزومه ، وقد عهد ذلك كثيراً من عمر رضى الله عنه ، فكان يضرب فى الخمر وينفى ويحلق الشعر عقوبة زائدة ، وكان يرى تحريم المنكوحة فى العدة على الناكح أبدأ ، لأنه استعجل ما أحله الله، فعوقب بنقيض قصده . .
ولا شك أن ذلك من عمر عقوبة للمكثرين من الطلاق ، وليس شرعاً لازماً ، إذ ليس فى الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع والقياس ما يوجب لزوم الثلاث للمطلق ثلاثاً مجتمعات .
وإن فرضنا أن عمر رضى الله عنه رآه شرعاً لازما فهذا اجتهاد منه ، وقد نازعه فيه غيره من الصحابة ، وإذا تنازعوا فى شئ وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، وقد ثبت بصدر الحديث أن الطلاق الثلاث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقع واحدة ، كما تأيد برواية الإمام أحمد عن ابن عباس أن ركانة بن يزيد طلق امرأته ثلاثاً فى مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثاً ، قال : فقال فى مجلس واحد ؟ قال نعم ، قال النبى صلى الله عليه وسلم : فإنها واحدة فأرجعها إن شئت ، قال : فراجعها " قال ابن تيمية وإسناده جيد . (1)
4 – ولأن الأصل فى الطلاق الحظر ، وإنما أبيح منه قدر الحاجة ، والحاجة تندفع بواحدة ، فما زاد فهو باق على الحظر (2)
__________
(1) الفتاوى 3/17 ، 18 ، 19 ، أعلام الموقعين 3/31، 32، 35 ، 36 وانظر نيل الأوطار232- 234 ، سبل السلام 3/252- 257 .
(2) الفتاوى 3/15(1/76)
5 – أننا إن سلمنا أن من ضيق على نفسه فسحة الشرع لزمه ذلك ، فهذا الإلزام من قبيل الاحتمال ، والنكاح ثابت بيقين فلا يزول بالاحتمال ، لا سيما وأن هذا الإلزام يقتضى إباحة المرأة لغير زوجها ، وهى محرمة على غيره بيقين ، فلا تباح بالشك . (1)
أو يقال : إن إيقاع الثلاث قد يضطر المرأة إلى نكاح التحليل الذى حرمه الله ورسوله، وإن سلمنا أن فى عدم مؤاخذة المسرفين فى الطلاق مفسدة ، فنكاح التحليل أعظم وأفسد ، والقاعدة أنه يرتكب أخف المفسدتين (2)
وبعد
فهذا بعض من كل مما استند إليه شيخ الإسلام وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية ، وقد سكتنا عن تفنيدهما أدلة القائلين بوقوع الثلاث ثلاثا لبروز ملامحه فيما سقنا لهما من أدلة ، ونضيف فقط أنهما ذكرا أن ما استند إليه المخالفون من "كل حديث فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة ، أو أن أحدا فى زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك ، كلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث ، بل هى موضوعة ، ويعلم أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة " (3) " والذى يظهر من مذهب الجمهور أنهم – كما يقول العلامة ابن رشد – غلبوا حكم التغليظ فى الطلاق سدا للذريعة ، ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود أعنى فى قوله تعالى " لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " (4)
__________
(1) المرجع السابق ص (19) وهذا رد على دعوى الجمهور بوقوع الثلاث لحصول الندم وتحقق ظلم النفس انظر . شرح النووى 5/328 القرطبى 3/135 وما بعدها .
(2) المرجع السابق 3/21 أعلام الموقعين 3/48 ، 49 ، 50
(3) الفتاوى 3/17، وانظر نيل الأوطار 6/228، 230 ، 232 ، سبل السلام 3/256 .
(4) انظر بداية المجتهد 2/72 وما بعدها .(1/77)
ولأن ما ذهب إليه ابن تيمية ومن معه هو الأقرب إلى شرعة الطلاق والأصل فيه ، والأبعد عن مفاسد التحليل المستقبح عند الله والناس ، فقد اشتدت منذ زمن المطالبة بالأخذ به ، وهجر الآراء القائلة بوقوع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا ، خصوصا وأن " هذه الآراء كانت منبع شقاء العائلة ، وكانت سببا فى تلمس الحيل وافتنان الفقهاء فى ابتداع أنواعها ، ومن الواجب حماية الشريعة المطهرة، وحماية الناس من الخروج عليها " (1) .
بل إن أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه لو رأى عبث المسلمين فى تحليل المبانة لمطلقها ثلاثا لعاد إلى ما نهى عنه ، وقد روى الحافظ الإسماعيلى بسنده عن عمر رضى الله عنه أنه قال " ما ندمت على شئ ندامتى على ثلاث : ألا أكون حرمت الطلاق ، وألا أكون أنكحت الموالى ، وألا أكون قتلت النوائح " (2) والمعنى المعقول لقوله ألا أكون حرمت الطلاق ينصرف إلى تحريم إيقاع الثلاث ، لأن الطلاق الرجعى مشروع بالنص ، والطلاق فى الحيض مجمع على تحريمه . (3)
لهذا فقد صار أكثر علمائنا ، وباختياراتهم أخذت التقنينات المعاصرة ، إلى القول بأن " الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة يقع واحدة " (4)
__________
(1) من مذكرة وزارة الحقانية – العدل – المقدمة لبيان الحاجة إلى اقتباس القانون ، نقلا عن العلامة أحمد شاكر ، أبحاث فى أحكام ص 103 .
(2) نقلا عن الدكتور السرطاوى ص 78 .
(3) المرجع السابق .
(4) المادة (3) من القانون 25 لسنة 1929 .(1/78)
وقد درجت المحاكم المصرية على أن هذا النص يشمل الطلاق المتتابع فى مجلس واحد ، لأنه مقترن بالعدد فى المعنى ، وإن لم يوصف لفظ الطلاق بالعدد (1)
ولا شك أن هذا التفسير هو الصحيح ، اتساقا مع روح التشريع والغاية التى من أجلها وضع النص مراعاة للصالح العام (2) ، وإن كانت بعض التقنينات اللاحقة قد أزالت اللبس بنصها على أن " الطلاق المكرر فى مجلس واحد لا يقع إلا طلقة واحدة "(3)
تنويه
وقبل أن نغادر هذا المقام فإننا ننوه بموقفين نراهما هنة في طريق إصلاح الأسرة :
__________
(1) انظر نقض مصرى فى 23/6/1960 ، وفى 25/4/1977 ، استئناف القاهرة رقم 179 لسنة 79 ق بجلسة 16/3/1963 م أشرف كمال ص 69 ، 70 ، وراجع حكم محكمة ههيا الشرعية فى القضية رقم 432 لسنة 1930-1931 والذى قضى به وعنى بنشره العلامة أحمد محمد شاكر فى مؤلفه أبحاث فى أحكام ص 101-105 .
(2) الإمام أبو زهرة ص 307 وما بعدها ، وقد شنع الإمام الصنعانى على من فرق بين الثلاث باللفظ والثلاث بالتتابع ، وعلى من تعصب لمقولة الجمهور بوقوع الثلاث فى مجلس واحد ثلاثا قال ص 257 " واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول : أنت طالق ثلاثا ، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثا ، وفى كتب الفروع أقوال وخلاف فى التفرقة بين الألفاظ لم يستند إلى دليل واضح ، وقد أطال الباحثون فى هذه المسألة الأقوال ، وقد أطبق أهل المذاهب الأربعة – لعله يعنى المتعصبين لها – على وقوع الثلاث لإمضاء عمر لها ، واشتد نكيرهم على من خالف ذلك ، وصارت هذه المسألة علما عندهم للرافضة والمخالفين ، وعوقب بسبب الفتيا شيخ الإسلام ابن تيمية ، وطيف بتلميذه الحافظ ابن القيم على جمل بسبب الفتوى بعدم وقوع الثلاث ، ولا يخفى أن هذه محض عصبية شديدة فى مسألة فرعية ، قد اختلف فيها سلف الأمة وخلفها " .
(3) انظر مثلا : المادة (90) من القانون الأردنى ، (115) إماراتى(1/79)
أولهما : موقف المقنن السودانى : الذى ناقض نفسه حيث أخذ فى المادة (130) فقرة (ح) بالمذهب الإصلاحى فقرر أن : " الطلاق المقترن بالعدد لفظاً أو كتابة أو إشارة – لا يقع – إلا طلقة واحدة " ثم عاد فأخذ فى المادة (131) بمذهب الإمام مالك (1) حيث نص على أن " يقع الطلاق المتتابع طلقة واحدة ، إذا قصد به التأكيد ، وإلا فيقع بعدده "
ففرق بين المتماثلين ، وأزال بيسراه ما قدمت يمينه، ولم يدرك – كما يقول بعض علمائنا من المعاصرين – حقيقة الخلاف بين العلماء فى هذا الموضوع ، إذ لا يعقل أن تكون عبارة " أنت طالق ثلاثاً" هى موضع خلاف بين الأئمة التابعين فمن بعدهم ، ومن جعلها من العلماء موضع خلاف فقد سبق نظره وفاته المعنى الصحيح الدقيق ، ولكنهم أرادوا الاحتياط فى الحل والحرمة ، وتغالوا فيه ففهموا أن الاحتياط دائماً هو فى وقوع الطلاق ولو بالشبهة ، ونظرا لما أثر عن عمر ، ولشدة احتياطهم ، أنزلوا اللفظ الواحد " أى قول الرجل أنت طالق ثلاثاً " منزلة اللفظ المتكرر " أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق " ولم ينتبهوا- الكلام للشيخ أحمد محمد شاكر- إلى الفرق فى الوضع وفى دلالة الكلام بين صحة النوع الثانى – أى إيقاعها متفرقات – وبين بطلان النوع الأول – أى اللفظ الإنشائى المقترن بالعدد – وأنه لا يدل فى الوضع إلا على إنشاء واحد فقط ، وأن الوصف بالعدد وصف لاغ " (2)
__________
(1) انظر القوانين الفقهية لابن جزى ص 152
(2) نظام الطلاق فى الإسلام – من منشورات مكتبة السنة بالقاهرة- ص 52-53 ، أبحاث فى أحكام ص 103 ، 104 ، وقد سبقه إلى هذا النقد الإمام الصنعانى 3/257 وقد قلنا عبارته قبل قليل ، وفى معناه انظر القرطبى 3/135 ، نيل الأوطار 6/234 الروضة البهية 6/15 .(1/80)
ثانيهما : قرار هيئة كبار العلماء السعودى فى دورتها الرابعة المنعقدة فى الفترة ما بين 29 شوال 1393 هـ ، 12 ذو القعدة 1393 ، والذى تقرر بأكثرية آراء أعضائها اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً (1)
استناد إلى :
1 – فحوى الآيتين الأولى والثانية من سورة الطلاق ، حيث تدلان على وقوع الطلاق لغير العدة ، إذ لو لم يقع لم يكن – الموقع – ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة ، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج (2) الذى أشارت إليه الآية الكريمة " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً " أى الرجعة ، كما تأوله ابن عباس .
فعلى القول بوقوع الثلاث واحدة فما هى التقوى ، وما هى عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدى بالتطليق لغير العدة ؟
الظاهر – كما يقول مستند القرار – والله أعلم أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثاً بإنفاذها عليه ، وسد المخرج أمامه حيث لم يتق الله فظلم نفسه ، وتعدى حدود الله ، ومثاله عقوبة المظاهر من امرأته بكفارة الظهار .
__________
(1) نص القرار ومؤيداته ضمن أبحاث الهيئة التى تعنى بنشرها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ، المجلد الأول طبعة 1409 هـ 1988 م ص 408-415
(2) المرجع السابق ص 408 ، والعبارة من قول الإمام الجصاص فى أحكام القرآن 3 / 454 وقريب منها عبارة الإمام ابن العربى 4/1932(1/81)
2 – بتضعيف الرواية عن ابن عباس ( حديث ركانة بن يزيد ) وفتواه وغيره بوقوع الثلاث واحدة ، وإعلال رواية مسلم عنه بالاضطراب ونحو ذلك(1) .
والمستند الثانى : قد ظهر وهنه فى حكاية مذهب ابن تيمية ومن معه خاصة وأن الإمام أحمد قد جود إسناد رواية حديث ركانة (2)، ورواية مسلم صحيحه لا شك .
وعلى التسليم بضعف المرويات فى وقوع الثلاث واحدة ، فإن المرويات بوقوعها ثلاثاً معلولة ، بل قال ابن تيمية موضوعة ، فإذا استوت قوة وتعارضت صرنا إلى الأصل ، والأصل الحظر ، وإذا استوت ضعفاً سقطت جميعها وصرنا أيضاً إلى الأصل .
أما المستند الأول فيرد عليه فى رأينا اعتراضات :
1 – أنه دلالة فحوى فى مقابلة دلالة عبارة " الطلاق مرتان " و "فطلقوهن لعدتهن" ، ولا شك أن دلالة العبارة أقوى وأولى بالاعتبار (3)
__________
(1) والهيئة فى ذلك مقتفية أثر بعض السلف كابن عبد البر والبخارى والنووى وغيرهم ، وقد رده الإمام الشوكانى أبلغ رد فقال " والحاصل أن القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس – يشير إلى حديث كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة – وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف ، والحق أحق بالاتباع ، فإن كانت تلك المحاماة لأجل المذاهب الأسلاف فهى أحقر وأقل من أن تؤثر على السنة المطهرة ، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أى مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابى على قول المصطفى " انظر النيل 6/243 ، وقارن القرطبى 3/133- 135 ، شرح النووى 5/329 ، فتح البارى 9/438- 442 .
(2) وللأئمة ابن حجر والشوكانى والصنعانى وغيرهم أجوبة متميزة على دعوى ضعف إسناد هذا الحديث ، وقد صححه أيضا ابن حبان والحاكم وحسنه ابن كثير ، ورواه البغوى وسكت عنه .
(3) انظر المستصفى للإمام الغزالى – نشر مكتبة الجندى ص 260(1/82)
2 – أنه لا يلزم أن يكون تعدى الحد وظلم النفس منصرفا إلى الطلاق لغير العدة ، بل الأقرب أن ينصرف بالإشارة إلى أقرب مذكور وهو " لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " حيث أعقب بقوله " تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " إذ لا يمنع أن يكون وجوب إسكانها وبقائها ببيت الزوجية أريد به أن يكاشفها الزوج وتكاشفه فتحن النفوس وترق القلوب فتزول الوحشة وتحصل الرغبة فى المراجعة ، ويكون الأمر الذى يحدثه الله . (1)
3 – أن القياس على الظهار قياس مع الفارق ، لأن الظهار فى نفسه محرم ، كما يحرم القذف وشهادة الزور وسائر الأقوال التى هى فى نفسها محرمة ، فكان عقاب المظاهر مناسباً أما الطلاق فجنسه مشروع (2)
ومع ذلك فعلى قياس الهيئة فإن المظاهر الذى أتى منكرا من القول وزوراً أسعد حظاً من المطلق بلفظ لا معنى له إلا واحدة ، لأن الأول يكفر فتحل له زوجه ، أما الثانى فلا تحل له زوجه – على رأى الهيئة – إلا بنكاح قد يكون تحليلا نهى عنه الشرع واستهجنه الناس .
4 – أن القرار منصب على الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، وهو - كما نقلنا عن العلامة أحمد شاكر – لا يدل فى الوضع إلا على إنشاء واحد فقط ، وأن الوصف بالعدد وصف لاغ ، ويبعد جداً أن يكون الخلاف فيه .
وخاتمة القول :
__________
(1) قريب من هذا المعنى الشيخ محمد الغزالى . تراثنا الفكرى ص 132 وما بعدها .
(2) الفتاوى للإمام ابن تيمية 3/19 ، 20(1/83)
أن الأمر الذى لا ينكر أن الضغوط الحياتية تحيل حياة كثير من الناس إلى قلق وتوتر دائمين ، ويزيدهما تأججا قناعة كثير من النساء بدعاوى الندية والمساواة فى كل شئون البيت بما فى ذلك القوامة عليه ، ثم إنه مع خروج المرأة إلى العمل والتحامها الدائم بالرجال كثرت الوساوس ،وامتدت أعين كل من الزوجين إلى ما متع الله به أزواجاً أخر مما أدى إلى كثرة المشاحنات الزوجية وعلى أتفه الأسباب .
ويتصور فى ظل ذلك أن يكثر اندفاع الأزواج فى نوبات غضبهم وقلقهم فيطلقون ثلاثاً ، ولا يجعلون لأنفسهم من أمرهم يسراً .
فإذا أبنا زوجاتهم بمثل هذا الطلاق أضفنا إلى قائمة العانسات والأرامل والمطلقات الكبيرة المتعاظمة (1) مطلقات آخر ، ومع ضيق الأحوال ، وضعف القدرة على الزواج قد يندفع المطلقان إلى التحايل لاستئناف حياتهما مرة أخرى بطرق لم يحلها الشرع ، وقد يبقيان على الحياة الأولى مع ظن الحرمة ، والاجتماع فى زنا وفى ذلك موت للضمير الدينى (2) ، هذا كله إذا غضضنا الطرف عن الأضرار التى تلحق بالأبناء إثر تفرق أبويهما .
ولا شك أن كل ذلك مفاسد تحيل حياة الأفراد والدول إلى جحيم فوق ما تعانيه أصلا .
لذلك كله فإننا نهيب بالهيئة الموقرة أن تعيد النظر فى قرارها هذا ، لما قد يكون له من صدى فى نفوس الناس ، لا سيما وأن الرأى القائل بوقوع الثلاث واحدة فقط يستند إلى أدلة مقبولة ويتلائم والأصل فى الطلاق ، ومبنى الشريعة على اليسر ومراعاة المصالح .
المطلب الثانى
قيد الوقت ومشكلة الطلاق البدعى
__________
(1) حسب الإحصاء العام الذى أجراه الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى مصر عام 1996 فإن عدد المطلقات والأرامل بلغ 458546/2 بنسبة 7.1 % من عدد السكان فى سن الزواج ، وعدد الذين لم يسبق لهم الزواج 614483/9 بنسبة 27.5% من جملة السكان فى سن الزواج وتقترب نسبة النساء من هذا العدد إلى النصف .
(2) فى هذا المعنى : الإمام أبو زهرة ص 306(1/84)
نوهنا من قبل إلى أن الإسلام تدرج فى تشريع الطلاق ، وأن الآيات الخواتم فى هذا التشريع قد حدت لإيقاعه وقتا بعد أن لم يكن ، فإن طلق الرجل لغير هذا الوقت كان تصرفه بدعيا ، ولكن هل يقع طلاقه أم لا يقع هذا ما نبحثه هنا (1)
البدعة فى اللغة :
اسم من الابتداع أى الاستحداث ، والأصل إطلاق البدعة على الحالة المخالفة ، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص فى الدين أو زيادة (2)
الطلاق البدعى :
هو الذى يقع على خلاف ما نص عليه القرآن وبينته السنة ، ولهذه المخالفة سمى طلاقاً بدعياً . (3)
ويقابل الطلاق البدعى ما يسمى الطلاق السنى ، وهو الطلاق المنصوص عليه فى القرآن الكريم صراحة ، وبينت السنة النبوية طريقته بيانا وافياً (4)
__________
(1) يراجع فى هذا الموضوع : الجصاص 1/459 - 466 ، 470 وما بعدها ، 3/603- 609، ابن العربى 4/1824- 1826 ، القرطبى 18/144 - 148 ، الرازى 10/458- 560 ، صحيح البخارى وفتح البارى 9/419- 430 ، صحيح مسلم وشرح النووى 5/317- 326 ، شرح السنة للبغوى 5/422- 426 ، نيل الأوطار ومنتقى الأخبار 6/221- 226 ، سبل السلام 3/248- 251 ، المراجع الآتية بعد
(2) انظر لسان العرب لابن منظور ، المصباح المنير للفيومى . مادة " بدع "
(3) د. يوسف قاسم ص 316
(4) السابق ص 315 ، ويراجع : الإمام أبو زهرة ص 286 ، الشيخ السيد سابق ، فقه السنة الطبعة الأولى 1977 2/225 ، د. بدران أبو العينين ص 342 ، د. أحمد يوسف ص 201(1/85)
ويكون الطلاق سنياً متى طلق الرجل زوجته من ذوات الأقراء ، والمدخول بها فى نكاح صحيح فى طهر لم يجامعها فيه ، طلقة واحدة ، ثم يتركها تقيم فى بيته حتى تنتهى عدتها، فإن شاء قبل انتهاء العدة راجعها ، وإن لم يشأ تركها حتى تنقضى عدتها فتبين منه ، على هذا اتفق الفقهاء . (1)
وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية ورواية عن أحمد إن طلقها فى زمن الحيض ثم راجعها ، ثم طلقها فى الطهر الذى يليه من غير أن يمسها كان طلاقه مشروعا لا بدعيا . (2)
وعند الحنفية أيضاً من الطلاق المسنون – وإن كان أقل فى درجة المشروعية – أن يطقها فى كل طهر – لا يمسها فيه – تطليقه (3) ، بمعنى أن يستقبل طهرها من الحيض ، فيطلقها متى طهرت تطليقه واحدة ، ويتركها فى بيته دون مسيس أيضاً حتى تحيض ثم تطهر فيطلقها فى أول الطهر الثالث تطليقه ثالثة وأخيرة ، فبهذا تبين منه .
وحاصل ذلك :
__________
(1) يراجع : البحر الرائق لابن نجيم 3/259 ، ابن رشد الجد ( محمد بن أحمد ) المقدمات الممهدات ، بتحقيق محمد حجى ط دار الغرب الإسلامى 1988-1/499 ، الماوردى ، على بن محمد بن حبيب ، الحاوى الكبير بتحقيق وتعليق محمود مسطرجى وآخرين ط دار الفكر 1994-12/385 ، البهوتى : منصور بن يونس بن إدريس . كشاف القناع عن متن الإقناع – نشر مكتبة نزار الباز ط أولى 1996 –5/2631 ، ، " المحلى 11/449 ، 465 ، 471 ، الشوكانى " محمد بن على " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار . بتحقيق قاسم غالب وآخرين . نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية . الطبعة الثانية 2/346 .
(2) يراجع : ابن نجيم 3/260 ، الحاوى الكبير 12/396 وما بعدها – كشاف القناع 5/2631، نيل الأوطار للشوكانى 6/236 .
