الطُّغيان السِّياسيّ وسُبُل تغييره من المنظور القرآني
الدكتور
عبدالرَّحمن عمر اسبينداري
محتويات البحث
توطئة ... 5
الباب الأوَّل: مفهوم الطُّغيان السِّياسيّ وصوره ... 9
الفصل الأوَّل: مفهوم الطُّغيان في ضوء القرآن الكريم ... 11
المبحث الأوَّل: مفردة الطُّغيان ... 12
الطُّغيان لغة ... 12
الطُّغيان السِّياسيّ اصطلاحاً ... 15
تعريف الطُّغيان عند المفسِّرين ... 16
تعريف السياسة ... 19
تعريف الطُّغيان في القواميس السِّياسيّة ... 20
مفردة الطُّغيان في القرآن الكريم ... 25
المبحث الثَّاني: ألفاظ ذات صلة بالطُّغيان ... 45
الإسراف ... 45
العلو ... 49
الاستكبار ... 52
التجبر ... 54
العتو ... 57
الظُّلم ... 59
الفصل الثَّاني: صور من الطُّغيان السِّياسيّ ... 63
المبحث الأوَّل: طغيان الحاكم ... 65
حديث القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ ... 65
أقطاب التَّحالُف الطُّغياني في قصة فرعون ... 74
أوَّلاً: الحاكم: فرعون ... 78
ثانياً: البطانة السيئة ... 83
ثالثاً: الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة ... 93
المبحث الثَّاني: طغيان الملأ (النُّخبة) ... 98
معاني الملأ في القرآن الكريم ... 99
حديث القرآن الكريم عن النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح ... 104
أوصاف الملأ في القرآن الكريم (نموذج ملأ صالح) ... 110
الباب الثَّاني: الدَّوافع والأساليب ... 116
الفصل الأوَّل: دوافع الطُّغيان السِّياسيّ ... 118
المبحث الأوَّل: الدَّوافع الذَّاتيَّة ... 120
عدم الإيمان باليوم الآخر والحساب ... 120
التَّكبُّر والغرور ... 122
الاستبداد بالرأي ... 126
هوى النَّفس ... 129
الملك والحرص عليه ... 133
الشُّعُور بالاستغناء عن الآخرين ... 139
المبحث الثَّاني: الدَّوافع الخارجيَّة ... 143
تملُّق البطانة ونفاقها ... 143
قابلية الرَّعيَّة لتقبل الظُّلم والطُّغيان ... 155
طاعة الرَّعيَّة وتبعيتها المطلقة للحاكم ... 171(1/1)
المؤسَّسة العسكريَّة (الجُنُود) ... 176
الفصل الثَّاني: أساليب الطُّغاة ... 177
المبحث الأوَّل: الأساليب المعنويَّة ... 179
ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة ... 179
الحملات الإعلاميَّة التشويهية ... 182
الحرب النَّفسية ... 195
نبش ماضي الدُّعاة والمصلحين ... 199
تزوير الحقائق وتمويه الأمور على النَّاس ... 201
الظهور بمظهر الحريص على الدِّين والأمن والاستقرار ... 203
إظهار الواقع وتصويره بالواقع النَّموذجي ... 205
المبحث الثَّاني: الأساليب الماديَّة ... 207
بث الفرقة ... 207
الاستعباد ... 209
الفساد الخلقي ... 211
اللجوء إلى استخدام البطش والإرهاب ... 214
مصادرة الحريات ... 226
الإغراء بالمال والمناصب ... 234
إشاعة الخوف بين الرَّعيَّة ... 236
إكراه الآخرين على تعلم نوع خاص من المعارف ... 238
الباب الثَّالث: سُبُل منع الطُّغيان السِّياسيّ وتغييره ... 240
الفصل الأول: سُبُل معنويَّة ووقائية ... 242
المبحث الأوَّل: سُبُل معنويَّة ... 244
تمهيد؛ العدل أساس النِّظام السِّياسيّ الإسلامي ... 244
عقيدة التَّوحيد أضمن سبيل لمنع الطُّغيان السِّياسيّ ... 246
تجفيف المنابع وقطع الروافد ... 254
المبحث الثَّاني: سُبُل وقائية ... 264
الشُّورى ... 264
تحديد مدة الرِّئاسة ... 294
فصل السُّلُطات ... 298
الفصل الثَّاني: سُبُل رقابية ... 303
المبحث الأوَّل: رقابة الأمَّة على الحاكم ... 305
المبحث الثَّاني: عدم الطَّاعة إلا في المعروف ... 316
الخاتمة ... 334
قائمة المراجع ... 339
أولاً: المراجع العربيَّة ... 339
ثانياً: رسائل جامعية غير منشورة ... 362
ثالثاً: بحوث ومقالات ... 362
رابعاً: مواقع على الإنترنت ... 363
خامساً: المراجع الإنكليزية ... 364
توطئة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين…وبعد:(1/2)
لماذا أصبح الطُّغيان والاستبداد السِّياسيّ سمة بارزة من سمات العالم الإسلامي المعاصر؟ هل للطغيان مرجعيَّة شرعية ودينيَّة، أو بعبارة أخرى: هل القرآن الكريم متضمن لنصوص يتشبث بها المتعطشون إلى التسلط والسيطرة على حياة النَّاس وعقولهم وتفكيرهم بحيث يكون لهم القول الفصل في كل شيء، أم أن الأمر على النقيض من هذا؟ أم أنه نتيجة لعادات وتقاليد قبلية أو إقليمية لا تمت إلى الإسلام بصلة وهو بريء منه؟ أسئلة كثيرة راودت أذهان الباحثين الذين كتبوا عن الطُّغيان والاستبداد السِّياسيّ وما تزال هذه الأسئلة تتردد وتتكرر بين الفينة والأخرى. وقد أجاب بعض الذين كتبوا عن الطُّغيان والاستبداد السِّياسيّ عن الاحتمال الأول بالنفي، وعن الثَّاني بالإثبات. وقالوا: إن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان أبداً، وما ظهر في التاريخ الإسلامي من طُغيان سياسيّ راجع إلى تقاليد وعادات قومية عنصرية أو قبلية جاهلية أو مستوردة من أصول يهودية أو مسيحية.(1/3)
ولكن يبقى السؤال المطروح وهو: ما الأسباب والعوامل التي وقفت وراء تشكيل العقلية التي لا تقبل في أغلب الأحيان مشاركة غيره له في صنع القرار، أو التنازل عن كرسي الحكم إذا ما وصل إليه بأي حال من الأحوال؟ فالانقلابات العسكريَّة والموت الطبيعي أصبحا الطريقين الوحيدين لإزاحة الرؤساء والملوك عن كراسي الحكم لا سيما في العالم الإسلامي بغض النظر عن نوعية التفكير الذي يحمله هذا الرئيس أو ذاك! بل وصلت عدوى هذا المرض إلى بعض الجماعات الإسلامية التي لا حول لها ولا قوة في العالم الإسلامي المعاصر والتي تسعى لإصلاح الواقع الفاسد... فالذي ينتخب أميراً على جماعة من هذه الجماعات قد يبقى هو هو إلى أن يموت، وإذا ما أزيح عن كرسي الإمارة لسبب من الأسباب فالنتيجة الطبيعية والمعروفة هي الخروج من الجماعة وإعلان الانشقاق، وتأسيس جماعة أخرى يقف هو على رأس القائمة من جديد، وكأن عقل المسلم أصبح عاجزاً عن التفكير والإبداع، وأن شخص الرئيس أو الأمير هو الوحيد الذي يستطيع أن يفكر ويبدع لذا كان من الضروري أن يبقى هو الرأس المفكر والمدبر!!
فيا ترى كيف كان حديث القرآن الكريم عن الطُّغيان السِّياسيّ؟ وهل ذكر القرآن نماذج من ذاك الطُّغيان، سواء طغيان الحاكم، أو طغيان النُّخبة (الملأ)؟ وما الحكم والعبر التي تقف وراء حديث القرآن عن مثل هذه المواضيع؟ وما الرسالة التي يريد القرآن الكريم إيصالها إلى الإنسان من خلال هذا الحديث وتلك النماذج؟ وما السُبُل التي ذكرها القرآن الكريم والتي تمنع أو تحول بين الحاكم أو النُّخبة وبين الطُّغيان من جهة، ومن جهة أخرى تدفع الأمَّة والرَّعيَّة إلى منع الحاكم أو النُّخبة من الوصول إلى درجة الطُّغيان؟(1/4)
هذا ما يود الباحث دراسته في هذا البحث بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى. وقد حاول الباحث قدر الإمكان جمع كل جزئيات الموضوع من خلال دراسة كل متعلقات الطُّغيان السِّياسيّ ومرادفاته في القرآن، ومن ثم دراسة النماذج التي ورد ذكرها في القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ وتحليليها تحليلاً دقيقاً مستخرجاً منها أهم الوسائل التي يستخدمها الطُّغاة والمتجبرون، مع بيان أهم الدَّوافع الذَّاتيَّة والخارجيَّة التي تدفع الحاكم إلى الطُّغيان. ثم قام الباحث باستخراج السُبُل التي ذكرت في القرآن، والتي تمنع بشكل مباشر أو غير مباشر الطُّغيان السِّياسيّ من البروز في المجتمع الإسلامي سواء ما كان راجعاً منها إلى شخص الحاكم، أو ما كان منها راجعاً إلى الأمَّة. إضافة إلى ذلك فقد حاول الباحث أن يكشف اللثام عن السُبُل التي ذكرت في القرآن الكريم لتغيير الطُّغيان السِّياسيّ.
ويمكن للباحث أن يشير إلى بعض جوانب البحث ذات الأهمية في نقاط، منها:
أن موضوع الطُّغيان السِّياسيّ بصورة عامة قد كتب عنه اليسير وعلى ضوء ما جاء في القرآن الكريم إذا ما قارناه بالمواضيع الأخرى، وأنه ـ حسب علم الباحث ـ لا يوجد من درس موضوع الطُّغيان السِّياسيّ وسُبُل تغييره على شكل تفسير موضوعي، ومن خلال دراسة الموضوع دراسة علمية منهجية، حيث جاء حديث أغلب الذين كتبوا عن الطُّغيان السِّياسيّ عاماً دون ذكر الحلول القرآنية للمشكلة إلا من خلال إشارات.
الكشف عن الأسباب والعوامل أو الدَّوافع التي تؤدي بالحاكم إلى الطُّغيان السِّياسيّ، وبالأمَّة والشعوب عامة إلى الخضوع والخنوع والتذلل، سواء كانت معنويَّة منها أو مادية.(1/5)
وتظهر أهمية البحث من خلال محاولة الباحث إبراز أهم الوسائل المعنويَّة والماديَّة التي يستخدمها الطُّغاة في تثبيت أركان حكمهم، والتي ذكرها القرآن الكريم في مناسبات عديدة، وهذه الوسائل هي نفسها التي تتكرر في كل عهود الطُّغيان وعلى مر التاريخ.
السعي لإبراز السُبُل التي ذكرت في القرآن الكريم، والتي تمنع الحاكم أو تحول بينه وبين الطُّغيان. وبيان أن من هذه الطرق ما يرجع إلى ذات الحاكم، ومنها ما هو راجع إلى الأمَّة عامة، ومنها ما يكون مباشراً وبعضها غير مباشر.
السعي لإعطاء صورة واضحة وشاملة حول كل جزئيات الموضوع، لأن الذين كتبوا عن الطُّغيان إنما كتبوا عنه بصورة عامة بعيدة عن ذكر وجهة النظر القرآنية، والذين حاولوا دراسة بعض جزئيات الموضوع في القرآن الكريم اكتفوا بأخذ أنموذج واحد من نماذج الطُّغيان السِّياسيّ التي ذكرها القرآن الكريم مثل نموذج فرعون ولم يتجاوزوا ذلك حتى إلى أقرب المقربين إليه مثل هامان والكهنة ممن كان لهم دور فعال وأثر واضح في رسم السياسة الفرعونية. وتأسياً على ذلك ستكون هذه الدراسة إن شاء الله تعالى جامعة لمعظم دقائق الموضوع وجزئياته، وستتم دراسة كل نماذج الطُّغيان السِّياسيّ المذكورة في القرآن الكريم سواء صدر ذاك الطُّغيان من ذات الحاكم نفسه أو من النُّخبة المسماة في القرآن الكريم بالملأ.
تسليط الضوء على مغزى اهتمام القرآن الكريم وتركيزه على ذكر قصص الطُّغاة من الأمم الغابرة لهذه الأمَّة التي أراد الله أن تكون خاتمة الأمم. وإبراز أهم الدروس والعبر التي يمكن استنباطها.
الباب الأوَّل
مفهوم الطُّغيان السِّياسيّ وصوره
الفصل الأوَّل: مفهوم الطُّغيان في ضوء القرآن الكريم
الفصل الثَّاني: صور من الطُّغيان السِّياسيّ
الفصل الأوَّل
مفهوم الطُّغيان في ضوء القرآن الكريم
المبحث الأوَّل: مفردة الطُّغيان
المبحث الثَّاني: ألفاظ ذات صلة بالطُّغيان
المبحث الأوَّل
مفردة الطُّغيان(1/6)
الطُّغيان لغة
قال الخليل (ت 175هـ): "الطُّغيان: الواو لغة فيه. وقد طَغوت وطَغيت. والاسم الطَّغوَى. وكل شيء يجاوز القدر فقد طَغَى، مثل ما طغى الماء على قوم نوح، وكما طغت الصيحة على ثمود"(1).
ويقول ابن فارس (ت 395هـ): "الطاء والغين والحرف المعتل أصلٌ صحيح منقاس، وهو: مجاوزة الحد في العصيان، يقال هو طاغٍ(2). وطَغى السيل: إذا جاء بماء كثير…وطَغى البحر: هاجت أمواجه، وطَغى الدم: تبيَّغَ(3)…والفعل منه: طَغَيت وطَغَوت.."(4). و"طغي بالكسر مثله"(5).
__________
(1) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي (العراق: دار الرشيد، د. ط، 1981م)، ج4، ص435.
(2) ويذكر ابن فارس في كتابه: (مجمل اللغة) الكلام نفسه إلا أنه يبدأه بقوله: "طغى يطغى طغياناً، وكل مجاوز للحد في العصيان طاغ". انظر، ابن فارس، أبو الحسين أحمد، مجمل اللغة، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1406هـ، 1986م)، ج2، ص583.
(3) وهذه أمثلة مجازية كما يقول الإمام الزمخشري (ت 538هـ): "ومن المجاز: طغى البحر والسيل، وتطاغى الموج، وطغى به الدم". انظر، الزمخشري، أبو القاسم جار الله، أساس البلاغة، تحقيق: محمَّد باسل عيون السود (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1419هـ، 1998م)، ج1، ص606.
(4) ابن فارس، أبو الحسين أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ، 1991م)، ج3، ص412.
(5) الرَّازي، محمَّد بن أبي بكر (ت 721هـ)، مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر (بيروت: مكتبة لبنان، طبعة جديدة، 1415هـ، 1995م)، ج1، ص165.(1/7)
وفي لسان العرب: "طَغَى يَطْغَى طَغياً ويَطغو طُغياناً: جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر(1)…[قال] الليث: الطُّغيان والطُّغْوانُ لغةٌ فيه، والطَّغْوى بالفتح مثله. والفعل طَغَوْت وطَغَيْت، والاسم الطَّغْوى…وكل مجاوز حده في العصيان فهو طاغٍ...فكل شيء جاوز القدر فقد طغى...و[يقال] ..طَغى الماء والبحر: ارتفع وعلا على كل شيء فاخترقه"(2).
ويعرف الفيروزآبادي (ت 817هـ) الطُّغيان بقوله: "طَغَى يَطْغَى طَغياً ويَطغو طُغياناً: جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر، وأسرف في المعاصي والظُّلم…" (3).
__________
(1) غلا في الكفر: هذا حسب الاستعمال القرآني للطغيان كما سيأتي، وليس بداخل في معنى الطُّغيان لغة.
(2) ابن منظور (ت711هـ)، لسان العرب (بيروت: دار صادر، ط1، 1410هـ، 1990م)، ج15، ص7-8.
(3) الفيروزآبادي، محمَّد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف: محمَّد نعيم العرقسوسي (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط5، 1416هـ، 1996م)، ص1685. وانظر له: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق: محمَّد علي النجار (بيروت: المكتبة العلميَّة، د. ط، 1984م)، ج3، ص508.(1/8)
وفي تاج العروس: "..وطغى: ارتفع وغلا في الكفر…وأسرف في المعاصي والظُّلم(1)، وطغى الماء: ارتفع وعلا حتى جاوز الحد في الكثرة"(2). وطغى: "ترفع وعلا حتى جاوز الحد أو كاد"(3). و"أَطْغَاهُ كذا: حمله على الطُّغيان"(4).
فمعنى الطُّغيان لغة هو: مجاوزة الحد أو القدر المعلوم. أما ما ذكره اللغويون من أنه مجاوزة الحد في العصيان، أو الظُّلم والمعاصي، أو الغلو في الكفر، فإنما هو حسب الاستعمال القرآني للطغيان وهو ما سيأتي فيما بعد.
__________
(1) هذا أيضاً داخل في الاستعمال القرآني للطغيان وليس بداخل في المعنى اللغوي.
(2) الزبيدي، محمَّد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس (د. ن: د. ط، ت)، ج10، ص324.
(3) انظر، السجستاني، أبو بكر محمَّد (ت 330هـ) ، كتاب غريب القرآن، تحقيق: محمَّد أديب عبدالواحد جمران (د. م: دار قتيبة، ط1، 1416هـ، 1996م)، ص 318. المصري، شهاب الدِّين (ت815هـ)، التبيان في تفسير غريب القرآن، تحقيق: فتحي أنور الدابولي (القاهرة: دار الصحابة للتراث، ط1، 1992م)، ج1، ص287.
(4) الأصفهاني، أبو القاسم، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمَّد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، د. ط. ت)، ص304.(1/9)
والطَّاغية والطاغوت مشتقان من طغى. قال النحاس (ت 338هـ): "أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطُّغيان"(1). ويقع: "الطاغوتُ على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وزنه فعلوت إنما هو طغيوت قدمت الياء قبل الغين وهي مفتوحة وقبلها فتحة فقلبت ألفاً، وطاغُوتٌ وإن جاء على وزن لاهوت فهو مقلوب لأنه من طَغَى ولاهوت غير مقلوب لأنه من لاه بمنزلة الرغبوت والرهبوت"(2).
وفي لسان العرب: "قال الليث: الطاغوت تاؤها زائدة وهي مشتقة من طغى…وجمع الطاغوت طواغيت -أو طواغي-(3)..[قال] الليث: الطَّاغية الجبار العنيد. [قال] ابن شميل: الطَّاغية الأحمق المستكبر الظالم…والهاء في (طاغية) للمبالغة(4). وقال شمر: "الطَّاغية: الذي لا يُبالي ما أتى يأكلُ النَّاس ويقهرهم لا يثنيه تَحَرُّجٌ ولا فَرَقٌ"(5).
فيظهر من المعنى اللغوي للطاغوت: أنه الذي يتجاوز حدوده بحيث يتجبر ويتكبر ويعلو ويعاند ويظلم، ولا يبالي ما أتى، ولا يحد تصرفاته وأفعاله حد أو قانون.
__________
(1) النحاس، أبو جعفر، معاني القرآن الكريم، تحقيق: محمَّد علي الصابوني (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، ط1، 1409هـ)، ج1، ص269.
(2) ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص9-10. وقد ذهب سيبويه إلى أن الطاغوت: "اسم واحد مؤنث، يقع على الجميع كهيئة للواحد، وقال عز وجل: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)" سورة الزمر/17. انظر، سيبويه، عمرو بن عثمان، الكتاب، علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه: إميل بديع يعقوب (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1420هـ، 1990م)، ج3، ص263.
(3) قال ابن منظور: "الطواغي جمع طاغية". ابن منظور: لسان العرب، ج15، ص9.
(4) ابن دريد، محمَّد بن الحسين (ت 321هـ)، كتاب جمهرة اللغة، تحقيق: رمزي منير بعلبكي (بيروت: دار العلم للملايين، ط1، 1987م)، ج2، ص919.
(5) ابن منظور، مرجع سابق، ج15، ص9-10. انظر، البستاني، عبدالله، البستان معجم لغوي مطول (بيروت: مكتبة لبنان، ط1، 1992م)، ص661.(1/10)
الطُّغيان السِّياسيّ اصطلاحاً
يقتضي تعريف هذا المركب الوصفي اصطلاحاً تعريف كل كلمة فيه أولاً ثم تعريفه باعتباره مصطلحاً. وذلك باتباع الخطوات الآتية:
أولاً: تعريف الطُّغيان عند المفسِّرين لكون البحث داخلاً في إطار التَّفسير الموضوعي.
ثانياً: تعريف السياسة.
ثالثاً: ذكر ما ورد عن الطُّغيان من تعاريف في القواميس السِّياسيّة العربيَّة والإنكليزية، ثم يجمع الباحث بين ما سبق ويختار منه تعريف الطُّغيان السِّياسيّ.
ولكن قبل اتخاذ الخطوات تلك نلفت النظر إلى أننا ألحقنا لفظ (السِّياسيّ) بالطُّغيان رغم أن المفسِّرين يذكرون الطُّغيان بصورة عامة، وذلك لحصر دائرة البحث حتى يخرج منه الطُّغيان الاقتصادي والدِّيني والأخلاقي وما إلى ذلك من أشكال الطُّغيان.
تعريف الطُّغيان عند المفسِّرين(1/11)
اتضح للباحث من خلال مراجعة كتب التَّفاسير حول تعريف الطُّغيان أن أغلب المفسِّرين يعرفون الطُّغيان بأنه: "مجاوزة الحد"(1)
__________
(1) انظر، الطبري، محمَّد بن جرير (ت 310هـ)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1405هـ)، ج1، ص135. الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم (ت 311هـ)، معاني القرآن وإعرابه، شرح وتحقيق: عبد الجليل عبده شلبي (بيروت: عالم الكتب، ط1، 1408هـ، 1988م)، ج5، ص96. النحاس، أبو جعفر (ت 338هـ)، معاني القرآن، ج1، ص270. الطوسي، أبو جعفر (ت460هـ)، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي (د. م: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج10. ص285. الواحدي، علي بن أحمد (ت 468هـ)، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: صفوان عدنان داوودي (دمشق-بيروت: دار القلم-الدار الشامية، ط1، 1415هـ)، ج2، ص1170. البغوي، الحسين بن مسعود (ت516هـ)، معالم التنزيل، تحقيق: خالد العك-مروان سوار (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1407هـ، 1987م)، ج1، ص652. الزمخشري، محمود جار الله (ت 538هـ)، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأويل، تحقيق: عبدالرزاق المهدي (بيروت: دار إحياء التراث العربي –مؤسسة التاريخ العربي، ط1، 1417هـ، 1997م)، ج2، ص407. ابن عطية، أبو محمَّد الأندلسي (ت546هـ)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبدالسلام عبدالشافي محمَّد (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1422هـ، 2001م)، ج5، ص358. ابن الجوزي، عبدالرحمن بن علي (ت 597هـ)، زاد المسير في علم التَّفسير (بيروت: المكتبة الإسلامية، ط3، 1404هـ)، ج1، ص306. الرَّازي، فخر الدِّين (ت 604هـ)، تفسير الرَّازي المشتهر بالتَّفسير الكبير ومفاتيح الغيب (بيروت: دار الفكر، ط3، 1405هـ، 1985م)، ج2، ص79، و: ج31، ص18. القرطبي، محمَّد بن أحمد (ت671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني (القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ)، ج1، ص209، و: ج9، ص107. النسفي، أبو البركات (ت710هـ)، مدارك التنزيل وحقائق التَّأويل (د. م: د. ن. ط. ت)، ج3، ص56، وج4، ص315. ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم الحراني (ت728هـ)، مجموع فتاوى (د. م: ن، ط. ت)، ج28، ص201. = أبو حيان، محمَّد بن يوسف (ت 745هـ)، النهر الماد من البحر المحيط، تحقيق: عمر الأسعد (بيروت: دار الجيل، ط1، 1416هـ، 1995م)، ج4، ص77. ابن كثير، أبو الفداء (ت 774هـ)، تفسير القرآن العظيم (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1401هـ)، ج1، ص53. الجرجاني، علي بن محمَّد (ت816هـ)، التَّعريفات، تحقيق: إبراهيم الأبياري (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ)، ج1، ص183. ابن عادل، عمر بن علي (ت880هـ)، اللباب في علوم القرآن، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمَّد معوض (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1419هـ، 1988م)، ج18، ص301. السيوطي، جلال الدِّين (ت 911هـ)، الدر المنثور (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1993م)، ج4، ص480. الشوكاني، محمَّد بن علي (1250هـ)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التَّفسير (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت)، ج5، ص279. الآلوسي، محمود أبو الفضل (ت1270هـ)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج8، ص165. قطب، سيد، في ظلال القرآن (د. م: د. ن. ط. ت)، ص292، وص 3045. ابن عاشور، محمَّد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير المسمى تفسير ابن عاشور التونسي (تونس: الدار التونسية، د. ط، 1984م)، ج29، ص88. الشعراوي، محمَّد متولي، قصص الأنبياء، جمع المادة العلميَّة: مِنشاوي غانم جابر، كتابة الحواشي ومراجعتها: مركز التراث لخدمة الكتاب والسنة (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، د. ط. ت)، ج3، ص1497.(1/12)
.
وكل ما في الأمر هو أن بعضاً منهم قد أضاف قيداً إلى التعريف أو بعبارة أخرى حدد الشيء المتجاوز فيه من أنه: التَّكبُّر والتمرد(1)، أو الاستعلاء، أو الفساد(2) أو العناد(3) أو ما لا يجوز(4) أو الكفر(5) أو العتو(6) أو العصيان(7) أو مخالفة أمر الله(8) أو حدود الله(9) أو الحدود التي ينبغي للإنسان أن يقف عندها(10) أو الكبر والتعاظم(11) أو الظُّلم والبغي(12).
إضافة إلى ما سبق فقد عرف بعضهم الطُّغيان بأنه: "الزيادة على الحدود المتعارفة في الأشياء"(13).
__________
(1) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص257.
(2) انظر، أبو حيان، النهر الماد، ج4، ص77. الطوسي، مرجع سابق، ج10، ص257.
(3) أبو حيان، مرجع سابق، ج4، ص77.
(4) انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص230. الواحدي، الوجيز، ج2، ص1170.
(5) انظر، الرَّازي، فخر الدِّين، تفسير الفخر الرَّازي المشهر بالتَّفسير الكبير ومفاتيح الغيب (بيروت: دار الفكر، ط3، 1405هـ، 1985م)،، ج2، ص79. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج17، ص54.
(6) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي، ج31، ص18.
(7) انظر، الجرجاني، التَّعريفات، ج1، ص183. السيوطي، الدر المنثور، ج4، ص480. ابن عادل، اللباب، ج18، ص138.
(8) السيوطي، مرجع سابق، ج4، ص480.
(9) الزمخشري، الكشاف، ج2، ص407. قطب، في ظلال القرآن، ص292.
(10) ابن عطية، المحرر الوجيز، ج5، ص435.
(11) انظر، ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج29، ص88. الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ج10، ص285.
(12) ابن تيمية، مجموع فتاوى، ج28، ص201.
(13) ابن عطية، مرجع سابق، ج5، ص358.(1/13)
وابن الجوزي (ت 597هـ) والشوكاني (ت 1250هـ) عرفا الطُّغيان بأنه: "الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة"(1). وعرفه الحرالي (ت 637هـ) بقوله: "الطُّغيان إفراط الاعتداء في حدود الأشياء ومقاديرها"(2). إضافة إلى ما سبق فقد عرف الثعالبي الطُّغيان بأنه: "التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء"(3).
وكما يظهر فإن هذه التعاريف كلها تتضمن معنى مجاوزة الحد، فكل تجاوز للحدود متضمن لمعنى الإفراط والتخبط والخروج عن حيز الاعتدال.
ومن تعاريف المعاصرين للطغيان تعريف الدكتور عبدالكريم زيدان بأنه: "تجاوز الإنسان حده وقدره. وحد الإنسان هو ما حده الله له من حدود لا يجوز أن يتجاوزها. وقدر الإنسان هو ما قدره باعتباره عبداً لله تعالى فتلزمه طاعة سيده ومولاه وبقاؤه في نظام العبودية له(4)". وهو عبارة عن شرح لتعريف المفسِّرين.
ويعرف طغيان السُّلطة بقوله: "تجاوز الإنسان حده وقدره بسبب ما أوتيه من سلطة الأمر والنهي ونفاذهما على الغير ولو جبراً وقهراً عند الاقتضاء"(5).
تعريف السياسة
__________
(1) الشوكاني، فتح القدير، ج2، ص482. ابن الجوزي، زاد المسير، ج1، ص36.
(2) المناوي، محمَّد عبدالرؤوف (ت 1031هـ)، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: محمَّد رضوان الداية (بيروت-دمشق: دار الفكر المعاصر-دار الفكر، ط1، 1410هـ)، ج1، ص483. الزبيدي، تاج العروس، ج10، ص324.
(3) الثعالبي، عبدالرحمن (ت875هـ)، الجواهر الحسان في تفسير القرآن (بيروت: مؤسسة الأعلمي، د. ط. ت)، ج1، ص551.
(4) زيدان، عبدالكريم، السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1413هـ، 1993م)، ص189-190.
(5) المرجع السابق، ص191.(1/14)
قال ابن منظور: "السوس: الرياسة، يقال ساسوهم سوساً، وإذا رأسوه قيل: سوسوه وأساسوه، ساس الأمر سياسة: قام به…سوسه القوم جعلوه يسوسهم. ويقال: سوس فلان أمر بني فلان أي: كلف سياستهم...السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، السياسة فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها والوالي يسوس رعيته"(1).
وقد ذكرت القواميس السِّياسيّة تعاريف كثيرة للسياسة، نوجزها فيما يلي:
فقد عرفها صاحب القاموس السِّياسيّ بأنها: "علم الدولة. أو فن الحكم والقواعد المنظمة للعلاقات بين الدولة وبين غيرها من الدول أو المنظمات الدولية"(2).
وفي موسوعة السياسة: "السياسة: فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السُّلطة أو الدولة، وأوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم"(3).
ويبين نصر محمَّد عارف: أن مفهوم السياسة قد تغير عما كان يستخدم فيه سابقاً حيث يقول: "استخدام المسلمين لمفهوم السِّياسة يرتبط بالمصلحة والإصلاح والتدبير والرعاية والتربية والتوجيه. وفي الاصطلاح الحديث: القوة والسُّلطة والدولة وغيرها(4).
وبما أن هذه التعاريف متداخل بعضها في بعض إلى حد كبير نختار من بينها تعريف موسوعة السياسة، وهو أن السياسة: "فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السُّلطة أو الدولة، وأوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم"(5) لأنه أعم وأشمل.
تعريف الطُّغيان في القواميس السِّياسيّة
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج6، ص108.
(2) عطية، أحمد، القاموس السِّياسيّ (القاهرة: دار النهضة العربيَّة، ط4، 1980م)، ص827.
(3) الكيالي، عبدالوهاب، موسوعة السياسة (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، ط2، 1993م)، ج3، ص362.
(4) عارف، نصر محمَّد، في مصادر التراث السِّياسيّ الإسلامي دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1415هـ، 1994م)، ص86.
(5) الكيالي، موسوعة السياسة، ج3، ص362.(1/15)
يرادف الطُّغيان في اللغة الإنكليزية كلمة (Tyranny) وهي في الأصل مشتقة أو مأخوذة من الكلمة اليونانية (Tyrannos)(1).
والكلمة لم تكن تعني في أصلها المعنى السلبي المستخدم فيه الآن، بل كانت في بعض استعمالاتها وصفاً يطلق على الحاكم الذي يمارس سلطات غير مقيدة ولا يدين في سلطته إلى وراثة أو دستور بغض النظر عن كونه ظالماً خبيثاً أو كريماً(2). ولا سيما في القرن السابع والسَّادس قبل الميلاد(3). فكان هناك من سمي بالطَّاغية مع أنه لم يكن يتصف بما يتصف به الطُّغاة في الوقت الحاضر(4).
__________
(1) William L. Reese, (1996). Dictionary of Philosophy and Religion Eastern and Western Thought. New Jersey: Humanites press. p.791. & The New Encyclopaedia Britannica, (1998). 15th edition. U. S. A. vol.12. P.90. & The Encyclopaedia Americana, (2000). international edition. U. S. A. vol. 27. P.330. & Angelo S. Rappoport R. F. Patterson & John Dougall, (1991). Encyclopaedia Dictionary of the World. New Delhi: Akashdeep Publishing House. vol.11. P.245.
(2) Jon Roland. Principle of Tyranny. www. Consitution. org/tyr/prin_tyr.htm
(3) Angelo S. Rappoport R. F. Patterson & John Dougall. Encyclopaedia Dictionary of the World. Vol.11. P.245. & Vernon Bogdauor, (1987). The Blackwell Encyclopaedia of Political Institutions. 1st edition. U. K. p.624. & The World Book Encyclopaedia, (1992). U. S. A. vol.19. P488.
(4) أمثال: بيزيستراتوس طاغية أثينا، فلم يكن كريماً خطيباً مفوهاً فحسب، بل كان أيضاً مشرعاً وراعياً للآداب، كما لم يكن يحب الانتقام من أعدائه. انظر، صيداوي، جواد، الطُّغاة والطُّغيان في التاريخ (بيروت: دار ابن زيدون، ط1، 1409هـ، 1988م)، ص7.(1/16)
وقد أشارت معاجم اللغة العربيَّة إلى هذا المعنى من أن الطَّاغية لقب ملك الروم(1).
وكذلك استخدمت الكلمة لوصف الحاكم الذي وصل إلى الحكم بطريق غير شرعي أو قانوني(2).
وفيما بعد ولا سيما في القرن الخامس قبل الميلاد أخذت الكلمة المعنى السلبي المستخدم فيه إلى العصر الحديث، فصارت مصطلحاً يستخدم لوصف الحاكم أو الملك الظالم الفاسد(3)
__________
(1) انظر، ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص9. المنجد في اللغة والإعلام (بيروت: دار المشرق، ط33، 1992م)، ص467.
(2) Vernon Bogdauor. The Blackwell Encyclopaedia of Political Institutions. p.624. & The New Encyclopaedia Britannica. Vol.12. P.90. The Columbia Encyclopaedia, (1993). 4th edition. Columbia University Press. p.2811. Judy Pearsall and Bill Trumble, (1996). The Oxford English Reference Dictionary. 2nd edition. New York: Oxford University Press. p. 1558.
(3) William L. Reese. Dictionary of Philosophy and Religion Eastern and Western Thought. p. 791-792. & Vernon Bogdauor. The Blackwell Encyclopaedia of Political Institutions. p.624. & The Columbia Encyclopaedia. p.2811. & David Crystal (1990). The Cambridge Encyclopaedia. 4th edition. U. K: Cambridge University Press. p.1120.
وقد أشار إلى هذا المعنى الزبيدي في تاج العروس نقلاً عن الجوهري من أن الطَّاغية صار لقباً لملك الروم لطغيانه وفساده. انظر، ج15، ص325.(1/17)
. فقد استخدم كل من أفلاطون وأرسطو(1) في القرن الرابع قبل الميلاد الطُّغيان باعتباره أسوأ أشكال الحكومات فساداً. ووصف أفلاطون الطَّاغية بأوصاف ذميمة من أنه يجمع بين صفات السكير والعاشق والمجنون(2).
وتذكر القواميس الإنكليزية تعاريف كثيرة تحت كلمة الطُّغيان (Tyranny)، -وهذه التعاريف يقصد بها الطُّغيان السِّياسيّ- منها:
- "الحكومة المدارة من قبل حاكم مطلق الصلاحيات وصل إلى الحكم غالباً عن طريق القوة العسكريَّة أو خدعة سياسية"(3).
- "الحكومة المدارة من قبل فرد أو جماعة بالقوة أو بالقسوة والظُّلم..مع مجافاة أسس العدالة"(4).
- الطُّغيان: "هو القسوة والاعتباط في استخدام القوة"(5).
__________
(1) أرسطو، علم الأخلاق، ترجمة: بارتملي سانتهلير، تعريب: أحمد لطفي السيد (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، د. ط، 1343هـ، 1924م)، ج2، ص255.
(2) Plato (1974). The Republic. Translated with an introduction by: Desmond Lee, 2nd edition, U. K. Penguin Books. p.394 & pp. 397-398. & William L. Reese. Dictionary of Philosophy and Religion. p. 791.
وانظر: ابن رشد، أبو الوليد محمَّد بن أحمد، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله من العبرية إلى العربيَّة: أحمد شحلان، مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للدكتور محمَّد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط1، 1998م)، ص329.
(3) The World Book Encyclopaedia. (1992). U. S. A. Vol.19. P.488.
(4) The World Book Encyclopaedia, vol.19. P.488.
(5) The Oxford English Reference Dictionary. P.1558.(1/18)
- الطُّغيان: "حكم الطَّاغية أو الدولة التي يحكمها طاغية"(1). أو: "الحكومة الظالمة"(2).
وقد عرف وليام بت (William Pitt) (عام1770م): الطُّغيان بالفوضى حيث يقول: "الطُّغيان يبدأ حيث ما ينتهي القانون". وهو عين ما قاله جون لوك (John Locke) عام 1690م(3).
وقد قال بعض علماء السِّياسة المعاصرين بالمرادفة بين لفظي الديكتاتورية(4) والطُّغيان.
__________
(1) The Blackwell Encyclopaedia of Political Institutions. p.624. & Tyranny. www. Infoplease.com/ipd/Ao76891.htm
(2) Jay M. Shafritz, Plil Williams, & Ronald S. Calinger, (1993). The Dictionary of 20th –Century World Politics. 1st edition. New York. Henry holt and company. P.676.
(3) Jay M. Shafritz. The Dictionary of 20th –Century World Politics. P.676.
(4) الديكتاتورية تعني: "نظم الحكم التي تسمح لفرد أو منصب أو حزب أن يكون له من القوة والسُّلطة ما يجعله يسيطر سيطرة تامة على الدولة فيقرر منفرداً كل التحركات والقرارات السِّياسيّة، وأن يفرض الطَّاعة على كل المواطنين ليقبلوا صاغرين كل ما يصدر عنه من تحركات وأفعال". انظر، ربيع، محمَّد محمود، موسوعة العلوم السِّياسيّة (الكويت: مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، د. ط، 1994م)، ج1، ص285.(1/19)
وقرن آخرون بين الاستبداد(1) والطُّغيان. في حين فرق بعضهم بين الاستبداد والطُّغيان بأن الاستبداد يتحول إلى الطُّغيان إذا ما حافظت الحكومة المتصفة به على بقائها بالقوة(2).
__________
(1) الاستبداد يعني: "حكم أو نظام يستقل بالسُّلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى رأي المحكومين". الكيالي، موسوعة السياسة، ج1، ص166. انظر، إمام، إمام عبدالفتاح، الطَّاغية دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السِّياسيّ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 183، 1414هـ، 1994م)، ص62. يقول عارف: "لفظ الاستبداد والذي يعني: الدكتاتورية والطُّغيان والانفراد بالسُّلطة". انظر، عارف، في مصادر التراث السِّياسيّ الإسلامي، ص86. ربيع، موسوعة العلوم السِّياسيّة، ج1، ص294.
وقد عرف الكواكبي الاستبداد بأنه: "تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة". وفي موضع آخر بأنه: "صفة الحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرَّعيَّة كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين". الكواكبي، عبدالرحمن، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ضمن: الأعمال الكاملة للكواكبي، إعداد وتحقيق: محمَّد جمال طحان (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط1، 1995م)، ص437. ولمزيد من التفاصيل: الطُّغيان والاستبداد والديكتاتورية والشمولية والسُّلطة المطلقة، مراجعة فصل عائلة الطُّغيان من: إمام، الطَّاغية دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السِّياسيّ، ص43-81.
(2) انظر، ذبيان، سامي وآخرون، قاموس المصطلحات السِّياسيّة والاقتصادية والاجتماعية (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1990م)، ص38.(1/20)
وقد بينت موسوعة العلوم السِّياسيّة أن الطُّغيان السِّياسيّ يستخدم للدلالة على: "نظام الحكم الذي يتسم بتركيز شديد للسلطة في يد فرد واحد (أو تنظيم واحد)، يمتلك سلطات غير محدودة، ويتسيد سياسياً على كل المحكومين، ويمارس الحكم بصورة تحكمية قهرية فلا يعترف بالحُرِّيَّة السِّياسيّة أو القانون"(1).
ويعد هذا التعريف الأخير خلاصة التعاريف السابقة، وكذلك متضمناً لتعريف المفسِّرين للطغيان المتمثل في مجاوزة الحد، وهو التعريف الذي نختاره للطغيان السِّياسيّ. ويتناول طغيان الحاكم وطغيان الأقلية وهو ما سنتناوله في الفصول القادمة.
مفردة الطُّغيان في القرآن الكريم
أولاً: الطُّغيان
وردت كلمة طغى ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم وبصيغ وتصريفات مختلفة: (طغى، يطغى، أطغى، تطغوا، طغوا، أطغيته، طغيان، طغوى، طاغية، طاغوت، طاغين، طاغون). والجدول الآتي يوضح عدد تكرار الصيغ التي وردت بها مادة طغى في القرآن الكريم:
الكلمة ... عدد المرات
طغى، يطغى ... 6 + 2
أطغى ... 1
تطغوا ... 3
طغوا ... 1
أطغيته ... 1
طغيان ... 9
طغوى ... 1
طاغوت ... 8
طاغية ... 1
طاغين، طاغون ... 4+2
العدد الكلي ... 39
__________
(1) ربيع، موسوعة العلوم السِّياسيّة، ج1، ص294.(1/21)
ونظراً إلى أن السياق القرآني له تأثيره البين والواضح في إضفاء معانٍ جديدة على الكلمات فإن الطُّغيان جاء بمعانٍ عدة وفقاً للسياق الذي ورد فيه، ولكن قبل الدخول في ذكر معاني الطُّغيان في القرآن الكريم لابد من الإشارة إلى أن بعض الآيات تحتمل أكثر من معنى واحد من المعاني التي أفادتها مفردة الطُّغيان مع القول بأن هذه المعاني يجمعها شيء واحد وهو المعني اللغوي -مجاوزة الحد- لكلمة الطُّغيان، وهذه المعاني هي(1):
1. الضلال(2) والكفر
ورد الطُّغيان في عدد من الآيات القرآنية بمعنى الضلال أو الكفر أو كليهما معاً، وهذه الآيات هي؛ قال تعالى:
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (3).
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (4).
{ مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (5).
__________
(1) يذكر الدامغاني (ت 478هـ) بأن الطُّغيان ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجه وهي: (الظُّلم، العصيان، الارتفاع والكثرة، والظُّلم والكذب)، ويذكر لذلك أمثلة وهي في غالبها ناقصة ومتداخلة. انظر، الدامغاني، الحسين بن محمَّد، قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، تحقيق: عبدالعزيز سيد الأهل (بيروت: دار العلم للملايين، ط5، 1985م)، ص296.
(2) وأصل الضلالة الحيرة والجور عن القصد وفقد الاهتداء، وتطلق على النسيان، ومنه قوله تعالى: { قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ } [الشعراء: 20]، وعلى الهلاك كقوله: { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ } [السجدة: 10]. انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص211. الشوكاني، فتح القدير، ج1، ص45.
(3) سورة البقرة/15.
(4) سورة الأنعام/110.
(5) سورة الأعراف/186.(1/22)
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (1).
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (2).
{ وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } (3).
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (4).
{ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } (5).
يعني: ما أضللته. قال الزمخشري: "ما جعلته طاغياً، وما أوقعته في الطُّغيان، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى"(6).
ونظراً لأن السياق يدل بوضوح على أن معنى الطُّغيان في هذه الآيات هو الضلال أو الكفر أو كلاهما معاً فإن جل المفسِّرين إن لم نقل كلهم قد ذهبوا إلى أن المعنى في هذه الآيات هو الضلال والكفر. نشير إلى بعض من تلك الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر.
__________
(1) سورة يونس/11.
(2) سورة المؤمنون/75.
(3) سورة المائدة/64.
(4) سورة المائدة/68.
(5) سورة ق/27.
(6) الزمخشري، الكشاف، ج4، ص391.(1/23)
قال مجاهد (ت 104هـ): "في طغيانهم يعني في ضلالتهم يترددون. يقول: زادهم الله ضلالة إلى ضلالتهم، وعمى إلى عماهم"(1). وقال الواحدي (ت 468هـ): "ونذرهم في طغيانهم يعمهون: أخذُلُهُم وأدعُهُم في ضلالتهم يتمادون"(2).
ومن القرائن التي تدل على أن المعنى في الآيات السابقة هو الضلال قوله تعالى: (يعمهون) والعمه هو التردد والحيرة، وهو حال معروفة للضال حقيقة ومجازاً. قال الزجاج: "ومعنى يعمهون في اللغة: يتحيرون. يقال: رجل عمه وعامه: أي متحير"(3).
__________
(1) مجاهد، بن جبر، تفسير مجاهد، تحقيق: عبدالرحمن الطاهر محمَّد السورتي (بيروت: المنشورات العلميَّة، د. ط، ت)، ج1، ص70. السيوطي، الدر المنثور، ج1، ص80. الواحدي، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص370. البغوي، معالم التنزيل، ج2، ص123. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص53. المصري، التبيان في تفسير غريب القرآن، ج1، ص59. أبو حيان، النهر الماد من البحر المحيط، ج2، ص459. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج18، ص100. القاسمي، محمَّد جمال الدِّين (ت 1332هـ)، تفسير القاسمي المسمى بمحاسن التَّأويل، تحقيق: محمَّد باسل عيون السود (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1418هـ، 1997م)، ج6، ص9، وج6، ص473.
(2) الواحدي، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص370. وانظر أيضاً نفس القول لعطاء في: البغوي، معالم التنزيل، ج2، ص123.
(3) الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، ج1، ص91. انظر، ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص484. الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، ج1، ص551. رضا، محمَّد رشيد، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار (بيروت: دار المعرفة، ط2، د. ت)، ج9، ص459.(1/24)
وبعد أن ذكر الإمام ابن جرير الطبري روايات كثيرة تشير إلى أن المقصود بالطُّغيان هنا الضلال والكفر قال: "القول في تأويل قوله تعالى يعمهون. قال أبو جعفر: والعمه نفسه الضلال يقال منه عمه فلان يعمه عمهانا وعموها إذا ضل…فمعنى قوله جل ثناؤه ويمدهم في طغيانهم يعمهون: في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها فأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً وبنحو ما قلنا في العمه جاء تأويل المتأولين"(1). وكما ينقل النحاس عن أهل اللغة أنه يقال: "يعمهون: يترددون في الضلالة…وحكى أهل اللغة عَمِهَ يَعْمَهُ عُمُوهاً وعَمَهاً وعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ إذا حار"(2).
2. بمعنى الطُّغيان السِّياسيّ؛ أي بمعنى مجاوزة الحد في الاستكبار والعتو والتجبر والظُّلم والفساد في الأرض وفي استخدام القوة وعدم مراعاة أسس العدل والحق ولا سيما من قبل السادة والحكام. والآيات التي تضمنت هذه المعاني، هي:
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (3).
{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (4).
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (5).
{ فَأَمَّا مَنْ طَغَى } (6).
{ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } (7).
__________
(1) الطبري، جامع البيان، ج1، ص135-136.
(2) انظر، النحاس، معاني القرآن، ج1، ص98.
(3) سورة طه/24.
(4) سورة طه/43.
(5) سورة النازعات/17.
(6) سورة النازعات/37.
(7) سورة طه/45. قال الطوسي: "أو يعتوا علينا ويتجبر"، الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج7، ص176.(1/25)
قال الإمام الرَّازي: "أنه تعالى لم يبين أنه -فرعون- تعدى في أي شيء، فلهذا قال بعض المفسِّرين: معناه أنه تكبر على الله وكفر به. وقال آخرون: إنه طغى على بني إسرائيل. والأولى عندي: الجمع بين الأمرين، فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به، وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم، وكما أن كمال العبودية ليس إلا صدق المعاملة مع الخالق ومع الخلق، فكذا كمال الطُّغيان ليس إلا الجمع بين سوء المعاملة مع الخالق ومع الخلق"(1).
وقوله: { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ } (2). يعني: "تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرد والبغي في بلادهم، اغتراراً بالقوة وعظم السلطان"(3). وقوله: { لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } (4). قال القاسمي: "أي للذين طغوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم"(5). وقوله: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } (6). والسياق يبين أن المقصود بـ(الطاغين) هم الزعماء الطُّغاة بدليل قول الملائكة لهؤلاء { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ } (7). يقول البيضاوي (ت 791هـ): "قوله تعالى: { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ } ، حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال، والاقتحام ركوب الشدة، والدخول فيها لا، مرحباً بهم دعاء من المتبوعين على أتباعهم"(8).
__________
(1) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي، ج31، ص40.
(2) سورة الفجر/11.
(3) انظر، القاسمي، محاسن التَّأويل، ج9، ص468-469.
(4) سورة النبأ/22.
(5) المرجع السابق، ج9، ص39.
(6) سورة ص/55.
(7) سورة ص/59-60.
(8) انظر، البيضاوي، تفسير البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1416 هـ، 1996م)، ج5، ص52.(1/26)
وقوله: { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } (1). { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } (2). يعني: "مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم"(3).
وقوله: { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ } (4).
ويدل على أن المقصود بالطُّغيان هنا الاستكبار والعتو والتجبر السياق في أكثر الآيات المذكورة أعلاه حيث الخطاب هنا جار بين السادة والأتباع. إضافة إلى قرائن أخرى وردت في سياق الآية الأخيرة منها لفظة (مجرمون) وكذا لفظة (يستكبرون) فـ(مجرمون) راجع إلى كل من السادة والأتباع، قال الرَّازي في تفسير قوله تعالى: { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } (5): "يعني فالمتبوع والتابع والمخدوم والخادم مشتركون في الوقوع في العذاب كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية"(6).
__________
(1) سورة الذاريات/53.
(2) سورة الطور/32. وردت الآية بعد سياق يتحدث عن عتو طغاة معروفين مثل فرعون وملأ ثمود وعاد وقوم نوح.
(3) انظر، الزمخشري، الكشاف، ج4، ص416.
(4) سورة الصافات/30.
(5) سورة الصافات/33.
(6) الرَّازي، فخر الدِّين، التَّفسير الكبير (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1990م)، ج26، ص118.(1/27)
ويدل على أن المقصود هنا السادة الطُّغاة أنهم قد استخدموا القوة في إشراك الرَّعيَّة معهم، وهذا ما يدل عليه تفسير كلمة (اليمين) الموافق للسياق كما يقول الإمام الرَّازي رحمه الله في بيانه لمعاني اليمين في قوله تعالى: { قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ } (1): "لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه"(2).
وقوله تعالى: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } (3).
يقول ابن الجوزي: "بطغواها أي كذبت رسولها بطغيانها، والمعنى أن الطُّغيان حملهم على التكذيب(4). قال الفراء: "أراد بطغواها طغيانها وهما مصدران إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك"(5).
__________
(1) سورة الصافات/28-30.
(2) المرجع السابق، ج26، ص117.
(3) سورة الشمس/11.
(4) انظر أيضاً، الرَّازي، المرجع السابق، ج31، ص195. أبو السعود، العمادي (ت951هـ)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج9، ص164. الطبري، جامع البيان، ج30، ص213. الزمخشري، الكشاف، ج4، ص764. أبو حيان، النهر الماد، ج5، ص563. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص76. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص518. المصري، التبيان في تفسير غريب القرآن، ج1، ص465. السيوطي، الدر المنثور، ج8، ص530. الواحدي، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص1207. المحلي-السيوطي، محمَّد بن أحمد-عبدالرحمن بن أبي بكر، تفسير الجلاليين (القاهرة: دار الحديث، ط1، د. ت)، ج1، ص810. البغوي، معالم التنزيل، ج4، ص493.
(5) ابن الجوزي، زاد الميسر، ج9، ص142.(1/28)
وقوله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } (1). الاستغناء هنا عام وليس مختصاً بالمال فقط بل يشمل كلاً من المال والقوة والجُنُود..الخ بحيث يصل الإنسان به إلى درجة يشعر أنه قد استغنى عن كل من حوله(2).
وقوله: { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا } (3).
يقول البيضاوي: "فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً، إلا عتواً متجاوز الحد"(4). ويشير البغوي إلى نفس المعنى بقوله: "أي تمرداً وعتواً عظيماً"(5). وهذا الوصف مطابق لما كان عليه ملأ قريش العاتي.
3. العلو والارتفاع والكثرة
ورد الطُّغيان في بعض الآيات القرآنية بمعنى مجاوزة الحد بالمفهوم اللغوي، أي بمعنى: العلو والارتفاع والكثرة، قال تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } (6).
يقول الراغب الأصفهاني: "فاستعير الطُّغيان فيه لمجاوزة الماء الحد"(7).
سمي ذلك طغياناً لمجاوزة الماء القدر المعلوم وهو كما سبق من باب الاستعارة، فهو من قبيل: "استعارة معقول لمحسوس…فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي، والمستعار منه التَّكبُّر، والجامع الاستعلاء المفرط وهما -التَّكبُّر والاستعلاء- عقليان"(8).
__________
(1) سورة العلق/6-7.
(2) سيأتي الحديث عن هذه الآية مفصلاً في فصل دوافع الطُّغيان.
(3) سورة الإسراء/60.
(4) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج3، ص454.
(5) البغوي، معالم التنزيل، ج3، ص122.
(6) سورة الحاقة/11.
(7) الأصفهاني، المفردات، ص304.
(8) انظر، القزويني، جلال الدِّين، الإيضاح في علوم البلاغة (بيروت: دار إحياء العلوم، ط4، 1998م)، ج1، ص278. السيوطي، جلال الدِّين، الإتقان في علوم القرآن (بيروت: المكتبة الثقافية، د. ط، 1973م)، ج2، ص122.(1/29)
وقوله تعالى: { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغية } (1).
سميت الصيحة التي أهلكت ثمود بالطَّاغية وذلك لتجاوزها الحد المعلوم أو المعهود في مثلها. قال قتادة: "أي الصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة"(2). قال الزمخشري: "بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، واختلف فيها فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم"(3).
والراجح أنها كانت صيحة مجاوزة لحد كل صيحة، وليس المقصود هنا التكذيب بالطُّغيان كما ذهب إليه بعض المفسِّرين، والتكذيب بسبب الطُّغيان إنما هو في آية الشمس، وهو اختيار ابن جرير الطبري فبعد أن ذكر الخلاف في ذلك قال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك: فأهلكوا بالصيحة الطَّاغية. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله إنما أخبر عن ثمود بالمعنى الذي أهلكها به كما أخبر عن عاد بالذي أهلكها به فقال: { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } (4) ولو كان الخبر عن ثمود بالسبب الذي أهلكها من أجله كان الخبر أيضا عن عاد كذلك إذ كان ذلك في سياق واحد وفي إتباعه ذلك بخبره عن عاد بأن هلاكها كان بالريح الدليل الواضح على أن إخباره عن ثمود إنما هو ما بينت"(5). وهو ما ذكره الزمخشري أيضاً(6).
__________
(1) سورة الحاقة/5.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج18، ص258. انظر، الآلوسي، روح المعاني، ج29، ص40. البغوي، معالم التنزيل، ج4، ص386.
(3) الزمخشري، الكشاف، ج4، ص602.
(4) سورة الحاقة/6.
(5) الطبري، جامع البيان، ج29، ص49.
(6) الزمخشري، مرجع سابق، ج4، ص602.(1/30)
ويدل لصحة القول بأن المقصود هنا الصيحة التي جاوزت الحد في الشدة ما ذكره القرآن الكريم في مواضع أخرى عن هلاك ثمود بالصيحة، وهذه المواضع هي؛ قال تعالى: { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } (1). وقوله: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } (2). وقوله: { فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } (3). وقوله: { فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } (4). وقوله: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (5). وقوله: { فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } (6).
ولا تعارض بين هذه الآيات حيث كانت الصيحة مجاوزة للحد من الشدة، وكما يقول الإمام الآلوسي: "فان الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطَّاغية لأن الطُّغيان مجاوزة الحد"(7).
وقوله: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } (8). وما طغى يعني: وما جاوز ما أمر برؤيته إلى غيره، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً(9).
4. بمعنى الإسراف في الظُّلم والعصيان
ومن المعاني التي ورد بها الطُّغيان الإسراف في الظُّلم أو مجاوزة الحد في الظُّلم والعصيان. والآيات القرآنية التي تضمنت هذا المعنى، هي، قال تعالى:
__________
(1) سورة هود/67.
(2) سورة القمر/31.
(3) سورة الحجر/83.
(4) سورة الأعراف/78.
(5) سورة فصلت/17-18.
(6) سورة الذاريات/44.
(7) الآلوسي، روح المعاني، 8، ص165.
(8) سورة النجم/17.
(9) انظر، الزمخشري، الكشاف، ج4، ص433. أبو حيان، النهر الماد، ج5، ص259. القاسمي، محاسن التَّأويل، ج9، ص65.(1/31)
{ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } (1).
قال الزمخشري: "طغيانهم في النعمة أن يتعدوا حدود الله فيها، بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزوروا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا"(2).
وقوله: { أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } (3).
أي لا تظلموا أو لا تتجاوزوا العدل والحق. قال القاسمي: "أي بالإفراط عن حد الفضيلة والاعتدال"(4).
وقوله: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (5).
قال ابن كثير: "يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات، والدوام على الإستقامة، وذلك من أكبر العون على الأعداء ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطُّغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك"(6).
وقوله: { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } (7).
أي: "أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب، وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهمً"(8).
وقوله تعالى: { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } (9). أي متجاوزين الحد في العصيان وذلك بمنع حق الفقراء فيه.
5. بمعنى العقوق أي مجاوزة الحد في التعامل مع الوالدِّين
__________
(1) سورة طه/81.
(2) الزمخشري، مرجع سابق، ج3، ص80.
(3) سورة الرحمن/8.
(4) القاسمي، محاسن التَّأويل، ج9، ص101. الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، ج5، ص96.
(5) سورة هود/112.
(6) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص462.
(7) سورة النجم/52.
(8) الشوكاني، فتح القدير، ج5، ص117. انظر، البغوي، معالم التنزيل، ج4، ص256.
(9) سورة القلم/31.(1/32)
ورد الطُّغيان بمعنى العقوق في قوله تعالى: { وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } (1).
فالمراد من أنه يطغى عليهما: أنه يتجاوز الحد المعروف في تعامل الابن مع والديه مما يجعله عاقاً. قال الزمخشري: "فخفنا أن يغشى الوالدِّين المؤمنين طغياناً عليهما، وكفراً لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شراً وبلاءً"(2). يقول ابن عطية: "أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطُّغاة الكفار"(3).
والقرائن التي تدل على أن معنى الطُّغيان هنا هو العقوق الذي هو مجاوزة الحد أو القدر المعلوم في تعامل الولد مع الوالدِّين المفهوم المخالف لكلمة (رحماً) يعني أكثر عطفاً ورحمة عليهما. قال الطوسي: "أقرب رحماً: أي أبر بوالديه من المقتول -في قول قتادة- يقال رحمه ورحمة ورحماً"(4).
ثانياً: مفردة الطاغوت
كلمة طاغوت استعملت في القرآن الكريم بمعان مختلفة، وإن كان هناك قدر مشترك بين كل المعاني المستعملة فيها، وقد تكرر لفظ الطاغوت في القرآن الكريم في ثمانية مواضع وفي الآيات الآتية؛ قال تعالى:
{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (5).
__________
(1) سورة الكهف/80.
(2) الزمخشري، الكشاف، ج2، ص692. النسفي، تفسير النسفي، ج3، ص23. الشوكاني، فتح القدير، ج3، ص304. أبو حيان، النهر الماد، ج4، ص666.
(3) ابن عطية، المحرر الوجيز، ج21، ص137.
(4) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج4، ص81.
(5) سورة البقرة/256.(1/33)
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلماتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1).
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } (2).
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيداً } (3).
{ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } (4).
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (5).
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (6).
__________
(1) سورة البقرة/257.
(2) سورة النساء/51.
(3) سورة النساء/60.
(4) سورة النساء/76.
(5) سورة المائدة/60.
(6) سورة النحل/36.(1/34)
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ } (1).
__________
(1) سورة الزمر/17. اجتناب كل ما يؤدي بالإنسان إلى أن يصبح عبداً للطواغيت حيث مفهوم الاجتناب شامل لكل المقدمات التي من شأنها أن تؤدي إلى الاستعباد. يقول القرطبي: "أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال". القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص103.(1/35)
وقد اختلف المفسرون في المراد بالطاغوت في القرآن الكريم على عدة أقوال، وكما يقول الإمام الرَّازي رحمه الله: "ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال: الأول: قال عمر(1) ومجاهد وقتادة هو: الشيطان(2). الثَّاني: قال سعيد بن جبير هو: الكاهن(3). الثَّالث: قال أبو العالية هو: الساحر. الرابع: قال بعضهم: الأصنام. الخامس: أنه مردة الجن والإنسان وكل ما يطغى. والتحقيق: أنه لما حصل الطُّغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان"(4).
__________
(1) "قال عمر رضي الله عنه: الطاغوت هو الشيطان". انظر، البخاري، محمَّد بن إسماعيل (ت 256هـ)، الجامع الصحيح المختصر، تحقيق: مصطفى ديب البغا (بيروت: دار ابن كثير، ط3، 1407 هـ، 1987م)، ج4، ص1673.
(2) يقول الدامغاني: "الطاغوت هو الشيطان، قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) يعني بالشيطان، نظيرها في سورة النساء: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) يعني الشيطان، مثلها في سورة المائدة: (وعبد الطاغوت) يعني الشيطان". انظر، الدامغاني، قاموس القرآن، ص297. واستدل القائلون بأن الطاغوت هو الشيطان بأدلة منها: قوله عز وجل: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) –النساء/ 76-، ومن ذلك كما قال ابن كثير في شرح معنى قول الفاروق رضي الله عنه من أن الطاغوت هو الشيطان: "ومعنى قوله إنه الشيطان قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها والاستنصار بها". انظر، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص312.
(3) قيل: الطاغوت هو الكاهن بالحبشية. انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص248. السيوطي، الإتقان، ج1، ص402.
(4) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (دار الفكر)، ج7، ص17. وانظر هذه الأقوال في، السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص22.(1/36)
إلا أنه بمراجعة التَّفاسير نجد أن المفسِّرين قد ذكروا فيه أكثر من خمسة أقوال، فإضافة إلى ما ذكره الإمام الرَّازي فقد ذكر المفسرون أقوالاً أخرى في الطاغوت منها:
- أن الطاغوت هو: كعب بن الأشرف. يروى عن ابن عباس(1) وذكره البيضاوي(2).
-الطاغوت: العجل(3).
- الطاغوت: كل متعد وكل ما عبد من دون الله. ذكره الراغب الأصفهاني(4). وأضاف البيضاوي إلى ما سبق قوله: "أو صد عن عبادة الله تعالى"(5).
- الطاغوت: الصارف عن طريق الخير، قاله الراغب الأصفهاني(6).
- الطاغوت: المتجاوز للحد في الفساد(7).
- الطاغوت: الجبار العنيد المتكبر الظالم(8).
وواضح تأثير أسباب النزول على التَّفسيرات السابقة للطاغوت، وقد أدى ذلك بالمفسِّرين في كثير من الأحيان إلى الابتعاد عن المعاني المتبادرة إلى الذهن من سياق الآيات متأثرين بالنظرة المسبقة المبنية على أسباب نزول الآيات.
__________
(1) انظر، الطبري، جامع البيان، ج5، ص132.
(2) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج2، ص207. يقول الدامغاني: "الطاغوت كعب بن الأشرف، قوله تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) يعني: كعب بن الأشرف. نظيرها في سورة النساء: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) يعني: كعب بن الأشرف. وقال تعالى في سورة النساء: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) يعني: كعب بن الأشرف". انظر: الدامغاني، قاموس القرآن، ص297.
(3) البيضاوي، مرجع سابق، ج2، ص343.
(4) الأصفهاني، المفردات، ص305.
(5) البيضاوي، مرجع سابق، ج1، ص558.
(6) الأصفهاني، مرجع سابق، ص305.
(7) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص83.
(8) الزبيدي، تاج العروس، ص325.(1/37)
إضافة إلى ذلك نجد أن بعض المفسِّرين قد ابتعدوا في تفسيراتهم للطاغوت من أن يذكروا شيئاً فيما يتعلق بالحكام الطُّغاة الذين يخضعون الشعوب لأنفسهم ويعاملونهم معاملة المعبود مع عبيده، فربما كان للسياسة دور ما في إحجام بعض المفسِّرين عن مثل هذه التَّفسيرات.
فلو رجعنا إلى السياق القرآني فإننا سنجد أن لفظ الطاغوت قد ورد في غالب الأحيان في سياق يتحدث عن الحكام الطُّغاة، وكيف يقومون بصد النَّاس عن دين الله سبحانه وتعالى ويدعون الألُوهيَّة والرُّبُوبيَّة، فمثلاً في سورة البقرة وبعد أن ذكرت أن الطواغيت يقومون بصد النَّاس عن الطريق، ويخرجونهم من النور إلى الظُّلمات(1) ذكرت مثالاً لحاكم طاغ وهو الذي حاج إبراهيم في ربه -نمرود- وبذلك فالحديث هنا جار عن حكام وسادة طغاة عتاة يظلمون النَّاس ويصل بهم الطُّغيان إلى حد التأله.
__________
(1) يقول الغزالي رحمه الله: "كنت أقرأ قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) سورة إبراهيم/5. قلت: كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر ذات السماء المشرقة، والأرض الضاحية، فما الظلام الذي يخرجون منه؟ إنه ظلام الاستبداد السِّياسيّ والفرعونية الحاكمة. والاستضعاف الأثيم". الغزالي، محمَّد، مائة سؤال عن الإسلام (القاهرة: دار ثابت، ط2، 1407هـ، 1987م)، ج2، ص10-11. ويتضح هذا أكثر إذا ما عرفنا أن قوم موسى عليه السلام لم يكونوا مشركين حتى يخرجهم من ظلمات الشرك والكفر.(1/38)
والآية التي فسرها العلماء بأن الطاغوت فيها هو كعب بن الأشرف بناء على سبب النزول. نقول: مع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن كعب بن الأشرف كان سيداً وزعيماً في قومه بلغ به التَّكبُّر والعتو مبلغ أن تنزل فيه هذه الآية، لذا عقب البيضاوي بعد أن ذكر أن المقصود بالطاغوت كعب بن الأشرف بقوله: "وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله"(1).
والراجح في الاستعمال القرآني للطاغوت هو ما قاله الإمام الطبري بعد أن ذكر أقوالاً كثيرة فيه حيث يقول: "والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه: كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة(2) ممن عبده له إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء"(3).
ويضيف في مقام آخر بقوله: "الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له كائناً ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان"(4). "يرضى ذلك كفرعون ونمرود، وأما من لا يرضى ذلك فسمي طاغوتاً في حق العبدة"(5).
__________
(1) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج2، ص402.
(2) العبادة بالمفهوم الشامل باعتبارها اسماً جامعاً لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال.
(3) الطبري، جامع البيان، ج3، ص19.
(4) المرجع السابق، ج5، ص133.
(5) الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، ج1، ص203.(1/39)
ونختتم هذا المبحث بما قاله السيد محمَّد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلماتِ } (1): "أي لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة السائقة إلى الطُّغيان، فإذا كان الطاغوت من الأحياء الناطقة ورأى أن عابديه قد لاح لهم شعاع من نور الحق الذي ينبههم إلى فساد ما هم فيه، بادر إلى إطفائه بل إلى صرفه عنه بما يلقيه دونه من حجب الشبهات وأستار زخارف الأقوال التي تقبل منه لأجل الاعتقاد أو بنفس الاعتقاد. وإذا كان الطاغوت من غير الأحياء فإن سدنة هيكله وزعماء حزبه لا يقصرون في تنميق هذه الشبهات، وتزيين تلك الشهوات، أقول: بل هؤلاء الزعماء يعدون من الطواغيت…فإنهم دعاة الطُّغيان وأولياؤه فإن لم يكونوا ممن تعتقد فيهم السُّلطة الغيبية وتوله العقول في مزاياهم الآلهية فإنهم ممن يؤخذ بقولهم في الاعتقاد بتلك السُّلطة والمزايا وما ينبغي لمظاهرها أو لأربابها من التعظيم الذي هو عين العبادة وإن سمي توسلاً أو استشفاعاً أو غير ذلك"(2).
