بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة تخلف العالم الإسلامى قضية معروفة وإن كانت مخجلة! وهذا التخلف أطمع الأقوياء فيه! بل قد طمع فيه من لا يحسن الدفاع عن نفسه! وشر من ذلك أن هذا التخلف ألصق بالإسلام تهما كثيرة، بل إن عقائد خرافية فكرت فى إقصائه ووضع اليد على أتباعه..! ولست ألوم أحدا استهان بنا أو ساء ظنه بديننا مادمنا المسئولين الأوائل عن هذا البلاء، ان القطيع السائب لابد أن تفترسه الذئاب. وقد نهض كثيرون لمعالجة هذا الانحدار، وإزاحة العوائق التى تمنع التجاوب بين الأمة ودينها أو إزالة الأسباب التى جعلت أمة كانت طليعة العالم ألف عام تتراجع هائمة على وجهها فى مؤخرة القافلة البشرية... ورأيت ناشدى الإصلاح فريقين، فريقا يتجه إلى الحكم على أنه أداة سريعة لتغيير الأوضاع، وفريقا يتجه إلى الجماهير يرى فى ترشيدها الخير كله.. قلت فى نفسى: إن الذين يسعون إلى السلطة لتحقيق رسالة رفيعة لابد أن يكونوا من الصديقين والشهداء والصالحين أو من الحكماء المتجردين والفلاسفة المحلقين! وأين هؤلاء وأولئك؟ إنهم لم ينعدموا، ولكنهم فى الشرق الإسلامى عملة نادرة. ومع ذلك، فان أى حكم رفيع القدر لن يبلغ غايته إلا إذا ظاهره شعب نفيس المعدن عالى الهمة!.
ص _006(1/1)
إذن الشعوب هى الأصل، أو هى المرجع الأخير! وعلى بغاة الخير أن يختلطوا بالجماهير لا ليذوبوا فيها وإنما ليرفعوا مستواها ويفكوا قيودها النفسية والفكرية، قيودها الموروثة أو التى أقبلت مع الاستعمار الحديث... وجاء الاعتراض السريع: إن السلطات القائمة لن تأذن لهم بذلك فهذه السلطات إن لم تؤجل على منافعها وجلت من القوى الكبرى التى تملك زمام الأمور فى العالم الكبير، ومن ثم فسوف تخرس الدعاة وأولى النهى... ولم تخدعنى هذه الحجة على وجاهتها الظاهرة، ولم أرها ذريعة للاشتباك مع الحاكمين، وأخذ الزمام من أيديهم بالقوة، فقد راقبت كثيراً من مراحل الصراع على السلطة درست ناسا نجحوا فى الوصول إلى المناصب الكبرى فلم أرهم صنعوا شيئا، بل لعلهم زادوا الطين بلة..!. إننى أناشد أولى الغيرة على الإسلام وأولى العزم من الدعاة أن يعيدوا النظر فى أساليب عرض الإسلام والدفاع عنه، وأن يبذلوا وسعهم فى تغيير الشعوب والأفكار، سائرين فى الطريق نفسه الذى سار فيه المرسلون من قبل... والإسلام اليوم يعانى من أمرين: الأول تصوُّر مشوَّش يخلط بين الأصول والفروع، وبين التعاليم المعصومة والتطبيقات التى تحتمل الخطأ والصواب وقد يتبنى أحكاما وهمية ويدافع عنها دفاعه عن الوحى ذاته!!. الثانى جماعات متربصة تقف بعيدا دون عمل، تنتظر بأعداء الله الويل والثبور وعظائم الأمور، وهى فى ميدان الدعوة الإسلامية بطالة مقنعة لأن المسلم سواء ملك سلطة رسمية أم لم يملك، إنسان ناشط دءوب لا ينقطع له عمل فى الشارع أو البيت أو المسجد أو الحقل أو المصنع أو الدكان أو المكتب... وليس العمل المطلوب مضغ كلمات فارغة، أو مجادلات فقهية أو خصومات تاريخية، إن العمل المطلوب أسمى من ذلك وأجدى!. ص _007(1/2)
إننا نحن المسلمين انهزمنا فى ميادين كبيرة لا تحتاج إلى عصا السلطة، والمجتمع الذى يعجز عن محو تقاليد سيئة فى دنيا الأسره لن يحقق نصرا فى دنيا السياسة وكيف ينفذ قوانين الشريعة من لم ينفذ قوانين الأخلاق؟. ليس من الإسلام أن أضع قدما على أخرى ثم أرتقب من جن سليمان أن تضع بين يدى مقاليد الحكم.. إن الجهاد الإسلامى كدح مضن، فى ميادين وعرة ذكرت نماذج لها فى هذا الكتاب، وقد ساق الله الدولة للمسلمين الأوائل وهم مشغولون بالعمل له، وبناء مجتمع ربانى خالص من الرذائل والمآرب، أى أن أولئك المسلمين عرفوا بطراز معين من العقائد والعبادات والأخلاق، وطراز آخر من التفكير والتدبير والسلوك يشرفهم ويعلى قدرهم، ولم يعرفوا بسلبية ولا أنانية ولم يزر بهم جمود ولا طيش.. أريد من المسلمين بين الأطلسى والهادى أن يبدأوا العمل لفورهم فى تلك الميادين المهجورة، وأن تتكون لهم أجهزة دوارة منتجة، ولوا الحكم أم لم يلوه!. المهم أن أبذل وسعى، فإن وصلت إلى هدفى أو مت دونه لقيت الله ومعى عذرى (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون). لقد خيل للبعض أنه يمكن السطو على الحكم بطريقة ما ثم يتحول هذا السطو إلى وجود مشروع عندما يقيم هذا الحاكم بعض شرائع الحدود والقصاص! سيكون الحكم إسلاميا بهذه الحيلة الظريفة... قلت لأحد المعجبين بهذه الطريقة، إن ذلك معناه أن اللص الكبير يقطع اللص الصغير، أو كما يقول الحسن البصرى: سارق السر يقطعه سارق العلانية!. وقد كشف النبى - صلى الله عليه وسلم - فى سنته : هلاك الأمم من قبلنا إنما يجىء من هذا المسلك إذا ص _008(1/3)
سرق القوى تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد!. إن الفرعنة مرفوضة قبل تولى المناصب أو بعد ذلك، ومن عجائب العالم الإسلامى وحده أن الحكم من طرق الثراء، وقد فكرت طويلا عندما قرأت أن الإسرائيليين أهدوا رئيستهم " جولدا مائير " مطبخا لمناسبة اعتزالها الحكم بعد سنين طويلة... مطبخ؟ إنه هدية سارة لديها، قد تكون محتاجة إليه! أما بالنسبة لبعض موظفينا فهدية محقورة، فكيف إذا كان المطبخ هدية للرؤساء والملوك؟. إن العقل الذى يفكر به الدعاة والمدعوون يجب تغييره، وأستطيع الجزم بأنه ليس عقلا إسلاميا. فى هذا الكتاب صور قليلة لمفارقات بين واقعنا وديننا، فى الماضى والحاضر، أرجو أن تجد حظها من التدبر والوعى، فإن مستقبلنا منوط بهذه اليقظة. محمد الغزالى ص _009(1/4)
دعوات تائهة فى أمة مهددة بالضياع راقبت الأوضاع فى أقطار إفريقية الناطقة بالفرنسية والناطقة بالانكليزية، فعرفت كيف مكن الاستعمار لنفسه، وكيف وفر الضمانات لبقائه وان جلت جنوده عن الأرض!. نعم قد تخلو الأرض منه ولكن سكانها امتلأت نفوسهم به، وارتبطوا ماديا وأدبيا بمواريثه، فهم راكنون إليه معتمدون عليه!. ماذا صنع الاستعمار لتحقيق هذه الغاية؟ لقد فرض أولا لغته وجعلها لغة المكاتبات فى الدواوين، ولغة الدراسة فى جميع المراحل التعليمية، ولغة التخاطب المحترم فى البيوت والشوارع، وربما هادن اللهجات المحلية إلى حين، ولكنه يعلن مقته للغة العربية، ويتجاوزها فى كل محفل، ويؤخر رجالها عن عمد! ولا سيما إذا كان المسلمون فوق تسعة أعشار السكان، ومن هنا كانت الفرنسية لغة السنغال!، والانجليزية لغة نيجيريا، أما لغة القرآن فهى منبوذة، أو مهملة!. وقد نشأ عن ذلك أن المسلم فى هذه الأقطار محجوب عن التراث الإسلامى؟ لأنه مدون باللغة العربية، وأنه إذا رأى أن يقرأ شيئا عن الإسلام فعن طريق الإفك الذى سطره المستشرقون والمبشرون بإحدى اللغتين العالميتين، الانكليزية، أو الفرنسية..!! ويا ضيعة الأجيال الجديدة...!. ومع حركة الافناء المرسوم للغة القرآن الكريم قامت حركة اقتصادية بارعة جعلت ص _010(1/5)
الانتاج صناعيا أو زراعيا فى أيدى السادة الأجانب، أو فى أيدى العناصر الموالية لهم فهم ملاك الحقول وهم ملوك الصناعات التحويلية أو التجميعية، وهم مديرو المصارف والشركات... قديما قال شوقى: " يا مال الدنيا. أنت والناس حيث كنت ". وقد فقه المستعمرون هذه الحقيقة، فدسوا أصابعهم فى منابع الثروة ومصارفها وأشعروا أهل البلاد أن الرغيف الذى يأكلون، والثوب الذى يرتدون، والمرافق التى يستخدمون، فى يد أولئك المستعمرين المهرة، وأن البعد عنهم طريق الضياع... فإذا جلت الجيوش عن الأرض لأمر ما فلا تمرد هناك ولا تحرر فأيدى المواطنين هى السفلى فى ارتقاب العطاء الذى لابد منه، وسادة الأمس بالقهر العسكرى هم سادة اليوم بالتفوق الاقتصادى والحضارى، ولا معنى لاستعمال العصا إذا كانت الإيماءة بالعين، أو الشفتين تكفى للخضوع.. على أن الأمر لا يحتاج إلى التلويح بالقوة فإن الشعوب المغلوبة تتبع غالبيها وتمشى وراءها مسحورة، وتترك تقاليدها لتقاليدهم وأفكارها لأفكارهم. ومع أن الإسلام هو الدين الأول فى أفريقية فإن الظروف التعيسة التى مرت بأمته فى القرون الأخيرة أمكنت من خناقه، وأنزلت به هزائم موجعة، بل أطمعت الملل الخرافية فى طي راياته ومحو آثاره.. وهكذا مشى التبشير الصليبى فى ركاب الاستعمار المكتسح يريد أن يضرب الإسلام الضربة المميتة!. وأحس أهل الغيرة بخطورة المعركة ورأوا بعد سبات طويل أن يتحركوا، فهل أحسنوا صنعا، وهل وقفوا مؤامرات التبشير والاستعمار! وهل أغاثوا الشعوب الصارخة، أو داووا عللها؟ لننظر ما هنالك!. الثقافة الإسلامية فى اضمحلال! ولم لا إذا كانت الانكليزية أو الفرنسية اللغة الأولى للدولة والشعب؟ وربما كانت الأولى والأخيرة!. ص _011(1/6)
الجماهير تعانى من الجهل والفقر. وهى تقبل العون من كل عرض له، ولو كان مقرونا بالكفر والفسوق.. التقاليد السائدة ما أنزل الله بها من سلطان، وربما كانت التقاليد الغازية أبعد منها عن الخرافة وأجدى على الناس. فهل اشتبك الدعاة الإسلاميون مع مصادر الداء، وبذروا بذور الإسلام الحق، وجاهدوا فى الميدان الوحيد الذى يتقرر فيه مصير هذا الدين؟. اتصلت ببعضهم لأسمع منه ماذا سيصنع، ورأيت الاكتفاء بالسماع وعدم الخوض فى أى جدال.. قال داعية من رجال الجهاد الإسلامى: إن تعطيل الأحكام الشرعية سبب ما نزل بالأمة من بلاء ولابد من محاربة هذه الجاهلية، وإزالة الطواغيت التى تساند هذا الكفر...!. وقال داعية من رجال السلفية: إن تأويل الآيات جعل القلوب تزيغ، ثم انضم إلى ذلك التقليد المذهبى، وهجر السنة المطهرة تمشيا مع آراء الرجال، وانتشار الطرق الصوفية، ولا تصلح الأمة ما بقى هذا الانحراف... استمعت إلى كلام هذا وكلام ذاك، وأحسست أن القوم لن يكيدوا عدوا ولن يكسبوا معركة، إنهم لم يدرسوا الميدان الذى توجهوا إليه ولا الجحور التى تنطلق منها الأفاعى، إنهم كالطبيب الذى جاءه مصاب فى رأسه فصنع له جبيرة على قدمه!. وأطرقت أفكر فى عواقب هذا الجهاد الطائش، وقال لى صديق: ما ترى؟. قلت: لن يمضى عام على تحرك هؤلاء حتى تشيع الحزازات فى البيوت والمساجد، وتدخل طوائف من الشباب السجون ويزداد الاستعمار والتبشير ضراوة ورسوخا… وصدق حدسى وليته ما صدق، ووجدتنى محاطا بقضايا ومشاكل تثير الغثيان..!. أصحيح أن الأكل على المائدة حرام؟ ويجب أن نأكل على الأرض إقامة للسنة؟ قلت: ص _012(1/7)
إن الله أنزل مائدة على أصحاب عيسى، وما أظنه حظر على أصحاب محمد أن يأكلوا على مثلها ـ وكنت أضحك بمرارة ـ ثم قلت: ترى هل تشترى المائدة من لندن أو باريس؟ أم أن الصناعة المحلية ارتقت عندكم؟. وجاء آخر يسأل: هل فى ارتداء البدلة الفرنجية تشبه بالكفار يلحقنا بهم؟. قلت: التشبه المنكور يكون فى العقائد والخلال لا فى الملابس والنعال.. وحدث أن خطيبا على منبره قال لرجل دخل ليصلى الجمعة قم فصلِ تحية المسجد! فقال الرجل نحن مالكية تبطل عندنا هذه الصلاة!! فقال الخطيب المفوه: أتترك محمدا وتتبع مالكا؟ وكانت فتنة مائجة قرت لها عين الاستعمار!. وتدخلت لأؤكد أن أئمة الفقه لا يقدمون بين يدى الله ورسوله، وأن الاختلاف يكون فى تفسير ما ورد، أو فى قيمة ثبوته، وما يفكر أحدهم أبدا فى مخالفة رسول الله ... وبلغنى أن أولياء فتاة ألغوا خطبة شاب رفض إهداء أساور من ذهب لابنتهم، لأن ذلك فى نظره حرام.. وطرد شاب من الجامعة لأنه أصر على دخول المعهد بثوب لا يبلغ الكعبين. وكانت الدعوة إلى الجهاد، وإقامة حكم إسلامى غامضة، لا تدرى شيئا عن حقوق الشعوب ولا ضمانات الحرية ولا قيام أحزاب ولا حرية الانتخابات.. وإذا كان المسلمون قد تراجعوا فى أنحاء العالم وسقطت دولتهم الكبرى فى غير ميدان لمعاصر اجتماعية وسياسية اقترفوها وتوارثوها فإن الدعاة الجدد لم يكلفوا أنفسهم دراسة خطأ ولا تصحيح مفهوم. ولذلك كثر صياحهم وقلت جدواه، واضطرب الفكر الإسلامى فى درك هابط لا يثمر خيرا دين أو دنيا... والواقع أن الاستعمار الصليبى جلا من تلقاء نفسه عن أقطار إسلامية وغير إسلامية ص _013(1/8)
دون قتال ولا تضحيات لأنه كان شديد الوثوق من أن هذه الأقطار ستظل ذيولا له، تستمد منه وتعتمد عليه.. إن الأبصار الكليلة لا تدرك الأوضاع التى تفرض التبعية وتجعل أمة وراء أمة، ويدا تحت يد...!. إن الأبصار الكليلة لا تدرك الدعائم التى تقوم بها الرسالات، وتستقر بها السياسات، ولا تعرف قيمة الاستبحار الثقافى أو الازدهار الحضارى والصناعى فى نصرة الحق وإعزاز أهله وفرض أخلاقه وأهدافه.. ولنتدبر هذا المثال لما يقع بعيدا عن أرضنا ومجتمعنا... من بضع سنين أعلنت حالة الطوارئ فى الولايات المتحدة، وسيطر الانتباه على أعصاب الناس وأفكارهم! ماذا حدث؟ أإنذار بهجوم ذرى؟ أم إعصار بحرى من تلك الأعاصير التى تخلف وراءها الدمار؟ لا هذا ولا ذاك الذى حدث أن أولى الآمر كانوا مسترسلين فى الإيمان بعظمة أمريكا وسبقها البعيد، ثم اكتشفوا بغتة أن الاتحاد السوفيتى قد سبقهم، وخلفهم وراءه فى ميادين علمية كثيرة!. وصدر الأمر بإنعام النظر فى برامج التعليم كلها، ومراجعة كل شىء من المرحلة الأولى إلى درجات التخصص، وانشغلت الحكومة والشعب بهذه الكارثة، وضرورة السعى الحثيث لطى مسافة التخلف وإعادة التفوق القديم... ولم يمكث القوم غير بعيد حتى حققوا ما أرادوا، وهم الآن فى إتمام تجاربهم لما يسمى بحرب الكواكب، سيقول الناس: عبقرية علمية جديرة بالاعجاب وهذا صحيح! والأجدر بالإعجاب عندى هو الشعور بحدة المنافسة ووجوب السبق. إذا كانت القدرة العلمية تستدعى الثناء، فمان الأحوال النفسية المصاحبة من اعتراف بالقصور وشحذ للهمة واعتداد بالنفس وحرص على النجاح كل ذلك لا يجوز إهماله!. ترى ما هى طبيعة هذه الأمة؟ أتظن نفسها ممثلة العالم الحر فلا يسوغ أن يهزمها القابعون ص _014(1/9)
وراء الستار الحديدى؟ ربما، أتظن نفسها على نصيب من الإيمان بالله وكتابه المقدس فلا يجوز أن يهزمهم الملاحدة؟ ربما، أم هى كبرياء الثروة والسلطة والنصر المتتابع؟ ربما قد يكون ذلك كله أو بعضه وراء مكانة الصدارة التى نالها شعب الولايات المتحدة.. على أننا لا ننسى، ومن الخساسة أن ننسى، أن هؤلاء الأميركيين قتلوا نصف مليون يابانى لإثبات وجودهم، وأنهم من الناحية الدينية رصدوا قناطير مقنطرة لنشر الصليبية، وقناطير مثلها لدعم اليهودية، ومحو فلسطين!! لقد عادوا الإسلام بغير وعى!. وها هم أولاء يسيرون نحو أهدافهم بالتفوق العلمى فى البر والبحر والجو، فماذا نسير نحن إلى أهدافنا؟ وإذا أعلنا حالة الطوارئ لاستدراك ما فاتنا فما هو التغيير الذى نحدثه حتى يتغير ما بنا؟ مصداق قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) إن طلاب العلم فى مدارسنا وجامعاتنا يحفظون إلى حين بعض المذكرات والملخصات حتى إذا جاء الامتحان قاءوها على أوراق الإجابة، ثم انقطعت صلتهم بالعلم.. وهناك رجال رزقوا لذة المعرفة وبرزوا فى العلوم التى درسوها حتى بلغوا القمم، ويحزننا أن جمهورا من هؤلاء التحق بأوربا وأمريكا مؤجرا علمه لمن يقدرونه ماديا وأدبيا. وهذا بلاء عظيم وخسار فادح، ووددت لو عالجنا هذا المسلك برشد وتؤدة، فإن ضياع ثروتنا البشرية أهم من ضياع الثروات الأخرى... لكنى لا أترك قضية اليقظة النفسية والفكرية دون أن أبين خطرها على حاضر الإيمان ومستقبله، ذلك أن الطفولة العقلية السائدة بين متحدثين إسلاميين يخشى منها على أمتنا، بل يجب أن نعلم أنه لا مستقبل لنا ما بقى هذا الاسترخاء الفكرى والخُلُقى يصبغ شؤوننا. ص _015(1/10)
إن العمل الصالح ذكر فى القرآن الكريم ضميمة لابد منها مع الإيمان كى يفلح المرء فى دنياه واخرته، فما هذا العمل الذى تكرر ذكره أكثر من سبعين مرة؟. بعض الناس يتصور أن العمل المنشود هو العبادات المرسومة المأنوسة لا يعدوها إلى غيرها! وإذا كان هناك توسع فى الدلالة فإن دائرة الصالحات تشمل شئون الدنيا عندما تصحبها النية الحسنة، وهذا التوسع وصف لبعض الخاصة من أهل الدين.. وأحسب الأمر يحتاج إلى إيضاح وتدقيق، فإن كلمة " الصالحات " تتسم بالشمول الذى يتناول كل شىء ويستوعب كل مسلك، ويستوى فيه ما حدد الشارع كيفيته وهيئته، وما تركه لاختلاف الأزمنة والأمكنة تباشر النفس الإنسانية لتضع عليه بصماتها المؤمنة وتسوق به الحياة إلى الهدف الذى تشاء.. بعض الناس إذا ذكرت النقود، ذكر الدينار والدرهم أو الدولار والجنيه، وإذا ذكر الدين ذكر الصلاة والصيام وما يدرى شيئا عما وراءهما. واقتصار التدين على نوعين أو أكثر من الطاعات المأثورة إزراء بحقيقة الدين، وطمس لرسالته وآثاره، واعطاء الشيطان مساحات رحبة يجرى فيها كيف يشاء.. تلوت سورة القصص، وربطت آخرها بأولها، فرأيت أن الله سبحانه شرح أحوال الاستبداد السياسى والطغيان الاقتصادى فى قصتى فرعون وقارون ثم ساق هذا القانون الحضارى الصارم (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إنه بعد عشر صفحات من السرد التاريخى الحافل قرر هذه الخلاصة أن الاستعلاء والفساد يستحيل أن يأتيا بخير، كل فرد مزهو بنفسه فوضوى فى سلوكه سائب فى إدارته ظالم لغيره ناس لربه لابد أن يجنى الويل من هذه الخلال. ص _016(1/11)
إن عناصر العدل السياسى والاجتماعى من صميم الأعمال الصالحة، ولن ينزل! الوحى ليعلم المدير كيف يدير، أو المدرس كيف يعلم، أو الصانع كيف يبدع أو السائق كيف يحترم الطريق فذلك كله تهتدى إليه الفطرة المؤمنة، وتندفع إليه بالذكاء الطبيعى، ومن ثم اقترن الإيمان والعمل الصالح.. هذا العمل الصالح تنداح دائرته لتشمل الدنيا كلها، وحرية الحركة فيه مطلقة ما تستثنى منه إلا المأثورات التى خمد الشارع قالبها عندما قال مثلا " صلوا كما رأيتمونى أصلى... ". وهذه المأثورات القولية والعملية قليلة، ووقتها محدد.. أما بقية الأعمال الصالحة فلا تكاد تحصر، إنها الحياة كلها، وحسب المسلم فى شرح موقفه منها أن يتدبر الآية الكريمة (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). وهناك ملحظ مهم فقد يعترى العبادات المقررة ما يطيح بثمرتها ويبطل جدواها، وذلك عندما تتحول إلى عادات بدنية تؤدى خلال غيبوبة عقلية، والحق أنه لا خير فى قراءة بلا وعى، ولا فى ركوع بلا خشوع. ومع أن الصلاة عمل من قمم الشرف الإنسانى فإنها آخر ما ينحل من عرى الإسلام والسبب هو هبوطها عن درجة مناجاة الله إلى أقوال وأفعال ميتة لا تؤكد يقينا ولا تؤسس خلقا. وعندما تنحط العبادات إلى هذا المستوى فإن أعمالا مدنية أخرى تشتد فيها حرارة الإخلاص ويتألق فيها حسن القصد تكون أرجح عند الله، وأجدى على الحياة من هذه العبادات الغليلة. ص _017(1/12)
وأكره أن أوازن بين عبادات معتلة، وعادات رفيعة، لأن العصر الذى نحيا فيه واهى الصلة بالله، وما أيسر أن يزهد مغرور فى تنفيذ أوامر الله بدعوى أنه يقوم بأعمال صالحة أخرى.. وإنما أبحث لنفسى أن أكتب ما كتبت زجرا للمؤمنين الكسالى أن يسيئوا إلى الطاعات بجفافهم الروحى، وخوائهم العقلى، وتحويلهم معالم التقوى إلى عالم من الأشباح ويختفى إذا جد الجد. وأدهى من ذلك أن يتشبثوا ببعض الأعمال ويهملوا بعضا آخر. إنه لو قضى عمره قائما إلى جوار الكعبة، ذاهلا عما يتطلبه مستقبل الإسلام من جهاد علمى واقتصادى وعسكرى، ما أغناه ذلك شيئا عند الله.. إن بناء المصانع يعدل بناء المساجد! فحراسة الحق كتعليمه. وإقامة سياج حوله، أيا كان هذا السياج لا يقل عن الاعتناء بنصوصه. المسلم مكلف بإصلاح كل عمل، أو عمل كل صالح، وهذا الانشطار المعيب فى السلوك البشرى مرض طرأ على أمتنا من انحراف القرون لا من تعاليم الإسلام (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). وأول ما أصاب النفس الإنسانية من عطب توهمها أن الصالحات لا تعدو رسوم العبادات المروية فإذا أحرز المرء نصيبا منها وأراد المزيد كرر الصلاة وكرر القراءة، لأنه لا يعرف صالحات غير ذلك. وما درى أن ميدان الصالحات يستوعب حركاته وسكناته كلها، ويحولها إلى قوى تدعم ص _018(1/13)