(3) البحر الرائق 3/260 ، الإمام أبو زهرة ص (286) وما بعدها(1/86)
أن الطلاق المسنون ما روعى فيه زمن إيقاعه ، وعدده – وقد مضى كلامنا فى العدد – فإن طلق الرجل زوجته فى حيضها دون مراجعة ، أو طلقها فى نفاسها ، أو طلقها فى طهر جامعها فيه فهذا طلاق بدعى باتفاق .
ويكون كذلك متى كانت المرأة التى أريد طلاقها زوجة مدخولا بها ومن ذوات الأقراء – أى ممن تحيض – وأن يكون الطلاق بإرادة الزوج المنفردة .
1 – فطلاق غير المدخول بها ، والصغيرة ، والآيسة ، لا يسمى طلاقاً بدعيا، أيا كان زمن إيقاعه .
وعلة ذلك : أن الحكمة التى من أجلها تقيد إيقاع الطلاق بالزمن ألا تتضرر المرأة بطول عدة الطلاق ، وأن يوقع الرجل الطلاق فى وقت يكون مظنة للرغبة الحقيقية فى المرأة، مع البعد عن اشتباه الأنساب ، لذلك حرم الطلاق فى الحيض لمظنة بُغْض الرجل زوجته بغضا طبيعيا لمنعه من مقاربتها – فى الحيض – شرعا ، ورثاثة حالها ، وتوترها ، بسبب الحيض ، وحتى لا تطول عدتها ، كما حرم الطلاق فى طهر جامعها فيه ليكون ذلك أبعد من اشتباه الأنساب (1)
وغير المدخول بها لا عدة لها ، فلا يخشى عليها من إطالة العدة ، والصغيرة والآيسة لا تحيضان ، فانتفت بالنسبة لهما مظنة البغضة الطبيعية ،كما لا خوف معهما من اشتباه الأنساب لانقطاع رجائهما فى الحمل ، فكان طلاقهما مشروعا فى كل حال .
__________
(1) العلامة الدهلوى . أحمد بن عبد الرحيم . حجة الله البالغة ط دار المعرفة 2/39 وما بعدها، الحاوى الكبير 12/385 بدائع الصنائع 3/88 وما بعدها ، القرطبى 18/146 وما بعدها ، فتح البارى 9/420، 424 شرح السنة للبغوى 5/425 ، الرازى 10/955 وما بعدها .(1/87)
2 – ولا يكون الطلاق بدعيا أيا كان زمن إيقاعه إذا كان باتفاق الزوجين عليه سواء كان على مال أم لا (1) .
لأن الظاهر من شرط الطلاق للعدة ، وفى الطهر غير المجامع فيه تقييده بانفراد الرجل بإيقاع الطلاق دون مشاركة من المرأة ، قال الله تعالى " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " (2)
حيث أسند النص الطلاق إلى الأزواج ، ومفهوم ذلك أن الطلاق إذا كان بإرادة الزوجين فليس له وقت محدد مشروع .
ولأن الحكمة من توقيت الطلاق كان اختيارا لأهون الشرين ، وفى الطلاق بالتراضى يفترض أنهما نظرا إلى الأضرار المترتبة عليه وقدراها (3)
3 – ولا يكون الطلاق كذلك بدعيا إذا أوقعه القاضى لأنه عندئذ لرفع الضرر (4).
4 – واختلف فى طلاق الحامل .
__________
(1) ابن نجيم 3/257 ، الحاوى الكبير للماوردى 12/385 ، وقد ترجم الإمام مسلم لأحاديث الباب بقوله 5/317 " باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها "، و قال النووى فى أقسام الطلاق 5/324 " وأما الحرام ففى ثلاث صور ، أحداها فى الحيض بلا عوض منها ولا سؤالها " .
(2) الطلاق آية (1)
(3) د. السرطاوى ص 55 . ويدل عليه أيضاً ما روى البخارى عن ابن عباس قال " جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس إنى ما أعتب عليه فى خلق ولا دين ولكنى أكره الكفر فى الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ فقالت نعم ، فقال صلى الله عليه وسلم أقبل الحديقة وطلقها تطليقة " فقد أمره النبى صلى الله عليه وسلم بالطلاق دون أن يستفصل هل كانت حائضاً أو مسها فى الطهر أولا ، انظر الصحيح والفتح 9/480 ، 486 .
(4) انظر فتح البارى 9/420(1/88)
فقال الجمهور : ليس بدعيا لما جاء فى إحدى روايات حديث ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مره فليراجعها ، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملا " (1) ولأن الحمل مدعاة دائماً للتفكير والتروى ، فلا يوقع الزوج الطلاق إلا لحاجة ماسة ، فتنتفى معه حكمة المنع (2) .
وروى عن الإمام أحمد أن طلاق الحامل بدعى (3)
والراجح :
الأول " لانتفاء حكمة المنع ، وقيام الداعى إلى الإمساك والتروى ، لأن مطلق الحامل التى استبان حملها قد دخل على بصيرة فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم ، وليست – الحامل – مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها " (4)
هل يقع الطلاق البدعى ؟
مع اتفاق العلماء على أن من طلق على خلاف أمر الله سبحانه وتعالى ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ارتكب إثما ،وأتى محظورا نهى الله عنه ، فإنهم اختلفوا فى وقوع طلاقه .
1 – فذهب جمهور الفقهاء ، وأكثر التابعين إلى القول بوقوع الطلاق البدعى ، وترتب أثاره عليه ، مع إثم المطلق ديانة (5)
__________
(1) رواه مسلم فى كتاب الطلاق ، باب طلاق الحائض بغير رضاها
(2) انظر المغنى لابن قدامة 10/98 وما بعدها ، نيل الأوطار 6/237
(3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 33/7 نقلاً عن د. السرطاوى ص 55
(4) المغنى لابن قدامة 10/98
(5) انظر : فتح القدير 3/329 ، المقدمات لابن رشد 1/500 الحاوى الكبير 12/386 ، المغنى لابن قدامة 10/88 وما بعدها ، البحر الزخار 3/153 وما بعدها ، فتح البارى 9/427(1/89)
2 – وذهب الجعفرية ، وبعض الخوارج وبعض المعتزلة ، وبعض الزيدية ، وأهل الظاهر ، وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة إلى القول بعدم وقوع الطلاق البدعى . (1)
وسبب الخلاف فى الوقوع وعدمه أن حديث ابن عمر رضى الله عنهما - والذى هو الأصل فى هذا الباب – كثرت رواياته ، وتعددت ألفاظه وبحسبها وقع اختلاف شديد فى احتساب الطلقة التى طلقها ابن عمر فى الحيض ، حتى كادت تكون اضطرابا ، ويظهر لك ذلك من استعراض أدلة الفريقين :
أولاً : أدلة القائلين بوقوع الطلاق البدعى :
استدل القائلون بوقوع الطلاق البدعى بأدلة أشهرها :-
أ – من القرآن الكريم
قول الله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"(2) وقوله " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره " (3) وقوله "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (4) .
والوجه فى الآيات أنها رتبت وقوع الطلاق مطلقاً من غير تقييد بوقت دون وقت ولا مطلقة دون أخرى ، وهذا يدل على وقوع الطلاق فى عموم الأوقات والأحوال ، ولم نجد من النصوص القرآنية ما يقيد هذه الآيات (5)
ب – ومن السنة المشرفة
ما ورد فى حادثة طلاق عبد الله بن عمر من ألفاظ تدل على وقوع الطلاق
ومن ذلك :
__________
(1) انظر " الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية 6/26، الفتاوى الكبرى لابن تيمية 33/8، زاد المعاد لابن القيم 4/73 المحلى لابن حزم 11/451 ، 454 ، المغنى لابن قدامة 10/88 . نيل الأوطار للشوكانى 6/237 ، وحكى بن حجر فى الفتح 9/427 عن ابن عبد البر روايته عن بعض التابعين وأسنده القرطبى 18/146، 148 إلى سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين .
(2) البقرة آية ( 229 )
(3) البقرة آية ( 230 )
(4) البقرة آية ( 228 )
(5) أستاذنا الدكتور عبد المنعم جلال – تغمده الله بواسع رحمته – محاضرات فى الفقه المقارن – على الآلة الناسخة لطلبة الفرقة الثالثة بكلية الشريعة والقانون بأسيوط 1982 م ص (28)(1/90)
1 – ما جاء فى الحديث الذى رواه الجماعة من قوله صلى الله عليه وسلم " مُرْهُ فليراجعها " (1) فأمره صلى الله عليه وسلم بالرجعة موجب لوقوع الطلاق ، لأن الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق (2) .
2 – وفى رواية الشيخين – البخارى ومسلم – " وكان عبد الله طلق تطليقة فحسبت من طلاقها " ، وهو ما روى مسلم والبيهقى والنسائى وغيرهم عن عبد الله بن عمر قال : " طلقت امرأتى وهى حائض طلقة ، وأردت أن أتبعها طلقتين فسألت النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : راجعها . قلت : أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ قال : كنت أبنت زوجتك وعصيت ربك " (3) .
قالوا : فهذا نص فى وقوع الطلاق فى الحيض لا يتوجه عليه تأويل (4)
3 – وقد كان ابن عمر وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وغيرهم يفتون الناس بوقوع الطلاق البدعى ، وهذا من الأمور التى لا اجتهاد فيها ، فكان قولهم فى حكم الحديث المرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فيكون حجة (5)
__________
(1) الحديث رواه مالك فى موطئه 2/576 ، والشافعى فى مسنده 2/32-33 ، والبخارى فى كتاب الطلاق باب قول الله تعالى " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ، وأحصوا العدة " ، مسلم فى كتاب الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ،وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها ، وأبو داود فى كتاب الطلاق ، باب فى طلاق السنة ، والنسائى فى كتاب الطلاق باب وقت الطلاق للعدة التى أمر الله عز وجل ، وباب ما يفعل إذا طلق تطليقة وهى حائض ، وابن ماجة فى كتاب الطلاق باب السنة فى الطلاق . وغيرهم .
(2) الحاوى الكبير 12/386 ، الجصاص 1/470 وما بعدها ، فتح البارى 9/427 وما بعدها
(3) انظر سنن البيهقى 7/330 ، نيل الأوطار 6/225
(4) الحاوى الكبير 12/387 نيل الأوطار 6/225، د. يوسف قاسم ص 316
(5) البدائع 3/238 ، فرق الزواج للشيخ على الخفيف ص 25 ، د. السرطاوى ص 63(1/91)
جـ – ومن المعقول : أن الطلاق البدعى طلاق من مكلف فى محل الطلاق فوقع كطلاق الحامل ، ولأنه ليس بقربة فيعتبر لوقوعه موافقة السنة ، بل هو إزالة عصمة وقطع ملك فإيقاعه فى زمن البدعى أولى ، تغليظاً عليه ، وعقوبة له . (1)
ثانياً : أدلة القائلين بعدم وقوع الطلاق البدعى :
استدل القائلون بعدم وقوع الطلاق البدعى بأدلة منها :-
1 – من القرآن الكريم
قول الله تعالى " يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " (2)
والوجه فى الآية :
أن الأصل فى الطلاق الحظر ، وقد دلت الآية على إباحته للحاجة ، فى وقت معين ، هو وقت استقبال المرأة العدة ، فتقتصر المشروعية على مورد النص القرآنى ، ويبقى ما عداه على الأصل غير المشروع فلا يقع (3)
2 – ومن السنة :
أ – ما روى مسلم فى صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " (4)
ولا خلاف فى أن محل النزاع – الطلاق البدعى – غير مشروع ، وهذا يقتضى أنه مردود على صاحبه ، ولا يترتب على المردود أى أثر (5)
ب – وما روى أبو داود والنسائى وغيرهما أن ابن عمر رضى الله عنه سئل : كيف ترى فى رجل طلق امرأته حائضاً ؟ فقال : طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عبدالله طلق امرأته وهى حائض ؟
__________
(1) المغنى لابن قدامة 10/89، الحاوى الكبير الكبير 12/387 ، وانظر تعليلاً آخر فى البدائع 3/96 وما بعدها .
(2) الطلاق آية (1)
(3) انظر : فقه السنة للشيخ السيد سابق 2/226 ، الشريعة الإسلامية للشيخ الذهبى – الطبعة الثانية ص 263
(4) أخرجه مسلم فى كتاب الأقضية . باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .
(5) انظر : المحلى 11/451 ، 454 ، زاد المعاد 4/73 وما بعدها .(1/92)
قال عبد الله : فردها على ولم يرها شيئا . (1)
قالوا فى وجه الدلالة : فهذا الحديث رواته أئمة ثقاة ، وحفاظه أمناء ، وهو ظاهر الدلالة فى إهمال الطلاق البدعى وعدم وقوعه . (2)
3- ولهم من المعقول كلام طويل منه : (3)
أن الشارع نهى عن الطلاق البدعى، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه فلا يعتد به
ب- أن النهى يدل على حجر الشارع ، فلو قلنا بالوقوع لم يكن لحجرالشارع معنى وإذا كان حجر القاضى على شخص يبطل تصرفه فكيف ينفذ التصرف مع حجر الشارع !!!
ج- لو وكل رجل رجلا أن يطلق امرأته طلاقا جائزا شرعا فطلقها طلاقا حراما لم يقع هذا الطلاق ، فكيف يكون إذن المخلوق معتبرا دون إذن الشارع ؟؟ ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن ، فما لم يأذن به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون محلا للتصرف إطلاقا .
تعقيب :
بأدنى تأمل فى أدلة الفريقين يظهر لنا أن مرد الخلاف إلى روايات حديث عبد الله بن عمر وألفاظها (4)، وقد أخذ كل فريق منها بما صح عنده وأفتى بمقتضاه ، ثم تعقب كل فريق أدلة الآخر ، ناقدا لها ، معترضا عليها ، على نحو مفصل فيما أشرنا إليه من مصنفات لمن أراد التوسع فى ذلك .
الرأى الراجح :
__________
(1) رواه أبو داود فى كتاب الطلاق . باب طلاق السنة وقال الشوكانى 6/225 رواه أحمد فى المسند عن ابن عمر ، وانظر : سبل السلام للصنعانى 3/250، المحلى 11/457 ، زاد المعاد 4/75 .
(2) انظر : المحلى 11/457 ، زاد المعاد 4/46 ، نيل الأوطار 6/239 .
(3) انظر : المحلى 11/456 ،، 458 ، زاد المعاد 4/46 ، الشيخ أبو زهرة ص287 وما بعدها ، العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر نظام الطلاق ص29 وما بعدها ، الفرقة بين الزوجين للشيخ على حسب الله ص42 .
(4) انظر ورايات مسلم لحديث ابن عمر فى أول كتاب الطلاق . باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها . وانظر فتح البارى 9/427- 430 .(1/93)
الذى يظهر لى من تقدير شراح الحديث والمختصين فيه أن ما استند إليه القائلون بعدم الوقوع لا يقل صحة عن ما استند إليه القائلون بالوقوع (1) ، والقاعدة أنه إذا تعارضت الروايات الصحيحة صرنا إلى الترجيح ، والمرجح – كما قال جمع من مشايخنا (2) – أن حل الزوجية ثابت بيقين ، واليقين لا يرتفع إلا بيقين مثله ، وأدلة الوقوع يرد عليها أن لفظة " مره فليراجعها " لفظة محتملة وليست صريحة والاحتمال يوجب سقوط الاستدلال .
بل إن بعض العلماء (3)
__________
(1) انظر مثلا : زاد المعاد 4/75- 77، المحلى 11/457 نيل الأوطار 6/225 وما بعدها ، سبل السلام 3/251 العلامة أحمد محمد شاكر – وهو من العالمين بروايات السنة ، ومن القضاة الذين كابدوا القضاء وخبروا الأسر –نظام الطلاق ص29 .
(2) المحلى 11/458 زاد المعاد 4/84 ، محاضرات أستاذنا الدكتور عبد المنعم جلال ص30
(3) العلامة أحمد شاكر ص29 – 30 ، د محمد البلتاجى ص373 ، الشيخ على حسب الله ص43 د. أحمد يوسف ص204 وما بعدها ، الشيخ على الخفيف . فرق الزواج ص30 ، الشيخ زكريا البرديسى . الأحوال الشخصية . الطبعة الأولى ص 240 ، د. أحمد الغندور الطلاق فى الشريعة الإسلامية ص 52 . وكلهم مقتدون فى ذلك بالعلامة ابن القيم قال فى الزاد 4/76 وما بعدها " أما قوله " مرة فليراجعها " فالمراجعة وقعت فى كلام الله ورسوله عل على ثلاثة معان:
أحدها : ابتداء النكاح كقوله تعالى " فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله " البقرة 230 ، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق ها هنا هو الزوج الثانى ، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول ، وذلك نكاح مبتدأ .
وثانيها : الرد الحسى إلى الحالة التى كان عليها أولا ، كقوله لأبى النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاما خصه به دون ولده " رده " فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة ، التى سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جورا ، وأخبر أنها لا تصلح ، وأنها خلاف العدل ……. وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ، ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع، كما كانا قبل الطلاق ، وليس فى ذلك ما يقتضى وقوع الطلاق فى الحيض البتة " .(1/94)
يؤكد أن المراد بالرجعة مجرد الرد ، وليس رجعة الطلاق ، لأن استعمال لفظة " الرجعة " فى مراجعة المطلقة الرجعية استعمال مستحدث بعد عصر النبوة (1)، ولم تستعمل اللفظة فى مراجعة المطلقة فى القرآن أصلا .
ثم إن حمل الرجعة على مجرد الرد هو الأنسب لحكمة المنع من الطلاق فى الحيض، أو فى طهر مسها فيه ، لأن القول بوقوع الطلاق يطيل على المرأة العدة ، فيكون الأمر بمراجعتها – لو حملنا اللفظ على معنى المراجعة من الطلاق الرجعى – ثم التربص بها إلى أن تطهر ثم يطلقها إن شاء فى الطهر الثانى قبل أن يمس أمرا بإطالة عدتها أكثر مما أريد به من الرفق بها .
كما أن الظاهر من النصوص الشرعية الميل إلى سد باب الطلاق ، وأنه من قبيل الوسائل التى دعت إليها ضرورة دفع مفسدة أكبر ، فإذا ثبت من طريق صحيح أن الطلاق فى حالة ما لا يقع ، وكان المترتب على القول بوقوعه إضرارا بمصلحة المجتمع ، وتفسخ الأسر بانفعالات مؤقتة تؤدى إلى التسرع فى الطلاق ، فإن حكمة الطلاق تنتفى ، وينبغى المصير إلى ما تؤيده الأدلة والمصلحة من حظر الطلاق أصلا .
لهذا كله فإننا نرى مع كثير من مشايخنا (2)
__________
(1) انظر سبل السلام 3/251 .
(2) ممن يرى هذا الرأى أساتذنا الذين أشرنا إليهم فى الهامش الأسبق وما قبله عدا الدكتور عبد المنعم جلال ، وممن ارتضوه أيضا د . عبد الرحمن الصابونى - نظام الأسرة ص142 ، الشيخ السيد سابق ص227 ، د. السرطاوى ص 68 ، ويظهر من خطة الإمام أبى زهرة الميل إليه . انظر ص287- 288 .ويرى أستاذنا الدكتور عبد الحميد ميهوب . الأحوال الشخصية ط 1997 ص 189 " أن كلا الرأيين فى المسألة كالدواء ، فيعطى لكل حالة ما يناسبها من العلاج " وفى رأى الدكتور سلام مدكور ص 254 وما بعدها " أن إمكان عمل رأى الظاهرية ومن معهم فى الفتوى دون القضاء لتعذر إثبات أسباب البدعة قضائيا " .
وقد توقف الشيخ عطية صقر ص ( 350 ) عن ترجيح أى الرأيين ، واعتذر الشهيد الدكتور الذهبى ص 263 عن الترجيح قائلا " الترجيح بينهما ليس باليسير " نسأل الله العفو والعافية.(1/95)
رجحان القول بعدم وقوع الطلاق البدعى ، وننادى مع فضيلتهم باعتبار ذلك فى التقنين والحكم لما يؤدى إليه من درء مفاسد وتحقيق مصالح فى تماسك الأسرة الإسلامية.
ولا ينبغى الخشية من صعوبة تحديد ما إذا كان الطلاق قد وقع بدعيا أم لا ، لأن ذلك مفوض إلى المرأة شرعا ، فقد قال الله تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن " (1) وفي الأثر فوض إلى النساء ثلاثة أشياء ، الحيض والطهر والحمل " . قال الجصاص " لما وعظها بترك الكتمان دل على أن القول قولها فى وجود الحيض أو عدمه ، وكذلك فى الحبل ، لأنها جميعا ما خلق الله فى رحمها ، ولولا أن قولها فيه مقبول لما وعظت بترك الكتمان ، ولا كتمان لها .. وكان قولها كالبينة …. لأن الله تعالى قد أوجب علينا قبول قولها فى الحيض والحبل وفى انقضاء العدة ، وذلك معنى يخصها ولا يطلع عليه غيرها فجعل قولها كالبينة وكذلك سائر ما تعلق من الأحكام بالحيض فقولها مقبول فيه"(2) .
وعلى فرض أن بعض النساء قد يكذبن فى الإخبار عن حالهن ، فإن التقدم الطبى كفيل بسد هذه الثغرة ، وإن اختلف الرجل والمرأة فى أمر الجماع فى الطهر الذى صدر فيه الطلاق ، فالقول لمن تشهد له البينة أو للمنكر بيمينه .
المبحث الثانى
قيد اللفظ فى الطلاق
المطلب الأول
صريح الطلاق وكنايته
تمهيد :
لابد لكل تصرف من صيغة أو وعاء يظهر الإرادة الباطنة ويدل عليها فى خارج النفس .
والأصل فى التصرفات عموماً أن يعبر عنها بالقول – أى الألفاظ – أو ما يقوم مقامه من كتابة أو إشارة عند الحاجة إلى ذلك (3)
__________
(1) البقرة آية ( 228 ) وانظر أحكام القرآن لابن العربى 1/186 وما بعدها القرطبى 3/122، سنن الدارمى 1/233 .
(2) الجصاص 1/450 .