وبذلك تبين أن الطُّغيان يرد في القرآن الكريم بمعان متعددة يمكن إجمالها فيما يلي: الضلال والكفر، الطُّغيان السِّياسيّ الجامع لمجاوزة الحد في التَّكبُّر والعتو والتجبر والظُّلم والفساد وما يرافق ذلك من نتائج، الطُّغيان بالمعنى المجازي الذي هو العلو والارتفاع والكثرة، وبمعنى مجاوزة الحد في الظُّلم والعصيان، وبمعنى العقوق. وأن الطاغوت في الإطلاق القرآني يقصد به كل من جاوز حده ولا سيما الحاكم وتعدى وبغى على النَّاس واستعبدهم.
المبحث الثَّاني
ألفاظ ذات صلة بالطُّغيان
__________
(1) سورة البقرة/257.
(2) رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، ج3، ص40-41.(1/40)
يتناول الباحث وبإيجاز في هذا المبحث مجموعة من المفردات التي استعملت في القرآن في بعض المواضع بمعنى مرادف أو شبه مرادف لمفردة الطُّغيان. والمعنى الذي يجمع -كما سيظهر في نهاية المبحث- بين كل هذه المفردات هو: تجاوز الحد أو القدر المعلوم في الأشياء. وهذه المفردات هي: الإسراف، العلو، الاستكبار، التجبر، العتو والظُّلم.
الإسراف
يقول ابن فارس (ت 395هـ): "السين والراء والفاء أصل واحد يدل على تعدي الحد، والإغفال أيضاً، تقول: في الأمر سرف، أي: مجاوزة القدر. وجاء في الحديث: (الثَّالثة في الوضوء شرف، والرابعة سرف)"(1).
ويعرف الأصفهاني (ت 502هـ) الإسراف بقوله: "السَّرَفُ تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان في الإنفاق أشهر..قال تعالى: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين-وأن المسرفين هم أصحاب النار } (2). أي: المتجاوزين الحد في أمورهم"(3).
قال الجرجاني (ت 816هـ): "الإسراف: تجاوز الحد في النفقة…وقيل: تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق"(4).
وفي لسان العرب: "الإسراف مجاوزة القصد...وأسرف في الكلام وفي القتل أفرط...والغالب على ذكره الإكثار من الذنوب والخطايا، واحتقاب الأوزار والآثام، والسرف: الخطأ...[قال] ابن الأعرابي: أسرف الرجل إذا جاوز الحد"(5).
__________
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج3، ص153. انظر الحديث في: الهمذاني، أبو شجاع (ت509هـ)، الفردوس بمأثور الخطاب، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1986م)، ج2، ص103.
(2) سورة الأنعام/141. وسورة غافر/43.
(3) الأصفهاني، المفردات، ص230.
(4) الجرجاني، علي بن محمَّد، كتاب التَّعريفات، تحقيق: إبراهيم الأبياري (د. م: دار الديان للتراث، د، ط، ت)، ص38.
(5) ابن منظور، لسان العرب، ج9، ص148-151.(1/41)
وقد ورد الإسراف في ثلاث وعشرين آية في القرآن الكريم وبمعان مختلفة، وإن كان أشهرها عند عامة النَّاس هي الإسراف في إنفاق المال، إلا أن المعنى الغالب والعام الذي ورد به الإسراف في القرآن الكريم هو مجاوزة الحد أو القدر المعلوم، أي معنى الطُّغيان نفسه، فكل من الإسراف والطُّغيان هو مجاوزة الحد أو القدر المعلوم في الأشياء، بغض النظر عن الشيء المتجاوز فيه سواء كان معنوياً أو مادياً ملموساً. ويمكن أن نلخص المعاني التي ورد بها فيما يلي:
الأول: مجاوزة الحد المعلوم في إنفاق المال. وقد ورد هذا في موضعين فقط(1).
الثَّاني: مجاوزة الحد في العصيان. ورد هذا المعنى في عدد من الآيات القرآنية(2).
الثَّالث: مجاوزة الحد في الظُّلم والطُّغيان(3)، وهو المعنى الغالب على الاستخدام القرآني لكلمة الإسراف، علماً أن كثيراً من الآيات التي أدرجت تحت المعنى الثَّاني تدخل في هذا النوع أيضاً إضافة إلى الآيات المذكورة هنا.
فنجد أن السياق يتحدث في أكثر الآيات المندرجة تحت هذا النوع عن المتجاوزين الحد في الظُّلم والعصيان والطُّغيان والعتو والتجبر. نذكر نموذجاً واحداً لتوضيح أن الإسراف يرد في كثير من الأحيان بمعنى الطُّغيان نفسه أو بمعنى مجاوزة الحد في الظُّلم والاستكبار، ونستخلص ذلك من الآيات التي تتحدث عن إسراف فرعون، قال تعالى:
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (4).
__________
(1) سورة الأعراف/31، وسورة الفرقان/67.
(2) سورة الأعراف/81، وآل عمران/147، والأنبياء/9، والأنعام/141، والذاريات/31-34، والزخرف/5، وطه/53، وغافر/43، ويس/19.
(3) سورة يونس/11-12، ويونس/83، والنساء/6، والمائدة/32، وغافر/28، وغافر/34، والشعراء/142-152، والدخان/31، والإسراء/33.
(4) سورة يونس/83.(1/42)
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } (1).
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ } (2).
__________
(1) سورة غافر/28.
(2) سورة الدخان/30-31.(1/43)
فرغم أن التاريخ قد حفظ لنا أن الفراعنة كانوا بصورة عامة من المسرفين بمعنى المبذرين في إنفاق المال في تشييد المعابد وبناء القبور(1) إلا أن القرآن الكريم لم يأت لنا بأمثلة لذلك الإسراف ثم يحكم أو يعقب عليها بأن فرعون كان من المسرفين، وإنما الذي يلاحظ من الآيات التي حكمت على فرعون(2) بالإسراف وفي عدة مواضع كما سبق أن القرآن ذكر نماذج وعينات من ظلم فرعون وطغيانه وعلوه في الأرض ثم حكم عليه من خلالها بأنه كان من المسرفين، فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن المقصود بالإسراف هنا هو الإسراف في الظُّلم والطُّغيان والمعاصي ومجاوزة الحد وإلا فما العلاقة بين أول الآيات وآخرها. أو العلاقة بين خوف الرَّعيَّة والفتنة والتقتيل وعلو فرعون وبين الإسراف بمعنى الإسراف في إنفاق الأموال. وهذا واضح تمام الوضوح من سياق كل آية من الآيات السالفة الذكر.
__________
(1) أشار الأستاذ فتحي في بحثه الموسوم بـ(الفساد السِّياسيّ الفرعوني)، انظر: أحمد، فتحي بن جمعة، الفساد السِّياسيّ الفرعوني دراسة معرفية، بحث تكميلي قدم لنيل درجة الماجستير في كلية معارف الوحي والتراث/ الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، 1997م. (غير منشور)، ص102-105، إلى جوانب من إسراف فرعون من النواحي المالية في صرفه المال الكثير على المعابد والقبور بناءً على أن الأشهر في الإسراف هو الإسراف في المال..إلا أننا كما قلنا أن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً من ذلك.
(2) وقد وصف أصحاب القرية بالمسرفين بمعنى متجاوزين الحد في الطُّغيان والكفر. وهذا واضح في استخدامهم الأساليب الطاغوتية المتمثلة في: سرعة التكذيب (فكذبوهما..تكذبون)، والتَّهديد بالرجم والعذاب الشديد: (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم).(1/44)
وكذا فقد وصف طغاة ثمود التسع بالمسرفين، قال تعالى: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (1)، يقول الإمام الآلوسي رحمه الله: "ولا تطيعوا أمر المسرفين: كأنه عنى بالخطاب جمهور قومه وبالمسرفين كبراءهم وأعلامهم في الكفر والإضلال وكانوا تسعة رهط"(2). وقد سبق أن وصف القرآن هؤلاء التسعة بالإفساد بقوله: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (3). وقد جاءت الآية التي تليها لتبين نوعاً من الفساد والإسراف الصادر عنهم وهو: { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } (4).
وهذا لا ينفي أن الإسراف بمعنى تبذير الأمور كان ولا يزال ديدن الطُّغيان والطُّغاة أينما كانوا وفي أي وقت برزوا، فمن الصفات التي عرف بها الطُّغاة وعبر التاريخ هي الإسراف والترف والتبذير وصرف الأموال الطائلة على شخص الطَّاغية وعلى أذياله.
العلو
قال ابن فارس (ت 395هـ): "العين واللام والحرف المعتل ياءً كان أو واواً أو ألفاً، أصلٌ واحد يدل على السمو والارتفاع، لا يشذ عنه شيء. ومن ذلك العلاء والعلو..قال الخليل(5): علا الملك في الأرض علواً كبيراً - أي: طغى وتجبر-. قال تعالى: { إن فرعون علا في الأرض } (6)..ويقال لكل شيء يعلو: عَلا يَعلو. فإن كان في الرفعة والشرف قيل: عَلِيَ يَعلي. ومن قهر أمراً فقد اعتلاه واستعلى عليه وبه"(7).
__________
(1) سورة الشعراء/151-152.
(2) الآلوسي، روح المعاني، ج19، ص113.
(3) سورة النمل/48.
(4) سورة النمل/49.
(5) انظر الخليل: كتاب العين، ج2، ص245.
(6) سورة القصص/4.
(7) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج4، ص112-113.(1/45)
ويبين الأصفهاني معاني العلو بقوله: "العلو ضد السفل..والعلو الارتفاع وقد علا يَعلو عُلواً وهو عال. وقيل إن علا يقال في المحمود والمذموم، وعَلِيَ لا يقال إلا في المحمود، قال تعالى: { إن فرعون علا في الأرض..إنه كان من المفسدين } (1)، وقال تعالى: { فاستكبروا وكانوا قوماً عالين } (2)، وقال لإبليس: { أستكبرت أم كنت من العالين(3)- لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً(4)- وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } (5)، والاستعلاء قد يكون طلب العلو المذموم، وقد يكون طلب العلاء، أي: الرفعة"(6).
و "علا فلان فلاناً إذا قهره. والعلي الرفيع، وتعالى ترفع..والعلو: العظمة والتجبر. وقال الحسن البصري ومسلم البطين في قوله تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (7)، قالا: العلو التَّكبُّر في الأرض..وقال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ } (8)، جاء في التَّفسير أن معناه طغى في الأرض. يقال: علا فلان في الأرض إذا استكبر وطغى. وقوله تعالى: { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } (9)، معناه: لتبغن ولتتعظمن. ويقال لكل متجبر: قد علا وتعظم"(10).
__________
(1) سورة القصص/4.
(2) سورة المؤمنون/46.
(3) سورة ص/75.
(4) سورة القصص/83.
(5) سورة النمل/14.
(6) الأصفهاني، المفردات، ص345. انظر: المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، ج1، ص59.
(7) سورة القصص/83.
(8) سورة القصص/4.
(9) سورة الإسراء/4.
(10) ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص83-87.(1/46)
وقد ورد العلو في القرآن الكريم في ستين موضعاً(1)، وقد وصف الله به في سبع وعشرين موضعاً، واحتل استعمال العلو بمعنى الطُّغيان أو مجاوزة الحد والقدر المعلوم أو الاستكبار ثلاثة عشرة موضعاً(2) وأغلبها في وصف فرعون وقومه والملأ المترف حوله، نذكر من تلك الآيات على سبيل المثال، قوله تعالى:
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } (3).
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (4).
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } (5).
{ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ } (6).
فالعلو والطُّغيان توأمان متلاصقان، فليس هناك طغيان بدون علو، أو علو بدون طغيان، فإذا وجد أحدهما لزمه الآخر وبالعكس.
الاستكبار
الكاف والباء والراء أصل صحيح يدل على خلاف الصِّغر، يقال: هو كبير، وكُبار، وكُبَّار..والكبر: العظمة وكذلك الكبرياء(7).
__________
(1) إضافة إلى أن مادة علا وردت بصيغة (تعالوا –بمعنى النداء- ومشتقاته)، في عشرة مواضع، فيكون المجموع سبعين موضعاً.
(2) في حين أفاد معنى الجهة في ثلاثة مواضع، والعلو المعنوي في 17 موضعاً.
(3) سورة المؤمنون/46.
(4) سورة النمل/14.
(5) سورة القصص/4.
(6) سورة الدخان/31.
(7) انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص153-154.(1/47)
قال الراغب: "الكِبرُ والتَّكبُّر والاستكبار تتقارب، فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره..والاستكبار يقال على وجهين، أحدهما: أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً، وذلك متى كان على ما يجب، وفي المكان الذي يجب، وفي الوقت الذي يجب فمحمود، والثَّاني: أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له وهذا هو المذموم، وعلى هذا ما ورد في القرآن، قال تعالى: { أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } (1)، وقال تعالى: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ } (2)..والتَّكبُّر يقال على وجهين: أحدهما: أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره وعلى هذا وصف الله تعالى بالتَّكبُّر، قال: { الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } (3). والثَّاني: أن يكون متكلفاً لذلك متشعباً وذلك في وصف عامة النَّاس نحو قوله: { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } (4)، وقوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } (5)، ومن وصف بالتَّكبُّر على الوجه الأول فمحمود، ومن وصف به على الوجه الثَّاني فمذموم"(6).
والاستكبار: الامتناع عن قبول الحق معاندة وتكبراً. والتَّكبُّر والاستكبار: التعظم. ومعنى يتكبرون أي يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم(7)".
__________
(1) سورة البقرة/34.
(2) سورة البقرة/87.
(3) سورة الحشر/23.
(4) سورة غافر/76، سورة الزمر/72.
(5) سورة غافر/35.
(6) الأصفهاني، المفردات، ص321-422. وانظر، المناوي، التعاريف، ج1، ص200.
(7) ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص126-130. الرَّازي، مختار الصحاح، ج1، ص234.(1/48)
وقد ورد الحديث عن الطُّغاة والمستكبرين في عشرات الآيات القرآنية(1)، فوصف الطُّغاة بالاستكبار في كثير من المواضع. وبما أن الآيات التي تحدثت عن الاستكبار تجاوزت مائة وخمسين آية فإن الباحث سيذكر نماذج منها على سبيل التمثيل لا الحصر. قال تعالى:
{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } (2).
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (3).
{ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (4).
{ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } (5).
__________
(1) ورد الكبر ومشتقاته 161 مرة في القرآن الكريم، وأفاد عدة معانٍ منها: شديد كما في سورة الإسراء: (وما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً)، أي في الشدة، ومنها: الكبير المسن كما في سورة القصص: (وأبونا شيخ كبير)، أي في السن، ومنها: الكبير كما في سورة البقرة: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله)، ومنها: العظيم كما في سورة الرعد: (الكبير المتعال)، أي العظيم، ومنها: الكبرياء والملك والسلطان كما في الجاثية: (وله الكبرياء في السموات والأرض)، ومنها: كبر أي: ثقل كما في سورة يونس: (إن كان كبر عليكم مقامي)، يعني ثقل، ومنها: الكبير الطويل كما في سورة الملك: (إن أنتم إلا في ضلال كبير)، يعني: في شقاء طويل. انظر: الدامغاني، قاموس القرآن، ص397-398.
(2) سورة العنكبوت/39.
(3) سورة الأعراف/88.
(4) سورة فاطر/43.
(5) سورة غافر/27.(1/49)
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } (1).
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا } (2).
فيظهر من الآيات السابقة أن الاستكبار والطُّغيان متداخل بعضهما في بعض، فكل طاغية مستكبر ولولا الاستكبار لما تجاوز الإنسان حده بأن وصل إلى درجة الطُّغيان.
التجبر
الجيم والباء والراء أصل واحد، وهو جنس من العظمة والعلو والاستقامة. فالجبار الذي طال وفات اليد. يقال: فرس جبار، ونخلة جبارة..ويقال: أجبرت فلاناً على الأمر، ولا يكون ذلك إلا بالقهر وجنس من التعظم عليه(3).
__________
(1) سورة غافر/47-48.
(2) سورة سبأ/32-33.
المقصود بـ(الذين استضعفوا)، الأتباع الضعفاء للقادة في الكفر. انظر، ابن سلام، يحيى (ت 200هـ)، التصاريف تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه، تحقيق: هند شلبي (تونس: الشركة التونسية للتوزيع، د. ط، 1979م)، ص334-335.
(3) انظر، ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج1، ص501.(1/50)
وفي المفردات: "أصل الجبر: إصلاح الشيء بضرب من القهر، يقال: جبرته فانجبر واجتبر، وقد قيل جبرته فجبر..وقد يقال الجبر تارة في الإصلاح المجرد نحو قول علي رضي الله عنه: يا جابر كل كسير، ويا مسهل كل عسير..وتارة في القهر المجرد..وسمي السلطان جبراً(1)..لقهره النَّاس على ما يريده أو لإصلاح أمورهم، والإجبار في الأصل: حمل الغير على أن يَجبُرَ الآخَرَ لكن تُعورف في الإكراه المجرد فقيل: أجبرته على كذا كقولك أكرهته..ويقال للقاهر غيره جبار نحو: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } (2)، ولتصور القهر والعلو على الأقران"(3).
قال ابن منظور (ت 711هـ): "والجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً..وتجبر الرجل تكبر..الجبار المتكبر عن عبادة الله تعالى، ومنه قوله تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } (4)، وكذلك قول عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } (5)، أي متكبراً عن عبادة الله تعالى..والجبار من الملوك العاتي. وقيل: كل عات جبار..وقلب جبار: ذو كبر لا يقبل موعظة، ورجل جبار مسلط قاهر. قال الله عز وجل: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } (6)، أي: بمسلط فتقهرهم على الإسلام"(7).
__________
(1) ربما الأصح: جباراً.
(2) سورة ق/45.
(3) الأصفهاني، المفردات، ص85-86.
(4) سورة مريم/14.
(5) سورة مريم/32.
(6) سورة ق/45.
(7) ابن منظور، لسان العرب، ج4، ص113-114. الرَّازي، مختار الصحاح، ج1، ص39. انظر، الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ص460. الصاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، تحقيق: محمَّد حسن آل ياسين (بيروت: عالم الكتب، ط1، 1414هـ، 1994م)، ج7، ص98.(1/51)
وقد ورد جبر ومشتقاته في القرآن في عشرة مواضع(1)، وصف الله سبحانه وتعالى بصفة الجبار في موضع واحد، في حين أفاد معنى الطول والضخامة في موضع واحد أيضاً(2)، وفي بقية المواضع التي ذكر فيها أفاد معنى الطُّغيان والاستكبار والعتو والتسلط والقهر وما إلى ذلك من المعاني التي تدخل ضمن الطُّغيان، والآيات هي؛ قال تعالى:
{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } (3).
{ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } (4).
{ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } (5).
{ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } (6).
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } (7).
{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ } (8).
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } (9).
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } (10).
العتو
__________
(1) سورة الحشر/23.
(2) سورة المائدة/22.
(3) سورة هود/59.
(4) سورة إبراهيم/15.
(5) سورة مريم/14.
(6) سورة مريم/32.
(7) سورة الشعراء/130.
(8) سورة القصص/19.
(9) سورة غافر/35.
(10) سورة ق/45.(1/52)
قال الفراهيدي (ت 175هـ): "عتا عتواً وعتياً إذا استكبر فهو عات، والملك الجبار عات، وجبابرة عتاة، وتعتى فلان، وتعتت فلانة إذا لم تطع"(1).
ومعنى: عتا الرجل عتواً وعتياً: استكبر وجاوز الحد(2).
والعُتُو النُبُوَّ عن الطَّاعة، يقال عتا يعتو عتواً وعتياً، قال: { وعتوا عتواً كبيراً-فعتوا عن أمر ربهم –عتت عن أمر ربها –بل لجو في عتو ونفور } (3).
و: "العاتي: الجبار وجمعه عتاة، والعاتي الشديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل موعظة..والعتو التجبر والتَّكبُّر"(4).
وقد ذكر العتو في القرآن الكريم تسع مرات، وأفاد في موضع واحد معنى تجاوز الحد المعتاد في العمر بحيث وصل إلى حالة لا يصلح معها شيء(5)، في حين أفاد في كل المواضع الأخرى تجاوز الحد أو القدر في العصيان والطُّغيان والاستكبار والعلو والتجبر، والآيات التي تضمنت هذه المعاني هي، قال تعالى:
{ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } (6).
{ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } (7).
__________
(1) الخليل، كتاب العين، ج2، ص226. وقد نقل ابن فارس نفس الكلام دون زيادة عليه. انظر، ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج4، ص225.
(2) انظر، ابن سيده، أبو الحسن علي (ت 458هـ)، كتاب المخصص (مصر: المطبعة الكبرى الأميرية، ط1، 1319هـ)، ج12، ص200. الصاحب، المحيط في اللغة، ج2، ص131. الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ص1688. ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص27.
(3) انظر، الأصفهاني، المفردات، ص321. الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، ج4، ص19.
(4) ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص27. وانظر، الرَّازي، مختار الصحاح، ج1، ص173.
(5) في سورة مريم/8.
(6) سورة الأعراف/77.
(7) سورة الأعراف/166.(1/53)
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا } (1).
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } (2).
{ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } (3).
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } (4).
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } (5).
{ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } (6).
الظُّلم
أصل الظُّلم: "وضع الشيء في غير موضعه(7). أو: "التعدي في حق غيره"(8).
ورد في لسان العرب: "وأصل الظُّلم: الجور ومجاوزة الحد. ومنه حديث الوضوء: من زاد أو نقص فقد أساء وظلم، أي: أساء الأدب بتركه السنة والتأدب بأدب الشرع، وظلم نفسه بما نقصها من الثواب بترداد المرات في الوضوء..يقال: ظلمه يظلمه ظلماً وظلماً ومظلمة، فالظُّلم مصدر حقيقي، والظُّلم الاسم يقوم مقام المصدر وهو ظالم وظلوم..والظُّلمة المانعون أهل الحقوق حقوقهم"(9).
__________
(1) سورة مريم/69.
(2) سورة الفرقان/21.
(3) سورة الذاريات/44.
(4) سورة الطلاق/8.
(5) سورة الملك/21.
(6) سورة الحاقة/6. وعاتية: أي تجاوزت الحد في الشدة والبرودة.
(7) انظر، ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج3، ص468. الرَّازي، مختار الصحاح، ج1، ص170.
(8) العظيم آبادي، أبو الطيب محمَّد شمس الحق، عون المعبود شرح سنن أبي داود (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط2، 1415هـ)، ج4، ص283.
(9) ابن منظور، لسان العرب، ج12، ص373-380.(1/54)
وقد عرف الأصفهاني الظُّلم بقوله: "الظُّلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء؛ وضع الشيء في غير موضعه المختص(1) إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه... والظُّلم يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال فيما يكثر وفيما يقل من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكبير وفي الذنب الصغير"(2).
فمن الأوصاف الملازمة للطغاة في القرآن الكريم الظُّلم، حيث وصف القرآن الكريم فرعون والنمرود وغيرهما بالظُّلمة(3)
__________
(1) وقد عرف كل من الإمام العسقلاني والعيني الظُّلم أيضاً بأنه: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، قال العيني: "أصله الجور ومجاوزة الحد، ومعناه الشرعي: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي"، العيني، بدر الدِّين محمَّد (ت 855هـ)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (د. م: دار الفكر، د. ط. ت)، ج12، ص283.
وانظر العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي ومحب الدِّين الخطيب (بيروت: دار المعرفة، د. ط، 1379هـ)، ج5، ص95.
(2) الأصفهاني، المفردات، ص315.
(3) قال بعض الحكماء الظُّلم ثلاثة:
الأوَّل: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنِّفاق، ولذلك قال: (إن الشرك لظلم عظيم).
والثَّاني: ظلم بينه وبين النَّاس، وإياه قصد بقوله: (وجزاء سيئة سيئة..إنه لا يحب الظالمين).
والثَّالث: ظلمه بينه وبين نفسه، وإياه قصد بقوله: (فمنهم ظالم لنفسه)". انظر، الأصفهاني، المفردات، ص316.(1/55)
لما بدر منهم من السياسات الظالمة تجاه رعاياهم من قتل النفوس البريئة، وهتك الأعراض، وأخذ الأموال وما إلى ذلك من السياسات القمعية الظالمة التي تتصف بها كل الأنظمة الطاغوتية وعلى مدار التاريخ. وبما أن ذكر الظُّلم والظالمين قد تجاوز مئات الآيات القرآنية(1) فإن الباحث يكتفي بذكر بعض من تلك الآيات تمثيلاً لا حصراً. قال تعالى:
{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (2).
{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (3).
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ } (4).
__________
(1) وردت مادة الظُّلم ومشتقاته 315 مرة في القرآن. وقد أفاد معاني عديدة منها: الشرك قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)، ومنها: فعل الذنب من غير شرك، يعني: ظلم المسلم نفسه بذنب يصيبه كما في سورة الطلاق: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)، ومنها: ظلم النَّاس سواء بالقتل أو بغيره كما في سورة الإسراء: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً)، ومنها: النقص كما في سورة الكهف: (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً)، ومنها: الضرر كما في سورة البقرة: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، ومنها: الجور كما في سورة الزخرف: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، ومنها: الجحود والتكذيب كما في سورة الأعراف: (فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون). انظر، الدامغاني، قاموس القرآن، ص308-310.
(2) سورة البقرة/258.
(3) سورة القصص/21.
(4) سورة الأنفال/54.(1/56)
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } (1).
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } (2).
{ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (3).
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } (4).
إضافة إلى عشرات الآيات القرآنية التي تتحدث عن الطُّغاة والظُّلمة.
وفي نهاية المبحث تبين أن القرآن الكريم استخدم ألفاظاً عديدة للتعبير عن الطُّغيان الذي هو مجاوزة الحد أو القدر المعلوم في الأشياء منها وكما سبق: الإسراف، العلو، الاستكبار، التجبر، العتو والظُّلم، وهي ألفاظ أو بالأحرى أوصاف يتداخل بعضها في بعض بحيث لا يمكن فصلها، والطَّاغية يجمع في نفسه كل تلك الأوصاف المذمومة في آن واحد. وهذا لا ينفي وجود ألفاظ أخرى في القرآن الكريم لها علاقة بالطُّغيان.
الفصل الثَّاني
صور من الطُّغيان السِّياسيّ
المبحث الأوَّل: طغيان الحاكم
المبحث الثَّاني: طغيان الملأ (النُّخبة)
المبحث الأوَّل
طغيان الحاكم
حديث القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ
__________
(1) سورة يونس/13.
(2) سورة إبراهيم/13.
(3) سورة المؤمنون/41.
(4) سورة القصص/39-40.(1/57)
يتحدث القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة اجتماعية، وليس المقصود من ذلك تحديد وتعيين الأسماء والأمكنة والأزمنة بقدر بيان الظاهرة وآثارها السَّلبيَّة في حياة الأمم عبر العصور، لذا لا يهتم القرآن كثيراً وهو يعرض قصص الطُّغاة بذكر أسمائهم وتواريخهم، والأماكن التي ظهروا فيها وما إلى ذلك من التفاصيل. ويدل على ذلك أن القرآن حينما يتناول الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة اجتماعية لم يذكر تفاصيل عدة عن نماذج للطغيان السِّياسيّ، وإنما اكتفى بذكر نموذج شبه مفصل يمثل الطُّغيان السِّياسيّ وهو نموذج فرعون، وستظهر كيفية اتخاذ القرآن إياه أنموذجاً للطاغية فيما سنذكره فيما بعد سواء في صفاته أو أثناء الدَّوافع التي تدفع الحاكم إلى الطُّغيان أو الوسائل المستخدمة من قبله، في حين ذكر القرآن مقتطفات من قصص طغاة آخرين.
ففي نموذج –الذي حاج إبراهيم في ربه- لم يتطرق القرآن الكريم إلا لذكر فقرة واحدة من قصته، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1). فأبهم حتى اسمه ناهيك عن التفصيلات الأخرى، تلك التفصيلات التي حاولت كتب التَّفسير تتبعها واستخرجها من مصادر مختلفة ولا سيما المصادر الإسرائيلية.
__________
(1) سورة البقرة/208.(1/58)
وفي نموذج الملك في قصة أصحاب الأخدود لم يتطرق القرآن الكريم إلا إلى مشهد واحد من قصته، وأبهم ما عدا ذلك من التفاصيل، بل إن القرآن الكريم لم يذكر مطلقاً مَنْ هو الملك، ولم ترد أية إشارة صريحة تدل على وجود حاكم طاغ يقف خلف المشهد، قال تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } (1).
فلا يظهر من الآيات أنه كان هناك ملك، وأنه كان طاغياً، أو ما إلى ذلك. وهذا ما دفع بعض المفسِّرين إلى القول بأن الذي خد الأخاديد لم يكن ملكاً واحداً، وإنما تكرر ذلك من عدد من الملوك كما ينقل ابن كثير وغيره ذلك(2). واكتفت الآيات كما هو واضح بذكر وسائل الطُّغاة المستخدمة ضد كل من يخرج من حظيرة الطَّاغية ويخلع ربقة العبودية وذلك بعدم الطَّاعة له ومخالفته.
__________
(1) سورة البروج/4-10.
(2) قال أسباط عن السدي في قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود)، قال: كانت الأخدود ثلاثة: خد بالعراق، وخد بالشام، وخد باليمن..وعن مقاتل: كانت الأخدود ثلاثة: واحدة بنجران اليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس حرقوا بالنار..". انظر، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص496. وانظر، ابن كثير، إسماعيل بن عمر (ت 774هـ)، البداية والنهاية (بيروت: مكتبة المعارف، د. ط. ت)، ج2، ص131-132.(1/59)
وبغض النظر عما ورد في كتب التَّفسير من تفاصيل القصة والملك والأقوال المختلفة في ذلك فقد ثبت أن الملك كان جباراً طاغياً مدعياً الرُّبُوبيَّة كما ورد ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. نورد نصه بالكامل وذلك لعدم ورود هذه التفاصيل في القرآن الكريم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكى ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست النَّاس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي النَّاس، فرماها فقتلها، ومضى النَّاس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ. وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص، ويداوي النَّاس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن(1/60)
دينك فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع النَّاس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع النَّاس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال النَّاس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام. فَأُتِيَ الملكُ، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حَذَركَ قد آمن النَّاس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيه، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق)(1)
__________
(1) مسلم، ابن الحجاج النيسابوري (ت 261هـ)، صحيح مسلم بشرح النووي (د. م: دار الفكر، د. ط. 1401هـ، 1981م)، ج18، ص130-133. باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام.(1/61)
.
وفي نموذج أصحاب الكهف (الآيات 9-26 من سورة الكهف) بغض النظر عن الخلاف الدائر فيهم، وهل كان هناك ملك طاغ أم لا؟(1) فإنه تم التركيز على مشاهد مثيرة في غاية الأهمية تبين صفات أولئك الذين واجهوا الطُّغيان بقوة إيمانهم، وسُبُل التصدي له في حين لا نجد أي حديث عن الملك الطَّاغية أو الملأ الطاغي في القصة. فحتى إذا رجحنا رأي عامة المفسِّرين في المسألة، فإنه لا توجد ملامح ومعالم واضحة للحاكم الطاغي أو
__________
(1) ذهب أغلب المفسِّرين إلى أن أصحاب الكهف كانوا من أبناء ملوك الروم قد فروا من جور حاكم طاغية يسمى دقيانوس. انظر مثلاً: الطبري، جامع البيان، ج15، ص216. الصنعاني، عبدالرزاق بن همام (ت 211هـ)، تفسير القرآن، تحقيق: مصطفى مسلم محمَّد (الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1410هـ)، ج2، ص395. ابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص110. البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج3، ص380. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص359، وص 378-379. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص75-78. الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، ج2، ص369. أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج5، ص206، وص209-216. البغوي، معالم التنزيل، ج3، ص145-153. الشوكاني، فتح القدير، ج3، ص273-277. النسفي، تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التَّأويل، ج3، ص5-9. الآلوسي، روح المعاني، ج15، ص218، وص234 وغيرهم. إلا أن هناك من خالف في ذلك، ولا سيما من المعاصرين نظراً لما تم اكتشافه من حفريات ولا سيما لفائف خربة قمران، من أن المسرح الذي دارت عليه أحداث القصة لم يكن في بلاد الروم، وإنما كان في الأردن، وأن الملك الذي جعله المفسرون مسلماً صالحاً (ثيودوسيوس) إنما كان مسيحياً مؤمناً بالتثليث. ومن هؤلاء الدكتور المجذوب، انظر تفاصيل ذلك في: المجذوب، أحمد، أهل الكهف في التوراة والإنجيل والقرآن (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1410هـ، 1990م)، ص181-249.(1/62)
النُّخبة الطَّاغية في القصة.
فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا فصل القرآن الكريم في قصة الطَّاغية فرعون –كما ستأتي- في حين لم يذكر القرآن أية تفاصيل تتعلق ببقية الطُّغاة إلا من خلال إيراد مقتطفات رمزية من قصصهم؟.
فالذي يظهر للباحث هو أن القرآن الكريم اكتفى في حديثه عن الطُّغيان السِّياسيّ للحاكم بذكر نموذج واحد مفصل مع التطرق إلى نماذج أخرى من هنا وهناك صراحة أو ضمناً، وذلك لأن الطُّغيان السِّياسيّ هو هو في الدَّوافع والوسائل والتفكير والتطبيق، وإن اختلف الزمان والمكان والذوات، ويتحد ويتشابه مضموناُ وروحاً، مصداق ذلك قوله تعالى: { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } (1).
يقول الأفغاني رحمه الله: "فكلما قضى فرعون تقمص بآخر، وكلما انقرضت عائلة فرعونية ادعت إرثها عائلة، وجاءت ولو من وراء البحار، والتصقت بالنسب الفرعوني ولو بأقل مشابهة من خلق الغطرسة والتأله على النَّاس"(2).
ثم بمقارنة ما ذكره القرآن من أساليب الطُّغاة التي ستأتي في الفصول القادمة وبما هو موجود في الواقع المعاصر وما كان في الأمس سنجد أنه لا يوجد خلاف بين كل ذلك إلا في جزئيات. ويلاحظ على الرغم من أن القرآن ذكر قصص الطُّغاة مختصرة أن الجامع بينهم كان ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة والتقديس، ومن ثم استخدام وسائل البطش والإرهاب تجاه المخالفين لهم الذين رفضوا الاعتراف بقدسيتهم. وعليه نذكر نموذجاً واحداً للحاكم الطاغي وهو فرعون موسى الذي وردت قصته مفصلة في القرآن الكريم للتعرف من خلال ذلك على الطُّغيان السِّياسيّ في أبعاده وصوره كما يصوره القرآن.
__________
(1) سورة الذاريات/53.
(2) الأفغاني، جمال الدِّين، الأعمال الكاملة؛ الكتابات السِّياسيّة، دراسة وتحقيق: محمَّد عمارة (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات، ط1، 1981م)، ج2، ص332.(1/63)
يضاف إلى ما سبق أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن فرعون بوصفه يمثل هذه الظاهرة لم يحدد القرآن من هو فرعون موسى، ومتى عاش، وما اسمه، ومن هو الفرعون الذي نشأ موسى - عليه السلام - في بيته، ثم هل هو نفسه الذي أرسل إليه موسى - عليه السلام - وأنه قد طغى أم أنه كان هناك فرعونان؟ فرعون نشأ موسى في بيته ثم أرسل إلى الفرعون الذي بعده. كل هذه التفاصيل لم يذكرها القرآن الكريم مع أن نموذج الطَّاغية فرعون هو النَّموذج الوحيد المفصل فيه إلى حد كبير، لأن الهدف من ذكر القصة إنما هو بيان الظاهرة وآثارها الخطيرة والمدمرة على الأمم.(1/64)
وقد اختلف المؤرخون قديماً وحديثاً في تحديد اسم فرعون موسى، وكذا فيما إذا كان هناك فرعون واحد أو فرعونان، وقد انتقل ذلك الخلاف إلى المفسِّرين أيضاً عند تفسيرهم للآيات التي تناولت قصة فرعون. فهناك من ذهب إلى التصريح بأنه كان هناك فرعون واحد أمثال الإمام ابن كثير من المفسِّرين القدامى(1)، ومحمَّد رشيد رضا من المتأخرين(2). في حين ذهب آخرون إلى القول بأنه كان هناك فرعونان، فرعون تربى موسى - عليه السلام - في بيته، وفرعون أرسل إليه موسى، من هؤلاء الإمام الطبري من القدامى(3)
__________
(1) استشهد بقوله تعالى: (قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين)، سورة الشعراء/18. فقال: "وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه، خلافاً لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر". ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل، قصص الأنبياء، تحقيق: محمَّد أحمد عبدالعزيز (القاهرة: دار الحديث، د. ط. ت)، ص280. في حين يتحدث غالبية المفسِّرين القدامى عنه باعتباره واحداً حيث لا يشيرون إلى أي خلاف في العدد، ما عدا الخلاف في اسم فرعون. وسواء كان موسى عليه السلام قد عاصر فرعوناً واحداً أو اثنين فالأمر سيان لأن الهدف من القصة في القرآن ليس السرد التاريخي التفصيلي، وإنما كما سلف أخذ العظة والاعتبار. ولو كان في معرفة ذلك فائدة لبينه القرآن.
(2) حيث يقول: "والمرجح عند المتأخرين من المؤرخين الواقفين على العادات المصرية أن فرعون موسى هو الملك (منفتاح)، وكان يلقب بسليل الإله (رع)..". انظر، رضا، تفسير المنار، ج9، ص80.
(3) يقول الإمام الطبري رحمه الله: "وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثَّاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وأخوه هارون بالرسالة". انظر، الطبري، ابن جرير (ت 310هـ)، تاريخ الطبري تاريخ الأمم والملوك (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1407هـ)، ج1، ص231.(1/65)
، والمودودي(1)، وابن عاشور من المعاصرين(2)، والجدير بالذكر أن التوراة تذهب إلى القول بفرعونين(3).
واشتد الخلاف أيضاً في تحديد اسم فرعون أو الفرعونين ويرى الباحث أنه لا طائل للجري وراء ذلك الخلاف لأن القرآن أراد من القصة غير ذلك، وطرح الموضوع بوصفه ظاهرة غير مرتبطة باسم فلان أو علان، أو كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله معلقاً على محاولة تسمية الذي حاج إبراهيم في ربه: "إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع أمر وإمكان حدوثه في أي زمان ومكان لا يشخص الأمر، لأن التشخيص يفسد المراد"(4)، ومع ذلك فقد رجح بعضهم أن اسم الأول رعمسيس الثَّاني. والثَّاني منفتاح(5).
وحتى إذا ما قلنا إن فرعون الخروج غير الأول، فإن القرآن لم يفرق بينهما، وإذا قلنا إنه فرعون واحد فليس هناك أية تفاصيل عنه، والمعروف أن فرعون لقب وليس اسماً.
__________
(1) المودودي، أبو الأعلى، فرعون في القرآن، ترجمة وتعريب: أحمد إدريس (القاهرة: المختار الإسلامي، د. ط. ت)، ص11.
(2) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج11، ص280، وج19، ص111، وج20، ص72. وانظر أيضاً: النشرتي-فرغلي-مصطفى، حمزة-عبدالحفيظ-عبدالحميد، موسوعة القصص القرآني (القاهرة: المكتبة القيمة، د. ط. ت)، ج3، 124.
(3) انظر على سبيل المثال: الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح الثَّاني، 23.
(4) الشعراوي، قصص الأنبياء، ج1، ص506.
(5) انظر، الخلاف في ذلك وترجيح الآراء في: فتحي، الفساد السِّياسيّ الفرعوني، ص35.(1/66)
أما لماذا لم يرد اسم فرعون أو الفرعونين في القرآن وتم الاكتفاء باللقب دون الأسماء؟ فقد اقتضت حكمة الله تعالى ذلك: "حتى تبقى الفرعنة ظاهرة يمكن دراستها ومقاومتها، لأنها لو ربطت باسم شخص وإن عظم فساده فقد ينساها النَّاس، وربما يذهب في ظن النَّاس أنها مجرد حوادث فردية في الماضي لا تتكرر، والحال أن طبيعة الظواهر التي يطرحها ويعالجها القرآن الاطراد والتكرار"(1).
وهذا المنهج الذي ورد في القرآن أي عدم التطرق إلى ذكر الأسماء والأمكنة والأزمنة والتركيز على الطَّاغية ومؤسسته باعتبار الطُّغيان هو هو مهما اختلفت الأمور السالفة الذكر هو الذي اتبعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ففي قصة أصحاب الأخدود أو حديث الساحر والراهب والغلام الذي مر بنا نرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتطرق فيه إلى ذكر الأسماء والأماكن والأزمان فلا يذكر من ذلك شيئاً، بل ذكر الملك بصيغة النكرة مع عدم تحديد التاريخ ولا المكان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر). أما متى وأين؟ ومن هو ذلك الملك؟.
أقطاب التَّحالُف الطُّغياني في قصة فرعون
درج المتحدثون في مسألة الطُّغيان السِّياسيّ ولا سيما أثناء حديثهم عن نموذج فرعون في القرآن الكريم على الاعتقاد بأن القرآن قد كشف اللثام عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة في الدولة الطَّاغية. وهذه الأطراف وحسب تعبير الشيخ القرضاوي هي:
__________
(1) فتحي، الفساد السِّياسيّ الفرعوني، ص35.(1/67)
"الحاكم المتجبر في بلاد الله ويمثله فرعون، والسِّياسيّ الوصولي الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطَّاغية وتثبيت حكمه وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان، والرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطَّاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه ويمثله قارون"(1). وقد ذكر ذلك أيضاً محمَّد شحرور(2)، وكذا أبو سعدة(3)، وأحمد إدريس(4) وغيرهم.
إلا أنه بتدقيق النظر في القرآن الكريم لا نجد أن هذه الصورة واضحة تمام الوضوح كما يتحدث عنها هؤلاء اللهم إلا في آيتين قرآنيتين تم فيها الاقتران بين هذه الأسماء الثلاثة، قال تعالى: { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } (5)، و: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } (6).
__________
(1) القرضاوي، يوسف، من فقه الدولة في الإسلام (القاهرة: دار الشُّرُوق، ط1، 1417هـ، 1997م)، ص133.
(2) شحرور، محمَّد، دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع (دمشق: الأهالي، ط9، 1994م)، ص241، وص252.
(3) أبو سعدة، روؤف، من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن (د. م: دار الهلال، د. ط. ت)، ج2، ص53-54.
(4) انظر، تعقيب أحمد إدريس على كلام المودودي، فرعون في القرآن، ص147-148.
(5) سورة العنكبوت/38-39.
(6) سورة غافر/23-24.(1/68)
ولكن لم يبين القرآن أو بالأحرى لم ترد إشارات فيه إلى كيفية ذلك التَّحالُف وبالأخص بين قارون وفرعون بخلاف الأمر مع هامان وفرعون فالصورة أكثر وضوحاً مما هو عليه الأمر بين فرعون وقارون. وقد تم اقتران هامان بفرعون في ست آيات(1).
من الممكن جداً أن نستنبط من الآيات السالفة إشارات إلى مكانة قارون حيث مكانة هامان واضحة جداً من أنه كان يمثل الرأس المدبر لملأ فرعون أو حسب تعبير ابن كثير الوزير السوء، أو رئيس الوزراء حسب التعبير المعاصر، فربما تشير هذه الآيات إلى مكانة قارون بين ملأ بني إسرائيل المقربين من فرعون، والذين كانوا يقومون بمهمة تخويف بني إسرائيل ومنعهم من اتباع موسى - عليه السلام -، قال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (2). ولا سيما إنه كان غنياً جداً فربما كان يمثل رأس ملأ بني إسرائيل المقرب من فرعون أو عامله عليهم وقد صرح بعض المفسِّرين بأن قارون كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، فقد نقل القرطبي: "وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنياً عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم"(3). وعلق الثعالبي بعد أن ذكر كلام المسيب السابق وغيره في ذلك بأن: "ما ذكره ابن المسيب هو الذي يصح في النظر لمتأمل الآية"(4). وقد ذكر ذلك قبلهما ابن أبي زمنين (ت 399هـ)(5).
__________
(1) سورة القصص/6، 8، 38. وسورة العنكبوت/39، وسورة غافر/24، 36.
(2) سورة يونس/83.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص310.
(4) الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، ج3، ص182.
(5) ابن أبي زمنين، محمَّد بن عبدالله، تفسير القرآن العزيز، تحقيق: أبو عبدالله حسين بن عكاشة ومحمَّد بن مصطفى الكنز (القاهرة: الفاروق الحديثة للنشر، ط1، 1423هـ، 2002م)، ج3، ص334.(1/69)
وهو عين ما ذكره كل من الإمام البغوي(1) والشوكاني(2).
وبذلك فإن قارون لا يمثل قطباً بذاته في التَّحالُف الطاغوتي في الدولة الفرعونية، وإنما يمثل جزءاً من البطانة السيئة لا أكثر، والتي يقف على رأسها هامان. لذا نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن هلاك الطُّغاة في قصة فرعون فإنه يتحدث عن هلاك الأقطاب الرئيسة (فرعون، وهامان –باعتباره ممثلاً للبطانة ورئيساً لها- والجُنُود). بل ومنذ أن كان موسى - عليه السلام - رضيعاً يبين القرآن الكريم أن الله سبحانه أراد أن يُري فرعون وهامان والجُنُود ما كانوا منه يحذرون، قال تعالى: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } (3)، وقال تعالى: { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } (4). وستأتي بقية الآيات التي اقترن فيها ذكر الجُنُود مع فرعون. ثم إذا كان اقتران اسم قارون بفرعون مرتين وهامان به ست مرات، تجعل منهما قطبي الطُّغيان الثلاثة، فماذا نقول إذن في اقتران الجُنُود بفرعون في أكثر من سبعة مواضع ما عدا مواضع أخرى جاءت من غير اقتران، وكذلك الأمر بالنسبة للبطانة السيئة أو الملأ الذي اقترن بفرعون في أكثر من اثني عشر موضعاً.
__________
(1) البغوي، معالم التنزيل، ج3، ص454.
(2) الشوكاني، فتح القدير، ج4، ص186.
(3) سورة القصص/8.
(4) سورة القصص/6.(1/70)
ولذا يرى الباحث أن التَّحالُف الثلاثي الذي كشف عنه القرآن إنما هو بين الحاكم المتجبر الطاغي ويمثله فرعون، وبين بطانة السوء المكونة من: (هامان السِّياسيّ رئيس البطانة أو الملأ، وقارون الرأسمالي الباغي وعامل فرعون على بني إسرائيل، والكهنة أو رجال الدِّين المضفين للشرعية على سلطات الطَّاغية، والإعلام الملهي والمشوه ويمثله السحرة وكذا القائمون على إشاعة وإيصال الأوامر الفرعونية إلى المدائن وعلى جناح السرعة)، وبين الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة، وما هامان وقارون إلا أفرادٌ في بطانة السوء أو من يمثل رأس البطانة ولا سيما هامان المدبر والمنفذ لأوامر فرعون من بناء الصرح، وقارون العامل والنائب على بني إسرائيل. وفيما يأتي نذكر بإيجاز الأقطاب الثلاثة في التَّحالُف الطُّغياني.
أولاً: الحاكم؛ فرعون
ورد الحديث عن فرعون في 27 سورة من القرآن الكريم، 3 منها مدنية، في حين ذكر القرآن الكريم اسم (لقب) فرعون (74) مرة.
وكما سيظهر من خلال المباحث المتناولة في هذا الباب فقد اجتمع في فرعون كل أوصاف الطُّغاة لذا حق له أن يكون النَّموذج المفصل للطاغية المذكور من قبل القرآن، ويظهر طغيانه بوضوح من خلال النقاط الآتية التي نذكرها بإيجاز شديد لما سيأتي من تفاصيل كثيرة في الدَّوافع والوسائل التي ستبين جوانب كثيرة ودقيقة من طغيان الحاكم فرعون وهذه النقاط هي:
- طغيانه المتمثل في ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة
يظهر طغيان فرعون وتجاوزه حدوده في ادعائه الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة، فها هو يعلن ربوبيته صراحة وعلى الملأ، قال تعالى عنه: { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } (1).
__________
(1) سورة النازعات/23-24.(1/71)
ثم لم يكتف فرعون بإعلان الرُّبُوبيَّة وحدها، بل تجاوز ذلك ليعلن أنه الإله الذي لابد أن تتخذه الرَّعيَّة مع عدم نفي احتمال أن تكون هناك آلة أخرى غيره، فقال كما حكى عنه القرآن الكريم وهو يخاطب موسى - عليه السلام -: { قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ } (1).
إلا أنه طغى أكثر ولا سيما بعد أن حاول الرجل المؤمن من حاشيته إقناعه وملئه باتباع موسى - عليه السلام -، فأعلن أنه الإله الوحيد، وليثبت للرعية صدق دعواه تلك طلب من هامان رئيس الكهنة وساعده الأيمن أن يبني له صرحاً ليثبت للعامة أنه الإله الوحيد، وأنه لا وجود لإله آخر كما يدعي موسى - عليه السلام -. فقال وكما نقل عنه القرآن الكريم ذلك: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ } (2). فإذا كان هو رب الملأ فما بالك بالعامة؟ فمن باب أولى أنه رب الرَّعيَّة وإلهها. وحسب منطقه لا يوجد إله آخر غيره، ويدل لذلك عدم علمه به إلا أنه وحرصاً منه على تكذيب موسى - عليه السلام - أمر ببناء الصرح. وسيأتي مزيد من التفاصيل حول ادعاء الطُّغاة الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة في الفصل الثَّاني من الباب الثَّاني.
- طغيانه في استعباد بني إسرائيل واعتماد القوة والبطش سياسة
يظهر طغيان فرعون جلياً في استعباده لبني إسرائيل، وجعلهم عبيداً له ولقومه، بل إن هذه السياسة الطاغوتية قد دفعته إلى رفض رسالة موسى وهارون عليهما السلام، والكفر بها بحجة أنهما من قوم مستعبدون له.
__________
(1) سورة الشعراء/29.
(2) سورة القصص/38.(1/72)
وقال تعالى: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } (1). وقال تعالى: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (2).
ولا شك أن هذا الاستعباد والاستضعاف لم يكونا إلا باستخدام القوة والإرهاب، والتي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع عديدة من قتل فرعون وذبحه للذكور من بني إسرائيل وتركه الإناث أحياء لاستخدامهن فيما بعد خدماً وسبايا.
يوضح الإمام الرَّازي طغيان فرعون فيما يتعلق بهاتين النقطتين بقوله: "إنه تعالى لم يبين أنه –فرعون- تعدى في أي شيء، فلهذا قال بعض المفسِّرين: معناه أنه تكبر على الله وكفر به، وقال آخرون: إنه طغى على بني إسرائيل، والأولى عندي: الجمع بين الأمرين، فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به، وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم، وكما أن كمال العبودية ليس إلا صدق المعاملة مع الخالق ومع الخلق، فكذا كمال الطُّغيان ليس إلا الجمع بين سوء المعاملة مع الخالق والمخلوق"(3). ولعل ورود كلمة (طغى) مطلقة غير مقيدة للإشارة إلى تنوع الطُّغيان لديه في حق الخالق والمخلوق، وأنه لم يقتصر على جانب واحد.
__________
(1) سورة المؤمنون/45-47.
(2) سورة الشعراء/22.
(3) الرَّازي، تفسير الرَّازي المشتهر بالتَّفسير الكبير ومفاتيح الغيب، ج31، ص37.(1/73)
ويشير إلى هذا المعنى المودودي رحمه الله بقوله: "تجاوز حدود عبديته وتمرد على الخالق والخلق معاً. فأما تمرده على الخالق. فحين جمع فرعون قومه وأعلن فيهم: أنا ربكم الأعلى، وأما تمرده على الخلق فهو أنه جعل أهل مصر شيعاً وفرقاً واستضعف الضعفاء منهم فاستخف قومه واستغفلهم وجعلهم خاضعين له خضوع الأنعام"(1). وقد أشارت التوراة إلى مسألة استعباد فرعون لبني إسرائيل في مواضع عديدة(2).
- طغيانه في سرعة التكذيب بالآيات وتكرار ذلك منه
يظهر طغيان فرعون وملئه فيما صدر منهم بعد أن ذُكروا بآيات الله حيث المفترض أن يتأثروا بالمعجزات التي أظهرت على يد موسى - عليه السلام -، ولكن ما أن رأوا المعجزات إذا هم يضحكون: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (3)، فالمقصود من الآيات الوقوف عليها والتفكير فيها، والرجوع إلى الله وليس المزيد من الطُّغيان والعتو والاستكبار، ولكن لم ينفع مع فرعون شيء من ذلك، لذا قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } (4).
فالطُّغيان هو الذي دفعه إلى التكذيب بالآيات، وإلى أن ينكث وعده في كل مرة كما تفصل ذلك الآيات الآتية، قال تعالى:
__________
(1) المودودي، فرعون في القرآن، ص164.
(2) انظر، الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح الأول: 12-14. والإصحاح السَّادس، 5، 9، والإصحاح الثَّالث عشر: 14.
(3) سورة الزخرف/47-48.
(4) سورة طه/56.(1/74)
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } (1).
ويقول تعالى: { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } (2).
وقد بين القرآن الكريم أن هذه الصفة الفرعونية قد رسخت في الرَّعيَّة كذلك بناءً على تأثر الرَّعيَّة بأخلاق رؤسائها وأن من صفات قوم فرعون أيضاً سرعة التكذيب أي تكذيب الرسل والأنبياء، لذا نجد القرآن يصفهم بالقوم الذين كذبوا بآيات الله في قوله تعالى: { فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا } (3).
__________
(1) سورة الأعراف/130-135.
(2) سورة الزخرف/48-50.
(3) سورة الفرقان/36.(1/75)
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } (1). فقدم موسى - عليه السلام - خوفه من تكذيبهم على خوفه من القتل، { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } (2).
وهناك حديث مطول في التوراة عن كيفية تكذيب فرعون بالآيات، وكيف كان يظهر استعداده للإيمان بها حتى يدعو موسى - عليه السلام - الله لرفع العقوبة عنه وعن قومه الأقباط ثم تراجعه في كل مرة عن وعده وتكذيبه بها من جديد(3).
- طغيانه في الاستبداد برأيه وفرضه على الآخرين بالقوة
قال تعالى حكاية عن فرعون: { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } (4).
ولما برز موسى - عليه السلام -، واعترض عليه وخالفه في رأيه وبين له أنه لا يحق له الاستبداد أو الانفراد بالرأي لجأ إلى استخدام القوة لفرض رأيه فقال كما حكى القرآن عنه: { قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ } (5). وسيأتي ذلك مفصلاً في فقرة الاستبداد بالرأي في الباب القادم.
ثانياً: البطانة السيئة (الملأ)
القطب الثَّاني في التَّحالُف الطُّغياني الذي كشف عنه القرآن الكريم هو ملأ الحاكم أو بطانته. ويندرج تحت البطانة فئات متعددة ومتنوعة، وكما مر فإن البطانة –والحديث هنا عن بطانة النَّموذج المأخوذ وهو فرعون- مكونة من كل من هامان وقارون والكهنة -رجال الدِّين- والسحرة -رجال الإعلام- وغيرهم.
__________
(1) سورة الشعراء/10-12.
(2) سورة الشعراء/14.
(3) انظر، الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح السابع والثامن والتاسع والعاشر.
(4) سورة غافر/29.
(5) سورة الشعراء/29.(1/76)
وقد عبر القرآن عن البطانة بعبارات مختلفة منها: (الملأ)، أي: ملأ الحاكم، ولا نقصد هنا بالملأ النُّخبة أو الأشراف المسيطرين على المجتمع، وإنما نقصد به بطانة الطَّاغية والمقربين إليه والملتفين حوله، ففي كل حالة من هذه للملأ أوصافهم ومهامهم، وفي أحيان أخرى عبر القرآن عن بطانة الحاكم بـ(الذين حوله).
وبما أننا قلنا فيما مضى إن حديث القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ جار على أساس أنه تيار مستمر وظاهرة متكررة، فبناء على ذلك سنشير أولاً إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن بطانة فرعون باعتباره النَّموذج القرآني المفصل للطاغية، وقد تم فيها الإشارة إلى ما يقوم به الملأ من مهام وما يتصفون به من أوصاف. نشير هنا إلى أهم أوصاف الملأ أو بطانة الحاكم في حين نؤخر الحديث عن عمل البطانة وما تقوم به من التملُّق والنِّفاق للطاغية إلى الباب القادم (فقرة تملُّق البطانة ونفاقها).
والآيات التي تذكر بطانة الحاكم وملأه هي؛ قال تعالى:
{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ } (1).
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (2).
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (3).
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (4).
__________
(1) سورة القصص/20.
(2) سورة الزخرف/46.
(3) سورة القصص/32.
(4) سورة الأعراف/103.(1/77)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } (1).
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } (2).
{ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } (3).
{ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } (4).
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ } (5).
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } (6).
{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } (7).
{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } (8).
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (9).
__________
(1) سورة يونس/75.
(2) سورة المؤمنون/46.
(3) سورة الشعراء/34.
(4) سورة الشعراء/25.
(5) سورة القصص/38.
(6) سورة هود/97.
(7) سورة الأعراف/109.
(8) سورة الأعراف/127.
(9) سورة يونس/83.(1/78)
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } (1).
فكما هو واضح من الآيات السالفة الذكر أنه يتم دائماً في أثناء الحديث عن فرعون الاقتران بين اسمه وبين بطانته أو ملئه، ليتضح بذلك أن للبطانة دوراً رئيساً وهاماً في الدولة الطَّاغية وفي تثبيت السياسات القمعية الجائرة. وبذلك تعد البطانة بكل شرائحها أحد أقطاب التَّحالُف الطُّغياني في الدولة التي يقف على رأسها طاغية من المنظور القرآني. لذا فلا يمكن بحال من الأحوال أن نتصور وجود دولة يتربع على عرشها حاكم طاغٍ بدون أن يستند في طغيانه على بطانة سيئة. وقد تضمنت الآيات أوصاف بطانة الحاكم الطَّاغية، وهذه الأوصاف هي:
تتكون البطانة أو ملأ الطَّاغية عادة من كبار رجال السياسة والاقتصاد والإعلام والدِّين، وهذا الأمر واضح من معنى كلمة الملأ نفسها التي ستأتي في المبحث القادم.
يقول الشعراوي رحمه الله: "الملأ هم أشراف القوم ووجوهه، وأعيانه المقربون من صاحب السيادة العليا، ويقال لهم (ملأ) لأنهم هم الذين يملأون العيون، أي لا ترى العيون غيرهم، وفرعون لم يصبح فرعوناً إلا بالملأ"(2).
__________
(1) سورة يونس/88.
(2) الشعراوي، محمَّد متولي، تفسير الشعراوي (د. م: أخبار اليوم، قطاع الثقافة، د. ط. ت)، ج10، ص6124.(1/79)
ويمكن الاستدلال على أن الملأ طبقة مكونة من هؤلاء بقصة فرعون حيث يمثل هامان(1) والكهنة رجال الدِّين، ويمثل هامان في الوقت نفسه المخطط والمنفذ لسياسة فرعون أو بعبارة أخرى رئيس البطانة، ويظهر ذلك جلياً أن فرعون عندما يشرح سياسته العامة يوجه الكلام إلى الملأ عامة، في حين يفرد هامان بالأمر عندما يكون القصد تنفيذ تلك السياسة أو الأمر. ويمثل قارون الرمز الاقتصادي القوي، ومن ناحية أخرى عضواً بارزاً في ملأ بني إسرائيل المقرب من فرعون وعاملاً ينوب عنه في بث الخوف والفزع بين بني إسرائيل ومنعهم من اتباع موسى - عليه السلام -.
__________
(1) ويقال إن هامان كان نفسه كبير كهنة آمون. انظر، أبو سعدة، من إعجاز القرآن، ص54. ويذهب شحرور أيضاً إلى أن هامان كان يمثل السُّلطة الدِّينية في بلاط فرعون، انظر، شحرور، دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، ص202، و241. وقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن الكهنة هم أنفسهم الذين كانوا يحترفون السحر، يقول سيد قطب رحمه الله: "وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد، وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحرة، ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدِّين بالسحر". انظر، قطب، في ظلال القرآن، ص1348، وقال ابن عاشور: "وملأ فرعون أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة"، انظر، ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج18، ص63. ويقول رؤوف شلبي: "السحرة هم الكهنة، لأن السحر في الأديان البدائية كان ضرباً من ضروب الكهانة". انظر، عبدالقدوس، محمَّد، استبداد فرعون بين الأمس واليوم، مجلة الدعوة، العدد 52، السنة 30، 1980م، ص47.(1/80)
في حين مثل السحرة والقائمون على إشاعة وإيصال الأوامر إلى المدائن وعلى جناح السرعة الجهاز الإعلامي الكبير المنتشر في كل أرجاء المملكة والذي يقوم بإلهاء النَّاس وتلبيس الأمور عليهم، قال تعالى: { قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ } (1).
وقال: { فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } (2).
وكأن هذه السرعة تدل على أن هناك أجهزة ومؤسسات إعلامية ودعائية عديدة رهن إشارة الطَّاغية فما أن يأمر بأمر إلا وتتلقفه هذه الأجهزة وتقوم بنشره والدفاع عنه.
وفي الوقت نفسه كان الكهان والسحرة يمثلون الهيئة الاستشارية للحاكم ولا سيما في الشؤون الميتافيزيقية الغيبية، ويظهر هذا جلياً في استشارة الحاكم لهم في هذه الأمور كما حدث في قصة فرعون ومسألة المولود وما ترتب على ذلك من مذابح في بني إسرائيل، وكذلك في قصة إبراهيم - عليه السلام -، وهي قريبة من الأخيرة، وكذا في قصة الملك في عهد يوسف - عليه السلام - عندما رأى في المنام سبع بقرات.
ولما كان الحال على ما سبق من أن البطانة في العادة من علية القوم وأشرافهم فقد وصفت بصفة الاستكبار كما يبين ذلك قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } (3). وقال تعالى: { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } (4).
__________
(1) سورة الشعراء/36-40.
(2) سورة الشعراء/53-56.
(3) سورة يونس/75.
(4) سورة المؤمنون/46.(1/81)
والبطانة تستمد استكبارها من استكبار الطَّاغية حيث تستفيد هذه الطبقة من النِّظام الطاغوتي في فرض ما لها على من هو أسفل منها، فتحاول هذه الطبقة دائماً العمل على إطالة عمر الحكم الطاغوتي حرصاً منها على مصالحها، وإبقاءً على ما يضمن لها ممارسة استكبارها. فصفة الاستكبار غير مقتصرة على الحاكم الطَّاغية وكما بينت الآيات السابقة فإن البطانة كذلك استكبرت، وإن كان استكبار بطانة الطَّاغية أو ملئه استكباراً تبعياً لما قلنا من أنه مستمد من استكبار الرأس، فالملأ أو البطانة مستكبرة على من هم أسفل منها، وفي الوقت نفسه مستعبدة ذليلة أمام الطَّاغية. وفي الحقيقة يستمد كل طرف دعماً من الطرف الآخر، فالطُّغيان آت من الطرفين معاً، فالحاكم الطاغي لو لم يستند إلى بطانته السيئة فلما تمكن من الطُّغيان، وكذلك البطانة، لذا فالآيات التي تحدثت عن طغيان فرعون إنما تجمع بين الأمرين في نسبة الطُّغيان والاستكبار.
وهي في الوقت نفسه طبقة مترفة: الطبقة التي تحيط بالحاكم الطاغي الذي يسيطر على كل شيء في البلاد طبقة مترفة جَماعة للمال وما إلى ذلك من متاع الدنيا، وقد أشار القرآن إلى ترف البطانة المستمد من ترف الطَّاغية بقوله: { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } (1).
__________
(1) سورة يونس/88.(1/82)
وكذلك البطانة تدبر المكائد وتضع الخطط للإيقاع بالمصلحين؛ فقد بين القرآن الكريم أن من ديدن الملأ أو بطانة الحاكم الطاغي تدبير المكائد والمكر(1) للإيقاع بالمصلحين ودعاة تحرير الشعوب، وهذا جلي من قصة بطانة فرعون، وكذا قصة إبراهيم - عليه السلام -، وستأتي الإشارة في المبحث القادم إلى ما تقوم به النُّخبة الطَّاغية أو الأشراف من وضع المكائد والخطط لمواجهة دعوات الإصلاح والحُرِّيَّة، أما هنا فالحديث عن بطانة الحاكم وليس عن الملأ بمعنى الأشراف المسيطرين على الأمور في بلد ما. قال تعالى: { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ } (2).
__________
(1) المكر هو في الأصل: الاحتيال والخديعة، انظر، الرَّازي، مختار الصحاح، ج1/263. أو هو: التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب. انظر، رضا، تفسير المنار، ج3، ص315.
(2) سورة القصص/20. يخلط بعض الكتَّاب عند الحديث عن هذا الرجل المذكور في هذه الآية والآية التي يذكر فيها دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام، فيستنتج من أن إيمان هذا الرجل جعله يسخر كل طاقاته في خدمة الدعوة وصاحبها معرضاً نفسه لبطش الجبابرة... ولا سيما المتحدثون في مجال الدعوة وأثناء شرحهم لما يجب أن يكون عليه العضو من الحرص على القيادة. علماً أن موسى عليه السلام لم يكن قد أصبح نبياً بعد حتى يؤمن به هذا الرجل ويتبعه بحيث يعد أحد أتباع موسى عليه السلام الذي يمثل قائد الدعوة. مع احتمال أن يكون هذا الرجل هو نفسه الذي آمن فيما بعد بموسى وكتم إيمانه والخلاف فيه مشهور. فمن الذين خلطوا بينهما: الشعراوي، قصص الأنبياء، ج3، 1376. الأسطل، شوقي محمود، دروس من سيرة الكليم عليه السلام، مجلة المجتمع، العدد 1168، 1416هـ، 1995م، ص57.(1/83)
يضاف إلى ما سبق أن البطانة تنوب عن الطَّاغية في ممارسة الإرهاب والبطش على من تحتها، وتمنعها من الإيمان بالدعوة الجديدة، وتنوب عن الطَّاغية في ممارسة البطش والإرهاب لأن الطَّاغية فرد واحد لا يستطيع متابعة كل الأمور إلا من خلال أعوانه وهكذا إلى أن ينزل الأمر إلى مستوى الشارع العام فهناك طبقات متتالية من البطانة فكل رأس له بطانته وهكذا(1)، وهذا من البين بمكان فيما كان يقوم به ملأ بني إسرائيل والمقربون إلى فرعون من منع وتخويف بني إسرائيل أتباع موسى - عليه السلام -، قال تعالى:
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (2). فواضح أن الخوف لم يكن من فرعون وحده وإنما من ملئهم أيضاً أي ملأ بني إسرائيل(3).
__________
(1) قال أزدشير: "لكل ملك بطانة، ولكل واحد بطانته من البطانة بطانة، حتى يجمع ذلك جميع المملكة، فإذا أقام الملك بطانة على حال الصواب، أقام كل منهم بطانته على مثل ذلك، حتى يجتمع على الصلاح عامة الرَّعيَّة". انظر، ابن الأزرق، أبو عبدالله (ت 896هـ)، بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق: علي سامي النشار (بغداد: دار الحُرِّيَّة، د. ط، 1397هـ، 1977م)، ج1، ص349.
(2) سورة يونس/83.