الخير لأن الصلاح تغير نفسى شامل يفرض على صاحبه حب الكمال والرغبة فى الاحسان، فهو يتقلب فى الدنيا كما وصف الله (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور). إن الشلل الذى أصاب أيدى المؤمنين فى ساحات الإنتاج، وحجب عيونهم عن الملاحظة الذكية، وجعلهم يجار عليهم ولا يجيرون، ويؤخذ منهم ولا يعطون، ويتقدم غيرهم ويتأخرون.. إن هذا كله حط قدرهم وقدر الدين معهم!!. وقد رأينا الولايات المتحدة تعلن حالة الطوارئ لأنها توهمت الروس سبقوها فى بعض آفاق المعرفة، وصرخت أجهزتها الرسمية والشعبية منذرة بالويل إذا لم يقع تغيير عام. فهل أعلنا أى حالة من حالات الاستنفار والتفزيع بعدما تدحرجنا إلى العالم الثالث، واقعا مرا لا خيالا طائفا!!. والغريب أن الذين استيقظوا أو زعموا ذلك لم يقطعوا القيود التى خمدت المواهب، ولم يشخصوا العلل التى أعجزت الأمة، بل سلكوا طرائق هازلة، فمنهم من تخصص فى محاربة الفقه المذهبى فى الوضوء والصلاة، ومنهم من جدد الحرب على الجهمية والأشاعرة، ومنهم من ذهل عن أصول الحكم وقواعد السياسة الراشدة وتخصص فى طلب بعض الأحكام الفرعية، ومنهم من عاد إلى التصوف غارقا فى وحدة الوجود، ومنهم ومنهم. والأمر يحتاج إلى فهم صاف صادق لما يتطلبه الإسلام فى الميادين التى انهزم فيها المسلمون روحيا وحضاريا، وكيف نلحق من سبقنا، ونربو عليه بما لدينا.. ولنبدأ بميدان العلم بعد هذا التمهيد الطويل... فإن أنكى ما أصابنا جاءنا من الجهل الكثيف بشئون الدنيا والدين، أو بحقائق الأرض والسماء.. ص _019(1/14)
لماذا جفت ينابيع هذا العلم؟ هذه طرفة جديرة بالتسجيل والتأمل نقدمها بين يدى بحثنا!. فى جامعة تونس أستاذ فرنسى كان يدرس علم الضوء أو البصريات كما يسمى فى ثقافتنا القديمة، وكان الأستاذ معجبا كل الإعجاب بقانون " الهازان " الذى اكتشفه أحد علماء العصور الوسطى، وسبق به سبقا بعيدا، وفتح به فتحا جديدا... وسأله الطلاب: لكن من " الهازان " هذا؟ فقال: أظنه من كبار العلماء الأسبان!. وذهب الطلاب إلى الدكتور بشير التركى - وعنه نقلنا هذه الطرفة - فأجاب الرجل وهو دهش " الهازان " هذا هو الحسن بن الهيثم العالم العربى المسلم الشهير، وهو راسخ فى علم البصريات، وله نظرات يضارع بها أعظم علماء عصرنا، ولا تقل مكانته عن انشتين وأمثاله، لأن العلم ما زال ينهل من كشوفه وأحكامه، وقد يبقى العالم معتمدا عليه ألف سنة أخرى، وهو من أول الأساتذة الذين درسوا فى الجامع الأزهر.. قال الدكتور بشير: وأما قانونا الضوء المنسوبان إلى ديكارت فحسن بن الهيثم هو صاحبهما، وواضعهما قبل ديكارت بستة قرون، وكتابه علم المناظير لا يزال مرجعا فى موضوعه... وذهب الطلاب إلى الأستاذ الفرنسى بهذه الإجابة فلم ينطق بكلمة، وكل ما حدث منه أنه أضرب إضرابا تاما عن الإشارة من قريب أو بعيد إلى " قانون الهازان " هذا، فما ذكره بخير ولا شر.. وظاهر أن الأستاذ قد بوغت بعظمة عالم مسلم وهو يمقت الإسلام من الأعماق فلاذ بالصمت، وطوى القصة كلها... ص _020(1/15)
على أننى عدت إلى نفسى وإلى قومى أوجه اللوم بعد اللوم، وأتساءل بغيظ: فما مكانة الحسن بن الهيثم فى تاريخنا؟ وما مكانة غيره من علماء الحياة والكون كجابر بن حيان والخوارزمى. إننا قبل أعدائنا كنا أسرع إلى إهالة التراب عليهم، ربما ظفر بالشهرة أبو نواس قديما وعبد الحليم حافظ حديثا، أما الراسخون فى العلم فهم يسيرون إلى جوانب الجدران، وينسحبون من الحياة كما جاءوها على استحياء، أو فى استخفاء... ولنترك الآن أنواع العلوم التى انشغل المسلمون بها، والتى ظنوها للأسف هى العلم الجدير بالتحصيل والتفرغ، ولننظر: ماذا كسبنا من قلة الدراية بالعلوم المادية والرياضية والكونية والصناعية وغيرها؟ وأين استقرت بنا النوى بعد رحلة فى العلوم النظرية والقضايا الترفيهية استغرقت عدة قرون؟؟. ذكرت فى مكان آخر خبر رحلتى إلى عاصمة " موريتانيا " الإسلامية، وكيف أن بعثة صينية شيوعية هى التى اكتشفت المياه الجوفية التى تغذيها الآن! ناس يأتون من آخر الدنيا شرقا إلى شاطىء الأطلسى غربا لهم خبرة فى علم المياه تتيح للعطاش أن يرتووا وهم فى بيوتهم، وأن يرتفقوا كيف شاءوا بالسائل القريب البعيد، ترى أين كنا وماذا نصنع؟. وما يقال فى الماء يقال فى النفط، ويقال فى كل المواد المدفونة تحت الثرى أو المهملة فوقه. أليست هذه كلها مما يدخل فى نطاق التوجيه القرآنى : (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء). أليست هذه شيئا ينظر فيه؟ وتلتمس الحكمة من وجوده؟ وتدرك عظمة الله من ص _021(1/16)
خلقه؟ لماذا يكون بصر الآخرين إليها حديدا وبصرنا إليها بليدا؟؟ وما ثمره ذلك التوقف الأخرق؟. إن الله جعل معرفته والحفاظ على حقوقه مربوطين بدراسة الكون، والتمكن فيه فإذا كنا خفافا فى هذه الدراسة، أو كنا ذيولا لغيرنا فهل نحن بهذه الخفة عارفون بالله، قادرون على صيانة حرماته ؟؟. يقول الله عن الناس : (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن). فأى تناقض مذهل إذا مشى الكافرون بين مخلوقات الله وهم يسبرون أغوارها ويعرفون أسرارها ويجيدون استخدامها، ومشى المؤمنون بين هذه المخلوقات لا يكادون يفقهون حديثا أو يحسنون صنعا؟ كل ما يجيدونه هو الحوقلة والتواكل! فإذا بدا طمع شخصى طاروا إليه بسرعة البرق... ويقول الله فى آياته الدالة عليه، المتجدد منها والموجود الآن! (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فتسأل من الذى رأى الآيات السابقة ثم رأى الآيات اللاحقة، إن أولى الألباب يرصدون الزمان ويعرفون ما يكون وما كان، وتتحرك أفكارهم وأحكامهم مع اختلاف الليل والنهار.. وقد رمقت بأسى سدنة الإلحاد وسدنة الشرك ولمحت نشاطهم الذهنى والبدنى فى غزو الفضاء ثم عدت إلى قومى فجف حلقى وخرس صوتى : أين هذه العلوم بيننا، وما الذى أبعدها عنا.. قد يقول البعض: الدين تعريف بالله وتبصير بحقوقه فلماذا تذهب بنا بعيدا؟ والجواب السريع: إن القرآن لما عرفنا بالله عرض علينا ملكوته، ولفتنا إلى أرضه وسمائه، ص _022(1/17)
والواقع أن أحسن تعريف بعظمة الله أن نعرف العالم الذى أقمنا الله فيه، وجعل رسالتنا فى نطاقه.. قرأت أن المخ البشرى يزن كيلو جراما وربعا، وأن به عشرة مليارات من الخلايا، لكل خلية غذاؤها وبقاؤها وأجزاؤها ونماؤها أو فناؤها، قلت: وفى الأرض نحو خمسة مليارات من البشر! من القائم على إيجاد وإمداد كل خلية من هذه الخلايا، وتوجيهها لتؤدى وظيفتها الدقيقة، من؟ وهتفت : (سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى). إن شعرة واحدة من مائة ألف شعرة تنمو على بشره إنسان أو حيوان تفتقر إلى العناية التى تفتقر إليها كل شجرة تنبت على ظهر الأرض بين خط الاستواء والقطبين.. ولا أفيض فى حديث أنا فيه قاصر، فقيام الأشياء بربها ما ندرى عنه إلا قطرة من بحر، وأظن ما وصل إليه العلم فى نصف القرن الأخير يساوى أو يربو على كل ما حققه العلم فى القرون الأولى.. والمهم هو المنهج الذى اختاره العلماء للكشف والبحث.. والمسلمون الأوائل عرفوا ثلاثة مناهج، ذهب أجداها وأدناها إلى المنطق القرآنى وبقى اثنان خيرهما قليل وعناؤهما ثقيل، ولهما بالقرآن الكريم علاقة ما، وإن كانت علاقة يطول فيها الأخذ والرد. ذهب المنهج الذى سلكه ابن الهيثم فى البصريات والخوارزمى فى الرياضيات، وغيرهما من الرواد أصحاب الفطر السليمة، وبقى منهج احتضنه علماء الكلام، وآخر احتضنه علماء التصوف، وكلاهما له أنصاره وثماره وما نحب الجور ولا المغالاة ولا انتقاص الكبار، ما نحب إلا إنصاف ديننا وتبرئته من عيوب هو منها برىء... ص _023(1/18)
أنا ممن يرون أن ابن سينا الطبيب أذكى من ابن سينا الفيلسوف، وقد انتفع الأوربيون بطبه خلال ثلاثة قرون، فماذا أفدنا نحن من فلسفته؟ تسلية ذهنية ذكية عقيمة!!. وأنا ممن يرون أن الفارابى الموسيقى أذكى من الفارابى المعلم الثانى! قد تكون ألحانه الشجية مسعدة للناس بعض الوقت، أما خرافة العقول والأفلاك التى أعجب بها مع ما أعجب من فلسفة اليونان فهراء ما كان يليق بالعقل الإسلامى أن يتورط فيه، أو يقف بإزائه.. إن العقل الإسلامى لو التزم الخط القرآنى المشغول بالملاحظة والتجارب المهتم بالتنقيب والحقائق، الجواب فى آفاق الأرض والسماء لكان له شأن آخر، ولقدم نجدات صادقة مثمرة للمنهج العلمى الكونى الباحث فى المادة لا فيما وراءها... ونظرة سريعة إلى المنهج العاطفى الصوفى الذى أيده الغزالى بحرارة ومشت فيه جماهير المسلمين باخلاص، بيد أنى- قبل إلقاء هذه النظرة- أريد توكيد حقيقة جليلة! أن العلم بالله أشرف ألوان العلوم، وأن المعارف الأخرى إن لم تكن وسيلة إليه فلا خير فيها. إن المرء يفقد قيمته الأدبية والمادية يوم يكون نابغة فى فن ما أو فى الفنون كلها ثم هو بالله جاهل وعليه جرىء. والعباقرة الذين يضعون أصابعهم على زناد التفجير الذرى، وينذرون بإهلاك الألوف المؤلفة لغرض خسيس ليسوا إلا قطعانا من الذئاب الكاسره أهانوا العلم ولم يكرمهم العلم!!. نحن نحترم علوم الكون والحياة، ونرى أنفسنا- باسم الله- مطالبين بافتتاح مغاليقها والتبريز فيها وذلك كله نابع من إعزازنا لربنا وحفاوتنا بصنعه، وتلبيتنا لطلبه أن نفكر ونستنتج..!. والذى يدرس الكون بغير هذه النية كالذى يدرس قصرا مشيدا ليسرقه، أو سيارة جميلة ليفر بها. ص _024(1/19)
بعد توكيد هذه الحقيقة أعود إلى المنهج الصوفى القائم على التأمل الباطنى، والاستغراق الذاتى، وتحويل العلاقة بالله إلى ذكر لأسمائه الحسنى يحصى بالألوف المؤلفة، فإذا سكت اللسان تلفت القلب، وأشرقت البصيرة... ليس هذا النهج ما أفدناه من كتاب الله وسنة الرسول، بل أجزم بأن العزلة الفكرية عن الكون انحراف عن الخط الإسلامى، وفرار من تكاليف اليقظة الذهنية التى فرضها علينا القرآن، بل قد تكون طريق العجز عن مقاومة الباطل ومؤازرة الحق.. ثم إنى أرتاب فى أن تزداد الألفاظ المفردة أو الكلمات المركبة يورث علما عظيما أو يرفع صاحبه إلى مستوى عال من شهود المجد الآلهى، وقد يكون هذا الأثر الجليل عقب قراءة كتاب فى الطب أو فى الفلك أو فى أفق من آفاق الكون الكبير... إن أولى العلم هم الخبراء بالله، الشائمون لأنوار وجوده، المراقبون لقيامه على خلقه.. وأبو حامد الغزالى له سهم كبير فى الدراسات الطبيعية والمادية وقد وصف عجائب الخلق وصف رجل مطلع، بل إن وصفه للعين البشرية يقترب من العلم الحديث، ولعل ذلك هو الذى أعانه فى خلوته أو آنسه فى عزلته... وعلى أية حال! فنهج القرآن لا يتقدمه نهج أحد، ويستحيل أن يحمى المسلمون دينهم، وأن ينضج إيمانهم بربهم إلا إذا تفقهوا فى آيات الله العيانية والبيانية جميعا، وازدهرت لهم حضارة مدنية وعسكرية تجلب ولا تغلب وتقود ولا تقاد!. هل لنا نصيب من العلم نقطع به هذا المشوار الطويل؟ تلفت حولى ثم أطرقت واجما! إن النصيب الذى لدينا هو ما يرميه خصومنا إلينا فنحن على فضولهم العلمية نعيش!. لقد استعدنا سيناء على النحو الذى عرف الناس، فما استطعنا إلى الآن أن نبنى قرية مثل "ياميت " نستنبت البقول والورود فى الهواء ونصدر نتاجها إلى أوربا، والعلم الذى فقدناه هو الذى فقده الجزائريون لما هبطت محاصيل الحبوب بعد الاستقلال، وهو الذى ص _025(1/20)
فقده السودانيون الذين يجوعون فوق أخصب أرض، وهو الذى فقده المسلمون على التعميم لما مشوا تحت الشمس وعلى أبصارهم غشاوة. ألا يضحك الشيطان طويلا عندما يرى جهازا علميا ضخما عند الملاحدة الذين يرفضون عقيدة الألوهية، وجهارا علميا ضخما عند المشركين الذين يجعلون الآلهة مثنى وثلاث ورباع! فإذا جاء أرض الإسلام لم ير إلا علما مستوردا من هنا ومن هناك، لأنه لا منابع له فى أرضه..!!. وقد حرص الأوربيون والأمريكيون على أن يظل هذا العلم منقولا لا معقولا، مجلوبا لا أصيلا، مشترى لا مكتسبا حتى نظل فقراء إليهم أبدا، ما نستطيع من قيودهم فكاكا.. يقول الدكتور بشير التركى: فى العهود الأولى للإسلام أقام المسلمون صناعات جديدة عديدة فى ميادين شتى، فبعد أن أخذوا كل ما وصلت إليه الحضارات السابقة أبدعوا من جهودهم ما أربى عليها وصهروا ذلك فى صناعة متطورة كانت دعامة مكينة لليقظة الإسلامية التى شملت العالم أجمع، بل كانت طور، عظيما فى الارتقاء العالمى. ثم سرعان ما تدهورت هذه الصناعة الإسلامية، وصارت أثرا بعد عين، وربما رأى الناس بقايا منها فى الصناعات التقليدية التى يراها السائحون الأجانب.. أما الغرب فقد احتكر لنفسه فى العصور الأخيرة كل الصناعات التى تقوم على الطاقة، وربما كان قليل الاكتراث ببعض الصناعات التجميعية والتحويلية الموجهة للاستهلاك! أما الصناعات الكبيرة فقد أحكم قبضته عليها واحتفظ بأصولها لديه، إنه يبيع المحرك مثلأ، ولا يبيع كيفية صنعه، ولا أسرار تكوينه وحفظه وإدارته، ومن ثم يبقى المسيطر على سوق المحركات، يبيع فيها قطع الغيار ووسائل الصيانة ومختلف الخدمات، وهذا كله فى جميع الميادين المدنية والعسكرية... أى أننا نركب سيارة أنتجها هو، ويظل ارتفاقنا بها ما بقى يرسل قطع الغيار ويضمن وسائل الصيانة. ص _026(1/21)
وكذلك قد نقاتل فى دبابة أو طائرة من صنعه، لكن قدرتنا على القتال مرهونة بتعهده أن يمدنا...!!. وفى ميدان الإعلام ترى كل أجهزة الإرسال والاستقبال، السلكية واللاسلكية والمواصلات، وتخزين المعلومات واستخدامها والآلات الحاسبة.. الخ. كل ذلك حكر للغرب وحده تأخذ منه بقدر ما يأذن، فإذا طردك عن بابه بقيت صفر اليدين. أين الصحوة الإسلامية فى مظاهر هذا العوز؟ أين العلم الذى يسعفنا ويقيم لنا صناعة مستقلة!؟ أين العلم الذى يصون عقائدنا وآدابنا ويجعل يدنا العليا؟ أين العلم الذى يحكم علاقتنا بكتابنا وينقلنا إلى جوه الممدود بين الأرض والسماء؟ أين العلم الذى يقدرنا على أن نثير الأرض ونعمرها كما أثارها وعمرها غيرنا، بل أكثر منه؟. إن العلم الذى يوحى به الدين عند جمهور المسلمين، شىء آخر قريب من الموت والاستسلام والضياع، وذلك هو ذل الأبد..!. وليتأمل القارئ المسلم فى هذه القصة التى تحوى ما وقع بين الولايات المتحدة واليابان عقب انهزام الأخيرة فى الحرب العالمية الثانية، لقد قرر الأمريكيون أن يضعوا أيديهم على الخبرة اليابانية فى عالم الالكترونيات، وأن يوجهوا النشاط اليابانى إلى إنتاج أجهزة الإعلام السمعية والبصرية لتباع، بأرخص الأسعار على حين يستبقون الأجهزة الدقيقة الأخرى، والخبرة العميقة بها حكرا عليهم وحدهم، كأجهزة الرادار، والحاسبات الإلكترونية والكمبيوتر، ومالا نعلم من أدوات عسكرية (!). غير أن العلماء اليابانيين فطنوا إلى الخطة الاستعمارية الماكرة وقرروا نقل هذه الصناعة الرفيعة من طور الاستهلاك العادى إلى طور آخر أرقى وأذكى، وأن يحكموا قبضتهم القومية على جملة هذه العلوم. ونجحت المشيئة اليابانية، ولم تعقها الهزيمة العسكرية الهائلة دون الانطلاق إلى الغاية ص _027(1/22)
المنشودة، وأمست اليابان من البلاد الإلكترونية الأولى فى العالم كله. والعجب أن المركز الإلكترونى الأمريكى " سليكون فالى " الذى كانت الولايات المتحدة تريده مهد هذه الصناعة للقرن الحادى والعشرين أضحى متخلفا عن المؤسسات اليابانية المعاصرة، لقد سبق اليابانيون سبقا بعيدا، واعترف لهم نظراؤهم وأعداؤهم بالتفوق، ذلك لأنهم ثابروا وصابروا حتى حققوا ما شاءوا...!. هل تحس أن الذكاء اليابانى وحده وراء هذا النجاح الرائع...؟ كلا! إن الاستقرار النفسى والاجتماعى فى طول البلاد وعرضها كان نعم العون فى ذلك المضمار، كأن الحكومة جسد روحه الشعب، أو كأن الشعب جسد روحه الحكومة، لا انشطار فى عزم، ولا اختلاف على هدف، ولا تحاقد على منصب!. أما اليقظة التى عاصرت الصحوة اليابانية فى العالم الإسلامى فقد تبددت قواها فى الصراع الداخلى، وذهبت جهود هائلة فى الدفاع والهجوم والأخذ والرد والإقرار والإنكار، إذ إن حكومات كثيرة كانت تريد نظاما علمائنا، وترفض استدامة الفكر الإسلامى، وكانت الشعوب وجلة من هذه الطلائع المتمردة على عقائدها وتقاليدها، ووقعت الأمة المسكينة بين " كماليين " يمقتون الإسلام، وإسلاميين يخلطون الوحى بالخرافة والجد بالهزل، وعندما يقع بأس الأمة بينها فهيهات أن تفلح فى جلب منفعة أو دفع مضرة.. إن اليابانيين لم يخاصموا دينهم- على ما به- ووجهوا قدراتهم كلها لكسب معركة الحياة، فكسبوها، أما المسلمون فقد استمكنت منهم الدسائس الصليبية والصهيونية، وكان التدين فى أفكارهم ومسالكهم قد ابتلي بالعفن فغشيهم من العدو ما غشيهم!. ويشاء الله أن أشعر بالقفر وأنا أخط هذه السطور، لأن الإذاعات المحلية والعالمية تنقل إلى ما يقع الآن قريبا منى فى تونس، إن الذى وقع لم يخطر ببال وكان صداه لاذعا موجعا.. ص _028(1/23)
لقد استطاع اليهود الجاثمون على صدر فلسطين أن يرسلوا من مكان احتلالهم ثلة من الطائرات المقاتلة، قطعت الآف الأميال فى الجو، وأمدت بالوقود وهى سابحة فى السماء، حتى إذا بلغت تونس تعرفت على مقر هيئة التحرير الفلسطينية وسط الآف البيوت، ثم شرعت ترجمه وما حوله بالقذائف حتى أحالته أنقاضا!!. وبعد أن قامت بما تشاء على خير وجه عادت أدراجها إلى فلسطين قاطعة آلافا أخرى من الأميال بعد نزهة لطيفة قتلت فيها نحو سبعين عربيا، وجرحت مثلهم، هذا كل ما حدث!!. ولم أشغل نفسى بسماع التعليقات الماجنة والغثة من الأصدقاء والأعداء. فإن عجزنا لا يحتاج إلى عزاء وقدرة خصمنا لا يغض منها تهوين، واحتقارمجلس الأمن العالمى لقضايانا لا ينجح فيه تستر. وظاهر أن رسوخ عدونا فى علوم الكون والحياة جعله يطوى المسافات الشاسعة، ويلطمنا كلما أحب، إن ضراوته بنا كضراوة الصائد الذى يطلق بندقيته على أسراب الطير والأنعام لينال منها ما يشتهى!. أما نحن فقد جعلنا الجهل نماذج للعجز، تظلم فلا نقتص ونضام فنستكين. ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان غير الحى والوتد! هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشق فلا يرثى له أحد! هل نعود إلى بنياننا الحضارى لنعيد إليه رسوخه وشموخه بالعلم الحق والدراسة الناضرة؟. إن لغتنا العربية تكاد تكون خالية من علوم الطب والصيدلة والأحياء وأغلب فروع الهندسة والكيمياء وعلوم الفضاء، والآليات والإليكترونيات، وفنون القتال فى البر والبحر والجو. ص _029(1/24)
أفبهذا الفراغ نحمى دنيانا ونحرس إيماننا ونرد أعداءنا ونصون حمانا؟؟. سمعت من إذاعة لندن خبرا بعثنى على الدهشة، فقد تمخضت الانتخابات التى وقعت أخيرا فى ولاية " أثام " عن سقوط الحكومة، ومجىء حكومة أخرى!. الحكومة الجديدة أعضاؤها من طلبة الجامعات!! والحكومة التى ذهبت كانت من حزب المؤتمر الهندى الذى يتولى الأمور فى عموم الهند.. وما حدث يدل بداهة على نزاهة الانتخابات، وعلى استقرار " الديمقراطية " فى القارة الهندية، ولكنه يدل فى الوقت نفسه على أن الجماهير تقترف الغرائب! والأمر يحتاج إلى شرح يسير.. إن هذه الولاية تجاور " بنجلاديش " الإسلامية ويفر إليها باستمرار أعداد من المسلمين الذين تطاردهم الفيضانات والعواصف وأنواع المصائب، وما يكاد هؤلاء المنكوبون يستقرون ويجدون لهم مرتزقا حتى يهجم عليهم أهل الولاية الأصليون ويديرون عليهم رحى الموت، فإذا المذابح تفتك بالشيوخ والأطفال، وتملأ البيوت بالثكل واليتم.. وكانت حكومة الولاية تحاول اعتبار أولئك اللاجئين هنودا عادوا إلى بلادهم وتبذل بعض الجهد لتخفيف أحزانهم، بيد أن الجماهير الحانقة على المسلمين رفضت هذا المنطق وأبت إلا الفتك بهم وشن حرب استئصال عليهم.. الحق أن الاستعمار الصليبى الذى استقر فى الهند عدة قرون نجح فى زرع البغضاء للإسلام وأهله، وجعل القومية الهندية تنظر إلى الإسلام على أنه دين فاتح غريب. وقد استمات الانجليز فى ترجيح كفة الوثنية على عقيدة التوحيد واستغلوا الاضمحلال الفكرى الذى أصاب المسلمين فى تاريخهم الأخير.. فأفقدوهم مكانتهم الوطيدة فى الهند الكبرى. ص _030(1/25)