(3) راجع مباحث الصيغة فى نظرية العقد فى الشريعة الإسلامية للأستاذ الدكتور محمود عوض ط 1994(1/96)
وفيما خلا قلة قليلة جداً من علماء الإسلام فإن الطلاق لا يقع بالكلام النفسى ، أى مجرد النية من غير كلام ، فلو نوى طلاق امرأته لم تطلق ، لقول النبى " إن الله تجاوز عن أمتى ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به"(1)
ولكن ليس كل الكلام على سواء ، لأن منه ما هو صريح فى إرادة التصرف لأنه نص فيه ، ولا يحتمل غيره إلا احتمالا بعيداً ، ومنه ما يحتمل معنى التصرف ، ويحتمل مع ذلك معنى أو معان أخر ، ويسمى الأول بالصريح، ويسمى الثانى بالكناية ، وهى أن يتكلم بشئ يستدل به على المكنى عنه (2)
أولا : الألفاظ الصريحة فى الطلاق :
__________
(1) الحديث رواه البخارى فى الأيمان والنذور باب إذا حنث فى الأيمان ناسيا ، ومسلم فى الأيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر ، واللفظ الذى معنا من رواية البغوى فى شرح السنة 5/430
وقد علق الإمام الشوكانى على الحديث 6/245 وما بعدها بقوله " وأورد - صاحب المنتقى - حديث أبى هريرة للاستدلال به على أن من طلق زوجته بقلبه ولم يلفظ بلسانه لم يكن لذلك حكم الطلاق ، لأن خطرات القلب مغفورة للعبادة إذا كانت فيما فيه ذنب ، فكذلك لا يلزم حكمها فى الأمور المباحة فلا يكون حكم خطور الطلاق بالقلب أو إرادته حكم التلفظ به ، وهكذا سائر الإنشاءات ، قال الترمذى بعد إخراج هذا الحديث ما لفظه " والعمل على هذا عند أهل العلم أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شئ حتى يتكلم به انتهى ، وحكى فى البحر عن عكرمة أنه يقع بمجرد النية " . وانظر البحر الزخار 3/155 . قلت وكذلك حكاه البغوى عن الزهرى ومالك ، وقال ابن رشد فى البداية 2/89 " والمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية " وحكاه ابن قدامه فى المغنى 10/123 عن ابن سيرين قال " فيمن طلق فى نفسه : أليس قد علمه الله ؟ " .
(2) انظر : المصباح المنير مادة " كنى "(1/97)
وردت الفرقة بين الزوجين فى القرآن الكريم بلفظ الطلاق كما فى قوله"يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " (1) وبلفظ السراح كما فى قوله "وسرحوهن سراحا جميلاً" (2) وقوله " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"(3) وبلفظ الفراق كما فى قوله " فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " (4) فتحصل من ذلك ألفاظ ثلاثة : هى الطلاق ، والسراح ، والفراق.
وقد ذهب بعض العلماء إلى اعتبار هذه الثلاثة ألفاظا صريحة فى الطلاق مراعاة للاستعمال القرآنى (5) .
بينما ذهب فريق آخر إلى القول بأن لفظ الطلاق وحده وما اشتق منه مما لا يستعمل عرفا إلا فى حل رابطة الزوجية هو الصريح فى الطلاق ، وما عداه فغير صريح أو كناية ، لأن الصريح فى الشئ ما كان نصا فيه لا يحتمل غيره إلا احتمالا بعيداً (6)
__________
(1) التحريم آية (1)
(2) الأحزاب آية ( 49 )
(3) البقرة آية ( 229 )
(4) الطلاق آية (2)
(5) الحاوى الكبير 13/4 ، المغنى 10/123، المحلى 11/439
(6) البحر الرائق 3/269 ، الشرح الكبير وحاشية الدسوقى 2/378 ، الفروق للقرافى ط عالم الكتب 3/152 وما بعدها ، تهذيب الفروق للمكى 3/191 ، المغنى لابن قدامة 10/123 وما بعدها ، البحر الزخار 3/155 وفى رأى الجعفرية فإن الصيغة ركن الطلاق ، وتنحصر عندهم فى لفظة طالق " وقوفا على موضع النص ، والإجماع ، واستصحابا للزوجية ، ولأن المصادر إنما تستعمل فى غير موضوعها مجازا ، وإن كان فى اسم الفاعل شهيرا ، وهو غير كاف فى استعمالها فى مثل الطلاق " بل لا يصح عندهم " طلقت فلانة على قول مشهور لأنه ليس بصريح فيه ، ولأنه إخبار ، ونقله إلى الإنشاء على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على موضع الوفاق ، وهو صيغ العقود ، فاطراده فى الطلاق قياس ، والنص دل فيه على طالق ولم يدل على غيره فيقتصر عليه " الروضة البهية 6/11 وما بعدها .(1/98)
وعلى ما يظهر من عبارة المذكرة الإيضاحية فإن المعول عليه من هذه الاتجاهات هو الثانى ، فقد نصت على أن " المراد بالكناية هنا ما كان كناية فى مذهب أبى حنيفة " ، وهذا الاتجاه الثانى هو مذهب أبى حنيفة ومالك والزيدية ورواية عن أحمد . قال المرداوى "هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب ، وصححه المصنف ، والشارح ، وابن منجا فى شرحه ، والناظم ، واختاره ابن حامد ، قال فى الهداية : وهو الأقوى عنده ، وجزم به فى الوجيز ، والمنور ، ومنتخب الآدمى البغدادى وغيرهم ، وقدمه فى المحرر ، والرعاية الصغرى ، والحاوى الصغير ، والفروع ، وتجريد العناية " (1)
ثانيا : وقوع الطلاق باللفظ الصريح مع النية إجماعا وبغير نية فى رأى الأكثرين .
أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بالنية واللفظ الصريح اتباعا لظاهر الشرع (2)
فإن صرح بالطلاق ولم ينوه :
ففى قول معظم الفقهاء يقع طلاقه (3)
__________
(1) انظر المرداوى " على ابن سليمان " الإنصاف فى معرفة الراجح من مسائل الخلاف بتصحيح وتحقيق محمد حامد الفقى . نشر دار إحياء التراث ومؤسسة التاريخ العربى ببيروت 8/462 .
(2) انظر مثلا : البدائع 3/101 ، بداية المجتهد 3/87 ، تهذيب الفروق 3/191 شرح السنة للبغوى 5/429 ، كشاف القناع 5/2638 ، المحلى 11/493 ، 494
(3) والعلة فى ذلك كما ذكرها ابن حزم فى المحلى " أن لفظة الطلاق وما تصرف منها لا يقع فى اللغة التى خاطبنا الله عز وجل بها فى أحكام الشريعة إلا على حل عقد الزواج فقط ، لا معنى آخر البتة ، فلا يجوز أن يصدق فى دعواه فى حكم قد ثبت بالبينة عليه ، وفى إسقاط حقوق وجبت يقينا للمرأة قبله "(1/99)
بينما يرى بعض الفقهاء أن " الصريح لم يكن موجبا لحكمه لذاته ، وإنما أوجبه لأننا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه ، لجريان اللفظ على لسانه اختيارا، فإذا ظهر قصده بخلاف معناه لم يجز أن يلزم بما لم يرده ، ولا التزمه ، ولا خطر بباله ، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف ، والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها فكذلك المتكلم بالطلاق … مكرها ، أو لغضب ، أو لسكر ، أو لسبق لسان(1) ، ونحو ذلك مما سنعرض له تفصيلا .
وقد مال القانون إلى مذهب الجمهور فأوقع الطلاق باللفظ الصريح المنجز غير المعلق دون الحاجة إلى نية الطلاق (2)
__________
(1) أعلام الموقعين 3/51 ، 53 ، وفى بداية المجتهد لابن رشد 2/88 " واستثنت الماليكة بأن قالت إلا أن تقترن بالحالة أو بالمرأة قرينة تدل على صدق دعواه – أنه لم يقصد باللفظ حل عقدة النكاح – مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق هى فيه وشبهه . فيقول لها أنت طالق " وفى الإنصاف 8/465 وعنه " لا يقع – صريح الطلاق – إلا بنية أو قرينة غضب ، أو سؤالها ونحوه" . وفى البحر الزخار 3/155 عن الباقر والصادق والناصر والمؤيد بالله ومالك : يفتقر إلى نية ، لقوله تعالى " وإن عزموا الطلاق " . وفى الروضة البهية 6/19- 20 ويعتبر فى المطلق … القصد ، ويصدق فى عدم القصد لو ادعاه ما لم تخرج من العدة الرجعية ، ولا يقبل فى غيرها إلا مع اتصال الدعوى بالصيغة ، وأطلق جماعة من الأصحاب قبول قوله فى العدة من غير تفصيل " .
(2) وذلك بالنص فى المادة (4) على أن " الطلاق بالكناية لا يقع إلا بالنية " فبقى ما دونها على حكم الأصل وبذلك قضت محكمة النقض المصرية " انظر مثلا حكمها فى 20/2/1974 ، 28/4/1976 لدى أشرف كمال ص 73 .
وانظر : المادة 129 من القانون السودانى ، والمادة (93) من القانون السورى ، (95) من القانونى الأردنى ، (36) من القانون العراقى ، والظاهر من نص المادة (108) من القانون الإماراتى أن الطلاق يحتاج دوماً إلى نية فقد نصت على أنه : " يشترط لوقوع الطلاق من الزوج أن يكون قاصداً إلى اللفظ الذى يقع به الطلاق ، واعيا ما يقول " .(1/100)
ولكن إن وجدت قرينة تصرف الطلاق عند معناه فلا يقع ، وذلك كالتلفظ بالطلاق فى حالة الإكراه إذا قال الزوج إننى قصدت أنها طالق من القيد الحسى ، فإنه يصدق فى دعواه لوجود القرينة الصارفة له عن المعنى الحسى الموضوع له.(1)
ثالثا : لا يقع الطلاق غير الصريح إلا بالنية :
عرفنا أن الطلاق غير الصريح هو ما يطلق عليه الطلاق الكنائى وحسب عبارة المذكرة الإيضاحية فإنه يرجع فى تحديد ما هو كناية إلى مذهب الحنفية .
كنايات الطلاق :
وحسب مذهب الأحناف فإنه فيما خلا لفظ الطلاق ومشتقاته كقوله : أنت طالق ، أو أنت الطلاق ، أو أنت مطلقة – بتشديد اللام – وطلقتك ونحو ذلك فكنائى ، وهو عندهم على نوعين : (2)
1 – نوع هو كناية بنفسه وضعا – أى بحكم الوضع اللغوى – وهو كل لفظ يستعمل فى الطلاق ويستعمل فى غيره : ومثاله أنت بائن ، أنت على حرام، أمرك بيد ، اعتدى ، خليت سبيلك ، فارقتك ، أنت حرة ، أغربى ، الحقى بأهلك ونحو ذلك ، فهذه الألفاظ تستعمل فى الطلاق وفى غيره .
فمثلا من يقول لزوجته : الحقى بأهلك " روحى بيت أبيك " يحتمل الطلاق ، لأن المرأة تلحق بأهلها إذا صارت مطلقة ، ويحتمل الطرد والإبعاد عن نفسه مع بقاء النكاح .
ومن يقول لزوجته : أنت بائن ، يحتمل البينونة عن النكاح ، ويحتمل البينونة عن الخير والشر .
ومن يقول : أنت على حرام يحتمل حرمة الاستمتاع ، ويحتمل حرمة البيع والقتل والأكل ونحو ذلك ، وقوله : أنت حرة ، يحتمل حرة من قيد الزواج ، ويحتمل أنت حرة فافعلى ما تشائين ، وهكذا ، حيث يبين لنا أن هذه الألفاظ وأمثالها تحتمل الطلاق وتحتمل غيره .
__________
(1) انظر : بداية المجتهد 2/88 ، تهذيب الفروق 3/198 ، 199 ، الإنصاف 8/465 وما بعدها وفى حاشية ابن عابدين 3/275 : يقع بغير نية قضاء لا ديانة وهو قول الزيدية : البحر الزخار 3/156 .
(2) انظر : البدائع 3/101 ، 105 وما بعدها ، 109 ، فتح القدير 3/400(1/101)
2 – وأما النوع الثانى : فهو أن يكتب كتابة مستبينة لكن لا على وجه المخاطبة أن" امرأته طالق " فيسأل عن نيته فإن قال : نويت به الطلاق وقع ، وإن قال لم أنوبه الطلاق صدق .
النية ودلالة الحال فى الطلاق الكنائى :
ولا خلاف بين القائلين بوقوع الطلاق الكنائى أنه يفتقر إلى النية لتعيين المراد ، فإن لم ينو بها طلاقا فلا يلزمه الطلاق ديانة ، أى فيما بينه وبين الله تعالى (1)
أما فى القضاء ، كأن تدعى المرأة أمام القضاء أن زوجها أراد بقوله : "أنت حرة مثلا" طلاقها ، وأنكر هو أنه أراد ذلك :
ففى رأى الحنفية والزيدية وأصح الروايتين عند الحنابلة تصدق المرأة بدلالة الحال ، أى القرينة ، فلو كان الزوجان فى حال مذاكرة الطلاق وسؤاله ، أو حالة الغضب والخصومة فدلالة الحال ترجح أنه أراد بقوله الطلاق ، فتثبت إرادة الطلاق فى كلامه ظاهرا فلا يصدق فى الصرف عن الظاهر كما فى صريح الطلاق (2)
__________
(1) انظر:البدائع 3/106 ، تهذيب الفروق 3/193،القوانين الفقهية لابن جزى " محمد بن أحمد ط دار الكتب العلمية ص 150،شرح السنة للبغوى 5/430،الإنصاف 8/480 وما بعدها ، البحر الزخار3/156وما بعدها
(2) انظر : البدائع 3/106 وما بعدها ، كشاف القناع 5/2643 ، الإنصاف 8/481 وما بعدها ، البحر الزخار 3/156، 157 .(1/102)
وفى رأى المالكية والشافعية وثانى الروايتين عند الحنابلة ، وهو المذهب عند الزيدية وفق حكاية الإمام يحى : لا يقع الطلاق بدلالة الحال ، لأن المطلق مختار فى إرادة غير الطلاق بألفاظ الكناية ، وقيام القرينة لا ينفى اختياره (1)
__________
(1) انظر : تكملة المجموع للمطيعى ط دار الفكر ببيروت 17/104 ، الشيخ على الصعيدى العدوى حاشية على كفاية الطالب الربانى لرسالة ابن أبى يزيد القيروانى ط مصطفى الحلبى 1938 2/63 ، 69 وقد حكى أن مذهب مالك أنه مع الكناية المحتملة تقبل دعواه فى نيته ويحلف إذا كان وقت غضب بحيث يقع فى الوهم أنه قصد الطلاق ، أما فى الكناية الظاهرة فالمذهب مختلف ، وقد صحح القرطبى 3/138 منها ما روى عن مالك أنه ينوى فى الألفاظ كلها لحديث ركانة الآتى فى المتن ، وانظر الإنصاف 8/482 ، البحر الزخار 3/156 .(1/103)
وقد روى أن " ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة – والبتة لفظ من ألفاظ الكناية يحتمل القطع عن النكاح ، ويحتمل القطع عن الخير أو عن الشر – وجاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقال له : طلقت امرأتى البتة ، فقال له ما أردت بها ؟ فقال: والله ما أردت إلا واحدة : فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : والله إنك ما أردت إلا واحدة ؟ فقال: والله ما أردت إلا واحدة " (1) حيث يتضح من الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن دلالة الحال ، ولم يعول عليها وإنما رجع فى مراد الصحابى الجليل ركانة إلى نيته وإرادته (2) .
وحكى القرطبى عن أبى عمر ابن عبد البر قوله " أصل هذا الباب فى كل كناية عن الطلاق ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : للتى تزوجها حين قالت أعوذ بالله منك – " قد عذت بمعاذ ، الحقى بأهلك " فكان ذلك طلاقا .
وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها : الحقى بأهلك ، فلم يكن ذلك طلاقا ، فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية ، وأنه لا يقضى فيها إلا بما ينوى اللافظ بها ، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره " (3)
والأقرب :
__________
(1) الحديث رواه الشافعى فى مسنده . كتاب الطلاق ، الباب الأول فيما جاء فى أحكام الطلاق ، والدارمى فى سننه، كتاب الطلاق ، باب فى الطلاق البتة ، وصححه الترمذى كما فى سننه 3/480 ، كما رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقى كلهم فى كتاب الطلاق ، ولابن حجر فى التلخيص 3/240 " واختلفوا : هل هو من مسند ركانة ، أو مرسل عنه وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم ، وأعله البخارى بالاضطراب ، وقال ابن عبد البر فى التمهيد : ضعفوه وفى الباب عن ابن عباس : رواه أحمد والحاكم ، وهو معلول أيضاً " .
(2) الحاوى الكبير 13/10 ، كشاف القناع 5/2643 وما بعدها .
(3) القرطبى 3/138 وما بعدها .(1/104)
إلى الأصل فى الطلاق وتضييق دائرته هو الثانى وعليه يجرى العمل فى التشريعات العربية المعاصرة ، حيث تنص على أن " كنايات الطلاق ، وهى ما تحتمل الطلاق وغيره لا يقع بها الطلاق إلا بالنية " . (1)
خلاصة القول :
أن صريح الطلاق يقع دون اعتداد بالنية ما لم تقم قرينة على أن المتلفظ لم يقصد باللفظة حل رابطة الزوجية (2) على نحو ما سنرى فى شرط أهلية الطلاق.
أما الألفاظ غير الصريحة فى الطلاق فلا يقع بها الطلاق إلا إذا كانت نية الزوج قد اتجهت وقت التلفظ إلى إيقاع الطلاق ، دون اعتبار لدلالة الحال ، فالمعول عليه هو النية (3) والقول فى ذلك عند الخلاف على النية هو قول الزوج بيمينه ، فإن أنكر أنه نوى الطلاق وحلف على ذلك قبل قوله ، وأن امتنع عن الحلف قضى للزوجة بوقوع الطلاق . (4)
المطلب الثانى
أثر الإضافة والتعليق والحلف فى الطلاق
تمهيد : ينقسم الطلاق باعتبار الصيغة إلى :
1 – طلاق منجز : وهو ما قصد به إيقاع الطلاق بمجرد النطق به، ويتحقق ذلك بلفظ " أنت طالق " ، فهذه العبارة هى التى وضعت أصلا للتطليق ، كما تظهر إرادة المطلق فى إيقاع الطلاق ، وتحدد وقته ، وتبين أنه فى الحال ، فلا هى باللفظ المضاف إلى الزمن المستقبل ، ولا بالمعلق على أمر آخر ، فإذا صدر الطلاق بهذا اللفظ فهو واقع باتفاق الفقهاء لأن الطلاق شرع للحاجة ، والحاجة تقتضى التنجيز ، فمتى كان الرجل أهلا للتطليق ، والمرأة محلاً للطلاق وقع . (5)
__________
(1) انظر مثلا : المواد (4) مصرى (129) سودانى (95) أردنى ، (93) سورى ، (36) عراقى .
(2) الدكتور عبد المجيد مطلوب ص 229
(3) د. أحمد الحصرى . الأحوال الشخصية ص 421
(4) مستشار أشرف كمال ص 72
(5) انظر : البدائع 3/126 ، بداية المجتهد 2/87 ، الحاوى الكبير 13/54 ، المحلى لابن حزم 11/544 وما بعدها ، الروضة البهية 6/16(1/105)
2 – طلاق مضاف إلى زمن : وهو ما أفادت صيغته وجود الالتزام فى الحال مع إضافة الإيجاب إلى زمن المستقبل . ومثالها : أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق غداً ، أو فى أول الربيع ، أو آخر العام . وهكذا .
3 – طلاق معلق : وهو ما رتب وجوده على وجود أمر آخر فى المستقبل غير محقق الوقوع ، كقول الرجل لزوجته : إذا ذهبت إلى بيت أهلك فأنت طالق ، أو : إذا خرجت من البيت فأنت طالق .
4 – الحلف بالطلاق :
ومعناه : أن يأتى الرجل بصيغة اليمين بالطلاق فى صورة قسم ليس فيها تعليق لفظى ، ومثاله : قول الرجل لزوجته " على الطلاق لأفعلن كذا " أو قوله : " الطلاق يلزمنى لأفعل كذا " ، أو قوله " على الحرام لا تفعلين كذا " ، فهذه الصيغة لم تذكر فيها أداة الشرط صراحة ، ولكنها مستفادة معنى ، لأن معنى قوله" على الطلاق ، وعلى الحرام ،و الطلاق يلزمنى لأسافر غداً " بمنزلة قوله إن سافرت غداً فزوجتى طالق . (1)
الطلاق المنجز يقع اتفاقا :
وقد اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق متى صدر بصيغة التنجيز ، ويلحق به فى رأى الجمهور الطلاق بصيغة التعليق الصورى ، كأن يعلق الطلاق على أمر موجود وقت التلفظ به ومثاله أن يقول : إن كانت امرأتى ولدت بنتا فهى طالق ، وكانت قد ولدت فعلا وقت نطقه بنتا، فإذا كان التعليق كذلك وقع الطلاق فى الحال ، وكان منجزًا لأن التعليق حينئذ صورى ، والعبرة بالمقاصد والمعانى ، لا بالألفاظ والمبانى . (2)
وقال أهل الظاهر والجعفرية الطلاق بالصفة – أى مع التعليق – كما هو الطلاق باليمين ، كل ذلك لا يلزم (3) .
__________
(1) انظر : كشاف القناع 5/2692 وما بعدها ، الروضة البهية 6/16 ، البدائع 3/132
(2) فى هذا المعنى : الشيخ أبو زهرة ص 298 ، د. السرطاوى ص 163 ، د. محمود عوض ص 470
(3) انظر : المحلى 11/543 ، الروضة البهية 6/15 .(1/106)
ومع أن الجعفرية استثنوا الشرط معلوم الوقوع له – أى المتلفظ – حال الصيغة ، إلا أنهم خصوه بالشرط الذى لا يتحقق الطلاق بدونه ، كما لو قال : إن كانت زوجتى فهى طالق ، صح الطلاق ، لعدم منافاته لمقتضى الإنشاء (1) .