(3) قال ابن كثير رحمه الله: "على خوف من فرعون وملئهم، أي: وأشراف قومهم أن يفتنهم..ومن قال إن الضمير في قوله: (وملئهم) عائد إلى فرعون وعظم الملك من أجل اتباعه أو يحذف آل فرعون وإقامة المضاف إليه مقامه؛ فقد أبعد". انظر، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص429.(1/84)
وبذلك يتحول الملأ إلى جزء خبيث فعّال في مؤسسة الطُّغيان، لذا نجد أن القرآن وفي عدة آيات يرجع الجُنُود آلة القهر والتسلط إلى كل من فرعون وهامان رئيس البطانة، وليس إلى فرعون وحده مع أن هامان نفسه كان واحداً من جنود فرعون، قال تعالى: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } (1)، وقال تعالى: { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } (2)، وهذا من باب تأكيد وإبراز الدور المهم والخطير الذي كان يقوم به هامان فرعون وهامانات كل عصر في السياسة الفرعونية بحيث أصبح هامان الذي يمثل البطانة طرفاً رئيساً في الطُّغيان والفساد مثله مثل فرعون لا يقل عنه بشيء.
ومما يدل بوضوح على أن البطانة أحد أقطاب الدولة الطَّاغية أنها طبقة ترفض الإصلاح والهدى مثلها مثل الطَّاغية، وتقوم بإثارة الشكوك والشبهات حول كل دعوة إلى الإصلاح والهدى والتحرر، بل تحرض الطَّاغية لمقاومة الدُّعاة والمصلحين كما سيأتي. هذا ما أشار إليه قوله تعالى: { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } (3)، لأن أي إصلاح للواقع معناه ذهاب سلطان هذه الفئة المتطفلة الذليلة ومصالحها.
وستأتي تفصيلات أكثر عن أهم أوصاف البطانة وما تقوم به من مهام خبيثة وإجرامية تجعل منها قادرة على دفع الطَّاغية إلى مزيد من الطُّغيان، أو الحاكم العادي إلى ممارسة الطُّغيان في الباب القادم فقرة (تملُّق البطانة ونفاقها) إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة
__________
(1) سورة القصص/8.
(2) سورة القصص/6.
(3) سورة الأعراف/127.(1/85)
يعد الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة القطب الثَّالث في التَّحالُف الطُّغياني الثلاثي الذي كشف عنه القرآن الكريم في نموذج فرعون فقد قرن القرآن بين الجُنُود وبين فرعون في سبع آيات شملت أهم المحاور التي مر بها الحكم الفرعوني بدءاً من عملية قتل الذكور من بني إسرائيل وانتهاءً بمطاردة الجُنُود لموسى وأصحابه، والتي انتهت بالغرق. إضافة إلى عدد آخر من الآيات التي تشير إلى ما يقوم به الجُنُود من مهام.
وكما سبق فقد ذكر القرآن الكريم في عدد من الآيات الجُنُود أو ما يعرف حديثاً بالمؤسَّسة العسكريَّة مقترناً بأسماء الطُّغاة أمثال فرعون وهامان وثمود. وذلك لخطورة دور الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة في حياة الشعوب، فهي التي تترجم سياسة الطُّغيان إلى واقع ملموس، وهي التي تقوم ببث الفزع والخوف بين الرَّعيَّة، وهي التي تحرس الطَّاغية ليل نهار وتطيل عمر حكمه، والآيات التي تشير إلى ذلك هي، قال تعالى: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } (1). وقوله تعالى: { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } (2).
فالآية الأولى حكمت على فرعون وهامان والجُنُود بأنهم كانوا (خَاطِئِينَ)، وفيها إشارة إلى ما كان يقوم به الجُنُود من تعمد قتل ذكور بني إسرائيل بأمر من هامان رئيس البطانة، والذي كان بدوره يأخذ الأوامر من فرعون وينفذها، فواضح أن القرآن يبين هنا بوضوح ما يقوم به الجُنُود من دور إجرامي في الدولة الطَّاغية. ودور المؤسَّسة العسكريَّة سيستمر حتى بعد رسالة موسى - عليه السلام -، وهو ما تبينه الآيات فيما بعد.
__________
(1) سورة القصص/8.
(2) سورة القصص/6.(1/86)
والاستكبار هو أولى الخطوات، فالأمر ليس بمقتصر على فرعون وحده: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } (1).
ومن المهام الظالمة الإجرامية التي تقوم بها المؤسَّسة العسكريَّة بحيث تجعل منها قطباً رئيساً في الطُّغيان السِّياسيّ مطاردة وملاحقة الدُّعاة والمصلحين ومحاولة القضاء عليهم، قال تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } (2).
وقال: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا } (3).
إلى أن كانت النتيجة: { وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ } (4).
و: { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } (5).
و: { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } (6).
فوصف الظُّلم ليس بمختص بفرعون وحده، لذا كان الهلاك شاملاً للطرفين.
ولما كانت المؤسَّسة العسكريَّة هي الحامية لقلاع الطُّغيان في العالم قديماً وحديثاً، فيتم وصف الطُّغاة في كثير من الأحيان بما لهم من قوة وجند فكلما ازداد عدد الجُنُود كانت سلطة الطَّاغية أقوى وأكثر بقاءً والطَّاغية أكثر أمناً واستقراراً، كما هو الحال مع فرعون، قال تعالى: { وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } (7).
__________
(1) سورة القصص/39.
(2) سورة طه/78.
(3) سورة يونس/90.
(4) سورة الدخان/24.
(5) سورة الذاريات/40.
(6) سورة القصص/40.
(7) سورة ص/12، وسورة الفجر/10.(1/87)
يقول الإمام ابن جرير: "واختلف أهل التَّأويل في معنى قوله: (ذي الأوتاد)، ولم قيل له ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: ذي الجُنُود الذين يقوون له أمره، وقالوا: الأوتاد في هذا الموضع الجُنُود..وعن ابن عباس: وفرعون ذي الأوتاد، قال الأوتاد: الجُنُود الذين يشدون له أمره. ويقال كان فرعون يوتد في أيديهم وأرجلهم أوتاداً من حديد يعلقهم بها. وقال آخرون بل ذلك لأنه كان يعذب النَّاس بالأوتاد..وقال آخرون: إنما قيل ذلك لأنه كان له بنيان يعذب النَّاس عليه"(1). وواضح أن كل هذه المعاني المذكورة إنما ترجع إلى الجُنُود وعملهم.
ذكر الإمام الرَّازي رحمه الله في وجه وصفه بالأوتاد أمرين: "أحدهما: أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، ثانيهما: أنه كان يعذب النَّاس ويشدهم بها إلى أن يموتوا(2). ولا شك أن الأمر الثَّاني أيضاً راجع إلى الجُنُود، فالجند هم الذين يقومون بالتعذيب وما إلى ذلك من الممارسات القمعية.
يقول الشوكاني: "وفرعون ذي الأوتاد: أي ذو الجُنُود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد، أو جعل الجُنُود أنفسهم أوتاداً لأنهم يشدون الملك كما تشد الأوتاد الخيام. وقيل: كان له أوتاد يعذب النَّاس بها ويشدهم"(3). فالجُنُود سموا بالأوتاد لتشابه عمل أوتاد الخيمة وعملهم في شد وإبقاء الخيمة والحكم قوياً بحيث لا تؤثر فيه الرياح والعواصف.
__________
(1) الطبري، جامع البيان، ج30، ص179-180.
(2) الرَّازي، مفاتيح الغيب، (دار الفكر)، ج31، ص169. وانظر، البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج5، ص488. السيوطي، الدر المنثور، ج8، ص506. أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج9، ص155. الواحدي، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج2، ص1200. البغوي، معالم التنزيل، ج4، ص483. الآلوسي، روح المعاني، ج30، ص179-180.
(3) الشوكاني، فتح القدير، ج5، ص435. انظر، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص509.(1/88)
وقد تبين من الآيات السالفة الذكر أنه قد تم الاقتران في أغلب الأحيان بين فرعون وهامان والجُنُود، فنجد أن الجُنُود من المنظور القرآني جزء من الحلقة الطاغوتية الثلاثية: الحاكم الطاغي وبطانة السوء والمؤسَّسة العسكريَّة أو الجُنُود: القوة الرادعة التي تترجم السياسة الطاغوتية إلى عمل وواقع، وتقوم ببث الفزع والخوف بين الرَّعيَّة، وإلا فالطَّاغية فرد واحد لا يقدر على عمل شيء بدونهم. لذا نجد أن المصير مشترك فحيث ما ذكر هلاك الطَّاغية فرعون ذكر معه هلاك الجُنُود.
وغالباً ما يقوم الطَّاغية بربط العسكر بنفسه بحيث يتحول العسكر إلى آلة وأداة في يده يحركها كيفما يشاء، لذا نجد أن القرآن الكريم أضاف الجُنُود إلى شخص فرعون وليس إلى الدولة، ليدل ذلك على أن الجُنُود إنما هم جنود الطَّاغية وحماته، وليسوا حماة الرَّعيَّة وهو خلاف المفترض والمتوقع من العسكر والجيش.
وفي غالب الأحيان يتم انتقاء القائمين على الجند والعسكر من آل الحاكم الطَّاغية وعائلته والمقربين منه نسباً وذلك لما للنسب من تأثير في ذلك، وهذا ما يمكننا استنباطه من الآيات القرآنية الآتية: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (1).
{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (2).
__________
(1) سورة البقرة/49.
(2) سورة الأعراف/141.(1/89)
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (1).
فقد شارك آل فرعون في السياسات التنفيذية الظالمة المتمثلة في التعذيب وفي قتل الأبناء وهتك الأعراض وما إلى ذلك. وهذه الأمور لا يقوم بها إلا الجند بأمر من القائمين عليهم، لذا أرجعت الآيات التعذيب والقتل واستحياء النساء إلى آل فرعون.
ففرعون لم يكن هو الطَّاغية الوحيد، وإنما كان محور الطُّغاة الصعاليك الملتفين حوله، لذا جاءت العقوبة جماعية: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } (2).
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ } (3).
فالآية أرجعت وصف الظُّلم إلى الكل، وليس إلى فرعون وحده، مما يدل على أن الكل مشاركون في الظُّلم والجرائم التي ارتكبت بحق الرَّعيَّة لذا شملت العقوبة الكل.
{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } (4).
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (5).
__________
(1) سورة إبراهيم/6.
(2) سورة البقرة/50.
(3) سورة الأنفال/54.
(4) سورة غافر/45.
(5) سورة غافر/46.(1/90)
ويمكن القول أيضاً إن القصد من آل الطَّاغية: العائلة الطاغوتية، أي؛ إنها تعد عائلة واحدة بغض النظر عن جذورها النسبية أو العرقية، فالمهم الاشتراك في العمل والأوصاف. كما هو واضح من قوله تعالى: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } (1). وكأن ما بعد (إن) تفسير لآل فرعون.
المبحث الثَّاني
طغيان الملأ (النُّخبة)
قال ابن منظور: "وقد ملؤ الرجل يملؤ ملاءة فهو مليء صار مليئاً أي ثقة فهو غني مليء بين الملاء...والملأ: الرؤساء سموا بذلك لأنهم ملاء بما يحتاج إليه، والملأ مهموز مقصور الجماعة. وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم…وكذلك الملأ إنما هم القوم ذو الشارة والتجمع للإدارة"(2).
فالملأ: "أشراف النَّاس ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم. وجمعه أملاء…وفي حديث عمر حين طعن أكان هذا عن ملأ منكم، أي: تشاور من أشرافكم وجماعتكم…[و] الملأ: بفتح الميم واللام والهمزة كالأول الخُلق…ومنه الحديث أحسنوا أملاءكم أي أخلاقكم"(3).
والمقصود بطغيان النُّخبة: استحواذ ملأ القوم أو أشرافه على السُّلطة، وتصرفهم في الأمر العام الذي يخص العامة على حسب مصالحهم وأهوائهم.
أو أنه واستنباطاً من التعريف المختار للطغيان في الباب الأول: هو نظام الحكم الذي يتسم بتركيز شديد للسلطة في يد مجموعة -أشراف القوم- تمتلك سلطات غير محدودة، وتتسيد سياسياً على كل المحكومين، وتمارس الحكم بصورة تحكمية قهرية(4)
__________
(1) سورة القصص/8.
(2) ابن منظور، لسان العرب، ج1، ص159.
(3) الجزري، أبو السعادات محمَّد (ت606هـ)، النهاية في غريب الأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمَّد الطناحي (بيروت: المكتبة العلميَّة، د. ط، 1399هـ، 1979م)، ج4، ص351.
(4) انظر، ربيع، موسوعة العلوم السِّياسيّة، ج1، ص294. (بتصرف).
وبصورة عامة حكومة الأقلية هي: "أن تكون السُّلطة في يد عدد محدود من الأفراد، فلا ينفرد شخص وحده كما يحدث في النِّظام الملكي المطلق أو في النِّظام الدكتاتوري، كما أنها ليست ملكاً للشعب في مجموعه مثلما يجري في الحكم الديمقراطي. وقد تكون الأقلية الحاكمة من الأغنياء أو من العسكريين أو أقلية دينية أو أقلية عنصرية". انظر: بدوي، ثروت، النظم السِّياسيّة (د. م: دار النهضة العربيَّة، د. ط، 1986م)، ص192.(1/91)
.
معاني الملأ في القرآن الكريم
وقد وردت كلمة (الملأ) في القرآن الكريم في ثلاثين آية. وأفادت عدة معانٍ أذكر المعاني العامة منها بإيجاز، ثم أفصِّل في المعنى الذي يندرج تحت هذا المبحث، وهو أشراف القوم المسيطرون على الأمور، وهذه المعاني هي:
- الملأ الأعلى أو الملائكة المقربون
ورد هذا المعنى في موضعين وهما قوله تعالى: { مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْملأ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (1).
وقوله تعالى: { لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْملأ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } (2).
- جماعة أو فئة
وردت كلمة الملأ في القرآن الكريم بمعنى جماعة أو فئة بغض النظر عن طبيعتها هل هي من الأشراف أو من غيرهم، وذلك في قوله تعالى: { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ ملأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } (3).
- بطانة الحاكم
وردت كلمة الملأ في القرآن الكريم بمعنى بطانة الحاكم بغض النظر عن كونها بطانة سيئة أو صالحة في (17) موضعاً، وقد سبق في المبحث الأول سرد الآيات التي تحدثت عن بطانة الحاكم السيئة، بطانة فرعون، أذكر هنا بقية الآيات التي وردت فيها كلمة الملأ بمعنى بطانة الحاكم بصورة عامة بغض النظر عن صلاحها أو فسادها، فإضافة إلى بطانة فرعون التي ورد ذكرها في القرآن في (13) موضعاً، فقد ذكر القرآن بطانة كل من: ملكة سبأ، وعزيز مصر، وسليمان - عليه السلام -. وهذه الآيات هي؛ قال تعالى:
{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الملأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } (4).
{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الملأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } (5).
__________
(1) سورة ص/69.
(2) سورة الصافات/8.
(3) سورة هود/38.
(4) سورة النمل/29.
(5) سورة النمل/32.(1/92)
{ قَالَ يَا أَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } (1).
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } (2).
فالغالب على الاستخدام القرآني لكلمة الملأ هو أنها استخدمت وصفاً سلبياً للسادة والأشراف الملتفين حول الحاكم، والذين حاربوا بكل ما أوتوا من قوة دعاة الإصلاح، وعملوا على تأليب الطُّغاة على المصلحين، أو وصفاً لأشراف القوم العتاة المسيطرين على أمور القوم، والذين وقفوا سداً مانعاً أمام دخول الدعوات. ولكن هذا لا يعني أن القرآن لم يستخدم الكلمة وصفاً لأتباع الأنبياء أو بطانتهم قط، وأنه كان دائماً وصفاً للمترفين والمستبدين والمغرورين الذين عارضوا الأنبياء، وسعوا لفرض ما يحملون من آراء على الآخرين كما ذهب إلى ذلك محمَّد تقي رهبر(3).
فقد استخدم القرآن الكريم الملأ وصفاً لبطانة سليمان - عليه السلام - كما مر ذلك في الآية 38 من سورة النمل، وكذا استخدمه وصفاً لملأ ملكة سبأ ولم يفصح القرآن عن طبيعة ملأ الملكة هل كانوا صالحين أم طالحين. إضافة إلى أن القرآن قد استخدمه وصفاً للملأ الأعلى أو الملائكة كما سبق.
- الأشراف أو النُّخبة
__________
(1) سورة النمل/38.
(2) سورة يوسف/43.
(3) انظر، رهبر، محمَّد تقي، الاستكبار والاستضعاف من وجهة نظر القرآن الكريم (طهران: منظمة الإعلام الإسلامي ومعاونية العلاقات الدولية، ط1، 1407هـ، 1987م)، ص22.(1/93)
وردت كلمة الملأ في القرآن الكريم بمعنى أشراف القوم الطُّغاة أو النُّخبة الطَّاغية(1) في تسعة مواضع، وتناولت الآيات كلاً من أشراف قوم نوح، وأشراف قوم شعيب، وأشراف قوم صالح، وأشراف قريش. وَسُمِيَ الأشراف بالملأ وذلك كما يقول الشعراوي: "لأنهم هم الذين يملأون العين، لأن العين إذا اتجهت إليهم تتعلق بهم لوجاهتهم وسلطانهم ولا تنظر إلى سواهم، وذلك لما لهم من مهابة دنيوية، فالعيون تتعلق دائماً بالسلطان أو الرئيس إذا جاء إلى أي مكان وبمن حوله من المقربين"(2). وهذه المواضع هي:
{ قَالَ الْملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } (3).
{ قَالَ الْملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (4).
__________
(1) ورد الملأ بمعنى أشراف القوم بغض النظر عن كونهم من الطُّغاة العتاة أو لا، في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْملأ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) سورة البقرة/246.
(2) الشعراوي، قصص الأنبياء، ج3، ص1509.
(3) سورة الأعراف/75.
(4) سورة الأعراف/88.(1/94)
{ قَالَ الْملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ } (1).
{ وَقَالَ الْملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } (2).
{ قَالَ الْملأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (3).
{ فَقَالَ الْملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } (4).
{ فَقَالَ الْملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ ملأئِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } (5).
{ وَقَالَ الْملأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } (6).
{ وَانطَلَقَ الْملأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } (7).
__________
(1) سورة الأعراف/66.
(2) سورة الأعراف/90.
(3) سورة الأعراف/60.
(4) سورة هود/27.
(5) سورة المؤمنون/24.
(6) سورة المؤمنون/33.
(7) سورة ص/6.(1/95)
وكما ظهر فقد ذكر القرآن الكريم عدداً من النخب الطَّاغية، ملأ قوم نوح، ملأ قوم شعيب، ملأ قوم صالح، وملأ قريش، وبما أن القرآن قد فصل الحديث إلى حد ما عن النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح - عليه السلام -، وحدد عددهم، ولاتصاف النُّخبة الطَّاغية من قومه بكل الصفات التي ذكرها القرآن للطاغية والنخب الطَّاغية فسأكتفي بالحديث عنها، وسيتم الإشارة في الهوامش إلى عين الصفات التي ذكرت للنخب الأخرى من قوم نوح وشعيب وقريش، حيث ركز القرآن وهو يعرض قصص هؤلاء على بيان كفرهم ووقوفهم ضد الأنبياء والمصلحين بغض النظر عن عددهم أو ما إلى ذلك من التفاصيل.
فلو ألقينا نظرة على الآيات التي تناولت الملأ الطاغي بالمعنى السالف الذكر لوجدنا أن الحديث في غالب الأحيان ورد عاماً من غير تتبع التفاصيل، وذلك بناء على المنهج القرآني العام في عرض القصص القرآني عامة والطُّغيان السِّياسيّ خاصة بوصفه ظاهرة. حيث إن النُّخبة الطَّاغية أو الأشراف العتاة كانوا دوماً يقفون حاجزاً أمام دخول الدعوات وانتشارها بين الأقوام، وكان الملأ دوماً أول من يكفر وآخر من يؤمن، يقول سيد قطب رحمه الله: "الملأ هم آخر من يؤمن بدعوة تجردهم من السلطان في الأرض، وترده إلى إله واحد هو رب العالمين، ولابد أن يحاولوا فتنة المؤمنين الذين خلعوا ربقة الطاغوت من أعناقهم بعبوديتهم لله وحده، وتحرروا بذلك من العبودية للعبيد"(1).
حديث القرآن الكريم عن النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح - عليه السلام -
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن، ج8، ص1313.(1/96)
بين القرآن الكريم بوضوح أنه كانت هناك نخبة طاغية مستكبرة تتحكم في أمور قوم صالح، وأنهم عاثوا في الأرض فساداً، وحدد القرآن عددهم بأنهم كانوا تسعة أشخاص. قال تعالى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (1). فبناءً على المنهج القرآني العام في عدم ذكر تفاصيل ودقائق الأحداث ولا سيما فيما يتعلق بالأشخاص والأمكنة والأزمنة فإنه لم يذكر أسماء هؤلاء التسعة(2)، وذلك لأن المهم والآيات تتلى على النُّخبة القرشية الطَّاغية أمثال أبي جهل ابن هشام، وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة، وأبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وغيرهم هو إلفات نظرهم بأنه قد سبقكم غيركم من النخب العاتية، وكان مصيرها ما تذكره هذه الآيات.
ولفهم المعنى الدلالي للرهط وكيفية سيطرة هؤلاء على عقول القوم وشؤونهم ننقل ما قاله العلماء في تفسير كلمة الرهط. قال ابن منظور: "رهط الرجل قومه وقبيلته، يقال: هم رهطه دِنْية، والرهط عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة. وبعض يقول من سبعة إلى عشرة وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر. وقيل: الرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة"(3).
__________
(1) سورة النمل/48-49.
(2) وقد اختلف المفسرون في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً ولا داعي لإيراد أسمائهم.
(3) ابن منظور، لسان العرب، ج7، ص305.(1/97)
إلا أن الظاهر من الآية أنها لا تفيد المعنى اللغوي الذي ذكره ابن منظور من أنه بين الثلاثة والعشرة، لأن السياق يدل هنا أن المقصود بالكلمة هو أن كل واحد من هؤلاء التسعة كان رئيساً لرهط أي لجماعة، ويدل على أن هؤلاء كانوا رؤساء أقوام أو قبائل ما قاله المفسرون في تفسيرهم للآية، يقول الإمام ابن كثير: فإن هؤلاء التسعة كانوا: "رؤساءهم في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها فطاوعتهم على ذلك"(1). فكانوا بذلك عتاة قوم صالح(2).
ومع أن هؤلاء كانوا تسعة أشخاص فقط إلا أن القرآن الكريم سمى كل واحد منهم رهطاً، كأنه هناك تسعة أراهط أو جماعات، وذلك لأن كل واحد من هؤلاء يتبعه جماعة تأتمر بأمره وتلتزمه. وهو ما أشار إليه كل من الإمام القرطبي(3) والشوكاني(4) بأن الرهط اسم الجماعة فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط.
يقول ابن كثير: "(تسعة رهط) أي تسعة نفر…وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم. قال العوفي عن ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة، أي: الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم"(5).
أو حسب تعبير الإمام القرطبي فإن هؤلاء كانوا من: "أبناء أشرافهم. قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد"(6).
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص229.
(2) ابن الجوزي، الوجيز (دمشق-بيروت: دار القلم-الدار الشامية، د.ط، 1401هـ)، ج2، ص806.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص215.
(4) الشوكاني، فتح القدير، ج4، ص143.
(5) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص368-369.
(6) القرطبي، مرجع سابق، ج13، ص215.(1/98)
ويدل على أن هؤلاء كانوا رؤساء على أقوامهم ولا سيما الذي سماه القرآن الكريم (الأشقى) من أنه كان عارماً عزيزاً منيعاً في رهطه ما رواه الإمام البخاري في التَّفسير(1) ومسلم في صفة النار(2) والترمذي والنسائي في التَّفسير في سننهما(3).
ونص البخاري: "حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذكر الناقة والذي عقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة"(4).
__________
(1) البخاري، محمَّد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا (بيروت: دار ابن كثير-اليمامة، ط3، 1407هـ، 1987م)، ج4، ص1888.
(2) مسلم، ابن الحجاج النيسابوري (ت 261هـ)، صحيح مسلم، تحقيق: محمَّد فؤاد عبدالباقي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج4، ص2191، رقم: 2855.
(3) الترمذي، محمَّد بن عيسى (ت279هـ)، سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وآخرون (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج5، ص440، رقم: 3343. النسائي، أحمد بن شعيب (ت303هـ)، السنن الكبرى، تحقيق: عبدالغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسين (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1411هـ، 1990م)، ج6، ص515، رقم: 11675.
(4) البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص1888.(1/99)
لذا فإنهم كانوا يديرون أمور النَّاس، والنَّاس يتبعونهم تبعية عمياء، مما حدا بهم إلى اقتراف ما لا تحمد عقباه، من مخالفة النبي صالح - عليه السلام -، وعدم الالتفات إلى الإنذار الإلهي بعدم المساس بالناقة، لذا نجد أن الجميع قد شاركوا في الجريمة فجاءت العقوبة جماعية. ويبين قتادة رحمه الله هذا الأمر بعبارة فيها قدر من المبالغة كما ينقل ذلك الإمام ابن كثير: "فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان. قلت: وهذا هو الظاهر، لقوله تعالى { فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } (1). وقال: { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } (2). وقال: { فعقروا الناقة } (3). فاشتد بذلك على مجموع القبيلة فدل على رضى جميعهم بذلك"(4).
وحصر الرهط في الأشخاص التسعة دليل على أن هذا الرهط أو الجماعة لا تملك أية شخصية ولو معنويَّة حيث تم اختزال كل أفراد الرهط في شخص واحد، لأن كلامه كان هو المسموع وما يقرره هو المعمول به، وعليه لم يكن لبقية القوم دور كبير لما لم يكن عملهم يتجاوز الاتباع والخضوع والانقياد، وإن كانوا بانقيادهم وخضوعهم قد دفعوا ملأهم إلى مزيد من الطُّغيان والاستكبار والعتو، وهذا ما أشار إليه المفسرون، من ذلك ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله:
"فدمدم عليهم ربهم بذنبهم أي غضب عليهم فدمر عليهم فسواها أي: فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء. قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنوبهم فسواها"(5).
__________
(1) سورة الشمس/14.
(2) سورة الإسراء/59.
(3) سورة الأعراف/77.
(4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص229.
(5) المرجع السابق، ج4، ص518.(1/100)
ويقول الإمام الآلوسي رحمه الله: "وقد أهلكوا كلهم بسبب رضاهم بفعله"(1). فالرَّعيَّة هي التي دفعته إلى الطُّغيان والعتو.
ثم لم يتوقف طغيانهم عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى التخطيط لاغتيال صالح - عليه السلام - وأهله ليلاً، حيث كالعادة يقوم الملأ بعضه بتحريض بعضه على الطُّغيان. قال تعالى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } (2).
وما خططت له النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح - عليه السلام - كرره طغاة قريش مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الهجرة(3)، قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (4). ولكن كانت النتيجة واحدة وهي: { ويمكرون ويمكر الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (5).
__________
(1) الآلوسي، روح المعاني، ج29، ص40.
(2) سورة النمل/48-49.
(3) "قال أبو جهل ابن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بَعدُ، قالوا -الملأ من قريش- وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعَقْل، فَعَقَلناه لهم". انظر: السيهلي، عبدالرحمن (ت 581هـ)، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل (د. م: د. ط. ت)، ج4، ص178.
(4) سورة الأنفال/30.
(5) الآية نفسها.(1/101)
ووضع الخطط للإيقاع بالمصلحين والدُّعاة من دأب النُّخبة الطَّاغية لذا نجد القرآن الكريم يوضح ذلك بقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } (1).
قال مجاهد: "يريد العظماء(2). وقيل: الرؤساء والعظماء وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة"(3). أو كما قال قتادة: "هم جبابرتهم وقادتهم رؤوسهم في الشر"(4).
قال النسفي: "أكابر مجرميها ليمكروا فيها ليتجبروا على النَّاس فيها ويعملوا بالمعاصي…وخص الأكابر وهم الرؤساء لأن ما هم فيه من الرياسة والسعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم"(5).
أوصاف الملأ في القرآن الكريم (نموذج ملأ صالح)
ومن أهم الأوصاف التي وصف بها الأشراف الطُّغاة من قوم صالح - عليه السلام - ما يأتي:
الطُّغيان
وصف ملأ قوم صالح - عليه السلام - بالطُّغيان في عدة مواضع في القرآن الكريم، وجاء الاقتران بين ثمود وبين أشهر الطُّغاة فرعون في عدة مواضع في القرآن للإشارة إلى أن عمل هؤلاء الطُّغاة واحد، وأن أوصافهم متشابهة وإن اختلفت ذواتهم سواء كان الطَّاغية فرداً واحداً أم نخبة مثل ملأ ثمود المكون من تسعة طغاة، قال تعالى؛
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } (6).
__________
(1) سورة الأنعام/123.
(2) مجاهد، تفسير مجاهد، ج1، ص223. ابن جرير، جامع البيان، ج8، ص24. السيوطي، الدر المنثور، ج3، ص353.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص79. النحاس، معاني القرآن الكريم، ج2، ص484. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص173.
(4) انظر، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص541.
(5) النسفي، تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التَّأويل، ج1، ص344.
(6) سورة البروج/18-19.(1/102)
{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } (1).
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } (2). أي كذبت ثمود بسبب طغيانها.
بل إن القرآن الكريم قد وصف الصيحة التي أهلك بها القوم باسم يناسب حالهم وأوصافهم وما صدر منهم من أعمال وأقوال، فسميت الصيحة بالطَّاغية أي الصيحة التي تجاوزت حد كل صيحة كما تجاوزوا هم كل الحدود التي رسمها لهم رسولهم صالح - عليه السلام -، وتجاوزوا الحدود في الكفر والمعاصي، وفي منع الآخرين من حرية التعبير، وفي الصد عن سبيل الله، قال تعالى: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغية } (3). فالريح الطَّاغية جزاء الطُّغيان. بل إن بعض المفسِّرين ذهب إلى القول بأن معنى بالطَّاغية في الآية هو بسبب الرهط أو الفئة الطَّاغية(4).
الاستكبار
لم يصف القرآن الكريم ملأً بالاستكبار ما عدا ملأ قوم صالح وشعيب عليهما السلام في حين وصف الملأ في القصص الأخرى بأوصاف أخرى مثل الكفر وغيره.
__________
(1) سورة الفجر/9-13.
(2) سورة الشمس/11-15.
(3) سورة الحاقة/4-5.
(4) انظر، الآلوسي، روح المعاني، ج29، ص40.(1/103)
قال تعالى: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } (1).
تبين الآية أنه كانت هناك سادة مستكبرون وأتباع مستضعفون وهذا هو لب فلسفة الطُّغيان فلا يوجد طغيان إلا كان مشفوعاً بالاستكبار ومتبوعاً بالاستضعاف. فقد وصف الملأ أو النُّخبة هنا بأنها كانت نخبة تمارس البطش والإرهاب على الآخرين ولا سيما إن الآية قد صنفت القوم إلى ملأ مستكبر وإلى أتباع مستضعفين، وكان استضعاف الرَّعيَّة واستعبادها ولا يزال من دأب الطُّغاة.
يقول سيد قطب: "وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتَّهديد: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا -لمن آمن منهم-: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف، ولاستنكار إيمانهم به، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه"(2).
العتو
وصف القرآن الكريم النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح - عليه السلام - في آيتين بصفة العتو، وقد مضى أن معنى العتو شبه مرادف للطغيان وهو: الاستكبار ومجاوزة الحد(3). أو التجبر والتَّكبُّر(4).
قال تعالى: { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } (5).
__________
(1) سورة الأعراف/75-76. وقد وصف أشراف قوم شعيب أيضاً بالاستكبار كما مر في الآية 88 من سورة الأعراف السالفة الذكر.
(2) قطب، في ظلال القرآن، ص1313.
(3) ابن سيده، كتاب المخصص، ج12، ص200. الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ص1688.
(4) ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص27.
(5) سورة الأعراف/77.(1/104)
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } (1).
العثو في الأرض أو الفساد في الأرض
وصفت النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح بالعثو في الأرض فساداً، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من الطُّغاة كفرعون وغيره، قال تعالى: { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } (2).
وقال تعالى: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (3).
وقال تعالى: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } (4).
الظُّلم
وصف القرآن الكريم النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح - عليه السلام - بالظُّلم ، ورتب خراب بيوتهم وإخواءها على الظُّلم الذي صدر منهم سواء لكفرهم بالله وبرسالة النبي صالح - عليه السلام -، أو لظلمهم المتمثل في التَّهديد والاستهزاء بالمؤمنين أو لاستضعافهم الرَّعيَّة، أو الظُّلم المتمثل في قتلهم الناقة، أو كيدهم وتخطيطهم للقضاء على نبي الله - عليه السلام - ليلاً، أو غير ذلك من أنواع الظُّلم التي مارسوها، واستحقوا بها الهلاك والعذاب.
قال تعالى: { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } (5).
__________
(1) سورة الذاريات/43-45.
(2) سورة الفجر/9-12.
(3) سورة الشعراء/151-152.
(4) سورة الأعراف/74.
(5) سورة هود/67.(1/105)
وقال أيضاً: { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (1).
الإسراف الذي هو مجاوزة الحد في الظُّلم والمعاصي
سبق أن ذكرت أن المعنى العام للإسراف والغالب على الاستعمال القرآني للكلمة هو مجاوزة الحد ولا سيما في الظُّلم والمعاصي. فقد وصفت النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح بالإسراف، بل إن صالحاً - عليه السلام - خاطب القوم بأن لا يتبعوا أمر المسرفين وهم الرهط الطُّغاة، قال تعالى حكاية عنه: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (2).
الكفر
__________
(1) سورة النمل/52.
(2) سورة الشعراء/151-152.(1/106)
إضافة إلى كل الصفات التي مرت فقد وصفت النُّخبة الطَّاغية من ملأ صالح بالكفر، قال تعالى: { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } (1) وقد وصفت النُّخبة الطَّاغية في كل من قوم نوح(2) وشعيب(3) وعاد بالكفر أيضاً(4).
__________
(1) سورة المؤمنون/33. وقد اختلف المفسرون في الآية هل القصد هنا ثمود أو عاد، واستدل القائلون بأن المقصود بالآية هنا ثمود بقوله تعالى: (فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سورة المؤمنون/41. انظر على سبيل المثال: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج12، ص121.
(2) سورة المؤمنون/24. قال تعالى: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ). و: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ). سورة هود/27.
(3) سورة الأعراف/90. قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ).
(4) سورة الأعراف/66. قال تعالى: (قَالَ الْملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ).(1/107)
فلقد كان وصف ملأ صالح بالاستكبار والطُّغيان والعتو والظُّلم وغيرها أولاً لمناسبة التَّهديد بالإخراج من الديار والاستهزاء بالمؤمنين والكيد للنبي صالح - عليه السلام - وأهله وغير ذلك من الصفات المذمومة. في حين كان وصفهم بالكفر يناسب الضلال والصد عن سبيل الله الصادر منهم.
يقول السيد محمَّد رشيد رضا رحمه الله: "مضت سنة الله تعالى بأن يسبق الفقراء المستضعفون من النَّاس إلى إجابة دعوة الرسل واتباعهم وإلى كل دعوة إصلاح لأنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تبعاً لغيرهم. وأن يكفر بهم أكابر القوم المتكبرون، والأغنياء المترفون لأنه يشق عليهم أن يكونوا مرؤوسين، وأن يخضعوا للأوامر والنواهي التي تحرم عليهم الإسراف الضار، وتوقف شهواتهم عند حدود الحق والاعتدال"(1).
وفي نهاية هذا المبحث يتبين لنا أن المنهج القرآني في عرض الطُّغيان سواء كان صادراً من فرد أو نخبة منهج يتسم بالاكتفاء برسم الملامح والمعالم البارزة فقط، والتي تبين تشابه الطُّغاة وعملهم سواء كانوا من قوم صالح - عليه السلام - أو من قريش أو ممن جاء من بعدهم. وأن القرآن يبتعد عن تحديد الجزئيات والتفاصيل المتعلقة بالطُّغاة وذلك حتى يتضح أن الطُّغيان ظاهرة. وستتضح الصورة أكثر في باب الدَّوافع والأساليب.
الباب الثَّاني
الدَّوافع والأساليب
الفصل الأوَّل: دوافع الطُّغيان السِّياسيّ
الفصل الثَّاني:ح أساليب الطُّغاة
الفصل الأوَّل
دوافع الطُّغيان السِّياسيّ
المبحث الأوَّل: الدَّوافع الذَّاتيَّة
المبحث الثَّاني: الدَّوافع الخارجيَّة
المبحث الأوَّل
الدَّوافع الذَّاتيَّة
__________
(1) رضا، تفسير المنار، ج8، ص504.(1/108)
هناك مجموعة من الأسباب أو الدَّوافع التي تدفع الحاكم أو أشراف القوم إلى الطُّغيان وممارسة الظُّلم والعدوان على الرَّعيَّة. وقد قسمت هذه الأسباب أو الدَّوافع إلى قسمين؛ قسم راجع إلى ذات الحاكم ونفسيته وهو ما سأتناوله في هذا المبحث، والقسم الآخر وهو الأخطر هي الدَّوافع الخارجيَّة والراجعة إلى من يحيط بالحاكم سواء البطانة أو الجُنُود أو الرَّعيَّة وسأتناوله في المبحث الثَّاني من هذا الفصل.
أولا: عدم الإيمان باليوم الآخر والحساب
من أسباب استكبار وطغيان الحاكم عدم الإيمان بالآخرة وبالحساب، أو بعبارة أخرى غلبة الجانب المادي على الجانب الروحي لدى النَّاس بصورة عامة والحكام الظُّلمة بصورة خاصة. وقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات كثيرة، وبين أن الطَّاغية إنسان لا يؤمن باليوم الآخر وبالحساب. لذا فهو لا يبالي بما يقوم به من السياسة الظالمة القائمة على القهر والبطش والإرهاب، ولا يتصور أنه سيكون هناك حساب وعقاب على ما بدر منه من الظُّلم والبغي والاعتداء وإلا لما تجرأ على اقتراف وارتكاب ذلك. والآيات القرآنية التي تبين هذه الحقيقة كثيرة، نذكر بعضاً منها على سبيل التمثيل؛
قال تعالى حكاية عن موسى - عليه السلام - بعد أن كشف فرعون عن أنياب طغيانه: { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } (1).
وقال تعالى في بيان استكبار فرعون وجنوده: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } (2).
__________
(1) سورة غافر/27.
(2) سورة القصص/39.(1/109)
فالكفر بيوم الحساب من أسباب الطُّغيان والبغي والعدوان لأن الطَّاغية: "يظن أن حياته الدنيا هي كل شيء، ويعتقد أن قوته باقية وسلطانه دائم، ولو آمن هذا بيوم القيامة، وخاف الحساب في يوم الحساب، لأقلع عن بغيه وطغيانه"(1).
وعدم التصديق بالآخرة هو السبب الذي دفع ملأ قريش إلى الولوج في مهالك الاستكبار والعتو والطُّغيان، وإلى اللجوء إلى استخدام كل وسيلة من شأنها تخليد أسمائهم في سجل الطُّغاة الخالد؛ قال تعالى:
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } (2).
و: { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } (3).
فنجد أن عدم الإيمان باليوم الآخر وبالحساب مؤد إلى الاستكبار والطُّغيان وما يترتب على ذلك من نتائج تتمثل في الظُّلم والبغي واستضعاف الآخرين.
__________
(1) الخالدي، صلاح عبدالفتاح، مع قصص السابقين في القرآن الكريم (دمشق: دار القلم، ط1، 1408هـ، 1988م)، ج1، ص107.
(2) سورة الفرقان/21. هذه الآيات تتحدث عن ملأ قريش، ولأخذ صورة أوضح مراجعة سياق هذه الآيات، وسياق الآيات في سورة النحل (الآيات التي قبل وبعد الآية 22).
(3) سورة النحل/22.(1/110)
وقد بين القرآن الكريم أن الذي جعل جهنم مقام الطُّغاة ومأواهم الخالد هو عدم الإيمان باليوم الآخر وبالحساب فقال عز وجل: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } (1).
وقال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفس عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (2).
ومن جانب آخر يبين القرآن الكريم أن الخوف من الحساب واليوم الآخر هو الذي أدخل المؤمن في زمرة عباد الله المتواضعين البعيدين عن الاستكبار والطُّغيان وإن بُغي عليهم، قال تعالى:
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } (3).
أي: عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين ولا متجبرين ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله(4).
__________
(1) سورة النبأ/21-28. ربما يقال إن مفهوم الطُّغيان هنا شامل لكل طغيان. فمما لا شك فيه أن الحاكم الطاغي أولى بالدخول في هذا المفهوم.
(2) سورة النازعات/37-41.
(3) سورة الفرقان/63-66.
(4) الطبري، جامع البيان، ج19، ص33.(1/111)
فهما صورتان؛ صورة المستكبر الطاغي الذي لا يؤمن بالحساب واليوم الآخر، فيصدر منه كل ما تهواه نفسه وشهواته من المنكرات مثل الظُّلم والبغي والعدوان. وفي مقابل ذلك صورة المتواضع الذي يخشى الله والحساب وعذاب جهنم مما أبعده ذلك عن تلك الصفات.
ثانياً: التَّكبُّر والغرور(1)
الإعجاب بالنَّفس والغرور والتَّكبُّر من المهلكات التي تجر الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه. وقد عرف الطُّغاة وعلى مر التاريخ بصفة الغرور والتَّكبُّر، وهذه الصفة هي التي تدفعهم في غالب الأحيان إلى مجاوزة الحد في الظُّلم والبطش والإرهاب.
__________
(1) يقصد بالغرور: إعجاب المرء بنفسه إعجاباً يصل به إلى حد احتقار أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجنب ما يصدر عنه، ولكن دون النيل من ذواتهم، أو الترفع على أشخاصهم.
والتَّكبُّر: إظهار المرء إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم، وينال من ذواتهم، ويترفع عن قبول الحق منهم. انظر، نوح، السيد محمَّد، آفات على الطريق (القاهرة: دار الوفاء، ط3، 1409هـ، 1989م)، ج1، ص142، وج1، ص165-166. بتصرف بسيط.(1/112)
وقد أكثر القرآن الكريم من وصف الطُّغاة بهذه الصفة، وذكر نماذج من غرور هؤلاء وتكبرهم بحيث يصل بهم الأمر إلى ارتكاب ما لا يقدم على فعله إنسان سوي كما كان الحال مع الذي حاج إبراهيم في ربه -نمرود- حينما أقدم على ادعاء ما ليس في مقدوره من الإحياء والإماتة. أو على إيهام الآخرين بأنهم قادرون على الصعود في السموات، وإثبات أنه لا توجد آلهة غيرهم، وهو ما تنقله كتب التَّفسير عن النمرود، بل هو ما صرح به فرعون حينما أصدر الأوامر إلى ساعده الأيمن في الدولة الطاغوتية ببناء صرح ليثبت كذب موسى - عليه السلام -، وأنه لا يوجد هناك إله آخر غيره، وهو ما حكاه القرآن الكريم عنه بقوله: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } (1).
وها هو فرعون مرة أخرى يعلن تملكه لكل شيء في مصر، ويقارن بين نفسه وبين من لا يملك ذلك فينادي بأعلى صوته وعلى الملأ وبنبرة يعلوها الغرور والتَّكبُّر كما حكاه القرآن الكريم عنه: { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } (2).
__________
(1) سورة غافر/ 36-37.
(2) سورة الزخرف/ 51-53.(1/113)
وها هم الناطقون باسم عاد يعلنون عن غرورهم وتكبرهم كما حكى القرآن الكريم عنهم بقوله: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } (1).
وقد وصف القرآن الكريم فرعون وملأه وملأ صالح وملأ شعيب وملأ قريش والسادة بصورة عامة بالتَّكبُّر والاستكبار وفي مواضع عديدة نذكر منها ما يلي:
قال تعالى في بيان استكبار فرعون وملئه وجنوده: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } (2).
وقال تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } (3).
وقال تعالى: { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } (4).
وقال تعالى: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } (5).
وقال تعالى: { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } (6).
__________
(1) سورة فصلت/15.
(2) سورة الأعراف/ 133.
(3) سورة يونس/ 75.
(4) سورة المؤمنون/46-47.
(5) سورة القصص/39.
(6) سورة العنكبوت/38-39.(1/114)
وفي ملأ شعيب، قال تعالى: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (1).
وفي ملأ صالح - عليه السلام - قال تعالى: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } (2).
وقد وصف القرآن الكريم السادة بصورة عامة بصفة الاستكبار: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } (3).
ووصف القرآن الكريم ممثل النُّخبة الطَّاغية من قريش الوليد بن المغيرة بالاستكبار بقوله: { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } (4). حينما أطلق مقولته المعروفة: { فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } (5).
__________
(1) سورة الأعراف/88.
(2) سورة الأعراف/75-77.
(3) سورة غافر/47-48.
(4) سورة المدثر/23.
(5) سورة المدثر/24-25.(1/115)
والغرور والتَّكبُّر يؤديان بالحاكم في كثير من الأحيان إلى محاولة التشبه بالله في صفاته وكما يقول إمام عبدالفتاح: "قد يكون من دوافع الطُّغيان هو رغبة الحاكم في التشبه بالله في صفة من صفاته وهي: أن لا يسأل عما يفعل"(1). ولا شك أن هذا ناتج من شعور الحاكم بالانتفاخ والتَّكبُّر والغرور.
فنجد وبعد أن بينت الآيات استكبار الحكام وغرورهم أو الملأ غالباً ما تختتم بذكر طغيانهم أو مجاوزتهم للحدود، أي إن نتيجة استكبارهم وكما سبق في الآيات السالفة كانت: مجرمون، عالين، قومهما لنا عابدون، لنخرجنكم، لتعودن، أولو كنا كارهين، عقر الناقة، عتوا عتواً كبيراً..الخ من الممارسات الطُّغيانية الناتجة عن الغرور والتَّكبُّر وعدم الإيمان باليوم الآخر وبالحساب.
بل إن فرعون من غروره وتكبره خاطب من حوله بقوله: { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } (2). وكأن خطاب موسى - عليه السلام - غير موجه إليه، وأنه لم يرسل إليه لأنه أكبر من أن تبعث إليه الرسل. وها هو مرة أخرى وقد ابتلع الماء جسمه وما بقي منه إلا الرأس يقول وهو يريد أن يعلن إسلامه ولكن بأسلوبه المتكبر الطاغي فقال: { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } (3). فلم يذكر اسم الله وإنما الإله الذي آمن به الإسرائيليون.
ثالثاً: الاستبداد بالرأي
قال ابن منظور: "استبد فلان بكذا أي انفرد به…يقال: استبد بالأمر يستبد به استبداداً إذا انفرد به دون غيره. واستبد برأيه انفرد به"(4).
__________
(1) إمام، الطَّاغية، ص152.
(2) سورة الشعراء/27.
(3) سورة يونس/90.
(4) ابن منظور، لسان العرب، ج3، ص81.(1/116)
فيعني الاستبداد: الانفراد بالشيء، أو: "ما لا يصح فيه الاشتراك"(1).
والاستبداد بالرأي نتيجة حتمية من نتائج الغرور والتَّكبُّر ولا سيما إذا أضيف إليهما التمكن من السُّلطة فإن الحاكم والحال أنه قد جمع بين الغرور والتَّكبُّر والسُّلطة يرى أن كل ما يصدر عنه صواب وسداد، وأنه لا ينبغي للآخرين إلا الاستسلام والخضوع وتقبل ما ذهب إليه.
فالمغرور كما يقول الصباغ: "رجل يعتقد خطأ أنه لا يساويه أحد في صواب الرأي والتزام الحق. وبذلك فهو يغلق على نفسه كل سُبُل الموعظة والمراجعة والاعتبار"(2). فكيف بالحاكم المغرور؟
لذا نجد فرعون موسى وكل فرعون وطاغية من بعده يصف ما يصدر عنه بأنه الحق والصواب وأنه سبيل الرشاد، وما عداه خطأ وضلال وباطل. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عن فرعون بعد أن ملأ الغرور والتَّكبُّر كل جوارحه، فقال وبعد أن سمع نصيحة الرجل المؤمن: { يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } (3).
__________
(1) الطبري، أحمد بن عبدالله بن محمَّد (ت694هـ)، الرياض النضرة في مناقب العشرة، تحقيق: عيسى عبدالله محمَّد مانع الحميري (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1996م)، ج2، ص224.
(2) الصباغ، محمَّد بن لطفي، الإنسان في القرآن الكريم (بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1413هـ، 1992م)، ص304.
(3) سورة غافر/29. وما أكثر مثل هذه الشعارات في عالم اليوم، فإذا قال الرئيس قال الشعب.(1/117)
فحصر فرعون الرشد والرشاد في نفسه وفي رأيه، وأن ما يختاره هو الصواب والرشاد وما عداه مجانب لذلك، وإن توفر في الرأي الآخر الإخلاص والصدق كما كان الحال مع مؤمن آل فرعون. مع أن الحقيقة ليست كذلك فالمستبد برأيه في الغالب غير موفق للصواب في الأمر لذا جاء الندب في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على الاستشارة والمشاورة -وهو ما سيأتي فيما بعد- وذلك لما للاستبداد بالرأي من آثار سيئة تعود على نفس الحاكم، وتؤدي في نهاية المطاف إلى طغيانه، وفرض كل ما يراه على الآخرين، واعتباره صواباً ورشداً. وهذا ما تبينه الآية الآتية من أن المستبد غير موفق للرشاد، قال تعالى؛ { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } (1).
لكن على الرغم من ذلك فإن فرعون هو الزعيم، وإذا قرر الزعيم أمراً كما يقول الشيخ القرضاوي: "فليس لأحد من حق أن يسأله: لم؟ بله أن يقول له: لا، فليس في الشعب أحد مثله ذكاء وعقلاً، وشفافية قلب، وحسن إدراك للعواقب، وإحاطة بالأمر من جميع الجوانب، فهو العلامة في كل فن، والفهامة في كل شيء، وأما من حوله فمهمتهم أن يؤمنوا إذا دعا، وأن يصدقوا إذا ادّعى. من اجترأ واعترض فيا ويله ماذا يلقى، لأنه باعتراضه يصبح عدو الحُرِّيَّة، ولا حرية لأعداء الحُرِّيَّة"(2).
__________
(1) سورة هود/96-97.
(2) القرضاوي، يوسف، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي (القاهرة: دار الصحوة، ط1، 1408هـ، 1988م)، ص138-139.(1/118)
بل إن الحاكم إن تردد في رأيه فالرَّعيَّة ولا سيما البطانة تزين له رأيه، وأن ما قاله الحاكم إنما هو عين الصواب لا غير، مما يدفعونه إلى الاستبداد برأيه والى الإعجاب بما يصدر عنه(1)، قال بعض الحكماء: "الذي يحدث للملوك التيه في أنفسهم والإعجاب بآرائهم، كثرة ما يسمعونه من ثناء النَّاس عليهم. ولو أنهم أنصفوهم أو صدقوهم عن أنفسهم، لأبصروا الحق، ولم يخف عليهم شيء من أنفسهم"(2).
وبما أن الحاكم هنا يمتلك من وسائل القوة والإجبار فإنه يستخدمها من أجل ترجمة استبداده برأيه إلى واقع عملي، ولذا يسمى أمثال هؤلاء المستبدين بالطُّغاة، وتوصف حكوماتهم بالحكومات الطَّاغية لإساءتهم استخدام سلطانهم من أجل إجبار الآخرين وحملهم على ما يذهب إليه شخص الحاكم الطاغي أو المؤسَّسة الطاغوتية.
يقول سيد قطب رحمه الله معقباً على رد فرعون على كلام الرجل المؤمن: "هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان: قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً، وأعتقده نافعاً. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطُّغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!"(3).
رابعاً: هوى النَّفس
المقصود بهوى النَّفس: السير وراء ما تهوى النَّفس وتشتهي، أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل، أو رجوع إلى شرع، أو تقدير لعاقبة(4).
__________
(1) سيأتي الحديث عن دور البطانة والرَّعيَّة في ذلك فيما بعد.
(2) ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، ج1، ص523.
(3) قطب، في ظلال القرآن، مج5، ج24، ص3080.
(4) انظر، نوح، آفات على الطريق، ج2، ص33.(1/119)
قال تعالى: { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفس عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (1).
يقول الإمام الرَّازي: "واعلم أن هذين الوصفين مضادان للوصفين اللذين وصف الله أهل النار بهما، فقوله (وأما من خاف مقام ربه) ضد قوله (فأما من طغى)، وقوله (ونهى النَّفس عن الهوى) ضد قوله (وآثر الحياة الدنيا)، وأعلم أن الخوف من الله لابد وأن يكون مسبوقاً بالعلم بالله على ما قال { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (2)، ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى، لا جرم قدم العلة على المعلول"(3).
يقول سيد قطب رحمه الله: "ونهي النَّفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطَّاعة. فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية. وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى. فالجهل سهل علاجه. ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النَّفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة. وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى. ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة"(4).
__________
(1) سورة النازعات/36-41.
(2) سورة فاطر/28.
(3) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (طبعة دار الفكر)، ج31، ص52.
(4) قطب، في ظلال القرآن، ص3819.(1/120)
فاتباع هوى النَّفس يؤدي بالإنسان إلى المروق من طاعة الله سبحانه وتعالى، وذلك لسيطرة هواه عليه إلى درجة يصير معها عبداً خاضعاً له، قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } (1). بل يتعدى الأمر ذلك إلى مخالفة ورفض كل ما يخالف هواه وإن كان أمراً من خالقه وذلك لأن: "صاحب الهوى، أو المتبع لهواه يعزّ عليه بل يكبر في نفسه أن يطيع غيره، خالقاً كان هذا الغير أو مخلوقاً، بسبب أن هذا الهوى قد تمكن من قلبه، وملك عليه أقطار نفسه، فصار أسيراً لديه"(2).
ويجر الهوى صاحبه إلى ارتكاب الفواحش والذنوب وإلى ظلم الآخرين وهذا ما بينه القرآن الكريم بقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } (3). فاتباع الهوى دعاهم إلى الاستكبار وإلى الطُّغيان فكذبوا الرسل والأنبياء وقتلوهم.
__________
(1) سورة الجاثية/23.
(2) نوح، آفات على الطريق، ج2، ص43.
(3) سورة البقرة/87.(1/121)
فعندما يصل الحاكم إلى هذه المرتبة لا يرى فيما يفعله من الذنوب والآثام، وما يمارسه من السياسة الظالمة تجاه الرَّعيَّة من عيب أو حرج، وهو مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما وصف نظرة المؤمن والفاجر إلى الذنوب بقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا قال أبو شهاب بيده فوق أنفه)(1)، عندها لا ينفع معه النصح والإرشاد غالباً حيث سيكون عندئذٍ قد غاص في وحل الطُّغيان إلى شحمة الأذنين. وسيحاول وبسبب السُّلطة إلى إعلان نفسه وهواه إلهاً على الآخرين وهو ما يفعله الطُّغاة على مدار التاريخ.
ولما كان اتباع الهوى بهذه الخطورة شدد القرآن الكريم في أمر القائم على الحكم بعدم اتباع الهوى لأن ذلك مؤد إلى الظُّلم والضلال والاستكبار سواء هوى الحاكم أو هوى الملأ أو هوى الرَّعيَّة.
قال تعالى: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (2).
وقال تعالى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (3).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج5، ص2324. باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، رقم: 5949.
(2) سورة ص/26.
(3) سورة الشُّورى/15.(1/122)
فعدم اتباع الهوى يؤدي إلى العدل لأنه باتباع الهوى يستحيل إقامة العدل. وتبين الآيات أن هناك علاقة قوية بين الإيمان بالآخرة والحساب وبين مسألة عدم اتباع الهوى. فقد بينت آية سورة ص أن اتباع الهوى مؤد إلى الضلال، والضالون هم الذين نسوا يوم الآخرة والحساب. ثم تبين آية الجاثية أن على الحاكم الالتزام بالدستور الذي هو الشريعة، وأن لا يتبع أهواء العامة أو الخاصة: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (1). وقال تعالى: { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لَفَاسِقُونَ } (2).
وكل هذا التشديد وكل هذه الأوامر والنواهي إنما هي لتقييد سلطات الحاكم(3)، ومنعه من اتباع هواه الذي يدفعه إلى الطُّغيان والظُّلم والبغي على الآخرين.
خامساً: الملك والحرص عليه
حب الملك والبقاء فيه لأطول فترة ممكنة غريزة لدى الإنسان حيث يجمع له بالملك كل ما يريده من العلو والجاه والمال وما إلى ذلك من شهوات الدنيا التي جبل الإنسان على حبها والانجذاب نحوها بشدة. يقول ابن خلدون: "إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النَّفسانية فيقع فيه التنافس غالباً، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه، فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة"(4).
__________
(1) سورة الجاثية/18.
(2) سورة المائدة/49.
(3) سيأتي الحديث في الباب الأخير حول سُبُل تقيد سلطات الحاكم ومنعه من ممارسة الطُّغيان.
(4) ابن خلدون، عبدالرحمن، مقدمة ابن خلدون (بيروت: دار القلم، ط5، 1984م)، ج1، ص154.(1/123)
لذا فقد حاول إبليس الدخول إلى العالم البشري وإخراجه من مساره من هذا الباب، حينما أزل آدم - عليه السلام -، وجعله يأكل الممنوع، وقد أفصح عن ذلك سيد قطب بقوله: "بذلك داعب -إبليس- رغائب الإنسان الكامنة أن يكون خالداً لا يموت أو معمراً أجلاً طويلاً كالخلود! ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد…وفي قراءة (ملِكين) بكسر اللام(1) وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى } (2) وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد، والعمر الخالد، وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال: إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهود الخلود بالاقتداء في النسل جيلاً بعد جيل -وعلى قراءة ملَكين- بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود. ولكن القراءة الأولى –وإن لم تكن هي المشهورة- أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر،
__________
(1) يقول الإمام الشوكاني: "وقد اختلف النَّاس في هذه المسألة اختلافاً كثيراً وأطالوا الكلام في غير طائل، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه فالكلام فيها لا يعنينا. وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك (ملكين) بكسر اللام، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة. وقال: لم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين، وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى: (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)، قال أبو عبيد: هذه حجة بينة لقراءة الكسر، ولكن النَّاس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: هي قراءة شاذة، وأنكر على أبي عبيد هذا الكلام، وجعله من الخطأ الفاحش، قال: وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أن يصل إلى أكثر من ملك الجنة، وهى غاية الطالبين، وإنما معنى وملك لا يبلى: المقام في ملك الجنة والخلود فيه". الشوكاني، فتح القدير، ج2، ص195.
(2) سورة طه/120.(1/124)
ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصلية"(1).
وقد قال الإمام ابن جرير الطبري: "وملك لا يبلى إن أكلت منها كنت ملكاً مثل الله، أو تكونا من الخالدِّين فلا تموتان أبداً"(2).
يقول المدرسي: "إن في كل نفس بشر (يد طاغوت) صغير خفي، فإن أعطي الإنسان منصباً وغرته الحياة الدنيا، وتوفرت له الشروط، فإن ذلك الطاغوت الصغير سيظهر إلى حيز الوجود، ويصبح فرعوناً طاغياً"(3).
وقد ذكر القرآن الكريم صراحة أن إيتاء الملك دفع نمرود إلى الطُّغيان، ومجاوزة الحد بأن أعلن الرُّبُوبيَّة، وما لا يقدر عليه من الإحياء والإماتة المختصين بالله سبحانه وتعالى، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (4).
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن، ج8، ص1296.
(2) الطبري، جامع البيان، ج16، ص223.
(3) المدرسي، السيد محمَّد تقي الدِّين، العمل الإسلامي منطلقاته وأهدافه (د. م: المركز الثقافي الإسلامي، ط1، د. ت)، ج2. انظر:
http://www.almodarresi.com/books/607/gz0wpjuo.htm.
(4) سورة البقرة/258.(1/125)
يقول الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الآية: "أن آتاه الله الملك أي: لأن آتاه الله الملك فطغى، أي: كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه"(1). وقال الإمام الرَّازي رحمه الله: "حاج إبراهيم في ربه: لأجل أن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك"(2).
فالحرص على كرسي الحكم كثيراً ما يدفع الإنسان إلى ارتكاب كل قبيحة تضمن له البقاء لمدة أطول عليه. وهذا ما دفع فرعون وملأه إلى رفض دعوة موسى - عليه السلام - واتهامه بأنه طالب حكم وسلطان، وإلى التَّهديد بالقتل وغيره، حيث يتم تفسير كل دعوة إصلاحية في المجتمع الطاغوتي بأنها دعوة إلى الانقلاب على نظام الحكم. قال تعالى حكاية عن فرعون وملئه: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } (3). أي: تكون لكما العظمة والملك والسلطان.
__________
(1) البغوي، معالم التنزيل، ج1، ص241.
(2) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي، ج7، ص24. وانظر، ابن الجوزي، زاد المسير، ج1، ص560، وج3، ص16. البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج1، ص559. الشوكاني، فتح القدير، ج1، ص277. النسفي، مدارك التنزيل وحقائق التَّأويل، ج1، ص26. ابن الجوزي، تذكرة الأريب في تفسير الغريب (د. م: د. ن. ط. ت)، ج1، ص80.
(3) سورة يونس/78.(1/126)
وقد ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة في أن الذي دفع النمرود وغيره للوصول إلى درجة الطُّغيان وادعاء الرُّبُوبيَّة هو الحرص على كرسي الحكم، وطول البقاء أو المكث في السُّلطة، من هذه الأقوال: ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "ومعنى قوله: (ألم تر). أي: بقلبك يا محمَّد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، أي: وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: ما علمت لكم من إله غيري، وما حمله على هذا الطُّغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه، ولهذا قال: أن أتاه الله الملك"(1).
وقد سبقه إلى ذكر ذلك الإمام الطبري رحمه الله بقوله: "وكان جباراً أربعمائة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله وهو الذي بنى صرحاً إلى السماء، فأتى الله بنيانه من القواعد"(2).
__________
(1) ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، ص314. وهذه الروايات المنقولة في كتب التَّفسير، والتي تفيد بأن الملك الفلاني قد حكم أربعمائة سنة لا يمكن التأكد من صحتها ولا سيما أن الرقم نفسه قد تكرر مع أكثر من واحد. فإضافة إلى نمرود فقد ذكر الرقم مع فرعون أيضاً كما يذكر ذلك عامة المفسِّرين، انظر، الطبري، جامع البيان، ج1، ص272. وكذا ذكر الرقم مع تبع الأول، انظر ذلك في: المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر (د. م: دار الكتاب اللبناني –مكتبة المدرسة، ط1، 1982م، 1402م)، ج1، ص392. ثم نفس الرقم ذكروه لمدة بقاء البعوضة في خيشم نمرود، انظر، الطبري، جامع البيان، ج1، ص113، وكذا ذكر نفس الرقم مع: مدة بناء نوح عليه السلام للسفينة، انظر، الطبري، تاريخ الطبري، ج1، ص172-173، وغير ذلك.
(2) الطبري، مرجع سابق، ج3، ص26، و: ج14، ص97. الشوكاني، فتح القدير، ج2، ص278.(1/127)
ويمكن القول هنا أن كل العوامل المذكورة هنا -والتي ستأتي أيضاً- تصب في صالح هذه المسألة وتعد عوامل مساعدة لإبقاء الحاكم في منصبه لأطول فترة ممكنة. وأن محاولة إطالة أمد حكمه هي الغاية والهدف الأساسي وراء كل ما يتخذه الحكام من وسائل قمعية. فالطُّغيان ليس له غاية سوى الحفاظ على الكرسي لأطول فترة ممكنة.
وبما أن الملك مظنة العلو والطُّغيان والابتعاد عن التفكير المتزن السديد، نجد سليمان - عليه السلام - يخاطب ملكة سبأ بعد البسملة مباشرة بقوله: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } (1).
والملك كما سبق مظنة الطُّغيان إن لم يقترن بالحكمة لذا نجد أن القرآن الكريم قرن ذكر الملك بالحكمة، قال تعالى: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (2). فغياب الحكمة عن الحاكم يخرجه عن جادة الصواب، ويدخله في متاهات الطُّغيان، وإن كان الحاكم مسلماً مؤمناً، والتاريخ خير شاهد على ما نذكره من وصول كثير من الحكام المسلمين إلى مرتبة الطُّغيان والاستبداد.
__________
(1) سورة النمل/30-31.
(2) سورة البقرة/251.(1/128)
وبخلاف ذلك فإن اتصاف الحاكم بالحكمة يبعده عن الطُّغيان والاستبداد، وإن كان الحاكم كافراً مشركاً بالله تعالى، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم بصراحة من خلال نموذج ملكة سبأ، فرغم كفرها وشركها بالله سبحانه فقد اتصفت بالحكمة مما أبعدها عن الطُّغيان والاستبداد في ممارسة الحكم. فها هي تشرك غيرها في الأمر، ولا تتخذ القرارات لوحدها. فلم يصدر عنها ما صدر عن فرعون موسى والفراعنة من بعده: { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } (1). وإنما قالت: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } (2).
وبحكمتها فقد فطنت إلى أن الملك إن لم يقترن بالحكمة والعدل مؤدٍ إلى الظُّلم والطُّغيان، وإلى استعباد وتذليل الآخرين، والإفساد في الأرض، لذا أفصحت للملأ عن طبيعة الملك والملوك كما نقله القرآن الكريم حكاية عنها: { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } (3).
فالعلو والتسلط والإفساد في البلاد من أوصاف الطُّغاة. لذا وصف الله عباده المخلصين بأنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (4). فكأن حب العلو الذي هو كناية عن الملك والتجبر والتسلط والاستكبار مؤد إلى الفساد الذي هو وصف معروف للطغاة.
__________
(1) سورة غافر/29.
(2) سورة النمل/32.
(3) سورة النمل/34.
(4) سورة القصص/83.(1/129)
يقول الإمام البيضاوي في تفسير الآية: "نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض غلبة وقهراً. ولا فساداً: ظلماً على النَّاس كما أراد فرعون وقارون"(1). ويشير أبو السعود إلى المعنى نفسه بقوله: "لا يريدون علواً في الأرض أي: غلبة وتسلطاً. ولا فساداً أي: ظلماً وعدواناً على العباد كدأب فرعون وقارون"(2).
فعلى من أراد أن يكون من أهل تلك الديار يوم الآخرة أن يبتعد عن أوصاف الطُّغاة التي هي حب العلو والتسلط على رقاب النَّاس بغير الحق وما يترتب على ذلك من الطُّغيان والإفساد في البلاد، وهذا واضح جلي لكون الآية وردت بعد ذكر القرآن الكريم لمصائر عدد من الطُّغاة على رأسهم فرعون وملؤه المستكبر، ومنه قارون. فالمؤمن لا بد أن يتخلى عن هذه الأوصاف المذمومة حتى يكون من أهل تلك الديار والجنان.
وبعد أن سرد أفلاطون شتى أنواع الرذائل التي يتصف بها الطَّاغية ذكر دور السُّلطة في طغيانه وهو على شكل محاورة: "ولكن ألا ينبغي أن نعزو إليه، بالإضافة إلى ذلك تلك الشرور التي تحدثنا عنها من قبل، وهي أن السُّلطة تنمي كل مساوئه، وتجعله أشد حسداً وغدراً وظلماً، وأقل أصدقاء، وأشد فجراً، وأمعن في احتضان كل الرذائل. كل ذلك يجعل منه أتعس النَّاس قاطبة، بل إن تعاسته هذه تفيض أيضاً على كل من يحيط به"(3).
سادساً: الشُّعُور بالاستغناء عن الآخرين
هناك عوامل كثيرة تجعل الطَّاغية يصل إلى درجة يشعر معها أنه قد استغنى عن الآخرين، لذا فهو لا يرى إلا نفسه، وينظر إلى الآخرين نظرة السيد لعبيده، والمالك لمملوكه. ومن الأمور التي تجعل الطَّاغية يصل إلى هذه الدرجة الثروة، قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } (4).
__________
(1) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج4، ص305.
(2) أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج7، ص27.
(3) انظر، ابن رشد، الضروري في السياسة، ص331.
(4) سورة العلق/6-7.(1/130)
والثروة بحد ذاتها ليست سبباً من أسباب الطُّغيان، سواء طغيان الحاكم أو طغيان الإنسان العادي. وإنما الذي يجر الإنسان إلى الطُّغيان، هو وصوله إلى درجة يشعر معها أنه قد استغنى، أو وصل إلى درجة الاستغناء عن كل من حوله بل حتى عن الله سبحانه وتعالى، لذا جاء التعبير القرآني دقيقاً في ذلك فقال تعالى: (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى). ولم يقل إن استغنى أو أصبح غنياً، والواقع يدل على أن الغنى أو الثروة بذاتها لا تؤدي إلى الطُّغيان.