وعند تقسيم الهند فقد المسلمون مليون قتيل على الأقل. واليوم انتخبت الجماهير فى " أثام " حكومة من الطلاب الشبان، وإنى أضع رأسى بين يدى أفكر فيما تأتى به الأيام، وما قد يجد من مذابح تجتاح بقية البائسين دون عائق!. على أنه يبقى السؤال الذى لابد منه: لماذا لا يصلح المسلمون أحوالهم فى بنجلاديش ويستغنوا عن الرحلات المشئومة إلى أرض المذابح والضغائن؟ لماذا لا يتغلبون على العواصف والأنواء كما تغلب عليها غيرهم؟ إن الله سخر الأرض للبشر، ولم يسخر البشر للأرض!. إن الله مكن بنى آدم من البر والبحر ولم يمكن البر والبحر من بنى آدم! إننا نسينا رسالتنا من حيث إننا مسلمون، ونسينا مكانتنا من حيث إننا بشر متميزون على شتى الأحياء!. ما هذا التحجر الفكرى، والعجز الإنسانى؟ لماذا لا نبنى سدودا تنكسر عندها الأمواج، وتزدهر الأرض وراءها بأنواع الزرع؟ هكذا فعل غيرنا فما الذى يغل أيدينا. كتب الأستاذ محمد المجذوب هذه الكلمات النفيسة الصادقة تحت عنوان ((أما لمآسى بنغلاديش آخر؟!)) يقول من غرائب الاتفاق أن أستمع فى يوم واحد إلى هذين الخبرين: ا- لقد تعاون مد البحر وهبوب الأعاصير على بنغلادش فقضى على الآلاف من سكانها.. 2- فى سجون بريطانية مجموعة من المجرمين ضاقوا بأوقاتهم، فرأوا أن يشغلوها بعمل نافع، فقاموا بردم جانب من شاطى البحر فأحالوه أرضا صالحة للزراعة بلغت مساحة غير يسيرة، وهم الآن يطالبون المسئولين بأن يقسموا هذه الأرض بينهم ليتخذوا منها وسيلة إلى العمل الجاد والاستقرار الذى يغير تاريخهم.. ووجدتنى أطرق بإزاء هذين الخبرين مفكرا متأملا، وقد شدنى اليهما معا ما تراءى لى ص _031(1/26)
من الصلة بينهما، ففى بنغلادش الفقيرة المهددة دائما وأبدا بكارثة المد الذى يغتال مساكن الناس، ويجرف المئات والآلاف منهم بين الحين والحين، تكاد تنحصر المشكلة فى ضيق الأرض التى شاء الله أن تكون أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، ثم بانخفاض مستوى شواطئها إلى الحد الذى يجعلها معرضة لغارات البحر المدمرة كلما تفاعلت أمواجه بالمد والجزر، وتحت ضغط هذا الواقع يضطر هؤلاء المنكوبون للتسلل إلى ما يجاورهم من أراضى الهند، فيتلقاهم التعصب الهندوسى بأصناف الفواجع التى ليس أقلها الموت بإحراقهم مع منازلهم.. وفى حين أنهم يتوقعون هذا المصير الحتم لا يجدون مفرا من اللجوء إلى ذلك الجانب من الهند بعد أن شحت عليهم أرضهم بالقوت الذى يمسك الرمق.. ولم يعد وضع هؤلاء المسلمين المرزئين مما يمكن تجاهله بعد أن شهد ويشهد به كل الزائرين الذين ابتعثوا من دول الخليج للتعليم فى بنغلادش، حيث يرون تزاحم المتسولين حيث اتجهوا، وحتى أن الواحد من هؤلاء المحرومين ليعتبر القرش الذى يضعه المحسن فى يده غنيمة لا يحلم بأكبر منها.. وطبيعى أن مشكلة كهذه من حقها أن تبعث كل ذى حس إنسانى على التفكير والتساؤل عما إذا كانت خارجة عن نطاق الحلول التى يتصورها العقل البشرى، أو أن ثمة تخلفا عقليا وسياسيا هو الذى أبرزها فى هذا الوضع الذى يخيل للناظر أنها فوق الحلول ووراء كل امكانات الاصلاح.. ومن هنا كانت الصلة بين مأساة آلاف البنغلادشيين، هؤلاء الذين التهمهم البحر والأعاصير، وبين عمل أولئك الفتيان الذين وجدوا ضالتهم فى مصارعة البحر، فمازالوا به حتى استطاعوا أن يقتطعوا منه تلك البقعة التى فتحت لهم أبواب الأمل فى حياة كريمة، ولفتت أنظار الناس لاقتفاء أثرهم فى التعامل مع البحر لاكتساب أراضى جديدة يضيفونها إلى وطنهم، ويجدون فيها المجال الرحب لزيادة مكاسبهم.. ص _032(1/27)
ولم يكن هذا بالأمر الغريب بالنسبة إلى أولئك الأوربيين، فغير بعيد منهم هولندا ذات الأراضى المنخفضة، وقد سبقهم أهلها إلى مثل ذلك منذ زمن بعيد، وما يبرحون يكسبون كل يوم الحديث الجديد من اليابسة، ينتزعونها من البحر ويقيمون عليها السدود بوجهه، لتدفع غاراته وليوسعوا بها من ثروتهم الاقتصادية، التى يغزون بإنتاجها أنحاء العالم. وقد رأيت على شواطىء بومباى ـ بالهند ـ صورا رائعة لهذا الجهد الذى أحال أجزاء غير يسيرة من البحر مناطق رفعت عليها مئات المبانى، التى بينها ناطحات السحاب.. ولنتساءل هنا، لماذا عجزت طاقة المسلمين فى بنغلادش عن التفكير بتغيير هذا الواقع الرهيب، الذى يعيشونه بين الفقر والموت؟ هؤلاء المساكين الذين يعيشون فى الجزر المهيأة للزوال كلما تصاعدت حركة الموج من حولها.. أليس لهم أيد تحسن العمل فتتعاون لإقامة السواتر الكافية من الحجارة والتراب حماية لأنفسهم من هذه الهجمات التى قلما تنقطع عن مساورتهم ليل نهار!!. وهاتيك الشواطئ المعرضة أبدا لهذا الزحف.. أليس للملايين من سكانها بعض القدرة على مواجهته بمثل ما تواجه به هولندا وبومباى أخطار بحريهما!. الحق أن الحيرة لتستغرقنى حين أتصور هذه الفواجع، تلم بملايين المسلمين دون أن يتحركوا للاستعداد لها ومجابهتها بالتدابير الممكنة المعقولة قبل فوات الأوان. عندما يفقد المرء حاسة الشم تستوى لديه الروائح الكدرة والروائح العطرة، وربما أماته غاز خانق يتنفسه وهو لا يدرى حتى يقضى عليه. والمسلمون من بضعة قرون تنشر بينهم ثقافات مغشوشة أحدثت تغيرات جوهرية فى صورتهم الباطنة، وقطعتهم فى الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك.. والتخلف النفسى والذهنى لا تصاب به الأمم بغتة، وإنما يجىء بعد أمراض تطول ولا ص _033(1/28)
تجد من يحسن مداواتها، ولا أزال أحس أثر هذه الأمراض وراء تخلفنا المدنى والعسكرى والصناعى والحضارئ، إنه تخلف يعانيه المسلمون فى آسيا وأفريقيا على سواء. والذى يعنينى هو تبرئة الإسلام من هذه التبعة إن الإسلام يهب للأمم الكسيحة أقداما تسعى بها بل يعطيها أجنحة تقدر بها على التحليق. وإننى لأرفض وصف العقل الإسلامى الأول بأنه يكره الخرافة والخمول، إن هذا الوصف يحط من قيمته! إنه عقل يبحث عن الحكمة، ويمضى على الانطلاق، ويمضى بأتباعه إلى الصدارة، لا بالدعوى ولكن بالجدارة. وإذا كان هناك تبلد أو تواكل أو استرخاء فمصدر ذلك أوضاع حاربها الإسلام فاجترها إليه جهلة أغرار غشوا علومه وزوروا شعائره ومازالوا به حتى جعلوا أمته دون غيرها من الأمم... أريد أن أقول للذاهلين عن علوم الحياة إنكم تفقدون الإسلام الحياة بهذا الفكر السقيم، وتعجزونه عن مقاومة أعداء يبغون له الويل.. لا يزال الإنسان هو العنصر الأول للنجاح فى كل ميدان، والآلة تجىء فى المنزلة الثانية، إذا كنا فى ساحة صناعية، وكذلك السلاح يجىء فى المرتبة الثانية إذا كنا فى ساحة عسكرية... والإنسان المسلم مفتوح البصر والبصيرة كما علمه كتابه، يمشى على الأرض مكينا لا مهينا، سيدا بين فجاجها لا عبدا، مخدوما لا خادما، وليست أدرى ما عرانا حتى صرنا نأكل من غراس غيرنا ونلبس من نسيجه ونستورد ما يبدع!! ثم نقعد لنحول مجالس العلم إلى مجالس جدل، ولنمضغ قضايا تضر أكثر مما تنفع.. فإذا أغير علينا صرخنا نطلب السلاح، وهيهات أن يجئ لأنه من مصانع المغيرين، أو ممن يمت إليهم بأوثق الصلات..!!. ص _034(1/29)
ان 30% من مسلمى العالم يحيون فى القارة الهندية المترامية الأطراف، وقد رمقت أحوالهم الدينية والمدنية وشعرت بالأسى لأنها دون ما ينبغى، وزادنى شعورا بالقلق أن جماهير كثيفة بينهم وحولهم تعتنق الشيوعية وتسعى لفرضها بوسائل بارعة فماذا أعدوا للنجاة بأنفسهم ورسالتهم. وتتشابه مآسى المسلمين فى أقطار شتى، والغريب أن أحد الناس قال لى: إن الإسلام دين وافد على أوربا، فعداوته تعتمد على أسباب قومية! قلت له: إن الإسلام والنصرانية جميعا وافدان على أوربا، وقد كان الرومان وثنيين، وكذلك كانت القبائل القاطنة بشرق أوربا وغربها، فإذا كان لابد من إشباع النزعات الوطنية فلتعد الوثنية الأولى، وليعبد الناس الأصنام! وأحسب ذلك أحظى عند الحاقدين على الإسلام!!. ص _035(1/30)
قضية الأخلاق عندنا هل ترجع هزائمنا العامة إلى أننا لا نملك طائرات بعيدة المدى، وإلى أننا لا نصنع القنابل الذرية؟ بعض الناس يتصور أن عجزنا الصناعى والعسكرى من وراء تخلفنا هنا وهناك، وأن أمتنا لو ملكت هذه الأسلحة سادت وقادت!. إن هذا فكر سقيم، والواقع أننا مصابون بشلل عضوى فى أجهزتنا الخلقية، وملكاتنا النفسية يعوقنا عن الحراك الصحيح، وأن مجتمعاتنا تشبه أحياء انقطع عنها التيار الكهربائى فغرقت فى الظلام، ولابد من إصلاح الخلل الذى حدث كى يسطع التيار مرة أخرى. وعلاج الأعطاب الشديدة أو الخفيفة بالكلام البليغ أو النصح المخلص لا يكفى! لابد من إزالة أسباب الخلل، ومن إعادة الأوضاع إلى أسسها السليمة إلى فطرتها الأولى. (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). وقد راعنى أن خلائق مقبوحة انتشرت بين الناس دون مبالاة، أو مع إغماض متعمد، واستمرت الناس لها حتى حولها الإلف إلى جزء من الحياة العامة، ومن هنا رأينا الاستهانة بقيمه الكلمة، ورأينا قلة الاكتراث بإتقان العمل، ورأينا إضاعة الأمانات والمسئوليات الثقيل، ورأينا القدرة على قلب الحقائق، وجعل الجهل علما والعلم جهلا والمعروف منكرا والمنكر معروفا.. ص _036(1/31)
إن قضية الأخلاق وما عراها من وهن أمر جلل، إنك لا تستطيع بناء قصر شاهق دون دعائم وأعمدة وشبكات من حديد، ولا تستطيع بناء إنسان كبير دون أخلاق مكينة ومسالك مأمونة وجملة من الخلال تورث الثقة، وتأمل فى قول أبى تمام: وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر! إن ضمانات الخلق الصلب فى سيرة هذا البطل هى التى تعلو بها الأمم، وتنتصر الرسالات، وهى التى يستخذى أمامها العدو وتنهار الطواغيت، وعندما ترى مجتمعا صارما فى مراعاة النظام، دقيقا فى احترام الوقت، صريحا فى مواجهة الخطأ، شديد الإحساس بحق الآخرين، غيور، على كرامة الأمة، كثيرا عند الفزع، قليلا عند الطمع، مؤثرا إرضاء الله على إرضاء الناس، عندما ترى هذا الخلال تلتقى فى مجتمع ما، نثق أنه يأخذ طريقه صعدا إلى القمة. وقد كان المسلمون الأوائل نماذج أخلاقية تجسد فيها الشرف والصدق والطهر والتجرد، ولذلك تصدروا القافلة البشرية عن جدارة، ولا غرو كانوا صنع الإنسان الذى وصفه الله بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) وكانوا نضج روحه العالى فمشت وراءهم الشعوب تتعلم وتتأسى. أما اليوم فنحن نجرى ونلهث وراء الشعوب الأخرى دون أن نصل إلى مستواها، لأن وزن الأخلاق عندنا خفيف وارتباطنا بها ضعيف.. والأخلاق مجموعات متنوعة من الفضائل والتقاليد تحيا بها الأمم كما تحيا الأجسام بأجهزتها وغددها، فإذا اعتقت هذه المجموعات وانفكت رأيت ما لا يسر فى مسالك العامة والخاصة.. فى كثير من البلاد الإسلامية رأيت الوساخة فى الطرق والبيوت أو فى الملابس والأبدان، ورأيت الفوضى فى سير الأشخاص والعربات، ورأيت الإهمال والتماوت فى تناول ص _037(1/32)
السلع والواجبات، ورأيت دوران الناس حول مآربهم الذاتية ونسيانهم المبادئ الجامعة والحقوق العامة، ورأيت انتشار اللغو والكسل وفناء الأعمار فى لا شىء!!. الكذب فى المواعيد وفى رواية الأخبار، وفى وصف الآخرين أمر سهل! وكذلك استقصاء الإنسان فى طلب ما يرى أنه له، واستهانته فى أداء ما هو عليه، ونقصه ما هو قادر على إتمامه، وفقدان الرفق فى القول والعمل وشيوع القسوة والمبالغة فى الخصام!. ثم تحول الآداب إلى قشور يطل من ورائها الرياء بل إن الرياء ـ وهو فى الإسلام شرك ـ يكاد يكون المسيطر على العلاقات الاجتماعية، وهو الباعث الأول على البذخ فى الأحفال والولائم والمظاهر المفروضة فى الأفراح والأحزان.. العجز الإدارى قد يرجع إلى أسباب خلقية وعلمية، بيد أن الأسباب الخلقية عندنا أسبق. الفشل العسكرى قد يرجع إلى أسباب نفسية وفنية وصناعية، بيد أن الأسباب النفسية عند العرب أظهر وأقوى.. ويجزم أولو الألباب بأن الساسة العرب والقادة العرب وراء كل نصر أحرزه بنو إسرائيل خلال أربعين سنة. بل إن قادة اليهود صرحوا بأن المكاسب التى أحرزوها تجاوزت الأحلام وسبقت الخيال! إنهم ما خططوا لها ولا احتالوا لبلوغها! إنها هدية من الانحلال العربى ومن ضعف الأخلاق، إنها غنيمة باردة لخصوم يحسنون انتهاز الفرص!. وأى فرصة أغلى من أن يكون القائد العربى صريع مخدرات ومسكرات، وأن يكون الزعيم العربى قد وصل إلى منصبه فوق تل من جماجم خصومه، ورفات بنى جنسه المدحورين أمامه. إن هذه أعظم فرصة لقيام دولة إسرائيل، لقد قامت فى الفراغ المتخلف من ضياع ص _038(1/33)
الأخلاق لدينا، وتحول المسلمين إلى أمم مقطعة، خربة الأفئدة، مخلدة إلى الأرض، جياشة الأهواء، باردة الأنفاس... إننا نقول لغيرنا : النار مصير الملاحدة والمشركين، لسوف يجزون ما يستحقون لقاء كفرهم بالله ونسيانهم له!. ليت شعرى لماذا لا نقول لأنفسنا: والنار كذلك مثوى المرائين الذين عملوا عن وجه الله، وأرادوا الحياة الدنيا وزينتها، واستماتوا فى طلب الشهرة والسمعة والمال والجاه، وكانت علاقتهم بهذه الأهواء أشد من علاقة المشركين بأوثانهم؟؟ لماذا لم نقل لأنفسنا: إن أول من تسعر بهم النار، رجال دين يطلبون الدنيا، ورجال مال وحرب ينشدون الوجاهة والسلطان؟ ألم يقل لنا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك؟. إننى طفت فى أقطار إسلامية كثيرة، فرأيت سطوة العرف أقوى من سطوة الشرع، واتباع الهوى أهم من اتباع العقل!. وللناس قدرة عجيبة فى إلباس، شهواتهم ثوب الدين، وتحقيق مآربهم الشخصية باسم الله.. وأذكر أنى كنت فى شبابى الباكر أغشى بيت تاجر أرمنى كى أدرس اللغة العربية لأحد أولاده، وكانت الأم ترقب ابنها وتذكره بما أفرضه عليه من واجبات.. وخلال سنة لاحظت أن هذه الأم، لا ترتدى إلا ثوبين أو ثلاثة من نوع رخيص ولكنه نظيف وأنيق، وكثيرا ما كانت تعين زوجها فى دكانه وهى على هذه الحال من قلة التكلف وتواضع الملابس.. على حين كنت أرى الأسر الإسلامية فى دنيا أخرى! ما تكتفى المرأة إلا بالعشرات من الثياب الغالية... ورأيت عرس يهودى يبنى بزوجته ـ قبل قيام دولة إسرائيل ـ فلم أر ما يثير الانتباه، وتذكرت وصف حافظ إبراهيم لعرس عربى: سال فيه النضار حتى حسبنا أن ذاك الفناء يجرى نضارا!! ص _039(1/34)
قلت: ماذا تفعل أمتنا بنفسها؟ وإلى أين تسير؟ وما تلك الأخلاق والتقاليد التى تحكمها؟. اتصلت بى فتاة فى أواخر شهر رمضان عن طريق الهاتف، وقالت: نحن نسمع دروسك، وربما كان لها أثر حسن، أرجوك أن تنصح الآباء ألا يعضلوا بناتهم، إن أبى رد ثلاثة من الخطاب أتوا يطلبوننى، والسن تتأخر بى! قلت: لعل فى دينهم، أو مروءتهم ما يصرف النظر عنهم! قالت الفتاة فى يأس: إن الإيمان والأخلاق آخر شىء ينظر إليه! المهم المال والجاه! المهم الحسب والنسب!. ودرست أوضاع الزواج فى أغلب البلاد الإسلامية، فوجدت النفاق الاجتماعى يهيمن على السلوك: كم سيدفع لشراء الحلى والملابس كم سيدفع لإقامة الأحفال والولائم؟؟ كم سيدفع لتقديم الهدايا واقتناء الأثاث العصرى؟. ثم هذا العريس المتقدم من أى قبائل؟ إذا لم يكن من الحزب النازى فلن يصلح لفتاتنا، ولو كان مخترع الأقمار الصناعية... الواقع أن أولى الألباب يحارون فى فهم شبكة التقاليد التى تسود عالمنا الإسلامى! وهم يوقنون بأنها بعيدة عن تقوى الله، ورعاية المصالح... إن الجماهير تغض الطرف عمدا عن مسالك للشباب قبل الزواج تذبح فيها أعراض، وتبيد فضائل، إلى أن يتيسر الزواج وفق المواصفات التى وضعها الشيطان!. وعندما تكون الرذيلة جزءا لابد منه فى الحياة الاجتماعية فعفاء على الدين، إنه سيكون عنوانا لا مفهوم له، أو اسما لا حقيقة له، ولا معنى للمسجد بجوار ما خور!. إننى أتأذى عندما تزور الانتخابات فى بلد ما، لا لأن نفرا من الشطار سوف يسرقون مناصب لا يستحقونها- وهذا وحده جريمة- بل مصدر الأذى مرور الكذب فى هدوء، واستقرار شهادة الزور دون اكثراث، ويألف الكبار والصغار أن تطمس الحقيقة دون نكير!. ص _040(1/35)
وأمة تحيا بهذه الخلائق جديرة بالموت..!. ما عرفته من تعاليم الإسلام، ومن سيرة رجاله، أن الدين والخلق قرناء جميعا، وأنه إذا صح الإيمان، وصحت العبادات التى فرضت معه، ازدهرت الفضائل وتعامل الناس بشرف ونبل وتراحم وتسامح، واستخفى الغدر والخبث والشره والزور... الخ. لقد ورثنا ثروة كبيرة من الآداب النفسية والاجتماعية، يتدبرها المرء فيتساءل: إلى أى أفق من الكمال والسناء ترفعنا هذه النصوص لو أننا اعتصمنا بها وحولناها إلى مسالك حية؟. خذ هذه النماذج السريعة: قال رسول الله : " إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام فى شىء، وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا "!. وقال: " إن الله عز وجل ليعطى على الرفق ما لا يعطى على الخرق، وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير". وقال: " تبسمك فى وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة ". وقال: " والذى نفسى بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ". وقال ابن عباس مفسرا قوله تعالى : (ادفع بالتي هي أحسن) الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ـ يعنى المسلمين ـ عصمهم الله وخضع لهم عدوهم..!. وعن النعمان بن بشير كنا مع رسول الله فخفق رجل نعس- وهو على راحلته، ص _041(1/36)
فأخذ رجل سهما من كنانته فانتبه الرجل فزعا، فقال رسول الله : لا يحل لمسلم أن يروع مسلما. وقال رسول الله لأصحابه : تدرون أربى الربا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم! ثم قرأ (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا). وعن أبى كثير السحيمى عن أبيه قال: سألت أبا ذر فقلت: دلنى على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة! قال أبو ذر سألت عن ذلك رسول الله فقال: يؤمن بالله واليوم الآخر، فقلت: يا رسول الله، إن مع الإيمان عملا، قال: يرضخ ـ يعطى مما رزقه الله، قال: أرأيت إن كان فقيرا، لا يجد ما يرضخ منه؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن كان عييا لا يستطيع أن يأمر أو ينهى؟ قال: يصنع لأخرق! قال: أرأيت إن كان أخرق ـ عاجزا ـ لا يستطيع أن يصنع شيئا؟ قال: يعين مغلوبا! قال: أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مغلوبا؟ قال الرسول: ما تريد أن يكون فى صاحبك من خير!! يمسك عن أذى الناس! قلت: يا رسول الله! إذا فعل ذلك دخل الجنة؟ قال: ما من مسلم يفعل خصلة من هؤلاء إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة!. تأمل فى هذا الاستقصاء! وتأمل فى أن خلال الخير هى التى تقود الرجل من يده فتدخله الجنة!. إن السلبية لا تزكى فردا ولا جماعة، والأمة التى تدور حول مآربها وحسب، لا تزيد عن أعدادها من الدواب فى الحقول، أو الوحوش فى الغابات.. وهناك رذائل تتجاوز مقترفيها ويمتد أذاها إلى آماد بعيدة، فالغش فى الامتحانات أو ص _042(1/37)