ويميل الشيخ محمود شلتوت – غفر الله له- إلى مذهب أهل الظاهر فى عدم وقوع الطلاق المعلق كلية فيقول " وأرى أن عبارات الطلاق الواردة فى القرآن الكريم لا تصدق لغة إلا على من نجز الطلاق وأوقعه غير معلق له على شئ .. والى هذا الرأى ذهبت طائفة من الفقهاء ، فلو توسع القانون ووحد الحكم بين النوعين فى الطلاق المعلق لكان متمشيا مع روح الشريعة فى تضييق دائرة الطلاق " (2) وهذا اختيار وجيه لأن التعليق التزام بالطلاق إذا وقع المعلق عليه ، وقد قدمنا أن الأصل فى الطلاق الحظر ، وأنه ضرورة أحلت للحاجة إليها ، وما دام كذلك فالتزامه أقرب إلى نذر المعصية منه إلى نذر الطاعة ، وفى السنة، "ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه " (3) .
وما عدا الطلاق المنجز فقد اختلف الفقهاء فى حكم وقوعه :
أولاً : فذهب جمهور الفقهاء :
__________
(1) المادة 1007 من الأحوال الشخصية فى فقه آل البيت .
(2) انظر لفضيلته . الفتاوى ص 300 ، وقريب من الإمام وإن لم يصرح الشيخ الغزالى . تراثنا الفكرى ص 133 .
(3) الحديث أخرجه البخارى فى الأيمان والنذور باب النذر فى الطاعة ، وقال ابن حجر فى الفتح 11/697 فى نذر ما يشق " كل شئ يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر " .(1/107)
إلى القول بوقوع الطلاق وإن كان معلقا على أمر محتمل الوجود ، أو مضافاً إلى زمن مستقبل (1) ، أو كان فى صورة يمين ، فمتى تحقق المعلق عليه، أو دخل الزمن المضاف إليه وقع الطلاق .
ودليلهم على ذلك :
1 – أن العمومات الواردة فى القرآن الكريم لا تفرق بين المنجز من الطلاق وغيره، فللزوج إيقاعه على الوجه الذى يريد (2)
2 – أن الله سبحانه أمر بالوفاء بالالتزامات فقال : " يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود" (3) والتعليق التزام بوقوع المعلق عند حصول المعلق عليه ، والإضافة قصد وقوع الطلاق على صفة معينة ، والحلف بالطلاق فى معنى التعليق ، وكلها التزامات ، فيجب الوفاء بها ، وترتب الأثر الشرعى عليها (4)
__________
(1) وقد يسمى التعليق بما لابد من وقوعه ، وهذا النوع من الطلاق يقع ناجزاً فى رأى الأئمة مالك ، وسعيد بن المسيب والحسن والزهرى وقتادة ويحيى الأنصارى وربيعة بن عبد الرحمن وسفيان الثورى وغيرهم ، وذلك منعا من وجود التأقيت فى النكاح ، إذ الفترة بين إنشاء الصيغة والوقت الذى أضيف إليه الطلاق يكون الحل فيها مؤقتاً ، والنكاح المؤقت باطل ، وقال جمهور العلماء لا يقع الطلاق فى الحال وإنما يقع فى أول جزء من الوقت الذى أضيف إليه الطلاق ، بشرط أن يكون الزوج أهلا لإيقاع الطلاق وقت صدوره وأن تكون الزوجة محلا له عند الإنشاء وعند حلول الوقت المضاف إليه .
راجع بداية المجتهد 2/93 ، الكافى فى فقه أهل المدينة لابن عبد البر 2/577 ، البدائع 3/133 وما بعدها ، المغنى 10/192 وما بعدها ، الحاوى الكبير 13/54 البحر الزخار 3/191، د. سلام مدكور ص 228 .
(2) الشيخ البرديسى ص 274
(3) المائدة آية (1)
(4) الفتاوى لابن تيمية 3/9 ، د. السرطاوى ص 153(1/108)
3 – وفى خصوص الطلاق المضاف روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان يقول فى الرجل يقول لامرأته : أنت طالق إلى رأس السنة ، قال : "يطأ فيما بينه وبين رأس السنة " (1) حيث يدل بلفظه على أن المرأة حلال لزوجها عند قدوم رأس السنة .
4 – كما ورد فى خصوص الطلاق المعلق أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت ، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه ، وإن لم تخرج فليس بشئ.(2)
5 – وكما قلنا فإن الحلف بالطلاق فى معنى التعليق ، وقد تعارف الناس على وقوع الطلاق به . (3)
ثانياً : وذهب الظاهرية والشيعة إلى القول بأن الطلاق غير المنجز لغو، لا يقع به شئ ، لأن من شروط صيغة الطلاق تجريدها عن الشرط والصفة ، كما أن الحلف بالطلاق لا يلزم ولا يقع به الطلاق . (4)
ومن أدلتهم على ذلك :
__________
(1) المغنى لابن قدامة 10/193، وقال ابن حجر فى التخليص 3/245 " رواه الحاكم والبيهقى وسكت عنه ، وأعله ابن حزم فى المحلى 11/549 فقال " هذا من رواية أبى العطوف الجراح بن المنهال الجزرى ، وهو كذاب مشهور بوضع الحديث .
(2) رواه البخارى فى كتاب الطلاق . باب الطلاق فى الإغلاق
(3) كشاف القناع 5/2692 وما بعدها ، المغنى 10/212
(4) انظر : المحلى لابن حزم 11/541- 549 ، 8/384 ، 385 ، شرائع الإسلام للحلى 3/18 –19 ، الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية 6/16 ، وقد جاء فيه " ولا – يقع الطلاق - معلقا على شرط : ، وهو ما أمكن وقوعه وعدمه ، كقدوم المسافر ودخولها الدار ، أو صفة : وهو ما قطع بحصوله عادة كطلوع الشمس وزوالها ، وهو موضع وفاق منا " وفى 6/11 بين أن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاق فقد حصر الصيغة فى " اللفظ الصريح أنت ، أو فلانة ، أو زوجتى مثلا طالق " وقال " وينحصر عندنا فى هذه اللفظة " .(1/109)
1 – أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علمنا الله الطلاق فى المدخول بها ، وفى غير المدخول بها ، وليس هذا – أى الحلف بالطلاق غير المنجز – فيما علمنا .
2 – أن الطلاق بصيغة التعليق أو الإضافة إن قلنا بوقوعه فإما أن يقع فى الحال ، وإما أن يقع فى الوقت الذى أضيف إليه ، ولا يجوز أن يقع فى الحال لأن المطلق لم يرده ، ولا فى الوقت الذى أضيف إليه لأن المرأة قد لا تكون محلا للطلاق حينئذ لموت أحدهما ، أو خروجها من عصمة الزوج قبل مجئ ذلك الوقت .
3 – ولأن الطلاق كالنكاح والنكاح لا يصح تعليقه أو إضافته إلى زمن فى المستقبل فكذلك الطلاق .
4 - وفى خصوص الحلف بالطلاق فإنه لا يسمى يمينا ، إذ لا يمين إلا ما سماه الله تعالى يمينا ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا ، فليحلف بالله أو ليصمت"(1)
ثالثاً : ويرى الإمامان ابن تيمية وابن القيم :
أن الطلاق المعلق إن قصد به اليمين فإنه لا يقع وتجب فيه كفارة اليمين(2)إذا حصل المعلق عليه ومثاله : أن يقول لزوجته إن دخلت دار فلان فأنت طالق يريد حملها على عدم دخول الدار المذكورة ، ولا يريد طلاقها .
__________
(1) حديث صحيح رواه الجماعة انظر البخارى : كتاب الأيمان والنذور ، باب لا تحلفوا بأبائكم ، ومسلم كتاب الأيمان ، باب النهى عن الحلف بغير الله تعالى .
(2) تجب كفارة اليمين فى اختيار ابن تيمية وهو قول بعض العلماء إذا كان التعليق بالمعنى كقوله " الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا ، أو لا أفعل كذا " انظر : الفتاوى 3/3(1/110)
وسند هذا الرأى أن الطلاق المعلق إذا كان المقصود منه الحث على فعل أو المنع كان فى معنى اليمين ، فيكون داخلاً فى قوله صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذى هو خير وليكفر عنه يمينه " (1)
رابعاً : ويرى بعض الحنفية وبعض الشافعية وبعض المالكية وبعض الحنابلة : أن الحلف بالطلاق فى صورة قسم ليس فيها تعليق لفظى كقول الرجل " علىَّ الطلاق لأفعلن كذا"، أو " علىَّ الحرام لا تفعلن كذا " لا يقع به شئ .
ووجهه : أن قول الرجل : علىَّ الطلاق له معنيان :
أولهما : علىَّ أن أنشئ طلاقاً ، فإذا لم ينشئه لم يقع به شئ .
الثانى : وصفك بالطلاق أمر واجب علىَّ ، وهى لا توصف به إلا بحصول سببه من الزوج ، وهو التطليق باللفظ الموضوع لإنشائه وهذا لم يحدث، فلا يقع به شئ (2)
وخلاصة القول
__________
(1) الحديث رواه مسلم فى كتاب الأيمان ، باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذى هو خير ويكفر عن يمينه والنسائى فى الأيمان باب الكفارة بعد الحنث ، والدارمى فى كتاب النذور والأيمان ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، وغيرهم ، وانظر : الفتاوى لابن تيمية 3 / 4 ، أعلام الموقعين 3/58 وما بعدها ، 4/97
(2) راجع : أعلام الموقعين 4/95-96 ، 98 – 101 ، بداية المجتهد 2/91-92 فتح القدير 3/127 ، البحر الرائق 3/271 ، المغنى 10/212 وما بعدها ، الإنصاف 9/114 وما بعدها ، ابن رجب " عبد الرحمن بن رجب " القواعد فى الفقه الإسلامى ط دار الجيل والثانية 1988 ص 322 وما بعدها .(1/111)
أن الطلاق بصيغة التنجيز واقع باتفاق ، والطلاق بصيغة الإضافة واقع فى رأى الجمهور ، لاغ فى رأى كل من الشيعة وأهل الظاهر ، والطلاق بصيغة التعليق واقع فى رأى الجمهور ، باطل ولاغ فى رأى الشيعة وأهل الظاهر ، وقال ابن تيمية وابن القيم يتوقف وقوع الطلاق بلفظ التعليق على مقصود الزوج، فإن كان غرضه وقوع الطلاق به وقع ، وإن كان غرضه الحلف فهو يمين تلزمه الكفارة إن حنث فى يمينه .
أما الحلف بالطلاق فلا يقع به الطلاق عند خلق كثير من السلف والخلف، وإن اختلفوا فى إلزام الحالف به كفارة يمين ، وفى رأى جماعة الحلف بالطلاق تعليق معنى فيقع به الطلاق إن حصل المحلوف عليه .
الرأى الراجح :
اختلف علماء عصرنا فى ترجيح أى الآراء المتقدمة فى الطلاق غير المنجز :
فتوقف بعضهم عن اختيار أيها (1) .
ومال البعض الأخر إلى رأى الجمهور (2) .
واستحسن فريق ثالث توسط ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فى خصوص الطلاق المعلق (3) .
__________
(1) انظر مثلا: أستاذنا الدكتور يوسف قاسم ص 312-314 ، الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبى ص 271-273 ، د. زكريا البرى ص 157-159
(2) انظر مثلا : د. بدران أبو العينين ص 340 ، د. عبد المجيد مطلوب ص 266 ، د. السرطاوى ص 151 ، الدكتور عبد المنعم جلال ص 75 وما بعدها
(3) انظر مثلا : الإمام الشيخ عبد الرحمن تاج . الشريعة الإسلامية فى الأحوال الشخصية ص 312-316 ، الإمام أبو زهرة ص 301 ، 302 ، أستاذنا الدكتور عبد الحميد مهيوب ص 210 ، د . حامد حامد شمروخ ص 220 ، د. الصابونى ص 135 وما بعدها .(1/112)
بينما مال بعض علمائنا إلى الدعوة إلى الأخذ بمذهب أهل الظاهر والشيعة القاضى بأن الطلاق غير المنجز لا يقع به شئ أصلا ، وأن اليمين بالطلاق لغو . (1)
ويقولون : إن الطلاق مثل بقية التصرفات الشرعية أمر تعرف صيغته ووسيلته وطريقته من المشرع ، " ولم ترد الصيغة المضافة فى النصوص الشرعية الصحيحة ، فينبغى ألا تعد طلاقاً " وكذلك الطلاق المعلق فإنه " غير صحيح وغير مأذون فيه شرعاً ، والرجل لا يملك من الطلاق إلا ما أذن به الله" وكذلك الحلف بالطلاق فلا هو يمين ولا طلاق إذ " لا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل ، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل " .
وفى الجملة – كما يقول الإمام ابن القيم – فإن التقرير على مذهب أهل الظاهر أقرب إلى الصواب ، قال رحمه الله " وبالجملة فليس بطلان هذا القول – يشير إلى مذهب أهل الظاهر – أظهر فى الشريعة من بطلان التحليل ، بل العلم بفساد نكاح التحليل أظهر من العلم بفساد هذا القول ، فإذا جاز التقرير على التحليل وترك إنكاره مع ما فيه من النصوص والآثار التى اتفق عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع منه ولعن فاعله فالتقرير على هذا القول أجود وأجوز".(2)
وتظهر جودته إذا راعينا أن الطلاق أمر شرعى وخطير ينبغى أن نلتزم فى طرقه بما ورد به النص الشرعى ، على أنه أنسب لمصلحة جمهور الناس ، لأنه يرفع عن كاهل الناس تبعات ثقيلة من هدم البيوت وتشريدها بصيغ بدعية ما أنزل الله بها من كتاب وما وردت بها سنة صحيحة يمكن الاعتماد عليها .(3)
__________
(1) من أنصار هذا الرأى العلامة الأستاذ أحمد محمد شاكر . نظام الطلاق ص 114 وما بعدها د. على حسب الله. الفرقة بين الزوجين ص 49 – 53 ، د. محمد البلتاجى . دراسات ص 213-215 ، الشيخ شلتوت . الفتاوى ص 300
(2) أعلام الموقعين 4/104
(3) د. البلتاجى . دراسات ص214 وما بعدها(1/113)
ولهذا كله فإننا نميل مع علمائنا إلى ترجيح مذهب أهل الظاهر لأنه الأقرب إلى الأصل فى الطلاق ، والأحفظ لمصحة الأسر والأبعد عن سوءة التحليل التى نفر منها الدين .
موقف التقنينات من الطلاق غير المنجز :
تأخذ أكثر التقنينات المعاصرة بمذهب الإمامين ابن تيميه وابن القيم فتنص على وقوع الطلاق المنجز ، أما غير المنجز فلا يقع إذا قصد به الحمل على فعل شئ أو تركه لا غير .
ومن هذا القبيل : القانون المصرى ، والسودانى ، والسورى ، والعراقى، الأردنى ، والإماراتى حيث تنص جميعها على أنه " لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شئ أو تركه لا غير " (1)
وظاهر العبارة أن الطلاق المضاف كالمعلق لا يقع به الطلاق إلا مع القصد ، ولكن مراد المقنين غير ذلك كما يبين من صريح نص المادة (96) أردنى، ونص المذكرة الإيضاحية للقانون 25 لسنة 1929 المصرى ، وقد جاء فيها :
" ينقسم الطلاق إلى منجز ، … وإلى المضاف ، … وإلى يمين ، … وإلى معلق ، والمعلق إن كان غرض المتكلم به التخويف أو الحمل على فعل الشئ أو تركه وهو يكره حصول الطلاق ولا وطر له فيه كان فى معنى اليمين بالطلاق ، وإن كان يقصد به حصول الطلاق عند حصول الشرط ، لأنه لا يريد به المقام مع زوجته عند حصوله لم يكن فى معنى اليمين .
واليمين فى الطلاق وما فى معناه لاغ ، أما باقى الأقسام فيقع فيها الطلاق " وبذلك قضت محكمة النقض المصرية " (2)
__________
(1) انظر المواد (2) مصرى ، (130) سودانى ، (94 ) سورى ، (89) أردنى والمادة 107 من القانون الإماراتى .
(2) انظر نقض مصرى فى 28/4/1976 م أشرف كمال ص 67(1/114)
وأخيراً فإن إثبات قصد الزوج أمر يتعلق به ، ولا يعرف إلا من جهته ، فإذا لم تكن هناك قرائن على حقيقة قصده ، وتدل عليه ، وشجر الخلاف بين الزوجين ، هى تدعى وقوع الطلاق لتحقق الشرط ، وهو يقول إنه ما قصد به سوى التخويف أو الحمل على الفعل أو المنع منه كان القول قوله بيمينه ، فإن نكل اعتبر مقراً بالطلاق (1) إذا كانت المرأة حين صدور الصيغة ، وحين حصول الأمر المعلق عليه محلا للطلاق ، وأن يكون الزوج أهلا له عند إنشاء الصيغة (2)
المبحث الثالث
أهلية الطلاق وعوارضها
تمهيد :
الطلاق كما رأينا رفع لقيد النكاح حالا أو مآلا ، والنكاح عقد أبدى ، ومن ثم فهو لا يقبل الفسخ حتى بالتراضى (3) ، والطلاق وإن لم يكن فسخا ، ولا نقضا لكل آثار العقد الصحيح ، إلا أنه بالنظر إلى بعض آثاره يشبه الفسخ لعارض (4) ، وهذا الشبه يجعل الطلاق تصرفا خطيرا ، لاسيما وأن الأصل فيه أن تستقل إرادة الزوج بإيقاعه .
ومقتضى هذه الخطورة ، ألا يكون كل تلفظ بالطلاق إتيانا بالسبب ، وإنما يلزم أن يصدر الطلاق من ذى أهلية (5) خاصة حال إيقاعه .
فلا يكفى أن يكون المصدر زوجا فحسب ، بل يجب أن تكون إرادته حال إيقاع الطلاق حقيقية قاصدة ، ومبرأة من الغفلة والاندفاع ، على ما يظهر من المطالب الآتية .
المطلب الأول
أثر نقص الأهلية فى الطلاق
__________
(1) فى هذا المعنى : الشيخ أبو زهرة ص 303 ، الشيخ زكريا البرديسى – الأحوال الشخصية ص 400
(2) فى هذا المعنى : الشيخ أبو زهرة ص 298 ، 299 ، 300 د. زكى الذين شعبان الزواج والطلاق فى الإسلام ص 108
(3) الشيخ أبو زهرة الملكية ونظرية العقد ص 422 .
(4) بجامع أن كلا منهما يمنع بقاء النكاح فى المستقبل إن كان الطلاق بائنا ، وكان العارض يمنع النكاح تأقيتا .
(5) الأهلية معناها – على التمام – صلاحية الشخص للإلزام والالتزام الشيخ أبو زهرة . الملكية ص 302 .(1/115)
لا تثبت أهلية التصرفات ، أى صلاحية الشخص لصدور القول منه على وجه يعتد به شرعا ،كاملة إلا للبالغ ، العاقل ، الرشيد ، لأن " المفروض فيه أنه لا يتصرف تصرفا إلا عن روية وتفكير وتقدير وتدبر ، وهو أدرى بما فيه مصلحته " (1) .
وفيما قبل البلوغ فالشخص إما مميز أو غير أو غير مميز وفيما بعد البلوغ ، فالشخص إما عاقلا راشدا …. إلخ .
1- طلاق غير المميز :
ومن فقد العقل أصلا ، أو افترض فيه ذلك لصغره ليست له أهلية أداء البتة ، ومن ثم فكل تصرفاته باطلة ، ومنها الطلاق ، فتلفظ غير المميز بالطلاق يقع لغوا ، لقول النبى صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبى حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق" . (2) .
__________
(1) الشيخ أبو زهرة السابق ص 313 .
(2) الحديث أخرجه أبو داود فى الحدود باب فى المجنون يسرق أو يصيب حدا ، والترمذى فى الحدود باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد ، والنسائى فى الطلاق – باب من لا يقع طلاقه من الأزواج ، وابن ماجة فى كتاب الطلاق . باب طلاق المعتوه والصغير والنائم ورواه الإمام أحمد فى مواضع . وانظر ابن عابدين 3/208 – 209 الحاوى الكبير 12/379 ، المغنى 10/110 ، البحر الزخار 3/165 ، المادة 979، 980 من الأحوال الشخصية فى فقه آل البيت .(1/116)
والبحث فى طلاق الصغير يفقد اليوم كثير من أهميته بعد أن هجرت أكثر التقنينات مذهب الجمهور فى العقد على الصغار إلى قول ابن شبرمة وجماعة القاضى بعدم صحة زواج الصغار " لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة ، وشرعا النسل ، والصغر ينافيهما"(1).
كما كان يفقد قيمته فى طلاق المجنون لو أخذ برأى الإمام ابن حزم وهو اتجاه عند الشافعية فى المنع من تزويج المجنون ما لم يكن – على رأى الشافعية – زواجه مفيدا فى شفائه ، كما أن الإمام أحمد قد كرهه . (2) .
ونتمنى لو تجد المادة (20) من مشروع القانون العربى الموحد بين القطرين المصرى والسورى طريقها الصريح فى التقنين المصرى فتسد منافذ هذا الباب (3) ونصها :
أ- يشترط فى أهلية الزواج العقل والبلوغ ، فيبطل زواج الصغير والصغيرة قبل البلوغ ، وتزويج المجنون والمعتوه ذكرا كان أو أنثى مع مراعاة حكم الفقرة التالية .
ب- إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الأخصائيين أن زواج المجنون والمعتوه مفيد فى شفائه فللمحكمة أن تأذن به .
__________
(1) المبسوط 4/212 ، وانظر ابن العربى 4/1838 ، المغنى 9/201، 204- 207 ، المحلى 11/43 ، المواد 15، 16، 18 من القانون السورى 4- 8 من القانون اللبنانى ، 5 من القانون الأردنى ، 7- 9 من القانون العراقى ، 8 من القانون الليبى ، الفصل 6، 8 من مدونة الأحكام الشخصية المغربية ، المادة 33ب من لائحة المأذونين المصرية ، المادة 99/4 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية فى مصر .
(2) انظر : المحلى 11/36، 42- 44 ، الحاوى الكبير 11/103- 104 المغنى 9/458 ، كشاف القناع 5/2503 ، المواد 15 سورى ، 9 لبنانى ، 5، 8 أردنى ، 7 عراقى ، 10 ليبى ، 40/1 سودانى ، والفصل السابع من المدونة المغربية .