وهذا ما أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: "فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إليه دون ما سواه، فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ولم يقل: إن استغنى بل جعل الطُّغيان ناشئاً عن رؤيته غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل قال: { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (1)، وهذا والله أعلم لأنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه، وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته"(2).
__________
(1) سورة الليل/8-10.
(2) ابن القيم، محمَّد بن أبي بكر (ت751هـ)، طريق الهجرتين وباب السعادتين، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر (الدمام: دار ابن القيم، ط2، 1414هـ، 1994م)، ج1، ص32.(1/131)
والثروة تعتبر وسيلة لتمكين الطُّغيان في الواقع، وتنفيذ السياسات الظالمة القائمة على القمع والإجبار، فها هو موسى - عليه السلام - يلفت الأنظار إلى ثروة فرعون وملئه، ودورها في طغيانهم وترسيخ الضلال بين الرَّعيَّة، قال تعالى: { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } (1).
وإذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة فإنه يوظف تلك الأموال في سبيل ممارسة طغيانه وتثبيته، قال تعالى حكاية عن فرعون: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (2)، ويصل به الأمر إلى أن لا يرى غير نفسه. وكما كان الحال مع قارون حيث وظف أمواله للبغي، قال تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } (3)، والبغي هو الطُّغيان والظُّلم والعدوان.
__________
(1) سورة يونس/88.
(2) سورة الزخرف/51-54.
(3) سورة القصص/76.(1/132)
لذا جاء النهي لبني إسرائيل عن الطُّغيان بسبب المال لما فتح الله عليهم أبواب الرزق، وهو نهي لمن بعدهم كذلك قال تعالى: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ } (1).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "ولا تطغوا فيه، أي: لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا لأن الطُّغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل المعنى أي: لا تكفروا النعمة، ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم"(2).
فالثروة لا تؤدي إلى الطُّغيان إلا إذا اعتقد الإنسان وظن أنه:
- هو المالك والكاسب الحقيقي لها كما قال فرعون: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } (3)، وكما قال قارون: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ } (4).
- أو إذا وصل في قرارة نفسه إلى درجة الاستغناء أي الشُّعُور بالاستغناء عن كل من حوله بل وحتى عن الله سبحانه وتعالى بحيث يرى أنه قد استغنى.
ومن الأمور التي تؤدي إلى الوصول إلى تلك الدرجة –الشُّعُور بالاستغناء عن الآخرين- امتلاك القوة، ولا سيما القوة العسكريَّة، كما كان الحال مع قوم عاد قال تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } (5).
__________
(1) سورة طه/81.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص230.
(3) سورة الزخرف/51.
(4) سورة القصص/78.
(5) سورة فصلت/15.(1/133)
وفي ختام المبحث نشير إلى أن الدَّوافع الذَّاتيَّة السالفة لا يمكن أن تؤدي وحدها إلى طغيان الحاكم أو المؤسَّسة الحاكمة إلا إذا اجتمع إليها الدَّوافع الخارجيَّة التي توفر المناخ المناسب والبيئة الصالحة للطغيان وهو ما سيدور الحديث عنه في المبحث الآتي.
المبحث الثَّاني
الدَّوافع الخارجيَّة
بقراءة الآيات القرآنية التي تحدثت عن الطُّغيان والطُّغاة بصورة عامة يمكن أن نستنبط ونستخلص مجموعة من الدَّوافع الخارجيَّة التي تدفع الحاكم أو أشراف القوم (النُّخبة) إلى الطُّغيان، أوجزها فيما يأتي:
أولاً: تملُّق البطانة ونفاقها
تملُّق البطانة ونفاقها كثيراً ما يدفع الحاكم إلى الغرور والاستبداد برأيه ثم إلى الطُّغيان ومجاوزة الحدود حيث يجد تأييداً مطلقاً من البطانة المنافقة لمواقفه استرضاءً له. عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى"(1).
وفي المستدرك على الصحيحين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، من يوق بطانة السوء فقد وقي"(2).
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح المختصر، ج6، ص2632. باب: بطانة الإمام وأهل مشورته. رقم الحديث: 6773.
(2) قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه". انظر، الحاكم، محمَّد بن عبدالله (ت405هـ)، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1411هـ، 1990م)، ج4، ص145، رقم: 7178. وانظر بنفس اللفظ في، الترمذي، سنن الترمذي، ج4، ص583، قال أبو عيسى: " هذا حديث حسن صحيح غريب".(1/134)
فبطانة السوء هي التي تتملُّق وتنافق الحاكم، والمقصود بتملُّق البطانة ونفاقها: تقرب الإنسان إلى ذوي السُّلطة بما يغضب الله ويرضيهم، كمدحهم بما ليس فيهم، والتذلل لهم لتحقيق هدف نفعي هو في الغالب جمع المال أو إحراز الجاه أو كلاهما، أي إن الدافعين الأساسيين لهذا النوع هما: الطمع والخوف أو الرغبة والرهبة(1). فتزين للحاكم ما يقوم به من أعمال وإن كانت غير صائبة.
يقول العطار: "وأكثر ما تتقرب بطانة السوء إلى الحاكم بالثناء عليه، وتزيين أعماله وتقديم الهدايا له، لتظفر منه على موافقته على مآرب غير مشروعة، أو تجعله يغض الطرف عن مفاسدهم، واستغلال نفوذهم"(2).
فهذا التملُّق والنِّفاق كما سبق قائم ومبني على أساس حب المناصب والثروة. وقد أوضح القرآن الكريم ذلك بعبارة وجيزة -وهو ما سنشير إليه فيما بعد في الأساليب- في قصة السحرة عندما قالوا لفرعون: { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ } (3). وفي سورة الشعراء: { فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ } (4).
__________
(1) غراب، أحمد عبدالحميد، الشخصية الإنسانية في ضوء القرآن الكريم (د. م: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د. ط، 1985م)، ص155، بتصرف بسيط.
(2) العطار، عبدالناصر توفيق، دستور للأمة من القرآن والسنة (القاهرة: مؤسسة البستاني للطباعة، د. ط. ت)، ص200.
(3) سورة الأعراف/113-114.
(4) سورة الشعراء/41-42.(1/135)
فالأجر والتقرب هما الدافعان لهذا التملُّق والنِّفاق. لذا فقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه)(1).
إضافة إلى أن الخوف من الموت أو القتل كثيراً ما يؤدي بالبطانة إلى السكوت لأن أي اعتراض معناه الإعدام والقتل، كما كان الحال مع مؤمن آل فرعون فرغم تلطفه في النصيحة وإبداء حرصه على مصلحة فرعون وآله إلا أنه انتهى به الحال إلى الموت، فما بالك بمصير من لا يكون من آل الطَّاغية.
فإضافة إلى الأوصاف التي سبق ذكرها في الباب الأول للبطانة السيئة أشير إلى تملُّق البطانة السيئة ونفاقها مع الطَّاغية، بإيجاز فيما يأتي(2):
- البطانة ليست لها شخصية
مما يدل على أن بطانة الحاكم لا شخصية لها، وصف القرآن الكريم لها بأنها طبقة مُتَبِّعة، قال تعالى: { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } (3). ولفظ اتبعوا يشعر بأنه اتباع من غير بيان أو رشاد أو بحث، وأن صاحب هذا الاتباع ليس له شخصية حقيقية.
__________
(1) قال أبو عيسى: "حديث حسن صحيح". الترمذي، سنن الترمذي، ج4، ص588، رقم: 2376.
(2) وتلك الآيات هي: سورة الزخرف/46، سورة القصص/32، سورة الأعراف/103، سورة يونس/75، سورة المؤمنون/46، سورة الشعراء/25، سورة القصص/38، سورة هود/97، سورة القصص/20، سورة الأعراف/109، سورة الأعراف/127، سورة يونس/83، سورة يونس/88.
(3) سورة هود/97-98.(1/136)
وقد أهملت الآية ذكر الملأ أو البطانة في القيامة لأنهم لم يكونوا إلا أفراداً أذلاء، وأن فرعون كان هو الحاكم الفعلي والحقيقي، لذا فليس لها إلا الاقتحام في صفوف العامة والسير وراء الطَّاغية إلى جهنم حين يجتمع الطُّغاة ولأول مرة وفي أكبر حفل من نوعه، ولكن ليس لتبادل الخبرات والمعلومات ووضع الخطط المشتركة لمكافحة المصلحين والدُّعاة، وإنما لينالوا حق طغيانهم وظلمهم وتجبرهم.
بل إن بعض الآيات القرآنية أهملت حتى تسميتها بالملأ أو بأي اسم آخر وسماها بـ(من حول الملك)، وفي هذا تهميش لها ولدورها، قال تعالى عن فرعون: { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } (1) فظهر جلياً أن دور البطانة هنا لا يتجاوز دور الحراس أو الكراسي المحيطة بالحاكم للزينة والديكور، وأن كل ما عليها إنما هو تزيين مجلس الطَّاغية بالجلوس حوله، والاستماع إليه، وتحريك الرأس والعينين كلما نطق الحاكم، والتصفيق له والنداء باسمه. بل كما يظهر من الآية فإنه لا يحق لها في أغلب الأحيان حتى السخرية والاستهزاء بالمعارضة إلا أن يأذن لها الطَّاغية، وبنبرة تفهم منها أنه الآن يحق لها المشاركة في الاستهزاء بالمعارضة (أَلَا تَسْتَمِعُونَ)؟ فعليهم الاستماع لا أكثر، أما أن يقول لهم الطَّاغية وعلى وجه الحقيقية: ماذا تقولون؟ فهذا ما لا مكان له في مجلس الطَّاغية.
يقول الكواكبي: "المستبد لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم كأنموذج البائع الغشاش على أنه لا يستعملهم في شيء من مهامه فيكونون لديه كمصحف في خمارة، أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحياناً بعضهم في بعض الشؤون تغليطاً لأذهان العامة في أنه لا يتعمد استخدام الأراذل والأسافل فقط، ولهذا يقال دولة الاستبداد دولة بُلْهٍ وأوغاد"(2).
__________
(1) سورة الشعراء/25.
(2) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص466.(1/137)
- البطانة تردد كالببغاء ما يقوله الطَّاغية
يبين القرآن الكريم أن البطانة في السُّلطة التي يقف على رأسها الطَّاغية ليس لها إلا ترداد وتكرار ما يتلقفونه من عبارات من فِي الطَّاغية المبارك. فلا يتجاوز دورها دور الببغاء. وبهذا المعنى لن نقف طويلاً لمعرفة سر تكرار المقولة نفسها مرة على لسان فرعون ومرة على لسان الملأ وأخرى على لسان السحرة. وهذا واضح من الآيات القرآنية الآتية، ففي سورة الشعراء نقل القرآن الكريم حكاية عن فرعون قوله:
{ قَالَ لِلْملأ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(1) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } (2).
ونقرأ في سورة الأعراف قوله تعالى حكاية عن بطانة فرعون:
__________
(1) يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "وتلك شنشنة الطُّغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر. ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام، ويتظاهرون بالشُّورى في الأمر، وهم كانوا يستبدون بالهوى، ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون!". قطب، في ظلال القرآن، ص2594.
(2) سورة الشعراء/34-38.(1/138)
{ قَالَ الْملأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } (1). فالكلام هو هو لم يتغير، التهمة نفسها، والألفاظ والكلمات نفسها.
وهو نفس ما ردده السحرة الجهاز الإعلامي القائم على إلهاء النَّاس، وإضلال الرأي العام، وتشويه الحق وتزيين الباطل وأهله، فينقل القرآن حكاية عنهم: { فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى } (2). فيظهر جلياً مما سبق أن البطانة ما هي إلا اسم بلا مسمى.
- البطانة طبقة فاسقة ومفسدة ومجرمة
أشار القرآن الكريم في عدد من الآيات إلى أن الملتفين حول الطَّاغية لا يقلون عنه إجراماً وفساداً وفسقاً، فقلما يجلس حول الطَّاغية ويمشي وراءه من هو عزيز النَّفس، والآيات التي تبين هذه الحقيقة هي، قال تعالى:
__________
(1) سورة الأعراف/109-113. وقوله تعالى: (فماذا تأمرون)؟: يعني ماذا ترون؟ وبماذا تشيرون؟ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ذهب بعض المفسرين إلى أنها من كلام الملأ، وقال آخرون: إن كلام الملأ قد تم عند قوله تعالى: (يريد أن يخرجكم من أرضكم)، فرد فرعون: (فماذا تأمرون)؟ قالوا: أرجه. وقد ذهب إلى هذا أيضا أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى. انظر، المودودي، فرعون في القرآن، ص24.
(2) سورة طه/62-64.(1/139)
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (1).
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } (2)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (3). فالآيات لم تفرق بين فرعون وبين ملئه، فالكل: فاسقون، مجرمون، مفسدون.
والمتصفون بهذه الأوصاف المذمومة هم الذين يلتفون حول الطَّاغية، ويزينون له كل ما يقوم به من الأعمال الإجرامية. لذا يجد الطَّاغية منهم دفعاً قوياً نحو مزيد من الطُّغيان والبغي. وهو بدوره يفضل أمثال هؤلاء ويقربهم.
يقول أحمد غراب: "أما في الحياة السياسيَّة فهناك علاقة وثيقة بين النِّفاق والاستبداد السِّياسيّ، ومن أهم الظواهر المرتبطة بطغيان الحكام المسلمين اليوم(4) إبعاد ذوي الخلق والكفاءة والإخلاص في النصيحة، وتقريب المنافقين الذين يجيدون المدح الكاذب والتملُّق الرخيص"(5).
__________
(1) سورة القصص/32.
(2) سورة يونس/75.
(3) سورة الأعراف/103.
(4) هذه ظاهرة عامة غير مختصة بحكام المسلمين اليوم، وكان هذا الأمس وهو كائن اليوم وسيكون في المستقبل.
(5) غراب، الشخصية الإنسانية في ضوء القرآن، ص162.(1/140)
وبما أن النِّفاق والتملُّق أمر لا تستسيغه النفوس النقية فإن الطَّاغية يتوجه إلى انتقاء المفسدين أمثاله ويقربهم إليه: "ليكونوا له أصدقاء فهم عبيد النِّفاق والتملُّق والطَّاغية تسره المداهنة، وينتشي من النِّفاق، ويريد من يتملُّقه، ولن تجد إنساناً حراً شريفاً يقدم على مثل هذا العمل، فالرجل الخير يمكن أن يكون صديقاً، لكنه لا يمكن تحت أي ظرف أن يكون مداهناً أو متملُّقاً. أما الرجل السيئ فليس لديه الاستعداد للقيام بهذا الدور فحسب وإنما نراه يسعى إليه، إنه: أداة حسنة لأغراض شريرة "(1).
يقول الكواكبي: "الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع؛ ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أو خنازير، آبائهم أو أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته"(2).
- البطانة تقوم بترغيب وترهيب الطَّاغية
__________
(1) Aristotle, (1988). The Politics. Edited by; Stephen Everson. New York: Cambridge University press. p. 137. & Robert P. Gwinn (1990). The Great Books of the Western World (Aristotle: II). 2nd edition. U. S. A. Vol.8. p.516.
وانظر: إمام، الطَّاغية، ص147.
(2) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص470.(1/141)
بما أن البطانة تتقرب إلى الحاكم من أجل مصالح شخصية، فإنها ولتحقيق منالها تظهر نفسها بمظهر الحريص على مصلحة الطَّاغية وحكمه من خلال ترغيبه في اتخاذ خطوات صارمة وظالمة تجاه المصلحين ودعاة الحُرِّيَّة، وترهيبه وتخويفه من كل صوت يعلو ولو كان صوت الحق والعدل. فالبطانة لها دور خبيث في تخويف الحاكم من كل ما حوله حتى من أقرب المقربين إليه.
فها هي البطانة ترهب وتخوف فرعون من دعوة الحق والحُرِّيَّة وتحرضه لاتخاذ إجراءات قمعية ظالمة بقولها: { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } (1).
وحتى إذا أراد الطَّاغية أو الحاكم التراجع عن سياساته الظالمة أو التخفيف منها أو تأييد الدعوات الإصلاحية الجديدة، فإنه يخاف من ملئه أو من بعض أفراده، بأن يقوم بتدبير مكر وينقض على حكمه ويحل محله على كرسي الحكم. أو يتكبر في حالات أخرى ويخاف من كلام الأشراف أمثاله(2).
ففي قصة الغلام والساحر يحرض الملأ الملك على استخدام البطش والقوة لإكراه المؤمنين: (فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن النَّاس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها)(3).
__________
(1) سورة الأعراف/127.
(2) وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان. فقال: لا تفعل بعد أن كنت مالكاً تصير مملوكاً، وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص201. وسواء صحت هذه الروايات أم لا. فإنها تعبر عن طبيعة بطانة السوء بالأمس واليوم وغد.
(3) مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص2299-2300. باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام.(1/142)
يقول هشام صقر معقباً على كلام البطانة وتحريضها للملك في قصة الغلام والساحر: "إن الحاشية وبطانة السوء تعمل دائماً لمصالحها الشخصية لا لمصلحة الشعب أو البلاد أو حتى الملك نفسه، فهي تحرص أن تكون طبقة عازلة بين الملك والنَّاس، وأن توقع بينهما لتحتفظ بموقعها ومصالحها النفعية، وتسيطر سيطرة كاملة على مقدرات الأمور. وماذا عليهم لو آمن الملك مع النَّاس: إنهم سيفقدون كل شيء (إلا أن يؤمنوا) لأنه سيضيع سلطانهم"(1).
ويظهر التشابه في المواقف بين موقف البطانة من فرعون عندما بان عليه بعض آثار كلام موسى - عليه السلام - بحيث منعه ذلك من اتخاذ خطوات صارمة في بداية الأمر ولا سيما بعد أن رأى الآيات فقال له الملأ محرضاً: { وَقَالَ الْملأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } (2). وبين موقف أشراف قريش عندما ظهر تأثير كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الوليد بن المغيرة فقد كان من وجهاء وسادة قريش.
__________
(1) صقر، هشام، غلام الدعوة دروس في حديث الساحر والغلام والراهب (القاهرة: دار الطباعة والنشر الإسلامية، ط1، 1414هـ، 1994م)، ص122.
(2) سورة الأعراف/127.(1/143)
إذ اتفق كبار الملأ على أن يذهب إليه أبو جهل وذلك لتخويفه مما سيقوله النَّاس، وإثارة حفيظته فعرض عليه أبو جهل أموراً وهو متيقن في قرارة نفسه أن ذلك سيجعله يتخذ رد فعل عكسياً، وأنه سيرفضها عناداً وتكبراً، فقال له أبو جهل: "…أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، قال لم؟…قال فدعني حتى أفكر فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره من غيره، فنزلت { ذرني ومن خلقت وحيداً } "(1). فدفعه ذلك إلى الاستكبار وإلى رفض الحق مخافة كلام الأشراف والسادة في مكة.
__________
(1) جاء في المستدرك على الصحيحين: (أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن. فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل. فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً. قال: لم؟ قال: ليعطوكه. فإنك أتيت محمَّداً لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له، أو إنك كاره له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وأنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره من غيره، فنزلت: (ذرني ومن خلقت وحيدا). قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه". انظر، الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص550، تفسير سورة المدثر، رقم: 3872.(1/144)
ومن جانب آخر تقوم البطانة بتزيين أعمال الطَّاغية، ولو كانت من الأعمال التي لا يقدم على فعلها إلا سفيه، فكل ما يصدر من الطَّاغية لابد وأن يكتب بماء الذهب، وأن يحفظه عامة الشعب، ودائماً وأبداً كانت مع كل فرعون وكما يقول الترابي: "بطانته الذين يسابقونه في تمكين جبروته وتزيين شهواته"(1).
- البطانة تقوم بإضفاء الشرعية على كل ما يصدر من الطَّاغية
فلما كان الأمر كما سلف فإنه لابد للحاكم من أن يقحم في مجلسه من رجال الدِّين ليقوموا بإضفاء صفة الشرعية المزيفة على حكمه، لذا كانت السيطرة على رجال الدِّين -الكهنة- وشراء ذممهم، وإنشاء مؤسسات خاصة بهم، وإيجاد من يمثلون الدِّين في ظاهرهم كان ولا يزال من ديدن الحكام الطُّغاة والمؤسَّسة الطاغوتية. والتاريخ مليء بنماذج من ذلك وهو أمر جار على قدم وساق في أغلب بقاع العالم الإسلامي الذي يرزخ تحت وطأة الطُّغيان والطُّغاة. وفي بعض الأحيان يتم استغلال هؤلاء وذلك لبساطتهم في إضفاء الشرعية على قرارات الدولة والسُّلطة.
ويظهر هذا الأمر في إحاطة الكهنة بالفراعنة وغيرهم من الطواغيت، ومن طلب فرعون من هامان أن يبني له الصرح ليتأكد من إله موسى - عليه السلام -، وما دام أن هامان وهو العارف بالآلهة سيقوم بهذا الأمر فمعناه أن فرعون محق في رفضه لدعوة موسى- عليه السلام -.
__________
(1) الترابي، حسن، قضايا الحُرِّيَّة والوحدة-الشُّورى والديمقراطية-الدِّين والوحدة (جدة: الدار السعودية، ط1، 1408هـ، 1987م)، ص59.(1/145)
وفي التاريخ الإسلامي وصف العلماء المقربون من الأمراء والحكام بعلماء السلاطين، مع أن هناك بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً بين أغلب السلاطين المسلمين في العهود السالفة وبين حكام اليوم، ولكن مع ذلك فقد وصفوا بهذا الوصف، فلا ندري ما الوصف المناسب إطلاقه على من يتملُّق لطغاة العصر الحديث، والذين لا يعرفون للدين ولا للأخلاق من قيمة أو معنى، ومع ذلك فإن كثيراً منهم يزينون مجالسهم بأصحاب العمائم والجلابيب، وينمقون نوافذ طغيانهم ويطلونها بطلاء ديني. بل ويصل الأمر في كثير من الأحيان ببعض الطُّغاة إلى استخدام المصطلحات الدِّينية في سياستهم فيصفون علميات قتل الأبرياء بأوصاف دينية وهذا ما سيأتي في أثناء الحديث عن الأساليب.
يقول سيد قطب رحمه الله: "وجاء السحرة(1) فرعون، قالوا: إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم لمن المقربين. إنهم محترفون، يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدِّين! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله، وإفراده -سبحانه- بالحاكمية؛ وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين، وكافأهم على الاحتراف، وتبادل وإياهم الصفقة: هم يقرون سلطانه باسم الدِّين! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين!"(2).
وبهذا يتبين الدور الخبيث الآثم للبطانة السيئة في طغيان الحاكم ودفعه نحو مزيد منه، بإعانته وتزيين ما يقوم به من أعمال وحشية قائمة على القمع والبطش والإرهاب، والقيام بإضفاء صفة الشرعية على أعمال الطَّاغية حتى لا يعترض عليها معترض.
ثانياً: قابلية الرَّعيَّة واستعدادها لتقبل الطُّغيان
__________
(1) وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر. انظر، قطب، في ظلال القرآن، 1348.
(2) قطب، في ظلال القرآن، ص1349.(1/146)
وصفت الرَّعيَّة في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة تتضح معها الصورة من أن الطُّغاة لا يظهرون ويبرزون إلا في رعية متصفة بكل ما من شأنه جعلها مستعدة لتقبل واحتضان الطُّغيان والطُّغاة. فمن هذه الصفات التي تبين دور الرَّعيَّة في طغيان الحاكم، ودفعه إلى الانحراف وممارسة الظُّلم والبطش والإرهاب، والتي ذكرها القرآن الكريم، هي: الخوف والجبن، الفسق، الظُّلم، الطُّغيان، الخفة والطيش، الإجرام. أذكرها بإيجاز:
- الرَّعيَّة الخائفة
يبين القرآن الكريم أن من أوصاف رعية الطَّاغية الخوف والجبن، فالخوف هو الذي يمنع الرَّعيَّة من الوقوف في وجه الطَّاغية، بل يتعدى الأمر إلى أكثر من ذلك حيث تمتنع عن الإيمان بالله ورسله بسبب خوفها من الطَّاغية. وهذا ما صرح به القرآن الكريم في قوله: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (1). فالخوف منع الرَّعيَّة من اتباع موسى - عليه السلام - مع كل ما جاء به من الآيات الواضحات الدالة على صدقه وصدق نبوته، بل والأغرب من ذلك أن الرَّعيَّة عاينت انتصار الحق على الباطل في يوم الزينة ومع ذلك لم تعلن عن تأييدها للحق المنتصر لسيطرة الخوف عليها وتمكنه منها. لذا فلم تؤمن منها رغم عددها الكبير إلا قلة أعلنت إيمانها متحدية كل ما يترتب على ذلك من الفتن.
__________
(1) سورة يونس/83.(1/147)
وهذه الصفة استمرت مع جزء من الرَّعيَّة التي كانت خاضعة لفرعون وهم بنو إسرائيل حتى بعد أن حرروا من الطَّاغية، وهذا واضح من امتناعهم دخول الأرض التي وُعدوا بها، فلما أمروا بذلك أجابوا موسى - عليه السلام - كما حكى عنهم القرآن بقوله: { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } (1).
و: { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } (2).
ولا شك أن هذه الصفة -الخوف والجبن- كانت من مخلفات وآثار صفة أخرى وهي الفسق الذي استمر معهم أيضاً إلى ما بعد عهد فرعون، ويظهر هذا جلياً في تعقيب موسى - عليه السلام - مباشرة على قولهم السابق: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (3).
الرَّعيَّة الفاسقة
ذكر القرآن الكريم في عدد من الآيات فسق رعية الطَّاغية أو المؤسَّسة الطَّاغية، وفي ذلك إشارة إلى أن الحاكم ليس هو المسؤول الوحيد عن طغيانه، وإنما تتحمل الرَّعيَّة طرفاً كبيراً من المسؤولية في ذلك. والآيات التي تذكر ذلك، هي:
قال تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (4).
{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (5).
__________
(1) سورة المائدة/22.
(2) سورة المائدة/24.
(3) سورة المائدة/25.
(4) سورة الزخرف/54. الآية تتحدث عن فرعون.
(5) سورة النمل/12.(1/148)
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (1).
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (2).
ثم وصف بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى - عليه السلام - وحتى بعد أن نجاهم الله من فرعون وقومه بالفسق في عدة مواضع، ليتبين بذلك أن للرعية -بني إسرائيل- دوراً كبيراً في تمكين طغيان الحاكم، منها قوله تعالى:
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } (3).
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (4).
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } (5).
__________
(1) سورة القصص/32.
(2) سورة الصف/5.
(3) سورة البقرة/59.
(4) سورة المائدة/25-26.
(5) سورة الأعراف/165.(1/149)
فيظهر جلياً أن طرفاً من تعرض بني إسرائيل للظلم والاضطهاد على يد فرعون وملئه كان راجعاً إلى طبيعتهم وفسقهم، وهذا واضح من سيرتهم مع موسى - عليه السلام - فيما بعد إغراق فرعون كما سبق. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي يعني: "الخروج من طاعة الله عز وجل فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان"(1). فالرَّعيَّة التي تسمح لنفسها بالخروج عن الحدود فلا يمكن بحال من الأحوال أن تمنع الحاكم من ذلك بل خروجها يدفع الحاكم إلى الخروج وتعدي الحدود. وهذا مصداق قول الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (كما تكونوا يول عليكم)(2).
وفي سورة الأعراف تم اختتام الحديث عن قصص الطُّغاة من قوم نوح وهود وصالح وشعيب من أن أكثرهم كانوا فاسقين، قال تعالى؛ { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } (3). فقد وصفت الرَّعيَّة بعدم الوفاء بالعهد مع الله ومع أنبيائه، فما بالك بالحاكم كيف يفي بالعهد معها، الذي هو إقامة العدل وإحقاق الحقوق. فما الحاكم إلا فرد من تلك الكثرة التي لا تفي بوعودها في المجتمع الطاغوتي. فلو لم تكن الرَّعيَّة فاسقة، ولو لم تكن الرَّعيَّة ناكثة لعهودها وناقضة لها لما كان بإمكان الحاكم أن ينكث بالعهد معهم، ولما كان بمقدوره الخروج ومجاوزة الحدود في البطش والظُّلم.
- الرَّعيَّة الظالمة
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص246.
(2) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة. انظر، العظيم آبادي، عون المعبود، ج5، ص62.
(3) سورة الأعراف/101-102.(1/150)
الحاكم أو النُّخبة الطَّاغية لا تطغى إلا إذا وجدت الأبواب أمامها مفتوحة لذلك، ولم تجد أية مقاومة من الرَّعيَّة أو الشعب، والرَّعيَّة إذا كانت ظالمة فيما بينها، فكيف تمنع الآخرين من ذلك ولا سيما الحاكم. فقد أشار القرآن الكريم إلى أن رعية الحاكم الطاغي ما هي إلا رعية ظالمة. قال تعالى:
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } (1). وقال حكاية عن زوجة فرعون: { وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (2)، فالقوم وفرعون سواء في الظُّلم لا فرق بينهما. وجزاء ظلم الرَّعيَّة هي كما يبينه قوله تعالى:
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (3).
يقول الإمام الرَّازي:"الآية تدل على أن الرَّعيَّة متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظُّلم"(4).
وقال الآلوسي: "واستدل به على أن الرَّعيَّة إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم"(5).
ذكر السيوطي رحمه الله في تفسيره الدر المنثور: "أخرج أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً)، ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد النَّاس أمر عليهم شرارهم"(6).
ومن سنة الله تعالى في الظُّلم والظالمين كما يذكر الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه السنن الإلهية أن: "الرَّعيَّة الظالمة أي التي يتظالم أفرادها فيما بينهم يولى عليهم حاكم ظالم، فيكون تسلطه عليهم من العقاب لهم على ظلمهم"(7).
__________
(1) سورة الشعراء/10-11.
(2) سورة التحريم/11.
(3) سورة الأنعام/129.
(4) الرَّازي، مفاتيح الغيب، ج13، ص194.
(5) الآلوسي، روح المعاني، ج8، ص27.
(6) السيوطي، الدر المنثور، ج3، ص358.
(7) زيدان، السنن الآلهية، ص118.(1/151)
ومن الأدعية التي اعتاد الأئمة والخطباء على ترديدها، والتي تبين دور الرَّعيَّة في طغيان الحاكم قولهم: اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. فذنوب الرَّعيَّة وظلمها من الأسباب المؤدية إلى ظهور الطواغيت والظُّلمة في المجتمع.
- الرَّعيَّة الطَّاغية
أثبت القرآن الكريم صفة الطُّغيان للرعية كما هي للطغاة ليتبين بذلك أن الرَّعيَّة إن لم تكن طاغية لما صدرت منها التَّبعيَّة للطغاة، ولما حكمها طغاة جبابرة، وهذا واضح من نقل القرآن الكريم الحوار الدائر بين السادة المستكبرين الطُّغاة والرَّعيَّة التابعة الخاضعة لهم حينما يذوق الفريقان عذاب جهنم بقوله:
{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ } (1).
هذا هو جواب السادة الطُّغاة لأتباعهم من أنهم لم يكونوا ليجبروهم على أمر ليس لهم فيه رغبة، بل كانوا ضالين غالين في معصية الله فلم يكن للطغاة سلطان عليهم وهذا ما صرح به القرآن الكريم حكاية عن السادة: (وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين). أي: "بل كنتم قوماً مختارين الطُّغيان"(2).
قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (3).
__________
(1) سورة الصافات/22-31.
(2) الزمخشري، الكشاف، ج4، ص43.
(3) سورة النمل/14.(1/152)
ويبين القرآن الكريم أن الطبيعة الطاغوتية غير منحصرة في شخص الحاكم الطاغي، وإنما كثير من أفراد المجتمع الطاغوتي طغاة كل في دائرة تعامله ومكانه، وبقراءة سريعة للآيات القرآنية التي تحدثت عن كبار الطُّغاة أي الملوك والحكام وعن أفراد عاديين في مجتمعاتهم فإننا لن نجد فرقاً كبيراً بين العظيم والصعلوك منهم. فنجد أن جواب عامة قوم إبراهيم - عليه السلام - لم يختلف عن جواب الطَّاغية، ينقل القرآن الكريم جواب قومه: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (1). وعلى مستوى الفرد العادي لم يكن الأمر بمختلف فها هو والد إبراهيم وهو فرد من أفراد المجتمع العاديين يهدد إبراهيم - عليه السلام - بتلك الوسائل التي يتم استخدامها من قبل الطُّغاة من التَّهديد بالنفي والرجم وما إلى ذلك. ينقل القرآن جواب والد إبراهيم بقوله: { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } (2). فالأسلوب والوسائل واحدة لا فرق بين الطَّاغية الجبار أو الصعلوك رجل الشارع أو عامة القوم حتى الأب مع ابنه، فالكل طغاة ولكن كل حسب ما يملكه من القدرة.
__________
(1) سورة العنكبوت/24.
(2) سورة مريم/46.(1/153)
ولذا فكل فرد من أفراد المجتمع الطاغوتي إذا ما حل محل الحاكم الطَّاغية فلن يغير ذلك من الأمور شيئاً. فطغيان الرَّعيَّة دافع قوي لحمل الحاكم ودفعه إلى ممارسة الظُّلم والطُّغيان في سياسته(1).
يقول الكواكبي رحمه الله: "وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبداً في نفسه لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره. فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار"(2).
- الرَّعيَّة الطائشة المستخفة
__________
(1) بل في كثير من الأحيان يتولى حاكم غير طاغ الحكم ثم يتحول وبتأثير من أخلاق الرَّعيَّة إلى الطُّغيان، ومن الأمثلة الصارخة التي تبين دور الرَّعيَّة في منع الحاكم من الطُّغيان وفي دفعه إليه ما يذكره صاحب تهذيب الكمال: "قيل ليحيى بن الحكم بن أبي العاص: ما بال عمر بن عبد العزيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جاء على ما رأيت؟ قال: إن أباه أرسله وهو شاب إلى الحجاز سوقة فكان يغضب النَّاس ويغضبونه ويمحصهم ويمحصونه. والله لقد كان الحجاج وما عربي أحسن منه أدباً فطالت ولايته فكان لا يسمع إلا ما يحب فمات وإنه لأحمق سيئ الأدب". انظر، المزي، يوسف بن الزكي عبدالرحمن (ت654هـ)، تهذيب الكمال، تحقيق: بشار عواد معروف (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1400هـ، 1980م)، ج21، ص437-438.
(2) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص441-442.(1/154)
قال تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (1). اتفق المفسرون تقريباً في تفسيرهم لمعنى الآية، وبيان دور الرَّعيَّة في تمكين الطَّاغية من فرض سيطرته عليها، نذكر بعضاً من تلك الأقوال باختصار؛ قال الإمام الرَّازي رحمه الله: "فاستخف قومه: أي طلب منهم الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به فأطاعوه، (إنهم كانوا قوماً فاسقين)، حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق"(2).
يقول النسفي: "استفزهم بالقول واستذلهم وعمل فيهم كلامه. وقيل: طلب منهم الخفة في الطَّاعة وهي الإسراع"(3). أو كما قال الإمام ابن كثير: "أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الرُّبُوبيَّة، لعنه الله وقبحهم"(4).
ويقول أبو السعود رحمه الله: "فاستخف قومه: طلب منهم الخفة في مطاوعته، أو فاستخف أحلامهم فأطاعوه فيما أمرهم به (إنهم كانوا قوماً فاسقين) فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي"(5). وكما ذكرت في الفقرات السابقة لولا أنهم كانوا فاسقين لما صدرت منهم الطَّاعة والخضوع للطاغية.
- الرَّعيَّة المجرمة
__________
(1) سورة الزخرف/54.
(2) الرَّازي، مفاتيح الغيب (دار الفكر)، ج27، ص220. قال ابن منظور: "أي حملهم على الخفة والجهل، يقال: استخفه عن رأيه؛ إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من صواب. واستخف به: أهانه". انظر، ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص867-868. ويقال: "استخف قومه: وجدهم خفافاً طائشين، أو دعاهم إلى الطيش". انظر، مجمع اللغة العربيَّة، معجم ألفاظ القرآن الكريم (مصر: ط2، 1409هـ، 1989م)، ج1، ص128.
(3) النسفي، مدارك التنزيل، ج14، ص121.
(4) ابن كثير، قصص الأنبياء، ص256.
(5) أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج8، ص50.(1/155)
وصف القرآن الكريم كلاً من السادة الطُّغاة والأتباع –الرَّعيَّة- بالإجرام تنبيهاً إلى أن الإجرام ليس بمقتصر على الحكام والسادة المستكبرين. فلو لم تكن الرَّعيَّة مجرمة لما جلس على كرسي الحكم مجرم. فالسيد أو الحاكم المجرم إنما هو فرد من نتاج هذه الرَّعيَّة الموصوفة بالإجرام.
قال تعالى: { فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } (1).
أي إن الرؤساء والأتباع مشتركون في العذاب وذلك لاشتراكهم في الجريمة(2). فوصف الإجرام هنا راجع إلى كل من السادة والأتباع. فالرَّعيَّة كانت مجرمة، لذا سهل للسادة المجرمين إخضاعها وإذلالها. والسياق يتحدث بجلاء عن الأتباع والسادة المستكبرين، يقول الطبري: "فنهلك المجرمين إذ طغوا وبغوا.."(3).
وقال تعالى: { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (4).
__________
(1) سورة الصافات/32-34.
(2) انظر: البغوي، معالم التنزيل، ج4، ص26. المحلي-السيوطي، تفسير الجلالين، ج1، 589.
(3) الطبري، جامع البيان، ج29، ص335.
(4) سورة سبأ/32-33.(1/156)
فهذه الأوصاف كلها جعلت من الرَّعيَّة رعية قابلة ومستعدة لتقبل الطُّغيان والظُّلم وما إلى ذلك من السياسات(1). وهذا هو السر في قدرة الطواغيت على فرض سيطرتهم على الرَّعيَّة مهما كثر عددها، وهو أن هناك شعوراً بالذلة، وخوراً في العزيمة والهمة، لذا نجد الطَّاغية يسحق آلاف النَّاس تحت قدمه بدون أن يسمع لهم أنين أو همس، وقد ذكر سيد قطب رحمه الله تعالى هذه الحقيقة في ظلاله بكلام قيم حيث يقول: "إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان!
__________
(1) وقد أشار مالك بن نبي إلى قابلية الرَّعيَّة للاستعمار حيث يقول: "إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في الاستقلال، ولا أمل في حرية مهما كانت الأوضاع السِّياسيّة، وقد قال أحد المصلحين: "أخرجوا المستعمرين من أنفسكم يخرج من أرضكم". إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية إلا أنه درس أوضاعنا النَّفسية دراسة عميقة وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريده كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث منها وأقلاماً يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له بعلمه وجهلنا". ابن نبي، مالك، شروط النهضة، ترجمة: عمر كامل مسقاري وعبدالصبور شاهين (بيروت-دمشق: دار الفكر المعاصر-دار الفكر، ط4، 1407هـ، 1987م)، ص158-159.(1/157)
إن الطُّغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان! إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطُّغاة!!"(1).
وكثير من الأوصاف السالفة الذكر حتى إن لم تكن موجودة أو بارزة في الرَّعيَّة فإنها تنشأ مع طول الطُّغيان، بسبب الذل والهوان والاستعباد الناتج عن الخضوع للطغيان. وقد ذكرت التوراة أن العبودية تجعل من الإنسان صغير النَّفس حقيراً، لا يكاد يسمع معها إلى نداء الحق بله التفكير فيه، فقد ورد في سفر الخروج: (فكلم موسى هكذا بني إسرائيل. ولكن لم يسمعوا لموسى من صغر النَّفس ومن العبودية القاسية)(2).
وبذلك يتبين أن الصفات المذكورة أعلاه تجعل من الرَّعيَّة سهلة الانقياد والخضوع والتذلل للحاكم الطاغي، بل تؤدي إلى تشجيع ودفع الحاكم للمضي قُدُمَاً في طغيانه.
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن، ص2096.
(2) الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح السَّادس، 9.(1/158)
ولكن هل هذا الأمر خاص بجنس دون جنس آخر؟ أو كما ذهب إليه بعض العلماء الغربيين(1) بل وقبلهم فلاسفة اليونان(2) إلى أن ذلك خاص بالشرقيين؟
__________
(1) Karl A. Wittfogel, (1959). Oriental Despotism; A Comparative Study of Total Power. 3ed edition. New Haven: Yale University Press. pp.11-21.
(2) حيث يرى أن الشرقي له طبيعة العبيد بخلاف اليوناني. انظر، أرسطو، الأخلاق، ج2، ص1824، نقلاً عن: إمام، الطَّاغية، ص318-332. ويظن كثير من النَّاس حتى من المسلمين أن الاستبداد له نسب وهو النسب الشرقي أو الآسيوي محاولة منهم تبرئة الإسلام من هذه الصفة -وإن كان بريئاً- بسبب ما عرف في بعض عهود الخلافة الإسلامية من تلبسها بالاستبداد. انظر مثلاً: المقدسي، محمَّد روحي أفندي الخالدي، الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة، منشور في، مجلة المنار، مصر، المجلد 11، ج9، 30 رمضان، 1326هـ، 25 اكتوبر 1908م، فقرة: الاستبداد آسيوي لا إسلامي، ص648.(1/159)
فمما لا يختلف فيه اثنان أن الشرق كان ولا يزال الحضن الحنون للطغيان والطواغيت. لكن هذا لا يعني أن الطُّغيان وتقبله خاص بالشرق والشرقيين، وأن الغرب لم يعرف ما الطُّغيان في تاريخه القديم والحديث. فقد وجد الطُّغيان قديماً في اليونان وغيره في الغرب، بل إن فلاسفة اليونان والذين أكثروا من الحديث عن الطُّغيان ولا سيما أفلاطون أستاذ أرسطو صاحب الأقوال السابقة له تجربة ثرية مع الطُّغاة، وكذا ما كان عليه الحال في اليونان القديمة: "حتى كان هناك عصر أطلق عليه المؤرخون اسم عصر طغاة اليونان ويؤرخون له منذ اعتلاء (كبسيلوس) طاغية كورنثه الشهير عام 605 ق. م. وينتهي بطرد أبناء الطَّاغية بيزستراتوس من أثينا عام 510 ق. م. أي ما يقرب من قرن ونصف وقعت فيها المدن اليونانية تحت سيطرة حفنة من الطُّغاة"(1). وفي العصر الحديث ظهر طغاة في الغرب أمثال هتلر (Hitler)، وموسوليني (Mussolini) وستالين (Stalin) وغيرهم.
ولذا فالمسألة لا تتعلق بجنس دون جنس آخر بقدر ما هي راجعة إلى طبيعة الفكرة والمبادئ التي يحملها الإنسان في رأسه، ويتعامل على أساسها مع ظواهر الحياة المختلفة.
ولا نطيل كثيراً في هذا المجال ولنفي هذه المقولة التي تعد الإنسان الشرقي دائماً وأبداً قابلاً ومستعداً لتقبل الطُّغيان نذكر المحاورة التي جرت بين حاكم شرقي وأحد أفراد رعيته الشرقيين. هذا الإنسان الشرقي الذي دفعه إيمانه وفهمه الصحيح للإسلام وروحه المناقضة للطغيان إلى مواجهة الخليفة الفاروق والرد عليه.
حيث قال: والله لو علمنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا. رداً على قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا هكذا؟ وقد استقبل الخليفة جوابه بقوله: الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه!
__________
(1) إمام، الطَّاغية، ص309.(1/160)
وقال الفاروق رضي الله عنه في موضع أخر: "أحب النَّاس إلي من رفع إلي عيوبي"(1).
إضافة إلى ما ذكرنا من قصة الصحابي مع الفاروق نقول: كثيراً ما تضرب الأمثال بفارس في التمثيل للاستبداد الشرقي، ولبيان أن الجنس لا علاقة له بتقبل الطُّغيان أو الاستبداد. نذكر القصة المشهورة لسلمان الفارسي مع الخليفة الفاروق، وكيف أن الإسلام جعل منه إنساناً لا يقبل السكوت على أي خطأ من السُّلطة ولو كان بسيطاً، يذكر أبو الفرج (ت 597هـ) أنه بعث إلى عمر بحلل فقسمها، فأصاب كل رجل ثوب، ثم صعد المنبر وعليه حلة، والحلة ثوبان. فقال: "أيها النَّاس ألا تسمعون: فقال سلمان: لا نسمع. فقال عمر: لم يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً، وعليك حلة. فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى: يا عبد الله، فلم يجبه أحد. فقال: يا عبد الله بن عمر. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. قال سلمان: فقل الآن نسمع"(2).
وقد تعدى الأمر بالخليفة الشرقي إلى أن يطلب من رعيته قتل الخليفة إن ظلم حتى يكون ذلك أنكل لمن يأتي من بعده من الخلفاء. فقال رضي الله عنه: "والله لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز النَّاس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن تعوج عزلوه، فقال: لا القتل أنكل لمن بعده"(3).
__________
(1) ابن سعد، محمَّد بن منيع (ت 230هـ)، الطبقات الكبرى (بيروت: دار صادر، د. ط، 1377هـ، 1957م)، ج3، ص293.
(2) أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمَّد (ت 597هـ)، صفوة الصفوة، تحقيق: محمود فاخوري ومحمَّد رواس قلعه جي (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1399هـ، 1979م)، ج1، ص535.
(3) الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص572.(1/161)
يقول هويدي تعقيباً على الخبر: "هل رأيتم حاكماً في التاريخ يدعو النَّاس إلى الثورة المسلحة عليه، إذا ما انحرف، ويصر على تحريضهم في كل مناسبة؟؟"(1).
بل إنه رضي الله عنه طلب من المسلمين حين حضره الموت بأن يقتلوا كل من يفرض نفسه على الأمَّة والرَّعيَّة بدون اختيارها ورضاها حيث قال: "ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه"(2). فهل بقي بعد هذا مجال من أن نجعل من تلك المقولة قاعدة مطردة من أن الطُّغيان خاص بالشرقيين.
ونختم الحديث عن القابلية لتقبل الطُّغيان بالوصف الذي رسمه الكواكبي لنفسية الشعب المتقبل للطغيان بقوله: "يا قوم جعلكم الله من المهتدين، كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعاً لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعمين ولو بلقمة مغموسة بدم الإخوان. وأجدادكم ينامون الآن في قبورهم مستوين أعزاء، وأنتم أحياء معوجة رقابكم أذلاء! البهائم تود لو تنتصب قاماتها وأنتم من كثرة الخضوع كادت تصير أيديكم قوائم. النبات يطلب العلو وأنتم تطلبون الانخفاض. لفظتكم الأرض لتكونوا على ظهرها وأنتم حريصون على أن تنغرسوا في جوفها، فإن كانت بطن الأرض بغيتكم، فاصبروا قليلاً لتناموا فيها طويلاً. يا قوم: ألهمكم الله الرشد، متى تستقيم قاماتكم، وترتفع من الأرض إلى السماء أنظاركم، وتميل إلى التعالي نفوسكم، فيشعر أحدكم بوجوده في الوجود فيعرف معنى الأنانية ليستقل بذاته في ذاته، ويملك إرادته واختياره ويثق بنفسه وربه لا يتكل على أحد من خلق الله اتكال الناقص في الخلق على الكامل فيه؟"(3).
ثالثاً: طاعة الرَّعيَّة وتبعيتها المطلقة للحاكم (التَّبعيَّة السَّلبيَّة)
__________
(1) هويدي، فهمي، القرآن والسلطان هموم إسلامية معاصرة (بيروت: دار الشُّرُوق، ط2، 1402هـ، 1982م)، ص153.
(2) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج3، ص344.
(3) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص512.(1/162)
طاعة الرَّعيَّة المطلقة للحاكم تجعل منه بمرور الأيام يتصرف حسب الرؤية الشخصية الفردية دون النظر إلى من حوله أو من تحته من الرَّعيَّة، وذلك لأن دور الرَّعيَّة يصبح منحصراً في الطَّاعة والاتباع في كل الأمور، وعليه فلا داعي إلى أخذ موافقتها أو استشارتها ما دام أنها لا ولن تعترض عليه حتى في أخطر الحالات وأسوء الاحتمالات، فتقوم القيادة في نهاية المطاف بإضلال هذه الرَّعيَّة الصامتة الميتة والاستخفاف بها، وهذا ما أوضحه القرآن الكريم: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } (1).
لذا نجد القرآن الكريم يحكم على الرَّعيَّة المطيعة الصامتة الخاضعة الذليلة بالفسق والخفة والطيش، ويظهر هذا جلياً في الآيات الآتية حيث نجد فرعون ينادى بأعلى صوته وعلى الملأ ويخاطب القوم ويوجه إليهم أسئلة كثيرة من غير أن يتفوه أحد من الرَّعيَّة بكلمة ولو همساً، بل إن الأسئلة صيغت بأسلوب الاستفهام التقريري ومعناه أن الجواب معروف ولا ينتظر فرعون منهم جواباً مخالفاً لما هو مقرر ومفهوم عنده. لذا نجد الآيات تختم بالحكم عليهم بالفسق والطيش والخفة.
قال تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (2).
__________
(1) سورة الأحزاب/67.
(2) سورة الزخرف/51-54.(1/163)
يقول المدرسي: "الديكتاتورية لا تبدأ من الديكتاتور، وإنما من المجتمع الذي يسمح لنفسه بأن لا يريد، بأن لا يختار، بأن يكون عبد غيره وقد خلقه الله حراً، ولا يمارس أفضل وأحسن وأعلى وأهم نعمة أنعمها الله عليه وهي نعمة الإرادة ونعمة الحُرِّيَّة"(1).
وقال تعالى: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } (2).
فالرَّعيَّة التي طالما سكتت ووضعت على فمها أكماماً من فولاذ، ولم تتفوه في حياتها بـ(لا) ناهيك عن (كلا) ولم تعترض ولو مرة واحدة. أخيراً نطقت ولكن بعد فوات الأوان، نطقت بنبرة لا تزال آثار التَّبعيَّة والخضوع والذلة فيها واضحة، فهي لا تزال في سكرتها من أن السادة هم الأقدر على حل الأمور وعلى الريادة والقيادة ولو كانوا في أودية جهنم، لذا لم تكلف نفسها عناء الاعتراض أو التفوه بـ(لا)، واليوم وبعد أن برزوا لله سبحانه تأتي الرَّعيَّة لتذكر السادة بأنها كانت رهن إشارتهم، وأنها كانت الرَّعيَّة الخاضعة التابعة، وأن النصيب الأوفر في كل أمر كان من نصيب السادة، فهل سيكون الأمر على تلك الشاكلة في جهنم كما كان في الدنيا؟ وهل السادة قادرون على تحمل شيء عنها؟. إلا أن السادة بادروا وبإجابة سريعة قاطعين أمل الرَّعيَّة الضعيفة الخاضعة من أن مرحلة التَّبعيَّة والسيادة قد ولت والكل هنا سواء، لا سادة ولا عبيد.
__________
(1) المدرسي، العمل الإسلامي منطلقاته وأهدافه، ج1، ص132.
(2) سورة إبراهيم/21.(1/164)
يقول رهبر: "فهذه الآية تصرح بأن مصائب المستضعفين تنشأ من اتباعهم الأعمى للمستكبرين، ولما كانوا هم مختارين في هذا الاتباع انتفى عذرهم واستحقوا العقاب، لأن التَّبعيَّة للمستكبرين لا تؤدي إلى شقاء المستضعفين فحسب، بل وتوفر الأجواء لاتساع نطاق جرائم المستكبرين ولهذا السبب فإن إطاعة الاستكبار تعد نوعاً من الاستكبار، ومشاركة المستكبرين في أعمالهم وجرائمهم"(1).
وواضح من كلام هذه الفئة وكما يقول الباقر رحمه الله أنه: "لا يوجد في كلام هؤلاء بأنهم كانوا يحسون بالظُّلم، أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون، وإنما هو مجرد طاعة، مجرد تبعية…ينعقون مع كل ناعق، ليس لهم عقل مستقل وإرادة مستقلة"(2).
والرَّعيَّة تتبع أمر الحاكم وإن كان غير صائب، قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } (3).
فهي لا تكلف نفسها عناء المقارنة بين الآيات الواضحات وبين غيرها لتختار الصواب بل العكس هو الخيار عندها: { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } ، و: { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } (4). و: { وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا } (5).
__________
(1) رهبر، الاستكبار والاستضعاف، ص55.
(2) الباقر، محمَّد صدر، السنن التأريخية في القرآن، ترتيب: محمَّد جعفر شمس الدِّين (سوريا: دار التعارف، د. ط، 1409هـ، 1989م)، ص151-152.
(3) سورة هود/96-97.
(4) سورة هود/59.
(5) سورة نوح/21.(1/165)
وهذه التَّبعيَّة والخضوع يصلان إلى حد غير معقول من الذلة والهوان، وهذا ما أوضحه الكواكبي رحمه الله بقوله: "العوام هم قوة المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم، فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم ببعض، فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة"(1).
ويذكر في هذا الصدد أن طاعة الرَّعيَّة هي التي تدفع الحاكم أو النُّخبة إلى الطُّغيان وإلى اقتراف ما لا تحمد عقباه كما ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لـ(الأشقى)، حيث يقول: "فدمدم عليهم ربهم بذنبهم أي غضب عليهم فدمر عليهم، فسواها، أي: فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء، قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنوبهم فسواها"(2). ويقول الإمام الآلوسي رحمه الله: "وقد أهلكوا كلهم بسبب رضاهم بفعله"(3). فالرَّعيَّة هي التي دفعته إلى الطُّغيان والعتو وقد سبق ذلك.
__________
(1) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص459.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص518.
(3) الآلوسي، روح المعاني، ج29، ص40.(1/166)
ونتيجة الطَّاعة والتَّبعيَّة هي الخراب والفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: "مر عيسى - عليه السلام - بقرية قد مات أهلها إنسها وجنها وهوامها وأنعامها وطيورها، فقام صلوات الله عليه ينظر إليها ساعة، ثم أقبل على أصحابه، فقال: مات هؤلاء بعذاب الله، ولو ماتوا بغير ذلك ماتوا متفرقين، قال: ثم ناداهم: يا أهل القرية، قال: فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله. فقال: ما كان جنايتكم؟ قالوا: عبادة الطاغوت وحب الدنيا. قال: وما كانت عبادتكم الطاغوت؟ قال: الطَّاعة لأهل معاصي الله تعالى"(1).
فمن وجهة النظر الإسلامية يجب أن لا تخرج الطَّاعة إلى دائرة المعصية، وليس للحاكم فرض ما يراه على النَّاس، أو دخل في دائرة المعصية، لذا نجد الخلفاء الراشدين يترجمون هذه الحقيقة إلى واقع عملي فها هو الصديق رضي الله عنه يقول في أول خطبة مبيناً نوعية العلاقة بين الحاكم والرَّعيَّة، ومحدداً معنى الطَّاعة الواجبة للحاكم على الرَّعيَّة فيقول: " أيها النَّاس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني…أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصبت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"(2).
فالتَّبعيَّة المطلقة والسمع والطَّاعة في كل أمر، والصمت والسكوت وعدم الاعتراض من الأسباب القوية والدَّوافع الرئيسة لطغيان الحاكم.
رابعاً: المؤسَّسة العسكريَّة (الجُنُود)
__________
(1) أبو نعيم أحمد بن عبدالله (430هـ): حلية الأولياء (بيروت: دار الكتاب العربي، ط4، 1405هـ)، ج4، ص61.
(2) ابن هشام، عبدالملك (ت213هـ)، السيرة النبوية، تحقيق: طه عبدالرءوف سعد (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ)، ج6، ص82. الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص237-238.(1/167)
المؤسَّسة العسكريَّة هي الدافعة للحاكم إلى مزيد من الظُّلم والطُّغيان، لأنه لولا دفاعها وتأييدها له لما أمكن فعل شيء، ولا سيما أن الطُّغيان يمارس بالبطش والقوة التي تقوم المؤسَّسة العسكريَّة بتنفيذه، يقول محمَّد تقي رهبر: "إن المستكبرين قابعون في قصورهم ومنهمكون بالملذات، فيما ينفذ عملاؤهم وأكثرهم من المستضعفين مع الأسف المخططات المشؤومة. فأفراد الجيش والشرطة والدرك والجمارك في النِّظام الاستكباري هم من المستضعفين. حيث يسلم السلاح والقلم إليهم ليقدموا مقابل أجور ضئيلة أكبر الخدمات للمستكبرين. إن المستضعفين هم الذين يحرسون قصور المستكبرين المنهمكين بلهوهم وطربهم، بل هم الذين يسحقون الانتفاضات الجماهيرية، ويمارسون التعذيب بحق السجناء، في حين أنهم ينتمون إلى طبقة محرومة حتى من أبسط الأشياء"(1).
وقد سبق الحديث في الباب الأول عن دور الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة التي تشكل إحدى ركائز الطُّغيان الثلاثة في الدولة التي يقف على رأسها طاغية.
الفصل الثَّاني
أساليب الطُّغاة
المبحث الأول: الأساليب المعنويَّة
المبحث الثَّاني: الأساليب الماديَّة
المبحث الأوَّل
الأساليب المعنويَّة
بما أن التجارب البشرية في كل ميادين الحياة تتجدد يوماً بعد يوم، وتأتي بما لم يكن له أثر ووجود في الأمس القريب، فإن الأساليب والسياسات التي يتبعها الطُّغاة والحكام بصورة عامة تتجدد يوماً بعد يوم هي الأخرى، فالمتأخر يستفيد من تجارب سلفه، ويضيف إليها ما عنده من الجديد، وهلم جرا. لذا فإنه لا يمكن أن نقوم بحصر كل الأساليب المستخدمة من قبل الطُّغاة تجاه المعارضين لهم. وعليه نشير فقط إلى أهم الأساليب المعنويَّة والماديَّة التي ذكرت في القرآن الكريم ضمن حديثه عن حكام طغاة أو نخب طاغية. فمن الأساليب المعنويَّة التي يتوسل بها الطُّغاة، والمذكورة في القرآن:
__________
(1) رهبر، الاستكبار والاستضعاف، ص56.(1/168)
- ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة
من أساليب الطُّغاة التي يتوسلون بها للاستخفاف بالشعوب وبث سيطرتهم عليها، ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة صراحة أو ضمناً. وهذا الأمر واضح بشكل لا غبار عليه في القرآن الكريم، فقد ذكر قصص عدد من الملوك الطُّغاة أوصلهم طغيانهم إلى إدعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة صراحة وعلناً. وبما أن المنهج القرآني في عرض الطُّغيان السِّياسيّ كما سبق قائم على طرح الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة عامة غير محددة في الزمان والمكان، فقد ذكر أمثلة قليلة للطغاة المتألهين، بل إنه لم يفصل كما سبق إلا في نموذج واحد وهو فرعون. وقد بينت الآيات أنه أعلن الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة قال تعالى: { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } (1). وقال تعالى: { قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ } (2). وقال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ } (3).
وقد أعلنها من قبله نمرود ملء فِيه وعلى الملأ، وادعى ما ليس في إمكانه القيام به مما هو مختص بالله سبحانه وتعالى من الإحياء والإماتة، قال عز وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (4).
__________
(1) سورة النازعات/23-24.
(2) سورة الشعراء/29.
(3) سورة القصص/38.
(4) سورة البقرة/258.(1/169)
وذاك الملك –ذو نواس- الذي خَدَّ الأخاديد في طول المدينة وعرضها ليلقى فيها المؤمنين يستغرب من سماع قول جليس له: شفاني ربي فيجيب بأنه هو رب الجليس وغيره، لأنه لا يتوقع أن هناك رباً غيره يستحق الخضوع والانقياد والطَّاعة، كما ورد في الحديث الصحيح الصريح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (...وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي النَّاس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله، دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله)(1).
فإن دلت الأمثلة السابقة على شيء فإنما تدل على أن الطُّغيان مؤدٍ إلى الكفر الصريح، وإلى إعلان الألُوهيَّة والرُّبُوبيَّة صراحة وجهراً. وهذه كانت سنة الطُّغاة سواء الذين ذكرهم القرآن الكريم أو الذين لم يتطرق إليهم من ملوك فارس والهند والصين، بخلاف بعض الطُّغاة المعاصرين الذين لم يعلنوها صراحة نفاقاً وتقية ولا سيما في العالم الإسلامي، إلا أنهم قد أعلنوها عملاً وتطبيقاً ومارسوها ويمارسونها ليل نهار.
__________
(1) مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص2299-2300. باب قصة أصحاب الأخدود.(1/170)
ومما لا شك فيه أن إعلان الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة له بعد سياسي خطير، وهو أنه لابد أن يتعامل النَّاس أو الرَّعيَّة مع الحكام تعاملهم مع الرب، بحيث يتم التعامل معهم على أساس التعبد المطلق والخضوع التام. فالمواطن الصالح المثالي في الدولة التي يحكمها الطَّاغية هو الذي لا تخالج قلبه شكوك تجاه الحاكم كما هو حال العبد الصالح التقي مع ربه، ولا يفكر في يوم من الأيام بعصيان أمر الحاكم، ويعمل كل ما في وسعه للوصول إلى درجة الاستسلام التام والخضوع المطلق بحيث يسبح ويقدس باسمه قياماً وجلوساً. ويحسن الظن به ولا يفكر فيما هو غير لائق به، أو في مدى نزاهته وصلاحه. وما إلى ذلك من الواجبات المفروضة على العبد تجاه معبوده.
قال الإمام الرَّازي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (أنا ربكم الأعلى): "أي: فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي، فليس لأحد عليكم أمر ولا نهي إلا لي"(1). ويقول الآلوسي رحمه الله: "إنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له، وعدم الاشتغال بطاعة غيره"(2).
- الحملات الإعلاميَّة التشويهية
__________
(1) الرَّازي، مفاتيح الغيب (طبعة دار الكتب العلميَّة)، ج31، ص39.
(2) الآلوسي، روح المعاني، ج16، ص203.(1/171)
تقوم المؤسَّسة الطاغوتية سواء الفرد الحاكم أو النُّخبة الطَّاغية بإثارة الشكوك حول نزاهة الداعية أو المصلح من خلال اتهامه بتهم مختلفة، ومن خلال حملات إعلامية منظمة وموجهة، لما لذلك من أهمية كبيرة في وقف نشاطه أو عرقلته لأنه يمثل القدوة والنَّموذج للفكرة الجديدة والبديل المستقبلي لنظام الطَّاغية. حيث تحسب كل تصرفاته على الدعوة التي ينادي بها ولا سيما في نظر الجمهور العام، فإذا تمكنت السُّلطة من تشويه صورته فمعنى ذلك أنها قد نجحت في وضع حاجز نفسي بين الدعوة الجديدة وبين الرَّعيَّة الخاضعة لسلطة الطَّاغية. ويتم التركيز في هذه الحملات على مجموعة من التهم ذكرها القرآن الكريم، والتي تكررت على مر الأزمان مع أصحاب كل الدعوات الإصلاحية. وهي؛
الاتهام بالكذب
يذكر كثير من الآيات القرآنية أن تكذيب الدُّعاة والمصلحين مما دأب عليه الطُّغاة وأعوانهم الملتفون حولهم والرَّعيَّة الظالمة المتبعة لهم، فما من داعية أو مصلح إلا وقد كُذب. ومن الآيات الصريحة في ذلك ما يأتي، قال تعالى:
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } (1).
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ } (2).
وقول الملأ لهود - عليه السلام -: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ } (3).
وقالت النُّخبة الطَّاغية من قوم صالح له - عليه السلام -: { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } (4).
__________
(1) سورة غافر/24.
(2) سورة القصص/38.
(3) سورة الأعراف/66.
(4) سورة القمر/25.(1/172)
وقالت النُّخبة المستكبرة لشعيب - عليه السلام -: { وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } (1).
ولم يكن الأمر مختلفاً مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه كان مشهوراً من قبل بالصادق الأمين، إلا أن الطُّغاة من قريش رغم علمهم بذلك وصفوه بالكذاب، قال تعالى: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } (2).
وكما تبين فإنها سنة متبعة من عهد نوح - عليه السلام - وإلى يوم القيامة، فما من رسول إلا وقد كُذب، قال تعالى: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } (3).
ولابد أن يوضع في الحسبان أن الذين صدرت منهم تلك التهم والشبهات إنما كانوا دوماً من الحكام والنخب الطَّاغية، وإن جاء التعبير في بعض الآيات عاماً، إلا أن المعلوم أن التهمة تصدر أولاً من المعنيين والوجهاء في مجتمع ما ثم تردد الرَّعيَّة المتبعة كالببغاء مقولتهم تلك بدون تفكير أو دراية بالحقيقة.
الاتهام بالسحر
في كل عصر من العصور تبتكر المؤسَّسة الطاغوتية تهماً لتوجيهها للمعارضة وللدعاة والمصلحين، وبما أنه يقف على هذه الحملات التشويهية أهل الخبرة والدهاء، فإنهم يختارون أنسب التهم وأكثرها تأثيراً في نفوس النَّاس، بحيث يسهل على العامة تقبلها كما هو الحال اليوم مع تهمة الإرهاب، ولما كان السحر من الأمور المنتشرة في الأمس كان الاتهام به من أنسب التهم في تلك العصور، وأَدْخَل في عقول العامة، ولا سيما في محاولة تحريف تفسير معجزات الأنبياء والرسل عليهم السلام وتزييفها. والآيات القرآنية التي تذكر هذه الحقيقة كثيرة نكتفي بذكر بعض منها، قال تعالى؛
__________
(1) سورة الشعراء/186.
(2) سورة ص/4.
(3) سورة ق/12-14.(1/173)
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } (1).
{ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } (2).
{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } (3).
{ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } (4).
والقصد من هذا الاتهام هو تنفير العامة من الدُّعاة والمصلحين، ووضع حواجز نفسية بينهم وبين المصلحين، وهذا ما أشار إليه الإمام الرَّازي بقوله: "وهذا طعن منهم في معجزات موسى - عليه السلام - ثم مبالغة في التنفير عنه، لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة من السحر وكراهية رؤية الساحر! ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له، فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا: كيف نتبعه؟ فإنه لا بقاء له، ولا لدينه، ولا لمذهبه!"(5).
ولم يكن صدور هذه التهمة محصوراً في الطَّاغية فرعون وأعوانه بل هي تهمة تذرع بها كل الطُّغاة في مواجهة دعوة الأنبياء ودعاة الإصلاح. فرغم الفارق الزمني الطويل بين فرعون وبين النُّخبة القرشية الطَّاغية فإن التهمة تكررت منهم وبالألفاظ نفسها، قال تعالى:
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاس وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } (6).
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } (7).
__________
(1) سورة غافر/24.
(2) سورة الشعراء/34-35.
(3) سورة الأعراف/109.
(4) سورة طه/63. وانظر، سورة يونس/76، وسورة طه/57، وسورة الزخرف/49، وسورة القصص/36.
(5) الرَّازي، التَّفسير الكبير (طبعة دار الكتب العلميَّة)، ج21، ص69-70.
(6) سورة يونس/2.
(7) سورة الصافات/15.(1/174)
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } (1).
وقال ممثل النُّخبة الطَّاغية من قريش الوليد بن المغيرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } (2).
{ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } (3).
ويبين القرآن بأنه ما من نبي إلا وقد أتهم بالسحر، قال تعالى: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } (4).
وبما أن الطواغيت لا يهمهم تناقض أقوالهم وأفعالهم، وبما أن الرَّعيَّة ليس لها حق الاعتراض أو حق بيان التناقض في تصرفاتهم فإن الاتهامات تأتي متناقضة في كثير من الأحيان، فالإعلام الذي يتهم المعارضة بتهمة ما لا يجد مندوحة من اختلاق تهم أخرى وإلصاقها بهدف التشويه والتشويش. وهذا واضح من اتهام النُّخبة الطَّاغية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه مسحور، فبعد أن قالوا في الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } (5). إذا به - صلى الله عليه وسلم - يتحول إلى مسحور، قال تعالى: { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } (6).