السلع أو المبانى أو رصف الطرق، أو غير ذلك من شئون الناس خاصة أو عامة، رذيلة مدمرة النتائج، وقد نفى النبى عليه الصلاة والسلام صاحبها من جماعة المسلمين " من غشنا فليس منا" . والواقع أن فشو الغش فى مجتمعنا، وقلته فى مجتمعات أخرى هد ركننا وأضعف قوانا وزعزع الثقة فينا!. وبعض الجامعات الكبرى ترفض الإجازات العلمية الممنوحة من بعض معاهدنا لأنها لا تطمئن إلى قيمتها، كما أن بعض المستهلكين يرفض السلع التى نصنعها لأنه لا يطمئن إلى جودتها! أفيشرفنا هذا الوضع؟. وكما نفى النبى أن يكون الغشاشون من الأمة نفى أن يكون الهابطون بأقدار الكبار، الجاحدون لمكانة العلماء من الأمة " ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ". والحق أن فواجع رهيبة أصابت المسلمين بسبب غمط الأذكياء وتقديم الأغبياء، والعرب يرجحون عصبية الوطن والنسب على الكفاءة العلمية والادارية، والمستبدون من الحكام يقدمون مشاعر الزلفى والملق على القدرة الرائعة والخبرة الواسعة. وقد كنت أوازن بين قادة الشيوعية والصليبية من ناحية وقادة المسلمين من ناحية أخرى فأشعر بغصة، القوم يقدمون أعظم من لديهم ونحن نقدم ما تيسر...!!. والأخلاق ليست شيئا يكتسب بالقراءة والكتابة أو الخطابة والدعاية إنها درجة تكتسب بالمعاناة الشديدة، كيف تنتقل من أدنى إلى أعلى؟ كيف تنتقل من الطراوة إلى الصلابة؟ والمرء فى هذا الميدان يصنع نفسه، وهو أدرى الناس بما يشينه من كسل أو بخل أو ص _043(1/38)
خوف.. الخ، فيرسم طريق الشفاء ومراحل الخلاص، ولا يزال يتابع السير، ويغالب العقبات حتى يبرأ من علله.. على أن للجماعة الإنسانية دخلا كبير فى إدراك هذا النجاح، وقد علمنا أن هناك بيئات تنبت الذل وأخرى تنبت العز، وبيئات تنبت التواصل والتعاون وأخرى تنبت التحاقد والتحاسد. وكان فى الامكان أن تتألف جماعات أو مدارس أو طرق لهذه التزكية المنشودة، بيد أن رجال الطرق لدينا اعتمدوا على أوراد وبدع لا خير فيها، وفقدوا المقدرة العلمية والعملية على التسامى بأنفسهم وبالأجيال، فأساءوا ولم يحسنوا، ومن هنا لم تجد الأخلاق التربة التى تزكو فيها وتزهو.. وعاش الناس وفق ما أتيح لهم من طبائع وتقاليد... وكم كنت أود لو وجد الأستاذ المخلص الذى يتعهد الناشئة ويبصر ميولهم ومسالكهم، فيقوم ما اعوج بأناة، ويصلح الأخطاء بمحبة، ويحل العقد النفسية وينشط الملكات الذكية ولا يزال يصحبها بتوجيهاته حتى يخلق من الأطفال الصغار أبطالا كبارا، كل يمضى حسب قدراته (ولكل وجهة هو موليها). وعصرنا لا يسمح بوجود هذا الأستاذ، لأنه أوقد جذوة التنافس بين الناس، وبغض لكل امرئ وضعه، فهو لا يبقى فيه إلا ريثما يتحول عنه إلى منصب أعلى. ويغلب أن ينتقل هذا الأستاذ من منصبه العلمى إلى منصب ادارى أحظى لدى الناس، فلا يبقى فى ميدان التربية الحقيقية إلا من فاتته القافلة وأكرهته الأيام على البقاء..!. والأخلاق لغة عالمية تتفاهم بها الشعوب على اختلافها، وتتحاكم إلى منطقها، وربما اختلفت تقاليد وأحكام، لكن الأخلاق تظل مرتكزة إلى ما أودع الله فى الفطر من تحسين الحسن وتقبيح القبيح.. ص _044(1/39)
ونحن نعلم من ديننا أن من أركان النفاق الكذب فى الحديث، والخلف فى المواعيد، والخيانة فى الأمانات، والغدر فى العهود، والفجور فى الخصومات.. والناس فى المشارق والمغارب ما ينكرون شيئا من هذا، وما يحترمون كاذبا ولا غادر،.. إلا أننا نلفت الأنظار إلى حقيقة لها خطرها، إن الأخلاق فى أرضنا تتصل اتصالا وثيقا بالإيمان، فإذا اهتزت العقيدة ظهر النقص، ونجم الإثم، واضطربت الأمة كلها. وقد أصابنا الاستعمار العالمى فى صميمنا عندما أوهى الإسلام واستبعد إيحاءه فى الحياة العامة، لقد تبع ذلك انهيار خلقى محزن، وميوعة لا تستقر فيها على شىء!. ربما كانت للقوميات الأخرى فلسفات تتماسك بها، أما فى دار الإسلام فإنه مع استبعاد الإيمان ومواثيقه وشعائره انحلت الأفراد والجماعات على نحو لم تعرفه بلاد أخرى، وتبجحت الخيانة، وفجر الأقوياء، ولصق الضعاف بالحضيض، وصار طلب الخبز النداء الأول! وارتضى الكثيرون أن يفوزوا من الغنيمة بالإياب..!. ولكى يعود سلطان الأخلاق إلى عرشه يجب أن يعود اليقين إلى الأفئدة، وأن تألف الجماهير الصلاة، وأن تنتصر الفضائل على الشهوات، وألا يحترم كذوب أو يتقدم مفرط. وأرى أن يتم تصنيف الأخلاق وفق مقتضيات العصر، فهناك أخلاق تشرح بدقة فى التعامل بين الحكام والجماهير، وأخرى بين الجنسين فى شتى الميادين، وأخرى بين العمال وأصحاب العمل، أو بينهم وبين العمل نفسه.. وفى الإسلام مدد لا يغيض لهذه الغايات كلها. ص _045(1/40)
فى عالم المرويات قرأت هذه الرواية المنسوبة إلى الشعبى ـ وهو من التابعين ـ وضقت بها ضيقا شديدا. وقبل أن أنقلها ألفت الأنظار إلى تفاهة نفر من الناس يعيشون داخل قوقعة من أهوائهم ثم يحاولون عقد صلح بين الدين الحنيف وأهوائهم الشاذة!. هذا امرؤ مصاب بجنون العظمة، تقول الرواية: إنه قصد الكعبة طالبا من الله أن يمنحه ملك العالم الإسلامى، فإذا خرج عليه أحد أمكنه الله من ضرب عنقه (!) أى دعاء هذا؟. وهذا امرؤ آخر متواضع يطلب ملك العراق فقط، بيد أنه يضم إلى هذا الطلب الزواج من امرأة بعينها، سمتها الرواية!. لم أشك فى أن الرواية مكذوبة، وأن الشعبى أعقل من أن ينقل هذا الهراء لكن الذى أهمنى هو سوء تصور بعض الناس لحقائق الدين ومراميه، فليس الدين كبتا للشهوات الجامحة، وليس رفعا لمستوى النفس، وليس نشدانا للآخرة، بل هو جراءة على الوقوف بين يدى الله لطلب ما لا يليق منه- سبحانه وتعالى..!. والغريب أن القصة تنتهى بدعاء من الصحابى الكريم عبد الله بن عمر، فإنه لما رأى أولئك النفر يسألون الله الدنيا ومتاعها ذهب هو إلى الكعبة وطلب من الله الجنة. قال الراوى: فبشره الله بإجابة سؤله! كيف بشره؟ سلبه بصره! ومن صبر على العمى دخل الجنة!!. ص _046(1/41)
ولأنقل الرواية بعد هذه التقدمة... فهى نموذج لتفكير أقوام يعيشون فى عالم المرويات التى لا يضبطها فقه ولا وعى... نقل ابن ظهيرة عن الشعبى أنه قال: رأيت عجبا كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن الزبير وأخوه مصعب وعبد الملك بن مروان فقالوا بعد أن فرغوا من حديثهم ليقم رجل بعد رجل فليأخذ بالركن اليمانى وليسأل الله تعالى حاجته فإنه يعطى من سعة، ثم قالوا لعبد الله قم أولا فإنك أول مولود فى الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليمانى ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى الحجاز ويسلم على بالخلافة وجاء وجلس، ثم قام أخوه مصعب فأخذ الركن اليمانى فقال: اللهم إنك رب كل شىء وإليك كل شىء أسألك بقدرتك على كل شىء ألا تميتنى من الدنيا حتى تولينى العراق وتزوجنى سكينة بنت الحسين وجاء وجلس، ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن اليمانى وقال : اللهم رب السموات السبع والأرض ذات النبات بعد القفر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتنى حتى تولينى شرق الأرض وغربها ولا ينازعنى أحد إلا أتيت برأسه ثم جاء وجلس. ثم قام عبد الله بن عمر حتى أخذ بالركن ثم قال: الله يا رحمن يا رحيم أسألك برحمتك التى سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك أن لا تميتنى من الدنيا حتى توجب لى الجنة. قال الشعبى فرأيت كل واحد وقد أعطى ما سأل وبشر عبد الله بالجنة، قال ابن ظهيرة: ولقائل أن يقول: ما الدليل على وجه البشرى؟. والجواب من وجهين: الأول: أن ابن عمر كان قد كف بصره بعد ذلك وقد وعد النبى " من ابتلى بذلك بالجنة " ـ كما فى صحيح البخارى. ص _047(1/42)
والثانى: أن الثلاثة لما أعطوا ما سألوه كان ذلك أدل على إجابة دعاء الجميع إذ هو اللائق بكرم الله وسعة عطائه، وكان سيدنا ابن عمر من الورع والزهد والصلاح بالمكانة التى لا تجهل كما فى مناقبه (كذا فى الجامع اللطيف 42). عندما قرأت هذه الحكاية منسوبة لمحدث فقيه قلت: كيف لم يشعر التابعى الجليل بما فى هذا الدعاء من نكر؟ أيجوز أن يكون عبد الله بن الزبير طالب ملك قاتل دونه ومات فى سبيله؟. ألا يعرف عبد الله أن سؤال الإمارة لا يجوز، وأن طالبها لا يولى وإذا رفضت أن ينسب هذا المسلك لعبد الله، ورفضت أن ينسب مثله إلى أخيه الشجاع مصعب، فهل يجوز أن يطلب عبد الملك أن يمكنه الله من قتل الذين يشغبون على سلطانه الفذ؟. أهذه عبادة الله ! فما عبادة النفس إذن؟. وأنتقل إلى موقف الرجل العابد المجاهد عبد الله بن عمر الذى شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاركه الوثنية، وبقى طيلة عهد الخلافة صواما قواما منكرا لذاته مبتعدا عن الفتن مستغرقا فى طلب الآخرة!. اينسى هذا الماضى الوضىء كله، ولا يستحق به شيئا حتى إذا فقد بصره قيل: هذا بشير الجنة؟. أعرف الحديث القدسى الصحيح " إذا ابتليت عبدى بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة". وفسر النبى - صلى الله عليه وسلم - حبيبتيه بعينيه. وتصبير الإنسان على ما أصابه هو من عزائم الدين! والرضا بقضاء الله طريق لا ريب فيه إلى الجنة... ولكنا نحفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستعيذ بالله من سيئ الأسقام والأوجاع، ومن أدعيته: " اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا؟". أى لا تحرمنا من هذه الحواس ما بقينا فلا تفارقنا ما دمنا على ظهر الأرض. ص _048(1/43)
ترثنا بعد أن نفارق نحن الحياة ولا نرثها ونحن أحياء.. هذه طبيعة البشر، وفطرة الله فى الأنفس، فليس يستحب أحد لنفسه فقد سمع ولا بصر، ولا بشرى فى هذا! فإذا أصيب كما أصيب يعقوب صلوات الله عليه صبر واحتسب وتعلق بثواب الآخرة!. لكن ناقل الرواية التى أثبتناها هنا كان من ضيق الفقه بحيث ذهل عن ماضى ابن عمر الزاهر، وقال: مادام الله قد عجل الإجابة لطلاب الملك والنساء، فالإجابة المعجلة لابن عمر أن يفقد بصره ليدخل الجنة..!. ويؤسفنا أن كثير من النقلة للأخبار مبتلون بهذا التصور العقلى، وذلك ما جعلنى أقول فى كتاب آخر: لا سنة من غير فقه!. وعالم المرويات واسع الأرجاء، ونحن نستقبله كل صباح عندما نقرأ الصحف التى تصدر كل يوم، أليست تروى لنا أنباء ما يقع فى الدنيا؟ وهذه الصحف الناقلة للأخبار أنواع، منها ما هو جاد دقيق نثق فى مصادره ونستريح إلى تعليقاته، ومنها ما هو معروف بالتهويل والاثارة نأخذ الحقائق منه بقدر.. وإذا كانت الصحافة والإذاعة ترويان ما يقع الآن فإن التاريخ السياسى والأدبى يروى لنا ما وقع فى الماضى القريب والبعيد... والماضى سناد الحاضر، وكثير من التيارات المعاصرة تنبجس من الأيام الخالية! ونحن نقرر ذلك لندرك أن التعامل مع عالم المرويات لا محيص عنه، ولا عيب فيه.. إنما يكمن العيب فى تلقى الأخبار دون تمحيص، وفى قبول الروايات دون روية، والأمم ذوات الأديان تعتمد فى إيمانها وسلوكها على ما آل إليها من تراث، ولسنا- نحن المسلمين- بدعا فى الاستقاء من الوحى الذى نزل، استفتاؤه فى أمور كثيرة. ومن الواجب أن نعرف كيف تلقينا ما جاءنا، فما كنا، ولن نكون، أتباع أوهام! إننا ص _049(1/44)
نصدق ما لا يكذبه عاقل! ولدينا من مقاييس النقد مالا يعرفه الآخرون.. ولنذكر بادئ ذى بدء أن القرآن الكريم أساسنا، وهو كتاب ثابت ثبوت السماوات والأرض والليل والنهار، وحوله سياج من التواتر جعله محفوفا باليقين من جهاته كلها... والكتاب تحفظه عن ظهر قلب جماهير من المؤمنين وهو معروض على أولى الألباب فى كل آن يتدبرونه ويتساءلون عما يعن لهم فيه.. ونحن المسلمين نرى فى القرآن الكريم جميع الحقائق التى كلف المرسلون الأوائل بتبليغها، وأنه إلى آخر الدهر مجمع العقائد والشرائع التى تكفل للناس الهدى والاستقامة، وأنه مصون من التزيد والتحريف اللذين تعرضت لهما كتب أخرى، وأنه يمكن القول الجازم بأن الوحى الآلهى للناس أجمعين، فى القارات كلها قد استقر فى هذا الكتاب وحده. ونجىء بعد ذلك إلى سنة محمد خاتم النبيين لنقول: إن ما تواتر منها واشتهر وصح جدير بالثقة، وأنه امتداد للقرآن يمشى فى سناه ولا يزيغ عنه!!. والواقع أن علماءنا الأقدمين وضعوا لقبول المرويات ضوابط يتأملها العقل العادى، فيستريح إليها، وقد قلت: إن هذه الضوابط لو عرضت على الماديين أنفسهم ما لا حظوا عليها مأخذا. وما نستطيع أن نجد ضمانات أخرى فوق الضمانات التى اشترطوها لمنع الأخطاء عن النقول المروية... ولا نقبل من أحد أن يقول: نرفض كل هذه المرويات لأن الوهم قد يتسرب إليها، لأننا لا نقبل من أحد أن يقول: نرفض التاريخ كله لأن التاريخ يغلب أن يكتبه المنتصر، ولا نقبل من أحد أن يقول: أرفض قراءة الصحف لأنها قد تروى الشائعات. أقرأ وأنقد وأزن وأرجح وأبحث عن الحق ما استطعت وأتجرد من الهوى، فهذا هو النهج!. ص _050(1/45)
وعلماؤنا الأقدمون مشوا فى هذا الطريق، والأمة الإسلامية فى تاريخها الأول كانت أمة حقائق لا أوهام، ولم تكن للخرافات أسواق رائجة كما يحدث الآن... كان للفقه علماؤه، وكان للحديث علماؤه، وربما ذهل الآخرون فى شىء فيستدرك عليهم الأولون، وقد يكون العكس، وإن كان تاريخنا العلمى قد جعل الفقهاء أصحاب القيادة وجعل الجماهير تتبع مذاهبهم عن اجتهاد طورا وعن تقليد أغلب الأحيان... والذى نلحظه آسفين أن كثيرا من جامعى السنن قد تساهلوا فى قبول أسانيد ضعيفة، وأن هذا التساهل زحم ميدان السنة بآثار ما كان ينبغى أن تذكر.. وإذا كان من شرط الحديث الصحيح أن يخلو من الشذوذ والعلة القادحة فإن كثيرين نقلوا ما خالفوا به الثقات، ونقلوا ما به علل ترده ! ومع ذلك سطروا وحبروا، وتركوا للأخلاف ما عكر المجرى، وبلبل الفكر. إن رجلا جليلا كالبخارى ترك أحاديث كثيرة مرت به فلم يرها أهلا للتدوين، ومن هنا لم يجمع فى صحيحه إلا ألفين وبضع مئات من السنن.. على حين جمع غيره آلافا وآلافا من الآثار تحتاج فى غربلتها ـ حسب مقاييس علمائنا ـ إلى جهد جهيد.. ولأذكر مثالا واحدا للبلاء الذى أصاب الجماعة الإسلامية من تسجيل الأحاديث الضعيفة وتركها تشغب على معالم الدين، ومعاقده! من تلاوتنا للقرآن الكريم نعى أن الله خلق لنا ما فى الأرض جميعا، ومكننا منه وملكنا إياه.. ألسنا جزءا من البشر الذين قال الله لهم. (...وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). ص _051(1/46)
وصاحب هذه الامكانات المتاحة مكلف أن يتصرف فيها بما يرضى الله ، كما تصرف سليمان فى نقل عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين ثم قال : (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر). هل يقبل من أحد أن يستقبل من هذه الوظيفة، ويحيا صفر اليدين، ويفر من أعباء التكليف، ويقول: أنا زاهد فى الدنيا...!!. وما مستقبل الإيمان ودولته على ظهر الأرض إذا كان الأتباع جماهير غفيرة من أولئك المستقيلين الهاربين؟؟. إن أعدادا كبيرة من المسلمين زعموا أن صاحب الرسالة آثر الفقر على الغنى، ودعا إلى قلة ذات اليد، وبهذه الفلسفة الجبانة نشروا الفقر فى الأمة الإسلامية من عدة قرون، وجعلوها لا تحسن إدارة مفتاح فى خزائن الأرض! الأمر لا يستحق هذا العناء!!. فلننظر: هل جاء فى سنة صاحب الرسالة تحقير للغنى وتأخير لأصحابه وذم لأنشطتهم؟. فى السنة الصحيحة لا يوجد شىء من ذلك! بل الذى رواه البخارى " لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمهما ". والأحاديث كثيرة فى توكيد هذه القاعدة الاجتماعية الرشيدة، فالعالم الأول فى عصرنا يقوم على المال والعلم، والعالم الثالث يقوم على الفقر، والجهل البسيط. أو المركب!!. ومع ذلك فقد روى نقلة السنن عشرات الأحاديث تحت عنوان " الترغيب فى الفقر وقلة ذات اليد وما جاء فى فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين.. ". وقد ساءنى فى إحدى المحاضرات أن المتحدث ـ هو من العلماء المرموقين عمر عبد الرحمن بن عوف، ناقلا حديثا نبويا يفيد أن عبد الرحمن ـ لكثرة ماله لا يدخل الجنة إلا ص _052(1/47)
حبوا ـ قلت له : هذه الأحاديث وأشباهها معلولة لا يجوز أن تروى!. وأنا وفق القواعد القرآنية والنصوص القاطعة أرفض هذا الحكم.. أليس يقول الله فى عبد الرحمن وأشباهه (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا …). وعبد الرحمن أسلم يوم كان المسلمون يعدون على أصابع اليد، ومنذ أسلم سخر نفسه وماله لله، فهل جريمته أنه صاحب مال سلطه الله على هلكته فى الحق؟ أذلك الذى يؤخر مكانته ويضع درجته؟. إن علماءنا قالوا بوضوح فى علم الحديث: إذا خالف الثقة الأوثق فحديثه شاذ، فإذا كان المخالف ليس ثقة فحديثه منكر أو متروك! لماذا لم نطبق القواعد العلمية الموضوعة المحترمة على هذا السبيل من المرويات التى ضارت مجتمعنا وأوهنت قواه..؟. لقد رأيت الأمة الإسلامية محكومة بجملة من الأحاديث المتروكة والمنكرة والشاذة! ورأيت هذه الأحاديث تطرد أمامها المتواتر والمشهور والصحيح! كما تطرد العملة المزيفة العملة الصحيحة!. ولا أدرى كيف استطاعت هذه الأحاديث تنويم حملتها، ولا أزال أعجب كيف أن رجلا من أساطين المحدثين كابن حجر يعترف بحديث الغرانيق وهو أكذوبة غليظة، وإن كان يضعفه، لكنه يرى له أصلا، أى أصل غفر الله لك؟. وكذلك فعل مع حديث " أفعمياوان أنتما؟ " مع أن الروايات الصحيحة فى البخارى ومسلم ترده، وتجعله حديثا لا وزن له... ورأيت ابن كثير يروى حديثا أن سورة الأحزاب كانت فى طول سورة البقرة (!) وأن النسخ عرض لأكثرها فبقى منها ما بين أيدينا! قلت أينزل الله وحيا فى نحو ثلاثين صفحة ثم يمحو منه ثلاثا وعشرين أو أربعا ص _0 ص(1/48)
وعشرين صفحة ويدع الباقى؟ إذا لم يكن هذا الكلام علة تقدح فى الحديث فما تكون العلل القادحة؟ هذا حديث لا يساوى المداد الذى كتب به. والأحاديث الصحاح من رواية الآحاد تفيد العلم المظنون لا العلم المستيقن، وقد اتفق علماؤنا على العمل بها فى فروع الشريعة. ورأيت قلة من الظاهرية والحنابلة يرون العمل بالآحاد فى القضايا القطعية، بيد أن هذا رأى مردود، وعلى أية حال فعقائدنا تعتمد على نصوص متواترة، سواء كان التواتر لفظيا أو معنويا. والقدر الذى لابد منه من العبادات والأخلاق والمسالك المنجية عند الله مروى بهذا الطريق. وأكثر ما وقع من خلاف هو فى أمور ثانوية، الاجتهاد فيها من أهله مأجور خطأ كان أم صوابا، ولا تهولنك وجهات النظر الكثيرة فى المذاهب الفقهية، فإن الخصام فيها نوع من الجنون الذى يسود بين الدهماء، ويجب أن يتنزه عنه أولو الألباب.. ذلك، ويرى أبو حنيفة أن " الفرض " ما ثبت بدليل قطعى لا شبهة فيه، أما ما يثبت بدليل ظنى كأحاديث الآحاد، فإنه يكون دون الفرض.. والأئمة الكبار يحسنون التنسيق بين أدلة الكتاب والسنة، وفى علم أصول الفقه متسع لمن أراد الاستزادة، وإنما ذكرت هذا الكلام لأنى فى ميدان الدعوة الإسلامية وجدت ما يستحق الشرح والتعليق، عند الاستشهاد بشتى الأحاديث.. إننى آبى كل الإباء أن أربط مستقبل الإسلام كله بحديث آحاد مهما بلغت صحته، كيف أجازف بعقائد ملة شامخة الدعائم عندما أقول: لا يؤمن بها من لم يؤمن بهذا الحديث الوارد؟. أقول ذلك لأنى وجدت فى تجاربى، وفى قراءاتى ما يحتاج إلى إزالة الريبة وكشف الحق، قال الباقلانى يصف ما دار بينه وبين ملك الروم من حوار حول صحة الإسلام، ص _054(1/49)