(3) انظر الشيخ ابو زهرة الأحوال الشخصية (125) ، أستاذنا الدكتور يوسف قاسم ص 182(1/117)
ومع غياب مثل هذا النص الصريح ، أو لكون الجنون طرأ على الشخص بعد زواجه فإن حل عقدة زيجة فاقد الأهلية لا تكون بيده ، لأنه ليس أهلا لإيقاع الطلاق ، ولكن هل تطلق عليه زوجته ؟
لا خلاف بين العلماء أن للحاكم أن يوقع الفرقة بين فاقد الأهلية وزوجته إن وجد موجبها ، قال ابن عابدين " الصبى والمجنون ليسا بأهل لإيقاع الطلاق منهما ، بل هما أهل للوقوع ، أى حكم الشرع بوقوعه عليهما عند وجود موجبه … قال شمس الأئمة السرخسى : زعم بعض مشايخنا أن هذا الحكم – يعنى الطلاق فى حق الصغير – غير مشروع أصلا فى حق الصبى حتى إن امرأته لا تكون محلا للطلاق ، وهذا وهم عندى ، فإن الطلاق يملك بملك النكاح ، إذ لا ضرر فى إثبات أصل الملك ، بل الضرر فى الإيقاع ، حتى إذا تحققت الحاجة إلى إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا ، فإذا أسلمت زوجته وأبى فرق بينهما وكان طلاقا عند أبى حنيفة ومحمد ، وإذا وجدته مجبوبا فخاصمته فرق بينهما وكان طلاقا عند بعض المشايخ " .
قلت – والكلام لابن عابدين – وحاصله أنه كالبالغ فى وقوع الطلاق منه– ينبغى أن يقول إيقاعه عليه – بهذه الأسباب ، إلا أنه لا يصح إيقاعه منه ابتداء للضرر عليه ، ومثله المجنون ، وبه ظهر أنه لا حاجة إلى أنه إيقاع من القاضى ، لأن تفريق القاضى هنا كتفريقه بإباء البالغ عن الإسلام ، وهو طلاق منه بطريق النيابة ، فكذا فى الصبى والمجنون " (1)
وهل لوليه أن يوقع عنه الطلاق ؟
يرى الحنفية ، والشافعية ، الإمام أحمد فى رواية ، والزيدية ، والجعفرية فى الأصل، وهو قول الزهرى فى الطلاق بغير عوض . أن الولى أبا كان أو غيره لا يطلق عن فاقد الأهلية(2).
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3/208- 209 .
(2) انظر : ابن عابدين 3/253 وما بعدها ، الحاوى الكبير 12/379 ، المغنى 10/66 ، البحر الزخار 3/165 ، المادة 980 من الأحوال الشخصية لآل البيت .(1/118)
والحجة فى ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق " معناه إنما يملك الطلاق من ملك الأخذ بالساق ، يعنى : البضع ، والولى لا يملك البضع، فلم يملك الطلاق .
ولأن الطلاق إزالة ملك فلم يصح من الولى ، كما لا يصح منه بذل الهبة(1) .
وقال الإمام أحمد يملك الولى ذلك إن لم يكن متهما ، وبه قال الحسن البصرى وعطاء وقتادة ، وهو قول مالك ، والزهرى فى الطلاق على مال "الخلع " وبه قال الجعفرية استثناء للمصلحة .
والحجة فى ذلك : ما رواه الإمام أحمد أن عبد الله بن عمر طلق على ابن له معتوه . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن المعتوه إذا عبث بأهله طلق عليه وليه .
ولأنه يصح أن يزوجه فصح أن يطلق عليه إذا لم يكن متهما . (2)
وفى رأيى :
أنه مع صراحة النص النبوى الشريف لا مجال للاجتهاد ، لا سيما مع حصره الطلاق فى الزوج .
ومن جانب آخر : فإن زوجة فاقد الأهلية هى الأشد تضررا من الإمساك ، وقد يسر لها الشرع طريق الفرقة ، فإن شاءت فذلك عن طريق الحاكم ، وإن آثرت الإبقاء على الزوجية فلا مصلحة فى فضها .
على أن حق الأولياء فى ماله وصيانة عرضه ، وحفظ المال بالحجر وتولى الإنفاق عليه وعليها ، وصيانة العرض بالرعاية والتضييق والعقوبة وذلك ممكن من غير طلاق ، فلا يبقى لنيابة الولى فيه سبب .
2- طلاق المغلوب على عقله.
__________
(1) الحاوى الكبير 12/379 ، المغنى 10/66- 67 .
(2) انظر : المغنى 10/66 ، الحاوى الكبير 12/379 ، المادة 981 من الأحوال الشخصية لآل البيت ، الشيخ أحمد الدردير العدوى الشرح الصغير على أقرب المسالك بحاشية الصاوى ط عيسى الحلبى 3/348 .(1/119)
وكما لا يقع طلاق المجنون لا يقع طلاق المعتوه ولا المبرسم (1) ، ولا المدهوش الذى غلب عليه الخلل فى أقواله وأفعاله بسبب صدمة عصبية أصابته فذهب عقله (2) . وإنما لم يقع طلاق كل أولئك لحديث النبى صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة …. وعن المجنون حتى يعقل"، والمعتوه والمبرسم والمدهوش فى حكمه .
ولأن " المعلوم من كليات الشرع أن التصرفات لا تنفذ إلا ممن له أهلية التصرف وأدرناها بالعقل والبلوغ ، خصوصا ما هو دائر بين النفع والضرر"(3) وعلى ذلك يجرى العمل قانونا ، فطلاق المجنون ومن فى حكمه لا يقع وإنما يطلق عنه القاضى (4) .
3- طلاق المميز
رأينا أن غير المميز لا يقع طلاقه باتفاق ، أما المميز فقد اختلف العلماء فى حكم طلاقه .
فجمهورهم : على أن تلفظه بالطلاق لغو لا أثر له ، لحديث " رفع القلم عن ثلاثة … عن الصبى حتى يحتلم " أى يبلغ
ولأن غير البالغ غير مكلف فلا يقع طلاقه كالمجنون (5) .
وأكثر الروايات عن الإمام أحمد ، وهو قول بعض التابعين ، وأقرب القولين للصحة عند الجعفرية أن طلاقه واقع (6) .
__________
(1) البرسام : بكسر الباء ، لفظ معرب ، وهو ورم فى الدماغ يتغير معه عقل الإنسان ، فيهذى، ويقال لمن ابتلى له مبرسم . انظر معجم لغة الفقهاء للدكتور رواس القلعجى ص 106 .
(2) انظر : فتح القدير 3/343 ، حاشية ابن عابدين 2/426 وما بعدها ، المغنى لابن قدامة 7/113 ، الحاوى الكبير 13/96، 104 ،105 ، المحلى لابن حزم 11/528 .
(3) فتح القدير 3/343 .
(4) وذاك بالطبع متى رفعت إليه دعوى بذلك . انظر د . سلام مدكور ص 242 .
(5) انظر : المبسوط 6/178 ، الشرح الصغير 3/349 ، مغنى المحتاج 3/279 ، كشاف القناع 5/2624 ، البحر الزخار 3/165 .
(6) المغنى 10/115 وما بعدها ، المادة 979 من الأحوال الشخصية لآل البيت .(1/120)
والحجة لهم : عموم حديث " الطلاق لمن أخذ بالساق " ودلالة الحصر فى قوله صلى الله عليه وسلم " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله " حيث يبقى ما عداه على الجواز (1).
وقالوا : ولأن المميز يعقل ، والطلاق من عاقل متى صادف محل الطلاق – الزوجة– وقع كطلاق البالغ .
والحقيقة أن حديث " كل طلاق جائز " ضعيف ، والصواب فيه الوقف على على كرم الله وجهه (2) وبفرض صحته فإنه معارض بحديث " رفع القلم " وهو أصح لا شك فى ذلك .
أما عموم حديث " الطلاق " فإنه مخصوص بحديث " رفع القلم " على أن الطلاق تصرف خطير ، ومنحى الشارع يشير إلى تضيق بابه ، وتمليكه لمن هو دون الإدراك الكامل يخالف غرض الشارع ، وعلى هذا فالراجح فى رأيى هو مذهب الجمهور ، لقوة دليله واتساقه مع مراد الشارع من التروى والتدبر فى الطلاق (3) .
4- طلاق السفيه
السفه : خفة تعترى الإنسان فتحمله على التصرف فى المال على غير مقتضى العقل والحكمة (4) .
__________
(1) انظر المغنى 10/116 والحديث أخرجه الترمذى فى الطلاق رقم 1191 وقال هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان . وهو ضعيف واهن الحديث ، وقال ابن حجر فى الفتح 9/474 " ضعيف جدا " والصواب وقفه على على كرم الله وجهه .
(2) انظر صحيح البخارى كتاب الطلاق باب الطلاق فى الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما ، والغلط والنسيان فى الطلاق والشرك وغيره " وفتح البارى 9/474 ، وتخريج أحاديث المغنى والشرح الكبير 10/110 حاشية 37 .
(3) انظر المبسوط 6/178 .
(4) انظر : المذكرة الإيضاحية لقانون الولاية على المال رقم 119/1952 نبذة 56 . الشيخ أحمد إبراهيم الالتزامات ص 140 .(1/121)
ومعلوم أن جمهور العلماء يقولون بجواز الحجر على السفيه صونا لماله عن التلف ، ونفسه عن العوز والفاقة ، أخذا من قول الله تعالى " فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " (1) فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف ، ومعنى الضعيف راجع إلى الصغير ، ومعنى السفيه راجع إلى الكبير البالغ (2) .
وقد كان من مقتضى الحجر على السفيه فى عقود الأموال أن يحجر عليه فى عقود الأبدان – أعنى الزواج – باعتباره أخطر شأنا ، وأشد أثرا ، لكنا وجدنا القائلين بالحجر على السفيه ينقسمون فى حكم زواجه (3) وأشدهم قولا فيه ينطلق من قاعدة " مقصود الحجر على السفيه حفظ ماله دون النكاح " (4) ومن ثم فغاية تحوطهم ألا يزوج السفيه بأكثر من مهر المثل ، ومن هنا كان مأخذ المحتجين لأبى حنيفة فى عدم جواز الحجر على من جاوز الخامسة والعشرين دقيقا ، وله ثقله فى ميزان القياس العقلى (5) .
ومن جانب آخر فإن التحوط النسبى فى زواج السفيه يبدو قصرا على الابتداء دون البقاء ، ويغلب فيه حفظ المال على رعاية الاستقرار ، والتحوط لبقاء نعمة الزواج .
__________
(1) البقرة من الآية 282 .
(2) انظر القرطبى 3/383- 385 ، 5/34- 37 .
(3) انظر : 6/251، 9/149 ، 151 ، حاشية العدوى على كفاية الطالب 2/29 ، عبد الرحمن بن قاسم الشعبى المالقى الأحكام بتقديم وتحقيق د. صادق الحلوى ط دار الغرب الإسلامى . الأولى 1992 ص 402 ، المادة (51) من مرشد الحيران للأستاذ قدرى باشا .
(4) الحاوى الكبير 11/102 .
(5) جاء فى المبسوط 24/170 ما نصه أنه " لا فائدة فى الحجر عليه لأنه لا ينسد باب إتلاف المال عليه ، وأنه يتلف ماله بهذا الطريق – أى الزواج والطلاق – إذا عجز عن إتلافه بطريق البيع والهبة ، وهو يكتسب المحمدة فى البر والإحسان ، والمذمة فى التزويج والطلاق ، قال صلى الله عليه وسلم " لعن الله كل ذواق مطلاق " .(1/122)
وغاية ما وقفت عليه من آراء العلماء فى طلاق السفيه أن طلاقه واقع فى قول أكثر أهل العلم ، ومنع منه عطاء بن رباح وابن أبى ليلى ، وحكاه الماوردى الشافعى قولا لأبى يوسف القاضى الحنفى (1) .
ومستند الجمهور :
1- عموم قوله صلى الله عليه وسلم " الطلاق لمن أخذ بالساق " .
2- أن السفيه مكلف مالك لمحل الطلاق فوقع طلاقه كالرشيد ، والحجر عليه فى ماله لا يمنع تصرفه فى غير ما هو محجور عليه كالمفلس .
3- القياس على العبد بجامع الحجر فى كل ، فكما أن الرق لا يبطل ملك الطلاق فكذلك السفه .
4- وتعليل الحنفية أن المحجور عليه بسبب السفه فى التصرفات كالهازل يخرج كلامه على غير نهج العقلاء لقصده اللعب به دون ما وضع الكلام له ، لا لنقصان فى عقله ، فكذلك السفيه يخرج كلامه فى التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل ، لا لنقصان فى عقله ، وكل تصرف لا يؤثر الهزل فيه كالنكاح والطلاق لا يؤثر فيه السفه .
5- أن السفيه يستفيد بطلاقه سقوط النفقة إن كان بعد الدخول ، ونصف المهر إن كان قبل الدخول ، فلم يجز أن يمنع من هذه الفائدة ويجبر على التزام النفقة .
ومستند المانعين :
أن الطلاق إتلاف مال كالعتق ، ولأن البضع يملك بالمال ويزول عنه المال بالمال ، فلما لم يصح عتقه لم يصح طلاقه (2) .
نظرة فى أدلة الجمهور :
1- تمسكوا بعموم " الطلاق لمن أخذ بالساق " ويرد عليه أننا لا نملك الطلاق لغيره، ولكننا نضيق عليه بابه ، قياسا على المميز دفعا للضرر عنه .
__________
(1) انظر : المغنى 10/117 ، الحاوى الكبير 8/32 وما بعدها ، المبسوط 24/166 ، العينى "محمود بن أحمد" البناية فى شرح الهداية ط دار الفكر . الثانية 1990 10/117 وما بعدها .
(2) ذكره الماوردى الحاوى الكبير 8/32 .(1/123)
2- قالوا : السفيه مكلف مالك لمحل الطلاق ، والحق أن محل الطلاق آدمية حرة لا تملك ، على أن ملكيته لماله لم تمنع من تقييد تصرفه فيه مع أن ضر تصرفه فى ماله لا يتعدى إلى غيره إلا احتمالا ، وضر تصرفه بالطلاق لقلة تدبيره ومكابرته تصيب زوجته وأولاده يقينا ، فضلا عما يلحقه فى ماله من غرم بالصداق والمتعة ونحوهما ناهيك عن المذمة ، كما يقول أبو حنيفة (1) وكل ذلك يسوغ أن يحجر عليه فى الطلاق من باب أولى .
3- قالوا : الرق لا يبطل الطلاق فكذلك السفه ، والحقيقة أن بينهما خلافا ، لأن حاجة الرقيق مظنة التروى فى الطلاق ، ومكابرة السفيه مظنة العجلة فيه فافترقا .
4- قالوا : السفيه كالهازل ، وهذا بابنا لإبطال طلاقه لانعدام القصد كما سيأتى .
5- وأخيرا قالوا : السفيه يستفيد بطلاقه ، وهذه نظرة أبعد ما تكون عن خلق الإسلام، الذى ينفر من الشح ويرغب فى الإيثار ، ولا يعقل أن يندب الشرع إلى الزوجة الضعيفة أن تصبر على ضيق النفقة ، وييسر الطريق إلى الزوج للخلاص منها .
6- أن الظاهر من أدلة الشرع أن الطلاق محدد ومقيد ، وأنه مما يخشى معه ظلم النفس ، وأن فقه خطاب الله تعالى فى الطلاق لا يدركه إلا أولو الألباب الذاكرون (2) .
__________
(1) انظر المبسوط 24/170 ، البناية 10/118 ، الشيخ أبو زهرة الملكية ص 323 .
(2) انظر الشيخ محمد الغزالى . تراثنا الفكرى ص 132- 134 وهو يقول فى ابتداء نظره فى سورة الطلاق " هذا تفسير موضوعى لسورة الطلاق ، يقوم على الوحدة الموضوعية بين أجزاء السورة كلها ، وعلى تكامل الآيات وتماسك سياقها فى إبراز حقيقة معينة " .(1/124)
والمتصور فى السفيه الطيش والنزق ، فلا يكون من أهل الروية والتدبر فى إيقاعه ، ومن الواجب حمايته من ظلم نفسه ، وسمة التحديد والتقييد فى تشريع الطلاق تومئ إلى تضييق بابه ، والحد من منافذه ، وأولى الناس بالأخذ على أيديهم فى هذا الباب السفهاء الذين يغلب عليهم التصرف على غير مقتضى العقل والشرع .
وقد اقترح مشروع القانون العربى الموحد حلا لائقا لمشكلة طلاق السفيه، فنص فى المادة 78 / ب على أنه :
" إذا كان الزوج دون سن الرشد لا يقع طلاقه إلا بموافقة ولى المال أبا أو جدا ، فإذا كان ولى المال غيرهما اشترط مع ذلك موافقة القاضى " .
وعلقت المذكرة الإيضاحية للمشروع على النص بقولها :
" ولهذا سند فقهى من آراء فقهاء السلف ، فقد نقل ابنا قدامة كلاهما فى المغنى والشرح الكبير من فقه الحنابلة أن عطاء قد منع وقوع طلاق السفيه . ومن المقرر أن القاصر بين سن التمييز والرشد هو والسفيه من صحة التصرفات ونفاذها فى حكم واحد ، لأن الفقهاء يلحقون السفيه المحجور عليه بالقاصر المميز " .
الرأى المختار فى طلاق السفيه :
الذى تميل إليه نفسى أن طلاق السفيه لا يقع وذلك للأسباب الآتية :
1- أن الحجر على السفهاء مستساغ شرعا وعقلا . وغايته كما يقول العلماء حفظ منفعة الخلق فى الأموال ، ولهذا أضافها الله إلى الأولياء ، قال "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"(1) لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم (2) والأمر الذى لا شك فيه أن عقود الأموال أخفض من عقود الأبدان (3) فإذا ساغ الحجر فى الأقل ساغ فى الأعلى .
__________
(1) النساء آية (5) .
(2) انظر نيل الأوطار 5/247 ، القرطبى 5/35 .
(3) انظر القرطبى 3/291 .(1/125)
2- أن أثر الحجر يلحق بالأقوال دون الأفعال ، " لأن اعتبار الأقوال موجودة بالشرع، والقصد من شرطه " ولا شك أن الطلاق من جنس الأقوال ، ومن هنا ألغى طلاق الصغير والمجنون (1) فلما لا يلحق بهما السفيه فى ذلك ، خصوصا وأن الصبى الذى ألغيت عبارته أمر الله باختباره فقال " وابتلوا اليتامى"(2) بينما نهى نهيا صريحا عن دفع المال إلى السفيه فقال " ولا تؤتو السفهاء أموالكم " (3)مما يفيد أن للصبى تدبيرا فى الجملة ، أما السفيه فلا تدبير له ، أو يقال : الصبى قاصر النظر ، أما السفيه فمهلهل الرأى ، ضعيف العقل . والطلاق من التصرفات الشرعية التى تعتمد على القصد الصحيح (4) .
المطلب الثانى
أثر عدم الوعى فى الطلاق
1- طلاق السكران :
السكر مغيب عن الوعى ، وفى القرآن الكريم " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " (5) ولكن السكر مغيب إرادى ، حيث إن للعبد فى دفعه حيلة ، ومن هنا اختلفت كلمة العلماء فيه ، ونوجز أقوالهم فيما يلى :
السكر ضربان :
أ – سكر لا معصية فيه : ويكون متى سكر الشخص بشراب لا يعلم أنه مسكر ، أو يعلم وأكره عليه ، أو تناوله للعلاج كالبنج وسائر الجواهر المخدرة متى اتخذت للتداوى .
__________
(1) انظر الهداية بشرح البناية 10/90 وما بعدها .
(2) من الآية (6) من سورة النساء وانظر القرطبى 5/39 وما بعدها .
(3) من الآية (5) من سورة النساء وانظر القرطبى 5/33 .
(4) انظر البدائع 3/100 حشية ابن عابدين 3/268 وما بعدها الحاوى الكبير 13/104، 105 ، المغنى لابن قدامة 7/113 –114 ط م الجمهورية العربية .
(5) النساء الآية 70 .(1/126)
والعلماء - إلا فئة قليلة شذت – يقولون إن من سكر سكرا لا معصية فيه فطلاقه لا يقع لارتفاع المأثم عنه (1) .
ب- سكر محرم : ويكون ممن تعاطى المسكر اختيارا لا لعلة وهو يعلم ذلك ، ومثاله الأشهر معاقرة الخمر ، وشرب الحشيشة وغير ذلك مما يذهب الوعى .
وقد اختلف العلماء فى طلاق من سكر سكرا محرما :
فذهب جمهورهم (2) إلى القول بوقوع طلاقه ، لعموم الأدلة الواردة فى الطلاق ، ولم تخص بعدم وقوع طلاق السكران ، ولأن السكران مكلف بدليل حده للسكر ، إذ لو كان غير مكلف لما حد بما أتاه ، ولا كان مؤاخذا به ، وفى مؤاخذته دليل على تكليفه ، فإذا ثبت أنه مكلف ، وجب أن يقع طلاقه كالصاحى(3) .
__________
(1) انظر : البدائع 3/100 ، حاشية الدسوقى والشرح الكبير 2/306 ، 3/6 ، الحاوى الكبير 13/105 ، كشاف القناع 5/2625 ، المحلى 11/535 ، البحر الزخار للزيدية 3/166 ، شرائع الإسلام للجعفرية 3/12 ، شرح كتاب النيل للأباضية 3/623 .
(2) قال ابن قدامة " رواية عن أحمد " اختارها أبو بكر الخلال ، والقاضى ، وهو مذهب سعيد بن المسيب ، وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين ، والشعبى والنخعى وميمون بن مهران والحكم ، ومالك ، والثورى ، والأوزاعى والشافعى فى أحد قوليه ، وابن شبرمه ، وأبى حنيفة وصاحبيه ، وسليمان بن حربة المغنى 7/114 .
(3) انظر : الحاوى الكبير 13/104 – 105 ، المغنى 7/115 ، فتح القدير 3/345 ، البدائع 3/99 الشرح الصغير وحاشية الصاوى 3/349 وما بعدها ، البحر الزخار 3/166، وقد قالوا ولأن عقله زال بسبب هو معصيه ، فينزل – أى يعتبر – قائما عقوبة عليه وزجرا له عن ارتكاب المعصية .(1/127)
ويرى فريق من الصحابة والتابعين والفقهاء (1) أن طلاق السكران لا يقع .
لقول الله تعالى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"(2) ومن أخبر الله تعالى أنه لا يدرى ما يقول ، فلا يحل أن يلزم شيئا من الأحكام لا طلاقا ، ولا غيره لأنه غير مخاطب ، إذ ليس من ذوى الألباب .