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "إذ يقول الظالمون: أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما، إن تتبعون إلا رجلا مسحوراً، أي: مطبوعاً قد خبله السحر، فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه النَّاس"(7).
__________
(1) سورة الزخرف/30.
(2) سورة المدثر/24.
(3) سورة ص/4.
(4) سورة الذاريات/52-53.
(5) سورة المدثر/24.
(6) سورة الفرقان/8.
(7) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص272.(1/175)
ومن قبل مع موسى - عليه السلام - فبعد أن كان ساحراً إذا به: { فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } (1).
فقبل لحظات كان موسى - عليه السلام - ساحراً بل كبيراً للسحرة يعلم السحر وإذا به تحول فجأة وبناء على ما ينطق به فم الطَّاغية من الكلام المتناقض الذي لا يمكن الاعتراض عليه تحول إلى مسحور ممن أثر السحر فيه، لذا يقول مثل هذا الكلام!! وفي هذا الكلام دليل على مدى غباء الرَّعيَّة والرأي العام الذي لا يعترض على مثل هذه الاتهامات المتناقضة، فكيف يكون الإنسان ساحراً ومسحوراً في آن واحد!
وهو الاتهام نفسه الذي تكرر ويتكرر والموجه إلى دعاة إصلاح الواقع الفاسد، وتنقيته من دنس الطُّغاة والطواغيت، فقد قالوا لصالح - عليه السلام -: { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ } (2). وقالوا لشعيب - عليه السلام -: { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ } (3).
الاتهام بالجنون والسفاهة
كان اتهام الدُّعاة والمصلحين بالجنون ولا يزال دأب الطُّغاة المفسدين، فهو سلاح قديم وحديث في آن واحد، استخدمه الطُّغاة لتصوير الدُّعاة والمصلحين بأنهم مجانين أو مختلو العقول أو متخلفون أو رجعيون وما إلى ذلك من الأوصاف التي يحلو لهم إطلاقها عليهم. وقد حكى القرآن الكريم نماذج من ذلك:
فها هو الملأ الطاغي من قوم هود يتهمونه بالجنون والسفه، قال تعالى: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (4).
وقوم نوح: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } (5).
__________
(1) سورة الإسراء/101.
(2) سورة الشعراء/153-154.
(3) سورة الشعراء/185.
(4) سورة الأعراف/66-67.
(5) سورة القمر/9.(1/176)
وقال فرعون كما حكى القرآن الكريم عنه: { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } (1). و: { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (2).
وقريش وصفت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك: { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } (3). و: { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } (4). و: { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } (5).
فالتهمة هي هي والألفاظ هي هي في مختلف العهود والحقب من عهد نوح - عليه السلام - ووصولاً إلى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا، وكأنها ميراث الطُّغاة ووصية الأشرار تواصوا عليها في تحدي المصلحين من الأنبياء والمرسلين ودعاة الخير. فمع أن الطوفان قد أغرق كل شيء مع الطُّغاة إلا أن أساليب الطُّغاة ووسائلهم بقيت هي هي قبل الطوفان وبعده وستبقى إلى يوم الحساب. أما لماذا؟ فيجيب على ذلك الإمام محمود شلتوت رحمه الله بقوله: "وإذا كان الباطل متشابه الصور والألوان، والقلوب المنكرة ذات معدن واحد في كل الأمكنة والأزمان فليس بدعاً أن يقول قوم محمَّد لمحمَّد: (إنك لمجنون)…وليس من عجب بعد هذا إذا رمى أرباب الشهوة والهوى في كل زمان دعاة الخير والمصلحين بالتهور والجنون، والخروج عن حد الاعتدال، فإنه سلاح سهل ميسور يلجأ إليه المفسدون وقد أعيتهم الحجة، ومقابلة الدليل بالدليل"(6).
الاتهام بالتآمر ضد مصالح الأمَّة
__________
(1) سورة الشعراء/21.
(2) سورة الذاريات/39.
(3) سورة الحجر/6.
(4) سورة الصافات/36.
(5) سورة القلم/51.
(6) شلتوت، محمود، تفسير القرآن الكريم (بيروت: دار الشُّرُوق، ط10، 1403هـ، 1983م)، ص502-503.(1/177)
تحاول المؤسَّسة الطَّاغوتية إثارة النقاط الحساسة التي تمس مشاعر الجمهور العام. وتدفعهم إلى الخوف والتوجس، واتخاذ ردود أفعال سلبية تجاه الدُّعاة والمصلحين أو كل من يقف في الطرف المعارض للسلطة. ولذا تحاول المؤسَّسة بكل الوسائل إقحام الدُّعاة والمصلحين في خط المواجهة ولو نظرياً أو وهمياً مع النَّاس الغوغائيين الذين دأبوا على تصديق كل ما تردده وسائل الإعلام.
فيحكي القرآن الكريم عن فرعون وملئه كيف اتهموا موسى وهارون عليهما السلام بالتآمر ضد مصالح الشعب، وذلك محاولة منهم الضرب على الوتر الحساس عند الرَّعيَّة وهو الإخراج من الوطن الحبيب على قلب كل إنسان، وأن فرعون لا يهمه الأمر كثيراً لولا أنهما يشكلان خطراً على الرَّعيَّة ومصالحها، قال تعالى: { قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(1) } .
{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } (2).
{ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } (3).
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } (4).
{ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى } (5).
__________
(1) سورة الشعراء/34-35.
(2) سورة الأعراف/109-110.
(3) سورة طه/63.
(4) سورة الأعراف/123.
(5) سورة طه/57.(1/178)
يقول الإمام الرَّازي: "وتركيب هذه الشبهة عجيب؛ وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون به مبغضين له جداً، وهو قوله: (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا)؟ وذلك لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية، ولذلك جعله الله مساوياً للقتل في قوله: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ } (1). ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته - عليه السلام -، وهي: أن ما جئتنا به سحر لا معجز. ولما علم أن المعجز إنما يتميز عن السحر، لكون المعجز مما يتعذر معارضته، والسحر مما يمكن معارضته قال: { فلنأتينك بسحر مثله } "(2).
ففرعون في هذا المشهد يتصرف بوصفه حامي الشعب ومصالحه من المفسدين الذين يريدون إخراجهم من أرضهم، وعليه فما دام الأمر بهذه الخطورة فإنه طلب من الملأ الذين يفترض فيهم أنهم نواب الشعب إصدار قرار بهذا الشأن أو السماح له لاتخاذ اللازم وهو قتل المفسدين. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لإضفاء صفة الشرعية على ما سيتخذه من قرار صارم بحق موسى وهارون عليهما السلام، ولإخراج نفسه من الورطة التي وقع فيها، والحيرة التي انتابته أمام الآيات التي سبق وأن طلب من موسى الإتيان بها.
__________
(1) سورة النساء/66.
(2) الرَّازي، التَّفسير الكبير (دار الكتب العلميَّة)، ج22، ص62. وسليم، محمَّد إبراهيم، قصة السحر والسحرة في القرآن الكريم لشيخ الإسلام الرَّازي (القاهرة: مكتبة القرآن، د. ط. ت)، ص89.(1/179)
ولا شك أن القصد من وراء ما سبق من الاتهامات هو تهيئة الرَّعيَّة نفسياً لتقبل ما ستتخذه الطَّاغية وأعوانه من سياسات قمعية تجاه الدُّعاة والمصلحين، لأنه والأمر هكذا لابد من الشدة والقوة فقال فرعون -وهو ما يردده من جاء بعده من الطُّغاة-: { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } (1).
ثم بنظرة سريعة إلى قول فرعون وملئه سنجد أن السبب لم يكن كما أوردوه من أنهما يريدان إخراج النَّاس من أرضهم، وإنما كان السبب هو الخروج عن سلطة الطَّاغية، أو حسب تعبير فرعون عدم أخذ رأيه في ذلك: { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } .
الاتهام بالتآمر لقلب نظام الحكم
دأب الطُّغاة على اتهام الدُّعاة والمصلحين بالتآمر لقلب نظام الحكم. وتحت مظلة هذا الاتهام يتم التخلص من كل من يشم منهم رائحة المعارضة، فنجد في مقدمة التهم التي وجهت إلى موسى وهارون عليهما السلام تهمة التآمر على السُّلطة والحكم. قال تعالى: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } (2). والمعنى أي: تكون لكما العظمة والملك(3). أو الملك والسلطان(4).
__________
(1) سورة طه/71.
(2) سورة يونس/78.
(3) ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص125.
(4) الدامغاني، قاموس القرآن، ص398.(1/180)
ويظهر التناقض واضحاً في هذا الاتهام لأنهم سبق أن اتهموه بالسحر والآن يظهرون الخوف منه على أنه مقدم على تغيير السُّلطة بدافع الهيمنة والاستحواذ عليها، حيث إن: "قولهم عنه إنه ساحر من جهة، ثم إظهار الخوف من جهة أخرى من أنه يريد أن يطيح بهم من السُّلطة في هذه الأرض كان تناقضاً صريحاً من جانبهم، وتأكيداً للخوف وفقدان الوعي الذي اعتراهم من هذه العلامة الأولى من علامات النبوة. فلو أنهم كانوا يرون موسى ساحراً حقاً لما خافوا من الثورة السِّياسيّة أبداً لأنه لم تحدث في العالم على الإطلاق ثورة سياسية بقوة ساحر ولا بجهد مشعوذ"(1).
فإذا كان هذا حال الساحر من أنه عاجز عن القيام بذلك، فكيف بالمسحور؟ وهل يمكن أن يقوم مسحور بتدبير المكائد والتخطيط لقلب نظام الحكم؟ لأنه سبق لهم أن اتهموا موسى - عليه السلام - بأنه مسحور بعد أن اتهموه بالسحر.
ثم لما انتصر الحق أمام الحشد العظيم بحث فرعون عن حجة لإخفاء ذلك النصر ولتخفيف آثاره على العامة، فكان لابد من حيلة إذن فقال: { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } (2): "وما أيسرها فزعم أن ذلك كان مؤامرة على الحكم من فئة متطرفة. إنه تواطؤ لإخراجهم من سلطة البلاد، والإطاحة برئيسهم الشرعي. ويبدو أن هذا الاختراع الذي أوجده فرعون راق في عيون الفراعين على التاريخ. فلا تتعب أفواههم من ترديده ضد كل دعوة حق حتى اليوم سيراً على نهج جدهم الأعلى"(3).
__________
(1) المودودي، فرعون في القرآن، ص14.
(2) سورة الأعراف/123.
(3) المودودي، فرعون في القرآن، ص26.(1/181)
يقول الرَّازي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ } (1): "يعني أنكم تلامذته في السحر، فاصطلحتم -اتفقتم وتؤاطأتم- على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه"(2).
ولعل هذه التهمة ليست من اختراعات فرعون وإن كان قد عبر عنها بوضوح حيث نجد أنها قد صدرت من الملأ الطاغي من قوم نوح له، قال تعالى: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)(3).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "فالملأ دفاعاً عن رياستهم على النَّاس وتسلطهم عليهم يقولون لقومهم: إن نوحاً بدعوته هذه يريد أن يتفضل عليكم، أي يترفع ويتعاظم عليكم، ويترأس عليكم. ويريد الملأ بهذا الادعاء صرف النَّاس عن نوح - عليه السلام - لتبقى سيطرتهم عليهم"(4).
وقد اتهم الطُّغاة من ملأ قريش الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتهمة نفسها، قال تعالى: (وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)(5).
قال الإمام الطبري رحمه الله: "إن هذا لشيء يراد. أي: إن هذا القول الذي يقوله محمَّد، ويدعونا إليه، من قول: لا إله إلا الله، شيء يريده منا محمَّد يطلب به الاستعلاء علينا، وأن نكون له فيه أتباعاً ولسنا مجيبيه إلى ذلك"(6).
__________
(1) سورة طه/71.
(2) الرَّازي، التَّفسير الكبير (طبعة دار الكتب العلميَّة)، ج22، ص76. وسليم، قصة السحر والسحرة، ص133-134.
(3) سورة المؤمنون/24.
(4) زيدان، عبدالكريم، أصول الدعوة (بيروت-بغداد: مؤسسة الرسالة-مكتبة المثنى، ط2، 1407هـ، 1987م)، ص385.
(5) سورة ص/6.
(6) الطبري، جامع البيان، ج23، ص126.(1/182)
وقال القرطبي: "وقيل: إن هذا لشيء يراد: كلمة تحذير. أي: إنما يريد محمَّد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه"(1).
- الحرب النَّفسية
يحاول الطُّغاة قبل أن يكشروا عن أنياب طغيانهم محاربة الدُّعاة والمصلحين نفسياً، وبأساليب عديدة لتثبيطهم وإدخال اليأس والقنوط في نفوسهم، ومن جانب آخر لتنفير الرَّعيَّة منهم، نشير إلى بعض من تلك الأساليب وهي الاستهزاء والسخرية، والتَّحقير والتثبيط والتشكيك. ولا شك أن كثيراً من الوسائل التي سبق ذكرها وما سيأتي منها تدخل تحت الحرب النَّفسية، ولا سيما فقرة الحملات الإعلاميَّة التشويهية.
الاستهزاء والسخرية
ما من داعية أو مصلح إلا وقد واجه الاستهزاء والسخرية من بني قومه المدفوعين من قبل السُّلطة أو الملأ. فها هو موسى - عليه السلام - يعرض رسالته مشفوعة بآيات ومعجزات تدل على صدق نبوته - عليه السلام -، إلا أنه لم يحصل في المقابل إلا على استهزاء القوم به وبالمعجزات التي أُيد بها، قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ } (2).
وها هو فرعون يستهزئ بموسى - عليه السلام - وهو يعرض عليه أمر الله سبحانه وتعالى بالإقلاع عن الطُّغيان، والرجوع إلى الله بقوله مخاطباً الملأ الجالس حوله: { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } (3). حيث أراد أن يري من حوله كيف أن موسى الذي يدعي النبوة في رأيه -فرعون- يدخل في نقاش غير مجدٍ(4).
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص152.
(2) سورة الزخرف/47
(3) سورة الشعراء/25-27.
(4) Husain, Akhlaq, (1969). Moses Versus Pharaoh. 1st edition. Karachi: International Islamic Publishers. p. 64.(1/183)
وخاطبت النُّخبة الطَّاغية شعيباً بقولها: { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } (1). والمراد من الاستفهام الإنكار والاستهزاء، وكذا وصفهم له بالحليم الرشيد.
وها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعرض لنفس الأمر من الملأ القرشي العاتي. بل إن ذلك كانت ولا تزال سنة متبعة، ووسيلة توسل بها كل طاغية على مدار التاريخ، قال تعالى:
{ وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } (2).
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } (3).
{ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } (4).
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا } (5).
التَّحقير
بما أن الطَّاغية محاط بكل ما من شأنه إظهار الجلال والأبهة عليه، لذا ينظر إلى كل من تحته نظرة تحقيرية، ولا سيما من يقف منه موقف الند والمعارضة. وهذه النظرة والتعامل مع الآخر إنما هي ناتجة عن غرور وتكبر الطَّاغية وأعوانه الذين يستمدون غرورهم واستكبارهم من غروره واستكباره.
__________
(1) سورة هود/87.
(2) سورة الرعد/32.
(3) سورة المطففين/29.
(4) سورة المؤمنون/110.
(5) سورة الفرقان/41.(1/184)
فها هو الطَّاغية يعلن على الملأ أنه لا يمكن بحال من الأحوال المقارنة بينه وبين موسى - عليه السلام -، بل إنه من غروره لم يذكر اسم موسى، وإنما ذكره بوصف تحقيري وهو: (الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ). قال تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } (1).
ومن العلل التَّحقيرية التي برر بها الطَّاغية رفضه لتقبل الإيمان أن موسى وهارون - عليه السلام - من قوم مستعبد له: { فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } (2).
__________
(1) سورة الزخرف/51-53.
(2) سورة المؤمنون/47.(1/185)
بل إنه وصف بني إسرائيل بالشرذمة تحقيراً لهم، مع أن عددهم قد تجاوز ستمائة ألف نسمة كما تذكر التوراة(1) وكتب التَّفسير(2)، ومعلوم أن الشرذمة وصف للجماعة القليلة(3) الحقيرة، قال تعالى: { فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } (4).
وقد رفضت النُّخبة الطَّاغية من قريش نبوة الرسول ورسالته - صلى الله عليه وسلم - وقالوا تحقيراً له - صلى الله عليه وسلم - لولا أنزل القرآن على رجل من القريتين -مكة والطائف- عظيم أي على جبار من جبابرة القريتين. وقيل المقصود بهما: الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي. وقيل: غير ذلك. والظاهر كما يقول ابن كثير: أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين(5)، وهو ما نقله القرآن الكريم عنهم، قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } (6).
التثبيط والتشكيك
__________
(1) انظر، الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح الثَّاني عشر: 27.
(2) نقل المفسرون عدد الذين كانوا مع موسى، ويبدو أن هذه الأرقام منقولة من التوراة وغيرها من الروايات الإسرائيلية، فقد أخرج الطبري عن ابن عباس أن عددهم كان ستمائة ألف يوم خروجهم من مصر. الطبري، جامع البيان، ج1، ص276-277، و: ج9، ص27. وقد ذكر القرطبي أرقاماً متناقضة في ذلك حيث يذكر أن العدد كان 630 ألف عندما جاء موسى بالرسالة، وأن العدد كان 600 ألف عندما خرجوا أو 630 أو 670 ألف. انظر على سبيل المثال: الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص94، و: ج13، ص99، ج9، ص268، و: ج8، ص377.
(3) انظر: الصنعاني، محمَّد بن إسماعيل (ت 1182هـ)، تفسير غريب القرآن، تحقيق: محمَّد صبحي بن حسن حلاق (دمشق-بيروت: دار ابن كثير، ط1، 1421هـ، 2000م)، ص206.
(4) سورة الشعراء/53-55.
(5) انظر، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص128.
(6) سورة الزخرف/31.(1/186)
من الوسائل التي تستخدمها المؤسَّسة الطاغوتية محاولة تثبيط المعارضين بصورة عامة وتشكيكهم في المنهج الجديد وبالقائمين عليه. قال تعالى:
{ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } (1).
وواضح أن الكلام يقصد به أيضاً التَّهديد والتخويف من أن الاتباع قد يتبعه إنزال العقوبات ولا سيما أن هذا الكلام صادر مِن مَنْ له سلطة وقوة في المجتمع.
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } (2).
يقول سيد قطب رحمه الله: "وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من آمن من الضعفاء بالفتن والتَّهديد: { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ } . وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف، ولاستنكار إيمانهم به، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة له من ربه"(3).
ونجد أن النُّخبة المستكبرة الطَّاغية دائماً وأبداً تعلن كفرها بكل الدعوات الإصلاحية وكما يذكر القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى:
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } (4).
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } (5).
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكفر أو الرفض متضمن نوع تهديد، لأن الطَّاغية أو النُّخبة الطَّاغية المستكبرة إذا أعلنت كفرها بالمنهج الجديد فمعناه أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من يدعو إليه ويتبعه.
- نبش ماضي الدُّعاة والمصلحين
__________
(1) سورة الأعراف/90.
(2) سورة الأعراف/75.
(3) قطب، في ظلال القرآن، ج8، ص1313.
(4) سورة الأعراف/76.
(5) سورة سبأ/34.(1/187)
لما كان للسيرة الحسنة دور كبير وفعال في نجاح الدعوة التي ينادي بها الداعي بين النَّاس، دأب الطُّغاة ووسائل إعلامهم على نبش ماضي الدُّعاة والمصلحين ووضعها تحت المجهر، ومحاولة تضخيم ما بدر منهم من أعمال وإن لم تكن ذات بال. فمن ذلك نجد محاولة فرعون إثارة هذه القضية الخطيرة، وفي موقف حساس وهو موقف عرض موسى - عليه السلام - للدعوة الجديدة عليه وعلى ملئه، لذا وجد أن أحسن وسيلة لتشويه الدعوة التي يحملها موسى - عليه السلام - والجامعة بين الهداية والتحرير هي إثارة الشبهات حول نزاهة موسى - عليه السلام -، وأنه - عليه السلام - ممن لا يمكن الاطمئنان إليهم، لما له من سوابق معروفة. قال تعالى حكاية عن فرعون وهو يخاطب موسى - عليه السلام -: { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ } (1).
فما دام أننا قد أحسنا إليك بحيث لا يمكن لأحد إنكار فضلنا عليك، ومع كل ذلك فقد فعلتم ما فعلتم. فإذا كان الحال كما سبق فكيف يمكن لنا أو للرعية الثقة بمن كان دأبه ما سبق. وهو أسلوب خطير في تشكيك المقابل بنزاهة موسى - عليه السلام - ومَن في موقعه. وبما أن فرعون هو الحاكم الطاغي فليس بمقدور أحد أن يعترض عليه، ويبين له وللحاضرين ملابسات قضية قتل موسى للقبطي، وأنه كان من قبيل الخطأ غير المتعمد.
وبما أنه لا جدوى من الالتفات إلى هذه المسألة، أو محاولة إقناع الطَّاغية وهو محاط بأعوانه وبين ملئه وأمام الجمهور العام، نجد أن موسى - عليه السلام - لم يلتفت إلى ذلك، وحاول الرد بالأسلوب نفسه من خلال تأليب العامة على فرعون، ومحاولة دفعهم للحديث والاعتراض فقال: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (2).
__________
(1) سورة الشعراء/18-19.
(2) سورة الشعراء/22.(1/188)
أي إنك لا تمتن علي بنعمة التربية في بيتكم لأنها في حد ذاتها دليل على ظلمك لي ولقومي الذين استعبدتهم، وما تربيتك لي إلا نتيجة الظُّلم الممارس من قبلكم تجاه النَّاس. قال الإمام البغوي رحمه الله: "تمن علي أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة…أي باستعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم دفعت إليك حتى ربيتني وكفلتني، ولو لم تستعبدهم وتقتلهم كان لي من أهل من يريبني، ولم يلقوني في اليم، فأي نعمة لك علي"(1).
- تزوير الحقائق وتمويه الأمور على النَّاس
من عادة الطُّغاة تزوير الحقائق أمام الرأي العام حتى يبقى صامتاً لا يحرك ساكناً، ويظهر هذا التزوير في اتهام الدُّعاة والمصلحين بما هو بعيد عن الحقيقة من الاتهام بالسحر والكذب والجنون وما إلى ذلك. ويتم صياغة تلك الاتهامات في قالب لا يحتمل الشك وكأنها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش لتلبيس الأمور على الرَّعيَّة، ويظهر هذا من خلال قصص الطُّغاة في القرآن الكريم: قصة فرعون والذي حاج إبراهيم في ربه وثمود وقصة الملك في قصة أصحاب الأخدود..الخ.
فها هو فرعون يقول لموسى - عليه السلام - أمام الملأ: { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ } (2).
{ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } (3).
__________
(1) البغوي، معالم التنزيل، ج3، ص384.
(2) سورة طه/58. يقول المودودي: "غير أن فرعون اللعين يبدو في هذا المشهد قمة في الديمقراطية إذا قيس بالفراعين الجدد، فهو مع اعتراضه على دعوة موسى ورفضه لها، أعطاه فرصة المواجهة، وفوض إليه تحديد الموعد لذلك. وربما كان فرعون على يقين من صحة نظريته في الحكم مما دفعه إلى هذا الطلب استخفافاً بموسى وبدعوته، وهذا يعني أن اللعين كان أشد إيماناً بنظريته في الحكم من فراعيننا الجدد، كما كان أعظم ديمقراطية منهم". المودودي، فرعون في القرآن، ص81.
(3) سورة الأعراف/132.(1/189)
كأن الأمر حقيقة، وأنه ساحر، فالمطلوب مواجهة سحره بسحر مثله، لذا فالأمر لا يقتضي الوقوف والتفكير فيما يقوله موسى - عليه السلام -، وفيما يطرحه من أفكار لأنها باختصار سحر، وعليه فلابد من مقابلته بسحر مثله.
يضاف إلى ما سبق من التزوير ذهابهم إلى أن قصد موسى - عليه السلام - بذلك السحر هو الإضرار بمصالح الشعب وإخراجهم من أرضهم، وهي أحب الأشياء إلى قلب الإنسان. وهذا ما رددوه في أكثر من موضع وعلى لسان فرعون والملأ والسحرة، وفي صيغة قطعية، وقد سبق ذكر الآيات التي تدل على ذلك في فقرة الاتهام بالسحر.
وفي حديث مسلم الذي يشرح جانباً من قصة أصحاب الأخدود مع الطَّاغية، حيث يخاطب الملك الطَّاغية الغلام الداعية أمام بطانته وفي بلاطه:
(فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب..)(1). مع أنه سمع من الجليس أن الله هو الذي شفاه. ولكنه تعمد تفسير ما حدث على أنه سحر.
يقول الخالدي: "ويتجلى خبث الملك ومكره في قوله للغلام: قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، حيث يحاول بذلك أن ينسب نجاح الغلام إليه، وأن يفسر أعماله بالسحر الذي تلقاه عن ساحر الملك. وفي هذا تزوير للحقائق، وتلبيس للأمور على النَّاس، وتفسير للحق بالباطل، لإخفاء الحقيقة على النَّاس"(2).
__________
(1) مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص2299-2300. باب قصة أصحاب الأخدود.
(2) الخالدي، مع قصص السابقين في القرآن، ج3، ص303.(1/190)
وقد حاول نمرود تزوير وتحريف مفهوم الإحياء والإماتة لدى النَّاس حينما زعم أنه قادر على ذلك، قال تعالى: { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } (1)، ويذكر المفسرون قصصاً كثيرة في ذلك وفي كيفية محاولته إثبات ذلك أمام الرَّعيَّة. ويدخل في دائرة تزوير الحقائق إظهار الطُّغاة حرصهم على الدِّين.
- الظهور بمظهر الحريص على الدِّين والأمن والاستقرار
يحاول الطُّغاة في كثير من الأحيان ولا سيما إذا ما شعروا بالخطر إظهار أنفسهم حماة للدين والأمن العام ولا سيما إذا كانت الرَّعيَّة مستخفة طائشة تصدق كل ما تسمعه من وسائل إعلام الطَّاغية. من ذلك نجد أن فرعون برر إقدامه على قتل موسى - عليه السلام - بأنه من الذين يريدون العبث والاستخفاف بالمقدسات وبالدِّين وتحريفه، وهو أمر يستحق كل من يقدم عليه القتل والتنكيل. إضافة إلى ذلك فإن السماح لأمثاله بالتحرك بحرية في المجتمع وعدم الأخذ على أيديهم مؤدٍ إلى ظهور الفساد والفوضى في الأرض، قال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } (2).
فادعاء الخوف على الدِّين من الفساد، والحفاظ على الأمن العام في البلاد من العابثين كان وراء حرص فرعون على قتل موسى - عليه السلام -، وكأنه لم يكن من ديدن فرعون –والفراعنة من قبله ومن بعد- الإقدام على قتل النَّاس أو اللجوء إلى البطش، ولكن حرصه على ما سبق كان الباعث له على اتخاذ قرار قتل موسى - عليه السلام -. هذا هو منطق الطُّغاة في إلباس الباطل لباس الحق، وفي تزيين أعمالهم الإجرامية في نظر الرأي العام.
__________
(1) سورة البقرة/258.
(2) سورة غافر/26.(1/191)
وكما يقول الغزالي: "المستبدون لا يعوزهم اختلاج الحجج لتبرير جرائمهم، وليس قلب الحقائق بالأمر العسير على من يريد سفك الدم الحرام! ومن ثم اتهم فرعون موسى بأنه مظنة تغيير الدِّين ونشر الفساد! أي دين؟ إنه الحكم المطلق الذي يبيح لبشر مغرور أن يستذل العامة ويستعمل الخاصة…وأي فساد يحذره فرعون على النَّاس بعدما أمر بقتل بنيهم واستبقاء بناتهم؟ إن الفساد في منطقه السقيم هو إيقاف هذا البغي"(1).
والواقع المعاصر يشهد كيف أن كثيراً من الطُّغاة يظهرون أنفسهم أمام وسائل الإعلام على أنهم متدينون وحريصون على الدِّين وأهله، وأنهم يدافعون عن المقدسات لكي ينخدع بذلك البسطاء والسذج من النَّاس. لذا يقومون بإثارة قضايا عامة تمس عواطف النَّاس ومشاعرهم وتدفعهم إلى حب كل من يدافع عنها. وإن كانت الحقيقة غير ذلك. بل يقومون بتغطية جرائمهم وأعمالهم الوحشية بغطاء ديني، من إطلاقهم أسماء سور القرآن الكريم على عمليات القتل والتهجير ضد المسلمين الأبرياء.
- إظهار الواقع وتصويره بالواقع النَّموذجي
وذلك لأن المحافظة على الواقع واستدامته معناها الحفاظ على الطَّاغية، ودوام حكمه وسلطته. قال تعالى: { قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى } (2). فطريقة فرعون وواقع دولته هي الطريقة المثلى التي يجب المحافظة عليها، ومحاولة إطالة أمدها، وجعلها من المقدسات.
__________
(1) الغزالي، محمَّد، الإسلام والاستبداد السِّياسيّ (مصر: دار الكتب الحديثة، ط2، 1380هـ، 1961م)، ص78.
(2) سورة طه/63.(1/192)
يقول الباقر رحمه الله: "الفراعنة على مر التاريخ حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع إلى المستقبل، وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه، زعزعة لوجودهم وهزاً لمراكزهم. ولذا كان من مصلحة فرعون على مر التاريخ أن يغمض عيون النَّاس عن هذا الواقع، وأن يحول الواقع الذي يعيشه مع النَّاس إلى مطلق، إلى إله، إلى مَثَل أعلى لا يمكن تجاوزه، فتتجمد الأمَّة في حاضرها ولا تطمع إلى التفيش –ربما التفتيش- عن مستقبل لها"(1).
ويظهر تقديس الطُّغاة للواقع في محاولتهم رفض كل إصلاح أو دعوة بحجة مخالفتها لما ورث عن الأسلاف، وقد تكرر هذا مع كل الدعوات، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } (2).
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } (3).
{ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } (4).
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (5).
فهذه وسيلة اتبعها كل السادة المستكبرين، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } (6).
__________
(1) الباقر، السنن التاريخية في القرآن، ص111.
(2) سورة يونس/78.
(3) سورة القصص/36.
(4) سور المؤمنون/24.
(5) سورة الزخرف/22.
(6) سورة الزخرف/23.(1/193)
فالخط السائد في العلاقة الفرعونية هو: "الحفاظ على النظم الممثلة لها وسياستها وأطرها الفكرية باعتبارها الطريقة المثلى مهما كانت تتسم بالظُّلم والاستبداد، ومحاولة بث هذا التصور في القوم من خلال إيهامهم بفاعلية تلك الطريقة، وأفضليتها عن غيرها في نمط القيادة، إنها نظرية مثلى وهدف الخصوم هو هدمها والوقوف ضد مكتسباتها بما يتطلبه ذلك من ضرورة الوقوف في وجه هؤلاء والأخذ على أيديهم"(1).
المبحث الثَّاني
الأساليب الماديَّة
تقوم المؤسَّسة الطاغوتية باستخدام وسائل كثيرة لإخضاع الرَّعيَّة لسيادتها من جانب، ومن جانب آخر لضرب المعارضة إن وجدت حتى لا تتمكن من إيجاد موطن قدم لها على الساحة السِّياسيّة، لأن مجرد السماح للمعارضة بالتنفس معناه قرب زوال حكم الطَّاغية. وقد ذكر القرآن الكريم عدداً من تلك الوسائل الماديَّة التي تستخدمها السُّلُطات الطاغوتية. وقد لخص قوله تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } (2)، جانباً كبيراً من ذلك فمع أن الآية قصيرة إلا أنها تضمنت مجموعة من الوسائل الطاغوتية القمعية نشير إليها أولاً، ثم نذكر بعدها وسائل مادية أخرى ذكرها القرآن الكريم.
- بثّ الفرقة
__________
(1) إسماعيل، سيف الدِّين عبدالفتاح، في النظرية السِّياسيّة من منظور إسلامي؛ منهجية التجديد السِّياسيّ وخبرة الواقع العربي المعاصر (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1419هـ، 1998م)، ص407.
(2) سورة القصص/4.(1/194)
كانت الوحدة ولا تزال من أخطر الموانع التي تقف في وجه الطواغيت في ممارسة الظُّلم والطُّغيان ضد الرَّعيَّة، لذا وجد الطُّغاة لزاماً عليهم أن يعملوا كل ما في وسعهم للقضاء عليها ومنع ظهور تلك الوحدة بين الرَّعيَّة ولو كانت وجدانية، وذلك لأنها ربما تتطور إلى وحدة حقيقة في الواقع، وعند ذلك تكون نهاية الطَّاغية وأعوانه. لذا نجد أن كل طاغية عمل ويعمل من أجل إشاعة التفرقة بين الرَّعيَّة، حتى لا تتكاتف جهودها لإسقاطه، وهو ما لخصه قوله تعالى في بيان سياسة فرعون موسى في إشاعة التفرقة بين الرَّعيَّة وتقسيمها إلى أحزاب وجماعات متنازعة فيما بينها ومتحاربة، قال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } (1).
قال المراغي: "أي وفرقهم فرقاً مختلفة، وأحزاباً متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء، كيلا يتفقوا على أمر، ولا يجمعوا على رأي، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هي سياسة الدول الكبرى في العصر الحاضر، وذلك هو دستورها في حكمها لمستعمراتها، وقد نقش حكامها في صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه (فَرِّق تَسُدْ)، وطالما أجدى عليه في سياسة تلك البلاد، التي يعمها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور، ويرضون بالنفاية والقشور"(2).
__________
(1) سورة القصص/4.
(2) المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي (د. م: دار الفكر، ط3، 1394هـ، 1974م)، ج20، ص33.(1/195)
وقد مكن لفرعون موسى ذلك أشد التمكين وجود أقوام مختلفة في المجتمع (الأقباط، الإسرائيليون)، مما سهل عليه وعلى أعوانه إثارة الحقد والبغضاء بينهم. ثم لم يكتف بذلك وحده وإنما قسم كل جنس منهم إلى فرق وأحزاب متباغضة فيما بينهم فها هم بنو إسرائيل مقسمون إلى أقسام، فهناك المقربون إلى فرعون، وهنالك المبعدون المضطهدون. وهذا ما يوضحه قوله تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (1). فالملأ من بني إسرائيل كانوا مقربين من فرعون، وقد نابوا عنه في إثارة وإشاعة الخوف بين بني إسرائيل ولا سيما قارون عامل فرعون عليهم.
وهذه الوسيلة قديمة قدم الطُّغاة وقائمة على قدم وساق، فها هو أرسطو يصف هذه السياسة الطاغوتية وكأنه يتحدث عن طغاة العصر الحديث حيث يقول: إن الطَّاغية يعمل كل ما في وسعه لمنع الاجتماعات واللقاءات العامة بين المواطنين لمناقشة القضايا، وإنه يستخدم كل وسيلة ممكنة لمنع النَّاس من التعارف، وذلك حتى لا يكون هناك ثقة متبادلة بينهم. ويفرض على كل مواطن أن يظهر بشكل مستمر في المجتمع حتى يعرف الطَّاغية ماذا يفعل كل فرد في المجتمع، ويكون مطلعاً على كل تحركاتهم(2).
- الاستعباد
__________
(1) سورة يونس/83.
(2) Aristotle. the politic (1313B). P.136.(1/196)
الطُّغيان والاستعباد توأمان، فما أن يولد الطُّغيان في مجتمع إلا ويردفه الاستعباد. لأن فلسفة الطُّغيان قائمة على استضعاف واستعباد الآخرين. لذا لا نجد في القرآن الكريم ذكراً للطغاة والمستكبرين إلا وقد قرن ذلك بذكر الاستعباد والاستضعاف، فاستعباد الآخرين صفة مميزة للطواغيت والمستكبرين، وهي الوسيلة الفعالة في أيديهم لمنع كل مقاومة لدى الرَّعيَّة. والآيات التي تشير إلى أن الطُّغاة يقيمون عروشهم على أكتاف المستضعفين المستعبدين كثيرة، قال تعالى:
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (1).
وقال تعالى: { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } (2).
وكل المعاني التي ذكرها المفسرون للآية تفيد معنى الاستعباد والإذلال، وقد لخص الماوردي (ت 450هـ) رحمه الله ما قيل في تفسير (عابدون) بأنهم: "مطيعون، خاضعون، مستعبدون، والوجه الرابع: كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون"(3). وقد أشارت التوراة إلى مسألة استعباد فرعون لبني إسرائيل في مواضع عديدة(4). والمفهوم المخالف للعلو المذكور في بداية الآية التي ذكرت في مقدمة هذا المبحث هو الاستعباد والاستضعاف للطرف المقابل، لذا ذكر بعد علو فرعون وفي الآية نفسها استضعاف الآخرين.
__________
(1) سورة الشعراء/22.
(2) سورة المؤمنون/46-47.
(3) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمَّد، النكت والعيون تفسير الماوردي، مراجعة وتعليق: السيد بن عبدالمقصود بن عبدالرحيم (بيروت: دار الكتب العلميَّة-مؤسسة الكتب الثقافية، د. ط. ت)، ج4، ص55.
(4) انظر، الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح الأول: 12-14. والإصحاح السَّادس: 5، 9. والإصحاح الثَّالث عشر: 14.(1/197)
وحيث ما ذكر الطُّغاة المستكبرون في القرآن الكريم ذكر معهم المستضعفون والمستعبدون ليدل بذلك أنه لا طغيان إلا باستبعاد الآخرين، قال تعالى: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } (1).
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (2).
__________
(1) سورة الأعراف/75.
(2) سورة سبأ/31-33.(1/198)
واستعباد الآخرين وسيلة فعالة لمنع الرَّعيَّة من القيام بأي تحرك مضاد للطاغية أولاً، وثانياً لخلق اليأس والقنوط في نفوسها. لأن العبودية تجعل من الإنسان في كثير من الأحيان أن لا يفكر في شيء لما هو عليه، وهذا ما أشارت إليه التوراة. بل تدفعه إلى عدم الاستماع لأي دعوة للتغيير فتذكر التوراة ذلك في إعراض بني إسرائيل عن موسى - عليه السلام -: (ولكنهم -بني إسرائيل- لم يسمعوا لموسى من صغر النَّفس ومن العبودية القاسية)(1).
- الفساد الخلقي
قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } (2).
نظراً لأن المجتمع المحكوم من قبل الطَّاغية مجتمع تنعدم فيه الثقة بين أفراده لما يقوم به الطَّاغية من إشاعة الفرقة والتمزق بين فئاته المختلفة، فإن الفرد في هذا المجتمع مضطر في غالب الأحيان إلى إظهار ما ليس في نفسه، وإلى التعامل بازدواجية مع قضايا الحياة اليومية ومع الآخرين. مما يعني أن الأخلاق الحقيقة للإنسان في هذا المجتمع لا تظهر ولا تبرز. ومن ناحية أخرى فإن العبودية المترسخة في المجتمع تؤثر في أخلاق الفرد أيما تأثير حيث يتعامل مع كل ظواهر الحياة بنفسية العبيد وأخلاقهم بعيداً عن أخلاقيات الإنسان الحر العزيز. وبذلك لا يهمه كثيراً ما يصدر عنه من التصرفات والأفعال والأقوال، أو ما يتعرض له على أيدي الآخرين.
__________
(1) الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح السَّادس: 9.
(2) سورة الفجر/6-12.(1/199)
يقول إمام عبدالفتاح: "إن حكم الطَّاغية يقضي على مبادئ الأخلاق، وهي نتيجة حتمية لحكم يبني على الخوف، وبث الرعب في قلوب النَّاس، واستخدام السيف أو التلويح باستخدامه في كل لحظة، فمن ذا الذي يستطيع في مثل هذا الجو الخانق أن يقول الصدق أو يشهد بالحق؟ أو يتمسك بأهداب الفضيلة؟ أو يرفض أن يرتشي؟ أو يأبى شهادة الزور؟ ثم إذا كان الحاكم نفسه يدعو الأخ ليتجسس على أخيه، والطالب على معلمه، والموظف على رئيسه، الخ فكيف يمكن أن تكون هناك أخلاق؟! وهل يمكن أن تكون هناك مبادئ أخلاقية من دون فرد يحترم نفسه، وتحترمه الدولة وتصون كرامته"(1).
ففي ظل حكم الطَّاغية وكما يقول الكواكبي رحمه الله فإن: "طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع النَّاس الاستبداد في تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتواً، والحمية حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاروه على اعتبار أن النِّفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة"(2). ويضيف في موضع آخر قائلاً: "الاستبداد يضطر النَّاس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحس وإماتة النَّفس ونبذ الجد وترك العمل، إلى أخره"(3).
__________
(1) إمام، الطَّاغية، ص352-353.
(2) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص485.
(3) المرجع السابق، ص499.(1/200)
أما لماذا يشجع الطَّاغية الفساد الخلقي فذلك لأن الإنسان الحر صاحب الأخلاق الرفيعة هو الوحيد الذي يفكر في تغيير الواقع المفروض عليه من قبل الطَّاغية. أما الحديث عن جزئية من الأخلاق وهي مسألة العفة وما إلى ذلك مما يتبادر الذهن إليه بمجرد النطق بكلمة الأخلاق ولا سيما في العالم الإسلامي، فإن الفساد والانحلال في تلك الجزئية ليسا بأحسن مما هو عليه في الأخلاق الأخرى، وذلك لأنه بوجود الاستعباد فإن الأعراض لا تكون محفوظة ومستورة بحال من الأحوال، وبذلك نفهم سر قتل الطُّغاة للرجال، والإبقاء على النساء أحياء، وهو ما اتبعه فرعون ومن بعده كما سيأتي لاحقاً.
فليس وراء الطُّغيان إلا الفساد كما يقول سيد قطب رحمه الله: "فالطُّغيان يفسد الطَّاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطُّغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف، المعمر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال…ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحُرِّيَّة. والنَّفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعاً لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد. ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطُّغاة والطُّغيان. فلابد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة، وهو فساد أي فساد"(1).
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن، ص3904.(1/201)
أما لماذا يحدث هذا التدهور الأخلاقي في ظل الطُّغيان فذلك ما يبينه ابن خلدون رحمه الله بقوله: "فإن الملك إذا كان قاهراً، باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات النَّاس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم"(1).
- اللجوء إلى استخدام البطش والإرهاب
بما أن فلسفة الطُّغيان قائمة على الظُّلم والإرهاب لإخضاع واستعباد الرَّعيَّة، فقد دأب الطُّغاة على مقابلة كل محاولة لجرهم إلى الحوار بالقوة والبطش لأن عقولهم وكما يقول الغزالي: "لا تعرف مبدأ التفاهم، ولا تطيق الأخذ والرد والوصول إلى الحق…يكاد لا ينبعث صوت للخير حتى يلاحقه سوط من الإرهاب يطلب إخراسه وإما قتله"(2).
ويظهر هذا جلياً من الحوار الذي دار بين موسى - عليه السلام - وفرعون، وكيف قفز فرعون مباشرة من المحاورة الهادئة إلى التَّهديد بالسجن والقتل وما إلى ذلك من الأساليب القمعية. وكذلك من الحوار الذي دار بين إبراهيم - عليه السلام - وبين نمرود وكيف تم الانتقال إلى التَّهديد والوعيد، ومن ثم إنزال العقوبة والإلقاء في النار.
وهذه العقلية أي تصفية المقابل مترسخة ليس في نفوس الطُّغاة فحسب، بل في نفسية كل فرد من أفراد المؤسَّسة الطاغوتية، بل ويتجاوز ذلك إلى الأفراد العاديين في المجتمع الطاغوتي. نذكر هنا نماذج لاستخدام الطُّغاة البطش والإرهاب ضد الآخرين، منها:
التَّهديد والتخويف بالنفي والتشريد
__________
(1) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج1، ص188-189.
(2) الغزالي، الإسلام والاستبداد السِّياسيّ، ص84.(1/202)
التَّهديد بالنفي والإخراج من الوطن العزيز على الفؤاد وسيلة يتوسل بها الطُّغاة دائماً وأبداً لإرغام المصلحين والدُّعاة والمعارضين بصورة عامة على التنحي عن مسرح الحياة السِّياسيّة، وذلك إما بالاعتزال والجلوس في بيوتهم، وفي حال امتناعهم عن ذلك يتم تنحيتهم وذلك بإبعادهم ونفيهم. وقد بين القرآن أن هذا دأب الطُّغاة. قال تعالى:
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (1).
وهذه سنة الطُّغاة في كل زمان ومكان، قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } (2).
وها هي النُّخبة الطَّاغية من قريش تخطط لذلك كما حكى القرآن الكريم ذلك بقوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (3).
التَّهديد والتخويف بالسجن والتعذيب
قلما تسير الأمور في مجاريها الصحيحة في الدولة الطاغوتية، وقلما يتم استخدام الشيء في موضعه الأصلي لأن الدولة من أساسها قائمة على المجاوزة والطُّغيان والظُّلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه الأصلي. لذا نجد أن الأمور فيها تكون مقلوبة، فبدلاً من أن يكون السجن مكاناً لإيداع المجرمين الذين يعتدون على النَّاس، ليتم فيه إصلاحهم وتأهيلهم من جديد ليكونوا أفراداً صالحين في المجتمع؛ إذاً بالسجن يتحول في الدولة الطَّاغية إلى معسكر ومستودع يتم فيه جمع الدُّعاة والمصلحين والمفكرين الأبرياء.
__________
(1) سورة الأعراف/88.
(2) سورة إبراهيم/13.
(3) سورة الأنفال/30.(1/203)
ومؤسسة السجن كانت ولا تزال لها في الدولة الطَّاغية شهرتها وصيتها، ولكن ليس في الإصلاح والبناء والتربية، وإنما في إبعاد وتنحية الأخيار من الدُّعاة والمصلحين عن مسرح الحياة. لذا نجد فرعون يهدد موسى - عليه السلام - بأنه سيجعله من المسجونين ولم يقل له: سأسجنك وإنما قال سأجعلك من المسجونين، وذلك حيث لسجون الطُّغاة شهرتها. قال تعالى حكاية عن فرعون وهو يخاطب موسى - عليه السلام -: { قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ } (1).
يقول المراغي رحمه الله: "أي لأجعلنك في زمرة الذين في سجوني على ما تعلم من فظاعة أحوالها، وشديد أهوالها، وكانت سجونه أشد من القتل لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه في هوة عميقة تحت الأرض وحده"(2).
ويبين هذا التَّهديد طريقة تفكير الطُّغاة الذين لا يطيقون الحوار ومقابلة الدليل بالدليل، بل ينتقلون ونتيجة الإفلاس الفكري من الحوار إلى الاتهام بالجنون وغيره ثم مباشرة إلى التَّهديد بالسجن و..الخ.
__________
(1) سورة الشعراء/29.
(2) المراغي، تفسير المراغي، ج19، ص55. ولا شك أن سجون فرعون هذه تعد بمثابة فنادق خمس نجوم إذا ما قورنت بسجون الطواغيت المعاصرين، وبما يلاقيه السجناء من شتى أصناف التعذيب المتطورة.(1/204)
يقول سيد قطب: "الطُّغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية. ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عندما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتَّهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطُّغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين: قال: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين. هذه هي الحجة، وهذا هو الدليل: التَّهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد، وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشُّعُور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطُّغاة وطريقهم في القديم والجديد!"(1).
وها هي النُّخبة الطَّاغية من قريش تتآمر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد إفلاسها في مواجهة الحق بالدليل والبرهان كما ينقل القرآن الكريم ذلك في قوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (2). فإنهم لما اجتمعوا لوضع خطة يتم بها القضاء على الدعوة الجديدة كان من جملة ما اقترحوه هو السجن المؤبد حيث قال قائل منهم: "احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء"(3).
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن، ص2593.
(2) سورة الأنفال/30.
(3) السهيلي، الروض الأنف، ج4، ص177.(1/205)
ولا شك أن الدولة التي يحكمها الطَّاغية تعد بمثابة سجن كبير تعيش فيه الرَّعيَّة حيث لا حرية ولا تعبير، بل إن مجرد التفكير ممنوع ومعاقب عليه، لذا فكل فرد من أفراد الدولة يعيش في سجن ذهني مع نفسه، وإن كان طليق الجسد، يذكر الكواكبي كعادته وصفاً دقيقاً ومبدعاً لذلك حيث يقول: "يا قوم: قاتل الله الغباوة، فإنها تملأ القلوب رعباً من لا شيء، وخوفاً من كل شيء، وتفعم الرؤوس تشويشاً وسخافة. أليست هي الغباوة جعلتكم كأنكم قد مسكم الشيطان، فتخافون من ظلكم، وترهبون من قوتكم، وتجيشون منكم عليكم جيوشاً ليقتل بعضكم بعضاً. تترامون على الموت خوف الموت، وتحبسون طول العمر فكركم في الدماغ، ونطقكم في اللسان، وإحساسكم في الوجدان، خوفاً من أن يسجنكم الظالمون، وما يسجنون غير أرجلكم أياماً، فما بالكم يا أحلاس(1) النَّاس مع الذل تخافون أن تصيروا جُلاس الرجال في السجون"(2).
الاغتيال والكيد
يحاول الطَّاغية في كثير من الأحيان التخلص من المعارضين وبطرق خفية خبيثة، حتى لا تثير عملية قمع وقتل هؤلاء حفيظة الرَّعيَّة. يتم في سبيل ذلك تدبير حوادث يتم بها تصفية المعارضين والدُّعاة المصلحين. أو وضع خطط يصعب معها حدوث أية مواجهة من قبل الشعب. وهذا ما حاول تطبيقه النُّخبة الطَّاغية من ملأ صالح - عليه السلام -، قال تعالى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } (3).
__________
(1) أحلاس النَّاس: الملازمون للنساء.
(2) الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص510.
(3) سورة النمل/48-51.(1/206)
ثم نجد ذلك واضحاً من محاولات الملك الطَّاغية لقتل الغلام حامل راية الدعوة الجديدة بطريقة لا تثير أية شكوك كما ورد في الحديث: (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشى إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه)(1).
يقول هشام صقر معلقاً على أسلوب الملك: "والأسلوب الذي استخدمه الملك الطَّاغية للضغط على الغلام ليرتد عن دينه، أو التخلص منه أسلوب خبيث ولا يزال يستخدم حتى اليوم، أن يعدم الدُّعاة بطريقة كأن الحادث غير مفتعل، وكأنه قدري صرف دون تدخل بشر أو تعمد، فسقوط الغلام من أعلى الجبل، أو غرقه في البحر أمر يمكن أن يكون حادثاً يتقبله النَّاس من دون لفت نظر، وقد تزيد الحبكة السِّياسيّة فيحضر الملك بنفسه أو مندوبه الجنازة، ويتأسف كثيراً على موت هذا الغلام النابه، بل وقد يصرف تعويض أو معونة لأهله، الخ من الأساليب التي لا يعدم أهل الباطل أن يتفننوا، ويحدثوا فيها الجديد والمبتكر"(2).
__________
(1) مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص2299-2300. باب قصة أصحاب الأخدود.
(2) صقر، غلام الدعوة، ص111-112.(1/207)
أو كما خططت النُّخبة الطَّاغية من قريش في العملية التي أرادوا بها قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (1). وتنقل كتب السيرة تفاصيل الخطة: "فقال أبو جهل ابن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا -الملأ من قريش- وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعَقْل، فَعَقَلناه لهم"(2).
قتل الأبناء وهتك الأعراض
قتل الأبناء وهتك الأعراض يؤدي في كثير من الأحيان إلى ترك كثير من أصحاب الدعوات لأفكارهم، واللواذ بأنفسهم إلى الاعتزال مما يدخل الإحباط والتثبيط في نفوس الأقران وعدم الثقة في نفوس الأغيار. وقد ذكر القرآن الكريم وفي آيات كثيرة هذه السياسة الطاغوتية، قال تعالى:
{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } (3).
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } (4).
__________
(1) سورة الأنفال/30.
(2) السهيلي، الروض الأنف، ج4، ص178.
(3) سورة الأعراف/127.
(4) سورة غافر/25.(1/208)
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (1).
{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (2).
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (3). فقوله: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) مفسرة لسوء العذاب.
أما لماذا يقتلون الأبناء ويستحيون النساء؟ فإنهم يفعلون ذلك كما يقول الخالدي: "ليقفوا في طريق الدعوة، ويوقفوا انتشارها بين الآخرين، حيث سيفكر هؤلاء الآخرون طويلاً قبل انضمامهم للدعوة، خوفاً على أبنائهم ونسائهم. وهم يفعلون هذا ليضغطوا على المؤمنين ضغطاً مؤلماً، ومن النقطة التي تؤلمهم أكثر من غيرها، والتي يظنونها نقطة الأسرة والعائلة، والأولاد والبنات. وهي نقطة ضعف حقاً، والضغط عليها مؤلم جداً، قد يفضي بأناس إلى التخلي عن الحق فعلاً"(4).
وقد أشارت التوراة إلى مسألة قتل أبناء بني إسرائيل في عدة مواضع منها قولها: (وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما شفرة واسم الأخرى فوعة. وقال حينما تُولِدان العبرانيات وتَنظرانِهِنَّ على الكراسي. إن كان ابناً فاقتلاه وإن كان بنتاً فتحيا)(5).
__________
(1) سورة البقرة/49.
(2) سورة الأعراف/141.
(3) سورة إبراهيم/6.
(4) الخالدي، مع قصص السابقين في القرآن، ج1، ص102.
(5) الكتاب المقدس، سفر الخروج، الإصحاح الأول: 15-16.(1/209)
وهتك الأعراض كان ولا يزال من أكثر الوسائل فعالية واستخداماً من قبل الطُّغاة لإرغام الرَّعيَّة على الخضوع والسكوت، والدُّعاة والمصلحين على الجلوس والاعتزال.
قتل الأنفس وعلى رأسها دعاة الإصلاح
تحاول المؤسَّسة الطاغوتية أول ما تحاول إرجاع أصحاب الدعوات الإصلاحية إلى الخضوع والانقياد من جديد للسلطة حتى لا تثير عملية قمع هؤلاء بقية الرَّعيَّة أو الجمهور العام، فنجد أن فرعون حاول إقناع موسى - عليه السلام - أول الأمر وكذا فعل مع السحرة، ونجد ذلك واضحاً من محاولة النُّخبة الطَّاغية مع صالح وشعيب عليهما السلام، وهو عين ما مارسه الملك الطاغي مع أصحاب الأخدود والغلام. وعين ما قام به الملأ الطاغي من قريش مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
يقول الآلوسي: "قال الملأ الذين استكبروا…قال أشراف قومه -شعيب- المستكبرون متطاولين عليه - عليه السلام - غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغاً عظيماً: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم…أو لتعودن في ملتنا عطف على جواب القسم أي: والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود، وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه - عليه السلام - بجواب الإخراج والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى"(1).
فإذا باءت تلك المحاولات بالفشل فإن المؤسَّسة الطاغوتية تبدأ بتعذيب الرَّعيَّة قبل المصلح أو الداعي وذلك أملاً في إرجاع الضعفاء إلى الصف العام وذلك لقطع الروافد عن الدعوة الجديدة ولإدخال اليأس والإحباط في نفسية المصلح.
__________
(1) الآلوسي، روح المعاني، ج9، ص2.(1/210)
وهذا واضح في قتل فرعون للسحرة قبل موسى - عليه السلام -، وقتل الملك للراهب والجليس قبل الغلام الذي مثل الرأس كما ورد في حديث مسلم السالف الذكر(1)، وقتل الملأ الطاغي من قريش لصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمثال آل ياسر وغيرهم في مكة.
أما لماذا لا يقوم الطُّغاة بقتل المصلحين والدُّعاة مباشرة وعلناً في أغلب الأحيان، فذلك لأسباب منها: مكانة الداعية في المجتمع وما يتمتع به من الجاه كما كان الحال مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذا مع شعيب - عليه السلام -.(2) ومنها أن المصلح أو الداعية له من الشهرة بين النَّاس بحيث تؤدي عملية قتله إلى إثارة اضطرابات ومشاكل في المجتمع، كما كان الحال مع الغلام في قصة أصحاب الأخدود. إضافة إلى ذلك فإن الطَّاغية حريص كل الحرص على إغواء الداعية وإعادته إلى حضيرة الطُّغيان والإبقاء عليه حياً ليكون مثالاً للإنسان اللامبدئي المتذبذب وبذلك تكون النتيجة الموت للدعوة الجديدة، واليأس والقنوط في نفوس العامة من أية دعوات مستقبلية للتغيير. وهذا ما عملته أغلب النخب الطَّاغية أو الطُّغاة مع الرسل عليهم السلام.
__________
(1) مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص2299-2300. باب قصة أصحاب الأخدود.
(2) قال تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)، سورة هود/91.(1/211)
وبعد أن يذكر القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود وما تعرضوا له من الظُّلم والإرهاب والوحشية على أيدي الملك الطَّاغية نجد القرآن يعقب على ذلك بذكر فرعون وثمود -النُّخبة الطَّاغية منهم- لنفهم أن استخدام العنف والبطش والإجبار وإرغام النَّاس وحملهم على فكر الطَّاغية كان ولا يزال من ديدن الطُّغاة لا فرق بين الملك الذي خد الأخاديد أو فرعون موسى أو النُّخبة الطَّاغية من ثمود أو الملأ الطاغي من قريش أو من جاء بعدهم، فالأمر سيان، وكأنهم وكما يقول القرآن { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } (1). فكلهم حاولوا قتل الدُّعاة والمصلحين ولا سيما فرعون ومحاولته قتل موسى - عليه السلام -، ونمرود ورميه بإبراهيم - عليه السلام - في النار، والنُّخبة الطَّاغية المفسدة من ملأ صالح وتخطيطهم لاغتياله - عليه السلام - ليلاً، والملأ القرشي الطاغي ومحاولتهم قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم ليلة الهجرة. وكان التَّهديد به دائماً هي الوسيلة المناسبة للمواجهة، قال تعالى: { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ } (2).
{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } (3).
{ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا } (4).
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } (5).
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ } (6).
__________
(1) سورة الذاريات/53.
(2) سورة الشعراء/116.
(3) سورة هود/91.
(4) سورة الكهف/20.
(5) سورة مريم/46.
(6) سورة العنكبوت/24.(1/212)
{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ } (1).
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2).
ويذكر أفلاطون وسيلة تعمد الطُّغاة قتل الدُّعاة والمصلحين بقوله: ويا لها من طريقة في التطهير. إنها عكس طريقة الأطباء، فهؤلاء يخلصون الجسم مما هو ضار فيه ويتركون ما هو نافع، أما الطَّاغية فيفعل العكس(3). حيث يقتل الطَّاغية المصلحين بل وكل من تشم منه رائحة الإصلاح، ويُبقي على المنافقين والمتملُّقين ويقربهم إلى مجلسه.
- مصادرة الحريات
الطُّغيان والحُرِّيَّة ضدان لا يمكن أن يجتمعا معاً في دولة واحدة. فإذا وجد الطُّغيان فمعناه حرمان النَّاس من ممارسة كل ما له علاقة بالحُرِّيَّة، حيث تتحول الرَّعيَّة في دولة الطُّغيان إلى قطعان من العبيد ليس لها إلا اتباع الطُّغاة وسياستهم. وبمراجعة آيات الذكر الحكيم التي تحدثت عن الطُّغاة والطُّغيان نجد أن الطُّغاة يحرمون الرَّعيَّة من الحريات الآتية؛
حرية الاعتقاد والتدين
قال تعالى:
__________
(1) سورة الأنبياء/68.
(2) سورة يس/18.
(3) Plato. The Republic. P.389.(1/213)
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1).
وقال تعالى حكاية عن فرعون وهو يخاطب السحرة بعد إيمانهم: { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ } (2).
__________
(1) سورة سبأ/31-33.
(2) سورة طه/71.(1/214)
يمنع الطُّغاة حرية الاعتقاد ولا سيما الإيمان بالله سبحانه وتعالى، لأن ذلك يقتضي الخضوع والانقياد له سبحانه وتعالى ورفض ما عدا ذلك، لأنه هو المالك الحقيقي لكل ما في الكون، ولذا فليس لأحد غيره من الأمر من شيء، وهذا ما يخافه الطُّغاة لذا يضعون العوائق أمام الإيمان بالله سبحانه تعالى. وقد صرح القرآن الكريم بأن الطُّغاة ينقمون من المؤمنين بسبب إيمانهم، قال تعالى حكاية عن السحرة وهم يخاطبون فرعون: { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا } (1)، وقال عز وجل في قصة أصحاب الأخدود: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } . أما لماذا ذلك الخوف من الإيمان بالله، وتلك النقمة على المؤمنين فهو ما تبينه تكملة الآية: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (2).
لأن الله هو المالك الحق لما في السموات والأرض، وعليه فلن يبقى بعد الإيمان بالله المالك الحق للطغاة مكان ليس في السُّلطة فحسب وإنما قبل ذلك في القلوب التي كانت مليئة بالخوف والفزع منهم في غياب الإيمان بالله. بل إن الطَّاغية يجعل من نفسه رقيباً على قلوب وعقول الرَّعيَّة بحيث يحرم عليهم الإيمان بشيء سواه، قال تعالى حكاية عن فرعون: { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } (3). و: { قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ } (4).
__________
(1) سورة الأعراف/126.
(2) سورة البروج/8-9.
(3) سورة طه/71.
(4) سورة الشعراء/29.(1/215)
فهناك علاقة قوية بين حرية الاعتقاد وبين الكفر بالطاغوت، أو بعبارة أخرى بين الإيمان بالله سبحانه وبين حرية الاعتقاد والتدين، قال تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1).
فعدم الإكراه في الدِّين معناه: إطلاق الحُرِّيَّة الدِّينية العقدية، وأن الإنسان له حرية الاختيار في ذلك. في حين أن الإيمان بالطاغوت وعدم الكفر به معناه الخضوع والانقياد، وفي نهاية الأمر مصادرة الحريات التي هي من أهم صفات الطُّغاة ومن وسائلهم المعروفة. فإذا أراد الإنسان أن يبني مجتمعاً يتمتع بالحُرِّيَّة فلا بد أولاً وقبل كل شيء أن يكفر بكل الطواغيت وعلى اختلاف ألوانهم ويرفض الخضوع والانقياد لهم.
ثم تبين الآية: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلماتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (2)، أنه في ظل الحكم الطاغوتي تعيش الأمَّة في جو من الظُّلمات في كل مناحي الحياة، وهذه هي الحياة مع الطواغيت حيث يقومون بإبعاد النَّاس عن النور، وتقريبهم من الظُّلمات، وذلك لأن النور يخالف الخنوع والخضوع والذلة التي تسود في جو الطُّغيان وعالم الطواغيت.
__________
(1) سورة البقرة/256.
(2) سورة البقرة/257.(1/216)
ثم الملفت للنظر أنه وبعد أن بينت الآيات أن الكفر بالطاغوت مؤد إلى التمسك بالعروة الوثقى، والإيمان بهم إلى الابتعاد عن النور والعيش في شتى أنواع الظُّلمات ذكر القرآن الكريم قصة طاغية من طواغيت التاريخ ممن حفظ التاريخ أسماءهم وهو الذي حاج إبراهيم في ربه وطغى إلى حد أن أعلن الرُّبُوبيَّة وذلك كمثال ونموذج لما سبق من الطواغيت الذين تم الحديث عنهم من أنهم يخرجون النَّاس من النور إلى الظُّلمات، وأنه لابد من الكفر بهم.
حريَّة التَّنقل والسَّفر
الطَّاغية يمنع رعيته من السفر والتنقل لأنه ينظر إلى كل فرد من أفراد الرَّعيَّة بوصفه مستعبداً ومملوكاً له لابد من تسخيره لخدمته والاستفادة منه. فكما أن السيد في سالف الأيام لم يكن يسمح لعبده ومملوكه بحرية التنقل والتصرف والسفر فإن الطَّاغية يفعل الأمر عينه. ويمكن استنباط أن الطَّاغية يصادر حرية التنقل والسفر من منع فرعون لبني إسرائيل بالخروج من مصر.
ومنع الإنسان من السفر والتنقل يعد من الظُّلم، لذا حكم القرآن الكريم على مطاردة فرعون لموسى - عليه السلام - ومن معه بالبغي والعدوان لأنه لم يكن يحق لفرعون وغيره منع الآخرين من السفر والخروج، قال تعالى { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا } (1). وواضح كما يذهب إليه جمهور المفسِّرين أن المراد بـ(بغياً وعدواً) هو ظلماً واعتداءً(2).
__________
(1) سورة يونس/90.
(2) انظر على سبيل المثال: النحاس، معاني القرآن الكريم، ج3، ص313. ابن الجوزي، زاد المسير، ج4، ص59. أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج4، ص172. الشوكاني، فتح القدير، ج2، ص469. الآلوسي، روح المعاني، ج11، ص181.(1/217)
يقول الطاهر ابن عاشور: "وإنما كان اتباعه إياهم ظلماً وعدواناً إذ ليس له -فرعون- شائبة حق، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون. وليس مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء فإن لذي الوطن حقاً في الإقامة في وطنه، فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له، وللإنسان أن يتخلى عن حقه، فلذلك كان الخلع في الجاهلية عقاباً، وكان النفي في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي، وكان الإمساك بمكان عقاباً، ومنه السجن. فليس الخروج من الوطن طوعاً بعدوان"(1).
والصورة تظهر بوضوح أكثر في منع طغاة قريش المسلمين في مكة من الهجرة والخروج منها سواء إلى الحبشة أو المدينة أو غيرها من الأماكن لذا نزلت الآيات لترسم تلك الصورة الظالمة فقال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } (2).
يقول الآلوسي: "أي يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة"(3).
والواقع المعاصر لكثير من دول العالم الثَّالث ولا سيما العالم الإسلامي يشهد على ما نقوله هنا، فالمواطن الذي يبدي أي معارضة للسلطة القمعية الجائرة ممنوع عليه السفر والتنقل، وإذا سافر بطريق ما بدون إذن السُّلُطات الأمنية فلن يرجع إلى بلده من جديد. وإن رجع فإما إلى السجن أو إلى المقبرة.
__________
(1) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج11، ص274-275.
(2) سورة النساء/75.
(3) الآلوسي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج5، ص82.(1/218)
ولا شك أن ما يدفع الطُّغاة إلى منع المواطنين من السفر والتنقل هو الإحالة بين الرَّعيَّة وبين أية فرصة للتغيير قد تتأتى من تكوين المهاجرين قاعدة خارج أرض الطُّغيان ثم الانقضاض في نهاية الأمر على الحكومة الطاغوتية.
حرية الإعلام والتعبير
يعلم الطُّغاة أن مجرد فتح الأبواب أمام الكلمة الحرة في المجتمع ستكون له نتائج خطيرة على مستقبلهم وسلطتهم، وعليه يحاولون بكل وسيلة منع ذلك، وكما يقول مونتسكيو: "فليس هناك مكان لحرية التعبير في الدولة التي يحكمها مستبد طاغ"(1). ويظهر هذا جلياً من السياسة التي اتبعتها النُّخبة الطَّاغية من قريش في منعهم الرَّعيَّة حتى من مجرد سماع القرآن الكريم منهج التغيير الجديد الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما حكاه القرآن بقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } (2). قال ابن عباس: "قال أبو جهل: إذا قرأ محمَّد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول…وقال مجاهد المعنى: والغوا فيه بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق حتى يصير لغواً. وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول. وقال أبو العالية وابن عباس أيضاً: قعوا فيه وعيبوه لعلكم تغلبون محمَّداً على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب"(3). وواضح مما سبق أن القصد هو منع استمالة القلوب والتأثير فيها.
__________
(1) Montesquieu, (1989). The Spirit of the Laws. 1st edition. Translated and Edited by: Anne M. Cohler. U. K. Path Press, Avon. p28.
(2) سورة فصلت/26.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص356. وهذه السياسة متبعة لحد الآن حيث تقوم الأنظمة عادة بالتشويش على إذاعات المعارضة حتى لا يتمكن الشعب من معرفة ما هو جار. وفي أحيان أخرى يمنع استقبال غير الإعلام الطاغوتي الحكومي.(1/219)
قال ابن الجوزي: "أي لا تسمعوه والغوا فيه أي عارضوه باللغو وهو الكلام الخالي عن فائدة. وكان الكفار يوصي بعضهم بعضاً إذا سمعتم القرآن من محمَّد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تلبسوا عليهم قولهم"(1).