"قال الملك: هذا الذى تدعونه معجزة لنبيكم فى انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو عندنا صحيح! انشق القمر على عهد رسول الله حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحضور، ومن صادف نظره إليه فى تلك الحال! فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على موعد وأهبة ليروا انشقاقه! قال الملك: أبينكم وبين القمر نسب، أو قرابة؟ لأى شىء لم تر ذلك الروم وسائر الناس؟ وإنما رأيتموه أنتم خاصة ! قلت : فهذه المائدة- التى أنزلها الله على عيسى ـ بينكم وبينها قرابة؟ لماذا رأيتموها أنتم وحدكم دون اليهود والمجوس والبراهمة وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم؟ فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم؟ ". وقبل أن أذكر رأيى فى هذا الجدال، أذكر للقراء أن صاحب إظهار الحق تعرض لهذه القضية، ورد على أتباع الكتاب المقدس بأدلة أخرى أشد قوة وأكثر إقناعا مما ذكره الشيخ الباقلانى... وكأنه يقول لهم : إن اعتراضكم على قصة الانشقاق يرتد اليكم فيهدم مقررات عندكم لها مكانتها، بل قد يحجب الثقة عن مراجعكم العتيدة، ويجعلها مستحيلة الصدق، وقد فصل كلامه فى سبعة وجوه نجتزئ منها بوجهين اثنين : الوجه الأول : تقولون إن طوفان نوح امتد سنة كاملة، فنى خلالها كل ذى حياة من الطيور والبهائم والحشرات والإنسان، ما عدا أهل السفينة، وما نجا من بنى الإنسان غير ثمانية أشخاص على ما هو مصرح به فى الباب السابع والثامن من سفر التكوين.. وقد أيد ذلك بطرس فى رسائله الأولى والثانية، وأكد أن العالم القديم فنى إلا ثمانى أنفس. قال الشيخ رحمه الله: إن حادثة الطوفان كما يذكر أهل الكتاب مضت عليها 4212 ص _055(1/50)
سنة شمسية ـ كتاب المؤلف ظهر منذ قرن تقريبا ـ وهذه الحادثة العامة الطامة لا يعلم الهنود عنها شيئا، قال ابن خلدون: اعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان، ويقول بعض الفرس: إنه كان " ببابل فقط "!. والحق الذى نجزم به أن الطوفان وقع لقوم نوح وحدهم، وأن أوربا وإفريقية والأمريكيتين وأكثر آسيا الكبرى لم يغمرها الطوفان، ولماذا يحكم الله عليها بالغرق وهى لا تعرف نوحا ولم تسمع به؟؟. وظاهر من التاريخ العبرى أن الطوفان وقع بعد عصر بناة الأهرام فى مصر، والمصريون ما تعرضوا للطوفان ولا غرق من أرضهم شبر!. ومعنى ذلك أن ما ذكره سفر التكوين عن هلاك العالم القديم كله لا أصل له. الوجه الثانى: جاء فى الباب العاشر من كتاب يوشع وفق الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 م ما يلى: " 12 حينئذ تكلم يسوع أمام الرب فى اليوم الذى دفع " الأمورى " فى يدى بني إسرائيل وقال أمامهم: أيتها الشمس مقابل " جبعون " لا تتحركى " (!) والقمر مقابل قاع أيلون 13 فوقفت الشمس والقمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم، أليس هذا مكتوبا فى سفر الأبرار، فوقفت الشمس فى كبد السماء، ولم تكن تعجل إلى الغروب، يوما تاما؟. وفى الباب الرابع من الحصة الثالثة من كتاب تحقيق الدين الحق المطبوع سنة 1846 م ص 362 يقول: " أما غربت الشمس ـ أى تأخر غروبها ـ بدعاء يوشع إلى 24 ساعة "؟. وتوقف الشمس فى الفلك، وعدم جنوحها إلى الغروب مدة يوم كامل كما يروون وقع قبل الميلاد سنة1450. مَن مِن أهل الأرض يذكر هذه الحادثة؟ إن أحدا من كتاب التاريخ لم يشر إليها أو ص _056(1/51)
يتحدث عنها، وإذا كان عدم العلم العام بانشقاق القمر قادحا فى صحة الرواية، فالأمر كذلك فى توقف الشمس ليوشع، بل إن توقف الشمس يوما، أو بعض يوم أوغل فى البعد وأجدر بالإنكار.. ولأترك ما قاله صاحب إظهار الحق ولأعد إلى حوار الباقلانى مع ملك الروم! إننى لو كنت مكان الرجل، وسألنى هذا القيصر عن انشقاق القمر لقلت له كلاما آخر..!. لقلت له: أيها الإمبراطور الكبير إن سلفا عظيما سبقك فى حكم الرومان جاءه كتاب من رسولنا يقول له فيه " أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين " ثم يختم كتابه بقول الله تعالى (... يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). أيها الإمبراطور، إن نبينا عندما كاتب سلفك، لم يذكر له خارقة من خوارق العادات التى عرضت له، وإنما خاطب عقله، واستثار أنبل ما فى نفسه، وذكر له أنه باقي على إسلامه. فإن رفض ملك الروم هذه الإجابة منى قلت له: إن شرحت صدرا، بعقيدة التوحيد، ورفضت من الناحية التاريخية انشقاق القمر وتوقف الشمس، فأنت مسلم مقبول الإيمان. ولا يصدنك عن دين الله خبر راو من الرواة حفظ أم نسى واعلم أن من مفكرى المسلمين ومفسرى دينهم من اعتبر الانشقاق من أشراط الساعة، وأن من المتكلمين من توقف فى أخبار الآحاد، كما قال إبراهيم النظام: " إن القمر لا ينشق لابن مسعود وحده " وابن مسعود هو الذى روى عنه الحديث المذكور... ربما قال لى قائل: كيف تتهاون فى حديث صحيح على هذا النحو؟ وأجيب إن ردّ ص _057(1/52)
حديث بالهوى المجرد مسلك لا يليق بعالم، وقد رد أئمتنا الأولون أحاديث صحاحا لأنها خالفت ما هو أقوى منها عقلا ونقلا.. وبذلك فقدت مقومات صحتها، ومضى الإسلام بمعالمه ودعائمه لا يوقفه شىء! وقد قلت: إننى لا أربط مستقبل ديننا بحديث آحاد يفيد العلم المظنون، وأزيد الموضوع بيانا فأقول: إننى أومن بخوارق العادات، وأصدق وقوعها من المسلم والكافر والبر والفاجر، وأعلم أن قانون السببية قد يحكمنا نحن البشر بيد أنه لا يحكم واضعه تبارك وتعالى.. وعندما قرأت حديث الانشقاق شرعت أفكر بعمق فى موقف المشركين، إنهم انصرفوا مكذبين إلى بيوتهم ورحالهم بعدما رأوا القمر فلقتين عن يمين الجبل وشماله، قالوا: سحرنا محمد، ومضوا آمنين سالمين لا عقاب ولا عتاب..!. قلت: كيف هذا؟ فى سورة الأنبياء يحكى الله سبحانه سر كفر المشركين بنبيهم محددين مطلبهم منه (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) ويحكى القرآن لماذا لم يجابوا إلى مطلبهم (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) إن التكذيب بعد وقوع الخارق المطلوب يوجب هلاك المكذبين!. فكيف يترك هؤلاء المكيون بدون توبيخ ولا عقوبة بعد احتقارهم لانشقاق القمر؟. ويؤكد القرآن الكريم هذا المنطق فى سورة الإسراء (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) فإذا كان إرسال الآيات ممتنعا لتكذيب الأولين بها فكيف وقع الانشقاق؟.. بل كيف يقع أو يقع غيره والله يقول فى سورة الحجر (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون). ص _058(1/53)
ثم إن المشركين فى مواطن أخرى ألحوا فى طلب الخوارق الحسية (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها …) فلماذا لم يقل لهم: سبق أن انشق لكم القمر فكذبتم؟ أيمر هذا الحدث ليعقبه صمت تام؟.. وفى سورة أخرى قيل للكافرين وهم ينشدون المعجزات الحسية: حسبكم القرآن فيه مقنع لمن نشد الحق (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم …). إن مئات الآيات فى سور كثيرة طوال العهد المكى دارت فى إثبات الرسالة على محور واحد، إيقاظ العقل وتعريفه بربه واعتبار صاحب هذا الوحى إمام السائرين إلى الله المعتصمين بحبله، وتجاوزت مقترحات الكفار أن يروا آية مادية معجزة.. من أجل ذلك لم أقف طويلا عند حديث الانشقاق وأبيت بقوة أن أربط مستقبل الدعوة به أو بغيره من أحاديث الآحاد التى تصطدم بأدلة أقوى منها.. ولست بدعا فى هذا المسلك، فأبو حنيفة ومالك ردوا أحاديث من هذا الطراز عارضها من دلالات القرآن ما هو أقوى منها.. إننا لا ننكر الخوارق من حيث هى، وإنما نناقش الأسانيد التى جاءت بها، ونوازن بين دليل ودليل، وإيماننا بالخوارق هو الذى جعلنا نحن المسلمين نصدق بميلاد عيسى من غير أب، فالقرآن قاطع فى هذه القضية وإذا ثبت قول الله فلا كلام لأحد..!. والقاعدة أن خبر الواحد يعمل به ما لم يكن هناك دليل أقوى منه فيصار إليه.. ونحن فى ميدان الدعوة الإسلامية نواجه ماديين لا يؤمنون بشىء، وكتابيين يؤمنون ص _059(1/54)
ببعض ما عندهم ويكفرون ببعض، ومسلمين زحزحهم الغزو الثقافى عن قواعدهم فهم يتبعون كل ناعق.. ومن ثم يجب أن تكون الدعوة للأركان المستيقنة، وأن يبتعد الدعاة عما اختلفت فيه أنظار المسلمين أنفسهم، وفى القطعى ما يغنى عن الظنى، وفى الكتاب الكريم وما اشتهر من السنن غنية عن الغرائب والآراء الاجتهادية.. لقد راقبت الموضوعات والشواهد التى يعيش كثير من الناس فى جوها فوجدت خليطا مزعجا من مرويات نصفها واه، والنصف الآخر لا يكاد يفهم على وجه الصحيح إلا نادرا، قلت: كيف تنجح دعايتنا للإسلام بهذا الأسلوب؟. إنه على قدر العناية بالثانويات يقل الاكتراث بالأصول! ولا يجوز ربط ديننا العظيم بأمور ما دارت فى خواطر الصحابة والتابعين وهم ينشرون الإسلام فى المشارق والمغارب... وحتى لا يفهم البعض أننى أنكر خوارق العادات، أذكر أننى قرأت فى الصحاح من كتب السنة قصصا تنضح بالصدق والخير، عرضت للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مع صحابته، أعنى أنها وقعت بين قوم مؤمنين لتزيدهم إيمانا، وإذا نقلت إلى كافرين محت من نفوسهم ظلمات. وفى دراستى للملل والنحل، قرأت قصصا مشابهة لها تمام الشبه فى بعض الأناجيل! فعجبت لهذا الاتفاق، وقبل أن أنقل ما رواه البخارى من تكريم الله لنبيه. أقول: إن رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختص من بين إخوته السابقين بمعجزة عقلية عامة دائمة، أو حسب تعبيره صلوات الله عليه " أوتيت وحيا يتلى " ثم شق طريق البلاغ وسط أنواء وأعباء تهد الكواهل الشداد، ولكنه وفق السنن المعتادة أدى الأمانة ونجح كما لم ينجح أحد.. وفى أثناء ذلك قد يجوع وهو يواجه أزمة، أو يرهقه حصار! وقد يحرج ويهزم فى إحدى مراحل الجهاد، أو قد يتبعه الرعاع بالحجارة يدمون قدمه وهو عائد من محاولة ضائعة الثمرة. ص _060(1/55)
وهو مع وثاقة الإيمان يهتف بربه: " إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى!. من أولى بأن تخرق له العادات أحيانا من هذا الرسول؟ فانظر بعض ما يروى من ذلك. روى البخارى عن اسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة: أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شىء؟. قالت: نعم فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا، لها فلفت الخبز ببعضه ، ثم دسته تحت يدى، ولا ثتنى ببعضه، ثم أرسلتنى إلى رسول الله قال: فذهبت به فوجدت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لى رسول الله : أأرسلت أبو طلحة؟. فقلت: نعم. قال: بطعام؟. قلت: نعم، ويظهر أن رسول الله أبى أن يأخذ ما أرسل إليه من طعام وقرر شيئا آخر جاء فى بقية الحديث. فقال رسول الله لمن معه قوموا، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله بالناس وليس عندنا ما نطعمهم!. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه، فقال رسول الله : هلم يا أم سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففُتَّ، وعصرت ص _061(1/56)
أم سليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: ائذن لعشرة، فأكل القوم كلهم حتى شبعوا. والقوم سبعون أو ثمانون رجلا؟. ونترك هذه الصورة العجيبة، ونقلب فى كتاب التاريخ، لننظر صورة أخرى مشابهة وقعت لنبى الله عيسى بن مريم، وهو من المرسلين أولى العزم، وقد كافح فى سبيل الله وتحمل من اليهود بلاء شديدا. وقد كان مع عيسى حواريون آمنوا وثبتوا معه، وشاء أن يريهم آية من آياته التى بها نبيه عيسى ننقلها من كتاب " متى " لما فيها من شبه بما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام. 14- فلما خرج يسوع أبصر جمعا كثير، فتحنن عليهم وشفى مرضاهم. 15- ولما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين: الموضع خلاء، والوقت قد مضى، 16- اصرف الجموع يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعاما، فقال لهم يسوع: لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا 17- فقالوا له: ليس عندنا ها هنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان 18- فقال ائتونى بها إلى هنا 19- فأمر الجموع أن يتكئوا على العشب، ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ، والتلاميذ للجموع 20- فأكل الجميع وشبعوا ثم رفعوا ما فضل من الكسر اثنتى عشرة قفة مملوءة 21- والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل، ما عدا النساء والأولاد. ص _062(1/57)
ونلفت الأنظار إلى أن تلك الخوارق لم تقع بين كفار يجحدون، وإنما وقعت بين مؤمنين استقر فى صدورهم اليقين، وهنا قد يسأل سائل: ألم يكن الكفار أولى برؤية هذه الخوارق ليؤمنوا؟ ونجيب بأن الذين كفروا من قبل قد قست قلوبهم واستغلقت عقولهم فهم لن يتغيروا برؤية المعجزات التى يظهرها الله على أيدى رسله، وإذا رأوها فسيقولون: سحر، أو شعوذة، أو أى شىء آخر. ولعل ذلك هو السر فيما رواه متى عن عيسى عليه السلام لما طلبت منه اية: " جيل شرير فاسق يلتمس آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان " يونس " النبى، وتركهم ومضى". وقد أكد مرقس هذا المعنى [ 8: 11- 12 ] فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكى يجربوه، فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية! الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية.. ". وفى الأجيال المتعصبة المستكبرة على الحق يقول الله تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم). إن عالم المرويات ممدود الأرجاء، وما نحب أن يشتغل كل الناس بالتجوال فيه، فإن ذلك لا يصلح له إلا رجل يجمع بين أمرين : الأول معرفة المقبول من المردود، الثانى معرفة الصحيح على وجهه المراد، فقد رأيت ناسا يروون الحديث الصحيح بيد أن معناه فى عقولهم باطل! وقد أصاب الإسلام من هؤلاء ضر شديد!. بل إن فسادا واسعا وقع فى عالم الاقتصاد، وفى فقه العلاقات الدولية، وفى العلاقات بين الجنسين، وفى بيان أصول الحكم بسبب العوج فى الفهم، أو القصور فى الفقه اللذين يصيبان مشتغلين بالمرويات. والواجب أن تزداد عناية المسلمين بفقه الكتاب، فإن النكبة فى هذا الفقه لا يداويها الاستبحار فى السنن، كما أنه لابد من ذوب العقول الكليلة عن العبث بما يقع بين يديها من مرويات، فهى تسىء أكثر مما تحسن ص _063(1/58)
أمة بخير يجب أن تؤدى رسالتها بعد النومة الطويلة أو الاغماءة الطويلة التى أصابت المسلمين فى الأعصار الأخيرة، جاءت يقظة مرجوة الخير، وشرع العامة والخاصة يمسحون عيونهم ويحركون أعضاءهم ويعملون على استئناف المشوار العتيد!. ونظرت إلى أمتى ترمق المستقبل بأمل، وتنشط كى تتقدم وتزاحم وتسبق، ولكنها لا تتقدم خطوة حتى تحاصرها العقبات، وتقفها المتاعب! والمحزن أن هذه المتاعب من عند نفسها أكثر مما هى كيد العدو وسعيه لهزيمتها..!. لقد شعرت بأن أمتنا نسيت رسالتها، أو جهلت هذه الرسالة من زمان بعيد، إن هذه الرسالة من وضع الله لنا لا من مزاعمنا لأنفسنا، أو دعاوانا لجنسنا..!. والأمة التى لا تعرف لها هدفا قد تتحرك فى موضعها، أو تتحرك فى اتجاه مضاد، أو تصيب نفسها وهى تريد إصابة غيرها، إن الطيش يحكمها لا الرشد!. وقد حدد القرآن الكريم رسالتنا فى هذا العالم فقال: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) أهى دعوة نظرية إلى الخير فى الملصقات والكتيبات والنشرات العامة؟؟ لا، يجب أن تقدم الأمة من نفسها نموذجا حيا أو أسوة حسنة لما تدعو إليه ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده ). ص _064(1/59)
إن عمل الخير والدعوة إلى الخير، سمات الأمة الظاهرة، وملكاتها الباطنة، ووظيفتها الدائمة، وشهرتها التى تملأ الآفاق، وإجابتها عندما تسأل عن منهجها وغايتها (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا). وما ينتظر من أمة تحمل رسالة السماء وتتبنى دعوة الحق إلا أن تكون حارسة للشرف، مترفعة على الدنايا، متواصية بالمرحمة، منظورا، إليها محليا وعالميا بأنها سند المظلوم وجار المستضعف، ويجب أن تكون قديرة على ذلك وسمحة به!!. وقد بين الله أن الأنبياء ـ وكذلك أتباعهم ـ ليسوا باعة كلام ولا أدعياء فضل بل هم كما شرح فى كتابه (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين). فهل تولت أمتنا هذا المنصب؟ أو هل تأهلت له بفقهها ومسلكها؟ أم زاحمت غيرها على طلب المتاع والتعلق بالدنيا؟ الذى يبدو لى أن المسلمين شعوبا وحكومات- هبطوا دون المستوى المنشود، بل هبطوا دون مستوى غيرهم ممن لم يشرفهم وحى، ويكلفوا بحمل رسالة!. والمرء قد يمشى الهوينى غير آبه لما أمامه إذا كان خالى البال لا يشغله واجب محدد ، أما إذا كان فى سباق مهتم ومع أنداد قادرين أو خصوم قاهرين فإنه يحث الخطى ويجمع العزم ويتجاوز العقبات.. والمسلمون منذ بدأوا تاريخهم ما صفا لهم الجو، ولا خلا لهم الطريق..! فكل استرخاء أو تخاذل سيستغله شياطين الإنس والجن للنيل من الحق وتركه فى المؤخرة والانفراد دونه بالصدارة.. ص _065(1/60)
وهذا ما وقع فنحن المسلمين الآن فى العالم الثالث على حين أمسك بزمام الحضارة من ينكرون الألوهية أو من يتخيلونها " عائلة مقدسة ".. وهم لم يعوقونا عن الانطلاق فى أغلب مراحل تخلفنا، بل نحن الذين فرطنا وتكاسلنا، وتركنا المجال فسيحا أمام غيرنا فمد لما أخليناه. إن عناوين الخير والمعروف- وهى معالم رسالتنا- لم تساندها حقائق قائمة، فكانت النتيجة أن تلاشى صدى هذه الكلمات النبيلة، فاختفى وقعها من نفوس السامعين، وظنت أمم كثيرة أن المسلمين طلاب شهوات أو قطاع طرق، وأنهم يوم يملكون القوة . يسخرونها لإعلاء جنس، وتحقيق أمجاد وطنية أو قومية، وهذا كله إفك! بيد أن المسئول عن انتشار شائعاته أصدقاء جهلة أو عجزة، كما يحمل المسئولية أيضا أعداء مرجفون مريبون. تدبرت هذه الآية (قل إنما أنذركم بالوحي) والآية الأخرى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) فرأيت أن صاحب الرسالة لا يفتح العقول بسكين إنما يفتحها بكلمات الله المنيرة التى تنزلت عليه، وأنه منهى عن طاعة الكافرين مأمور أن يجاهد بهذا القرآن من تنكروا له واعترضوا سيره... وأعلم بدراستى وتجربتى معا أن هناك مستكبرين يستبيحون غيرهم ويجتاحون حقوقه المادية والأدبية، وأن الاستسلام لهؤلاء وضاعة، وترك الحقيقة تداس تحت أقدامهم جريمة! إن هؤلاء لابد من مقاومتهم وحشد أهل اليقين لحسم شرهم!. فى هؤلاء يقول الله لنبيه: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا). ص _066(1/61)
تدبر هذا السياق، وكيف أبرز عدوان المعتدين، وكيف يستعان بالله على كفكفة شرهم، وكسر بأسهم! إن المؤمنين يلقون هجوما فلا يجوز لهم أن يفروا أمامه! ومن أجل الله وفى سبيل الله يتحملون أعباء هذا التصدى. إننا لم نبدأ عدوانا، لقد أنذرنا بالوحى، وجاهدنا بالكلمة، وشرحنا بغيتنا وهى تحقيق الخير والمعروف فى الدنيا، وتحويل الأرض- حيث قدرنا- إلى ساحات عبادة لله وتراحم بين عباده لا يدع فى المجتمع جائعا ولا عاريا ولا محروما ولا محقورا... تلك أهداف أمتنا كما رسمها القرآن الكريم (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). لكن المأساة الكبرى أن هذا الهدف نسيه من فيه، ولم يشغل نفسه ولا قومه بالإعداد العلمى الواسع له، ولم يكلف نفسه محو الشبهات التى أثيرت عمدا حول مقاصده. فمضت الأمة فى طريق ملىء بالغيوم، وأخذت تقاتل دون أن يكون بين يديها عرض جيد للحق، وتطبيق أجود لمبادئه، وكنت أقرأ وأنا طالب أن علاقتنا بغيرنا هى الإسلام أو الجزية أو الحرب!!!!. إن الذى أرسل هذا الكلام على عواهنه نسى الوظيفة الأولى للأمة، وهى الدعوة السليمة وإرسال أشعة كاشفة عما تريده للعالم من رشد وسعادة.. قد يدهش امرؤ لهذا القول ويرد على عجل: كان آباؤنا يَدعون إلى عقيدة التوحيد ويستندون فى جدالهم عنها إلى مواريثهم من كتاب وسنة، فلا عذر لأحد. ونمضى نحن فى توضيح ما نعنى! إن عقيدة التوحيد جذع شجرة باسقة مزهرة مثمرة لها سبعون غصنا، أو سبعون شعبة يلتمس الناس تحتها الظل والجنى، لماذا جعلنا هذه ص _067(1/62)