وقد روى أبى شيبة بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : " ليس لمجنون ولا لسكران طلاق " (3) قال ابن المنذر : هذا – الأثر – ثابت عن عثمان ، ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفه ، وقال أحمد بن حنبل : حديث عثمان أرفع شئ فى هذا الباب (4) .
والراجح :
القول بعدم وقوع طلاقه ، لعدم العقل والقصد كما أن إيقاع الطلاق كعقوبة يحتاج إلى دليل (5) لاسيما وأن العقاب والزجر يحصلان بتوقيع الحد الشرعى على السكران ، فهو العقاب الوحيد الذى رتبه الشارع الحكيم على هذه الجريمة ، ومن المقرر شرعا أن الجريمة الواحدة لا يجوز أن تكون لها عقوبتان إلا بنص .
__________
(1) روى ذلك عن عثمان بن عفان رضى الله عنه ، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز والقاسم وطاووس وربيعة ، ويحيى الأنصارى والليث ، والعنبرى ، وإسحاق وأبى ثور والمزنى وحميد بن عبد الرحمن ، وعثمان البتى، وأحد قولى الشافعى ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، وبه يقول أبو الحسن الكرخى ، وأبو جعفر الطحاوى من شيوخ الحنفية وهو مذهب الجعفرية ، وأهل الظاهر ، وبعض الزيدية . يراجع البدائع 3 /99 ، بداية المجتهد 2/96 –97 ، الحاوى الكبير 12/105 – 106 ، المغنى 1/115 ، المحلى 11/537 – 538 البحر الزخار3/166 ، شرائع الإسلام 3/12
(2) . ) النساء آية (43) .
(3) المحلى 11/537 –538 .
(4) المغنى 7/115 . .
(5) سبل السلام 3/266، السيل الجرار 2/342 ، نيل الأوطار 6/238 .(1/128)
ومن ناحية أخرى فإنه يجب ألا تصيب العقوبة غير الجانى ، وفى إيقاع طلاق السكران إصابة للزوجة والأولاد فلا يصح (1) .
وبهذا الرأى تأخذ التقنينات المعاصرة (2) .كما يجرى عليه عمل القضاء (3) .
2- طلاق الغضبان :
يقسم العلماء الغضب إلى ثلاث درجات (4) :
أولها : أن يحصل له مبادئ الغضب بحيث لا يتغير عقله ويعلم ما يقول ويقصده .
ثانيها : أن يصل به الغضب حدا لا يعلم معه ما يقول ولا يريده .
ثالثها : أن يتوسط بين الرتبتين بحيث يستحكم به الغضب ويشتد ، ولا يزيل العقل بالكلية ، ولكنه يحول بين المرء ونيته ، بحيث يندم على ما فرط إذا زال غضبه .
__________
(1) فى هذا المعنى د. محمد يوسف موسى الأحكام الشرعية فى الأحوال الشخصية ط 1958 ص 263 .
(2) فالمادة الأولى من القانون 25 لسنة 1929 تنص على أنه " لا يقع طلاق السكران " وهو نص المادة 35 من القانون العراقى ، وتنص المادة 134 فقرة "ب" من القانون السودانى على أنه : " لا يقع طلاق فاقد التمييز بسبب السكر المطبق " وتنص المادة 88 فقرة "أ" من القانون الأردنى على انه " لا يقع طلاق السكران " وتنص المادة 108 من القانون الإماراتى على أنه " يشترط لوقوع الطلاق من الزوج أن يكون بالغا عاقلا مختارا قاصدا إلى اللفظ الذى يقع به الطلاق ، واعيا لما يقول .
(3) انظر مثلا : قضاء محكمة النقض المصرية فى 8/12/81 ، طعن رقم 31 س 50 ، وانظر المستشار أشرف مصطفى كمال ، قوانين الأحوال الشخصية معلقا على نصوصها ص 64 .
(4) انظر : زاد المعاد لابن القيم – نشر دار الغد العربى – 4/51 كشاف القناع 5/2626 وما بعدها ، ابن رجب الحنبلى ، جامع العلوم والحكم ط دار الريان الأولى ص 179 – 181 ، نيل الأوطار 6/235 ، حاشية ابن عابدين 3/268 وما بعدها .(1/129)
ولا يختلف الرأى فى أن طلاق الأول يقع ، كما لا يختلف الرأى أن الثانى لا يقع طلاقه ، لحديث " لا طلاق فى إغلاق " (1) وما وصل به الغضب حد أن يهذى ، ولا يعلم ما يقول انغلق عقله عن التفكير الطبيعى السليم ، فانغلق عليه اختياره (2) .
ولكن اختلف العلماء فى أثر الغضب إذا توسط بين الرتبتين :
والذى يظهر من عبارة الأكثرية أن طلاقه واقع (3) وفسروا الإغلاق – الوارد فى الحديث – بالإكراه ، لا الغضب ، لأن الغضبان الذى لم يصل إلى مرحلة فقد الوعى مكلف واع بما ينطق به ، فضلا عن أن المطلوب شرعا من الغضبان – ما دام يميز – أن يقاوم غضبه فلا يسترسل ليطلق ، وسدا للذريعة لأن الغالب أن الناس لا يطلقون إلا فى حال الغضب. (4)
بينما استظهر الإمام ابن عابدين أن طلاق الغضبان لا يقع وإن كان يعلم ما يقول ، متى غلب على كلامه الهذيان واختلط جده بهزله ، وبعبارة أخرى "الذى ينبغى التعويل عليه فى المدهوش ونحوه إناطة الحكم بغلبة الخلل فى أقوال – الشخص – وأفعاله الخارجة عن عادته ، … فما دام فى حال غلبة الخلل فى الأقوال والأفعال لا تعتبر أقواله ، وإن كان يعلمها ويريدها ، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح ، كما لا تعتبر من الصبى العاقل " (5) .
__________
(1) الحديث أخرجه الحاكم فى المستدرك 2/198 وقال صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه البيهقى 7/375 ، والدارقطنى 6/276 ، وضعف الذهبى بعض رواته .
(2) انظر كشاف القناع 5/2626 – 1627 ، فتح البارى 9/470 أعلام الموقعين 3/52 وما بعدها .
(3) انظر زاد المعاد 4/51، شرح الحلال المحلى بحاشيتى قليوبى وعميرة 3/332 ، وكشاف القناع 5/2626 ، جامع العلوم والحكم ص (179 - 181 ) ، د. يوسف قاسم ص 303 وما بعدها ، د. السرطاوى ص (188)
(4) انظر فتح البارى 9/470 .
(5) حاشية ابن عابدين3/269 .(1/130)
وقد أخذت محكمة النقض المصرية (1) بما استظهر ابن عابدين فقررت أن طلاق الغضبان لا يقع إذا :
أ- بلغ به الغضب مبلغا لا يدرى معه ما يقول أو يفعل .
ب- أو وصل به إلى حالة من الهذيان يغلب عليه فيها الاضطراب فى أقواله أو أفعاله وذلك لافتقاده الإرادة والإدراك الصحيحين .
كما قررت المحكمة أن " تقدير توافر الأدلة على قيام حالة الغضب هذه هو مما يدخل فيما لمحكمة الموضوع من سلطة تقدير الدليل فى الدعوى ، فلا تخضع بصدده لرقابة محكمة النقض طالما كان استخلاصها سائغا ، ولا يوجد معيار طبى أو غير طبى للمدة التى يستغرقها الغضب ، تبعا لتفاوت مداه ومدى التأثر به بالنسبة لكل حالة .
وفى تطبيقها لواقعة الغضب قررت المحكمة إنه " لا يكفى لبطلان طلاق الغضبان أن يكون مبعثه الغضب ، بل يشترط أن تصاحب حالة الغضب المؤثرة إيقاع الطلاق حتى تنتج أثرها على إرادة المطلق " .
وبما يجرى عليه العمل فى مصر يأخذ القانون الأردنى " مادة 88 فقرة "ب" حيث فسر " المدهوش " بأنه من فقد تمييزه من غضب أو وله أو غيرهما فلا يدرى ما يقول " وكذا القانون الإماراتى فقد نص على أنه " لا يقع طلاق الغضبان إذا أخرجه الغضب عن عادته ، وصار بغضبه كالمكره على الطلاق ، وإن كان لا خلل فى قواه " ويظهر من عبارة المقنن السودانى "مادة 134" فقرة "ب" الميل إلى اختيار الجمهور .
المطلب الثالث
عدم الاختيار وأثره فى الطلاق
لا خلاف بين العلماء أن الطلاق تصرف إرادى مرده كبقية التصرفات إلى الإرادة الباطنة ، وتكشف عنه الإرادة الظاهرة – أى التعبير – ولكن بما توجد الإرادة الباطنة ؟
يرى الأحناف :
أن الإرادة الباطنة تتوقف على الاختيار والرضا ، وهما أمران متغايران.
__________
(1) انظر حكمها فى 12/2/1980 لدى م أشرف كمال ص 65 .(1/131)
فالاختيار : هو مجرد إرادة العبارة أو ما يقوم مقامها ، باعتبار أنها سبب عادى لإنشاء التصرف ، وأداة شرعية لوجوده ، سواء وجدت الرغبة فى الإنشاء أو لم توجد ، ويتم الاختيار عندهم بإتيان الشئ واستحسانه .
أما الرضا : فيعنى الرغبة فى آثار التصرف من ترتيب الحكم الشرعى عليه عند وجوده وإنشائه ، فالرضا يشمل الاختيار وزيادة .
ويرى الجمهور : أن الرضا والاختيار وجهان لعملة واحدة فكلاهما يعنى القصد إلى العبارة المنشئة للتصرف بحيث تكون ترجمة عما فى النفس ، ودليلا على الرغبة فى التصرف(1).
وقد أدى الاختلاف فى هذا الأصل إلى الاختلاف فى جملة من المسائل ، من بينها طلاق المكره .
ففى قول جمهور العلماء : لا يقع أخذا من قول الله تعالى " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " (2) فالشرك أعظم من الطلاق ، وقد وضع الله الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه ، وأسقط عنه أحكام الكفر ، فيسقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط سقط ما دونه بطريق الأولى (3) ولقول النبى صلى الله عليه وسلم " لا طلاق فى إغلاق " أى فى إكراه ، لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه (4) .
__________
(1) عالجت هذه الخلافية بالتفصيل فى كتابى أحكام المال والملك والعقد فى الفقه الإسلامى والقانونى الوضعى دراسة مقارنة نشر دار الثقافة العربية ص 290 – 295 ، فليرجع إليها من أراد الاستفاضة.
(2) النحل آية (106) .
(3) انظر بداية المجتهد 2/96 ، الحاوى الكبير 13/100 المهذب للشيرازى 2/78 ، المغنى 7/118 ، نيل الأوطار 6/236 ، سبل السلام 3/259 وما بعدها ، البحر الزخار 3/166 ، الروضة البهية 6/17 .
(4) الحاوى الكبير 13/97 ، المغنى 7/118 ، كشاف القناع 5/2627 .(1/132)
ولقوله أيضا " إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فاقتضى أن يكون طلاق المكره مرفوعا (1) .
__________
(1) الحاوى الكبير 13/97 ، والحديث رواه ابن ماجة والبيهقى وابن حبان ، والدارقطنى عن الأوزاعى عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس ، قال ابن رجب فى الجامع ص 452" وهذا إسناد صحيح فى ظاهر الأمر ، ورواته كلهم محتج بهم فى الصحيحين " ثم أورد كثيرا من طرقه وأعلها ، ثم عقب بأن مضمونه فى القرآن قال " فأما الخطأ والنسيان فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما ، … وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه " انظر ص 452 – 453 . وحاصل ذلك أن الحديث له اصل صحيح يعتد به فوجب العمل بمقتضاه .(1/133)
وخالف الحنفية فقالوا : بوقوع طلاقه ، لحديث " كل طلاق جائز – أى واقع – إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله " (1) ولحديث " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والعتاق " (2) والمكره لا يخلو أن يكون جادا أو هازلا ، فوجب أن يقع طلاقه (3) على أن الحديث لم يمنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد ، فلأن لا يمتنع الوقوع بسبب الإكراه أولى ، لأن الإكراه لا يضاد الجد ، فإنه أكره على الجد وأجاب إلى ذلك (4)
والراجح :
ما ذهب إليه الجمهور ، لقوة أدلته ، وضعف أدلة الحنفية ، بل قال ابن حزم عن الحديث الأول مكذوب ، وعن الثانى موضوع ، ومع ذلك لا ذكر للمكره فيه.
على أن منهج القرآن فى أحكام النكاح والطلاق يدعو إلى تلمس الأسباب للحفاظ على الأسرة ، وليس العكس ، لذا فالأقرب إلى مقاصد التشريع هو عدم وقوع طلاق المكره متى وجد الإكراه بشروطه المعتبرة شرعا .
__________
(1) الحديث أخرجه الترمذى فى الطلاق ، وقال : هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان ، وعطاء ضعيف ذاهب الحديث وقال ابن حزم 11/527 " عطاء بن عجلان مذكور بالكذب " وقال ابن حجر فى تلخيص الحبير 3/236 " وهو متروك " .
(2) الحديث أخرجه الترمذى فى الطلاق ، وقال حسن غريب ، وأخرجه الحاكم فى مستدركه 2/198 وصححه ، وأخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، والدارقطنى 4/18 ، وتعقب ابن حجر طرقه فقال فى التلخيص 3/236 " فيه ابن لهيعة " وأعل بعضها بالانقطاع ، والبعض باختلاف العلماء فى بعض رواته " يعنى عبد الرحمن بن حبيب ، وفيه قال ابن حزم 11/582 " منكر الحديث مجهول " وسيأتى لنا كلام فيه فى المطلب التالى .
(3) البدائع 3/100 تبيين الحقائق 2/194.
(4) المبسوط 24/42 ، البناية والعناية 5/5- 6 .(1/134)
ولهذا هجرت التقنينات المعاصرة رأى الحنفية فى طلاق المكره ، وأخذت بمذهب الجمهور ، ومن ذلك القانون 25/1929 المصرى ، والذى نص فى مادته الأولى على أنه " لا يقع طلاق المكره " وتابعته فى ذلك التقنينات العربية الأخرى ، بل إننا لا نكاد نلمح اختلافا بينهما وبين القانون المصرى فى نصه ، أو فى المذكرات الإيضاحية الشارحة .
وبدهى أنه يتعين على من يدعى وقوعه تحت تأثير الإكراه إثبات ما يدعيه ، وإلا وقع طلاقه صحيحا (1) .
ولأن القضاء فهم ، فالقاضى لا يقف عند ظواهر البينات ، ولا يتقيد بشهادة من تحملوا الشهادة على الحق ، وله أن يعول على القرائن التى يستخلصها من ظروف الحال فى الدعوى ، وما قدم فيها من مستندات ، ولا معقب عليه فى ذلك متى كانت تقريرات الحكم فى هذا الشأن سائغة ، ولها سندها الثابت (2) .
المطلب الرابع
أثر تخلف القصد فى الطلاق
فى حديث القرآن الكريم عن الطلاق ورد قول الله تعالى " وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " (3) والعزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله (4) . وفى السنة الصحيحة " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " (5) وفيها أيضا " إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
ومقتضى هذا ألا يعتد بالتصرف إلا إذا كان مقصودا ، عقدت عليه النوايا، واتجهت إليه الإرادة (6) .
__________
(1) م أشرف كمال ص 64 .
(2) فى هذا المعنى نقض مصرى فى 23/6/1981 فى الطعن رقم 28 لسنة 50 قضائية . أشرف كمال ص 64 وما بعدها .
(3) البقرة آية 227 .
(4) القرطبى 3/114 .
(5) حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى باب كيف بدأ الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخرجه مسلم فى كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات .
(6) انظر : أعلام الموقعين 3/55 .(1/135)
ولكن بالنظر إلى قول الله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " (1) وما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من قوله " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة " وإعمالا لقاعدة "سد الذريعة " فإن المعول عليه فى القضاء والحكم ينبغى أن يكون هو الظاهر ، أما السرائر فأمرها إلى الله .
ولا شك أنه متى وافق الظاهر الباطن ، أو شهدت قرائن الأحوال أن الظاهر غير مراد قطعا فلا مشكلة ، ومن هنا لا نجد خلافا يذكر فيمن تلفظ بالطلاق وهو لا يفهم معناه (2) ، أو من تلفظ به لغرض غير حل العقد يقينا ، كالمشخص ، والحاكى ، والمعلم بين تلاميذه ، ونحوهم ممن تشهد قرائن الأحوال لهم على عدم إرادة معناه ، أن لفظهم لغو ، لا يقع بموجبه شئ (3) .
فإن اختلت قرائن الأحوال فاختلاف الرؤى وارد نظرا لتعارض الإرادتين الظاهرة والباطنة ، وذاك أصل عظيم ، ومسألتنا واحدة من آثاره ، إن لم تكن أظهرها .
1 – طلاق المخطئ والساهى .
يرى جمهور الفقهاء : أن طلاق المخطئ والساهى لا يقع .
أما المخطئ : فهو الذى يريد أن يتكلم بغير الطلاق فيسبق على لسانه الطلاق .
__________
(1) الإسراء الآية (36) .
(2) ذكر الحنفية أن هذا يلزمه طلاق قضاء ولا أرى له وجها ، ويرده الأثر الآتى :
(3) انظر روضة الطالبين للنووى ط المكتب الإسلامى الثانية 8/54، 55، 56 كشاف القناع 5/2625 ، المحلى 11/520 ، أعلام الموقعين 3/95 ، 105، 108 وقد روى أن امرأة قالت لزوجها : سمنى . فسماها الظبية ، قالت : ما قلت شيئا قال : فهات ما أسميك به . قالت : سمنى خلية طالق . قال : فأنت خلية طالق . فأتت عمر بن الخطاب فقالت : إن زوجى طلقنى ، فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها ، وقال لزوجها : خذ بيدها وأوجع رأسها " .(1/136)
والساهى والغافل : هو من غفل قلبه عن الشئ حتى زال عنه فلم يتذكره (1) .
وإنما لم يقع طلاقهما لأن العبرة فى التصرفات بالمقاصد والمعانى ، لا بالألفاظ والمبانى ، وقد قال الله تعالى " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم " (2) وقال النبى صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى " (3) وقال " إن الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (4) .
ويرى الحنفية : أن طلاقهما واقع بحسب الظاهر ، لأن الخطأ والسهو أمر باطنى لا يطلع عليه إلا من جهة صاحبه ، وقد يتخذ ادعاؤه وسيلة إلى إحلال ما حرم الله والى إضاعة الحقوق . (5)
__________
(1) وصورة طلاقه : أن يعلق الطلاق على شئ يفعله هو ، ثم ينسى فيفعله كأن يقول لزوجته إن أكلت معك فأنت طالق ، ويسهو عن قوله هذا فيؤاكلها .
(2) الأحزاب آية (5) .
(3) حديث صحيح رواه الجماعة .
(4) انظر : روضة الطالبين 8/53 ، أعلام الموقعين 3/106 ، 107 المحلى لابن حزم 11/520 وما بعدها ، الشرح الصغير وحاشية الصاوى 3/350- 351 ، البحر الزخار 3/167 ، الروضة البهية 6/19 وفى المنهاج بشرحه مغنى المحتاج 3/287- 288 " مربلسان نائم طلاق لغا ، ولو سبق لسان بطلاق بلا قصد لغا، ولا يصدق ظاهرا إلا بقرينة ، ولو كان اسمها طالقا فقال يا طالق وقصد النداء لم تطلق ، وكذا إن أطلق فى الأصح ، وإن كان اسمها طارقا أو طالبا فقال يا طالق ، وقال : أردت النداء فالتف الحرف صدق " .
(5) انظر : البحر الرائق 3/263 ، البدائع 3/100(1/137)
والراجح : باعتبار الدليل هو مذهب الجمهور ، وهو ما ارتضاه بعض علمائنا المعاصرين ، "لأن الطلاق شرع للحاجة ، فلابد من قصد صحيح إليه ولعلة باعثة عليه " (1) وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية الإماراتى .
بينما يميل آخرون إلى رأى الحنفية الذى يجرى عليه العمل فى مصر ، وفى أكثر التقنينات العربية المعاصرة (2) سداً للذريعة أمام المستهترين الذين يقصدون التلفظ بالطلاق ، ثم إذا أخذوا بذلك قضاء زعموا أنهم لا يقصدون ، وإنما سبق لسانهم إليه ، أما حقيقة الأمر بالنسبة لهم فموكولة إلى الله ديانة .
وفى رأيى أن الأول أرجح :
لأنه أقوى دليلا وأقرب إلى مقاصد الشرع ، والتخوف من المستهترين يمكن قطعه أو تضييق بابه بدقة التحرى عن طبيعة الزوج وعلاقته بزوجه وحسن ملاحظة قرائن الأحوال التى صدر فيها التلفظ بالطلاق .
2 – طلاق الهازل :
الهزل خلاف الجد ، والهازل بالطلاق أتى بمجرد السبب – التعبير – فهل يلزمه موجبه من حل العقدة ، أو نقص الملك أو لا ؟
__________
(1) انظر مثلا:الإمام أبو زهرة ص 291،د. محمد البلتاجى دراسات ص 206 ، الشيخ على حسب الله الفرقة بين الزوجين ص72،د.عبد الرحمن الصابونى ص 137 ، د.محمود عوض أحكام الأسرة ط 1996ص 395
(2) انظر مثلا : أستاذنا الدكتور عبد الحميد ميهوب ص 220 ، د. أحمد يوسف ص 209 ويلاحظ أنه وإن كان طلاق المخطئ واقعا فى أكثر التقنينات المعاصرة ، فأكثرها على أن طلاق الساهى – بصورة التعليق التى ذكرناها آنفاً – لا يقع لأن الطلاق المعلق لا يقع إلا إذا نواه الزوج ومع الغفلة لا نية .(1/138)
جمهور العلماء يقولون : لا يلزم العبد فى النكاح والطلاق والرجعة والعتق واليمين إلا الإتيان بمجرد السبب، أما موجبه فهو من جعل الله سبحانه وتعالى ، ولا يقف على اختيار المعبر ، فيلزمه وإن كان هازلا ، وعلى ذلك فإن من هزل بالطلاق لزمه(1)
ويستندون فى رأيهم هذا إلى أدلة أظهرها :
1 – قول الله تعالى " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " (2)
قالوا : معناه لا تأخذوا أحكام الله تعالى فى طريق الهزو بالهزو ، فإنها جد كلها ، فمن هزل فيها لزمته ، قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق فى الجاهلية ويقول إنما طلقت وأنا لاعب ، وكان يعتق وينكح ويقول : كنت لاعبا ، فنزلت هذه الآية (3).