إضافة إلى ذلك فإنهم لابد وأن يجدوا بدائل لإلهاء النَّاس وإنسائهم مِن تَذَكُرِ ما يسمعونه من هنا وهناك، وعدم الالتفات إليه، فتارة بنشر الشعوذة والسحر كما كان دأب الفراعنة الطُّغاة، حيث ترسم كتب التَّفسير صورة المجتمع الفرعوني، وكيف كان يعج بآلاف السحرة، وفي حين آخر بنشر وتشجيع الطرق الدِّينية التي تشوه روح الدِّين الحقيقي، وتارة بنشر الأضاليل والخرافات والقصص الملهية كما كانت تقوم به النُّخبة الطَّاغية من كفار قريش. قال تعالى: { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (2).
قال البيهقي: "نزلت في النضر بن الحارث كان يشتري كتباً فيها أخبار الأعاجم فكان يقول للعرب: محمَّد يحدثكم عن عاد وثمود، وأنا أحدثكم عن رستم واسفنديار…ومن النَّاس من يشتري لهو الحديث: يعني باطل الحديث بالقرآن. قال ابن عباس: وهو النضر بن الحارث بن علقمة يشتري أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم فرواه من حديث الروم وفارس ورستم واسفنديار والقرون الماضية. وكان يكتب الكتب من الحيرة والشام ويكذب بالقرآن فأعرضت عنه فلم يؤمن به"(3).
__________
(1) ابن الجوزي، زاد المسير، ج7، ص252.
(2) سورة لقمان/6.
(3) البيهقي، أبو بكر أحمد (ت 458)، شعب الإيمان، تحقيق: محمَّد السعيد بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1410هـ)، ج4، ص305، رقم: 5195.(1/220)
يقول القرطبي: "كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش: إن محمَّداً قال كذا، ضحك منه. وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس. ويقول: حديثي هذا أحسن من حديث محمَّد. حكاه الفراء والكلبي وغيرهما. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه. ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمَّد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه"(1).
وتعطي كتب السيرة صورة واضحة لما عليه حرية الإعلام في الممالك المحكومة من قبل الطُّغاة، حيث يتم تضييق الخناق على كل وسيلة تتوسل بها المعارضة في عرض منهجها وبرامجها على عامة النَّاس، فإضافة إلى ما سبق من أمر بعضهم للبعض باللغو والقرآن يتلى، فإنهم كانوا يتتبعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى مكة للحج أو التجارة كما كان الحال مع أبي لهب وتتبعه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا يستقبلون النَّاس خارج العمران لتحصينهم ولمنعهم من التأثر بالإعلام الإسلامي وبالقائمين عليه.
أخرج عبد الله بن أحمد في مروياته من مسند أبيه: "حدثني أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهلياً، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها النَّاس قولوا لا إله لا الله تفلحوا، والنَّاس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب. سألت عنه فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب"(2).
__________
(1) انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص52.
(2) ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، رقم: 19026، ج4، ص341.(1/221)
قال مجاهد كانوا -كفار مكة- يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون النَّاس عن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم(1).
ومما يدل على أن المجتمع المحكوم من قبل الطَّاغية مجتمع تنعدم فيه حرية الإعلام والتعبير أن الأنبياء ما أن دخلوا في نقاش مع الطُّغاة يعرضون فيها رسالاتهم إلا نجد بعد لحيظات أن الطَّاغية ينتقل مباشرة من المناقشة ومقارعة الحجة بالحجة إلى التَّهديد والتخويف بالنفي أو السجن أو القتل والرجم وما إلى ذلك.
- الإغراء بالمال والمناصب
بين القرآن الكريم أن من دأب الطُّغاة إغراء الآخرين وشراء ذممهم بالمال أو المناصب وتقريبهم من مجالسهم. وهذا ما نجده صريحاً في إغراء فرعون للسحرة الذين كانوا بمثابة إحدى وسائل الإعلام في تلك الفترة لما كانوا يقومون به من إلهاء النَّاس وتمويه الحقائق، إضافة إلى أن كثيراً منهم كانوا يجمعون بين حرفتي الكهانة والسحر.
قال تعالى: { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ } (2).
يقول المودودي رحمه الله: "فهذه الآيات توضح معيار إسناد المناصب في النِّظام الطاغوتي، فالذين يدافعون عن فرعون ويحمون نظامه وكفره ومجونه وفسوقه وظلمه واضطهاده واستضعافه البسطاء هم المقربون وأهل المناصب، ولو كانوا جهلاء سحرة دجاجلة وضعاء"(3).
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص79.
(2) سورة الأعراف/113-114.
(3) المودودي، فرعون في القرآن، ص25.(1/222)
يقول سيد قطب رحمه الله: "ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل، والقربى من عرشه الكريم! فلما جاء السحرة قالوا لفرعون: أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم لمن المقربين. وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطَّاغية؛ تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطُّغاة دائماً في كل مكان وفي كل زمان. وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله!"(1).
ويظهر أن هذا كان دأب الطُّغاة وعلى مر التاريخ حيث اتبع الملأ الطاغي من قريش الأمر نفسه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحاولوا إغراءه بالمال والمنصب وما إلى ذلك. تذكر كتب السيرة أن أشراف قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة. فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمَّد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أشراف القوم، فاجتمعوا به، فقالوا: يا محمَّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك؛ لقد شتمت الآباء، وعبت الدِّين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا"(2).
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن، ص2595.
(2) ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص50، وج3، ص63. وابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص131، و133. والسيهلي، الروض الأنف، ج3، ص125.(1/223)
ويتم بهذه الطريقة شراء الذمم وهي الطريقة المتبعة في الوقت الحاضر، ولا سيما مع وسائل الإعلام ودور النشر ووجهاء وملأ القوم. لذا نجد أن ملأ بني إسرائيل كانوا من المقربين من فرعون، ومارسوا نيابة عنه وفي مقابل المال والمناصب الإرهاب على بني إسرائيل، لذا كان خوف بني إسرائيل من كل من فرعون ومن ملئهم في عدم إعلانهم لإيمانهم، قال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (1).
- إشاعة الخوف بين الرَّعيَّة
الخوف كما يقول مونتسكيو مبدأ الحكومة المستبدة الطَّاغية(2). ويتم إشاعة الخوف بين الرَّعيَّة من خلال تقسيمها إلى طوائف وشيع متنازعة ومتباغضة، وتشكيل المؤسسات المختلفة التي تراقب كل تحركات المواطنين. ومن خلال ممارسة سياسة البطش والقمع والإرهاب التي سبق الحديث عنها.
__________
(1) سورة يونس/83.
(2) Montesquieu. The Spirit of the Laws. p. 28, 59, 60.(1/224)
يصل الحال في المجتمع الطاغوتي إلى درجة أن الخوف يمنع الإنسان من الإيمان بالله سبحانه كما كان عليه الحال في مجتمع فرعون، فإن الخوف كان قد بلغ بالرَّعيَّة مبلغاً جعلها تخفي تأييدها للدعوة الجديدة رغم انتصارها العلني والمكشوف على عملاء الطَّاغية -انتصار موسى على السحرة-، فنجد أن الرَّعيَّة أو عامة النَّاس أو الغوغاء المتفرجين لم يحركوا ساكناً، وبقيت شفاهم ملتصقة لا تتمتم بالشهادة للحق المنتصر، والإيمان به ناهيك عن إعلانها جهرة بسبب الخوف والرعب الذي أخذ منهم كل مأخذ. قال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ } (1). ونظراً للموقف السلبي للرعية القائم على الخوف فإنه تم إهمال الحديث عنها رغم كثرة عددها فلا نسمع في مشهد إسلام السحرة وسجودهم غير صوت فرعون المعترض المهدد، وصوت السحرة المتحدي لفرعون. أما الرَّعيَّة فإنها كانت غارقة في بحر الخوف تنظر إلى ما يحدث بعيون شاخصة ووجوه شاحبة.
وقبل ذلك نجد مظاهر الخوف عند موسى وهارون عليهما السلام. مع أن الله يأمرهما بالذهاب إلى فرعون بقوله: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (2).
__________
(1) سورة يونس/83.
(2) سورة طه/42-44.(1/225)
فإذا بهما يجيبان كما حكى القرآن الكريم عنهم: { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } (1). فقد عبرا عن ما هو مغروس في قلب كل مواطن في الدولة التي يحكمها الطَّاغية من الخوف والهلع، بغض النظر عن سبب ذلك الخوف(2). لذا نجد أن الله سبحانه وتعالى يؤكد لهما عليهما السلام بأنه سيحفظهما من شر الطَّاغية فرعون، فقال تعالى: { قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (3).
ومن قبل في أم موسى رغم وعد الله سبحانه إياها، فالخوف والفزع قد أخذا منها كل مأخذ، ووصل بها الحال إلى درجة تكاد الكلمات تعجز عن وصفها قال تعالى: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } (4).
فهذه: "أم موسى - عليه السلام - وقد أصبح فؤادها فارغاً مع ما ألهمها الله من صبر على المحنة، وما وعدها به من حفظ لوليدها موسى - عليه السلام -، فماذا يكون حال بقية الأمهات والعائلة الإسرائيلية عموماً"(5).
- الإكراه على تعلم نوع خاص من المعارف
__________
(1) سورة طه/45.
(2) حيث كان مقصده عليه السلام كما يقول المراغي رحمه الله: "طلب دفع بلوى قتله، خوف فوات أداء الرسالة ونشرها بين الملأ، كما هو دأب أولي العزم من الرسل، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاس)، سورة المائدة/67". المراغي، تفسير المراغي، ج19، ص51.
(3) سورة طه/46.
(4) سورة القصص/10.
(5) انظر، فتحي، الفساد السِّياسيّ الفرعوني، ص107.(1/226)
من وسائل الطُّغاة إكراه الشعب أو طوائف منه على تعلم نوع خاص من العلوم أو المعارف التي تساعدهم على الاستمرار في الطُّغيان، وتتم صياغة المناهج بطريقة تمجد الطَّاغية ونظامه، وقد صرح بهذا السحرة لما آمنوا وأصبحت لديهم من الشجاعة الإيمانية ما يرفعون به اللثام عن السياسة الفرعونية الباطلة والظالمة، فقالوا كما نقل عنهم القرآن: { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (1).
ويظهر هذا أيضاً في قصة الغلام والساحر. وتعليم السحر وتخريج السحرة بشكل منتظم. كما ورد في الحديث: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فأبعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر)(2).
وإكراه الرَّعيَّة على تعلم نوع خاص من الثقافة أمر واقع في أغلب الدول المحكومة من قبل الطُّغاة، ويتم تزيين الثقافة الطاغوتية عادة بتسميتها بأسماء براقة مثل الثقافة القومية أو ما إلى ذلك من التسميات التي تربى عليها الأجيال ليكونوا خير عبيد للطاغية. لذا فالذي يتربى على مثل هذه المناهج، ويتثقف بمثل هذه الثقافة فإنه لا يعرف في حياته إلا تمجيد الطَّاغية ونظامه. لذا نجد أن السحرة لما دخلوا المبارزة مع موسى - عليه السلام - دخلوا وهم يرددون: (بعزة فرعون). قال تعالى: { وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } (3). فهذا هو الشعار الذي لابد من حفظه وترداده: بعزة فرعون، وبعزة القائد العظيم.
__________
(1) سورة طه/73.
(2) مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص2299-2300. باب قصة أصحاب الأخدود.
(3) سورة الشعراء/44.(1/227)
الباب الثَّالث
سُبُل منع الطُّغيان السِّياسيّ وتغييره
الفصل الأوَّل: سُبُل معنويَّة ووقائيَّة
الفصل الثَّاني: سُبُل رقابيَّة
الفصل الأوَّل
سُبُل معنويَّة ووقائيَّة
المبحث الأوَّل: سُبُل معنويَّة
المبحث الثَّاني: سُبُل وقائيَّة
المبحث الأوَّل
سُبُل معنويَّة
تمهيد؛ العدل أساس النِّظام السِّياسيّ الإسلامي
لما كان الإسلام نظاماً لكل الأزمنة والعصور، ولما كانت الأمور غير مستقرة على حال من الأحوال، ومتغيرة من حين لآخر بتغير الزمان والمكان والحال، جاء الإسلام في مجال الحكم بأصول عامة ومعالم أساسية، ولم يفصل غالباً في جزئيات ذلك، حيث ترك للمسلمين مجالاً رحباً للتحرك، ولاستحداث ما يتلائم مع مصالح العباد، ولا يتعارض مع المقاصد الشرعية والأصول العامة.(1/228)
ونجد لهذا الأمر شواهد فيما قاله كبار العلماء من السلف، فمثلاً نجد أن العلماء لم يعرفوا السياسة الشرعية بتعريف جامد، بل وسعوا دائرتها بحيث أدخلوا فيها كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الصلاح والإصلاح، ويقضي على الفساد والإفساد، فهذا العلامة ابن القيم ينقل عن ابن عقيل الحنبلي تعريف السياسة الشرعية ويؤيده في عدد من كتبه حيث يقول: السِّياسة هي: "ما كان فعلاً يكون معه النَّاس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحي"(1).
فمعنى هذا أن الأمر فيه متسع بشرط أن لا تخرج الأمور عن دائرة المقاصد الشرعية والأصول الإسلامية العامة وعلى رأسها أصل العدل.
__________
(1) ابن القيم، أبو عبدالله محمَّد بن أبي بكر (ت 751هـ)، الطرق الحكمية في السِّياسة الشَّرعيَّة، تحقيق: محمَّد جميل غازي (القاهرة: مطبعة المدني، د. ط. ت)، ج1، ص17. وابن القيم، أبو عبدالله محمَّد بن أبي بكر، بدائع الفوائد، تحقيق: هشام عبدالعزيز عطا، عادل عبدالحميد العدوي وأشرف أحمد الحج (مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، 1416هـ، 1996م)، ج3، ص673. وهذا التعريف منقول عن ابن عقيل الحنبلي وليس كما يقول الغنوشي بأن هذا تعريف ابن القيم. فقد نقل ابن القيم في كلا الكتابين التعريف عن ابن عقيل. انظر، الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط1،1993م)، ص26.(1/229)
يقول ابن القيم: "فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم النَّاس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام النَّاس بالقسط. فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدِّين وليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل هي موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه"(1).
ولذا فقد اكتفى الإسلام في أمور السياسة والحكم بتقرير عدد من المبادئ العامة، ولكن الله: "لم يفصل -عامداً عالماً سبحانه- كيفية وضع هذه المبادئ والأصول موضع التنفيذ حتى يكون النَّاس في سعة من أمرهم، ليختاروا في تطبيق تلك المبادئ ما يحقق مصالحهم كما تحددها ظروف البيئة والزمان والمكان"(2).
ذكرت هذا التمهيد لبيان أن أية وسيلة أو أسلوب ترتب على تطبيقه والأخذ به إقامة العدل ومنع الطُّغيان جاز الأخذ به.
عقيدة التَّوحيد أضمن سبيل لمنع الطُّغيان السِّياسيّ
كانت عقيدة التَّوحيد ولا تزال من أهم الوسائل والسُبُل التي يتسلح بها الدُّعاة والمصلحون لمواجهة شتى صور الفساد والطُّغيان والبغي وتغييرها، سواء كان ذلك الطُّغيان طغياناً لاأخلاقياً أو اقتصادياً أو سياسياً وهو ما نحن بصدده.
__________
(1) ابن القيم، الطرق الحكمية في السِّياسة الشَّرعيَّة، ج1، ص19. وانظر، ابن القيم، بدائع الفوائد، ج3، ص674.
(2) عبد الخالق، فريد، في الفقه السِّياسيّ الإسلامي مبادئ دستورية (القاهرة: دار الشُّرُوق، ط1، 1419هـ، 1998م)، ص 56-57.(1/230)
وبما أن العوامل التي تؤدي إلى ظهور الطُّغيان السِّياسيّ وتقويته عوامل مركبة راجعة إلى كل من؛ الحاكم(1)
__________
(1) تذهب الشيعة الإمامية إلى أن عصمة الإمام تعد من أنجح الأساليب وأكثرها فعالية في منع الطُّغيان السِّياسيّ، فيقول عبد الرضا: "اعتبرت العصمة في مذهبنا نحن معاشر الإمامية شرطاً في الولي، فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة، والحيلولة دون الاستبداد، وتحكيم الشهوات. ومن الواضح أن إصابة الواقع والصلاح، وعدم الوقوع في المعصية حتى من باب الخطأ والاشتباه، وكذلك المحاسبة الإلهية، وإيثار الوالي تمام أفراد الأمَّة على نفسه، إلى غير ذلك من الخصائص أمور تنتهي بواسطة العصمة والانخلاع عن الشهوة إلى درجة لا يصل كنهها أحد، ولا يدرك العقل البشري حقيقتها"، انظر، عبد الرضا، علي، الاستبداد معالجات جذرية لرفع الداء، مجلة النبأ، السنة الخامسة، 1420هـ، العدد 37. انظر موقع المجلة: (http://www.annabaa.org/nba37/estipdad.htm).
ولا يشك أحد من أن العصمة وغيرها من الصفات التي ذكرها الكاتب للإمام تعد بالفعل أضمن وسيلة على الإطلاق لمنع الطُّغيان والظُّلم، ولكن المشكلة ليست كامنة في ذلك، وإنما في أصل المسألة، فالعصمة وغيرها من الصفات التي ذكرها الكاتب، وإن قالت بها الإمامية، فإنها غير ثابتة لبشر غير الرسول صلى الله عليه وسلم. وواضح مبالغة الكاتب ولا سيما أنه ينفي عن الإمام وهو من بني آدم حتى الوقوع في المعصية من باب الخطأ والاشتباه، وهذا ما لم يكن ولن يكون في مقدور بشر، وهنا ليس محل مناقشة ذلك. ومع ذلك ولما كان الإمام في رأي الكاتب ومذهبه غائباً دخل سرداب سامراء، فإنه يرى ضرورة الأخذ بإجراءات وقائية أخرى مثل إلزام الشُّورى، والعمل برأي الأكثرية.(1/231)
والبطانة والجُنُود والرَّعيَّة، وأن لكل واحد من هؤلاء دوره في إيجاد الطُّغيان أو ترسيخه، فإنه لابد من الإشارة إلى دور العقيدة وأثرها في الفئات المذكورة كلها ما دام لكل واحدة منها دورها في بروز الطُّغيان السِّياسيّ أو إطالة أمده.
فالعقيدة الصحيحة تمنع الحاكم من الطُّغيان، وفي نفس الوقت تدفع الرَّعيَّة إلى مواجهة الطُّغيان إن برز في المجتمع وإلى عدم الخضوع له، وهي نفسها التي تمنع الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة من أن تكون طرفاً في تثبيت وغرس السياسات الطاغوتية. والعقيدة هي نفسها التي تدفع البطانة وتمنعها من أن تكون بطانة سيئة، وتعمل كل ما في وسعها لتبعد عن نفسها كل صفة من شأنها أن تدخلها في دائرة البطانة السيئة.
وذلك لأن الحاكم إذا آمن بالله السميع العليم البصير الرقيب مالك الملك، واعتقد ذلك اعتقاداً جازماً فهيهات هيهات أن يتجاوز بعد ذلك الحدود المرسومة له أو أن يطغى، أو أن يقترف ما يدخله في دائرة الطُّغيان، أو يظلم الآخرين ولو في أمر غير ذي شأن.
ثم إذا آمن الحاكم باليوم الآخر وأنه سيحاسب على كل ما يصدر عنه من قول أو فعل فإنه من المستحيل بعد ذلك أن يقترف ما من شأنه أن يجعله في دائرة الظُّلمة الذين سيوقفهم الله أمام الحشر العظيم لمحاسبتهم عما بدر منهم، وإن اقترف الحاكم شيئاً من الظُّلم أو مارسه ضد أحد في حالة ضعف نفسي أو غضب فإنه سرعان ما يثوب ويعود إلى رشده فيتوب إلى الله ويطلب العفو والصفح ممن ظلمه.(1/232)
يقول الدكتور عمر الأشقر: "إن الذي تغلغل في قلبه هذا الاعتقاد؛ الاعتقاد بأن الله يراقبه ويسجل عليه أعماله، الاعتقاد باليوم الآخر الذي تعرض فيه الأعمال، وتشهد عليه أعضاؤه، ليهتز كيانه عندما يهم بالإفساد في الأرض، وظلم الآخرين، لأنه يعلم أن العليم الحكيم مولاه وإلهه ينظر إليه ويراه، والملائكة الكرام الكاتبين يشاهدونه، وعند ذلك يخجل ويخاف ويتراجع عن غيه. وصاحب هذه العقيدة لا يتعالى في الأرض ولا يطغى ولا يبغي، { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } (1). وهذه العقيدة دافعة لمحاربة الباطل غير هياب صاحبها ولا وجل لأنه يصول ويجول بحول الله وقوته، الذي يراه ويشاهده وينظر إليه"(2).
وقد سبق أن ذكر الباحث أن الذي دفع ويدفع أغلب الحكام إلى الطُّغيان وممارسة البطش والإرهاب والقهر ضد الآخرين هو عدم إيمانهم باليوم الآخر وبالحساب، وهي حقيقة ذكرتها آيات قرآنية كثيرة سلف ذكرها.
__________
(1) سورة النجم/32.
(2) الأشقر، عمر، رقابة الله هي الضمانة ضد الطُّغيان والفساد، مجلة المجتمع الكويتية، السنة 11، العدد 575، 25/مارس/1980م، ص27.(1/233)
والعقيدة هي نفسها التي تمنع البطانة من أن تتحول إلى بطانة سيئة، بل تجعل منها بطانة صالحة حريصة على مصلحة الرَّعيَّة ومصلحة الحاكم في الوقت نفسه، وتقف دوماً في صف المصلحين والدُّعاة، انطلاقاً من عقيدتها التي تأمرها بذلك وتنهاها عن الركون إلى الذين ظلموا التزاماً بقوله تعالى: { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ } (1). ونجد هذه الصورة واضحة تمام الوضوح في قصة مؤمن آل فرعون، فعلى الرغم من قربه من الطَّاغية، وكونه واحداً من حاشيته وآله، وعلى الرغم مما عُرف به فرعون من الطُّغيان والظُّلم المتبادر منه لأتفه الأسباب فإن عقيدة الرجل المؤمن دفعته إلى النصح وإلى الوقوف في جانب الخير والإصلاح، وإلى أن ينكر عمل الطَّاغية وينصحه بالتخلي عنه. ولمعرفة مدى الفرق الكبير بين صاحب عقيدة التَّوحيد وبين غيره من أفراد بطانة الطَّاغية، الذين لا عقيدة لهم إلا حب المناصب والتقرب من الطَّاغية، نقرأ الآيات الآتية التي هي حكاية عن قول كل من البطانة السيئة لفرعون وقول صاحب عقيدة التَّوحيد، قال تعالى حكاية عن البطانة السيئة:
{ وَقَالَ الْملأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } (2).
__________
(1) سورة هود/113.
(2) سورة الأعراف/127.(1/234)
في حين كان موقف صاحب عقيدة التَّوحيد هو: { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } ، إلى قوله: { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } (1).
فالذي غير هذا الفرد من آل الطَّاغية، ونقله إلى جبهة الخير والإصلاح هو عقيدة التَّوحيد، وهي التي دفعته إلى رفض طغيان فرعون لذا حاول بكل ما أوتي من قوة البيان إقناع فرعون وبقية الملأ باتباع موسى- عليه السلام - وبالإقلاع عن الطُّغيان.
والعقيدة كذلك وحدها الكفيلة بجعل المؤسَّسة العسكريَّة مؤسسة صالحة، وأن تقف بعيدة عن محاولة تثبيت السياسات الطاغوتية أو القيام بترجمة نزوات الحاكم ورغباته إلى واقع معاش وفرضها على الرَّعيَّة. وقد رأينا في الفصول السابقة كيف أن المؤسَّسة العسكريَّة كانت الطرف الأساس في تنفيذ السياسات الطاغوتية من قتل الأبناء واستحياء النساء وتصليب المعارضين وما إلى ذلك.
__________
(1) سورة غافر/28-45.(1/235)
في حين نجد أن المؤسَّسة العسكريَّة تتحول في ظل عقيدة التَّوحيد إلى مؤسسة خيرة مصلحة لا تظلم أحداً، همها الأول والأخير الإصلاح في الأرض وليس الإفساد، والسهر على حفظ الأمَّة وكيانها من الأخطار، وإزالة العوائق وإزاحتها أمام نشر عقيدة التَّوحيد والحريات العامة المندرجة تحتها. وهذا ما نجده في جنود النبي سليمان - عليه السلام -، وقد أصبح هذا الأمر -صلاحهم- من الشيوع بحيث عرفه كل من يسكن مملكة سليمان - عليه السلام - القائمة على عقيدة التَّوحيد، بل تجاوز ذلك إلى عالم الحيوانات، فها هي نملة تخاطب بقية النمل بقولها كما حكى القرآن الكريم عنها: { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } (1).
فالجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة المؤمنة لا تظلم أحداً، ولا تقتل أحداً لغير عذر، حتى إنه قد يصل صلاحها إلى أنها لا تعتدي حتى على الحيوانات فلا تقتلها إلا لحاجة، بل يتجاوز ذلك الصلاح إلى عالم الجمادات والنباتات، ويظهر هذا جلياً من خطبة الصديق رضي الله عنه وهو يودع جيش أسامة رضي الله عنه، حيث قال بعد أن وصاهم بتقوى الله تعالى:
"يا أيها النَّاس قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني؛ لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة"(2).
__________
(1) سورة النمل/18.
(2) الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص246. ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمَّد، (597هـ)، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق: محمَّد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1412هـ، 1992م)، ج4، ص116.(1/236)
فالعقيدة هي الفيصل بين أن تكون المؤسَّسة العسكريَّة مؤسسة مفسدة وبين أن تكون مؤسسة مصلحة. وقد عُرف منذ القدم أن الجُنُود لا يمرون ببلد إلا ويتركون آثار الفساد والخراب في كل مكان منه، ويطمرون فيه كل معالم الحياة والحضارة، والتاريخ القديم والمعاصر خير شاهد وأحسن برهان على ما يذكر هنا. وقد انتبهت ملكة سبأ بحكمتها إلى هذه الصفة أي صفة الإفساد عند جيوش الطواغيت أو الجيوش الطَّاغية و: { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } (1). والملوك لا تدخل وإنما جيوشهم.
فهما صورتان صورة جيش الطَّاغية المفسد الذي يخلف وراءه الفساد والدمار، وصورة جيش التَّوحيد الذي يحفظ لغير المحاربين أنفسهم وأموالهم من كل اعتداء. فإذا كان هذا هو حال المؤسَّسة العسكريَّة القائمة على عقيدة التَّوحيد مع الأعداء، فكيف بها وهي تتعامل مع الأزمات الداخلية ومع المخالفين مع الحاكم من الداخل، فلا يمكن أن تصدر عنها أية سياسة قائمة على القمع والإرهاب سواء أمر بذلك الحاكم أو لا، لأن أمر الله هو المقدم عندها على غيره من الأوامر، ولا سيما أن الشُّعُور بمراقبة الله سبحانه تعالى قد انغرس في هذه المؤسَّسة والقائمين عليها، لذا فمن المستحيل أن تقترب مما له علاقة بالطُّغيان أو تقوم بحماية حاكم طاغٍ يمارس الظُّلم والقهر على المسلمين.
__________
(1) سورة النمل/38.(1/237)
وقل الأمر نفسه بالنسبة للرعية فالعقيدة هي التي تدفعها إلى رفض كل ما يخالف عقيدتها من المبادئ، وإلى رفض الظُّلم والطُّغيان، وإلى المقاومة وعدم الخوف على النَّفس أو المال أو ما إلى ذلك مما يجبن الإنسان في الغالب بسببه عن الإقدام على مقاومة الطُّغيان والطُّغاة ومقارعتهم. فعقيدة التَّوحيد تجعل من كل فرد من أفراد الرَّعيَّة أمة تقابل الحاكم وتخاطبه بأن أي اعوجاج منه، وأي تجاوز سيتم تقويمه وإرجاعه إلى مكانه الطبيعي.
ولما كان ذلك كذلك فإن جل اهتمام الأنبياء وجهدهم كان منصباً في الدرجة الأولى على بناء العقيدة في الأفراد، وغرس معانيها في النفوس، فما من رسول إلا وقد بدأ دعوته بغرس الإيمان بالمعبود الحق مالك السموات والأرض في نفوس القوم، ثم كانت الخطوة الثَّانية والرديفة للأولى هي الكفر بالطواغيت، واجتناب عبادتهم أو طاعتهم والخضوع لهم، لذا كان الشعار الذي حمله الرسل ورددوه الواحد منهم بعد الآخر من أولهم إلى خاتمهم عليهم السلام هو: { أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (1).
فهي معادلة واضحة متوازنة لا تقبل الخلل، إذا وجد الأول انتفى الثَّاني وبالعكس، فالإيمان بالله وعبادته بالمعنى الشامل يؤدي إلى اجتناب الطاغوت، ولا شك أن الاجتناب لفظ عامل شامل يدخل تحته أمور كثيرة؛ من اجتناب الطَّاعة والخضوع والرضا به وبحكمه والركون إليه والميل نحوه.
__________
(1) سورة النحل/36.(1/238)
فالكفر بالطاغوت واجتنابه معناه الإيمان بالله الواحد الأحد، ولا ينبغي هنا أن نأخذ المعنى الضيق الذي قال به بعض العلماء في تفسير كلمة الطاغوت، وهو الصنم أو الوثن أو الشيطان، بل كما سبق في بداية البحث أن الطاغوت لفظ عام يدخل فيه كما يقول الإمام الطبري: "كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء"(1). والحاكم الطاغي ونظامه داخلان تحته من باب أولى.
لذا نجد أن العقيدة عندما تغرس في أعماق القلب فإنها تغير الإنسان الذليل المتملُّق الذي يلهث وراء شهوة المال وحظوة المنصب إلى مخلوق آخر، فإذا به ينقلب رأساً على عقب، ويتحول إلى أنموذج يضرب به المثل على مر القرون، لا يخاف من الطَّاغية الذي سبق وأن تملُّق له في مقابل حفنة من النقود، أو ليجد لنفسه مكاناً في مجلس الطَّاغية يقحم نفسه فيه، نجده بعد دخول عقيدة التَّوحيد في قلبه لا يعرف ما معنى العقوبة أو التَّهديد الصادر من الطَّاغية، ويخاطب الطَّاغية وكأنه غير الذي كان قبل لحيظات يتملُّق له، فها هو القرآن الكريم ينقل لنا هذه الصورة في قصة السحرة في يوم الزينة بعد أن هددهم الطَّاغية بالصلب والقتل، فيجيبون بـ: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } (2). قبل قليل كانوا يلهثون ويركضون وراء شيء قليل من متاع ذلك الدنيا، والآن هانت الدنيا وما فيها في نظرهم، ولكن في مقابل الآخرة، الآخرة التي آمنوا بها لتوِّهم، فهذه هي العقيدة، وهذا هو دورها وأثرها وتأثيرها في النفوس. فالعقيدة لا تنتشر في أمة من الأمم إلا ويردف ذلك انطمار الطُّغيان واندراسه في تلك الأمَّة.
__________
(1) الطبري، جامع البيان، ج3، ص19.
(2) سورة طه/72.(1/239)
فعقيدة التَّوحيد حين تقوم في المجتمع ويكون واقعاً حياً، ويصبح وعياً عاماً شاملاً، ومنطلقاً للتعامل ينتج كما يقول البياتي: "آثاراً دنيوية كبرى على صعيد الفرد والمجتمع والدولة، ويوجد الضابط الذاتي لدى كل إنسان، مواطناً كان أم مسهماً في السُّلُطات الحاكمة، تشريعية وتنفيذية وقضائية وغيرها، ويجعله شديد التقيد بقوانين الشريعة، حريصاً على تطبيقها بدقة متناهية ظاهراً وباطناً، ويجعله يحسب حساب مرضاة الله، وحساب الجزاء في الآخرة لكل عمل وقول وتصرف وقرار بما ينأى به عن المعاصي عامة التي منها مخالفة أحكام وقوانين الشريعة الإسلامية"(1).
والعقيدة هي نفسها التي تدفع الحاكم إلى الالتزام بالأوامر والنواهي الشرعية، وهو ما سيتناوله الباحث فيما بعد (فقرة تجفيف المنابع وقطع الروافد)، لأنه لا يتصور أن يلتزم حاكم بالأوامر الواردة في الشريعة، وأن يحجم عن المنهيات التي ورد النهي عنها ما لم يكن مؤمناً حق الإيمان بمنزلة الشريعة، ومعتقداً اعتقاداً جازماً أن الخروج عن ذلك معناه وجود خلل ونقص في عقيدته.
تجفيف المنابع وقطع الروافد
__________
(1) البياتي، منير، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية (عمان: دار البشير، ط2، 1414هـ، 1994م)، ص347-348.(1/240)
الأمر الذي يميز الدولة الإسلامية أو السُّلطة فيها عن غيرها هو أنها سلطة محكوم عليها العمل بالشريعة، فلا يحق للسلطة أو الحاكم الخروج عن ما ورد في الشريعة، ومن جانب آخر ليست هناك سلطة أو جهة في الدولة الإسلامية لها حق تعديل الدستور الذي هو الشريعة وما ورد فيه من أحكام وقوانين، فهي سلطة متبعة للشريعة وليست بمبتدعة، أي إن مبدأ سيادة الشريعة واتباعها هو المعمول به، وهذا ما يقابل مبدأ سيادة القانون في الدولة الدستورية مع تفوق مبدأ سيادة الشريعة عليه لوجود الوازع الدِّيني. وبما أن الحال على هذه الشاكلة في الدولة الإسلامية، وأن الحكام ليس لهم الخروج عن سيادة الشريعة وما ورد فيها، فإننا نجد بكل وضوح أن الشريعة قد استخدمت مبدأ (تجفيف المنابع وقطع الروافد) لبتر دابر الطُّغيان في الدولة الإسلامية، بل عدم إفساح المجال له للبروز.
ومن خلال مبدأ سيادة الشريعة يتم تقييد: "سلطة المشرع الوضعي وحماية الأفراد والمجتمعات من طغيان الحكام الذين يتخذون القوانين وسيلة لفرض سلطانهم واستبدادهم، وهذا هو معيار التفرقة بينها وبين سيادة القانون الذي تعني حماية الأفراد والمجتمع من مخالفة مؤسسات الدولة وحكامها للقوانين الوضعية التي أصدرتها السُّلُطات المختصة في الدولة، ولكن يبقى الباب مفتوحاً للحكام أو الأغلبية لإصدار القوانين الوضعية التي تغطي الاستبداد والطُّغيان بصورة قانونية"(1).
__________
(1) جعفر، هشام أحمد عوض، الأبعاد السِّياسيّة لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416هـ، 1995م)، ص204.(1/241)
ولما كان منهج القرآن الكريم في القضاء على الأمراض سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية منهجاً واقعياً، لم يحرم القرآن شيئاً من الأشياء التي تلبي غريزة إنسانية إلا وقد أوجد له بديلاً سواء كان مادياً أو معنوياً. ووضع لتلك الأمراض حلولاً موضوعية، وهذا الأمر واضح بَين في سور القرآن الكريم وآياته التي حذرت من الطُّغيان والعلو والتجبر، وفي مقابل ذلك أمرت بالعدل والمساواة والاستقامة وما إلى ذلك.
ففي باب الطُّغيان السِّياسيّ يبين القرآن وفي مواضع كثيرة أهم الأساليب المستخدمة من قبل النِّظام الطاغوتي إلا أنه لم يكتف بذلك بل وضع أمام تلك الأساليب موانع تمنع الحاكم المؤمن إيماناً صادقاً من الاقتراب منها ناهيك عن استخدامها في سياسته.
وكما سبق فإن الباحث قد ذكر أساليب عدة يستخدمها الطُّغاة في سياستهم نوجزها ونبين قدر الإمكان بإيجاز كيف وضع القرآن الكريم موانع أمامها وبذلك اتبع القرآن سياسة قطع الروافد والسُبُل التي تؤدي إلى الطُّغيان بعد أن جفف منابعها.
فلما كان الطَّاغية مثلاً؛ يستعبد الآخرين جاء القرآن ليجعل المساواة أساس التعامل في المجتمع الإسلامي، فلا فرق بين سيد ومسود وبين حاكم ومحكوم إلا بالتقوى. وليعلن أن الله سبحانه هو المعبود الحق لا غيره، وحرم استعباد الآخرين واستضعافهم لأي سبب من الأسباب حتى أصبح الشعار الإسلامي المستنبط من روح نصوص الشريعة (متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) ، محفوظاً لدى كل من له أدنى إلمام بالإسلام.(1/242)
الطَّاغية يفرض نفسه على الآخرين ويستبد برأيه، وقد جاء القرآن الكريم ليجعل من صفات الحاكم المسلم عدم الاستبداد بالرأي واعتماد الشُّورى أساساً للحكم –سيأتي تفصيله فيما بعد-. بل ذهب القرآن إلى أبعد من ذلك حيث حرم فرض الرأي على الآخرين، وإجبارهم عليه ولو كان في أمر الدِّين والهداية فكيف بغيرها، قال تعالى مخاطباً رسوله - صلى الله عليه وسلم -: { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (1). { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (2).
الطَّاغية يفسد في الأرض، فجاء القرآن الكريم ليحرم الفساد بكل أنواعه، وليجعل الإصلاح هو السبيل المتبع من قبل المؤمنين، قال تعالى: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ } (3).
الطَّاغية يصادر الحريات العامة، فجاء القرآن الكريم ليعلن أنه: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (4). وقوله تعالى: { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (5)
__________
(1) سورة الغاشية/22.
(2) سورة يونس/99.
(3) سورة الأعراف/56.
(4) سورة البقرة/256.
(5) سورة يونس/99.(1/243)
يعتمد الطَّاغية على ترغيب الآخرين فيما عنده من المناصب والأموال، فجاء القرآن ليحرم حتى مجرد الركون إلى الطُّغاة والظُّلمة فكيف بالجلوس في مجلسهم أو الانتماء إلى بطانتهم: { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ } (1)، وقد جاءت مبينة القرآن السنة لتقطع الأمر على الطرفين على الحاكم بأن جعل ذلك أمانة في رقبته، وعلى الرَّعيَّة بأن حرمها على من طلبها، والأحاديث في ذلك متضافرة، ولتحرم إسداء الأمور إلى غير أهلها، وكذا الرشوة. وبذلك ليس هناك مجال في الدولة الإسلامية الملتزمة بالشريعة للتملُّق من أجل الحصول على المال أو المنصب.
الطَّاغية ينظر إلى الآخرين نظرة المتجبر المتكبر المغرور، فجاء الإسلام ليحرم ذلك، وليجعل التَّكبُّر سبيلاً إلى النار، ومانعاً من دخول الجنة.
الطَّاغية يعتمد سياسة تشويه سمعة الآخرين، أو الافتراء عليهم ولا سيما المصلحين وجاء القرآن الكريم ليجعل ذلك من القذف والافتراء ووضع لذلك عقوبات دنيوية وآخروية قاسية، { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ } (2)، { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } (3).
الطَّاغية يخفي حقيقته وراء ادعائه أنه حامي تراث الأمَّة والآباء، فجاء القرآن الكريم ليحرم اتباع الآباء إلا فيما صح، وجعل الاتباع لما في القرآن الكريم والسنة النبوية.
__________
(1) سورة هود/113.
(2) سورة النحل/105.
(3) سورة طه/61.(1/244)
الطَّاغية في غالب الأحيان يعتمد على التصفية (القتل) في التعامل مع خصومه السِّياسيّين، فجاء القرآن ليحرم القتل وليجعله من الكبائر، قال تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (1)، وقال: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } (2)، وجاء في الحديث: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)(3)، وعليه فلو ادعى الحاكم الالتزام بالإسلام فمن المتعذر أن يقوم بعد ذلك بارتكاب ما يخالف ذلك صراحة.
__________
(1) سورة النساء/93.
(2) سورة المائدة/32.
(3) ابن ماجة، محمَّد بن يزيد أبو عبدالله القزويني (ت 275هـ)، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت)، ج2، ص874، كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً. رقم: 2619.(1/245)
يقوم الطَّاغية بتطبيق سياسة (فرِّق تسد) أو جعل النَّاس حسب التعبير القرآني شيعاً، فجاء القرآن ليدعو إلى الوحدة والتعاون على الخير، قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (1)، { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (2)، { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (3)، و { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (4). ولذلك فإذا ما تم الالتزام بالأمر القرآني فسيكون ذلك سداً منيعاً في وجه الطُّغاة.
وهكذا فما من وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الطُّغيان إلا وقد وضع القرآن الكريم أمامها مانعاً أو حرمها، وبالقضاء على الأساليب الطاغوتية يكون القرآن الكريم قد منع الحاكم من الوصول أو الاقتراب من درجة الطُّغيان السِّياسيّ. والحديث هنا عن الحاكم المسلم المؤمن حق الإيمان بالقرآن الكريم وما جاء فيه.
__________
(1) سورة المائدة/2.
(2) سورة آل عمران/103.
(3) سورة الأنفال/46.
(4) سورة آل عمران/105.(1/246)
ومن جانب آخر أمر القرآن الكريم الحاكم بالاستقامة، ونهاه عن الطُّغيان قال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (1) ومع أن الخطاب هنا موجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه خطاب إلى الأمَّة، وهذا يدل على جلالة الأمر لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو أمر بالاستقامة فغيره من الحكام العاديين أولى بذلك. ثم جاء النهي مباشرة بعد ذلك عن الطُّغيان وكأنه إشارة إلى الحاكم إذا ظلم وخرج عن حدود الاستقامة عندها تجب على الرَّعيَّة مقاطعته وإنزاله من منصبه بل ويحرم حتى مجرد الركون(2) إليه أي الميل ناهيك عن الخضوع والاتباع والطَّاعة.
وقبل هذا وذاك كله فإن الدَّوافع التي تدفع الحاكم إلى الطُّغيان جاء القرآن ليقطعها أو ليحرمها من الأول سواء التَّكبُّر والغرور أو هوى النَّفس أو الاستبداد بالرأي أو المبالغة في حب الملك والحرص عليه، والأمر أوضح من أن نأتي بالآيات والأحاديث –سبق ذكرها- التي هذبت بعضاً مما سبق في حين حرمت بعضاً آخر منه.
ثم إضافة إلى ما سبق ذكره فإن القرآن الكريم فرض على الحاكم المسلم عدم اتباع الهوى سواء هوى نفسه أو هوى الآخرين من البطانة والرَّعيَّة وقد سبقت الإشارة إلى تلك الآيات. ثم أمره وفرض عليه الحكم بالحق، وكذا بالعدالة.
__________
(1) سورة هود/112.
(2) الركون: هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ونقيضه النفور عنه. قال الفخر الرَّازي: "الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظُّلمة من الظُّلم، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب. فأما مداخلتهم لدفع ضرر، أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون". الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (دار الفكر)، ج18، ص73.(1/247)
ثم قطع الإسلام كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تقديس الأشخاص ولو كانوا من الأنبياء، بل إنه تجاوز ذلك إلى منع وتحريم كل تصرف من شأنه أن ينبت في قلب المقابل شعوراً بالتعظيم والعلو من ذلك القيام للآخر حيث قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)(1).
ومن ذلك أوجب على الحاكم أن يكون قريباً من الرَّعيَّة يطلع بنفسه على شؤونها لقضاء حاجاتها حتى لا تقع المظالم عليها من الآخرين ممن يعملون في إدارة شؤونها وهو لا يعلم بذلك، لذا جاء النهي للحاكم من الاحتجاب وبروايات عديدة، منها: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم، احتجب الله عز وجل يوم القيامة دون خلته وفاقته وحاجته وفقره)(2). ومنها: (من ولي من أمر النَّاس ثم أغلق بابه دون المسكين أو المظلوم أو ذي الحاجة، أغلق الله عز وجل دونه أبواب رحمته عند حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها)(3).
__________
(1) الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص90. باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، رقم:2755. قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن".
(2) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص105، كتاب الأحكام، رقم: 7037. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وإسناده شامي صحيح وله شاهد بإسناد البصريين صحيح عن عمرو بن مرة الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3) ابن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص480، رقم: 15983. قال المنذري: "وإسناد أحمد حسن". انظر، المنذري، الترغيب والرهيب، ج3، ص124.(1/248)
ومن ذلك إعلان القرآن الكريم الحرب على مبدأ السيادة والتَّبعيَّة وذلك لما له من تأثير كبير في طغيان الحاكم، من خلال تعرض القرآن لهذا المبدأ وعلاقة الأتباع بالسادة ولا سيما في الآخرة. حيث يقوم القرآن الكريم بنقل الصورة الحية للحوار الذي يجري يوم القيامة بين السادة المستكبرين وبين العبيد والأتباع وكيف يتبرأ السادة من أتباعهم، كل ذلك من أجل إقناع الفرد المسلم بعدم اتباع الطُّغاة أياً كانوا، ولغرس روح الرفض في نفوس المسلمين لكل متكبر مهما علا واستكبر وذلك لأنه لا ولن يملك لنفسه نفعاً فكيف لمن يتبعونه.
قال تعالى: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } (1).
وقال: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } (2).
__________
(1) سورة الأحزاب/66-68.
(2) سورة البقرة/165-167.(1/249)
وقال: { وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1).
وقال: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الْأَشْرَارِ أَاتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } (2).
__________
(1) سورة سبأ/31-33.
(2) سورة ص/55-64.(1/250)
ولا شك أن غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين يؤدي إلى رفض الخضوع والطَّاعة ناهيك عن الاتباع الأعمى لكل متكبر بل ويتجاوز بهم إلى محاولة تقويم الحاكم. ولذا فقد قطع القرآن الكريم كل السُبُل والوسائل والروافد التي تصب في بحر الطُّغيان السِّياسيّ وحرمها وبذلك لا يمكن أن يتصور أنه بإمكان حاكم يدعي الإسلام والإيمان الصادق بالقرآن أن يصل أو حتى يقترب من سلم الطُّغيان بشكل من الأشكال.
فلا يمكن أن يكون هناك حاكم يلتزم بأمر القرآن في إقامة العدل ثم يكون طاغية أو مستبداً وعليه فأقل ما توصف به مقولة المستبد العادل(1) بأنها متناقضة لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تجتمع صفة الاستبداد بمعنى الانفراد بالشيء وفرضه على الآخرين مع صفة العدالة. حتى إذا قلنا إن المقصود بالاستبداد هنا هو المعنى اللغوي أي الانفراد بالأمر، لأن الحاكم في الإسلام ملزم بقوله تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (2)، فليس له الحق في الانفراد بالأمر. وستأتي تفاصيل ذلك في المبحث الآتي عن الشُّورى.
المبحث الثَّاني
سُبُل وقائية
الشُّورى
__________
(1) استخدم هذا التعبير من قبل عدد من المفكرين منهم السيد محمَّد عبده، انظر، الكتابات السِّياسيّة ضمن الأعمال الكاملة للإمام محمَّد عبده، تحقيق: محمَّد عمارة (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، ط2، 1979م)، ج1، ص716-717. انظر، رضا، الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، مجلة المنار، مج 4، ج18، ص682-683.
(2) سورة آل عمران/159.(1/251)
وردت مادة الشُّورى في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، قال تعالى: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (1). وقال تعالى { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (2)، في حين كثر ذلك في الأحاديث النبوية، وقد ترجمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى واقع عملي، حتى غدا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما كان حاله في كل أمر وشأن أسوة وقدوة لمن بعده في ذلك، وهذه حقيقة عاينها الصحابة، ونقلوها لمن بعدهم، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)(3).
__________
(1) سورة الشُّورى/38.
(2) سورة آل عمران/159. والموضع الثَّالث تناول مشاكل الأسرة وكيفية الفصل فيها في قوله تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)، سورة البقرة/233.
(3) انظر، ابن حنبل، أحمد الشيباني (ت241هـ)، مسند الإمام أحمد (مصر: مؤسسة قرطبة، د. ط. ت)، ج4، ص328، رقم: 18948. انظر بنفس اللفظ، البيهقي، أحمد بن الحسين (ت 458هـ)، سنن البيهقي الكبرى، تحقيق: محمَّد عبد القادر عطا (مكة المكرمة: مكتبة دار الباز، د. ط، 1414هـ، 1994م)، ج9، ص218، باب المهادنة على النظر للمسلمين، رقم:18587.(1/252)
وليس قصد الباحث هنا تتبع كل الجزئيات التي لها علاقة بالشُّورى تتبعاً دقيقاً فهنا ليس محل ذلك، وإنما سيتركز الحديث على مسألة محدودة وهي؛ هل من الممكن أن نجعل من الشُّورى سبيلاً لمنع الحاكم من الاستبداد بالرأي ومن ثم طغيانه أم لا؟ ويتطلب ذلك بيان حكم الشُّورى، وهل الشُّورى معلمة أو ملزمة؟
ولكن قبل الولوج في لب الموضوع لابد من تحديد ميدان الشُّورى ومجاله، وهو: ما لم يرد فيه نص من القرآن الكريم أو السنة النبوية؛ أما ما ورد فيه نص فلا مجال للشورى فيه إلا بقدر تفهم المراد من النص إن لم يكن صريحاً قطعياً.
قال الجصاص (ت 370هـ): "ولابد من أن تكون مشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم –الصحابة-فيما لا نص فيه، إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات"(1).
ويقول ابن عطية (ت 546هـ): "ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلالٍ أو حرامٍ أو حدٍ فتلك قوانين شرع"(2).
ومن المعاصرين يقول البوطي: "أجمع المسلمون على أن الشُّورى في كل ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله. أما ما يثبت فيه نص من الكتاب أو حديث من السنة أبرم به الرسول حكمه، فلا شأن للشورى فيه"(3).
__________
(1) الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي، أحكام القرآن، تحقيق: محمَّد الصادق قمحاوي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط، 1405هـ، 1985م) ج2، ص330.
(2) ابن عطية، المحرر الوجيز، ج1، ص534. انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص250.
(3) البوطي، محمَّد سعيد رمضان، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة (دمشق: دار الفكر، ط11، 1412هـ، 1991م)، ص159.(1/253)
وجوب الشُّورى؛ أما كون الشُّورى واجبة على الحاكم -بمعنى اللجوء إليها- فهذا هو الظاهر من الآيات القرآنية السالفة الذكر، ومن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته العملية، ومن عمل الشيخين رضي الله عنهما. وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء والمفسِّرين(1)
__________
(1) وقد ذهب قلة إلى القول بأنها مندوبة، وإن لم تكن عباراتهم في ذلك واضحة تمام الوضوح. منهم قتادة والربيع بن أنس ومحمَّد بن إسحاق كما ينقل عنهم الجصاص: "إنما أمره بها تطيباً لنفوسهم ورفعاً من أقدارهم". الجصاص، أحكام القرآن، ج2، ص333. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص250. وهو ما ذكره الإمام الشافعي بقوله: "ولم يجعل الله لهم معه أمراً، إنما فرض عليهم طاعته، ولكن في المشاورة استطابة أنفسهم"، الشافعي، محمَّد بن إدريس (ت 150هـ)، الأم (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1393هـ)، ج5، ص18. وقد نقل الرَّازي القول بالندب عن الشافعي، انظر، الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (طبعة دار الفكر)، ج9، ص69. والخلاف في كون الشُّورى واجبة أم مندوبة مشهور نقله كما سبق كل من الجصاص والقرطبي والرَّازي وابن كثير في تفسيره، ج1، ص421. وعليه فما قاله النبهان من أننا لا نجد لهذا أثراً في كتب المتقدمين غير صحيح لما سبق من نقل الأقدمين ذلك، حيث يقول النبهان: "الرأي الثَّاني يقول بأن الشُّورى ليست واجبة، بل هي مندوبة، فإن أصحابه يجعلون سبب الشُّورى هو تطيب القلوب وتنشيط النفوس، ولا نجد لهذا أي أثر في كتب المتقدمين من العلماء" انظر، النبهان، محمَّد فاروق، نظام الحكم في الإسلام (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1408هـ، 1988م)، ص184.
والقول بالندب مما ذهب إليه الدكتور مصطفى كمال وصفي بقوله: "فإن الشُّورى عمل أساسه الارتياح والثقة والإفضاء، فقد يأتي في صورة مداولة بين الإمام ووزيره أو أميره أو أحد خلصائه، وليست الاستشارة شرطاً لصحة التصرف، وإنما هي رخصة للإمام إن شاء أتاها، وإن شاء لم يأتها، لقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، آل عمران/159". انظر، وصفي، مصطفى كمال، مصنفة النظم الإسلامية الدستورية والدولية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية (القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 1397هـ، 1977م)، ص446.(1/254)
.
يقول ابن عطية (ت 546هـ): "الشُّورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدِّين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه"(1).
وقال الرَّازي: "ظاهر الأمر للوجوب، فقوله: وشاورهم يقتضي الوجوب"(2).
ويدل على جلل أمر الشُّورى ومكانتها أن الخطاب وجه إلى شخص الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم. فإن أُمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشاورة المسلمين فمعنى ذلك أن غيره من الحكام أولى بذلك وبالأخذ بها، فهو خطاب إلى الأمَّة ممثلاً في شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهنا جاء الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمشاورة، والأمر يفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك، وليست هناك قرينة.
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص534. الغريب أن كل المعاصرين الذين ينقلون هذا القول عن ابن عطية ينقلونه من تفسير القرطبي. بل نسب بعضهم هذه المقولة إلى القرطبي، مثلاً قال الغنوشي: "حتى إن المفسر الكبير الأندلسي القرطبي ربط به شرعية الحكم فقال: إن من لم يستشر العلماء، فعزله واجب لا خلاف بين العلماء". الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص108، وما القرطبي إلا ناقل للمقولة عن ابن عطية، وواضح أن الغنوشي قد نقل النص بشكل غير مضبوط أيضاً.
(2) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (طبعة دار الفكر)، ج9، ص69.(1/255)
هل الشُّورى معلمة أم ملزمة؟ آية سورة الشُّورى عامة في مسألة الشُّورى لا يمكن تقييدها بالحاكم فهي صفة من صفات المسلمين بصورة عامة، إلا أن آية سورة آل عمران جاءت لتحدد العلاقة الشورية بين الحاكم وبين رعيته قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (1). فقد حددت بداية الآية صفات الحاكم الذي يمكن أن يعطي للشورى حقها ويلتزم بها، ويتخذها سبيلاً في الإدارة والسياسة. فلابد أولاً أن يكون الحاكم ليناً حليماً بعيداً عن كل ما له وشيجة بعالم الطُّغيان؛ من الغلظة والقسوة. فلا وجود لحاكم غليظ قاسٍ في المجتمع الإسلامي المترابط بعضه ببعض كأنه جسد واحد، لأن ذلك مؤد إلى الفوضى والهرج المعبر عنه بقوله تعالى؛ { لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ، ولا شك أن الانفضاض من حول الحاكم معناه اللواذ والولوج في شباك المؤامرات، ومن ثم إثارة الفتن والمشاكل.
ومما يدل على إلزام الحاكم بنتيجة الشُّورى أن هذه الآية نزلت بعد معركة أحد التي خسر فيها المسلمون أرواحاً كثيرة، وهذه الخسارة كانت من نتائج الشُّورى التي خرج بها الرسول من المدينة - صلى الله عليه وسلم - نزولاً على رأي الصحابة لملاقاة العدو ثم مخالفة الرماة، ومع تلك النتيجة السَّلبيَّة بالميزان المادي والمترتبة على الشُّورى، والأخذ برأي الأغلبية، نزلت الآية لتقول للرسول - صلى الله عليه وسلم -: { استغفر لهم } ، لما بدر منهم من المخالفة، ولكن مع ذلك { وشاورهم في الأمر } ، ولا تدفعنك النتيجة المأساوية إلى ترك المشاورة.
__________
(1) سورة آل عمران/159.(1/256)
وحتى يكون للشورى دورٌ فعالٌ في منع الحاكم من الطُّغيان، لابد أن تكون وسيلة لاختيار الحاكم، ومن ثم لابد أن يتخذها الحاكم المنتخب سياسة متبعة في كل ما يهم المسلمين، وأخيراً إلزام الحاكم بنتيجة الشُّورى. وهذا ما سنتناوله في الفقرات القادمة.
اختيار الحاكم بالشُّورى وسيلة لمنع الطُّغيان؛ طريقة اختيار الحاكم تحدد في الغالب صفة حكمه، فالحاكم الذي يجلس على كرسي الحكم بالانقلاب العسكري لا يكون حاله مثل الذي يجلس عليه عن طريق الشُّورى والانتخاب. لذا وكما يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: "إن منصب رئيس الدولة من الأمور الخطيرة التي يجب أن تجرى فيها المشاورة، لأنه أمر يهمهم جميعاً، ويتعلق بصميم شؤونهم، فيجب أن يبدي كل واحد رأيه فيمن يراد انتخابه رئيساً للدولة"(1).
ويظهر جلياً أن الحاكم أو الإمام ينتخب عن طريق الشُّورى من وجود فئة خاصة تسمى بأهل الاختيار(2)، وذلك لما يقومون به من اختيار الحاكم. فالشُّورى تعد أساس اختيار الحاكم في الدولة الإسلامية(3).
__________
(1) زيدان، عبدالكريم، الفرد والدولة في الإسلام (القاهرة: دار الجهاد، د. ط، 1977م)، ص29.
(2) انظر، الماوردي، أبو الحسن علي بن محمَّد بن حبيب (ت 450هـ)، كتاب الأحكام السلطانية (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت)، ص5-6. أبو يعلى، الفراء محمَّد بن الحسين (ت 458هـ)، الأحكام السلطانية، صححه وعلق عليه: محمَّد حامد الفقي (سروبايا: شركة مكتبة أحمد بن سعد بن نبهان، ط3، 1394هـ، 1974م)، ص19 وما بعدها.
(3) انظر، أبو زهرة، محمَّد أحمد، المذاهب الإسلامية، إشراف: إدارة الثقافة العامة بوزارة التربية والتعليم بمصر (د. م: مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميزت، د. ط، 1970م)، ص38.(1/257)
وقد ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمر من بعده للمسلمين لاختيار حاكمٍ بأنفسهم ولم يسمه بنص. يقول أبو الأعلى المودودي: "وما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - قائماً بهذه المهمة -مهمة الإمارة في الدولة الإسلامية- لعشر سنوات، حتى التحق بالرفيق الأعلى من غير أن يأمر المسلمين ويهديهم هداية صريحة قاطعة في من يكون خليفتهم من بعده. والذي فهمه الصحابة من هذا السكوت ومن قول الله عز وجل في القرآن: { وأمرهم شورى بينهم } أن الله تعالى قد خيرهم في تولية الرئيس لدولتهم بعد نبيه بالانتخاب، وأنه ينبغي أن يكون هذا الانتخاب بمشاورة المسلمين فيما بينهم. فانتخبوا أبا بكر الصديق خليفة على أنفسهم في جمع حافل من المسلمين"(1).
__________
(1) المودودي، أبو الأعلى، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور (جدة: الدار السعودية، د. ط، 1405هـ، 1985م)، ص232. والترابي، قضايا الحُرِّيَّة والوحدة والشُّورى والديمقراطية والدِّين والفن، ص60.(1/258)
وكذا الأمر مع الصديق عندما رشح عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، رشحه بعد أن استشار الصحابة ثم بايعه المسلمون بيعة عامة في المسجد، بل إن ترشيحه كان نتيجة تفويض عام من المسلمين، حيث قال الصديق رضي الله عنه وهو يخاطب المسلمين بعد أن أمر بأن تجتمع له النَّاس وبعد أن أطلعهم على رغبته في ترشيح الفاروق قال: "أيها النَّاس قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وأنه لابد لكم من رجل يلي أمركم، ويصلي بكم، ويقاتل عدوكم، فيؤمركم، فإن شئتم اجتهدت لكم رأيي. ووالله الذي لا إله إلا هو لا آلوكم في نفسي خيراً…قالوا: يا خليفة رسول الله، أنت خيرنا وأعلمنا، فاختر لنا"(1). وكذا مع الستة الذين اختارهم الفاروق لما وقع أمرهم على عثمان بن عفان رضي الله عنه بايعه المسلمون بعد أن رضوا به. ومن ثم لما قتل عثمان رضي الله عنه تمت مبايعة علي ابن أبي طالب، حيث أتاه: "أصحاب رسول الله، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله، فقال: لا تفعلوا. فأن أكون وزيراً خيرٌ من أكون أميراً. فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين"(2).
__________
(1) ابن قتيبة، أبو محمَّد عبدالله بن مسلم الدِّينوري (ت 276هـ)، الإمامة والسياسة؛ المعروف بتاريخ الخلفاء (بيروت: مؤسسة ناصر للثقافة، د. ط، 1980م)، ج1، ص32.
(2) الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص696.(1/259)
يقول الإمام ابن تيمية موضحاً أن الخلافة تثبت برضا النَّاس ومبايعتهم للإمام: "وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له…ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم، فاختاره بعضهم. فيقال أيضاً؛ عثمان لم يصر إماماً باختيار بعضهم بل بمبايعة النَّاس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان ولم يتخلف عن بيعته أحد"(1).
أما مسألة الوصية والولاية فلم يرد فيها نص لا من الكتاب ولا من السنة بل هي مخالفة لهما، ولا يقال قد عهد الصديق إلى الفاروق رضي الله عنهما، والفاروق إلى الستة فالأمر لا يعدو هنا الترشيح.
يقول الدكتور عبدالكريم زيدان بعد أن يورد أقوال الفقهاء في أن الإمامة لا تنعقد بمجرد العهد: "فهذه الأقوال صريحة في دلالتها على أن الإمامة لا تنعقد ولا تثبت بمجرد العهد، وإنما تثبت باختيار أهل الحل والعقد، ومعنى ذلك أن التكييف القانوني للعهد أنه ترشيح للخلافة وليس تعييناً نهائياً لمن يتولاه. أما قولهم الإمامة تنعقد بالعهد والانعقاد غير الترشيح، فجوابنا أن استعمالهم كلمة (تنعقد) محمولة على الترشيح لتتفق أقوالهم التي ذكرناها مع هذا الاستعمال، أو أن هذا الاستعمال محمول على ما يؤول إليه العهد وهو انعقاد الإمامة للمرشح بناء على رضى أهل الحل والعقد المتوقع نظراً لمشاورتهم بأمر العهد كما هو الغالب"(2).
__________
(1) ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم الحراني (ت 728هـ)، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمَّد رشاد سالم (د. م: مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ)، ج1، ص532.
(2) زيدان، عبدالكريم، أصول الدعوة (بيروت-بغداد: مؤسسة الرسالة-مكتبة القدس، ط7، 1407هـ، 1987م)، ص211-212.(1/260)
أما ما قاله العلماء في تبرير السُّلطة الاستبدادية فإنه مع القول بأنه كانت هناك ظروف دعتهم إلى القول بذلك، فإن أقوالهم لا تستند إلى أدلة صحيحة، لا من القرآن ولا من السنة النبوية، وكل ما في الأمر أنه تبرير للواقع بعد العجز عن تغييره أو إيجاد ما هو أفضل منه، وهو ما سأعود إليه لاحقاً.
يقول الدكتور محمَّد يوسف موسى: "نرى من دراسة الوقائع التي تمت بها تولية كل من الخلفاء الراشدين الأربعة دراسة تحليلية، أن تولية الخليفة لا تتم إلا بالبيعة عن رضا واختيار، وأن عهد الخليفة السابق ليس إلا ترشيحاً لمن يراه أهلاً للخلافة، فإن وافقت الأمَّة على ترشيحه بايعوه، وإلا كان لهم أن يبايعوا غيره"(1).
وعليه فاختيار الإمام أو الخليفة لابد أن يكون عن طريق الشُّورى وبرضا المسلمين، وبذلك توصد كل الأبواب أمام الطُّغيان، ولا سيما إذا أضفنا ما سيأتي من التشدد في هذه المسألة حيث وصل الأمر بالفاروق رضي الله عنه إلى أن يأمر المسلمين بقتل كل من يريد الوصول إلى الحكم من غير طريق الشُّورى وهو ما سيأتي فيما بعد.
__________
(1) موسى، محمَّد يوسف، نظام الحكم في الإسلام، مراجعة وتحقيق النصوص: حسين يوسف موسى (د. م: دار الفكر العربي، د. ط. ت)، ص120.(1/261)
يقول القرضاوي: "إنه يذم إمام الصلاة الذي يؤم قوماً لا يرضون عن إمامته، مع أنه يؤمهم في عبادة. كما جاء في الحديث عن الثلاثة الذين لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: (رجل أم قوماً وهم له كارهون)(1)، فإذا كان هذا في الإمامة الصغرى مذموماً مرفوضاً عند الله تعالى. فكيف يقبل في الإمامة الكبرى أن يقود رجل قوماً وهم له كارهون وعليه ساخطون؟!
إن الإسلام يرفض أن تزوج الفتاة البكر بغير إذنها، وأن تفرض عليها حياة لا ترضى عنها، فكيف يتصور أن يقبل الإسلام أن تجبر أمة على حياة لم تخترها، ولم يؤخذ رأيها فيها؟
إن الإسلام جعل أمر الأمَّة بيدها، فهي التي تختار إمامها وحاكمها عن اقتناع، وتبايعه عن رضا، حين تجد فيه تحقق الشروط، وتكامل الأوصاف العقلية والنَّفسية والخلقية والعملية اللازمة لقيادة الأمَّة"(2).
الأمر الآخر الذي يمكن عن طريقه سد الأبواب أمام الطُّغيان هو إلزام الحاكم بأن يتخذ من الشُّورى سياسة متبعة له، ومن ثم إلزامه بنتيجة الشُّورى والمختارة من قبل الأغلبية من أعضاء مجلس الشُّورى.
__________
(1) الترمذي، سنن الترمذي، ج2، ص191. باب ما جاء فيمن أم قوماً وهم له كارهون. رقم: 358. قال أبو عيسى: "حديث أنس لا يصح لأنه قد روى هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قال أبو عيسى: ومحمَّد بن القاسم تكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه، وليس بالحافظ. وقد كره قوم من أهل العلم أن يؤم الرجل قوماً وهم له كارهون".
(2) القرضاوي، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص79-80.(1/262)
ولكن قبل ذلك لابد من بيان اختلاف النَّاس في المسألة، وبما أننا ذكرنا أن الرأي الراجح الموافق للقرآن والسنة هو وجوب الشُّورى بمعنى وجوب مشاورة القوم أو مجلس الشُّورى في الوقت الحاضر، تبقى مسألة مدى إلزام الحاكم بما تؤدي إليه الشُّورى من نتيجة، هل هي معلمة يحق له بعدها اتخاذ ما يراه أم هي ملزمة يجب عليه الالتزام بها وعدم الخروج عنها؟ والخلاف مشهور؛ فقد قال جماعة: إن الحاكم غير ملزم بالأخذ بنتيجة الشُّورى، وبما أن المعاصرين القائلين بذلك (أي بالإعلام) قد بنوا جزءاً من مذهبهم على بعض ما صدر عن العلماء القدامى فإننا سنركز الحديث على المعاصرين، وتأتي أقوال القدامى ضمن أدلتهم ولا سيما أنهم قلة.
فقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن: الأمور تترك لرئيس الدولة إذا حصل الخلاف بينه وبين أهل الشُّورى فيحق له الأخذ برأي الأكثرية إن شاء، وإن شاء برأي الأقلية، وإن شاء أخذ برأيه هو وإن كان خلاف رأي الأكثرية أو الأقلية، من هؤلاء؛(1/263)
المودودي في كتابه نظرية الإسلام وهديه(1)، والدكتور محمَّد يوسف موسى(2)، والدكتور عبدالحميد متولي(3).
__________
(1) المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، ص57، حيث يقول: "الأمير له الحق أن يوافق الأقلية أو الأغلبية في رأيها، وكذلك له أن يخالف أعضاء المجلس كلهم ويقضي برأيه". في حين تراجع عن رأيه هذا في كتابه الحكومة الإسلامية فقال بالإلزام كما سيأتي فيما بعد.
(2) موسى، نظام الحكم في الإسلام، ص180. حيث يقول: "إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاستشارة للمعاني التي عرفناها، وإن كان مؤيداً بوحي الله وتسديده، ولكن كان له أيضاً بلا ريب أن يمضي فيما يعزم عليه من رأي، وإن خالف رأي أصحابه. وربما كان ذلك أيضاً للإمام الذي توافرت فيه الشروط اللازمة لتوليته شرعاً".