العقيدة خشبة جرداء لا تغرى أحدا أن يأوى اليها؟ لماذا ترك المجال مفتوحا أمام الأعداء يزعمون أنها شجرة شوك لا زهر فيها ولا ثمر؟. إن الخاصة الأولى للأمة الخاتمة أنها غيورة على الحقيقة، لا تطيق تشويهها ولا إغفالها، ومن ثم فهى لا تسكت عن أمر بمعروف أو النهى عن منكر فإذا بليت هذه الأمة بسلطات تكمم الأفواه، وتدع العامة والخاصة لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فهل هى بذلك الصمت الجبان تبلغ رسالة الله؟ أم هى تقطع الطريق إليها.. لقد أخذ الأحرار على ملك فرنسا لويس الرابع عشر أنه قال: أنا الدولة! يعنى أنه وحده المسئول عن شئونها لا شريك له. فإذا كان " السلطان " فى بلاد الإسلام يردد بلسان الحال أو المقال هذه الكلمة، فما الفرق بين دولة الإيمان ودولة الكفر، وأين يجد الناس ساحة المساءلة والشورى، والأخذ والرد دون تهيب ولا توجس؟؟. إن العقيدة الإسلامية أساس حضارة راشدة راقية ولا يسوغ أن يتدرع بها من يخدمون مآربهم وأغراضهم، ونحن مكلفون بتبليغ رسالة نازلة من السماء لا حمل أوضاع من صنع الناس. أعرف ويعرف غيرى أن الإمامة العظمى فى الإسلام احتكرتها ثلاث أسر خلال اثنتى عشر قرنا، أفلمصلحة الإسلام وعلى هدى تعاليمه تم هذا؟ قد نقول: إن هذا الخطأ لم يؤثر على حقيقة الدين أو على مساره، وهذه إجابة تتطلب وقفة طويلة وشرحا مستفيضا، لا سيما أن ركام الأخطاء الذى آل إلينا على مر القرون جعل المسلمين المعاصرين يضطربون فى الفهم والمنهج، بل جعلهم يظنون أن الحكم من نوازل القدر التى لا ترد، وأن استقباله كاستقبال الآفات والمصائب الوافدة يكون بالصبر والاسترجاع!. وقد أورثتهم هذه الجبرية الخرافية استسلاما واستكانة لضروب الحكم الاستبدادى قلما يعرفان فى جنس آخر...!. ص _068(1/63)
إن الدولة صاحبة الرسالة تكرس قواها المادية والأدبية فى الداخل والخارج لإنجاح رسالتها وشرح حقائقها على نحو رائق جذاب، وليس يجديها زخرف القول إذا كانت صورتها الداخلية دميمة، إذ الناس بعد التروى والتأمل يعولون على الموضوع لا على الشكل.. والوظيفة الأولى لدولة الإسلام أن ترى الأمم الأخرى آفاق الخير الذى تدعو إليه مشرقة فى حياتها هى! فى أخلاقها وتقاليدها وعباداتها ومعاملاتها وآدابها وفنونها وملاهيها وأسواقها وقراها ومدنها، أى فى جميع أنشطتها التى تكشف عن أعمالها وآمالها.. إننا ـ باسم الإسلام ـ ندعو إلى الخير ونفعله، فما وزن هذه الدعوى العريضة وما آثارها؟. إننى أقرر مطمئنا أننا لم نحسن تبصير الجماهير الهائمة فى شتى القارات، وليست لدينا أجهزة قديمة قائمة من قرون على البلاغ المبين، والذين اختطفوا مناصب الإمامة العامة حقبا مديدة كانوا أنزل رتبة من أن ينهضوا بهذا العبء!. إنهم لم يكونوا عالمين، ولم يكن للراسخين فى العلم مكانة لديهم.. وقد حسب لفيف من العرب أن الإسلام ثروة قومية يمكن أن ينتفع بها الجنس العربى ـ كثروة النفط مثلا ـ فتركوا الإسلام يتمدد بقواه الذاتية وبالجهود الشعبية، وانشغلوا هم بمراسم الحكم ومطالبه.. فلما وقعت الخلافة فى يد الأتراك بدأوا بداية حسنة فى خدمة الإسلام ثم انتقلت اليهم علل الخلافة العربية فضاعوا وأضاعوا.. وطلع علينا هذا العصر الكئيب، فإذا رايات الإسلام تطوى علانية تحت شعارات العروبة التى تعد محمدا بطلا قوميا (!) وأمام زحف الملل والفلسفات الأخرى التى خلا الجو لها فباضت وأفرخت.. تلك خسائر فادحة نزلت بأمتنا ورسالتنا، والعلاج أن نعرف: من نحن؟ وما ص _069(1/64)
رسالتنا؟ وكيف نؤديها؟ وكيف نتخلص من أخطائنا؟ وكيف نستفيد من تجارب النصر والهزيمة، والمد والجزر... ولنعلم أن عباد الله فى المشارق والمغارب ليسوا مستعدين أن يتبعوا قيصرا جديدا يلبس عباءة الإسلام، وأن علماء الدين الذين يشغبون على الشورى ليسوا علماء ولا متدينين، إنما هم قذى تجب تنحيته عن الطريق... وأعرف أن الاستبداد السياسى عاد إلى المجتمعات من الباب الخلفى فى شكل تنظيمات دستورية مزورة! والحقيقة لا تخفى وراء هذه الألبسة الخادعة مهما تراكم حولها ذباب المنتفعين والمنافقين... الإسلام وأمته أكبر من هذه المظاهر! ولن يصدق الناس أننا رجال أحرار، ننحنى وحسب أمام الواحد القهار، ما بقيت صفوفنا يتقدمها قزم تغضى أمامه العيون، وتخرس الألسنة لأمير ما...!. وفى عصرنا هذا تتودد المذاهب الأرضية إلى الناس بكفالة ضروراتهم البدنية، وإشباع نهمتهم منها! والإنسان بطبيعته يكره ذل الحاجة، ويضيق بكبت لا نهاية له، ويتعلق بأى نظام ييسر له الضرورات، ويعده أو ييسر له بعض المرفهات... هل تجهم الإسلام لهذه الطبيعة البشرية؟ إن إيراد السؤال على هذا النحو خطأ! هل لم يسارع الإسلام إلى كفالة هذه الحقوق البشرية؟. فى صدر حياتى ألفت بضعة كتب شرحت تلك القضية، كنا ـ أنا وسيد قطب، ومصطفى السباعى ـ نذود الجماهير المتطلعة عن اعتناق الشيوعية، لأن بريقها استهواهم، فقدمنا البديل من تعاليم الإسلام.. وإنما استهوى الناس هذا البريق لأن فوضى التملك من حرام تسربت إلى أغلب الأموال، ولأن تبلد المشاعر بإزاء الآم المحرومين قطع أوصال المجتمع، وبعثر فى أكنافه بذور الحقد!. ص _070(1/65)
وكثير من المشتغلين بالثقافة الإسلامية يحسبون أن الإسلام بعدما قضى على الأصنام فى الجزيرة العربية قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة وليعش الناس حسب ما يرغبون من الناحيتين الاقتصادية والسياسية ففى الأمر متسع وليكن ما يكون..!!. وهذا الجهل الفاضح أثقل الأفكار والأقدام، وأحكم حولها القيود فكانت العاقبة أن وثب العالم إلى الأمام بخطوات فساح، وضبط شئون الحكم والمال وفق ما يرى مصلحته، أما المسلمون فوقفوا أو تخلفوا، ومن أراد بهم خيرا حاول إلحاقهم بقطار الشرق أو الغرب، لأنه لا يعرف حقيقة الدين من رجال قاصرين، ومن هنا توجب على الحكومة الإسلامية أن ترقب سير المال فى الحياة العامة، وأن تدرك خطورة انحرافه أو طغيانه على العقائد والأخلاق.. ولا أجد أى حرج فى اقتباس ما استحدثه البشر من أنظمة ووسائل حماية الفرد من طغيان الاستبداد أو رأس المال.. والواقع أن العصور الحديثة لها اجتهاد مثمر ناجح فى تنظيم الشورى، وفى إدارة الأعمال، وفى حماية الفقراء والكادحين... ونقل هذه الوسائل إلى بلاد الإسلام ليس بدعة ضلالة كما يزعم المتدينون الجهال، بل تكاد تكون واجبا حتما بعد عهود التخفف والضياع التى رانت علينا.. ومن السفه استبقاء الشورى فى طورها الساذج أيام سقيفة بنى ساعدة واستبقاء العطاء يدا تدفع ويدا تأخذ وحسب!. إن العمران البشرى اتسعت دائرته وتعقدت أحواله، وعلينا مواجهة ما جد بأقضية ذكية مجدية، وما فكرنا يوما فى تعطيل نص، أو الشذوذ عن قاعدة، وإنما سعينا إلى تجاوز عصور الانحطاط والهزيمة التى طال ليلها، مستندين إلى مواريثنا المحفوظة وحدها... ومن واجب الدولة ضبط العلاقات بين الجنسين داخل إطارها الصحيح، فإن ذوى ص _071(1/66)
الفطر السليمة ضاقوا بالتبرج الجاهلى الذى يصحب الحضارة الحديثة، وما انتهى إليه من انحدار وتهتك.. وقد قلنا: إن العجز الفكرى والنفسى عند لفيف من المتدينين من وراء هذا التطرف الحيوانى الكاسح! فهم لا يفهمون المرأة إلا وسيلة متعة خاصة، وينكرون عليها إنضاج ملكاتها الروحية والعلمية، ولا يعون أن لها أى حصة فى ميادين التربية وآفاق المجتمع، وخدمة الدين والدولة.. وقد أعيانى الحديث مع شباب يوجب تغطية وجه المرأة ويديها ويحرم عليها الجمع والجماعات، ويذهب إلى جملة من المرويات الشاذة أو المنكرة كى ينزل الدين على رأيه! قلت لهم: إن عملكم هذا سيجعل النهضة النسائية تزيغ عن الدين، وتلهث وراء الغرب. وعندما تقولون: لابد من ضرب النقاب على الوجه فسوف يسحب النساء الخمار عن الرءوس، وعندما تقولون: لا بد من تخبئة الأيدى داخل قفاز فسوف تتعرى السواعد والأيدى جميعا، إن الغلو يستتبع الغلو، إنكم تكذبون على الإسلام من جانب وهن يكذبن على الإسلام من جانب آخر، وكلاكما شر من صاحبه!. وأرى أن تدخل الدولة فى موضوع الزواج، وتكوين الأسر، فإن النفاق الاجتماعى وتقاليد الرياء جعلا من عقد الزواج شيئا يقصم الظهور، ويستدعى التريث والإرجاء، وإلى أن يتم بعد لأى يقع فى صمت وخفاء ما يندى له الجبين، وما لا يقبله دين!!. وثم أمر جدير بالإبراز والإثارة! إن السياسة الفاسدة تبقى وتنمو فى جو الثقافة الفاسدة، وهى إذا لم تجدها سعت لخلقها واحتضان رجالها.. وأرى أن كثير من المعارف المسمومة، والفتاوى الكاذبة، والأحكام الطفيلية، قد عاشت وغلظت فى حضانة الحكم الفردى والاستبداد السياسى، وقد لاحظت أن جماهير ص _072(1/67)
المسلمين خلال عدة قرون احتبست فى مجادلات لا تساوى قلامة ظفر، وهاجمت أعصابها فى خلافات محمومة لا طائل تحتها... وذلك فى وقت كانت رقعة الإسلام تنكمش، وأعداؤه يشتدون وشئونه العظمى يبت فيها التافهون... إننى شعرت بأن هذا مراد، وإذا لم يكن مخططا فقد تم لمصلحة الطاغين الذين يعنيهم أن تنشغل الأمم عنهم وعن مباذلهم. وفى عصرنا هذا تقوم شتى الفنون، والألعاب الرياضية بما يشبه هذا الدور.. ولا أدرى لماذا تهتاج أمة لهزيمة رياضية ولا تهتز لها شعرة لهزائمها الحضارية والصناعية والاجتماعية؟؟. والحكم الإسلامى فى قرون خلت لم يرتفع إلى مستوى الإسلام نفسه، فلا عجب إذا فشل فى تبليغ رسالته وفى الدفاع عنه عندما تعرض له الأزمات.. وقد رأينا الخلافة العباسية فى الزحف الصليبى الأول، لقد عجزت عن حشد طاقات الأمة بل عن جمع صفوفها، فإذا الحملات القادمة من الغرب تعوم فى دمائنا، لا يردها راد! وبقيت الخلافة الواهنة تترنح حتى ماتت تحت أقدام التتار المتعاونين مع الصليبية فى السر والمسلمون لا يدرون!. وتكررت المأساة نفسها مع الخلافة العثمانية، حذوك النعل بالنعل! ونجح الاستعمار الصليبى الثانى فى نبذ الخلافة العظمى (!) والخليفة المسكين، نبذ النواة. ودفعت جماهير المسلمين من دمها ومن كرامتها ثمن فساد السياسة والثقافة فى عالمنا الإسلامى المريض!. وقد تحدثت عن هذا التاريخ بشىء من التفصيل فى كتابى " الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر " وما كررت الإشارة إليه هنا إلا لأنى رأيت أناسا يعملون فى الحقل الإسلامى لا يعلمون معاقد الدين، ولا غاياته العظمى، وهم يجتهدون فى استحياء العلل. ص _073(1/68)
القديمة، يحسبونها أسباب نهضة وما دروا أنها أسباب البوار..!!. إن الدولة الأمينة على الرسالة الإسلامية عليها واجبات ثقيلة نحو الأمة التى تقوم على شئونها، ونحو الأجيال الناشئة التى تقوم على تربيتها يمكن إجمالها فى النقط الآتية : ( أ ) تجديد علوم الدين، وتبصير طلابه بالحقائق الرئيسية، وتجاوز القضايا والخلافات التى خلقها الفراغ والترف فى بعض الأزمنة، وبيان ما هو قطعى وما هو ظنى، وما هو أصلى وما هو فرعى، وتناول المذاهب المختلفة على أنها وجهات نظر ليست معصومة من الخطأ.. إن تدريس الدين الآن بحاجة إلى إعادة نظر! فهناك معلومات تقدم للكبار فقط تشحن بها عقول الصغار، وهناك آراء للرجال تقدم على أنها وحى معصوم أو نص ثابت! وهناك أركان للأخلاق والسلوك تراجعت لتحل محلها صور فقهية ثانوية!. (ب) إن العناية بالتربية تتطلب محو الخصومة القائمة بين الفقهاء والصوفية على أساس تجريد التصوف من البدع والخرافات التى التصقت به، ورده إلى كتاب الله وسنة رسوله ردا يدرب الناس على مقام الإحسان، أعنى مراقبة الله ومشاهدته.. إن الإنسان لا يرقى أبدا بعقله وحده، فكم من ذكى العقل غزير العلم تراه خبيثا لا تؤمن أطماعه، وكم من منافق عليم اللسان. وأعرف أن عددا من المنتمين إلى التصوف دعى لا ضمير له، غير أن هذا لا يزهدنا فى تعهد القلوب بما فى هذا العلم من حكم ثمينة، وتجارب رقيقة... ولست أحب أن ينفصل العلم عن التربية الروحية، ولا أن تنفصل التربية الروحية عن العلم فلا قيمة لأحدهما دون الآخر. (جـ) جماهير المسلمين فقيرة إلى تدريب مستمر على الشئون المدنية، وهى بحاجة ملحة إلى مهارات كثيرة فى ميادين الحياة العملية، وتخففها فى هذا المضمار يهزم الإسلام وينال من قدرته على قيادة الناس. ص _074(1/69)
وإنه ليحزننى أن يكون المسلم ـ لغير سبب واضح ـ أقل من غيره إجادة للحرف المختلفة. والحق أن ما نراه الآن هو أثر التدين المغشوش الذى سيطر على المسلمين حينا من الدهر، وجعل فهمهم قاصرا للدين والدنيا معا. (د) أرى تنظيم فرق للفتوة، أو بتعبير العصر فرق للكشافة والجوالة، إن الرياضة البدنية تصنع الأجسام والنفوس صناعة حسنة، وتنشئ مشاركات اجتماعية طيبة. والاهتمام بالرياضة لا يكون بإقامة بعض الأندية المتخصصة فى لعبة كذا أو كذا.. ربما أفاد ذلك بعض المنتمين لهذه الأندية، على حين تتحول الجماهير إلى طوائف من المشجعين العاطلين..!!. وقد راقبت الفرق العربية التى تذهب للمباريات العالمية فوجدت أغلبها يعود فاشلا صفر اليدين من أقل الجوائز.. أما الدول العظمى فتظفر بأغلى الجوائز، وتكسر أرقاما قياسية كما يقولون، فأدركت أننا متعبون جسمانيا وروحانيا على سواء!. وعلاج ذلك العجز يبدأ من تصحيح القاعدة الشعبية نفسها. فقد تقول: ثم ماذا؟ بعد أن تنشأ للإسلام أمة قوية الروح والجسد قوية العقل والعاطفة. أجيب: لن تكون لهذه الأمة مطامع جنسية أو مادية، ولن تزعم أن الدم الآرى أفضل من الدم السامى، أو أن أولاد يعقوب أشرف من أولاد اسماعيل. إن رسالتها أن تكون مع المظلوم حتى ينتصف، ومع المحروم حتى يستغنى، ولن تكون لها قداسة إذا أهانت الحق، أو استوحش الحق فى جنباتها. رسالة الأمة ـ كما شرحها كتابها ـ فعل الخير والدعوة إليه، عمل المعروف ومحو المنكر!. ومعني الخير مركوز فى فطرة البشر وقد يضبطه الوحى الإلهى ويزيل ما يشوبه من لبس، ص _075(1/70)
وكذلك معنى المعروف، فإن العقل والنقل يتطابقان غالبا على إبرازه ودعمه.. وإيراد رسالة الأمة تحت هذا العنوان مقصود حتى يعرف القاصى والدانى ما هى وجهتها وما هى شرعتها؟. وعندما نقوم وفق معالم أسلافنا فستكون تلك صبغتنا فى المجتمع الدولى، وقد نسفك دماء أبنائنا لنحرر الزنوج فى جنوب إفريقية لا لشىء إلا لإرضاء الله وإقرار الحق!!. إن أسلافنا الأوائل عندما قاتلوا قديما كانت تتملكهم هذه النزعة النبيلة، ومن زعم أن الاستعمار الرومانى أو الفارسى كان جديرا بالمهادنة فهو مفتر جرىء. وما أنكر أن المسلمين فى أعصار شتى ملك أمرهم من ظلمهم وظلم الناس معهم، وسوأ سمعتهم وسمعة الدين الذى نبت بين ظهرانيهم!. على أننا لم نفلت وما يفلت غيرنا من عقاب الله، ونحن نقرأ فى كتابنا أن المستقبل لا تصنعه الأمانى الخادعة، وأن مزاعمنا ومزاعم غيرنا لا وزن لها عند الله الذى يقول : (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا). إن ديننا يزن الأعمال بمثقال الذرة لا يقبل الفوضى الهائلة التى تقع بين الناس، سواء كانوا مسلمين، أم كانوا يهودا أو نصارى.. ص _077(1/71)
أما لهذا الحقد من حد؟ كان لابد من رسالة جديدة تصحح الأخطاء الجسيمة التى انتشرت بين الناس! ربما عرف أصحاب العقول المتوسطة أن الأصنام شىء لا ينفع ولا يضر، وأن عبادتها ضرب من السفه البين، أفتظن أصحاب هذه العقول يكتشفون الأغلاط السيئة التى دسَّها أهل الكتاب فى أطواء كتبهم؟ إنهم قد يستبشعونها وقد يتحيرون أمامها وقد يستبعدونها فى أعماقهم وقد يحاولون إمرارها!!. وذلك ما حدث، ومن ثم شاع بين الناس أن الله يفعل ويندم، ويذكر وينسى، ويغضب فيطيش به غضبه، وأنه قد يتجسد ويمشى على الثرى ويأكل ويشرب ويصارع واحدا من خلقه... الخ. كما شاع أن المرسلين من لدنه يسرقون ويزنون ويمسكون ويحتالون ويقتلون الخ، فإن يك هذا شأن قمم الخليقة فماذا ينتظر من السوقة؟. كان لابد من رسالة جديدة تشرح الصواب وتمحو الضلال، وتنصف حقيقة الألوهية، وتبرئ منصب النبوة وتضع الجماهير أمام الحق الذى تاهوا عنه دهرا طويلا. وما كان يقدر على هذه المهمة الصعبة أحد قط، إلا محمد والوحى الذى جاء به (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة). ص _078(1/72)
ومع أن الكهنة على اختلاف رتبهم تفرقوا فى أقطار العالم ينشرون أفكارهم العليلة، فإن القرآن الكريم ناداهم برفق، ولم يكشف مقالتهم السيئة بل قال: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم). إنه لم يذكر بتفصيل ما هم به متهمون! مع أن تهمتهم هى الافتراء المنكور على الله ورسله، وذلك تأليف لهم، وإغراء بالعودة إلى الحق، ومنع للإحراج!. ومع ذلك فلا يزال القوم يخاصمون القرآن ونبيه الهادى الكريم ولا يزالون يطيرون شرقا وغربا ومعهم صحائفهم المعتمة ملأى بما يسخط الله ويحط من أقدار النبيين!. لقد كانت رسالة محمد حدا فاصلا بين عهدين، عهد اعتكر فيه رونق الدين وغلبته شوائب دخيلة. وعهد تألق فيه التوحيد، وتقرر فيه ما ينبغى للذات العليا من تمجيد وتنزيه، كما تقرر فيه ما يجب على البشر من انقياد لله وإنفاذ لأوامره يتقدمهم فى ميدان العبودية رسل صالحون، أتقياء شرفاء (عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون). يستحيل أن يحقد على محمد رجل له ثقافة محترمة أو عقل بصير لماذا يحقد عليه؟ ألأن كتابه يصف الخالق الأعلى فيقول: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض)؟ أو لأن الله تبارك اسمه يتحدث فى هذا الكتاب عن نفسه فيقول: ص _079(1/73)
(وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). أهذه هى الجريمة التى ارتكبها محمد؟ أو كان من الممكن أن يكون رجلا صالحا لو أنه وصف الله بالغفلة عما يقع أو الندم على ما فعل؟.. هل فى الدنيا كتاب أثنى على الله بما هو أهله، وأسند له صفات الجمال والجلال، وخصه بالأسماء الحسنى، وجعل الأفئدة توجل من خشيته، أو تنشرح بمحبته كهذا القرآن الكريم؟ أذلك ما يجعل أهل الكتاب يشرقون ويغربون للتنفير منه والتحامل على صاحبه؟. الحق أنى أنظر إلى رجال الكهنوت الناقمين على محمد فلا أرى فى سيرتهم ولا فى سريرتهم إلا ما يثير الزراية. إن اليهود عاشوا فى جزيرة العرب عدة قرون قبل ظهور الإسلام فماذا فعلوا ضد الوثنية؟. لو أن عشر تعصبهم للإسلام وبغضهم لرسوله وجهوه ضد الجاهلية الأولى لزالت أو خف ظلامها، إنهم عاشوا على استبقائها وإيقاد الفتن بين أهلها، وكأنما كانت مهمتهم أن يختالوا بما ورثوا من علم مغشوش، وأن يعدوا الأميين غنيمة باردة يأكلونها باسم الله خالق الشعب المختار. أتبكى الإنسانية على دين تلك حقيقته وهذا تاريخه؟. ولو أن رجال النصرانية أحسنوا السير على منهج عيسى لكان لهم مع العهد القديم ص _080(1/74)
سياسة أخرى، ولكان لهم مسلك أهدى وأرشد، لكن غلب عليهم أمران معيبان! إثبات التجسد الإلهى، وتجويز السقوط على الأنبياء. ولم فعلوا ذلك؟ ليسهل تصور إله إنسان أو إنسان إله! وليسهل قبول قضية القربان الذبيح فداء لخطايا لم ينج منها أنبياء الله أنفسهم!! وقد كرهوا أشد الكراهية صيحة محمد وهو يقول ـ بأمر الله ـ (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). إننى لا أتبع محمدا لأننى وازنت بينه وبين المنتمين إلى السماء والمحدثين عن الله فوجدت كفته أرجح، إن ذلك يكفى لأتباعه لو كنت ممن يوازن بين المرويات، ويؤثر جانبا نزيها على جانب متهم..!!. الأمر عندى أن الإيمان مصدره الأول العقل اليقظان النقاد الباحث عن الحق فإذا وجده تشبث به إلى آخر رمق. وقد عرفت الله وامتلأ فؤادى بأنه عظيم، عظيم لأنى فكرت وفكرت ثم وجدت أن الله الذى آمنت به لا تتوفر الأوصاف الواجبة له إلا فى كتاب محمد!. القرآن هو الكتاب الفذ الذى لا يعرف غيره عصر العلم ومحمد هو الإنسان الذى تتجسد فيه أشواق البشر إلى التسامى والروحانية والارتباط بالله. وذاك سر بقاء الإسلام إلى يوم الناس هذا، وسر خلوده إلى يوم يبعثون! مع أن الظروف التاريخية التى اكتنفته تشبه العواصف التى تعرقل سير السفينة!. وعندما أرمق الماضى أجد الإسلام خلال سنيه العشرين الأولى أجهز على الوثنية العربية التى قاومته أشرس مقاومة، ثم أجهز على المستعمرات اليهودية فى الحجاز وقلم أظافر اليهود عسكريا، وقبلهم فى دولته أفرادا لا يقدرون على كيد!. ص _081(1/75)