2 – وما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من قوله " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة " .
3 – ما روى عن على بن أبى طالب وابن مسعود وأبو الدرداء كلهم قالوا " ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد ، النكاح والطلاق والعتاق " (4)
وقد غلب هذا الرأى فى الفقه الإسلامى حتى إن من المصنفين من ينفى فيه الخلاف(5)
__________
(1) المبسوط 6/166 ، البدائع 3/100 ، الشرح الصغير وحاشية الصاوى 3/350 ، المنهاج ومغنى المحتاج 3/288 ، الإنصاف 8/465 ، الفتاوى لابن تيمية 3/112 ، أعلام الموقعين 3/106 وما بعدها ، البحر الزخار 3/167 .
(2) البقرة من الآية 231
(3) القرطبى 3/157 ، الجصاص 1/483
(4) السابقان، المغنى 10/144
(5) المراجع السابقة ، وعند ابن العربى 1/200 وما بعدها " ولست أعلم خلافا فى المذهب فى لزومه ، وإنما اختلف قول مالك فى نكاح الهازل فقال عنه على بن زياد . لا يلزم ، ومن أراد أن يخرج على هذا طلاق الهازل فهو ضعيف النظر ، لأن إبطال نكاح الهازل يوجب إلزام طلاقه ، لأن فيه تغليب التحريم على البضع فى الوجهين ، وهو مقدم على الإباحة فيه إذا عارضته "(1/139)
وفي رواية عن مالك وأحمد ومقتضى عبارة ابن حزم، وهو مذهب الجعفرية ، أن طلاق الهازل لا يقع (1)
وأدلتهم على ذلك ما يلى :
1 – قول الله تعالى " وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " (2)
فالآية تدل على اعتبار العزم ، والهازل لا عزم له .
2 – ومن السنة ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "
والهازل تلفظ بلا نية فيقع لفظه لغوا .
3 – ويمكن أن يستدل لهم بكلام للشوكانى نصه " كيف يؤاخذ من قصد التكلم باللفظ غير مريد لمعناه ، بما هو مدلول ذلك اللفظ ، مع أنه غير مقصود ولا مراد ، وأى تكليف ورد بمثل هذا ، وأى شرع أو لغة أو عرف دل عليه ؟ فإن الألفاظ إنما هى قوالب المعانى ، لا تراد لذاتها أصلا لا عند أهل اللغة ولا عند أهل الشرع ، فالتكلم بلفظ الطلاق الصريح فى معناه ، إذا لم يرد المعنى الذى وضع له ذلك اللفظ فى فراق زوجته ، فهو كالهاذى الذى يأتى فى هذيانه بألفاظ لا يريد معانيها ، ولا يقصد مدلولاتها .
فالحاصل أن من لم يقصد معنى اللفظ لم يؤاخذ به وإن تكلم به ألف مرة ، ومن زعم غير هذا فقد جاء بما لم يعقل ولا يطابق شرعا ولا عقلا ، ولا رأيا قويا نعم إذا جاء فى لفظه بما هو طلاق صريح وقال إنه لم يقصد معناه ولا أراد مدلوله كان مدعيا لخلاف الظاهر ، لأنه أدعى ما لا يفعله العقلاء فى غالب الأحوال ، ولكن لما كان القصد لا يعرف إلا من جهته كان القول قوله مع يمينه ، إن خاصمته فى ذلك امرأته ، أو احتسب عليه محتسب " (3) .
نظرة فى الأدلة :
أولاً : أدلة الجمهور
__________
(1) انظر : ، الإنصاف 8/465 ، الفتاوى لابن تيمية 3/112 ، المحلى 10/228 ، 11/528 وما بعدها ، نيل الأوطار 6/235 ، الروضة البهية 6/19 ، المادة 983 من الأحوال الشخصية لآل البيت .
(2) البقرة آية ( 227 )
(3) السيل الجرار 2/343 ، وقد قاله تعليقا على عبارة صاحب متن الأزهار " …… قصد اللفظ فى الصريح "(1/140)
1 – أما الآية فمحتملة الدلالة ، ولعل أقرب المعانى إلى ظاهر الآية وسياقها هو الإمساك ضرارا على ما روى عن عائشة قالت : إن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول : والله لا آويك ولا أدعك قالت : وكيف ذاك ؟ قال : إذا كدت تقضين عدتك راجعتك فنزلت " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " (1)
على أننا إن حملنا الآية على تفسير الجمهور ، وقلنا " ليس للعبد أن يهزل مع ربه ، ولا يستهزئ بآياته " (2) فإن معنى آخر يرد عليه هو : لم خص الطلاق وأخواته بهذا دون بقية المعاملات ؟
قيل : للحديث (3) وسيأتى الكلام معه .
وقيل : سائر التصرفات تنعقد بالهزل (4) وهو اتجاه ترفضه الكثرة من الفقهاء .
وقيل : لأن الطلاق حد من حدود الله ، وأن الورع يقضى بإلزامه لمن التزامه ، والفتوى بوقوعه ، ولو لم يكن ثابت الوقوع ، وأن التشديد فيه احتياط فى الدين وصيانة للفروج(5).
ولعل عكس ذلك هو الأولى بالاعتبار ، لأن النكاح ثابت بيقين ، والاحتياط للفروج يقتضى ألا يرفع إلا بيقين مثله ، ولله در ابن حزم حيث يقول " الورع ألا تحرم على المسلم امرأته التى نحن على يقين من أن الله عز وجل أباحها له ، وحرمها على من سواه إلا بيقين ، وأما بالظنون والمحتملات فلا "(6)
2 – يقول الجمهور : ونحن أنزلنا الهزل منزلة الجد بالنص وهو " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد " فهذا الحديث وما فى معناه قد دل على وقوع هذه الثلاثة من الهازل ، ولولا ورود ذلك لم يقع بها شئ ، لأنه لم يخرجها مخرج القصد الصحيح والعزم المعتبر ، كما قال عز وجل " وإن عزموا الطلاق " (7)
ويجاب عليه :
__________
(1) القرطبى 3/157 ، وانظر ابن كثير 1/281
(2) الفتاوى لابن تيمية 3/113 ، أعلام الموقعين 3/109
(3) السيل الجرار 2/344
(4) مغنى المحتاج 3/288
(5) انظر الأستاذ كمال أحمد عون . المرجع السابق ص 89 وما بعدها
(6) المحلى 11/458
(7) السيل الجرار 2/344(1/141)
أ – أن هذا الحديث ورد من عدة طرق لم تسلم جميعها من النقد ، وقد شنع عليها الإمام ابن حزم حتى وصفها بالوضع . (1)
ب – وإن سلمنا أن الحديث مقبول تبعا للترمذى والحاكم والشوكانى والعينى وغيرهم (2) ، فإنه معارض بحديث " إنما الأعمال بالنيات " وهو حديث ثابت مشهور لا منازع فيه ، وقد اتفق جمع من الفقهاء والمحدثين على أنه ثلث العلم ، ومنهم من قال ربعه(3).
جـ –قالوا : إن حديث " الأعمال " عام خص بحديث " الثلاث " .
وهذه دعوى شائكة لأن التخصيص نسخ جزئى (4) ولا نرى حديث " الثلاث " قد بلغ مبلغ حديث " الأعمال " حتى يخصصه .
ويبدو لي أن الأئمة كانوا مترددين فى عموم إعماله ، فنص الشافعى – كما يقول بعض أصحابه – أن نكاح الهازل لا يصح ، ونحوه يروى عن مالك وبعض أصحابه ، والإمام أحمد اعتبره فى أحد قوليه فى الطلاق ، ولم يعتبره فى الزواج، فعلى أى وجه وقعت التفرقة ؟ !!
د – على أن فى كلام الإمام ابن حزم ما يفيد أن المعنى غير ما حمل عليه الجمهور قال : قال على كرم الله وجهه " ثلاث لا لعب فيهن الخ " … لو صح فظاهره إبطال اللعب فيهن ، فإذا بطل ما وقع منها باللعب (5).
هـ – أن بعض روايات الحديث تحتمل أنه صدر فى واقعة عين تعنيفا لدعى شهدت قرائن الأحوال أنه عزم ثم ادعى أنه كان هازلا ، فعومل باعتبار ظاهر حاله . روى ابن حزم مرسلا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ، ويقول أحدهم قد طلقت ، قد راجعت" (6)
ثانياً : أدلة المخالفين :
__________
(1) انظر المحلى 10/229 ، 11/528 ، وانظر نصب الراية للزيلعى 3/294 ، سبل السلام 3/258
(2) انظر نيل الأوطار 6/235
(3) انظر فتح البارى 1/13
(4) انظر : د. ثريا محمود عبد الفتاح . النسخ وموقف العلماء منه ط دار الضياء الأولى 1998 ص 44
(5) انظر المحلى 10/231
(6) السابق 11/528(1/142)
1 – اعترض على الاستدلال بالآية بأنها نزلت فى حق المولى (1) أى أنها مخصوصة به.
وفى النفس من هذا الجواب شئ ، إذ كيف يلزم العزم المضار الذى انعقدت نيته على الترك ، وشهدت قرائن الأحوال بمصيره إلى الطلاق ، ولا يلزم من لم يبدر منه شئ يدل على إرادة الفرقة ؟ ؟
قد يقال إن المولى – تارك الوطء – قد يكون تركه عذرا فيسأل عن قصده .
ويجاب عليه : أن اعتبار عزم المولى – وهو مضار – يبرر من باب أولى اعتبار عزم غيره .
2 – ويرد على حديث " الأعمال " أنه عام مخصوص بحديث "الثلاث" وقد ناقشناه قبلا ، كما ناقشنا الاعتراض على لزوم النية فى ثنايا القول .
الخلاصة :
الأمر الذى لا شك فيه أن " مجموع النصوص الدينية يؤيد اشتراط القصد والنية"(2) ولكن يبدو أن السلف قد انطلقوا من قاعدة سد الذرائع و "غلب عليهم الحرص على الاحتياط فى الأبضاع ، لخطر أمرها من جهة الحل والحرمة ، وحرصا على صحة الأنساب فغالوا فى الفتوى بوقوع الطلاق فى كل حال ، وبكل شبهة " (3) وأعانهم على ذلك حديث " الثلاث " وما ورد عن بعض الصحابة فى معناه .
كما أعانهم عليه أن القضاء على الظاهر ، وأن الهازل مسئ للأدب فحقه أن يعاقب بإيقاع الطلاق عليه ، لا سيما وأن تجرءه على اللعب بالطلاق مما يضعف الثقة فى ادعائه الهزل (4)
ومع وجاهة كل هذا ، ومع التسليم بأن الهزل بالطلاق لا يقع إلا من سئ الأدب ، فلت اللسان ، فيما يلزمه فيه حفظه ، فإن التعزير فى رأيى يجب أن يكون بما هو من جنس العقاب(5) ، وأن تتوافر فيه سمة العقوبة الأساسية إلا وهى الشخصية .
__________
(1) انظر نيل الأوطار 6/235
(2) د. محمد البلتاجى دراسات ص 382
(3) الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر نظام الطلاق ص 85
(4) د. بدران أبو العينين ص 318
(5) قريب من هذا المعنى د. البلتاجى ص 382 ، وانظر السيل الجرار 2/342 ، نيل الأوطار 6/238 .(1/143)
ولست أرى الطلاق عقوبة ، وإنما هو رخصة شرعية ورفق بالمحتاج(1)، كما أن آثاره كثيرا ما تلحق الزوجة والولد أكثر مما تلحق المطلق ، وفى حديث المجادلة " إن لى أولاداً إن ضممتهم إلى جاعوا وإن تركتهم إليه ضاعوا " (2)
ومن جانب ثان فإنه مع ادعاء الهزل يقع الشك فى الطلاق ، والشك فى الطلاق لا يلزم حكمه " نص عليه أحمد والشافعى وأصحاب الرأى ، وابن حزم وغيره ، لأن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بشك " (3) ، وعلى القول بعدم الإيقاع " فإنا احتطنا وأبقينا الزوجين على يقين النكاح حتى يأتى ما يزيله بيقين ، وإن أخطأنا فخطؤنا فى جهة واحدة ، وإن أصبنا فصوابنا فى جهتين : جهة الزوج الأول ، وجهة الثانى ( الأجنبى ) " (4) .
وعلى القول بالإيقاع يرتكب أمران " تحريم الفرج على من كان حلالا له ، وإحلاله لغيره ، فإن كان خطأ فهو خطأ من جهتين " (5).
ولا شك أن الخطأ فى جانب واحد أهون من الخطأ فى جانبين .
ومن جانب ثالث فإن آفة الهازل أنه لا يبعد عليه الكذب فى ادعائه الهزل(6)
__________
(1) انظر مثلا: بداية المجتهد 3/732 ، الهداية بشرح البناية 5/9 ، البخارى وفتح البارى 9/474
(2) انظر الرازى 10/477
(3) المغنى 10/320 وانظر صحيح البخارى وفتح البارى 9/471 الحاوى الكبير 13/147 ، 149 ، الهداية بشرح البناية 5/62 وما بعدها ، البحر الزخار 3/170 ، وانظر بحثا جيدا فى " الشك فى الطلاق " ضمن مؤلف الأستاذ كمال أحمد عون . الطلاق فى الإسلام ص 91-99
(4) من عبارة ابن حزم نقلا عن الأستاذ كمال عون ص 98
(5) انظر السابق
(6) وهذا ما دعا جمهرة أساتذتنا إلى الميل إلى قول الجمهور ، بل اعتبره بعضهم من قبيل "صون الإسلام قداسة الزوجية من العبث بها وكان من إجراءاته فى ذلك التحذير من صدور كلمة تقطع الرابطة وأخذ الزوج بها عند الهزل ، وذلك حتى يحترس ويتحفظ ، ويتعود ضبط لسانه ورعاية حرمة الأسرة " .
انظر : الشيخ عطية صقر ص 292 ، الشيخ أبو زهرة ص 289 ، د. سلام مدكور ص 245 ، د. عبد الرحمن الصابونى ص 137 ، د. عبد المجيد مطلوب . أحكام الأسرة ص 216 ، د. أحمد يوسف ص 209 د. بدران أبو العينين ص 318 ، أستاذنا الدكتور يوسف قاسم ص 302 وما بعدها ، ومن أساتذتنا من يحكى الخلاف ولا يرجح .(1/144)
.
وهذه الآفة علاجها بنور الإيمان لا بسطوة الأحكام ، فقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أمر المنافقين وأنهم " يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم " (1) وكان غاية أمره إفضاحهم والحذر منهم ، ولم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقابهم على كثرة ما أظهر الله من خفايا قلوبهم وكذبهم .
وقد لاحظت – مع الشيخ محمد الغزالى – أن الإيمان بالغيوب والانبعاث عن تقوى الله تكرر – فى سورة الطلاق – خلال الآيات ، والأحكام الفقهية (2) وهو ما يشير إلى أن المعروف فى الإمساك والفراق مما تداخله أعمال القلوب .
وعلى ذلك فإن الهازل يصدق بيمينه أنه لم يرد الطلاق ، وما يحتمله قسمه من زور الكذب أمره إلى الله إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه .
وحاصل قولى : أننى أرى القول بعدم وقوع طلاق الهازل أرجح فى ميزان المصالح وأخف مفسدة من القول بإيقاعه (3) والله أعلم بما يصلح خلقه.
هذا أقصى ما انتهى إليه نظري .
والقوانين العربية التى وقفت على نصوصها لم تزل على اعتبار رأى الجمهور ، وإن كان مشروع القانون العربى الموحد قد اقترح فى المادة 79 منه أن " لا يقع طلاق إلا فى حضرة الموثق " دفعا لمحاذير التسرع فيه ، وعلاجا لما آل إليه جهال الناس من سوء التصرف فى الطلاق .
واللجنة التى وضعت النص استهدفت به أصلا - كما تبين المذكرة الإيضاحية – الدرجة الدنيا من الانفعال الباعث على الطلاق ، وعلى الرغم من أنها أبقت على حكم طلاق الهازل – حسب رأى الجمهور – بالمادة " 78" فإنها باشتراط التوثيق تكون قد أوصدت الباب دون احتمال الهزل فى الطلاق وإن لم تكن قد قصدت إليه ، لأن قرائن الأحوال حالئذ تبرهن على أن المطلق يقصد الطلاق ويريده .
__________
(1) الفتح من الآية (11)
(2) انظر لفضيلته تراثنا الفكرى ص 133
(3) ممن يرى هذا الرأى الدكتور البلتاجى انظر لسيادته ص 382 ، و الشيخ محمود شلتوت . الفتاوى ص 310(1/145)
وتقييد إيقاع الطلاق بالتوثيق قضية خطيرة تحتاج إلى بحث مستقل نرجوا أن يمكننا الله من إعداده .
يقع طلاق الفار ولا يحرم المطلقة من الإرث
قد يوقع الزوج الطلاق بغية حرمان زوجته من الاستحقاق فى تركته ، فإذا دلت القرائن على أن الزوج ما أراد بالطلاق إلا ذلك فإن طلاقه يسمى فى نظر كثير من الفقهاء طلاق الفرار .
ويكون الطلاق طلاق فرار متى طلق الرجل زوجته فى مرض موته بائناً ، بغير رضاها ، ولا مكرها عليه ، وكانت أهلا للإرث من زوجها .
وقد اتفق الفقهاء على أن طلاق الفار " المريض مرض الموت " يقع وتترتب عليه جميع آثاره التى تترتب على طلاق الصحيح ما دام المطلق أهلا لإيقاع الطلاق . (1)
ولكن لأن الظاهر من قرائن الأحوال أن المطلق ما أراد إلا حرمان المطلقة من إرثه، فإن جمهور الفقهاء والجمع الغفير من الصحابة والتابعين قالوا بأن آثار الطلاق لا تتعدى إلى الإرث ، فترث منه إن مات وهى فى عدة طلاقها منه فى رأى أكثرهم ، وقال مالك ترثه وإن انقضت عدتها ولو تزوجت بآخر ، وروى عن أحمد : أنها ترثه وإن انقضت عدتها ما لم تتزوج .
والعلة فى التوريث رغم انتهاء الزواج معاملة المطلق بنقيض مقصوده ، ودفعا للمضارة عن الزوجة (2)
وقد أخذ قانون المواريث رقم 77/1943 المصرى بذلك فى المادة 11 منه ونص على أن " تعتبر المطلقة بائنا فى مرض الموت فى حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق ، ومات فى ذلك المرض وهى فى عدته " .
المبحث الرابع
الطلاق الانفرادى وحل عقدة الزواج
__________
(1) انظر مثلا : البدائع 3/100 ، روضة الطالبين 8/72 ، المدونة للإمام مالك بن أنس 3/38
(2) انظر فى حكاية مذاهب العلماء وأدلتها فى طلاق الفار . د. أحمد أبو الحاج . ضوابط الإرث ط 1990 ص 172-177 . أستاذنا الدكتور عبد الحميد ميهوب . أحكام المواريث والتركات ط 1998 ص 6 وما بعدها ، د. سلام مدكور ص 248-250.(1/146)
روى عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال " تدبرت القرآن ، فإذا كل طلاق فيه هو الطلاق الرجعى ، يعنى طلاق المدخول بها ، غير قوله تعالى "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " (1) .
وهذا حق لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك صراحة فى قوله تعالى "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحا " (2) . فالبعل هو الزوج، ولا يكون الرد إلا فى الطلاق الرجعى، حيث أن " أحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شئ ، وإن كانت المرأة سائرة فى سبيل الرد ولكن بعد انقضاء العدة " (3) .
كما قال " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " (4) .
فنص على أن عدد الطلاق الذى تجوز الرجعة فيه مرتان ، فإن طلقها مرتين فهو مخير بعد بين الرجعة والمعبر عنها بالإمساك بمعروف ، وبين الفرقة المعبر عنها بالتسريح ، وهو ذات المعنى المعبر عنه فى سورة الطلاق بقوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " (5) بمعنى إذا قاربن انقضاء العدة فراجعوهن ، أو فارقوهن(6) فإن طلقها طلقة ثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا معنى واضح جلى .
__________
(1) البقرة آية ( 230 ) وانظر الفتاوى 3/11 ، 13 .
(2) البقرة آية ( 228 ) .
(3) أحكام القرآن لابن العربى 1/187 ، وما ذكرنا من بقاء أحكام الزوجية فعلى مذهب الحنفية ورواية عن أحمد انظر المغنى 7/279 .
(4) البقرة آية ( 229 ) .
(5) الطلاق آية (2) .
(6) أحكام القرآن لابن العربى 1/191 .(1/147)
ولكن نظرا إلى بعض المرويات عن النبى صلى الله عليه وسلم وبعض الآثار عن الصحابة والتابعين ابتدع بعض الفقهاء تقسيما لا ذكر له فى القرآن الكريم ، فقسموا الطلاق المحسوب من الثلاث إلى رجعى وبائن ، ونقصد بهذا الأخير ما اصطلح على تسميته بـ " البائن بينونة صغرى " فلا تحل به المرأة لزوجها إلا بعقد ومهر جديدين ، ولا يملك مراجعتها دون رضاها ، على أن تكون هذه صفة الطلاق من وقت صدوره .
وإنما تحفظنا بهذا القيد الأخير لأن الطلاق الرجعى إذا اعتدت منه المرأة ولم تراجع فى أثناء عدتها فانقضت عدتها بانت من زوجها بينونة صغرى ، فلا يملك مراجعتها دون رضاها وإلا بعقد ومهر جديدين كما قلنا .
ومن الأحاديث والآثار التى وردت فى ذلك فأدخلت الشبهة على بعض الفقهاء :
1- ما جاء فى حديث ركانة بن عبد يزيد أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إنى طلقت امرأتى سهيمة البتة ، والله ما أردت إلا واحدة ، فردها عليه " .
والمعنى أن لفظة البتة من ألفاظ الكناية ، وكما عرفنا فإن الكناية لا يقع بها الطلاق إلا بالنية ، والجديد هنا أنهم استنبطوا من الحديث أن المطلق بالكناية يقع طلاقه مفردا أو متعددا بحسب نية المطلق ، أو عرف اللفظ (1) .