(3) متولي، عبدالحميد، مبادئ نظام الحكم في الإسلام (الإسكندرية: منشأة المعارف، ط4، 1978م)، ص245 وما بعدها. حيث يقول في ص245: "إذا رجعنا إلى النصوص فإننا لا نجد في القرآن أو السنة نصاً يحتم على الحاكم الأخذ بالرأي الذي يشير به أهل الشُّورى".(1/264)
والدكتور عبدالكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة(1)، والدكتور منير البياتي(2).
__________
(1) حيث يقول: "وإذا لم يظهر الرأي الذي هو أشبه بكتاب الله وسنة رسوله، وبقي الخلاف بين رئيس الدولة وبين أهل الشُّورى، فما الحكم في هذه الحالة؟ الذي نراه ونرجحه ترك الأمر إلى رئيس الدولة، فإن شاء أخذ برأي الأكثرية، وإن شاء أخذ برأي الأقلية، وإن شاء أخذ برأيه هو، وإن كان خلاف رأي الأكثرية والأقلية". زيدان، أصول الدعوة، ص221. في حين تراجع عن رأيه السابق أو بعبارة أدق قيد رأيه بشروط في كتابه الفرد والدولة في الإسلام، حيث يرى أن الأخذ برأي رئيس الدولة: "قوي سديد من الناحية النظرية. ولكن نظراً لضرورات الواقع، وتغير النفوس، ورقة الدِّين، وضعف الإيمان، وندرة الأكفاء الملهمين، كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثَّاني-القائل بإلزام الرئيس بالأكثرية- فنلزم رئيس الدولة برأي الأكثرية بشروط: الأول: إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي الأكثرية فله أن يحيل الخلاف إلى هيئة التحكيم. الثَّاني: إذا لم يقتنع برأي هيئة التحكيم، فله إجراء استفتاء عام حول موضوع الخلاف، فإن أيدت الأمَّة رأي رئيس الدولة أخذ برأيه، وإن لم تؤيده فعليه أن يأخذ برأي الأمَّة أو يستقيل. الثَّالث: أن يعطى حرية اتباع الرأي الذي يراه في الأحوال الاستثنائية كحالة الحرب أو خطر داهم يهدد سلامة البلاد". زيدان، الفرد والدولة في الإسلام، ص46.
(2) البياتي، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية، ص193 وما بعدها. مع تحفظ واحد وهو: "أنه إذا أصر أكثرية أعضاء مجلس الشُّورى على عدم الاقتناع برأي الرئيس ولم يروا فيه مجرد رأي (مرجوح) يجوز العمل به شرعاً. وإنما رأوه خاطئاً لا يجوز العمل به، وقدموا رأياً آخر وطلبوا التحكيم في ذلك، فينبغي أن يصار إلى التحكيم".(1/265)
ويستشهد هؤلاء ببضعة سوابق ووقائع من عهد الرسالة والخلافة الراشدة، إضافة إلى بعض الأقوال التي وردت في كتب التَّفسير.
منها صلح الحديبية؛ حيث يستشهد القائلون بعدم إلزامية الشُّورى، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خالف الأغلبية في الحديبية، ولم يلتفت إلى رأيهم، فيدل ذلك على أن للحاكم اختيار ما يراه، وإن خالف رأي الأكثرية من أعضاء الشُّورى.
إلا أنه بتدقيق النظر في المسألة يتبين أنه لا دليل في هدنة الحديبية على مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرأي الأغلبية، لأنه وبكلام مختصر ما حدث في الحديبية لم يكن داخلاً في دائرة الشُّورى ومجاله، فقد ورد في صحيح البخاري ما يدل على ذلك، من ذلك: "فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ إذ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري…فأتيت أبا بكر. فقلت يا أبا بكر…قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ إذ قال أيها الرجل إنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس يعصي ربه وهو ناصره"(1). يقول ابن حجر العسقلاني: "قوله إني رسول الله ولست أعصيه ظاهر في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل من ذلك شيئاً إلا بالوحي"(2).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص978، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، رقم:2581. والبيهقي، سنن البيهقي الكبرى، ج9، ص220، باب المهادنة على النظر للمسلمين، رقم:18587. ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمَّد الكوفي (ت 235هـ)، مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت (الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1409هـ)، ج7، ص388-389، رقم: 36855.
(2) العسقلاني، فتح الباري، ج5، ص346.(1/266)
وجاء أيضاً في صحيح البخاري: "وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته…فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل"(1).
لأن الأمر لو كان اجتهاداً صرفاً كما يقول هؤلاء فما الداعي أن يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إني رسول الله ولست أعصيه)، ثم ما معنى: (حبسها حابس الفيل). وفي العبارتين السابقتين الواردتين في صحيح البخاري ما يؤدي إلى قناعة جازمة بأن قرار صلح الحديبية كان خارجاً عن مجال الشُّورى(2).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص974، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، رقم:2581. ابن حبان، محمَّد بن أحمد (ت354هـ)، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1414هـ، 1993م)، ج11، ص218، ذكر ما يستحب للإمام استعمال المهادنة بينه وبين أعداء الله إذا رأى بالمسلمين ضعفاً يعجزون عنهم، رقم: 4872. ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج4، ص323، ص329، رقم:18930. أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (ت 275هـ)، سنن أبي داود، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد (د. م: دار الفكر، د. ط. ت)، ج3، ص85، باب في صلح العدو، رقم: 2765.
(2) لا كما يقول الدكتور لؤي، فبعد أن يؤكد غلبة البعد الرسالي في القرار، يقول: "وإن لم تؤد إلى قناعة جازمة بأن قرار صلح الحديبية ناجم عن وحي سماوي، ومنبن على علم وتأييد إلهي". لؤي، صافي، العقيدة والسياسة؛ معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية (فرجينا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1419هـ، 1998م)، ص183.(1/267)
أسرى بدر؛ أما ما ذهبوا إليه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأي الأغلبية في أسرى بدر، واكتفى برأي الصديق، وأن سبب نزول آيات العتاب لم يكن لعدم أخذه برأي الأغلبية، وإنما لأن رأيهم كان الأصلح في ذلك الحين(1).
فهذا الكلام ليس بصحيح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ برأي الأكثرية ومما يدل على ذلك أن بقية الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرون رأي أبي بكر رضي الله عنه، ويؤيد هذا ما نقله جمهور المفسِّرين أمثال الطبري والبيضاوي(2) وابن العربي المالكي(3) والنسفي(4) والآلوسي(5) وغيرهم أمثال ابن قتيبة(6) والأصبهاني(7) لروايات تفيد هذا المعنى عند تفسيرهم لقوله تعالى: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (8). من هذه الروايات: ما أخرجه الطبري: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك…حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: لما نزلت لولا كتاب من الله سبق الآية. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن
__________
(1) متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص246.
(2) البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التَّأويل، ج3، ص122.
(3) ابن العربي، أبو بكر محمَّد بن أحمد (ت 543هـ)، أحكام القرآن، تحقيق: علي محمَّد البجاوي (د. م: مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط3، 1392هـ، 1972م)، ج2، ص884.
(4) النسفي، مدراك التنزيل، ج2، ص74.
(5) الآلوسي، روح المعاني، ج10، ص35.
(6) ابن قتيبة، أبو محمَّد عبدالله بن مسلم الدِّينوري (ت 276هـ)، تأويل مختلف الحديث، تحقيق: محمَّد زهري النجار (بيروت: دار الجيل، د. ط، 1393هـ، 1972م)، ج1، ص158.
(7) الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبد الله (ت 430هـ)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (بيروت: دار الكتاب العربي، ط4، 1405هـ)، ج1، ص43.
(8) سورة الأنفال/68.(1/268)
معاذ"(1).
ومثل هذا ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد نزول العتاب: "كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء"(2).
فلو لم يكن ذلك رأي الأكثرية لماذا يكون استثناء عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ فقط من الصحابة كلهم؟ فيدل ذلك على أن الأكثرية كانت ترى رأي الصديق رضي الله عنه وهو الذي اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم -.
بعث أسامة؛ أما الاستشهاد بفعل الصديق رضي الله عنه من إنفاذ جيش أسامة ومخالفته كما يقولون لأغلبية الصحابة. فهو لقناعة الصديق أن في إنجازه لبعث أسامة امتثالاً لما عزم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان الأمر كذلك فإنه رأى أنه لابد من تنفيذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن رأياً للصديق فرضه على الآخرين، لذا قال رضي الله عنه: "والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رددت جيشاً وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا حللت لواء عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(3). وعليه فالصديق لم يكن إلا منفذاً لما عزم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قتال المرتدين؛ ومما استشهد به هؤلاء إصرار الصديق على محاربة مانعي الزكاة، ورفضه لكل العلل التي قدمها بقية الصحابة.
__________
(1) الطبري، جامع البيان، ج10، ص48.
(2) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص359، تفسير سورة الأنفال، رقم: 3270. قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(3) البيهقي، أحمد بن الحسين (ت 458هـ)، الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، تحقيق: أحمد عصام الكاتب (بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط1، 1401هـ)، ج1، ص345. وانظر، الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص246. حيث قال الصديق رضي الله عنه: "لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله".(1/269)
فمعلوم أن الزكاة من أركان الإسلام مثلها مثل الصلاة وغيرها، ولا يلجأ إلى التفريق بينهما إلا عابث، وعليه فلا يعقل أن يستشير الخليفة الآخرين في السماح لطائفة بترك الصلاة أو بترك أداء الزكاة أو ما إلى ذلك وهذا الحق لا يملكه أحد لأن هذه الأمور تعد من الثوابت. ومع ذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد اقتنع فيما بعد بذلك ورأى أنه الحق، ويدل على أن المسألة خارجة عن دائرة الشُّورى قول الصديق رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري: "والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تابعه بعد عمر. فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة، إذ كان عنده حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وأرادوا تبديل الدِّين وأحكامه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه)"(1). وقد سبق أن الشُّورى تكون في الأمور التي لا نص فيها، ومع ذلك فلم يفرض الصديق رأيه على الآخرين إجباراً.
يعلق الإمام الشاطبي على هذه الواقعة فيقول: "لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده -الصديق- ظاهراً، فلم تَقْوَ عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر، فالتزمه، ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديماً للحاكم الحق، وهو الشرع"(2).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج6، ص2682، باب قول الله تعالى وأمرهم شورى بينهم.
(2) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي (ت790هـ)، الاعتصام، اعتنى بها: مكتب تحقيق التراث، أعد فهارسها: رياض عبدالله عبدالهادي (بيروت: دار إحياء التراث العربي-مؤسسة التاريخ العربي، ط1، 1417هـ، 1997م)، ج2، ص487.(1/270)
وبعيداً عن كل هذا وكما يقول الدكتور توفيق الشاوي: "إن القرار كان قرار الجماعة بالشُّورى، لا قرار أبي بكر وحده، لأن الجماعة رجحت رأيه وتبنته ونفذته فعلاً باختيارها، بما فيهم عمر رضي الله عنه الذي كان له رأي مخالف عدل عنه"(1).
أما استشهاد هؤلاء بما ورد عن بعض المفسِّرين القدامى من تفسيرات. فالاستناد إلى ما ورد عنهم، لا يقوى دليلاً على ما ذهبوا إليه، لأن تلك الأقوال التي وردت في بعض كتب التَّفسير غير صريحة، من ذلك ما ورد عن الإمام الطبري، حيث يقول: "وأما قوله فإذا عزمت فتوكل على الله فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به وافق ذلك آراء أصحابك، وما أشاروا به عليك أو خالفها"(2).
__________
(1) الشاوي، توفيق، فقه الشُّورى والاستشارة (المنصورة: دار الوفاء، ط2، 1413هـ، 1992م)، ص143. ولا يوافق الدكتور الشاوي على أن الصديق كان ينطلق من دائرة المنصوص عليه، ويرى أن القول بذلك معناه: اتهام المعارضين له بأنهم قصدوا تعطيل النص، وهذا زعم خاطئ حسب تعبيره. إلا أننا نرى أن ترتيب الشاوي هذه النتيجة على المقدمة السالفة ليس بأمر سديد، فعمر رضي الله عنه أنكر مثلاً على من قال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، وهدد القائل بالعقوبة إلى أن ذكره الصديق بالآية. ومع ذلك لا يمكن اتهامه بأنه أنكر النص القرآني أو أراد تعطليه. فليس كل من يعارض فهماً متهم بأنه قصد التعطيل.
(2) الطبري، جامع البيان، ج4، ص153.(1/271)
وبغض النظر عن مدى قرب هذا التَّفسير من سياق الآية أو لا، فإنه لا دليل في نص الطبري على أن الشُّورى معلمة للحاكم وغير ملزمة، أو بعبارة أخرى أن الحاكم له الحق في اختيار ما يراه مناسباً من الآراء، وإن خالف ذلك نتيجة الشُّورى، وبيانه كالآتي: لأن قول الإمام الطبري صريح بأن لا يلتفت الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى آراء أصحابه إذا كان في المسألة نص أو وحي، وهذا صريح في عبارته: "فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به"، لأنه إذا جاء أمر من الله سبحانه فلا محل للشورى ولآراء الأصحاب في ذلك. ولا يقال بأن ما يختاره الرسول أو الحاكم بصورة أوضح بعد الشُّورى هو ما أمره الله به. إذا نص الطبري لا دليل فيه على عدم إلزامية الشُّورى للحاكم. مع أن العبارة فيها خلط بين ما هو داخل في دائرة الشُّورى وما هو خارج منها.
ويدل لما أشرت إليه من أن الإمام الطبري يقصد هذا؛ ذكره لهذه الرواية بعد قوله السابق: "كما حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. فإذا عزمت أي على أمر جاءك مني أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك، فامض على ما أمرت به على خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك، وتوكل على الله"(1).
__________
(1) المرجع السابق، ج4، ص153.(1/272)
أما مقولة قتادة المشهورة والمستشهد بها من قبل كل من ذهب إلى عدم إلزامية الشُّورى والتي نقلها الإمام الطبري فهي: "أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيم على أمر الله ويتوكل على الله"(1)؛ فهو خبر واحد نقله الإمام الطبري عن قتادة ومن ثم نقله السيوطي عن الطبري، وهو عام ليس فيه أية دلالة على عدم إلزامية الشُّورى للإمام، حيث يقول: فإذا عزمت على أمر، ومعناه: إذا عزمت بعد المشاورة على أمر. أما ما زاده القرطبي في قول قتادة: "لا على مشاورتهم"(2) فهذه الزيادة غير موجودة فيما نقله الطبري عنه. ومع ذلك فإنه خبر واحد أو تفسير لا يمكن حمل الآية عليه وحده.
ومع هذه الزيادة فليس في قول قتادة رحمه الله ما يدل على عدم إلزام الشُّورى، فيكون معنى قوله: وتوكل على الله لا على مشاورتهم، لأنها مجرد سبب، ومعلوم أنه في باب التوكل على الله لا يجوز حتى بعد الأخذ بكل الأسباب الاعتماد عليها بمعنى أنها هي التي تؤدي إلى النتيجة. قال الرَّازي: "المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور"(3).
__________
(1) المرجع السابق، ج4، ص153.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص252.
(3) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (طبعة دار الفكر)، ج9، ص69-70.(1/273)
وكذلك يخالفه ما نقله كبار المفسِّرين عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، مثاله ما نقله الحافظ ابن كثير والإمام السيوطي والشوكاني في تفاسيرهم ما يرويه ابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العزم قال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم"(1). وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالة على أنها صدرت عن المشورة(2).
ولذا لا يبقى بعد هذا لما قاله الدكتور عبدالحميد متولي من معنى حيث يقول: "نلاحظ أن العلماء أو الباحثين الذين عرضوا لهذه المسألة في مصر في هذا العصر يرون أن رأي أهل الشُّورى –في الإسلام- ملزم للحكام، على أننا لا نجدهم يقدمون أسانيد مقبولة تأييداً لرأيهم، كما أنهم لا يعنون بمناقشة تفسيرات كبار المفسِّرين للآية التي نزلت بأمر الرسول بالشُّورى مما سبق الإشارة إليه"(3). فلم يرد عن كبار المفسِّرين نص صريح في ذلك غير ما ذكر أو ما شابهه وهي لا تدل على ما ذهب إليه بعض المعاصرين من عدم إلزامية الشُّورى.
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص421. السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص360. الشوكاني، فتح القدير، ج1، ص395.
(2) الجصاص، أحكام القرآن، ج2، ص331.
(3) متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص247.(1/274)
ومن الأدلة العقلية التي يستند إليها أصحاب هذا الرأي، قولهم: "إن الخليفة -أي رئيس الدولة- مسؤول مسؤولية كاملة عن أعماله، فلا يجوز إلزامه بتنفيذ رأي غيره، إن لم يقتنع بصوابه، لأن كون الإنسان مسؤولاً عن عمله، يعني أنه يعمله باختياره ورأيه لا أن يعمل وينفذ رأي غيره على وجه الإلزام، وهو كاره له غير مقتنع به، ثم يسأل هو عن هذا الرأي ونتائجه"(1). وهذا الكلام يصلح مع الاستشارة العادية لا مع الأمر المعروض على أعضاء الشُّورى. يضاف إلى ما سبق تنفيذ ما يتوصل إليه بالشُّورى إنما يعني ذلك مشاركة الرئيس في تحمل تلك المسؤولية، واتباع أقوم السُبُل للحيلولة دون الوقوع في أخطاء الإدارة والسياسة. أما الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية والاستناد إليها في رفض رأي الأكثرية والأخذ بمبدأ الشُّورى فإن هذه الآيات كما ستأتي لا علاقة لها بعالم الشُّورى وأهلها.
والآيات هي: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (2)، { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } (3)، { وَمَا أَكْثَرُ النَّاس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } (4)، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ } (5)، و { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } (6)، و { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يُؤْمِنُونَ } (7)، و { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَشْكُرُونَ } (8).
__________
(1) زيدان، أصول الدعوة، ص222.
(2) سورة الأنعام/116.
(3) سورة المائدة/100.
(4) سورة يوسف/103.
(5) سورة الأعراف/187.
(6) سورة العنكبوت/63.
(7) سورة هود/17.
(8) سورة البقرة/243.(1/275)
وقد بنى هؤلاء على هذه الآيات أنه: "ليست الكثرة لذاتها دليلاً قاطعاً أو راجحاً على الصواب، كما أن القلة ليست لذاتها دليلاً قاطعاً أو راجحاً على الخطأ، إذ يمكن أن يكون الخطأ مع الكثرة، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة"، وأن: "صواب الرأي وخطأه يستمدان من ذات الرأي وطبيعته لا من كثرة أو قلة القائلين به"(1). ولما كان الأمر كذلك فالأغلبية لا تعد مرجعاً في الشُّورى، ولا رأيها هو الصواب.
فالاستشهاد بهذه الآيات في موضوع الشُّورى ليس بسديد، حيث تتناول هذه الآيات أهل الكفر والضلال، وليس المراد منها أهل الشُّورى الذين يفترض فيهم أنهم من خيرة المسلمين وأعلمهم. يقول القرضاوي: "وقول من قال: إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ فيرفض ولو كان معه (99 من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصاً ثابتاً صريحاً يقطع النزاع، ولا يحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة، وهذا قليل جداً"(2).
__________
(1) المرجع السابق، ص222. أبو حبيب، سعدي، دراسة في منهاج الإسلام السِّياسيّ (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1406هـ، 1985م)، ص61. البياتي، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي، ص196.
(2) القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص144.(1/276)
يقول الدكتور محمَّد سليم العوا في معرض رده على القائلين أنه إذا ظهر الحق مع رأي وجب اتباعه ولو كان رأي القلة: "وإننا لنتساءل كذلك عن الكيفية التي يتم بها ترجيح الرأي بعد التمحيص العقلي؟ وهل لمتصور أن تظهر أرجحية الرأي ثم تصر الأغلبية من أهل الشُّورى على عدم الموافقة عليه، حتى نجيز للحاكم عدم اتباع رأي غالبية أهل الشُّورى؟ إن تقرير ذلك يتضمن فيما يتضمن تقرير عدم صلاحية أهل الشُّورى أنفسهم لإبداء الرأي أو الاستشارة، لأن العاقل لا يصر على رأي لم يرجحه التمحيص العقلي، وعندئذ لن تكون المسألة مسألة كثرة وقلة، وإنما ستكون مسألة مدى أهلية المستشارين إن لم تكن مسألة مدى ائتمانهم على مهمتهم"(1).
أما أن يقال: إن الأمور تترك وتفوض إلى الرئيس في حال الحرب أو ما شابهها. فهذا ما لا وجود له في الأصول الإسلامية، ولذلك نأخذ حالة واحدة من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي حالة الحرب، ونضرب لذلك عدة أمثلة من أنه لا يوجد شيء اسمه حاكم الطوارئ، أو أن الأمور كلها متروكة له يفعل ما يشاء ويختار ما يراه مناسباً.
منها واقعة بدر، حيث كان مصير المسلمين ومستقبلهم يعتمد على تلك الواقعة، فإننا نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية، والقائد الميداني للمعركة قد أكثر من المشاورة إلى درجة كبيرة بدءاً بإعلان الدخول في المعركة ومروراً باختيار موقع المعسكر وانتهاءً بمصير الأسرى وغير ذلك. نشير إلى تلك النماذج بإيجاز.
__________
(1) العوا، محمَّد سليم، في النِّظام السِّياسيّ للدولة الإسلامية (القاهرة: المكتب المصري الحديث، ط6، 1983م)، ص211-212.(1/277)
فقد استشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في الدخول في المعركة فلم يعلن الدخول إلا بعد إعلان الغالبية موافقتها من خلال رؤسائهم ممثلين بكبار المهاجرين وكذا كبار الأنصار. فرغم أن أبا بكر وعمر وغيرهما قد تكلموا إلا أنه انتظر الأمر من الأنصار فلما وافقوا أعلن الدخول(1).
ثم لما وقع الأسرى في أيديهم استشار النَّاس، وكثرت الآراء في ذلك بين قائل بوجوب قتلهم وآخر بالعفو عنهم وثالث بإحراقهم وفي الأخير نزل على رأي الصديق رضي الله عنه، والذي رأته الأكثرية، ولا يقال هنا أن الوحي أثبت ذلك الرأي. لأنه نزلت عليه فيما بعد آيات العتاب لأخذه بالعفو بدلاً من القتل، قال تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } (2).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما سبق كان في حال الحرب ومع ذلك كان يكثر المشاورة، ومن ثم يتخذ الرأي الذي تختاره الأغلبية، ولم يكن يتصرف باعتباره حاكم حرب، أو أن الحالة حالة طوارئ.
__________
(1) انظر على سبيل المثال في: أبو يعلى، أحمد بن علي بن المثنى (ت 307هـ)، مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد (دمشق: دار المأمون للتراث، ط1، 1404هـ،1984م)، ج6، ص430، رقم: 3803. النسائي، السنن الكبرى، ج6، ص334، رقم: 11141. كيف والإعلان جاء بعد تأييد وموافقة الأغلبية.
(2) سورة الأنفال/67.(1/278)
ومن ذلك في معركة أحد وبعد أن سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقدوم جيش المشركين استشار السواد الأعظم من المسلمين، فوقع رأيهم على الخروج مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك، وفضل التحصن في المدينة، ووافقه كبار الصحابة، إلا أنه لما رأى أن الأكثرية تريد الخروج دخل ولبس لأمته، فلما رأى المسلمون أن قد فرضوا رأيهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ندموا على ذلك، واعتذروا منه، وطلبوا منه البقاء في المدينة، إلا أن الرسول قال: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)(1).
وليس الأمر كما يقال من أن الأغلبية رفضت الخروج(2). ويدل على أن الجمهور هم الذين فضلوا الخروج من المدينة، ما تذكره المصادر من أن الذين فاتهم بدر هم الذين طلبوا، فإذا ما علمنا أن عدد الذين شاركوا في بدر كان قليلاً جداً مقارنة بعدد المسلمين في أحد علمنا أن الأكثرية كانت مع الرأي القائل بالخروج، حيث كان عدد المسلمين في أحد ألفاً مقارنة بـ(314) في بدر.
وقد ذكر ابن كثير أن الجمهور هم الذين طلبوا الخروج حيث يقول: "وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم"(3).
__________
(1) ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج3، ص351، رقم: 14829.
(2) يقول البياتي: "فهما رأيان إذن: رأي الأكابر من الأنصار والمهاجرين، ورأي الفتيان الذي لم يشهدوا بدراً الذي ألحوا فيه وتحمسوا له كثيراً، والذي أخذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد. فمن أين لهم أن النبي قد نزل على رأي الأكثرية"، البياتي، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية، ص198.
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص421.(1/279)
ومنها لما أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعقد مع غطفان معاهدة يرجع بموجبها كل من عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري على أن يعطوا ثلث ثمار المدينة من قبل المسلمين، ورغم أن المسلمين كانوا في حالة حرب، وكانت المدينة محاصرة، فإن السعدين وبعد أن أعلمهما النبي أنه أمرٌ يفعله لهم. قالا: "ليجهدوا عليها" ثم مزق سعد الكتاب(1).
__________
(1) وتمام القصة أنه: "بعث رسول الله إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله أن يفعل ذلك، بعث إلى السعدين. فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه. فقالا: يا رسول الله أمراً تحبه فاصنعه أم شيئاً أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب. فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة. والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال النبي: أنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب. ثم قال ليجهدوا عليها". ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص104-105. انظر، ابن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص176-177.(1/280)
يقول الشيخ محمود شلتوت: "وهذه الحادثة تضع تقليداً دستورياً هاماً للمسلمين، هو أن الحاكم –ولو كان رسولاً معصوماً- يجب عليه أن لا يستبد بأمر المسلمين، ولا أن يقطع برأي في شأن هام، ولا أن يعقد معاهدة تلزم المسلمين بأي التزام دون مشورتهم وأخذ آرائهم، فإن فعل كان للأمة حق إلغاء كل ما استبد به من دونهم، وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم رأي فيها"(1).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مؤيد بالوحي وفي حال الحرب بل وفي ساحة المعركة يستشير ويأخذ برأي الآخر. فكيف بغيره من الحكام؟ وعليه نرى أن الشُّورى وما يترتب عليها ملزم للحاكم فيجب عليه الأخذ بما تنتهي إليه الشُّورى من نتائج.
يضاف إلى ما سبق أن هذه العادة ليست إسلامية، وإنما هي تقليد روماني قديم، حيث كانت الأمور تفوض في حالات الأزمات ولمدة محدودة -في الغالب ستة أشهر- إلى أحد القضاة وكان يسمى دكتاتور وتعطى له صلاحيات واسعة مطلقة(2)، وليس هناك ما يؤيدها في الإسلام لا من القرآن ولا من السنة ولا من سيرة الرسول العملية - صلى الله عليه وسلم -، فإنه -وكما سبق- كان يكثر المشاورة في حالة الحرب، كما في بدر وأحد والخندق والأحزاب وغيرها. ولذا فلا وجود لحاكم الطوارئ في الإسلام.
__________
(1) شلتوت، محمود، من توجيهات الإسلام (القاهرة: دار الشُّرُوق، ط8، 1407هـ، 1987م)، ص530.
(2) Robertson, David (1993). A Dictionary of Modern Politics. 2nd edition. London: Europa publications limited. p137.
انظر أيضاً: ربيع، موسوعة العلوم السِّياسيّة، ص285. إمام، الطَّاغية، ص60-61.(1/281)
وأخيراً: عند التنازع في الرأي فالمرد في ذلك إلى الرأي الأقرب إلى الكتاب والسنة بعد فقدان النص الصريح، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (1)، فلم تجعل الآية المرد عند التنازع إلى رأي ولي الأمر، ولذلك فما دام رأي ولي الأمر لا يعد مرجحاً عند الاختلاف، وبعد فقدان النص الصريح وعدم معرفة الرأي الأقرب إلى الكتاب والسنة فلابد من التعويل على مرجح آخر وهو رأي الأغلبية.
فكما نرى أن الأدلة التي استشهد بها هذا الفريق لا تقوى على مجابهة ما عرف من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو على تخصيص الأمر القرآني بالشُّورى أو تقييده، لذا يترجح كون الشُّورى ملزمة. وإضافة إلى ما سبق من الأدلة فإن هناك أدلة أخرى تدل دلالة صريحة على إلزامية الشُّورى وترجيح رأي الأكثرية في المسائل التي يعرضها الحاكم للشورى.
منها: ما حدث قبيل غزوة أحد، وكيف أن الأغلبية لما فضلت الخروج من المدينة لملاقاة المشركين نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رأيهم، وقد سبق ذلك.
ومنها: أنه ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إضافة إلى سنته العملية الدالة على ذلك بوضوح بعض الأقوال التي تفيد أن الكثرة تعد مرجحاً إذا لم يوجد مرجح آخر. من ذلك؛
قوله للشيخين رضي الله عنهما: (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما)(2).
__________
(1) سورة النساء/59.
(2) ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج4، ص227، رقم: 18023.(1/282)
أما ما يقوله عبدالحميد متولي من أنه يفهم من هذا الحديث: "أنه يأخذ برأيهما ولو خالفتهما في الرأي أغلبية الصحابة. أي أنه لا يلزم برأي أغلبية الصحابة"(1)؛ فهذا القول لا يؤيده سياق الحديث ولا يفهم منه، وإنما يفهم منه أنه لو اجتمعا على رأي فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يخالفهما أي الواحد مقابل الاثنين، وهو ما يمثل الأغلبية وليس في الحديث أية إشارة إلى مقارنة رأيهما برأي بقية الصحابة. والحديث مسوق لبيان رجاحة رأي الشيخين رضي الله عنهما.
ومنها مسألة عمر رضي الله عنه والستة: "قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشُّورى تشاوروا في أمركم. فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشُّورى. وإن كان أربعة واثنان فخذوا صف الأكثر"(2).
يقول الشيخ القرضاوي: "إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لابد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد. الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"(3). وإن قال قائل: بأن العبرة بالنوعية وليس بالكثرة. نقول: المفترض في أعضاء مجلس الشُّورى أن يكونوا من خيرة المسلمين وأكثرهم ثقافة وفقهاً وعلماً.
__________
(1) متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص246.
(2) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج3، ص61.
(3) القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص142.(1/283)
وقد ورد في أقوال العلماء ما يدل على أن رأي الأغلبية معتبر في أمور خطيرة، ولا سيما في اختيار الحاكم وما إلى ذلك، يقول أبو يعلى الفراء وهو يتحدث عن وجوه انعقاد الإمامة ما نصه: "فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم(1): "الإمام الذي يجتمع قول أهل الحل والعقد عليه كلهم" يقول: هذا إمام. وظاهر هذا أنها تنعقد بجماعتهم"(2).
وعليه إذا ما أردنا أن نُفَعِّلَ الشُّورى بحيث نجعلها مانعاً لبروز الطُّغيان في المجتمع الإسلامي فلابد من القول بأن الشُّورى ملزمة، لأن الأخذ بالرأي القائل بأن الشُّورى معلمة معناه؛ ردم التراب على الشُّورى وتقبيرها وإفراغها من محتواها ومضمونها، وجعلها مسألة شكلية نظرية لا تسمن ولا تغني من جوع. لذا فقد ذهب أكثر المتأخرين والمعاصرين إلى الأخذ بإلزام الحاكم بما تذهب إليه الأكثرية، منهم على سبيل التمثيل:
__________
(1) ويذكر الخلال كلاماً قريباً من هذا للإمام أحمد ونصه: "قال أبو عبدالله: تدري ما الإمام؟ الإمام: الذي يجمع المسلمون عليه كلهم. يقول: هذا إمام". الخلال، أبو بكر أحمد بن محمَّد بن هارون بن يزيد (ت 311هـ)، السنة، تحقيق: عطية الزهراني (الرياض: دار الراية، ط1، 1410هـ)، ج1، ص81.
(2) أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص23، وص26.(1/284)
الشيخ محمَّد رشيد رضا(1)، وأبو الأعلى المودودي في كتابه الحكومة الإسلامية(2)، والشيخ محمود شلتوت(3)، والقاضي عبد القادر عودة(4)، والدكتور مصطفى أبو زيد(5)، والدكتور محمَّد عبدالله العربي(6)، والشيخ محمَّد الغزالي(7)، والشيخ يوسف القرضاوي(8)، والدكتور توفيق الشاوي(9)، والدكتور سليم العوا(10)
__________
(1) رضا، تفسير المنار، ج4، ص205.
(2) المودودي، أبو الأعلى، الحكومة الإسلامية، تعريب: أحمد إدريس (القاهرة: المختار الإسلامي للطبع والنشر، ط2، 1980م)، ص106-107. حيث يقول: "التسليم بما يجمع عليه أهل الشُّورى وأكثريتهم، أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشُّورى، ثم يختار ما يراه هو نفسه بحرية تامة فإن الشُّورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها. فالله لم يقل (تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمورهم) وإنما قال (وأمرهم شورى بينهم) يعني أن تسير أمورهم بتشاورهم فيما بينهم، وتطبيق هذا القول الإلهي لا يتم بأخذ الرأي فقط بل لابد لتنفيذه وتطبيقه من أن تجرى الأمور وفق ما يتقرر بالإجماع أو الأغلبية". وقد سبق أن ذكرنا أن هذا هو رأيه الأخير بعد أن كان يقول بغيره.
(3) شلتوت، من توجيهات الإسلام، ص530.
(4) عودة، عبدالقادر، الإسلام وأوضاعنا السِّياسيّة (القاهرة: المختار الإسلامي، ط3، 1398هـ، 1978م)، ص175-176.
(5) أبو زيد، مصطفى، فن الحكم في الإسلام (د.م: المكتب المصري الحديث، د. ط. ت)، ص221-222.
(6) العربي، محمَّد عبدالله، نظام الحكم في الإسلام (د. م: دار الفكر، د. ط. 1388هـ، 1968)، ص95-96.
(7) الغزالي، الإسلام والاستبداد السِّياسيّ، ص46 وما بعدها.
(8) في عدد من كتبه، انظر مثلاً: من فقه الدولة في الإسلام، ص141 وما بعدها. والسياسة الشَّرعيَّة في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها (القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 1419هـ، 1998م)، ص114-116.
(9) في مواضع كثيرة انظر، الشاوي، فقه الشُّورى والاستشارة، ص101-102، وص118.
(10) العوا، في النِّظام السِّياسيّ للدولة الإسلامية، ص211-212.(1/285)
، والشيخ راشد الغنوشي(1)، والدكتور محمَّد عبدالقادر أبو فارس(2)، والدكتور فتحي الدريني(3)، وغيرهم كثير(4).
وبعنصر الشُّورى -كما يقول الإمام محمود شلتوت رحمه الله- قضى الإسلام؛ "على عدو الإنسانية الفاضلة، وهو الاستبداد بالرأي واحتكار التشريع والتصريف والإدارة، وسلب أهل الرأي والكفايات حق إبداء رأيهم، وآثار كفاياتهم. والقرآن لا يريد من الشُّورى -حين يضعها هذا الوضع- هذه الصورة الهزيلة التي يتواضع عليها أرباب البغي والاحتكار، ويتخذونها ستاراً للطغيان، وسلب الحقوق، وإنما يريدها حقيقة نقية بريئة مما يكدر صفوها، ويفقد خيرها"(5).
ولذا فإن الأخذ بالشُّورى وسيلة وقائية لمنع من لا يرتضيه جمهور المسلمين من الوصول إلى الحكم، وكذا وسيلة وقائية لمنع الحكام من الاستبداد بالرأي ومن طغيانهم.
تحديد مدة الرِّئاسة
__________
(1) الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص107 وما بعدها.
(2) أبو فارس، محمَّد عبدالقادر، النِّظام السِّياسيّ في الإسلام (عمان: دار الفرقان، ط2، 1407هـ، 1986م)، ص94 وما بعدها.
(3) الدريني، فتحي، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ، 1982م)، ص452 وما بعدها.
(4) دروزة، محمَّد عزة، التَّفسير الحديث ترتيب السور حسب النزول (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2، 1421هـ، 2000م)، ج7، ص256. عبدالكريم، فتحي، الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة (د. م: مكتبة وهبة، ط2، 1404هـ، 1984م) ص359. انظر كذلك،
Osman, Fathi (1997). Concepts of the Qur’an; a Topical Reading. 1st edition. Kuala Lumpur: ABIM. p.767.
(5) شلتوت، محمود، إلى القرآن الكريم (القاهرة: دار الشُّرُوق، د. ط، 1403هـ، 1983م)، ص137.(1/286)
لا شك أن طول البقاء في السُّلطة والجلوس على كرسي الحكم يؤدي في غالب الأحيان إلى تشبث الحاكم بكرسيه، وإلى محاولة إطالة أمد حكمه لأطول فترة ممكنة، وقد يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى استخدام القوة من أجل الحفاظ على كرسيه. وقد مر بنا كيف أدى طول المكث بكثير من الحكام إلى الطُّغيان أمثال نمرود وغيره وهو ما يشهد له التاريخ والواقع، وما التوريث في الحكم إلا ثمرة ذلك الحرص.
ولما كان حال الأمَّة الإسلامية أفراداً وجماعات قد تغير، ولم يعد الأمر كما كان عليه في عهد الخلافة الراشدة حيث قوة الوازع الدِّيني والأخلاقي، والولاء المطلق للكتاب والسنة، فإنه لابد من التوسل بكل وسيلة تحيل بين الحكام وبين الطُّغيان السِّياسيّ ومن ذلك تحديد مدة الرِّئاسة. ولا سيما إن الحكم في ذاته مظنة الطُّغيان، فكيف إذا انضاف إليه المكوث الطويل فيه الذي يعد هو الآخر مظنة الطُّغيان. وذلك لأن الحاكم إذا ما تيقن أنه سيبقى فترة محدودة في الحكم، وأنه سيرجع بعد ذلك إنساناً عادياً في المجتمع مثله مثل غيره من الأفراد، فإنه لن يجرؤ على اقتراف ما سيحاسب عليه في الدنيا قبل الآخرة لا سيما بعد خروجه من السُّلطة. والحاكم عادة يلجأ إلى الطُّغيان والبطش والإرهاب للحفاظ على كرسيه لأطول فترة ممكنة. فإذا ما حدد ذلك فلن يكون هناك من داع إلى ذلك.(1/287)
ولا يحتج في هذا الموضع بالسوابق التاريخية ولا سيما بعد الخلافة الراشدة، وبأنه لم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذا الأمر. أما بالنسبة للخلافة الراشدة فإن ذلك أيضاً لا يعد أصلاً يجب اتباعه ولا سيما أننا ذكرنا أن قوة عقيدة الخلفاء الراشدين كانت من أقوى الضمانات التي تمنع سوء استخدام السُّلطة، وعليه فلم تكن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات احتياطية أخرى ما دام أن الضابط الذاتي لدى الخليفة كان ضامناً لمنع بروز الطُّغيان، وهذا ما لا يتوفر في غيرهم من الحكام إلا من رحم الله. ثم يجب أن يوضع في الحسبان اختلاف الزمان والمكان. وما كان يصلح لذلك الزمان ربما لا يصلح لهذا وبالعكس.
أما الاحتجاج بالإجماع العملي(1) على عدم توقيت مدة الرِّئاسة، ففيه شيء من المغالطة كما يقول الشيخ القرضاوي: "فالإجماع الذي حصل يفيد شرعية استمرار مدة الأمير مدى الحياة، وهذا لا نزاع فيه، إذا لم يؤد إلى ضرر أو فساد. أما الأمر الآخر وهو التحديد أو التأقيت، فلم يبحثوا فيه، بل هو مسكوت عنه، وقد قالوا: لا ينسب إلى ساكت قول، فلا يجوز أن ينسب إليهم في هذه القضية إثبات ولا نفي"(2).
وقبل هذا وذاك لا يوجد في مصادر التشريع الإسلامي سواء في القرآن أو السنة ما يدل على منع تحديد مدة الرِّئاسة فهو من الأمور الاجتهادية المتروكة للمسلمين ليختاروا الأنسب منها لزمانهم وحالهم، فهو داخل في باب المصالح المرسلة. فإذا رأى المسلمون من الضرورة اتخاذ ذلك لما وصل إليه حال النَّاس عامة والحكام خاصة كان لهم ذلك.
__________
(1) يقول عبدالقادر عودة: "وليس ثمة نصوص صريحة توجب أن يكون الخليفة في منصبه إلى وفاته، ولكن إجماع الأمَّة على هذا يقوم مقام النص، لأن الإجماع من مصادر الشريعة الإسلامية". عودة، الإسلام وأوضاعنا السِّياسيّة، ص160-161.
(2) القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ط2، ص84.(1/288)
يقول الدكتور منير البياتي: "يباح تحديد مدة للرئاسة يتفق عليها بين الأمَّة والحاكم أثناء بيعته، ولا نعتقد أن البيعة، وهي عقد، تتنافى مع هذا الشرط، ثم هو وكيل عن الأمَّة ومن حق الأصيل الاتفاق مع الوكيل على تحديد مدة للوكالة. ثم إن الفقهاء أجازوا أن يخلع الخليفة نفسه في أي وقت، فنرى أن له أن يتفق على خلع نفسه ابتداءً معلقاً ذلك على أجل، وعندئذٍ تكون قد تحددت مدة للرئاسة. وعلى هذا يباح على ما نرى أن يحتوي الدستور في النِّظام السِّياسيّ الإسلامي على نص يثبت مدة للرئاسة إذا رأت الأمَّة مصلحة في ذلك، ويكون ذلك شرطاً في بيعة الأمير يلتزم به، معلوماً ابتداءً ومتفقاً عليه ابتداءً أيضاً، وقد ورد في الحديث: (المؤمنون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)(1)، وليس في هذا الشرط شيء من ذلك، ولا أعلم شيئاً في الكتاب والسنة يمنع ذلك فيصار إلى الأصل وهو الإباحة"(2).
__________
(1) ونص الحديث: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً. والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)، قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح". الترمذي، سنن الترمذي، ج3، ص634. باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين النَّاس، رقم:1352.
(2) البياتي، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية، ص264. وانظر في جواز التأقيت، قرعُوش، كايد يوسف محمود، طرق انتهاء ولاية الحكام في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1407هـ، 1987م)، ص226-227.(1/289)
أما القول بأن الأمير ما دام صالحاً وعاملاً بالشريعة فلا داعي ولا موجب لتغييره؛ فإن تحديد مدة الرِّئاسة مأخوذ به من باب سد الذرائع، لأن المكث الطويل في الحكم مظنة الطُّغيان، فلسد هذا الباب يجب تحديد مدة الرِّئاسة، لمنع الحاكم من استغلال طول بقائه في السُّلطة. ولا يعقل أن يبقى الأمير إلى أن يموت بحجة أنه هو الأصلح، فلا يمكن التيقن بأنه خلال كل مدة حياته لن يكون هناك من هو أصلح منه وأكفأ لإدارة الدولة.
ثم يمكننا الاستئناس بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في اختياره لمن كان ينوب عنه في المدينة أو في الحج أو غيره، فلم يكن يحصر ذلك الأمر في شخص واحد في كل حياته ليكون أميراً على المدينة أو قائداً على الشيء الفلاني، وإنما كان ينوع في ذلك ويختار في كل مرة شخصاً مع أن الشخص السابق لم يكن إلا عاملاً بالشريعة ومع ذلك كان ينوع في اختيار من ينوب عنه، وذلك للاستفادة من كل القدرات لتفاوتها من شخص إلى آخر.
أما بكم تحدد؟ فهذا أيضاً من الأمور التي تقدر حسب المصلحة، ويحبذ أن يكون وسطاً بين القصر والطول، كما يقول الدكتور العربي: "ولعل المدة التي تكون أهدى إلى سلامة المآل هي أن تكون بين خمس سنوات وعشر مع جواز التجديد"(1).
يقول أبو فارس: "نقترح أن تكون مدة الإمامة محددة بزمن معين، فإذا طرأ على الإمام ما يفسقه فإن الأمَّة تتخلص منه بعدم اختياره لجولة أخرى، وهذا خير طريق للتخلص من الإمام الجائر الفاسق دون إراقة الدماء. كما أنه خير طريق لإبراز ذوي الكفاءات والخبرات"(2).
فصل السُّلُطات
__________
(1) العربي، نظام الحكم في الإسلام، ص79.
(2) أبو فارس، النِّظام السِّياسيّ في الإسلام، ص274.(1/290)
يقصد بهذا المبدأ تحقيق الفصل المتوازن بين السُّلُطات العامة الثلاث -التشريعية والتنفيذية والقضائية- في الدولة، بحيث تحترم كل منها القواعد التي وضعها الدستور لممارسة اختصاصاتها دون أن تخرج عليها أو تعتدي على اختصاصات سلطة أخرى…فإذا تحقق هذا الفصل في الاختصاصات، والاستقلال في الأجهزة، فإن كل سلطة ستوقف السُّلطة الأخرى إذا ما حاولت الاعتداء على اختصاص مقرر لها، أو تجاوزت حدودها…لأنه لو اجتمعت السُّلُطات كلها في يد واحدة فلن يكون هناك التزام بالدستور، ولا ضمان لمراعاة المساواة بين الأفراد، أو احترام لحقوقهم وحرياتهم، وينتهي الأمر بإساءة استعمال هذه السُّلُطات(1).
ما سبق ينطبق على الدولة الدستورية، أما في الإسلام فكما سبق أن قلنا: إن الدولة الإسلامية دولة محكوم عليها العمل بالشريعة، فدستورها الدائم والثابت هو الشريعة، ولذا فإن النِّظام الإسلامي لا يحتاج إلى فصل بين السُّلُطات التشريعية والتنفيذية بالمعنى المتعارف عليه الآن، لأن التشريع في الإسلام أمر مفروغ منه فليس من تخصص الدولة أو الحاكم أو مجلس الشُّورى القيام بالتشريع ابتداءً، حيث لا شريعة إلا ما شرعه القرآن الكريم والسنة فيبقى التنفيذ وهو من مهام الدولة والحاكم.
__________
(1) بسيوني، عبدالغني عبدالله، نظرية الدولة في الإسلام بحث مقارن في الدعائم الرئيسة للدولة الإسلامية والأسس الدستورية والقانونية التي تقوم عليها (بيروت: الدار الجامعية، د. ط، 1986م)، ص172-173.(1/291)
يقول الشاوي: "إن استقلال التشريع عن الدولة وهيئاتها السِّياسيّة، كما هو مقرر في الإسلام لم يصل إلى مثله أي من النظم الديمقراطية القديمة أو المعاصرة. فالدولة في الإسلام هي الدولة الوحيدة في العالم، التي لا يجوز لها أن تدعي أن القانون تعبير عن إرادتها، كما يقال في جميع كتب القانون الوضعي القديم والحديث -ولن تجد في الإسلام كله حاكماً واحداً أصدر قانوناً في ظل الشريعة الإسلامية، سواء كان حاكماً عادلاً أو مستبداً- بخلاف الدول المعاصرة حيث يملك كل من يدعي السيطرة على الدولة أن يغير القوانين بل والدساتير ويصدر ما يوافق هواه"(1).
فليس للحاكم أو غيره في الدولة الإسلامية تشريع أي حكم أو تبني أي قرار لم يكن منسجماً وموافقاً مع الشريعة، وكذا ليس له ولا لأية هيئة تغيير أي حكم من أحكامها من تلقاء أنفسهم قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (2). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)(3).
__________
(1) الشاوي، توفيق، الوفد القاهرية، 1986م، نقلاً عن القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص39.
(2) سورة يونس/15.
(3) البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص959، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم: 2550. مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1343، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم: 1718.(1/292)
وكذا لا يحق له ولا لأية مؤسسة في الدولة الإسلامية الالتزام بجانب من الشريعة دون آخر وإلا انطبق عليه قوله تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (1).
أما أن يقوم الحاكم بتعطيل الشريعة أو عدم الالتزام بها فمعناه دخوله في دائرة الكفرة الظُّلمة الفسقة، قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } (2)، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } (3)، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } (4).
ولكن ما سبقت الإشارة إليه من أنه لا يحق لأحد التشريع في الدولة الإسلامية لا يتعارض مع وجود أو إيجاد مؤسسة تقوم بتشريع ما ليس فيه نص وفيه تحقيق مصلحة حقيقية أو بالأحرى استنباطه من النصوص العامة من خلال مراعاة المقاصد الشرعية العامة، وتقوم هذه المؤسَّسة بمراقبة السُّلطة التنفيذية لئلا تخرج عن المنصوص.
__________
(1) سورة البقرة/85.
(2) سورة المائدة/44.
(3) سورة المائدة/45.
(4) سورة المائدة/47.(1/293)
يقول الشيخ عبدالوهاب خلاف: "يتولى السُّلطة التشريعية في الحكومات الدستورية الحاضرة أعضاء المجالس النيابية فهم الذين يقومون بسن القوانين وتشريع الأحكام…وأما في الدولة الإسلامية فالذي يتولى السُّلطة التشريعية هم المجتهدون وأهل الفتيا، وسلطتهم لا تعدو أمرين؛ أما بالنسبة إلى ما فيه نص فعملهم تفهم النص وبيان الحكم الذي يدل عليه، وأما بالنسبة إلى ما لا نص فيه فعملهم قياسه على ما فيه نص واستنباط حكمه بواسطة الاجتهاد وتخريج العلة وتحقيقها، وذلك أن الدولة الإسلامية لها قانون أساسي إلهي شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله، فحيث يوجد نص في هذا القانون يجب اتباعه ولا يكون لرجال التشريع فيه إلا البحث وتعرف الحكم المراد منه حتى يكون تطبيق النص صحيحاً. وإذا لم يوجد نص في هذا القانون كان لرجال التشريع الإسلامي مجال للاجتهاد والاستنباط على أن يكون مرجعهم في اجتهادهم واستنباطهم نصوص القانون الأساسي، فيشرعون الأحكام فيما لا نص فيه بواسطة القياس على ما فيه نص"(1).
__________
(1) خلاف، عبدالوهاب، السياسة الشَّرعيَّة أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجيَّة والمالية (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1404هـ، 1984م)، ص44-45.(1/294)
أما فيما يتعلق بعلاقة السُّلطة القضائية بالسُّلُطات الأخرى فكما يقول الطماوي:"ثمة انفصال تام بين التشريع من ناحية، وبين التنفيذ والقضاء من ناحية أخرى. فالخليفة –كرئيس للسلطة التنفيذية- لا يملك التشريع، وإن كان يملك الاجتهاد –كسائر المجتهدين- متى استوفى شروطه. وهو إذا اجتهد، فإنه إنما يفعل ذلك باعتباره مجتهداً، لا بوصفه خليفة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى القاضي، فإنه حينما يستنبط حكماً ليطبقه في نزاع معروض عليه، فإنه يقوم بهذا النشاط باعتباره مجتهداً، ولهذا قلنا إن القاضي الإسلامي مستقل في عمله بالرغم من تبعيته للسلطة التنفيذية، نظراً لأن القواعد التي يطبقها ليست من عمل السُّلطة التنفيذية، بل هي مبادئ إلهية، أو مستمدة من الأصول الإلهية"(1).
فالواقع أن الفصل تام وحتمي في الإسلام بين السُّلطة التشريعية وبين السلطتين القضائية والتنفيذية. وأما توزيع السُّلُطات بين السلطتين القضائية والتنفيذية فقد جرى تنظيم الفصل بينهما –تدريجياً- على نحو يشبه التنظيم الحديث، وهو أمر اجتهادي يجوز تنظيمه لخضوعه للظروف في كل زمان، وهما تخضعان -على أية حال- لمشروعية واحدة تتلاقى في أغراضها ومن ثم استحقاقها لدرجة واحدة من الضمانات والاهتمام(2).
ويدل على استقلال القضاء الإسلامي ورقابته على السُّلُطات الأخرى ولا سيما السُّلطة التنفيذية، خضوع الخلفاء والحكام لسلطة القاضي مثل غيرهم من أفراد الرَّعيَّة، وتاريخ القضاء الإسلامي ولا سيما في عهد الراشدين يشهد على ذلك.
الفصل الثَّاني
سُبُل رقابيَّة
__________
(1) الطماوي، سليمان محمَّد، السُّلُطات الثلاث في الدساتير العربيَّة المعاصرة وفي الفكر السِّياسيّ الإسلامي دراسة مقارنة (د. م: مطبعة جامعة عين شمس، ط5، 1986م)، ص682.
(2) انظر، وصفي، مصنفة النظم الإسلامية، ص229. وله، النِّظام الدستوري في الإسلام مقارناً بالنظم العصرية (القاهرة: مكتبة وهبة، ط2، 1414هـ، 1994م)، ص101.(1/295)
المبحث الأوَّل: رقابة الأمَّة على الحاكم
المبحث الثَّاني: عدم الطَّاعة إلا في المعروف
المبحث الأوَّل
رقابة الأمَّة على الحاكم
المفترض في الحاكم المسلم أن يكون عادلاً في حكمه، يشعر برقابة الله سبحانه، وبأنه مسؤول عن كل ما يصدر عنه مما يبعده عن اقتراف الظُّلم وممارسة العدوان على رعيته، وهذا الشُّعُور أو الوازع الدِّيني كان سبباً في عدل الخلفاء الراشدين. إلا أن الحاكم بشر مثل غيره يصدر عنه ما يصدر عن الآخرين، ويمر بحالات الضعف والغضب وما إلى ذلك مما قد يصدر عنه مما لا يليق بالحاكم المسلم، لذا كان لزاماً على الأمَّة معاونته في الخير، ومراقبته وتقويمه في الشر، ما لم تجد السُبُل الأخرى معه.
وهذه المراقبة هي المسماة بالرقابة الشعبية العامة على الحاكم، وهي مبنيَّة على آيات قرآنية وأحاديث نبوية. وانطلاقاً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)(1). فإن الحاكم في الدولة الإسلامية ليس المسؤول الوحيد، وإنما كل فرد من أفراد الأمَّة مسؤول وراع، وقد فهم الصحابة هذا الأمر بجلاء، وانطلاقاً منه كانوا يراقبون الخلفاء وكيفية تسييرهم للأمور، حتى إذا ما مال أحدهم قليلاً وقفوا له بالمرصاد.
وتستمد الأمَّة حقها في مراقبة الحاكم ومساءلته ومحاسبته من جملة أمور(2):
أولها: إنه وكيل عنها يستمد سلطته منها ويمارسها نيابة عنها. والأصيل يملك على الوكيل حق الإشراف والتوجيه والعزل إن هو خرج عن حدود وكالته.
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج6، ص2611، كتاب الأحكام. باب قول الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، رقم: 6719. مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1459، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرَّعيَّة، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، رقم: 1829.
(2) انظر، البياتي، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي، ص253-254.(1/296)
ثانيها: إن الأمَّة هي المخاطبة أصلاً بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، أي القانون الإسلامي، وهي القوامة على هذا التنفيذ كما دل كثير من خطابات القرآن الكريم على ذلك، وقد اختارت الأمَّة الإمام أداة ووسيلة للتنفيذ، فإذا تحول الحاكم عقبة أمام تنفيذ الشرع حق للأمة المحاسبة والتغيير للقيام بواجبها الأصلي في تنفيذ الشرع.
ثالثها: ما أوجبه الشرع لها من حق الشُّورى التي تتضمن بذل الرأي والنصح، وهذا يستلزم مراقبته على الدوام.
رابعها: إن الأمَّة مسؤولة عن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } (1).
خامسها: إن الحاكم في النِّظام الإسلامي فرد كبقية الأفراد لا يكسبه الحكم فضل مزية على غيره، فكما يحاسب غيره ويسأل فهو يسأل، فنصوص الشريعة لا تفرق بين الرؤساء والمرؤوسين في خضوعهم للحساب والعقاب، وأساس التفاضل في الشريعة التقوى فلا فضل ولا مزية بسبب الحكم أو المنصب.
__________
(1) سورة التوبة/71.(1/297)
ويتمثل دور الرَّعيَّة أو الأمَّة ومشاركتها في الأمر العام في أمرين هما: الإعانة والتقويم، أي إعانة وتأييد السياسات الصائبة الصادرة من السُّلطة، وفي مقابل ذلك الاعتراض ورفض السياسات الخاطئة، وتقويم الاعوجاج والخلل والخطأ إذا ما بدر منها. وهو ما صرح به الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة حيث قال: "فإن ضعفت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني)(1).
ولا شك أن هذه الرقابة المتمثلة في محوري الإعانة والتقويم تأخذ عدة خطوات، تبدأ بالنصيحة، وتنتهي بالعزل واستخدام القوة. أما النصيحة لولاة الأمر فقد بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة، منها؛
(الدِّين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)(2).
__________
(1) الأزدي، معمر بن راشد (ت 151هـ)، الجامع لمعمر بن راشد (منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني ج10)، تحقيق: حبيب الأعظمي (بيروت: المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ)، ج11، ص336، رقم: 20702. ابن هشام، السيرة النبوية، ج6، ص82. بلفظ: (أيها النَّاس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني). وابن قتيبة، عبدالله بن مسلم، كتاب عيون الأخبار، تحقيق: محمَّد الاسكندراني (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1414هـ، 1994م)، ج1، ص625-626.
(2) مسلم، صحيح مسلم، ج1، ص74، باب بيان أن الدِّين النصيحة، رقم: 55. البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص30-31، باب قول النبي الدِّين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.(1/298)
(إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)(1).
ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن؛ إخلاص العمل لله، والنصيحة لأولي الأمر، ولزوم الجماعة)(2).
والنصيحة مأمور بها في القرآن الكريم، ليست فقط مع الحاكم المسلم وإنما حتى مع الطَّاغية الكافر، فإن القرآن الكريم يندب إليها لما لها من دور كبير في خلق أجواء يمكن فيها الأخذ والرد بين الداعية والحاكم وتحقيق النتائج المرتجاة، وهذا ما نجده واضحاً في قصة الطَّاغية فرعون حيث أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالتوسل بالأسلوب اللين الذي هو لب النصيحة في الدعوة، قال تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } (3)، أما لماذا هذا الأسلوب فيبينه قوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (4).
__________
(1) ابن حبان، صحيح ابن حبان، ج8، ص182، ذكر الأخبار عما يجب على المرء من مجانبة الإكثار من السؤال، رقم: 3388. مالك، أبو عبدالله بن أنس الأصبحي (ت 179هـ)، موطأ مالك، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي (مصر: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج2، ص990. رقم: 1796.
(2) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج1، ص162، كتاب العلم، رقم: 295، قال الحاكم: "قد اتفق هؤلاء الثقات على رواية هذا الحديث عن محمَّد بن إسحاق عن الزهري وخالفهم عبد الله بن نمير وحده. فقال: عن محمَّد بن إسحاق عن عبد السلام وهو بن أبي الجنوب عن الزهري وابن نمير ثقة والله أعلم"..وبلفظ قريب أخرجه ابن حبان، انظر، ابن حبان، صحيح ابن حبان، ج2، ص455.
(3) سورة النازعات/17-19.
(4) سورة طه/43-44.(1/299)
يقول الإمام الرَّازي: "أنه تعالى لما قال لهما { فقولا له قولاً ليناً } فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق، وهذا يدل على أنه لابد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة، ولهذا قال لمحمَّد - صلى الله عليه وسلم -: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (1)، ويدل على أن الذين يخاشنون النَّاس، ويبالغون في التعصب، كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله"(2).
وما من نبي إلا وقد اتخذ من النصيحة الموجهة سبيلاً إلى إقناع المقابل ولا سيما ملأ القوم، فها هو نوح يخاطب الملأ الطاغي من قومه: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (3).
وها هو هود يخاطب الملأ الطاغي من قومه: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } (4).
__________
(1) سورة آل عمران/159.
(2) الرَّازي، تفسير الفخر الرَّازي (دار الفكر)، ج31، ص41.
(3) سورة الأعراف/59-62.
(4) سورة الأعراف/65-68.(1/300)
وكذلك الأمر مع صالح وموقفه من الرهط الطاغي: { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } (1).
وها هو شعيب يقول بعد أن قوبل بالرفض من ملأ قومه الطُّغاة: { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } (2).
أما الحكمة من وراء ذلك اللين في مقابلة خشونة الآخر فهي كما يقول الغزالي: "وأناة المرسلين في مقابلة شتائم المكذبين لها حكمة ملحوظة، فقليل من النَّاس من ينكشف لهم خطؤهم القديم على عجل، وقليل ممن تعرفوا أخطاءهم يسارع إلى النزوع عنها والتزام سبيل الرشاد. والمصلحون في علاجهم لأمراض الأمم يعطون فرصاً طويلة لشعوبهم حتى يتعلم الجاهل ويثوب الشارد، فالزمن جزء من العلاج، والصبر على هؤلاء النَّاس ضرورة لإنجاح الرسالات"(3).
فإذا كان الحال مع الطواغيت الكفرة هكذا فكيف يكون مع الحاكم المسلم لذا وجب بذل النصح له في بداية الأمر وعدم اتخاذ أية وسيلة أخرى، ما دامت النصيحة ممكنة(4).
__________
(1) سورة الأعراف/79.
(2) سورة الأعراف/93.
(3) الغزالي، الإسلام والاستبداد السِّياسيّ، ص87-88.
(4) يذكر ابن كثير: "وبينما الرشيد يطوف يوماً بالبيت، إذ عرض له رجل، فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة. فقال: لا ولا نعمت عين، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأمره أن يقول له قولاً ليناً". ابن كثير، البداية والنهاية، ج10، ص217.(1/301)
ويحبذ أن توجه النصيحة إلى الحاكم ولا سيما في المراحل الأولى بأسلوب غير مباشر حتى لا تثير في نفسيته أية حساسية تمنعه من الامتثال للحق. أو تقدم له على شكل استفسار لتذكيره ما فاته من الحق. فقد يقدم الحاكم على فعل ظناً منه أنه الحق، وإن كان فيه إهدارٌ لحقوق الآخرين في المجتمع، وبتذكيره قد يثوب إلى الصواب والحق.
ومن رقابة الأمَّة على الحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القواعد الأساسية في الإسلام ووجوبه أوضح من أن يستدل عليه.
فقد أوجب القرآن الكريم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورتب عليهما الفلاح قال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (1).
وهو من صفات المؤمنين الصادقين قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2).
وهو الصفة التي تفرق بين المسلم والمنافق، قال تعالى في وصف المنافقين: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ } (3). وقال في وصف المؤمنين: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } (4).
__________
(1) سورة آل عمران/104.
(2) سورة التوبة/71.
(3) سورة التوبة/67.
(4) سورة التوبة/71.(1/302)
والتزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي جعل الأمَّة الإسلامية خير أمة، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (1).
وقد بين القرآن مدى التفاضل بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وبين غيرهم، فقال تعالى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } (2).
ثم بين القرآن أن ترك ذلك مجلبة للعنة: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (3).
ومن الأحاديث الدالة على وجوب ذلك قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(4).
__________
(1) سورة آل عمران/110.
(2) سورة آل عمران/113-114.
(3) سورة المائدة/78-79.
(4) مسلم، صحيح مسلم، ج1، ص69، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، رقم: 49.(1/303)
ومنها، قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعت رسول الله على العسر واليسر والمكره والمنشط، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)(1).
ومنها ما رواه جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)(2).
ومراقبة الإمام أصل في الإسلام شرعت حتى في العبادات مثل الصلاة، فيحق للمأموم أن يذكر الإمام أولاً بخطئه، ويصححه، وعلى الإمام ترك رأيه لصالح رأي المأمومين، وإن اعتقد صحة ظنه ورأيه، وهذا في الإمامة الصغرى فكيف بالإمامة الكبرى.
__________
(1) ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري (463هـ)، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي و محمَّد عبد الكبير البكر (المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، د. ط، 1387هـ)، ج23، ص276. قال ابن عبد البر: "وهذا هو الصحيح في إسناد هذا الحديث إن شاء الله". وانظر، مالك، موطأ مالك، ج2، ص445، رقم: 960. وبلفظ قريب جداً انظر، النسائي، السنن الكبرى، ج4، ص421-422، رقم: 7772.
(2) قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص215، رقم: 4884.(1/304)
وبناء على ما سبق فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعد فرضاً لا يحق لأحد في الدولة الإسلامية سواء كان حاكماً أو محكوماً منعه، وبذلك تكون رقابة الأفراد دائمة على الحكام كما قال الإمام النووي: "قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: "والدليل عليه إجماع المسلمين. فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من غير ولاية"(1).
__________
(1) النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص23. وانظر قول الإمام الجويني في، الجويني، أبو المعالي عبدالملك (ت 478هـ)، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق: أسعد تميم (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1405هـ، 1985م)، ص311.(1/305)
ويدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لمنع الطُّغيان أن الأثر قد صرح بأن عدم القيام بذلك مؤدٍ إلى ظهور الطُّغيان والتسلط في المجتمع فقد ورد: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم)(1).
__________
(1) قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط والبزار. وفيه حبان بن علي وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية. وضعفه في غيرها"، انظر، الهيثمي، علي بن أبي بكر (ت 807هـ)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (القاهرة-بيروت: دار الريان للتراث- دار الكتاب العربي، د. ط، 1407هـ)، ج7، ص266. انظر، الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت360هـ)، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمَّد و عبد المحسن بن إبراهيم الحسين (القاهرة: دار الحرمين، د. ط، 1415هـ)، ج2، ص99. البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق (ت 292هـ)، مسند البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله (بيروت-المدينة: مؤسسة علوم القرآن-مكتبة العلوم والحكم، ط1، 1409هـ)، ج1، ص293.(1/306)
فالتسلط والطُّغيان نتيجة حتمية لعدم قيام الأمَّة بدورها الذي هو مراقبة السُّلطة والحاكم حتى لا يخرج عن الشريعة الجامعة لكل معروف والناهية عن كل منكر. ومن ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم)(1). قال أبو بكر الصديق: (يا أيها النَّاس إنكم تقرؤون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } (2). وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن النَّاس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)(3). ومنها: (كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً)(4).
ويظهر أن الخطاب هنا ليس موجهاً إلى فرد واحد، وإنما إلى جماعة المسلمين، فهي مكلفة برقابة الحاكم حتى إذا ما خرج عن جادة الحق منعوه وقوموه.
__________
(1) ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج2، ص190، رقم: 6784. الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص108، رقم: 7036. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(2) سورة المائدة/105.
(3) قال أبو عيسى: "حديث حسن صحيح"، الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص256، رقم: 3057. ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج1، ص7، رقم: 30. أبو داود، سنن أبي داود، ج4، ص122، رقم: 4338.
(4) أبو داود، سنن أبي داود، ج4، ص121، باب الأمر والنهي، رقم: 4336.(1/307)
وقال الإمام الغزالي (ت 505هـ): "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدِّين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد"(1).
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضع القرآن الكريم أساساً متيناً في المجتمع الإسلامي لمقاومة الطُّغيان بل في نفسية كل مسلم، وقاعدة للتحرر من كل طغيان يلوح في الآفاق، والمسلم إن كان ملزماً بتغيير المنكر البسيط والنهي عنه، فمن باب أولى أن لا يقف مكتوف الأيدي وهو يرى طغيان الحاكم المؤدي إلى خراب البلدان وضياع الحقوق وإبطال الأحكام. فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقول الغزالي وضع الإسلام: "أسس التمرد على المظالم والثورة على الفسوق، وتجريء العامة فرداً فرداً على أن يصدعوا بالحق، وأن يصدعوا به رأس كل جبار عنيد. ولن تتمثل الحُرِّيَّة في أوسع مداها وأنبل غاياتها كما تتمثل في هذه القاعدة الركينة من قواعد الإسلام"(2).
ويحبذ أن يكون هناك مجلس يقوم بالرقابة على أعمال المسؤولين بصورة عامة والحاكم بصورة خاصة. ولكن هذا لا يلغي قيام الأفراد كل في موقعه بأداء هذا الواجب. وبعد أن تقوم الأمَّة بدورها في نصيحة الحاكم وتذكيره وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، تأتي مرحلة أخرى من المقاومة العملية وهي مسألة عصيان أوامر الحاكم وعدم تطبيقها وعلى جميع المستويات، وهو ما سنتناوله في الفقرة الآتية.