أما الصليبية فإن مقاومتها للإسلام ظلت متقدة النار خلال القرون التى عاشها منذ ظهر إلى الآن!! أربعة عشر قرنا والخصام لا تفتر حدته ولا تنقص شدته.. أخذ هذا القتال عنوان الحرب مع الروم، ثم أخذ عنوان الحروب الصليبية، ثم أخذ عنوان الحرب بين الأتراك وأوربا، ثم أخذ عنوان الاستعمار العالمى، واختفت العناوين وبقيت الحقائق فى الكشوف الجغرافية، التى قادتها المصادفات إلى الأميركتين من ناحية وقادت إلى الهند وشرق اسيا عن طريق رأس الرجاء الصالح من ناحية أخرى.. ثم جاء العصر الأخير ومعه الغزو الثقافى، والتيارات الدولية المختلفة، والتفاف الكنيسة حول الإسلام تريد أن توجه إليه الضربة القاتلة!!. أربعة عشر قرنا تساقطت من حولنا نحل شتى وبقيت الصليبية وحدها تحاول إخماد أنفاسنا! والدول الاستعمارية هى التى صنعت ولا تزال تصنع إسرائيل، إن الجحر الذى نُلدَغ منه لم يتغير، والعدو الذى قاتلنا أيام الرسول فى " مؤتة " هو هو الذى يقاتلنا الان، وقد أمسى لا يخفى ضغائنه ولا أغراضه استهانة بنا..!!. عندما زار بابا روما " ساحل العاج " ساءلت نفسى: ترى: ما الغرض والوضع هناك معروف؟ المسلمون من ناحية الإحصاء ضعف النصارى، ولكن اللغة العربية تموت أمام زحف الفرنسية! والقوى المادية والأدبية حكر على أعداء الإسلام! إن الأيام مدبرة عن المسلمين ادبارا يقبض الصدر، بل هم غرباء فى أرضهم!. وعرفت أن الأحفال الفخمة أقيمت لمناسبة افتتاح كنيسة فى العاصمة تعد من أعظم كنائس افريقية.. قلت: هل يزور المسلمين المستوحشين أحد ليخطبهم فى مسجد جامع؟ لا! هل هم منسيون؟ لا. إنهم محاصرون! من حاول زيارتهم منع، إما فى بلده وإما فى بلدهم! لأن الأوضاع العامة توجب ذلك!. ص _082(1/76)
ودرست أحوال المسلمين فى فرنسا وانجلترا ودول أوربية أخرى! إن ملايين كثيرة هناك تنتقص من أطرافها ومن صميمها، والمسلمون يفرحون فرحا أبله بالجماعات القليلة التى تدخل فى الإسلام هناك، وينسون من يختطف أو يسرق أو يتلاشى فى تيار المادية الجارفة. ومن أيام التقيت ـ وأنا خارج من جامعة الأمير عبد القادر ـ بشاب جزائرى يشكو لى أن أخته قد تزوجها فرنسى يزعم أنه ترك النصرانية، فقلت له : قد يكون صادقا..! قال: إنه يعتنق ديانة أخرى لم أعرفها، لعلها " شهود يهوه " وأنا قلق على دين أختى! وأدركت المأساة، إن آلاف المسلمين متروكون دون حارس لتتخطفهم الأوهام، أو لتغرقهم الحضارة المادية فى عبابها الموار فلا يظهر لهم أثر.. وفى أوربا عشرة ملايين مسلم تقريبا، ذهبوا إما فرارا من أوطان تنكرت لهم، أو طلبا للرزق، أو هم أوربيون أصلاء فى ديارهم لوت أعناقهم الشيوعية ـ كما حدث فى ألبانيا مثلا ـ والغريب أن أواصرهم تقطعت ببنى دينهم، ولولا بعثات قليلة ترسلها حكومة الجزائر إلى أبنائها فى فرنسا لقلت: إن المسلمين هناك قد نسيتهم الأمة الكبرى فى الشرق. إن حملات صليبية ماكرة تعمل دون ما ضجة لتذويب المسلمين فى الأراضى التى هاجروا إليها وقد أدركت حظا من نجاح، وهذه الحملات تتمم ما تصنعه البعثات التبشيرية فى افريقية وآسيا، والتى سيطرت على التعليم والإذاعة، وتكاد تصبغ البلاد بالصبغة المسيحية.. والغريب أن جماهير العرب والمسلمين مذهولة عما يراد لها، أو مشغولة بقضايا افتعلت افتعالا، ومن هنا فالمستقبل محفوف بأخطار رهيبة، فهل نصحو قبل فوات الأوان؟ قال لى صديق لم يرقه تفكيرى: لقد فاتك شىء ما كان ينبغى أن يفوتك! قلت: ما هو؟ قال: إن عاطفة التدين فى هذا العصر وحقيقته ليستا محل القبول والرضا، والعالم الان يقترب من خمسة مليارات، ثلاثة أخماسهم بين شيوعى أو وثنى، ومن يدرى؟ فقد ص _083(1/77)
تقع كارثة أخرى تعصف ببقايا المؤمنين، على اختلاف ما يدينون من دين!. والأفضل أن نداوى الإحن التى خلفتها القرون، ونصلح ذات البين، ونتعاون على إقصاء الإلحاد، ورد الإنسانية إلى ربها...!. فكرت غير قليل، ثم قلت: لا بأس، إننى أبسط يدى لصلح لا غش فيه، والعدل يسع وجهات النظر المختلفة، وقد جاء فى القرآن الكريم (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير). أيها الصديق لكى يكون الحوار بين الأديان سليما لا تقل للعربى الطريد من داره: اعترف أولا بإسرائيل ثم تعال نصطلح! علام نصطلح إذا كنت لا تعترف بوجودى ولا بحقوقى؟. إن تعليمات عامة صدرت من جهات لا نحب تسميتها تقول لكل قلة دينية فى الشرق العربى: سودى الكثرة، وأخضعيها سياسيا واقتصاديا وعسكريا إن أمكن، وموقف الموارنة فى لبنان نموذج لهذا التحدى المعيب. وهو مثال عملى للطوائف الأخرى يجب أن تقلده فكيف يقع صلح على أساس هذا التفاوت؟. إن المسلمين فى جنوب السودان يساوون فى العدد من استطاع التبشير إدخالهم فى المسيحية، والمراد الآن وقبل الآن أن تكون الحكومة فى الجنوب مسيحية! ويجب إهدار نظرائهم المسلمين وإهالة التراب على حقوقهم! فكيف يتم صلح على هذا الأساس الجائر؟. ص _084(1/78)
إنه لا بأس بحوار بين الأديان، بل ذلك ميداننا المفضل! إن الفرار من المنطق الهادئ والجدال الحسن هزيمة نأباها على أنفسنا. بيد أننا بداهة لا نقبل الدنية، ولا نسمح لمن يطلب منا أن نسلمه أرضنا وزمامنا وحاضرنا ومستقبلنا، والاستعمار العالمى يريد ذلك بصفاقة... فى أوربا وأمريكا رجال نشعر بأن لهم شرفا، وأنهم على درجة من سلامة الفطرة وإصابة الحكم، وحبذا لو تلاقينا طويلا مع هؤلاء فى مؤتمرات علنية أو سرية، وتدارسنا كل شىء فى جو من الصراحة والمودة.. يا صديقى أنا أعرف أن ظروف المسلمين رديئة وأنهم منوا بهزائم موجعة، على أنى أدرك سر هاتيك الهزائم كلها، إنها من عند أنفسهم، ولو شاءوا لصاروا إلى حال أفضل، ومكانة أعز ثم هناك شىء آخر أريد أن أفيض فيه!. إن الإيمان نصفان: نصف عقل، ونصف نقل!! وقد يعذر من لم يبلغه النقل، أما من جحد عقله وسفه نفسه فلا عذر له!. قال لى صديقى: ماذا تعنى؟ قلت له: سبق أن شرحت أنى أعرف ربى بعقلى، إن قلبى ينبض بانتظام بين جوانحى، من يحركه؟ أنا؟ أنت؟ ما يحركه إلا الله!. إن الأولاد يتكونون فى بطون أمهاتهم على نحو رائع، من يصنع المخ والحواس وسائر الأجهزة والأعضاء؟ المرأة؟ الرجل؟ من إلا الله؟ إن إنكار الألوهية لون من البهيمية، وما أرى الإلحاد إلا عمى جديرا بالاحتقار كله.. فماذا عرفت الله بعقلى فإنى لا أعرف كيف أصلى له، وكيف أقوم بحقه، إلا عن طريق نقل من صادق معصوم. والوحى الصحيح يؤكد المعقولات ويستحيل أن يصادمها، ثم ينشئ عبادات تستريح إليها الفطرة وتتعامل بها مع الله، ومع الناس، فلا تضل ولا تشقى.. ص _085(1/79)
عندما حضرت الوفاة الأديب الفرنسى " فكتور هيجو " جاءه القس ليشهد ساعته الأخيرة ـ أو ليغفر له حسب الشعائر الدينية عندهم ـ وأبى الأديب الكبير أن يستقبله، قائلا: لا حاجة لى بك، إننى أومن بالله وقد تصدقت بمالى.. لقد هزمتنى هذه القصة، وشعرت أن هذا الأديب الكبير أقرب إلى الله من كثيرين، لقد آمن بعقله، ولم يجئه نقل صحيح يستريح إليه وهو أولى بالله من رجل الدين الذى جاءه . وفى أرجاء الدنيا كثيرون من هذا الطراز، أقروا المعقول ورفضوا المنقول، ولهم عذرهم، وقد تحرك هؤلاء فى ميادين العلوم الكونية والحيوية والإنسانية، وكانت أيديهم الطولى فى صنع التقدم الحضارى الذى نشهده.. وتاريخ الغرب بعد عصر النهضة يحكى الصراع الدموى الذى دار بين الدين والعلم، والدين والحكم، والدين والاقتصاد.. الخ، والدين المشتبك فى هذا الخصام ليس الإسلام بداهة فأين كان الإسلام؟ وكيف غاب عن هذه الفوْرة الخطيرة؟. أكره أن أدافع بالباطل عن قومى! إن قومى خذلوا دينهم، وناموا عن مطالبه، وغلبتهم شهوات نفسية وبدنية وغفلات عقلية واجتماعية، فحقت عليهم كلمة الله، ودفعوا ثمنا غاليا لانسحابهم من ميادين الحياة الصحيحة. لقد كان هذا الثمن غزوا عسكريا وثقافيا واجتماعيا فيه الغرب المتفوق، ومن ورائه الصليبية التى اصطلحت معه على أن تقوم بخدمته، ويقوم هو بتركها تؤدى دورها القديم. وكان أن ماجت بلاد الإسلام فى فوضى لا ينقشع لها غيم إلا حل محله غيم أشد سوادا وأملأ بالشرور. والمدنية الحديثة نشأت من نشاط أرضى ولم تنبعث عن وحى سماوى! من أجل ذلك كانت الأنانية الطابع الأول لحملتها، وكان نسيان الله وجحدُ لقائه أمرا مألوفا فيها، ص _086(1/80)
ورخصت الدماء، وأهين الضعفاء، وكثر السكارى، وشاعت عبادة الجسد، وانتشرت الأمراض الجسمية والنفسية. والعالم الآن يتربص بعضه بالبعض الآخر ويخشى أن ينتحر فى أى لحظة بما يملك من أسلحة الدمار الشامل! إنه فقير إلى رحمة الله وحنانه، وأمام أهل الإيمان وأصحاب الوحى مجال ممهود لعمل مثمر إذا شاءوا. ونحن المسلمين نقدر على إسداء خير لأنفسنا وللناس، ونعتقد أن لدينا الكثير فهل يُسمح لنا بذلك؟ أم لابد من اعتبارنا مأكلة الأقوياء؟ واعتبار ما لدينا جملة أكاذيب؟. أنا مستعد لأن أصحب أى قسيس لأية عاصمة كبرى، ويمنح كلانا ساعة واحدة فى أنديتها الكبرى نتحدث فيها عن الله الواحد ، عن المرسلين ، عن الإنسان ، عن المال ، عن الشورى ، عن العدالة الاجتماعية عن الأسرة عن الآخرة عن أى شىء يطرح علينا من حقائق الدين، وليكن الحديث على شكل ندوة، أو على التعاقب، ويمنع فيه منعا صارما أى تهجم أو عدوان!.. ولمن شاء أن يتبعنى طائعا غير مكره، ولمن شاء أن يتبع صاحبى. ويمكن أن تعقد مؤتمرات خاصة على أى مستوى يرضاه رجال الكهنوت المسيحى لنتدارس فيها القضايا التى تطرح. على أن هذا كله لا جدوى منه إذا بقى أولئك الرجال يتوارثون إحن القرون، ويطوون أفئدتهم على بغضاء لاقرار لها نحو الإسلام وأمته. فى هذه الأيام يتنفس الحقد القديم ضد أى دولة ترغب فى إعادة التشريع الإسلامى ومن قبل ذلك حوربت اللغة العربية بأسلوب ينتهى لا محالة بإبادتها، ومن بضع سنين عرف المسيحيون بغتة أن اليهود أبرياء من دم المسيح (!) وأنه لا يجوز أن يلعنهم المصلون فى الكنائس! ما هذا الود الطارئ؟. ص _087(1/81)
إن كل ما فى العالم من شرور يمكن أن يعالج بكلمة " الله محبة " إلا الإسلام فيجب أن يعالج بأن " الله كراهية ". على أية حال نحن نعرف أن كهنة الصليبية العالمية راغبون عن الوقوف فى وجه مباذل المدنية الحديثة ومظالمها، لأنهم يشعرون بأن لها فى أعناقهم دينا، فقد تناست تاريخا وعفت عن كثير، ولم تنبش قبور العلماء والعباقرة الذين قتلتهم محاكم التفتيش. ثم هى الآن تمكنهم من ضرب الإسلام، وهذا التمكين يغفر للمدنية الحديثة كل شىء ولو أهلكت الحرث والنسل... وفت الكنائس المسيحية بعهدها لليهود ألا تمسهم بسوء، وألا تؤلب عليهم أحدا، وظهر ذلك جليا فى أحفال عيد الميلاد ورأس السنة... ولم يحدث إلا لغط حول الإرهاب العربى لليهود (!) وعداء اللاجئين المطرودين من قراهم ومدنهم للسلطات التى أكرهتهم على الخروج من ديارهم..!. وشىء آخر سمعته والهموم تهاجمنى، لمز للجهاد الإسلامى، وللرسالة التى قامت على سفك الدم.. قلت فى نفسى: ألا يظفر العرب بالسماحة والمحبة اللتين ظفر بهما اليهود فى هذه الأيام النحسات؟ هل كانت إساءات المسلمين للمسيح وأمه أشد من إساءات اليهود؟!. ورجعت للتاريخ فوجدت العجب لقد ألقى الرومان القبض على أحد اللصوص، وعلى المسيح عيسى بن مريم بدسائس يهودية. وكان من المصادفات أن يَحُلَّ عيد رومانى يمكن فيه العفو عن المجرمين، ورأى اليهود أن يعفى عن اللص ويؤاخذ المسيح بتهمته... وهاك القصة كما رواها متى فى إنجيله : " قال لهم بيلاطس فماذا أفعل بيسوع الذى يدعى المسيح، قال له الجميع ليصلب، فقال الوالى وأى شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين ليصلب، فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شىء بل بالحرى يحدث شغب، ص _088(1/82)
أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلا إنى برئ من دم هذا البار، أبصروا أنتم، فأجاب جميع الشعب وقالوا : دمه علينا وعلى أولادنا، حينئذ أطلق لهم باراباس، اللص المقبوض عليه ، وأما يسوع فجلده وأسلمه للصلب " (متى 27: 22ـ 26) وفى التلمود تَجَنٍّ سافر على المسيح عليه السلام، فهو متهم بولادة غير شرعية، وأمه الصديقة هدف سهام يهودية مسمومة، والمسيح خارج عن الإيمان، ومحروم من رضا الله ، وخاطئ، ويدفع الشعوب إلى الخطيئة وسرق اسم " يهوه " المبارك وادعاه لنفسه، فعقابه جهنم وبئس المصير. وبلغ من جرأة اليهود أن عالما من كبار علمائهم فى العصر الحديث وهو "لوب " نشر فى مجلة " الدروس اليهودية " ما يؤيد شتيمة المسيح واتهامه، وهذا نصه: " أى عجب أن يتضمن التلمود بعض المذمات فى حق يسوع؟. إنما الغريب أن يكون الأمر على نقيض ذلك، وان كان لأمر من العجب فلنعجب من أن التلمود لم يذكر من المذمات أكثر مما ذكر ". ومما ورد فى التلمود عن المسيح: " يسوع الناصرى فى الحج بين العار والنار، وحملته أمه من " باندرا " العسكرى سفاحا، والكنائس المسيحية قاذورات، وأساقفتها كلاب نابحة، وقتل المسيحى فريضة على اليهودى، والعهد مع المسيحى ليس عهدا ملزما يجب الوفاء به، وفرض على اليهودى لعن رؤساء المسيحية". فهل فعلنا نحن شيئا من ذلك؟ وهل ذكرنا المسيح وأمه إلا بكل شرف؟ ماذا نقول... ص _089(1/83)
حملة صليبية على الإعجاز العلمى للقرآن الكريم تدارست مع أحد الأخوة ما نشر المعهد البابوى عن الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، وشعرت بأن قدر كبير من التحريف والمغالطة تخلل الكتابات المنشورة فى هذا الموضوع المهم. إنه يسرنا أن يقرأ القوم ما لدينا، وأن يتناولوه بالنقد العلمى، ولهم الحق فى إبداء وجهة نظرهم المخالفة، وما نشكو أبدا من هذا المسلك.. لكن " مجلة الدراسات العربية والإسلامية " الصادرة عام 1958 أعدادها 66، 68، 69 تنكبت هذا النهج، واتخذت طريقا آخر يخدم الحملة على الإسلام، ويحقق سياسة الفاتيكان فى النيل منه، وتعكير مستقبله. وقد كان الأسلوب ناعما ماكرا، ولكنه يحمل فى طياته ما سوف نراه.. ترى المجلة أن الحديث عن الإعجاز العلمى للقرآن بدعة اختلقها دكتور موريس بوكاى، وأن المسلمين أعجبتهم هذه البدعة المساعدة فطاروا بها هنا وهناك...!. وهذا كلام باطل، فما كتبه موريس بوكاى أواخر السبعينيات من هذا القرن لم يأت بجديد يفاجئنا بروعته، بل أكد ما كان معروفا لدينا، والحديث عن الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم كان شائعا قبل ذلك بنصف قرن. كان الأستاذ محمد أحمد الغمراوى سنة 1937 يدرس كتابه " سنن الله الكونية " فى السنة الأولى من كلية أصول الدين بالقاهرة، وما أدرى أكان موريس بوكاى ولد أم لا؟ فكيف يقال : إنه صاحب " مودة " الإعجاز العلمى؟. ص _090(1/84)
وقد اعتمدت على كتاب الغمراوى وأنا أتحدث عن الإعجاز العلمى فى كتابى "نظرات فى القرآن الكريم " المؤلف من ثلث قرن تقريبا، وحديث العلماء عن هذا اللون من الإعجاز مأنوس مدروس فى كتبنا من زمان بعيد... وتمضى المجلة فى وهمها عن دور " موريس بوكاى " فى الإعجاز العلمى فتعرض ما كتبه الأستاذ أحمد حنفى عن التفسير العلمى للآيات الكونية وكأنه فيما كتب قد تأثر ببوكاى، وأنا موقن بأن المحرر يعرف أن كتاب أحمد حنفى صدر أواخر الخمسينيات، وأنه لم ير بوكاى ولم يقرأ له، فكيف يتأثر السابق بعشرين سنة باللاحق المتأخر الذى جاء بعده. لكن هذا اللبس مقصود للأسف، ولا يعتذر عنه بأن الطبعة الثانية لكتاب أحمد حنفى صدرت عام 1985، فإن الطبعة السابقة كانت عام 1960 م وقد تحدث المؤلف عن آرائه فى دروس ومحاضرات كثيرة قبل ذلك، والعلاقة بينه وبين موريس بوكاى مقطوعة!. ثم يوهم المحرر جمهور القراء بأن الإعجاز العلمى ـ الذى أرخ له على كامل حسين، وأن له مقالا منشورا عام 1983 م فند فيه هذا الإعجاز وأبطله.. والدكتور كامل حسين مات من عشر سنين، والمقال المنسوب إليه نشر عام 1961 م وهو مقال نعرف قيمته عندما نعرف كاتبه.. كامل حسين طبيب بشرى، كرس حياته فى دراسة المذاهب الباطنية من قرامطة ونصيرية وإسماعيلية... الخ، ثم ألف قصة عنوانها " قرية ظالمة " تعتبر من الأدب التبشيرى الحديث! ومات الرجل والكنيسة راضية عنه... أما مقاله عن الإعجاز العلمى الذى حظى بالثناء المستطاب، فهو مقال محشو بالسباب، وليست له قيمة علمية، وقد أضفت المجلة البابوية نعوتا طيبة على الطبيب المريب، وهو كما ذكرنا.. إننا سنتحدث عن نماذج للتفسير العلمى أدق وأصدق مما اختار محرر " مجلة الدراسات العربية والإسلامية " التى تصدر بروما، ولكن قبل هذا الحديث نشجب التدليس العلمى ص _091(1/85)
الذى ظهر جليا فيما ساقه المحرر من تواريخ للأشخاص والبحوث. ويظهر أن اللعب بالتواريخ عادة قديمة عند القوم نذكر نموذجا لها بعيد الأثر فى تعمية الحقائق وتضليل الجماهير. عندما انهزم الرومان قديما أمام الفرس كانت هزيمتهم من الشدة والخزى بحيث قدر العالم أن الرومان لن تقوم لهم قائمة بعدها.. لقد فقدوا مستعمراتهم فى الشرق الأوسط كلها، وأرغموا على دفع غرامات فادحة من أموالهم ونسائهم، وهذا ذل ما وراءه ذل!. بيد أن صوتا فذا فى أعماق الجزيرة العربية كذب الظنون كلها، وباغت الناس بخبر مثير، هو أن الروم سوف ينتصرون فى بضع سنين!! ولم يكن هناك ما يدفع إلى تصديق هذه النبوءة العجيبة. وانتصر الروم فى الأمد الذى حددته النبوءة وانهزم الفرس انهزاما سلبهم ما أخذوا، وكاد يفقدهم أنفسهم. وكان على نصارى العالم أن يستمعوا إلى هذا النبى، أو يدرسوا سيرته، أو يؤمن بعضهم على الأقل برسالته!!! لكن شيئا من ذلك لم يحدث، فقد قال لهم المؤرخ الرومانى جيرون إن سبب هذه النبوءة هو حقد محمد على كسرى، بعد أن مزق له رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام (!). والرسالة التى يذكرها المؤرخ الكذوب أرسلت إلى كسرى بعد هذه النبوءة ببضعة عشر عاما!. النبوءة كانت فى العهد المكى، والرسالة الداعية إلى الإسلام كانت فى المدينة، قبل وفاة الرسول بثلاث سنين تقريبا..!. اللهم إلا إذا كان المؤرخ الرومانى يسرد الوقائع على نحو ما قال الشاعر العربى المخمور : أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا، إن ذا من العجب ص _092(1/86)
وندع موضوع اللعب بالتواريخ إلى قضية الإعجاز العلمى نفسه، فهذا الإعجاز لا يبدأ من فراغ، إنه يبدأ من حقيقة لا يليق تجاهلها بباحث مخلص!. لقد شعر القارئون للكتب القليلة المنتسبة إلى السماء أن القرآن يمتاز بخاصة لا تعرف لغيره، هى حديثه المستفيض عن الكون، وحثه القوى على النظر فيه، ووصفه المتكرر لآفاقه، واستخلاصه عظمة الخالق من عظمة المخلوق. وإنك لتستثار طوعا وكرها، وتنتقل من بناء الكون إلى بانيه البديع عندما تقرأ. (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا). (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها). (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض…). هذه الآيات ومئات غيرها وصفت الملكوت وصفا دقيقا لا تجد فى أسواره ثغرة. وقد وثب العلم فى عصرنا وثبات رحبة، وعرف من أسرار العالم ما لم يعرفه الأوائل، واستمع إلى آيات القرآن، وهى تصف الكون والحياة، فوجد تطابقا أو تقاربا يقطع بأن مصدر هذا الكلام، هو خالق العالم نفسه (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما). وماذا يقول علم الأجنة فى وصف القرآن لأطوار الجنين فى نشأته الأولى، ومتابعته المذهلة لمراحل تخفقه؟. لم يكن هناك تصوير بالأشعة يستكشف هذه الخبايا داخل جدار الرحم، لم يكن هناك علم تشريح يعرض مرئياته وتجاربه على الناس بهذه القدرة الصادقة!. ص _093(1/87)