2- ما روى أن رجلا على عهد عمر قال لامرأته : حبلك على غاربك فاستحلفه عمر فقال – الرجل – ما أردت إلا الطلاق فقال عمر : بانت منك " (2)
__________
(1) وقد نقل عن الإمام أحمد كلا التأويلين ، فوافق فى الأول الشافعى والحنفية فى العدد دون الوصف ، ووافق فى الثانى المالكية والحنفية فى الوصف انظر : المغنى 7/130 .
(2) تلخيص الحبير 3/242 .(1/148)
3- وروى عن على كرم الله وجهه أنه قال فى البائنة – أى أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق طلقة بائنة ، أو أنت بائنة – قال : هى ثلاث ، وروى مثل ذلك عن زيد بن ثابت ، والحسن ، والزهرى ، وابن أبى ليلى والأوزاعى وغيرهم ، وقال إبراهيم النخعى فى البائنة : هى واحدة بائنة (1) .
فأخذ بعض العلماء بذلك فقالوا : تقع الكناية طلاقا وعددا كما نواها المطلق (2) كما هو مذهب الشافعى .
والمشهور من مذهب مالك أنه يقع بالكنايات الظاهرة ثلاثا – أى تبين بها المرأة ببينونة كبرى – لأن الظاهر من هذه الألفاظ هو البينونة (3) .
وقال أبو حنيفة : تقع طلقة بائنة ، لأن المقصود بهذا الطلاق قطع العصمة ، وذلك يحصل بالبينونة ، ولا تقع ثلاثا لأن الثلاث معنى زائد على البينونة عنده(4) .
وما قيل فى طلاق الكناية قيل فى طلاق الصريح ، فمن طلقة واحدة ونوى بها اثنتين أو ثلاثا .
فمالك والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين :
على أنه يقع ما نوى ويلزمه ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فوقع ذلك به كالكناية .
وقال أبو حنيفة وأحمد – فى رواية – وأهل الظاهر ، والزيدية ، والجعفرية وأكثر التابعين :
لا يقع إلا واحدة ، لأن اللفظ لا يتضمن عددا ولا بينونة فلا تقع به إلا واحدة (5) .
__________
(1) انظر : المغنى 7/128- 129 ، المحلى 11/499 .
(2) الحاوى الكبير 13/16 ، 17 ، 22 ، 23 وحاصل قوله أن الكناية إذا وقع بها الطلاق كان رجعيا إلا أن ينوى الثلاث " وهذا معناه أن النية قد تغير من وصف الطلاق ، إذ لا معنى للثلاث إلا البينونة الكبرى .
(3) راجع : القوانين الفقهية لابن جزى ص 152 .
(4) انظر : البدائع 3/108- 112 .
(5) انظر : البدائع 3/102 وما بعدها ، بداية المجتهد 2/88 ، 89 ، الحاوى الكبير 13/17 ، المغنى 7/236 ، 237 ، المحلى 11/549 وما بعدها ، البحر الزخار 3/158 ، الروضة البهية 6/15(1/149)
ومعنى ذلك : أن اللفظ متى تضمن عددا خرج عن الإفراد إلى التعدد ، وهذه وجهة قد أبطلناها فى الرد على دعوى وقوع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا ، فإذا كان الطلاق بلفظ الثلاث يقع واحدة رجعية ، فمن باب أولى يقع واحدة متى طلق واحدة وإن نوى أكثر .
أما دعوى أن الطلاق بلفظ يتضمن البينونة يقع بائنا اعتمادا على ما ورد من آثار فى ذلك فلا تسلم للآتى :
1- أن حديث ركانة ضعيف ، فقد ضعفه ابن عبد البر ، وأعله البخارى بالاضطراب(1) وإن سلمنا صحته فإن البتة فى عرف أهل المدينة الثلاث ، فهم يسمون الثلاث البتة (2) .
2- وما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معارض بما رواه عنه عبد الرزاق أنه قال فى البائنة : هى واحدة وهو أحق بها ، وروى عنه مثل ذلك فى البتة ، وقال لمن طلق بذلك : الواحدة تبت !!! ارجع إلى أهلك (3) .
3- وما روى عن غير عمر رضي الله عنه فقد عورض أيضا بروايات أخرى عن الصحابة والتابعين وغيرهم (4) .
وقد تتبع الإمام ابن حزم المرويات عن النبى صلى الله عليه وسلم التى تمسك بها القائلون بوقوع الكناية بائنا أو بحسب النية ، فرد ما ضعف سنده ، وتأول ما صح منها على وجهه الصحيح – فيما نرى- بما يبطل تعلقهم بها ، وانتهى إلى أن ما جاء عن بعض العلماء فى ذلك تقاسيم فاسدة ولا يحل إبطال نكاح صحيح ، وتحريم فرج وإحلاله بآراء فاسدة بغير نص ، وقال ابن تيمية " وهذا قول فقهاء الحديث " (5) .
وخلاصة القول :
__________
(1) انظر : تلخيص الخبير 3/240 ، المحلى 11/504 .
(2) انظر المحلى 11/468 ، 504 ، الفتاوى لابن تيمية 3/18 ، أعلام الموقعين 3/33 ، 38
(3) أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه رقم 1175 ، والبيهقى فى سننه 7/343 ، والمحلى لابن حزم 11/499 ، 503 .
(4) راجع هذه الروايات فى المحلى 11/499- 512 ، شرح السنة النبوية للبغوى 5/429 .
(5) الفتاوى 3/30 .(1/150)
أن العلماء مختلفون فى مرجعية وصف الطلاق ، ففى رأى بعضهم وصف الطلاق –رجعى أو بائن – من عمل المطلق ونيته ، اعتمادا على ما ذكر من آثار .
وفى رأى آخرين فإن وصف الطلاق من عمل الشارع سبحانه وتعالى ، فما وصفه الله بأنه بائن فهو بائن ، وما لم يصفه بذلك فهو رجعى بقاء على الأصل (1)
وأحسب أن الثانى هو الصحيح ، لأن آثار التصرفات ومسبباتها من فعل الله تعالى وحكمه ، لا كسب فيه للمكلف ، واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به (2) فإذا كان كذلك فإن الذى يملكه الرجل – المطلق – هو اللفظ فقط ، أما أثر هذا اللفظ فذاك من جعل الشارع سبحانه وتعالى ، وحكمه ، ولا يغير من حكم الله تعالى عرف ولا نية (3) ، لأن هذه شرائع مرجعها إلى الله ورسوله .
موقف التقنينات :
قبل صدور القانون 25 لسنة 1929 كان العمل جاريا بمذهب الحنفية ، ومقتضاه أن الطلاق بلفظ صريح يقع رجعيا إلا إذا طلق الرجل ثلاثا بلفظ واحد فإن زوجته تبين منه ببينونة كبرى كما يقع – فى رأيهم – الطلاق رجعيا بألفاظ " اعتدى ، استبرئى رحمك ، وأنت واحدة" من ألفاظ الكنايات .
بينما يقع بائنا – فى رأيهم – الطلاق الموصوف بالبينونة أو بوصف يدل عليها ، والطلاق المشبه بشئ يدل على العظم ، والطلاق الموصوف بأفعل تفضيل يدل على الشدة ، وبألفاظ الكنايات عدا الثلاثة اللاتى استثنوها ، كما يقع بائنا الطلاق على مال (4) .
__________
(1) فى هذا المعنى : الإمام أبو زهرة ص 310 .
(2) الموافقات للإمام الشاطبى ط دار إحياء الكتب العربية 1/131 .
(3) يرد الإمام ابن رشد الحفيد فى البداية 2/90 ، 91 اختلاف العلماء فى دلالة الألفاظ على صفة البينونة إلى أنه " هل يقدم عرف اللفظ على النية أو النية على عرف اللفظ ، ويقول : إذا غلبنا عرف اللفظ فهل يقتضى البينونة أو العدد ؟ فمن قدم النية لم يقض عليه بعرف اللفظ ومن قدم العرف الظاهر لم يلتفت إلى النية " .
(4) انظر : البدائع 3/109 ، 110 ، 111 ، 112 .(1/151)
وكما تبين المرأة من زوجها بينونة كبرى بطلاقها ثلاثا فى لفظ واحد – فى رأيهم – فإنها تبين بينونة كبرى بطلاق الثالثة من باب أولى ، والطلاق قبل الدخول لا يقع إلا بائنا .
ولما كان إعمال هذه الوجهة على إطلاقها مما لم يأت به قرآن ولا سنة ولا أثر صحيح ، وتحرم فروجا على من أباحها الله لهم ، وتبيحها على من حرمها الله عليهم (1) ، وليس استنادا إلى شئ ، إلا بحوثا فى الألفاظ والتراكيب ربما تفيد علم اللغة والنحو ، ولكنها لا تفيد مطلقا علم الفقه بشئ (2) لذا فقد عدل المقنن المصرى عن الأخذ بمذهب الحنفية إلى بعض مذهب الشافعى ، وقول ضعيف عند المالكية (3)
__________
(1) راجع : الفتاوى لابن تيمية 3/30 والبحوث القيمة للإمام ابن حزم فى المحلى 11/496- 512 ، 549 – 551 .
(2) من عبارة قاسم أمين فى تحرير المرأة ص 132 ، ومعه فى ذلك كل الحق ، فقد بالغ الفقهاء فى الاشتغال بتأويل الألفاظ ، والتفنن فى فهم معانيها فى ذاتها ، ولا أدرى كيف غاب عنهم أن آثار التصرفات جعلية ، اللهم إلا أن يكون قد صح عندهم روايات أو آثار فى ذلك .
(3) تنص المذكرة الإيضاحية للقانون 25/1929 على أنه " أخذ بمذهب الإمام مالك والشافعى فى أن كل طلاق يقع رجعيا إلا ما استثنى "
ويبدو لى أن هذا الكلام على إطلاقه محل نظر :
أ- أما عن مذهب مالك ففى بداية المجتهد لابن رشد 2/89 ، 90 " واختلف المذهب هل يقع بلفظ الطلاق فى المدخول بها طلاق بائن ، إذا قصد ذلك المطلق ولم يكن هناك عوض ؟ فقيل يقع ، وقيل لا يقع ، وهذه المسألة من مسائل صريح ألفاظ الطلاق ، وأما ألفاظ الطلاق التى ليست بصريح فمنها ما هى كناية ظاهرة عند مالك ، ومنها ما هى كناية محتملة ، ومذهب مالك : أنه إذا ادعى فى الكناية الظاهرة أنه لم يرد طلاقا لم يقبل قوله ، إلا أن تكون هنالك قرينة تدل على ذلك كرأيه فى الصريح ، وكذلك لا يقبل عنده ما يدعيه دون الثلاث فى الكنايات الظاهرة ، وذلك فى المدخول بها ، إلا أن يكون قال ذلك فى الخلع ….. وأما ألفاظ الطلاق المحتملة غير الظاهرة فعند مالك أنه يعتبر فيه نيته " .
ولابن سلمون الكنانى فى العقد المنظم للحكام بهامش التبصرة 2/89 وما بعدها " واختلف ماذا يلزمه فى هذه الكنايات الظاهرة من أنواع الطلاق فقيل يلزمه فيها الثلاث على كل حال ، وقيل يلزمه الثلاث فى المدخول بها وينوى فى غير المدخول بها ، وهو المشهور ، وقيل يلزمه واحدة بائنة على كل حال ، وقيل رجعية فى المدخول بها ، وواحدة فى غير المدخول بها " ، وانظر مثل ذلك فى القوانين الفقهية لابن جزى ص 152 ، 153 .
ب- أما الشافعى فمذهبه أن الطلاق صريحا كان أو كناية يقع رجعيا إذا تجرد عن عدد وعوض وتعلق بالمدخول بها ، ولكن إذا نوى بصريح الطلاق أو بكنايته ثلاثا حمل طلاقه على ما نوى من عدد . انظر الحاوى الكبير 13/15 - 17، 22- 23 .
ولعله بهذا يظهر لك سر تعبيرنا " ببعض مذهب الشافعى وقول ضعيف عند المالكية " على خلاف عبارة المذكرة الإيضاحية .(1/152)
وهو ظاهر مذهب أحمد وأهل الظاهر وكثير من الصحابة والتابعين (1) ، فنص فى المادة الخامسة من القانون 25 لسنة 1929 على أنه "كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث ، والطلاق قبل الدخول ، والطلاق على مال ، وما نص على كونه بائناً فى هذا القانون ، والقانون رقم 25 لسنة1920"
وعلى غرار نص المادة الخامسة ورد الحكم فى التقنينات العربية الأخرى كالمادة (137) من القانون السودانى ، والمادة (94) من القانون الأردنى ، والمادة (37) من القانون العراقى ، وغيرها من القوانين العربية الأخرى .
وفى ضوء هذه النصوص فإن كل طلاق يقع رجعياً إلا ما يأتى : -
1- الطلاق المكمل لثلاث :
فهذا الطلاق يقع بائناً بينونة كبرى لا تحل بعده المرأة لمطلقها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره ، ويطلقها ، أو يموت عنها وتنقضى عدتها منه .
2- الطلاق قبل الدخول :
فيقع بائناً بينونة صغرى ، فلا يحل للمطلق مراجعة مطلقته إلا بعقد ومهر جديدين ، لقول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ، فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلا " (2).
ولما كانت المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها بنص الآية ، فطلاقها يقع دائماً بائناً لا رجعياً ، لأن الرجعة إنما تكون فى العدة ، ولا عدة قبل الدخول ، وإن رغب مطلقها فيها فهو خاطب من الخطاب يتزوجها برضاها بنكاح جديد ، وترجع إليه بطلقتين ، إن كان قد طلقها طلقة واحدة فقط . (3) .
__________
(1) انظر : المغنى 7/133 ، 236 ، 265 ، 266 ، الفتاوى لابن تيمية 3/30 .
(2) الأحزاب آية (49) .
(3) انظر : المغنى 7/274 ، أحكام القرآن لابن العربى 1/85 ، 3/1551 وما بعدها ، أحكام القرآن للجصاص 2/364 ، كشاف القناع 5/2737 .(1/153)
ويلحق بالطلاق قبل الدخول الطلاق بعد الخلوة الصحيحة ، فيقع بائنا بينونة صغرى فى رأى جمهور الفقهاء (1) .
3- الطلاق على مال :
ويراد به الطلاق على الإبراء ، ويقع به طلاق بائن بينونة صغرى ما لم يكن مكملا للثلاث ، فيكون بائنا بينونة كبرى ، ويقع طلاق الافتداء بائنا فى رأى الجمهور لأن المرأة تفتدى نفسها به ، ولا يتحقق الافتداء مع ثبوت حق المراجع فى العدة .
وواضح أن طلاق الافتداء ليس من قبيل الطلاق الانفرادى الذى يملكه الزوج وحده ، بل هو قطع عقد بالتراضى ، أو يقال : طلاق باتفاق الإرادتين (2)
4- التطليق للعيب : وهو ما نص عليه فى المادتين ( 9، 10 ) من القانون 25 لسنة 1920 .
5 – التطليق للإيذاء والهجر : مادة 6 من القانون 25 لسنة 1929 .
6- التطليق للضرر للزواج بأخرى : مادة 11 مكررا والمضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 .
7- التطليق للضرر من غياب الزوج سنة فأكثر بلا عذر مقبول :
مادة ( 12) من القانون 25 لسنة 1929 .
8- التطليق للتضرر من حبس الزوج فى عقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنين فأكثر .
وواضح أن الطلاقات من ( 4- 8 ) من قبيل التفريق بحكم القاضى وليس من قبيل الطلاق الانفرادى الذى يستقل به الزوج .
وقد أبقى المقنن على اعتبار مذهب الحنفية فى حالات ثلاث أخر نصت عليها المذكرة الإيضاحية وهى : الطلاق بسبب اللعان ، وبسبب العنة ، وبسبب إباء الزوج الإسلام عند إسلام زوجته .
__________
(1) البدائع 3/109 ، أبو زهرة ص 311 ، وفى رأى بعض الحنابلة وقول الشافعى فى القديم أن الطلاق بعد الخلوة الصحيحة يكون رجعيا . انظر كشاف القناع 5/2730، د.السرطاوى ص171.
(2) انظر : المغنى 7/52 ، د. السرطاوى ص 171 وما بعدها ، نقض مصرى فى 13/11/1963 م اشرف كمال ص 77 .(1/154)
والراجح عند الحنفية : أن الفرقة بسبب اللعان طلقة بائنة ، وهى كذلك بسبب إباء الزوج الإسلام ، كما اتفقوا على أن التفرقة بالعنة تقع طلاقا بائنا (1) .
وحاصل ما تقدم
أن الطلاق بإرادة الزوج المنفردة لا يقع بائنا إلا فى حالتين اثنتين لا غير:
أولاهما : الطلاق قبل الدخول . ثانيتهما : الطلاق المكمل للثلاث .
وما عدا هاتين الحالتين فالطلاق بإرادة الزوج يقع رجعيا ، والطلاق الرجعى لا يغير شيئا من أحكام الزوجية ، فهو لا يزيل الملك ، ولا يرفع الحل وليس له من أثر إلا نقص عدد الطلقات التى يملكها الزوج على زوجته ، ولا تزول حقوق الزوج إلا بانقضاء العدة .
خاتمة
بعد حمد الله تعالى أن مكننى من البحث والنظر ، ويسر لى من جهد السابقين وعطاء المخلصين ما أعاننى على الخوض فى هذا المعترك الصعب ، والمسلك الوعر .
فإننى أخلص إلى النتائج التالية :
أولاً : أن الطلاق ليس بدعة تفرد بها الإسلام ، وإنما هو من سير الأقدمين ، وإذ أتى عليها الإسلام نقاها من الشطط وأبعدها عن الجور والظلم ، حتى انتهى بها إلى أن تكون من تشريع الحاجة والرفق ، فأبقى من الطلاق ما يؤمن معه الإمساك بإضرار ، ونفى منه ما يخشى معه الإفراط والندم .
ثانياً : وكما هو ديدن القضاء دائما ، حيث يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، لم تجد المجتمعات التى تمردت على رخصة الله بداً من الرجوع إليها رغبا ورهباً ، إلا أنها أمسكت من نور الله بقبس ، وعميت بصائرها عن الشموس الساطعة ، فلم تزل مكبة على وجهها .
ثالثاً : إن العمى لن يزالوا بنا حتى يردوننا عن ديننا إن استطاعوا فيغروننا بما ارتضوه لأنفسهم من حلول ، مستهدفين أسرتنا ، محاولين العبث بها وتفكيكها ، أو إعادة تشكيلها على غير ما شرع الله ، والحيلولة دون استمرار بنائها ، وفق الأصول والقواعد الشرعية .
__________
(1) راجع : البدائع 3/245 ، الهداية للمرغينانى 2/26 ، شرح فتح القدير 2/507 .(1/155)
ومع إيمانى بحتمية الكيد والمؤامرة نفاذا لقانون " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " فإننى أقر مع أهل البصيرة أننا نقدم لهم بأيدينا السلاح الذى يطعنوننا به ، يتطوع بذلك العامة ويساعدهم على ذلك بعض حملة الفقه والدعوة .
يقول العلامة الشيخ محمد الغزالى – تراثنا 133 " الطلاق كما مارسه المسلمون اقترن بمآس كئيبة ، فمن الناحية الفقهية وقع الاعتراف بالطلاق البدعى، وانتشر الحلف بالطلاق كما انتشر تعليقه على التوافه المحقرة ، وسطرت فى كتب الفقه نوادر لوقوع الطلاق تستدعى العجب .
ولا يزال الأوربيون ينظرون إلى سهولة الطلاق وميوعة حدوده عندنا نظرة إنكار ، وهى ميوعة اختلقها الناس ولا يعرفها الإسلام .
والفقهاء المتربصون بمصير الأسرة المرحبون بتمزيق عراها لأتفه الأسباب لا حصر لهم .
وقد أضر ذلك إضرارا بليغا بسمعة الإسلام وانتشار رسالته ، واستغله أعداؤه استغلالا واسعا " .
رابعاً : والخلاص لن يأتى أبداً من خارج ، فمن طلب الهدى من غير الوحى أضله الله ، كما لا حاجة لنا إلى ذلك ، لأن ما يخوف به العامة ، أعنى رخصة الله التى ملكها الزوج محدودة ومقيدة ، بل هى مثقلة بشروط فى المطلق والمطلقة واللفظ والنية ، والوقت والعدد بحيث متى أحسن اعتبارها تقنينا ودقت مراعاتها إفتاء ، وأحكمت الدعوة فى آداب الطلاق وحكمته قل أن تنقصم زوجية إلا التى أبت الاستقامة .
خامساً : وكما ظهر من هدى الإسلام فى الطلاق فإن الطلاق لا يقع إلا مفرقا ، وفى وقت مخصوص ، مع تهيؤ الأسباب لوجود الرغبة فى المرأة ، كما لا يقع إلا بلفظ شبه مخصوص ، وبصيغة مخصوصة ، من أهل لإيقاعه ، قاصد إليه ، واع بمقتضاه ، مريد لمعناه، مختار فى ذلك .(1/156)
ومع هذا كله فإنه لا يقطع الحل إلا فى صورتين اثنتين هما الطلاق قبل الدخول ، والطلاق المكمل لثلاث ،فضلا عن البينونة الصغرى الحاصلة ببلوغ المطلقة رجعيا العدة ، وفيما عدا ذلك فالزوجية باقية لم ينحل منها شئ .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين . آمين . والحمد لله رب العالمين .
فهرس الكتاب
الموضوع…الصفحة
تمهيد وتقسيم …3
الفصل الأول …7
المبحث الأول …8
المطلب الأول …8
المطلب الثانى …10
المطلب الثالث …11
المطلب الرابع…12
المبحث الثانى …15
المطلب الأول …15
المطلب الثانى …17
المبحث الثالث …19
الفصل الثانى …23
المبحث الأول …25
المبحث الثانى …31
المبحث الثالث…36
الفصل الثالث …41
المبحث الأول …41
المبحث الثانى …44
المبحث الثالث …52
الفصل الرابع …55
المبحث الأول …56
المطلب الأول …59
المطلب الثانى …68
المبحث الثانى …77
المطلب الأول …77
المطلب الثانى …83
المبحث الثالث …91
المطلب الأول …91
المطلب الثانى …95
المطلب الثالث…103
المطلب الرابع …105
المبحث الرابع …116
خاتمة …123(1/157)