المبحث الثَّاني
عدم الطَّاعة إلا في المعروف
__________
(1) الغزالي، أبو حامد محمَّد بن محمَّد، إحياء علوم الدِّين، تحقيق: أبو حفص سيد بن إبراهيم بن صادق بن عمران (القاهرة: دار الحديث، ط1، 1412هـ، 1992م)، ج2، ص477.
(2) الغزالي، الإسلام والاستبداد السِّياسيّ، ص157.(1/308)
من البدهي أن طاعة ولي الأمر واجبة على المسلمين، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1). أما ما المساحة التي تشملها تلك الطَّاعة؟ فذلك مدار البحث هنا.
وقد رسم القرآن الكريم بوضوح حدود تلك الطَّاعة، وحددها بدائرة المعروف، فما خرج من دائرة المعروف لم تكن الرَّعيَّة ملزمة بالأخذ به، وهذا الأمر واضح وصريح في صيغة بيعة المسلمين للرسول - صلى الله عليه وسلم - في العقبة كما جاءت في كتب الحديث ومنها صحيح البخاري(2) وكان من شروطها ما جاء في قوله تعالى: { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } (3)، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليصدر عنه إلا المعروف. فجاء ذلك من باب التأكيد لبيان أنه لا طاعة في المعصية مهما علت درجة الآمر. فإذا كان الحال هكذا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيره من أولي الأمر.
قال أبو السعود (ت 951هـ): "والتقييد بالمعروف مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق"(4).
وينقل القرطبي (ت 671هـ) عن ابن خويز منداد قوله: "وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية. ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم"(5).
__________
(1) سورة النساء/59.
(2) البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص1857، باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك، رقم: 4612.
(3) سورة الممتحنة/12.
(4) أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج8، ص240.
(5) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص259.(1/309)
وقد سمى الإمام البخاري (ت 256هـ) رحمه الله الباب الذي أورد فيها أحاديث السمع والطَّاعة بـ(باب السمع والطَّاعة للإمام ما لم تكن معصية)، ثم نجد من فقهه أنه افتتح الباب بحديث عام عن الطَّاعة دون أي تفاصيل حيث جاء الأمر فيه عاماً بالسمع والطَّاعة، وهو الذي رواه أنس بن مالك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)(1).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج6. ص2612، رقم: 6723. ومع ذلك فإن هذا الحديث قد ورد بروايات أخرى مقيدة بالسمع والطَّاعة للأمير الذي يقودهم بكتاب الله، فقد أخرج الترمذي في سننه عن أم الحصين الأحمسية، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وعليه برد قد التفع به من تحت إبطه. قالت: فأنا أنظر إلى عضلة عضده ترتج سمعته يقول: (يا أيها النَّاس اتقوا الله، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله). قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح". الترمذي، سنن الترمذي، ج4، ص209. باب ما جاء في طاعة الإمام. رقم: 1706.
وقد أخرجه ابن ماجة في سننه بلفظ: (إن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما قادكم بكتاب الله)، ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج2، ص955. رقم:2861.(1/310)
ثم جاء بحديث آخر في وجوب طاعة الأمراء، وإن صدر منهم ما يكرهه المطيع، دون بيان أو تحديد المقصود بذلك الأمر المكروه عند المأمور به، وهل يدخل في دائرة المعصية؟ أم أنه داخل في دائرة المسائل الاجتهادية التي لا يتفق فيها الكل سواء مع الإمام أو مع غيره؟ وهو الحديث الذي يرويه ابن عباس بقوله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)(1). ومثل هذا الحديث ما أخرجه مسلم في صحيحه: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية)(2).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج6، ص2612، رقم: 6724.
(2) مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1477، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال وتحريم الخروج على الطَّاعة ومفارقة الجماعة، رقم: 1849. وجاء في سنن الدارمي: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس من أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)، الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمَّد (255هـ)، سنن الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1407هـ)، ج2، ص314.(1/311)
ثم جاء بأحاديث تبين ما أجملته الأحاديث السابقة، وتبين حدود صلاحيات الأمير، ودور الرَّعيَّة وحدود الطَّاعة للأمير، ونص الحديث هو: (السمع والطَّاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)(1).
ثم اختتم الإمام البخاري الباب بقصة الأمير الأنصاري. وكيف أنه أدخل في دائرة صلاحياته ما ليس منها، وكيف أن المأمورين كانوا يقظين وواعين لحدود الأمراء وصلاحياتهم، حينما امتنعوا عن تنفيذ أمر الأمير في الدخول في النار(2). حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما سمع القصة منهم: (من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه)(3).
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طاعة العصاة من الأمراء في أحاديث كثيرة منها:
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج6، ص2612. وأخرجه مسلم بلفظ: (على المرء المسلم السمع والطَّاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة). مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1469، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، رقم: 1839. وبنفس اللفظ انظر، النسائي، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن (ت 303هـ)، سنن النسائي المجتبى، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة (حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1406هـ، 1986م)، ج7، ص160.
(2) البخاري، صحيح البخاري، ج6. ص2612.
(3) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج2، ص955. باب لا طاعة في معصية الله، رقم: 2863.(1/312)
ما أخرجه ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها. فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله)(1). فإذا كانت الطَّاعة مرفوضة لأمثال هؤلاء فكيف بالأمراء الذين يقفون من الدِّين وأهله موقف الند والعداوة.
وقد ورد في سنن الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(2).
__________
(1) المرجع السابق، ج2، ص956. رقم: 2865. في حين جاء في مسند الإمام أحمد بلفظ: (…قال: تسألني ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل)، ابن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج1، ص409، رقم: 3889.
(2) الترمذي، سنن الترمذي، ج4، ص209. باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. رقم: 33717.(1/313)
ومنها حديث معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم. فإذا عصيتموهم قتلوكم. وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم، نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله)(1).
وبذلك يتبين لنا أن الأحاديث التي يستشهد بها بعض النَّاس في وجوب السمع والطَّاعة للأمراء، إنما هي في الأمور التي لا تخرج عن دائرة المعروف كما ورد ذلك في الأحاديث السابقة. أما إذا خرج عن دائرة المعروف فلا سمع ولا طاعة.
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأمر لذا جاء هذا الأمر في خطبة الصديق رضي الله عنه بوضوح، حيث قال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم)(2).
بعض هذه الأحاديث التي وردت في الطَّاعة عامة:
__________
(1) قال الهيثمي: "رواه الطبراني، ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره، وبقية رجاله ثقات). الهيثمي، مجمع الزوائد، ج5، ص228، باب لا طاعة في معصية. انظر، الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب (ت360هـ)، المعجم الصغير، تحقيق: محمَّد شكور محمود الحاج (بيروت-عمان: المكتب الإسلامي-دار عمار، ط1، 1405هـ، 1985هـ)، ج2، ص42، رقم: 749. قال الأصبهاني: "غريب من حديث معاذ لم يروه عنه إلا يزيد وعنه الوضين. ورواه اسحاق بن راهوية عن سويد بن عبدالله بن عبدالرحمن عن يزيد من دون الوضين". الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج5، ص166.
(2) الأزدي، الجامع لمعمر بن راشد، ج11، ص336، رقم: 20702. انظر، ابن هشام، السيرة النبوية، ج6، ص82. بلفظ: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).(1/314)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصى الإمام فقد عصاني)(1).
ومنها ما أخرجه مسلم (ت 261هـ) عن عوف بن مالك من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم، وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة)(2).
ومنها؛ (إنكم سترون بعدي أثرة، وأمورا تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم)(3).
ومنها؛ (من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)(4).
ومنها؛ (من خرج من الطَّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية)(5).
__________
(1) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج2، ص954. باب طاعة الإمام. رقم: 2859. وبلفظ: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، في: النسائي، السنن الكبرى، ج4، ص431. الترغيب في طاعة الإمام.
(2) مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1481. باب خيار الأئمة وشرارهم، رقم 1855.
(3) البخاري، صحيح البخاري، ج6، ص2588. باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أمورا تنكرونها، رقم: 6644.
(4) المرجع السابق، ج6، ص2588، رقم: 6645. وكذا بلفظ: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية).
(5) مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1476، وص1477، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطَّاعة ومفارقة الجماعة، رقم: 1848.(1/315)
ومنها؛ حديث حذيفة بن اليمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي. وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع)(1).
ويظهر من الروايتين التي صححهما الحاكم في المستدرك من حديث حذيفة -ومن الرواية المذكورة أعلاه-، أن الروايتين تتحدثان عن جو الفتن والحرب الداخلية، وضياع الوحدة الإسلامية لذا جاء التشدد في الحديث على السمع والطَّاعة للأمير لتلافي مزيد من الفرقة والتمزق، وهذا ظاهر من قول الراوي وجواب الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
(كان النَّاس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في شر فجاءنا الله بالخير، فهل بعد ذلك الخير شر؟ قال فقال: نعم. قلت: وهل وراء ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان. فقلت: كيف أصنع إن أدركني ذلك؟ قال تسمع للأمير الأعظم، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)(2). والمفترض في الأمير الأعظم أنه على الحق، وأنه لا يضرب أحداً ولا يأخذ ماله. والرواية الأخرى هي: (قلت يا رسول الله فما العصمة من ذلك؟ قال السيف. قلت: وهل للسيف من بقية؟ قال: نعم. قال قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم هدنة على دخن. قال جماعة على فرقة، فإن كان لله عز وجل يومئذ خليفة ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع وإلا فمت عاضاً بجذع شجرة)(3).
__________
(1) مسلم، صحيح مسلم،، ج3، ص1476، رقم: 1847.
(2) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص547، ، رقم: 8533. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(3) المرجع السابق، ج4، ص479، رقم: 8332. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".(1/316)
وليس الأمر كما قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "قوله: (وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع)(1)، فيه دليل على وجوب طاعة الأمراء، وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرَّعيَّة، وأخذ أموالهم، فيكون هذا مخصصاً لعموم قوله تعالى(2): { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ، وقوله(3): { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } "(4).
فكيف جاز أن تقام الإمامة لأجل ردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وإقامة الحدود وما إلى ذلك ثم نجيز للقائم بذلك الذي هو الإمام أن يكون ظالماً فاسقاً؟ وخير من أوضح هشاشة هذا المنطلق الإمام ابن حزم فبعد أن ذكر الأحاديث الدالة على السمع والطَّاعة للأمير وإن جار، يقول:
__________
(1) مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص1476، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطَّاعة ومفارقة الجماعة، رقم: 1847.
(2) سورة البقرة/194.
(3) سورة الشُّورى/40.
(4) الشوكاني، محمَّد بن علي بن محمَّد (ت 1255هـ)، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (بيروت: دار الجيل، د. ط، 1973م)، ج7، ص360.(1/317)
"كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي، خبراً خبراً بأسانيدها ومعانيها، في كتابنا الموسوم بالاتصال إلى فهم معرفة الخصال، ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملاً كافية، وبالله تعالى نتأيد. أما أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أخذ المال، وضرب الظهر، فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له، وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى. وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ذلك. برهان هذا قول الله عز وجل: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (1)، وقد علمنا أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز وجل: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (2). وقال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (3). فصح أن كل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو وحي من عند الله عز وجل، ولا اختلاف فيه، ولا تعارض ولا تناقض، فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق، وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم)(4)، فإذن لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين، فالمسلم ماله للآخذ ظلماً، وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان، وهذا حرام بنص
__________
(1) سورة المائدة/2.
(2) سورة النجم/3-4.
(3) سورة النساء/82.
(4) ورد بهذا اللفظ في: الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص533. رقم: 5982. ذكر مناقب حجر بن عدي رضي الله عنه وهو راهب أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم وذكر مقتله.(1/318)
القرآن"(1).
فواضح أن القصد من هذه الأحاديث ترغيب المسلمين على الاجتماع على أمير واحد، وذم ورفض من يدعي الإمارة لنفسه وينافس بها الأمير الأعظم حسب تعبير الحديث، لا طاعتهم في الظُّلم والجور أو السكوت عليهم إذا ما زاغوا عن الطريق لأنه معلوم أنه لا طاعة في معصية، والظُّلم أم المعاصي والسكوت عن الظُّلم ظلم ومعصية.
وقبل هذا كله نعى القرآن الكريم على أقوام لطاعتهم المطلقة لأسيادهم وحكامهم، وتبعيتهم لهم من دون تبصر وفي ذلك عبرة للمسلمين حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه تلك الأقوام. بل إن القرآن الكريم لم يحدد هوية تلك الأقوام في الغالب، وهل هم من الذين سبقوا الرسالة الخاتمة أم لا؟ والآيات هي، قال تعالى:
قال تعالى: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } (2).
{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } (3).
__________
(1) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، ص133.
(2) سورة الأحزاب/66-68.
(3) سورة البقرة/165-167.(1/319)
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَاب } (1).
{ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الْأَشْرَارِ أَاتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } (2).
وقال توبيخاً وتحقيراً لقوم فرعون وملئه: { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } (3). وفي عاد قوم هود: { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } (4). ولا يمكن أن يدعي أحد أن التوبيخ جاء لطاعتهم للحاكم الكافر الظالم، وأنه يجوز طاعة الحاكم المسلم الظالم.
__________
(1) سورة سبأ/31-33.
(2) سورة ص/55-64.
(3) سورة هود/97.
(4) سورة هود/59.(1/320)
وجاء النهي الصريح عن طاعة المفسدين في الأرض في آيات قرآنية كثيرة منها، قوله تعالى: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } (1).
{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (2).
وهكذا حتى لا يقع المسلمون فيما وقع فيه هؤلاء من الطَّاعة غير الشرعية للحكام. أما الاستشهاد بـ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (3) في وجوب الطَّاعة المطلقة للأمراء بمجرد أن يكونوا منا، فإنه بنظرة سريعة إلى سياق الآية يتبين لنا أن قيد (منكم) وحده لا يكفي لوجوب الطَّاعة على الرَّعيَّة، حيث سيقت الآية بعد قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاس أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } (4).
فلابد أن يلتزم الحاكم أولاً بأداء الأمانات على اختلافها، ثم يحكم بعد ذلك بالعدل، ومع ذلك لابد أن يوافق الكتاب والسنة حتى يستحق الطَّاعة من الرَّعيَّة. أما إذا خان الحاكم تلك الأمانات وأولها أمانة وكالته ونيابته عن الأمَّة، وكان الظُّلم والطُّغيان سياسة له عندها لا يجوز طاعته ولو كان (منا) وتظاهر بالإسلام. قال البيضاوي: "أمر النَّاس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل تنبيهاً على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق"(5).
__________
(1) سورة الشعراء/151-152.
(2) سورة الكهف/28.
(3) سورة النساء/59.
(4) سورة النساء/58.
(5) البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج2، ص206.(1/321)
وقال الزمخشري: "لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل، أمر النَّاس بأن يطيعوهم، وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولي الأمر منكم؛ أمراء الحق، لأن -أمراء الجور- الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطَّاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق، والأمر بهما والنهي عن أضدادهما"(1).
ويقول: "وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح الله الأمر بطاعة أولي الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولاً بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم، وأمرهم أخيراً بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئاً إلى كتاب أو سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم: اللصوص المتغلبة"(2).
__________
(1) الزمخشري، الكشاف، ج1، ص556.
(2) المرجع السابق، ج1، ص556-557.(1/322)
يقول رشيد رضا: "والأصل المجمع عليه أن الطَّاعة الواجبة في الشرع هي لأولي الأمر من الأئمة (الخلفاء)، ونوابهم من السلاطين وأمراء الجيوش والولاة وكلها مقيدة بالمعروف من الواجب والمباح دون المحظور. وأما طاعة المتغلبين فهي للضرورة وتقدر بقدرها بحسب المصلحة، ويجب إزالتها عند الإمكان من غير فتنة ترجح مفسدتها على المصلحة"(1). وقد قال الصحابة لأميرهم الذي أمرهم باقتحام النار: "ما آمنا بالله، واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار. فصوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلهم، وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(2).
__________
(1) رضا، محمَّد رشيد، خلاصة القول في طاعة الملوك والخروج عليهم وعزلهم، مجلة المنار، مصر، مج 34، ج6،30 شعبان، 1353هـ، 7، 12، 1934م، ص438.
(2) ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمَّد ( ت463هـ)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمَّد البجاوي (بيروت: دار الجيل، ط1، 1412هـ)، ج3، ص890. قال ابن عبدالبر: "وهو حديث صحيح الإسناد مشهور".(1/323)
ومن هذا المنطلق نقول: إن الإسلام ما جاء إلا ليخرج النَّاس من ظلم العباد إلى عدل الإسلام ورحمته كما يحفظ التاريخ للسفراء المسلمين هذه المقولة وهم يدعون الأقوام الأخرى للدخول في الإسلام، فلم يأت الإسلام ليخرج النَّاس من ظلم الحكام الكفرة ليدخلهم في ظلم الحكام المسلمين الظُّلمة. ولذا فهل من الممكن أن نقول لغير المسلم أو نقنعه بأننا نريد أن نخرجه من ظلم أمرائه وحكامه لندخله في ظلم الأمراء المسلمين وجورهم؟ والمتمثل حسب تعبير بعض الذين قننوا للظلم والاستبداد بـ"غصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود"(1). فأين عدل الإسلام الذي نريد أن نقنع به الآخرين إذا ما أجزنا لحكام المسلمين ممارسة الظُّلم والطُّغيان؟!
__________
(1) انظر: الباقلاني، أبو بكر محمَّد بن الطيب، التمهيد في الرد على الملاحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، ضبطه وقدم له وعلق عليه: محمود محمَّد الخضيري ومحمَّد عبدالهادي أبو ريده (د. م: دار الفكر العربي، د. ط. ت)، ص186.(1/324)
فضلاً عن كل ما سبق فإن الأحاديث التي يشير ظاهرها إلى طاعة الحكام وإن ظلموا تخالف ظاهر القرآن الكريم إن لم نقل نصوصه الصريحة التي جاءت حرباً على الظُّلم والظالمين الطُّغاة، لذا وجب تأويل تلك الأحاديث بما يتماشى مع ظواهر نصوص القرآن الصريحة، وقد وردت مادة الظُّلم في مجال الذم في القرآن الكريم في أكثر من (300) موضعاً، وكذلك في الأحاديث النبوية، وليس هناك موضع واحد في القرآن يفيد جواز طاعة الظالم الطاغي أو حتى مجرد الميل إليه. وتخالف تلك الأحاديث إن لم تؤول المقاصد الشرعية المعروفة بالضرورات الخمس فإن الإسلام جاء لحفظها، ولذا فالأمير الذي يعتدي عليها لا يستحق الإمارة ناهيك عن السمع والطَّاعة. ورغم أن بعض كبار العلماء قد قالوا بنسخ الأخبار الآمرة بطاعة أمراء الجور لمجيئها على الأصل المعهود في بداية الإسلام كما هو الحال مع الإمام ابن حزم رحمه الله(1)، إلا أنه من الممكن تأويل تلك الأحاديث على حالات الضرورة القصوى، أو على الترغيب في الطَّاعة حتى لا يتجرأ كل من هب ودب على إثارة المشاكل داخل المجتمع الإسلامي بحجة تقويم الحاكم ولأتفه الأسباب. أما إنزال تلك الأحاديث على جميع الأوضاع، واتخاذها ذريعة لتبرير ظلم الظالمين واعتداء المعتدين، فهذا ما لا يتفق مع القرآن الكريم وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الصريحة. ثم إضافة إلى الأحاديث التي ذكرناها في عدم طاعة الأمراء
__________
(1) ابن حزم، أبو محمَّد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري (ت 548هـ)، الفصل في الملل والأهواء والنحل (القاهرة: مكتبة الخانجي، د. ط. ت)، ج4، ص133. وقد ذهبت الخوارج لشدة تمسكهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن الأحاديث التي تأمر بالاعتزال في الفتن، وكذلك الأحاديث التي تأمر بالصبر على أئمة الجور والسكون إليهم، وما إلى ذلك أحاديث موضوعة. انظر، القلهاني، الكشف والبيان، ص327-336، نقلاً عن، قرعُوش، طرق انتهاء ولاية الحكام، ص452.(1/325)
الظُّلمة نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المسلمين عن إعانة الأمراء الظُّلمة أو تأييدهم في أحاديث أخرى منها:
ومنها حديث كعب بن عجرة قال: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن تسعة، وبيننا وسائد من آدم أحمر. فقال: إنه سيكون بعدي أمراء فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولن يرد على الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد على الحوض)(1).
__________
(1) الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج1، ص151، رقم: 264. قال الحاكم: "وقد شهد جابر بن عبد الله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لكعب بن عجرة". وانظر، البيهقي، سنن البيهقي الكبرى، ج8، ص165. النسائي، سنن النسائي المجتبى، ج7، ص160. باب ذكر الوعيد لمن أعان أميراً على الظُّلم، وباب من لم يعن أميراً على الظُّلم. والطبراني، المعجم الأوسط، ج1، ص234. والطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب (ت360هـ)، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي (الموصل: مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1404هـ، 1983م)، ج19، ص159.
وانظر روايات أخرى كثيرة تفيد نفس المعني في: الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج1، ص151، رقم: 262. وأيضاً رقم: 6030: ج3، ص546. ورقم 7162، منه: ج4، ص141. والحديث رقم: 759، في: ابن أبي عاصم، عمرو الضحاك الشيباني (ت 287هـ)، السنة لابن أبي عاصم، تحقيق: محمَّد ناصر الدِّين الألباني (بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ)، ج2، ص353. وانظر كذلك، البزار، مسند البزار، ج7، ص255.(1/326)
قال عروة بن الزبير: "أتيت عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقلت له: يا أبا عبد الرحمن إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء. فيتكلمون بالكلام نحن نعلم أن الحق غيره، فنصدقهم، ويقضون بالجور فنقويهم ونحسنه لهم. فكيف ترى في ذلك؟ فقال: يا ابن أخي كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعد هذا النِّفاق فلا أدري كيف هو عندكم"(1).
وقد جعل الإسلام الأمير الظالم أول الثلاثة الذين يدخلون النار، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله، وفقير فخور)(2). فهل يمكن أن يأمر القرآن الكريم أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطاعة أمثال هؤلاء الأمراء الظُّلمة الذين أقسم الله بالانتقام منهم وجعلهم من وقود جنهم؟!
__________
(1) البيهقي، سنن البيهقي الكبرى، ج8، ص165.
(2) ابن حبان، صحيح ابن حبان، ج16، ص523، رقم: 7481. ذكر الأخبار عن أول الثلاثة الذين يدخلون النار نعوذ بالله منها، رقم: 7481. انظر مصنف ابن أبي شيبة بلفظ: (…وأول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة لا يؤدي حقه، وفقير فخور). ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، ج4، ص205. رقم: 19335.(1/327)
ولما تعارضت الأحاديث التي تأمر بعدم الطَّاعة والتي تأمر بالسمع والطَّاعة وإن جار الحاكم أو اقترف المعاصي، فإنه لابد من النظر فيها على أساس أيهما موافقة لنصوص القرآن الصريحة الواضحة ولروح التشريع ومقاصد الشريعة وقواعده الكلية ولسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصريحة. ومن ثم إزالة هذا التعارض بطريقة مقبولة من طرق إزالته بين ظواهر هذه النصوص، واتباع طريق الجمع لإزالة هذا التعارض ممكن بالتَّأويل بين هذه الأحاديث والأحاديث الأخرى التي جاء فيها الأمر بطاعة الأمراء على الإطلاق أو بطاعة الأمراء الظُّلمة، بأن المقصود منها هو الطَّاعة لهم في المسائل الاجتهادية، وإن رأى المطيع في ذلك مخالفة لرأيه وما يراه صواباً بشرط أن لا يصل الأمر إلى المخالفة الصريحة للنصوص، أو الأمر بالمعصية فعندها لا تجوز الطَّاعة بل تحرم ذلك. أو تحمل تلك الأخبار على حالات الضرورة التي لا يجد فيها المسلم ملجأً سوى السكوت إلى أن تحين فرصة للتغيير. أو يمكن حملها كما سبق على الترغيب والترهيب، حيث يرغب الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين في طاعة الحكام حفاظاً على وحدة الصف ولسد الأبواب أمام مثيري المشاكل والفتن في الدولة الإسلامية تحت غطاء تقويم الحاكم.
أو تحمل على ما قاله الشوكاني وهو يتحدث عن حديث عبادة بن الصامت السابق: "نشاطنا وحال كراهتنا وعجزنا عن العمل بما نؤمر به. ونقل ابن التين عن الداودي: أن المراد الأشياء التي يكرهونها. قال ابن التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق معنى منشطنا"(1).
__________
(1) الشوكاني، نيل الأوطار، ج7، ص361.(1/328)
وقد صرح العلماء بأن الإمام يستحق الطَّاعة من الأمَّة إذا قام هو بأداء حقوق الأمَّة، يقول أبو يعلى الفراء: "وإذا قام الإمام بحقوق الأمَّة وجب له عليهم حقان: الطَّاعة والنصرة ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمام"(1).
ولكن كما سبق فإن الطَّاعة في المعروف، وبخلاف ذلك تحاسب الأمَّة على طاعتها في غير المعروف، وتؤدي بها إلى النار في الآخرة والعقاب في الدنيا، وهذا هو المفهوم من آيات قرآنية كثيرة سبقت الإشارة إليها.
بل إن طاعة الحكام في معصية الله مؤدية إلى النار، وإن كانت عن حسن نية من المأمور، وهذا واضح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة الذين رفضوا طاعة الأمير في دخول النار: (لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطَّاعة في المعروف)(2).
وختاماً لا يمكن أن تربى الأجيال على رفض طاعة الحكام في غير المعروف إلا إذا تمكنا قبل ذلك من إعادة بناء العلاقات داخل الأسرة الصغيرة (البيت). فلابد أن يتنازل الأب في البيت عن بعض صلاحياته التسلطية لصالح التشاور وأخذ رأي الآخرين داخل الأسرة، وأن يؤمن هو أولاً أن رأيه ليس هو القرار الأول والأخير في البيت، وأن الأسرة يجب أن تقام على أساس المشاركة والمعاونة (الشُّورى)، وأن تربى أعضاء الأسرة الآخرين على إبداء الرأي وعدم السكوت على الخطأ. فإذا استطعنا أن نكون أسرة إسلامية قائمة على الشُّورى لا على الخوف والتسلط والسمع والطَّاعة في كل شيء، عندها بإمكاننا أن نكون أسرة أكبر -مجتمعاً ودولة- وعلى ذلك المنوال. وعندها يمكن أن يُطالب الفرد في المجتمع بممارسة دوره الإيجابي في منع السُّلطة الكبرى من الخروج على الحدود.
__________
(1) أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص28. انظر أيضاً: الماوردي، الأحكام السلطانية، ص17.
(2) البخاري، صحيح البخاري، ج6، ص2612، باب السمع والطَّاعة للإمام ما لم تكن معصية، رقم: 6726.(1/329)
ولا شك أن الأسرة وحدها لا تستطيع القيام بهذا الدور ما لم تشاركها المؤسسات التعليمية وعلى جميع المستويات ولا سيما في المراحل الابتدائية والثانوية بحيث يتم تشجيع الطالب على المشاركة والنقد وعدم تقبل كل ما يقال في الصف. فهكذا لابد أن تشارك كل المؤسسات من الأسرة والمدرسة والمسجد وغيرها في إعداد الفرد المسلم الحر. ولكن لابد أن يسبق أي محاولة للتغيير في الواقع المادي تغير مماثل في عالم الأنفس والأخلاق، ففي عالم الأنفس لابد أن يحس كل فرد بضرورة أن يكون له دور إيجابي في الواقع، عندها لا يستطيع أن يقف متفرجاً على حركة الحياة من غير أن يحرك ساكناً، فإذا وجد مثل هؤلاء الأفراد في المجتمع عندها لن يكون هناك فرصة للحاكم لتجاوز الحدود.
وفي عالم الأخلاق لابد من إحداث تغيير جذري في نفسية وأخلاق الفرد، والتي تراكمت عليها آثار الطُّغيان المدمرة، لأنه معروف أن لنفسية وأخلاق الرَّعيَّة دوراً كبيراً في بروز الطُّغيان كما سلف في الأبواب السابقة، وكذا في القضاء عليه، فلابد من الاستعداد النَّفسي أولاً، ومن ثم لابد من القضاء على الأخلاق والعادات السيئة ثانياً.
الخاتمة
يختتم الباحث دراسته هذه بتسجيل النتائج الآتية التي توصل إليها:
إن مادة (طغى) الواردة في القرآن (39) مرة قد أفادت معاني مختلفة، فإضافة إلى معنى الطُّغيان السِّياسيّ فقد أفادت معنى: الضلال والكفر، العلو والارتفاع والكثرة، الإسراف في الظُّلم والعصيان، والعقوق أي مجاوزة الحدود في التعامل مع الوالدِّين.
إن القرآن الكريم قد استخدم كلمات أخرى لمعنى الطُّغيان ولا سيما أثناء حديثه عن قصص الطُّغاة أمثال فرعون، ومن هذه الكلمات: الإسراف، العلو، الاستكبار، التجبر، العتو والظُّلم.(1/330)
القرآن الكريم يتحدث عن الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة بعيداً عن ذكر أسماء الطُّغاة وتواريخهم أو الأمكنة التي ظهروا فيها، ومن ذلك نجد أن القرآن فصل في وصف نموذج واحد فقط وهو نموذج فرعون باعتبار أن الطُّغيان واحد سواء في طريقة تفكير الطُّغاة أو الأساليب التي يتوسلون بها أو في الدَّوافع.
الطُّغاة مهما فرق بينهم الزمان والمكان يستخدمون وسائل تكاد تكون واحدة في مرماها ومغزاها، تقف على رأسها محاولتهم إضفاء نوع من القداسة على حكمهم وذواتهم سواء من خلال ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة صراحة أو ممارسة ذلك عملياً. ويظهر هذا جلياً من خلال قصص الطُّغاة الذين وردت قصصهم في القرآن الكريم سواء فرعون أو الذي حاج إبراهيم أو الذي ورد في حديث مسلم (قصة أصحاب الأخدود) فقد أعلن كلهم الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة صراحة.
أقطاب التَّحالُف الطُّغياني الثلاثي في قصة فرعون هي: الحاكم المتجبر فرعون. الثَّاني؛ بطانة السوء المؤلفة من رجال السياسة والدِّين أمثال هامان والكهنة، وأصحاب رؤوس الأموال أمثال قارون، وسائل الإعلام ويمثلهم السحرة. الثَّالث؛ المؤسَّسة العسكريَّة أو الجُنُود حسب التعبير القرآني. وليس كما يقول أغلب الذين تحدثوا عن ذلك بأن هامان يمثل قطباً وقارون القطب الآخر مع الحاكم الذي يمثل القطب الرئيسي، لأن هامان وقارون ليسا إلا فردين بارزين من البطانة السيئة.
ذكر القرآن الكريم عدة نماذج للملأ بمعنى أشراف القوم أو النُّخبة المسيطرة على القوم، وأبرز مثال عرضه القرآن لحكم الأقلية أو الأشراف ملأ قوم صالح المؤلف من تسعة طغاة، وقد وصفهم القرآن بكل أوصاف الطُّغاة من: الطُّغيان والاستكبار والعتو والإفساد والظُّلم والإسراف.(1/331)
كشف القرآن الكريم عن الدَّوافع التي تدفع الحاكم إلى الطُّغيان، فمنها دوافع ذاتية ترجع إلى ذات الحاكم ونفسيته مثل: عدم الإيمان بالله وبيوم الحساب، التَّكبُّر والغرور، الاستبداد بالرأي، اتباع الهوى، والملك والحرص عليه. ودوافع خارجية منها؛ تملُّق البطانة ونفاقها، قابلية الرَّعيَّة لتقبل الظُّلم والطُّغيان، الطَّاعة المطلقة للحاكم من قبل الرَّعيَّة، وإسناد المؤسَّسة العسكريَّة أو الجُنُود.
إن بطانة الطَّاغية أو الملتفين حوله تجمعهم صفات معينة ذميمة واحدة، وإن اختلفت عصورهم، وتباينت أماكنهم. فمما تتميز به بطانة الطَّاغية حسب المنظور القرآني: أنها بطانة ليست لها شخصية فهي تردد كالببغاء ما يقوله الطَّاغية، وهي طبقة فاسقة ومفسدة ومجرمة، عملها ترغيب وترهيب الطَّاغية لاتخاذ سياسات ظالمة، وتقوم بإضفاء صفة الشرعية المزيفة على أفعاله.
وصف القرآن رعية الطَّاغية بأوصاف كثيرة من؛ الخوف والفسق والظُّلم والطُّغيان والخفة والإجرام، مما يبين أنها قابلة لتقبل الطُّغيان فلولا اتصافها بتلك الصفات لما تمكن الحاكم من الطُّغيان عليها والتسلط على رقابها.
تفضل رعية الطَّاغية اتخاذ سياسة الصمت والسكوت وعدم الاعتراض عليه في قبالة سياسة الإرهاب والبطش المتخذة من قبل الطَّاغية.
أيسر التهم التي يبرر بها الطُّغاة سياستهم اتهام المصلحين بالعمل لقلب نظام الحكم، وأن القصد وراء كل دعوة إصلاح إنما هو حب السُّلطة والوصول إلى الحكم، بدءاً من ملأ قوم نوح ومروراً بفرعون وملئه وانتهاء بملأ قريش الطاغي ومن بعدهم.
يقوم الطُّغاة بتصفية المصلحين تحت ستار المحافظة على الأمن والدِّين من المفسدين.(1/332)
يعد؛ بث الفرقة بين النَّاس أو جعلهم حسب التعبير القرآني شيعاً متناحرة، والقيام بتشجيع وإشاعة الفساد في المجتمع، واللجوء إلى استخدام القوة سواء من خلال التَّهديد بالنفي والتشريد أو بالسجن والاغتيال أو بقتل الأبناء وهتك الأعراض من أهم الوسائل الممارسة من قبل الطُّغاة.
الطَّاغية يكره النَّاس على تعلم نوع خاص من المعارف.
إن تركيز القرآن الكريم على مسألة التربية بعقيدة التَّوحيد له معنى عميق وهو أن العقيدة هي الوسيلة الأنجع لمنع الطُّغيان السِّياسيّ وتغييره، لأنه يمكن بكل بساطة التحايل على كل السُبُل والإجراءات والشكليات الأخرى بشكل من الأشكال. ولكن تبقى العقيدة وحدها المانع الذي لا يمكن للإنسان تجاوزها إن اعتقد بها اعتقاداً جازماً. وتبقى الوسائل الأخرى وسائل ثانوية مع أن الأخذ بها أولى وأمنع من أن يؤدي فقدانها إلى تطاول الحكام أصحاب النفوس الضعيفة والعقائد الهزيلة إلى ما ليس لهم.
القرآن الكريم جفف منابع الطُّغيان وقطع روافده من خلال تهذيب وتحريم الدَّوافع التي تؤدي إليه، ومن خلال تحريم كل السُبُل والوسائل الطاغوتية، والتنفير من التَّبعيَّة والخضوع.
يمكن منع الطُّغيان من البروز من خلال جعل الشُّورى السبيل الوحيد للوصول إلى الحكم، بحيث يشارك كل فئات الشعب في اختيار الحاكم سواء بالانتخاب المباشر أو غير المباشر. ومن ثم إلزام الحاكم باتخاذها سياسة له، وإلزامه بنتائجها.
قطع القرآن الطريق أمام الحاكم للوصول إلى الطُّغيان بأن يقوم بسن أو تشريع ما يقنن الطُّغيان عن طريق جعل التشريع خاصاً بالله سبحانه تعالى فلا يحق لأحد في الدولة الإسلامية تغيير الدستور الذي هو الشريعة أو تعطيله.
تعد رقابة الأمَّة على الحاكم من العوامل الفعالة في منع بروز الطُّغيان وتغييره، وتأخذ رقابة الأمَّة على الحاكم خطوات عدة تبدأ بالنصيحة بالقول اللين، وتنتهي بعزله واستخدام القوة لإزاحته.(1/333)
لا يمكن تربية الأجيال على رفض طاعة الحكام في غير المعروف إلا إذا تمكنا قبل ذلك من إعادة صياغة العلاقات داخل الأسرة الصغيرة، بحيث يتم إبدال التسلط والسمع والطَّاعة في كل شي بإبداء الرأي والمشاركة. وبموازاة ذلك إحداث تغيير في النَّفسيات من خلال محاربة الانهزامية، وكذا محاربة الأخلاقيات التي تساعد الطُّغيان على النمو من الكذب والتملُّق والنِّفاق والمحسوبية وما إلى ذلك.
قائمة بأسماء المراجع
أولاً: المصادر والمراجع العربيَّة
القرآن الكريم
ابن أبي زمنين، محمَّد بن عبدالله، تفسير القرآن العزيز، تحقيق: أبو عبدالله حسين بن عكاشة ومحمَّد بن مصطفى الكنز (القاهرة: الفاروق الحديثة للنشر، ط1، 1423هـ، 2002م).
ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمَّد الكوفي، مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت (الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1409هـ).
ابن أبي عاصم، عمرو الضحاك الشيباني، السنة لابن أبي عاصم، تحقيق: محمَّد ناصر الدِّين الألباني (بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ).
ابن الأزرق، أبو عبدالله، بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق: علي سامي النشار (بغداد: دار الحُرِّيَّة، د. ط، 1397هـ، 1977م).
ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمَّد، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق: محمَّد ومصطفى عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1412هـ، 1992م).
ــــــ، تذكرة الأريب في تفسير الغريب (د. م: د. ن. ط. ت).
ــــــ، الوجيز (دمشق-بيروت: دار القلم-الدار الشامية، د.ط، 1401هـ).
ــــــ، زاد المسير في علم التَّفسير (بيروت: المكتبة الإسلامية، ط3، 1404هـ).
ابن العربي، أبو بكر محمَّد بن أحمد، أحكام القرآن، تحقيق: علي محمَّد البجاوي (د. م: مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط3، 1392هـ، 1972م).(1/334)
ابن القيم، أبو عبدالله محمَّد بن أبي بكر، الطرق الحكمية في السِّياسيّة الشرعية، تحقيق: محمَّد جميل غازي (القاهرة: مطبعة المدني، د. ط. ت).
ــــــ، بدائع الفوائد، تحقيق: هشام عبدالعزيز عطا، وعادل عبدالحميد العدوي وأشرف أحمد الحج (مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، 1416هـ، 1996م).
ــــــ، طريق الهجرتين وباب السعادتين، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر (الدمام: دار ابن القيم، ط2، 1414هـ، 1994م).
ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني، مجموع الفتاوى (د. م: د. ط. ت).
ــــــ، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمَّد رشاد سالم (د. م: مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ).
ابن حبان، محمَّد بن أحمد، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1414هـ، 1993م).
ابن حزم، أبو محمَّد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل (القاهرة: مكتبة الخانجي، د. ط. ت).
ابن حنبل، أحمد الشيباني، مسند الإمام أحمد (مصر: مؤسسة قرطبة، د. ط. ت).
ابن خلدون، عبدالرحمن، مقدمة أبن خلدون (بيروت: دار القلم، ط5، 1984م).
ابن دريد، محمَّد بن الحسين، كتاب جمهرة اللغة، تحقيق: رمزي منير بعلبكي (بيروت: دار العلم للملايين، ط1، 1987م).
ابن رشد، أبو الوليد محمَّد بن أحمد، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله من العبرية إلى العربيَّة: أحمد شحلان، مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للدكتور محمَّد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط1، 1998م).
ابن سعد، محمَّد بن منيع، الطبقات الكبرى (بيروت: دار صادر، د. ط، 1377هـ، 1957م).
ابن سلام، يحيى، التصاريف تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه، تحقيق: هند شلبي (تونس: الشركة التونسية للتوزيع، د. ط، 1979م).
ابن سيده، أبو الحسن علي، كتاب المخصص (مصر: المطبعة الكبرى الأميرية، ط1، 1319هـ).(1/335)
ابن عادل، عمر بن علي، اللباب في علوم القرآن، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمَّد معوض (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1419هـ، 1988م).
ابن عاشور، الطاهر، تفسير التحرير والتنوير المسمى تفسير ابن عاشور التونسي (تونس: الدار التونسية، د. ط، 1984م).
ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي و محمَّد عبد الكبير البكر (المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، د. ط، 1387هـ).
ــــــ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمَّد البجاوي (بيروت: دار الجيل، ط1، 1412هـ).
ابن عطية، أبو محمَّد الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبدالسلام عبدالشافي محمَّد (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1422هـ، 2001م).
ابن فارس، أبو الحسين أحمد، مجمل اللغة، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1406هـ، 1986م).
ــــــ، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبدالسلام محمَّد هارون (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ، 1991م).
ابن قتيبة، أبو محمَّد عبدالله بن مسلم الدِّينوري، الإمامة والسياسة؛ المعروف بتاريخ الخلفاء (بيروت: مؤسسة ناصر للثقافة، د. ط، 1980م).
ــــــ، تأويل مختلف الحديث، تحقيق: محمَّد زهري النجار (بيروت: دار الجيل، د. ط، 1393هـ، 1972م).
ــــــ، كتاب عيون الأخبار، تحقيق: محمَّد الاسكندراني (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1414هـ، 1994م).
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية (بيروت: مكتبة المعارف، د. ط. ت).
ــــــ، تفسير القرآن العظيم (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1401هـ).
ــــــ، قصص الأنبياء، تحقيق: محمَّد أحمد عبدالعزيز (القاهرة: دار الحديث، د. ط. ت).
ابن ماجة، محمَّد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت).(1/336)
ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، ط1، 1410هـ، 1990م).
ابن نبي، مالك، شروط النهضة، ترجمة: عمر كامل مسقاري وعبدالصبور شاهين (بيروت-دمشق: دار الفكر المعاصر-دار الفكر، ط4، 1407هـ، 1987م).
ابن هشام، عبدالملك، السيرة النبوية، تحقيق: طه عبدالرءوف سعد (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ).
أبو السعود، العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت).
أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمَّد(ت 597هـ)، صفوة الصفوة، تحقيق: محمود فاخوري ومحمَّد رواس قلعه جي (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1399هـ، 1979م).
أبو حبيب، سعدي، دراسة في منهاج الإسلام السِّياسيّ (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1406هـ، 1985م).
أبو حيان، محمَّد بن يوسف، النهر الماد من البحر المحيط، تحقيق: عمر الأسعد (بيروت: دار الجيل، ط1، 1416هـ، 1995م).
أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، سنن أبي داود، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد (د. م: دار الفكر، د. ط. ت).
أبو زهرة، محمَّد أحمد، المذاهب الإسلامية، إشراف: إدارة الثقافة العامة بوزارة التربية والتعليم بمصر (د. م: مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميزت، د. ط، 1970م).
أبو زيد، مصطفى، فن الحكم في الإسلام (د.م: المكتب المصري الحديث، د. ط. ت).
أبو سعدة، رؤوف، من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن (د. م: دار الهلال، د. ط. ت).
أبو فارس، محمَّد عبدالقادر، النِّظام السِّياسيّ في الإسلام (عمان: دار الفرقان، ط2، 1407هـ، 1986م).
أبو نعيم أحمد بن عبدالله: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (بيروت: دار الكتاب العربي، ط4، 1405هـ).
أبو يعلى، أحمد بن علي بن المثنى، مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد (دمشق: دار المأمون للتراث، ط1، 1404هـ،1984م).(1/337)
أبو يعلى، الفراء محمَّد بن الحسين، الأحكام السلطانية، صححه وعلق عليه: محمَّد حامد الفقي (سروبايا: شركة مكتبة أحمد بن سعد بن نبهان، ط3، 1394هـ، 1974م).
أرسطو، علم الأخلاق، ترجمة: بارتملي سانتهلير، تعريب: أحمد لطفي السيد (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، د. ط، 1343هـ، 1924م).
الأزدي، معمر بن راشد، الجامع لمعمر بن راشد (منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني ج10)، تحقيق: حبيب الأعظمي (بيروت: المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ).
إسماعيل، سيف الدِّين عبدالفتاح، في النظرية السِّياسيّة من منظور إسلامي؛ منهجية التجديد السِّياسيّ وخبرة الواقع العربي المعاصر (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1419هـ، 1998م).
الأصفهاني، أبو القاسم، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمَّد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، د. ط. ت).
الأفغاني، جمال الدِّين، الأعمال الكاملة؛ الكتابات السِّياسيّة، دراسة وتحقيق: محمَّد عمارة (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات، ط1، 1981م).
الآلوسي، محمود أبو الفضل، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت).
إمام، إمام عبدالفتاح، الطَّاغية دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السِّياسيّ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 183، 1414هـ، 1994م).
الباقر، محمَّد صدر، السنن التأريخية في القرآن، ترتيب: محمَّد جعفر شمس الدِّين (سوريا: دار التعارف، د. ط، 1409هـ، 1989م).
الباقلاني، أبو بكر محمَّد بن الطيب، التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، ضبطه وقدم له وعلق عليه: محمود محمَّد الخضيري ومحمَّد عبدالهادي أبو ريده (د. م: دار الفكر العربي، د. ط. ت).
البخاري، محمَّد بن إسماعيل، الجامع الصحيح المختصر، تحقيق: مصطفى ديب البغا (بيروت: دار ابن كثير، ط3، 1407 هـ، 1987م).(1/338)
ــــــ، صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا (بيروت: دار ابن كثير-اليمامة، ط3، 1407هـ، 1987م).
بدوي، ثروت، النظم السِّياسيّة (د. م: دار النهضة العربيَّة، د. ط، 1986م).
البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، مسند البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله (بيروت-المدينة: مؤسسة علوم القرآن-مكتبة العلوم والحكم، ط1، 1409هـ).
البستاني، عبدالله، البستان معجم لغوي مطول (بيروت: مكتبة لبنان، ط1، 1992م).
بسيوني، عبدالغني عبدالله، نظرية الدولة في الإسلام بحث مقارن في الدعائم الرئيسة للدولة الإسلامية والأسس الدستورية والقانونية التي تقوم عليها (بيروت: الدار الجامعية، د. ط، 1986م).
البغوي، الحسين بن مسعود، معالم التنزيل، تحقيق: خالد العك-مروان سوار (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1407هـ، 1987م).
البوطي، محمَّد سعيد رمضان، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة (دمشق: دار الفكر، ط11، 1412هـ، 1991م).
البياتي، منير، النِّظام السِّياسيّ الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية (عمان: دار البشير، ط2، 1414هـ، 1994م).
البيضاوي، تفسير البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1416 هـ، 1996م).
البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، تحقيق: أحمد عصام الكاتب (بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط1، 1401هـ).
ــــــ، سنن البيهقي الكبرى، تحقيق: محمَّد عبد القادر عطا (مكة المكرمة: مكتبة دار الباز، د. ط، 1414هـ، 1994م).
ــــــ، شعب الإيمان، تحقيق: محمَّد السعيد بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1410هـ).
الترابي، حسن، قضايا الحُرِّيَّة والوحدة-الشُّورى والديمقراطية-الدِّين والوحدة (جدة: الدار السعودية، ط1، 1408هـ، 1987م).(1/339)
الترمذي، محمَّد بن عيسى، سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وآخرون (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت).
الثعالبي، عبدالرحمن، الجواهر الحسان في تفسير القرآن (بيروت: مؤسسة الأعلمي، د. ط. ت).
جدعان، فهمي، أسس التقدم عند مفكري الإسلام (الأردن: دار الشروق، ط3، 1988م).
الجراحي، إسماعيل بن محمَّد العجلوني، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة النَّاس، تحقيق: أحمد القلاش (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط4، 1405هـ).
الجرجاني، علي بن محمَّد، التَّعريفات، تحقيق: إبراهيم الأبياري (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ).
ــــــ، كتاب التَّعريفات، تحقيق: إبراهيم الأبياري (د.م: دار الديان للتراث، د. ط، ت).
الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي، أحكام القرآن، تحقيق: محمَّد الصادق قمحاوي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط، 1405هـ، 1985م).
جعفر، هشام أحمد عوض، الأبعاد السِّياسيّة لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416هـ، 1995م).
ــــــ، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق: أسعد تميم (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1405هـ، 1985م).
الحاكم، محمَّد بن عبدالله، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1411هـ، 1990م).
الخالدي، صلاح عبدالفتاح، مع قصص السابقين في القرآن الكريم (دمشق: دار القلم، ط1، 1408هـ، 1988م).
خلاف، عبدالوهاب، السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجيَّة والمالية (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1404هـ، 1984م).
الخلال، أبو بكر أحمد بن محمَّد بن هارون بن يزيد، السنة، تحقيق: عطية الزهراني (الرياض: دار الراية، ط1، 1410هـ).(1/340)
الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمَّد، سنن الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1407هـ).
الدامغاني، الحسين بن محمَّد، قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، تحقيق: عبدالعزيز سيد الأهل (بيروت: دار العلم للملايين، ط5، 1985م).
دروزة، محمَّد عزة، التَّفسير الحديث ترتيب السور حسب النزول (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2، 1421هـ، 2000م).
الدريني، فتحي، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ، 1982م).
ذبيان، سامي وآخرون، قاموس المصطلحات السِّياسيّة والاقتصادية والاجتماعية (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1990م).
الرَّازي، فخر الدِّين، التَّفسير الكبير (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1990م).
ــــــ، تفسير الرَّازي المشتهر بالتَّفسير الكبير ومفاتيح الغيب (بيروت: دار الفكر، ط3، 1405هـ، 1985م).
الرَّازي، محمَّد بن أبي بكر، مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر (بيروت: مكتبة لبنان، طبعة جديدة، 1415هـ، 1995م).
ربيع، محمَّد محمود، موسوعة العلوم السِّياسيّة (الكويت: مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، د. ط، 1994م).
رضا، محمَّد رشيد، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار (بيروت: دار المعرفة، ط2، د. ت).
رهبر، محمَّد تقي، الاستكبار والاستضعاف من وجهة نظر القرآن الكريم (طهران: منظمة الإعلام الإسلامي ومعاونية العلاقات الدولة، ط1، 1407هـ، 1987م).
الزبيدي، محمَّد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس (د. م: د. ن: د. ط، ت).
الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم، معاني القرآن وإعرابه، شرح وتحقيق: عبدالجليل عبده شلبي (بيروت: عالم الكتب، ط1، 1408هـ، 1988م).
الزمخشري، أبو القاسم جار الله، أساس البلاغة، تحقيق: محمَّد باسل عيون السود (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1419هـ، 1998م).(1/341)
ــــــ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأويل، تحقيق: عبدالرزاق المهدي (بيروت: دار إحياء التراث العربي –مؤسسة التاريخ العربي، ط1، 1417هـ، 1997م).
زيدان، عبدالكريم، أصول الدعوة (بيروت-بغداد: مؤسسة الرسالة-مكتبة القدس، ط7، 1407هـ، 1987م).
ــــــ، السنن الآلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1413هـ، 1993م).
ــــــ، الفرد والدولة في الإسلام (القاهرة: دار الجهاد، د. ط، 1977م).
السجستاني، أبو بكر محمَّد، كتاب غريب القرآن، تحقيق: محمَّد أديب عبدالواحد جمران (د. م: دار قتيبة، ط1، 1416هـ، 1996م).
سليم، محمَّد إبراهيم، قصة السحر والسحرة في القرآن الكريم لشيخ الإسلام الرَّازي (القاهرة: مكتبة القرآن، د. ط. ت).
سيبويه، عمرو بن عثمان، الكتاب، علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه: إميل بديع يعقوب (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1420هـ، 1990م).
السيهلي، عبدالرحمن، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل (د. م: د. ط. ت).
السيوطي، عبد الرحمن جلال الدِّين، الإتقان في علوم القرآن (بيروت: المكتبة الثقافية، د. ط، 1973م).
ــــــ، الدر المنثور (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1993م).
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي، الاعتصام، اعتنى بها: مكتب تحقيق التراث، أعد فهارسها: رياض عبدالله عبدالهادي (بيروت: دار إحياء التراث العربي-مؤسسة التاريخ العربي، ط1، 1417هـ، 1997م).
الشافعي، محمَّد بن إدريس، الأم (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1393هـ).
الشاوي، توفيق، فقه الشُّورى والاستشارة (المنصورة: دار الوفاء، ط2، 1413هـ، 1992م).
شحرور، محمَّد، دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع (دمشق: الأهالي، ط9، 1994م).
الشعراوي، محمَّد متولي، تفسير الشعراوي (د.م: أخبار اليوم، قطاع الثقافة، د.ط.ت).(1/342)
ــــــ، قصص الأنبياء، جمع المادة العلميَّة: مِنشاوي غانم جابر، كتابة الحواشي ومراجعتها: مركز التراث لخدمة الكتاب والسنة (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، د. ط. ت).
شلتوت، محمود، إلى القرآن الكريم (القاهرة: دار الشروق، د. ط، 1403هـ، 1983م).
ــــــ، تفسير القرآن الكريم (بيروت: دار الشروق، ط10، 1403هـ، 1983م).
ــــــ، من توجيهات الإسلام (القاهرة: دار الشروق، ط8، 1407هـ، 1987م).
الشوكاني، محمَّد بن علي بن محمَّد، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (بيروت: دار الجيل، د. ط، 1973م).
ــــــ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التَّفسير (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت).
الصاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، تحقيق: محمَّد حسن آل ياسين (بيروت: عالم الكتب، ط1، 1414هـ، 1994م).
الصباغ، محمَّد بن لطفي، الإنسان في القرآن الكريم (بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1413هـ، 1992م).
صقر، هشام، غلام الدعوة دروس في حديث الساحر والغلام والراهب (القاهرة: دار الطباعة والنشر الإسلامية، ط1، 1414هـ، 1994م).
الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، تفسير القرآن، تحقيق: مصطفى مسلم محمَّد (الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1410هـ).
الصنعاني، محمَّد بن إسماعيل، تفسير غريب القرآن، تحقيق: محمَّد صبحي بن حسن حلاق (دمشق-بيروت: دار ابن كثير، ط1، 1421هـ، 2000م).
صيداوي، جواد، الطُّغاة والطُّغيان في التاريخ (بيروت: دار ابن زيدون، ط1، 1409هـ، 1988م).
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمَّد و عبد المحسن بن إبراهيم الحسين (القاهرة: دار الحرمين، د. ط، 1415هـ).
ــــــ، المعجم الصغير، تحقيق: محمَّد شكور محمود الحاج أمرير (بيروت-عمان: المكتب الإسلامي-دار عمار، ط1، 1405هـ، 1985م).(1/343)
ــــــ، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي (الموصل: مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1404هـ، 1983م).
الطبري، أحمد بن عبدالله بن محمَّد، الرياض النضرة في مناقب العشرة، تحقيق: عيسى عبدالله محمَّد مانع الحميري (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1996م).
الطبري، محمَّد ابن جرير، تاريخ الطبري تاريخ الأمم والملوك (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1407هـ).
ــــــ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1405هـ).
الطماوي، سليمان محمَّد، السُّلُطات الثلاث في الدساتير العربيَّة المعاصرة وفي الفكر السِّياسيّ الإسلامي دراسة مقارنة (د. م: مطبعة جامعة عين شمس، ط5، 1986م).
الطوسي، أبو جعفر، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي (د. م: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت).
عارف، نصر محمَّد، في مصادر التراث السِّياسيّ الإسلامي دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1415هـ، 1994م).
عبد الخالق، فريد، في الفقه السِّياسيّ الإسلامي مبادئ دستورية (القاهرة: دار الشروق، ط1، 1419هـ، 1998م).
عبدالكريم، فتحي، الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة (د. م: مكتبة وهبة، ط2، 1404هـ، 1984م).
عبده، محمَّد، الكتابات السِّياسيّة ضمن الأعمال الكاملة للإمام محمَّد عبده، تحقيق: محمَّد عمارة (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، ط2، 1979م).
العربي، محمَّد عبدالله، نظام الحكم في الإسلام (د. م: دار الفكر، د. ط. 1388هـ، 1968م).
العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محمَّد فؤاد عبدالباقي ومحب الدِّين الخطيب (بيروت: دار المعرفة، د. ط، 1379هـ).
العطار، عبدالناصر توفيق، دستور للأمة من القرآن والسنة (القاهرة: مؤسسة البستاني للطباعة، د. ط. ت).(1/344)
عطية، أحمد، القاموس السِّياسيّ (القاهرة: دار النهضة العربيَّة، ط4، 1980م).
العظيم آبادي، أبو الطيب محمَّد شمس الحق، عون المعبود شرح سنن أبي داود (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط2، 1415هـ).
العوا، محمَّد سليم، في النِّظام السِّياسيّ للدولة الإسلامية (القاهرة: المكتب المصري الحديث، ط6، 1983م).
عودة، عبدالقادر، الإسلام وأوضاعنا السِّياسيّة (القاهرة: المختار الإسلامي، ط3، 1398هـ، 1978م).
العيني، بدر الدِّين محمَّد، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (د. م: دار الفكر، د. ط. ت).
غراب، أحمد عبدالحميد، الشخصية الإنسانية في ضوء القرآن الكريم (د. م: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د. ط، 1985م).
الغزالي، أبو حامد محمَّد بن محمَّد، إحياء علوم الدِّين وبذيله كتاب المغني للعلامة زين الدِّين العراقي، تحقيق: أبو حفص سيد بن إبراهيم بن صادق بن عمران (القاهرة: دار الحديث، ط1، 1412هـ، 1992م).
الغزالي، محمَّد، الإسلام والاستبداد السِّياسيّ (مصر: دار الكتب الحديثة، ط2، 1380هـ، 1961م).
ــــــ، مائة سؤال عن الإسلام (القاهرة: دار ثابت، ط2، 1407هـ، 1987م).
الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط1، 1993م).
الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي (العراق: دار الرشيد، د. ط، 1981م).
الفيروزآبادي، محمَّد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف: محمَّد نعيم العرقسوسي (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط5، 1416هـ، 1996م).
ــــــ، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق: محمَّد علي النجار (بيروت: المكتبة العلميَّة، د. ط، 1984م).
القاسمي، محمَّد جمال الدِّين، تفسير القاسمي المسمى بمحاسن التَّأويل، تحقيق: محمَّد باسل عيون السود (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1418هـ، 1997م).(1/345)
القرضاوي، يوسف، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها (القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 1419هـ، 1998م).
ــــــ، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي (القاهرة: دار الصحوة، ط1، 1408هـ، 1988م).
ــــــ، من فقه الدولة في الإسلام (القاهرة: دار الشروق، ط1، 1417هـ، 1997م).
القرطبي، محمَّد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني (القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ).
قرعُوش، كايد يوسف محمود، طرق انتهاء ولاية الحكام في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1407هـ، 1987م).
القزويني، جلال الدِّين، الإيضاح في علوم البلاغة (بيروت: دار إحياء العلوم، ط4، 1998م).
قطب، سيد، في ظلال القرآن (د. م: د. ن. ط. ت).
الكتاب المقدس.
الكواكبي، عبدالرحمن، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ضمن: الأعمال الكاملة للكواكبي، إعداد وتحقيق: محمَّد جمال طحان (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط1، 1995م).
الكيالي، عبدالوهاب، موسوعة السياسة (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، ط2، 1993م).
لؤي، صافي، العقيدة والسياسة؛ معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية (فرجينا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1419هـ، 1998م).
مالك، أبو عبدالله بن أنس الأصبحي، موطأ مالك، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي (مصر: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت).
الماوردي، أبو الحسن علي بن محمَّد بن حبيب، كتاب الأحكام السلطانية (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت).
ــــــ، النكت والعيون تفسير الماوردي، مراجعة وتعليق: السيد بن عبدالمقصود بن عبدالرحيم (بيروت: دار الكتب العلميَّة-مؤسسة الكتب الثقافية، د. ط. ت).
متولي، عبدالحميد، مبادئ نظام الحكم في الإسلام (الإسكندرية: منشأة المعارف، ط4، 1978م).
مجاهد، بن جبر، تفسير مجاهد، تحقيق: عبدالرحمن الطاهر محمَّد السورتي (بيروت: المنشورات العلميَّة، د. ط، ت).(1/346)
المجدوب، أحمد علي، أهل الكهف في التوراة والإنجيل والقرآن (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1410هـ، 1990م).
مجمع اللغة العربيَّة، معجم ألفاظ القرآن الكريم (مصر: ط2، 1409هـ، 1989م).
المحلي-السيوطي، محمَّد بن أحمد وعبدالرحمن بن أبي بكر، تفسير الجلاليين (القاهرة: دار الحديث، ط1، د. ت).
المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي (د. م: دار الفكر، ط3، 1394هـ، 1974م).
المزي، يوسف بن الزكي عبدالرحمن، تهذيب الكمال، تحقيق: بشار عواد معروف (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1400هـ، 1980م).
المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر (د. م: دار الكتاب اللبناني –مكتبة المدرسة، ط1، 1982م، 1402م).
مسلم، ابن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم بشرح النووي (د. م: دار الفكر، د. ط، 1401هـ، 1981م).
ــــــ، صحيح مسلم، تحقيق: محمَّد فؤاد عبدالباقي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت).
المصري، شهاب الدِّين، التبيان في تفسير غريب القرآن، تحقيق: فتحي أنور الدابولي (القاهرة: دار الصحابة للتراث، ط1، 1992م).
المناوي، محمَّد عبدالرؤوف، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: محمَّد رضوان الداية (بيروت-دمشق: دار الفكر المعاصر-دار الفكر، ط1، 1410هـ).
المنجد في اللغة والإعلام (بيروت: دار المشرق، ط33، 1992م).
المودودي، أبو الأعلى، الحكومة الإسلامية، تعريب: أحمد إدريس (القاهرة: المختار الإسلامي، ط2، 1980م).
ــــــ، فرعون في القرآن، ترجمة وتعريب: أحمد إدريس (القاهرة: المختار الإسلامي، د. ط. ت).
ــــــ، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور (جدة: الدار السعودية، د. ط، 1405هـ، 1985م).
موسى، محمَّد يوسف، نظام الحكم في الإسلام، مراجعة وتحقيق النصوص: حسين يوسف موسى (د. م: دار الفكر العربي، د. ط. ت).
النبهان، محمَّد فاروق، نظام الحكم في الإسلام (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1408هـ، 1988م).(1/347)
النحاس، أبو جعفر، معاني القرآن الكريم، تحقيق: محمَّد علي الصابوني (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، ط1، 1409هـ).
النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب، السنن الكبرى، تحقيق: عبدالغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسين (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1411هـ، 1990م).
ــــــ، سنن النسائي المجتبى، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة (حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1406هـ، 1986م).
النسفي، أبو البركات، تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التَّأويل (د. م: د. ن. ط. ت).
النشرتي-فرغلي-مصطفى، حمزة-عبدالحفيظ-عبدالحميد، موسوعة القصص القرآني (القاهرة: المكتبة القيمة، د. ط. ت).
نوح، السيد محمَّد، آفات على الطريق (القاهرة: دار الوفاء، ط3، 1409هـ، 1989م).
الهمذاني، أبو شجاع، الفردوس بمأثور الخطاب، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلميَّة، ط1، 1986م).
هويدي، فهمي، القرآن والسلطان هموم إسلامية معاصرة (بيروت: دار الشروق، ط2، 1402هـ، 1982م).
الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (القاهرة-بيروت: دار الريان للتراث- دار الكتاب العربي، د. ط، 1407هـ).
الواحدي، علي بن أحمد، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: صفوان عدنان داوودي (دمشق-بيروت: دار القلم-الدار الشامية، ط1، 1415هـ).
وصفي، مصطفى كمال، النِّظام الدستوري في الإسلام مقارناً بالنظم العصرية (القاهرة: مكتبة وهبة، ط2، 1414هـ، 1994م).
ــــــ، مصنفة النظم الإسلامية الدستورية والدولية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية (القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 1397هـ، 1977م).
ثانياً: رسائل جامعية غير منشورة
203. أحمد، فتحي بن جمعة، الفساد السِّياسيّ الفرعوني؛ دراسة معرفية إسلامية، بحث تكميلي قدم لنيل درجة الماجستير في كلية معارف الوحي والتراث، الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، 1997م.
ثالثاً: بحوث ومقالات(1/348)
204. الأسطل، شوقي محمود، دروس من سيرة الكليم عليه السلام، مجلة المجتمع الكويتية، العدد 1168، 1416هـ، 1995م.
205. الأشقر، عمر، رقابة الله هي الضمانة ضد الطُّغيان والفساد، مجلة المجتمع الكويتية، السنة 11، العدد 575، 25/مارس/1980م.
206. رضا، محمَّد رشيد، الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، مجلة المنار، 1319هـ، 1901م.
206. رضا، محمَّد رشيد، خلاصة القول في طاعة الملوك والخروج عليهم وعزلهم، مجلة المنار، مصر، مج 34، ج6، 1353هـ، 1934م.
207. عبد القدوس، محمَّد، استبداد فرعون بين الأمس واليوم، مجلة الدعوة، العدد 52، السنة 30، 1980م.
208. المقدسي، محمَّد روحي أفندي الخالدي، الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة، منشور في، مجلة المنار، مصر، المجلد 11، ج9، 1326هـ، 1908م.
رابعاً: مواقع على الانترنيت
مواقع عربية:
ـ كتاب السيد محمَّد تقي الدِّين المدرسي، العمل الإسلامي منطلقاته وأهدافه (د. م: المركز الثقافي الإسلامي، ط1، د. ت). من موقع حزب الدعوة الإسلامي:
http://www.almodarresi.com/books/607/gz0wpjuo.htm
ـ مقال: عبد الرضا، علي، الاستبداد معالجات جذرية لرفع الداء، مجلة النبأ، السنة الخامسة، 1420هـ، العدد 37. من موقع مجلة النبأ: (http://www.annabaa.org/nba37/estipdad.htm).
مواقع إنكليزية:
- Article: (Tyranny) from: www. Infoplease.com، ipd/Ao76891.htm
- Article (principle of Tyranny. By: Jon Roland) from: www. consitution. org/tyr/ prin_tyr.htm.
خامساً: المراجع الإنكليزية
(2000). The Encyclopaedia Americana. International edition. U.S.A.
Angelo S. Rappoport R. F. and Patterson, John Dougall (1991). Encyclopaedia Dictionary of the World. New Delhi: Akashdeep Publishing House.
Aristotle (1988). The Politics. Edited by; Stephen Everson. New York: Cambridge University press.(1/349)
Chernow, Barbara A. Vallasi, Georqe A. (1993). The Columbia Encyclopaedia. 4th edition. New York: Columbia University Press.
David Crystal (1990). The Cambridge Encyclopaedia. 4th edition. U. K: Cambridge University Press.
Husain, Akhlaq (1969). Moses versus Pharaoh. 1st edition. Karachi: International Islamic Publishers.
Jacob E. Safra (1998). The New Encyclopaedia Britannica. 15th edition. U. S. A.
Jay M. Shafritz, Plil Williams, Ronald S. Calinger (1993). The Dictionary of 20th –Century World Politics. 1st edition. New York: Henry holt and company.
Judy Pearsall and Bill Trumble (1996). The Oxford English Reference Dictionary. 2nd edition. New York: Oxford University Press.
Karl A. Wittfogel (1959). Oriental Despotism; a Comparative Study of Total Power. 3rd edition. New Haven: Yale University Press.
Montesquieu (1989). The Spirit of the Laws. 1st edition. Translated and Edited by: Anne M. Cohler. U. K: Path Press, Avon.
Osman, Fathi (1997(. Concepts of the Qur’an; a Topical Reading. 1st edition. Kuala Lumpur: ABIM.
Plato (1974). The Republic. 2nd edition. Translated with an introduction by; Desmond Lee. U. K: Penguin Books.
Robert P. Gwinn (1990). The Great Books of the Western World (Aristotle: II). 2nd edition. U. S. A: Encyclopaedia Britannica, Inc.
Robertson, David (1993). A Dictionary of Modern Politics. 2nd edition. London: Europa publications limited.
Vernon Bogdauor (1987). The Blackwell Encyclopaedia of Political Institutions. 1st edition. U. K: Oxford Eng.(1/350)
William L. Reese (1996). Dictionary of Philosophy and Religion Eastern and Western Thought. New Jersey: Humanites press.
World book, Inc (1992). The World Book Encyclopaedia. London: World book.
الملاحق(1/351)