أنى لمحمد هذا العلم؟ إن أرقى الحضارات عند بعثته كانت تجهل هذه الشئون، فكيف بحضارة بدائية تملأ أكناف الجزيرة العربية وتجعل الوثنية دينها الأثير!؟؟. لا أحب أن يستحمق أحد فيقول: إن القرآن كتاب طب أو فلك، فليس يزعم ذلك عاقل إنه كتاب يهدى إلى الله بأسلوب يربط بين عقل الإنسان وعجائب الكون، مع ارشاد إلهى يكمل قصوره، ويضبط مسيره.. وسنعلم أن هذا الإعجاز العلمى قد اختص به القرآن الكريم وحده، وأن غيره مستبعد ابتداء لأسباب مادية وأدبية. وقبل أن نشرح ذلك نريد تبيان أن علماء المسلمين لم تملكهم عاطفة جامحة وهم يتابعون هذا الإعجاز، لقد نظروا إلى دلالات الكلام وفق مقررات علم أصول الفقه وهو فلسفة الإسلام فى استنباط الأحكام من مصادرها، فأجازوا ما أجازوا ورفضوا ما رفضوا.. سمعت قائلا يذكر من إعجاز القرآن هذه الآية: (والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى) يقول: الآية تشير إلى الأصل النباتى للنفط، وهو ما يقرره العلماء الآن!. قلت: دلالة القرآن على ما تحكى بعيدة، ولا أستطيع تفسيرها على هذا النحو!. وسمعت آخر يقول: لقد سبق القرآن إلى اعتبار الرجل هو المسئول عن نوع ولده أذكر هو أم أنثى؟ وذلك آخر ما وصل إليه العلم من كشوف، وساق من القرآن الكريم هاتين الآيتين. (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى). وكذلك قوله تبارك اسمه (ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى). ص _094(1/88)
وتدبرت الآيات فى الموضعين، وشعرت بأن الدلالات واضحة وقريبة على أن ذكورة الولد أو أنوثته تجىء من ماء الرجل لا من البويضة التى تتكون فى الرحم، وقلت: نعم هذا حق!. وعلى أية حال فإن النظريات العلمية لا تفسر بها الآيات القرآنية ذلك ما رآه علماؤنا، فإن النظريات قابلة للتغير، ولا نُعرض القرآن لظنون رجراجة. أما الحقائق العلمية، فانها إذا وافقت كتابنا كانت تفسيرا حسنا له، بل كانت تفسيرا عمليا لقوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). قال لى بعض الكتاب: ان الباحثين فى الفضاء يتعرفون هل الكواكب التى يرصدونها بها ماء أو لا، فإن وجد بها الماء كان ذلك مظنة الحياة على سطحها، أليس ذلك مصداق قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون). قلت: إن الحياة البشرية وغير البشرية على سطح الأرض تعتمد على الماء يقينا، والآية لا ريب فيها. وقد تكون هناك حيوات أخرى لأجناس أخرى لا علاقة لها بالماء، إننا نحن المسلمين نتبع اليقين، ونأبى الظنون والتخامين، والإعجاز العلمى له رجاله الراسخون. وأمثل من قرأت لهم الدكتور محمد أحمد الغمراوى طيب الله ثراه. والدكتور موريس بوكاى زاده الله هدى وتوفيقا. والآن يجئ الكلام عن الكتب الأخرى التى تنتسب إلى السماء ونتساءل: هل وصف أهل دين ما ـ سوى المسلمين ـ كتابهم بأنه معجز؟ إن التحدى لم يقع إلا بالقرآن وحده ص _095(1/89)
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا). أما الكتب الأخرى فلم تنسب إلى نفسها إعجازا علميا ولا بلاغيا ولا نفسيا، وعرضت ما بها وكفى. وشىء آخر نتحدث عنه مصارحين: أن الوحى الالهى المتجسد فى القرآن ليست به شائبة من صنع بشر، لكن الأمر الذى استقر عليه القوم فى آخر تعاريفهم للوحى أنه إلهام من روح القدس، لا تنفك عنه الخصائص الإنسانية عند من يتلقاه!. هل يعنى ذلك أن كلمات الكتاب المقدس تشبه أقوال الأنبياء؟ كنت أتمنى ذلك!. الذى يبدو لى أن واضعى التعريف الأخير أرادوا به تجاوز ما استحال عقلا أن ينسب إلى وحى سماوى فى إصحاحات كثيرة، أقول: بل ما يستحيل أن ينسب إلى رجال صالحين!!. من أجل ذلك توقفت وأنا أقرأ مجلة " الدراسات العربية " التى يصدرها المعهد البابوى وهى تعلق على التفسير العلمى للقرآن الكريم قائلة: " إن هذا التفسير الذى ظهر بين المسلمين هو محاكاة للمحاولة المسيحية التوفيقية بين التوراة والعلم التى وقعت فى القرن التاسع عشر ". وهذه جرأة لا نتركها تمر، فليست بين القرآن والعلم فجوة نحاول ردمها، ولا مسافة نبغى تقريبها أو محوها، إنما الفجوة العميقة والمسافة الشاسعة هى بين العلم وبين التراث الدينى الذى تركه كاتبو العهد القديم. ويستحيل عقلا ونقلا أن تنجح أية محاولة للتوفيق بين الطرفين، إن الخلاف بينهما علمى وعقائدى وأخلاقى وتاريخى!!. ص _096(1/90)
وأكاد أجزم بأن مؤلفى هذا الكتاب جمعت بينهم نية مشتركة فى تلطيخ سيرة الأنبياء، ونسبة المناكر إليهم، وإبراز حقيقة الدين ـ بعد سقوط قادته ـ كالحة رديئة. إننا نحن المسلمين نأبى كل الإباء وصف إسرائيل بأنه نصاب مخادع احتال على صفة النبوة، وهى حق أخيه عيصو كما يقولون، ومثل أمام أبيه الأعمى اسحاق أنه عيصو نفسه ولبس إهاب ضأن ليبدو كثير الشعر كأخيه، وقلد صوته.. الخ. هل النبوة منصب يسرق؟ وهل رسل الله لصوص يسلبون الآخرين حقهم؟. ماذا تكون حقيقة الدين بعد ذلك؟ وماذا ينتظر من أتباعه إلا أن يكونوا خطافين؟ وكيف يتصور الناس الألوهية فى هذا الجو؟. إن الصورة المثلى للألوهية، كما ذكرها أحد كتاب العهد القديم أن يحكى للأجيال قصة طريفة، كان إبراهيم جالسا تحت أشجار البلوط فى " ممرا "، فنظر بعيدا فوجد الله قادما يمشى مع بعض الملائكة (!) فهرع إليه وسجد بين يديه، وقال له: ان كان عبدك يجد نعمة لديك فتعال وتناول الغداء معه!!. وقبل الرب الضيافة وشارك فى أكل عجل ذبحه له إبراهيم الخليل!! إنها ألوهية عجيبة تلك التى جسدها لنا أحد كتاب العهد القديم!. والتفسير العلمى للتوراة فى القرن التاسع عشر حاول أن يوفق بين الدين والعلم وهو يواجه هذه الأساطير السقيمة. والمسلمون عندما يتحدثون عن الإعجاز العلمى للقرآن إنما يقلدون فى هذا القرن العشرين ما فعله كهان القرن التاسع عشر فى العالم الغربى!. ترى ما فعلوا وكيف وفقوا؟؟. ولست الآن فى مجال استعراض لما نأخذ به الآخرين من تخبط فى فهم الألوهية والنبوة ومعنى الوحى، ومعنى التاريخ.. فذاك أمر له ميدان فسيح، إننا فقط ننبه محرر مجلة الفاتيكان أن يكون يقظا أو حذرا قبل أن ينال منا بالباطل. ص _097(1/91)
إنه يعلم أن مفكرى أوربا أحصوا مئات الأغلاط فى هذه الكتابات، ورفضوا نسبة قداسة ما إليها. قداسة؟ قداسة لنص يقول: ان الله صنع قوس قزح عند نزول الأمطار كى يتذكر، فلا يترك المطر يهطل حتى لا يحدث فيضان آخر، فإنه ندم على الفيضان القديم: إله ذاهل يحتاج إلى منبه!!. ومن أغرب ما قرأت ما جاء فى سفر " حزقيال " فى الفقرة 13 حيث يقول الرب لحزقيال: " وتأكل كعكا من الشعير على الخرء الذى يخرج من الإنسان: تخبزه أمام عيونهم ـ يعنى بنى إسرائيل ـ وقال الرب هكذا يأكل بنى إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم التى أطردهم إليه ". ترى: ما هى محاولات التوفيق بين العلم والتوراة التى بدأت مع القرن التاسع عشر؟ وهل هذه المحاولات هى التى نقلدها نحن المسلمين، عندما نتحدث عن إعجاز القرآن، ونجعل التفسير العلمى نوعا من التفاسير للوحى الأعلى؟. يؤسفنا أن نقول: إن المحرر لصحيفة الفاتيكان يهزل، ويتحصن وهو يهاجم القرآن وراء نسيج من بيوت العنكبوت. وكأنما شاءت الأقدار أن تثأر للكتاب الذى افترى عليه المفترون، فإذا نقابة الأطباء فى مصر تدعو إلى مؤتمر عالمى لبحث الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، والتقى فى القاهرة علماء قدموا من نيف وعشرين دولة، وقدم فى الموضوع نحو ثلاثمائة بحث!. ورأينا الراسخين فى أهم علوم العصر يستمعون فى وعى إلى ما يقال، فلما رأوا الصوت الذى انبعث من خمسة عشر قرنا يتحدث إليهم حديث خبير بأسرار الحياة، عليم بقوى الكون والإنسان، لانت قلوبهم لذكر الله، فمنهم من ذهب الى الأزهر يعلن اسلامه، ومنهم من قرر متابعة الدراسة مع إخوانه، وهو مبهور مما أفاد!. ص _098(1/92)
الدكتور "برسو" أستاذ التشريح يقول: إن تحقيقه لبعض الآيات والأحاديث أشعره بأن القرآن وحى الله إلى محمد يقينا. فمن أين أتت هذه المعارف التى صدقتها كشوف العصر الحديثة؟ ويتساءل الدكتور "مارشال جونسون" لماذا لا يكون محمد نبيا؟ ومعه هذا الكتاب المشحون بالنظرات الصائبة إلى العالم وقواه وأسراره التى تجلت لنا فى القرن العشرين؟. نقول: هل أحق منه بالنبوة من نقرأ التراث المنسوب إليهم فلا نجد به إلا محنة العقل والضمير، ودسائس الحقد والجهل؟؟. ويقول الدكتور " كيث مور" أستاذ علم التشريح وأحد الخمسة الأوائل من علماء الأجنة وله مؤلف مترجم إلى ثمانى لغات: إن تصنيفنا لأطوار الجنين لم يعرف إلا أواخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن. وقد أعطيت مراحل التخلق فى بطن الأم أرقاما وحروفا أبجدية لا معنى لها، ولكن الدراسات الحديثة المقارنة لعلم الأجنة، وللقرآن والسنة أسفرت عن مصطلحات أخصر وأنفع تعتمد على الشكل الذى يمر به الجنين، شكل النطفة والعلقة والمضغة والعظام وكسوة العظام باللحم ثم طور النشأة الأخيرة!. وعرض الدكتور صورا تبرز هذه الأطوار وفق ما ذكر القرآن الكريم من خمسة عشر قرنا. نقول: وبحوث اليوم كثيرة، وبحوث الغد أكثر، اننى حسن الظن بالفطرة الإنسانية مادامت تسترشد بالوحى الأعلى، وتتحرى مرضاة خالقها. ومصيبة الإنسانية فى نظرى من فريقين: فريق يستعلى على ربه أو يفسق عن أمره، وفريق يزوِّر مراده ويفترى عليه. وفى بعض الأحيان أبحث عن أسباب العوج السائد، فأرى الذين قدموا الحق شوهوا وجهه وزهدوا الناس فيه، وأرى الآخرين هاموا على وجوههم، ما احترموا فطرتهم ولا أنصفوها. ص _099(1/93)
والمدنية الحديثة تتبع هواها وتأبى بشدة أن تخضع للدين!. ولا يزال الدين جديرا بالازدراء والنبذ إذا كان رجاله يحاربون التوحيد الإسلامى ويبيتون الويلات له، ويهادنون الإلحاد الأحمر والأصفر ولا يشتبكون معهما. ولا يزال الدين أهلا لظنون السوء إذا وجه جهده بجنون لمحاربة تعدد الزوجات، وصمت صمت القبور عن شيوع الزنى واللواط!!. أليس ذلك ما يفعله الفاتيكان الآن، وما يجتهد رجاله الكبار والصغار لتحقيقه؟ منتهزين الهزيمة التى ألمت بالمسلمين فى العصر الأخير لبلوغ مآربهم.. لقد انطلق العلم وحده منفردا بزمام الإنسانية جمعاء وحقيق به أن ينفرد! من يشركه فى هذه القيادة أو يستبد بها دونه، ورجال الأديان على ما علمنا؟.. على أن المسلمين إذا ارتفعوا إلى مستوى الإسلام أنقذوا أنفسهم وأنقذوا الدنيا معهم. إن العالم اليوم يفكر فى الانتحار، وقد يصيبه مس فيقدم على حرب تحصد الأخضر واليابس! فهل نصحو نحن قبل فوات الأوان؟ ونأخذ على أيدى العابثين بالأديان؟. ص _101(1/94)
الحكم الإسلامى لا ينطلق من فراغ عندما كان موسى عليه السلام يكافح لتحرير قومه من ظلم الفراعنة واجه متاعب جديرة بالتأمل، وجل هذه المتاعب كان من قومه أنفسهم!. أصدر اليهم الأمر أن يرحلوا من مصر فى ليلة موعودة، وأن يستخفوا تحت جنح الظلام متجهين شطر البحر الأحمر، واستجاب اليهود للأمر الذى أصدره قائدهم، فلننظر: أكانوا متلهفين للخروج من مصر؟ أكانوا متعشقين للحرية التى فقدوها؟ والأمان الذى حرموه؟ أكانوا كارهين لجو تذبح فيه الأبناء وتستحيا النساء ويصب فيه البلاء؟. إن هذا ما يتبادر للأذهان. غير أن الواقع غير ذلك، فإن بنى إسرائيل كانوا قد ألفوا الدنية واستكانوا للضيم على نحو ما قال أبو الطيب : من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام! وقد نبه القرآن الكريم إلى موقف الشعب من القائد الذى يبغى تحريره قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) إن بعض الشباب الحديث السن السليم الفطرة هو الذى اعتنق رسالة موسى، وقرر أن يقاوم معه الجبروت، ومضى مع أحلام المغامرة ينشد مستقبلا أشرف!. ص _102(1/95)
أما الشيوخ وسواد اليهود فقد قيد مسالكهم الخوف ولم يتحمسوا لدعوة الحرية! وقد انكشفت خباياهم لما قرر فرعون ملاحقة الهاربين من بطشه، وخرج على رأس جيش كبير ليستعيد قوم موسى إلى السجن الذى فروا منه!!. كانت مطاردة مثيرة، اليهود يشتدون نحو الساحل عابرين الصحراء الشرقية، وفرعون وراءهم يريد أن يدركهم.. ويصف الإصحاح الرابع من سفر الخروج هذا الموقف قائلا: " فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم، وإذا المصريون راحلون وراءهم، ففزعوا جدا، وصرخ بنو اسرائيل إلى الرب وقالوا لموسى: هل لأنه ليست لنا قبور فى مصر أخذتنا لنموت فى البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هو الكلام الذى كلمناك به فى مصر قائلين: كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت فى البرية "؟. إن هذا الكلام ناضح بالنذالة والجبن واستمراء الدنية، والواقع أن الشعوب التى برحت بها العلل لا يمكن أن تبرأ من سقامها بين عشية وضحاها، إنها تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأنى الصبور حتى تنقه من بلائها. من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن جزء من العلاج.. وقد رأيت بعد تدبر عميق أن الشعب الإسرائيلى أول أمره لم يتبع موسى عن عزة نفس أو صلابة يقين، لعله تبعه عن تجاوب عرقى أو تعصب قبلى، ثم استفاد الأخلاق والإيمان فى مراحل متأخرة. وملاحظة العقل اليهودى، والتاريخ اليهودى تؤكد هذا الاستنتاج!! ونحتفظ بهذه النتيجة الآن لنعرف نهاية المطاردة بين فرعون وموسى! لقد صورها القرآن الكريم فى هذه الآيات (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين) ص _103(1/96)
إن الله لم يخذل نبيه، بل سانده بقدرته الخارقة، ولم يترك الجبابرة ليستأنفوا فسادهم فى الأرض، بل أخمد أنفسهم بضربة ما توقعوها قط. ونظر بنو إسرائيل فوجدوا أنفسهم سالمين على الشاطئ الآخر، كما أحسوا أن قتلة الأمس قد طاحوا، فلا عدوان عليهم بعد!!.. فبماذا استقبلوا هذه النعماء الغامرة؟ وماذا فعلوا لمسديها الجليل؟ لقد تيقظت فى أنفسهم الوثنية، وأعجبتهم عبادة الأصنام! فتقدموا إلى نبيهم فى بلادة هائلة ليجعل لهم صنما! قال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين). وأى فضل أعظم مما تم؟ أن يرثوا الأرض، ويغلبوا العدو، ويُمنحوا فرصة السيادة؟ بيد أن شيئا من ذلك لم يغير خستهم إن أثقالهم النفسية حالت بهم فى مكان سحيق.. وجاء الاختبار التالى، فإن الله لم يكلف اليهود بمحاربة فراعنة مصر - ومحاربة الطغاة مطلوبة حيث كانوا - إلا أن الإسرائيليين كانوا أقل وأذل من ذلك، لقد كلفوا بمحاربة الجبابرة الذين يسكنون فلسطين، ووعدوا بأنهم فى هذه الحرب سوف ينتصرون... وجزع اليهود لهذا التكليف، ولم يطمئنهم هذا الوعد!! إنهم أحرص الناس على حياة، ص _104(1/97)
وهيهات أن يعرضوا أنفسهم لخطر! كيف يطلب منهم قتال؟. يقول لى الأمير بغير جرم تقدم!. حين تجذبنا المراس! فمالى إن أطعتك من حياة ومالى بعد هذا الرأس! جاء فى القرآن الكريم على لسان موسى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها). ووصف التوراة حال الشعب اليهودى عندما سمع هذا التكليف فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت! وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر الشعب على موسى وعلى هارون، وقال لهما: ليتنا متنا فى أرض مصر! أو ليتنا متنا فى هذا القفر! لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف؟. وكان لابد من قرار إلهى قاطع.. إن هذا الشعب محتاج إلى تربية طويلة الآماد، تكبح جماحه وتقتل رذائله، وتفتح بصيرته على لون آخر من الحياة الرفيعة، والإيمان بالله واليوم الآخر.. فلتكن سيناء مصيدة محكمة الجدران يضطرب داخلها، ويعيش وراء حدودها لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، وليبق على تلك الحال أربعين سنة!. أربعين سنة يهلك فيها الذين شاخوا فى الفساد، ويتدبر أمره فى سجنها الطويل من عاشوا لا يفكرون إلا فى مآربهم! وستنضج خلالها الذرية التى آمنت بموسى، وتبلغ مرتبة الرجولة التى تتصرف فى نفسها وفيما حولها... أربعين سنة يخرس فيها من كانوا يهمسون بالحق فتكمم أفواههم!. إن الأفراد المدمنين للمخدرات يحتاجون إلى مستشفيات تفنى فيها عاداتهم السيئة وتحيا ص _105(1/98)
فيها عادات جديدة تصح بها أجسامهم وأعصابهم، فكيف بأمم تواضعت على تقاليد رديئة وأعراف فاسدة؟. إن هذه الأمم محتاجة إلى جو جديد تتنفس فيه هواء أنقى، وتسمع فيه إلى دعاة الحق وهم يهدونها سواء السبيل.. وقد طالت المدة على بنى إسرائيل فى سيناء! مات فى هذه الفترة موسى وهارون، وتركا وراءهما شعبا يتولى القدر تأديبه، ويتدرج بشتى الوسائل على رفع مستواه.. ولم يكن من هذا بد ، إن الأمم لا تترك السفوح إلى القمم بكلمة عابرة من واعظ مخلص، أو مدرس بصير، الزمن جزء من العلاج. استوقفتنى فى هذا المعنى فكاهة ذات مغزى : قيل إن ثعلبا جائعا انطلق يبحث عن طعام، فرأى من سرداب طويل إناء مشحونا بما لذ وطاب، فوثب داخل السرداب الضيق وتلطف حتى بلغ الإناء ثم أخذ يكرع منه حتى امتلأ، وحاول العودة من حيث جاء فعجز، لأن بدنه انتفخ فما يستطيع التقهقر! ولقيه فى محبسه هذا ثعلب عجوز عرف القصة من بدايتها، فقال للثعلب الصغير: ابق فى مكانك هذا حتى تجوع وتعطش وتخف وتنحف، وعندئذ تقدر على الخروج! قلت ضاحكا: الزمن جزء من العلاج.. لكن ما تكون عليه حال الدنيا خلال هذا الزمن المفروض؟ إن الجبارين الذين أمر بنو إسرائيل بمقاتلتهم سيبقون مفسدين فى الأرض ينشرون فى أرجائها الكفر والذل، سيبقون كذلك عشرات السنين! فكيف ترضى الأقدار بهذا العوج؟. وأجيب: لابد من وارث شريف للحضارة المعتلة! وإذا كان حملة الوحى الإلهى ليسوا أهلا لهذه الوراثة فهيهات أن يقودوا.. سواء حملوا التوراة أو الإنجيل أو القرآن.. وقد تنبأت بأن المدنية الحديثة سوف تبقى عصرا آخر لا أدرى مداه، سوف تبقى مع كفرها باليوم الآخر، ونسيانها الوضيع لله، وظلمها للضعاف والملونين، وتهتكها فى طلب الشهوات بكل وسيلة. ص _106(1/99)
لماذا؟ لأن حملة الوحى يفقدون من الناحيتين الفكرية والنفسية مؤهلات القيادة، بل أعرف ـ وأنا عربى أعيش بين العرب ـ أن لدينا رذائل من نوع آخر لا تقل عن رذائل المعطلين والمثلثين، يستحيل معها أن نكون أهلا للصدارة، بل يستحيل معها أن يقع زمام القافلة البشرية فى أيدينا.. إن فساد المبتعدين عن الله، الجاهلين بحقوقه، سوف يعلل بأنهم لا إيمان لهم.. أما فساد المتدينين فإنه يرتد إلى الدين نفسه بالنقض، ويجر عليه تهما هو منها براء، فحكمة الله واضحة فى تأخير المتدينين الجهلة وحرمانهم من السلطة. والأمة الإسلامية منذ بضعة قرون تتدحرج إلى أدنى، والمصلحون الذين هم شهداء عليها يوم القيامة لا يلقون منها إلا عنتا، وقد فقدت فى أثناء هذا التدحرج أمرين جليلين : أولهما الشمائل الإسلامية التى اختصت بها الرسالة الخاتمة. والآخر الملكات الإنسانية التى تتمتع بها الشعوب الراقية، والتى تجعلها سباقة فى ميادين الحياة ـ المادية والأدبية.. أذكر أنه جاءنى يوما أحد الدعاة فى حال من الغضب الشديد يقول لى: أترى إلى حكومتنا وهى تدعو إلى تحديد النسل؟ يجب أن تنضم إلينا فى محاربتها! قلت له وأنا متثاقل: إن التحديد المقترح لا يحل المشكلة القائمة! ان المشكلة تكمن فى عدم وجود الإنسان السوى، والمجتمع الناشط. قال لى: ان تعاليم الإسلام هى تكثير النسل.. قلت.. له: نعم وله تعاليم أخرى فى تكبير الشغل! قال: ماذا تعنى؟ قلت: لماذا تريد الزواج والنسل الكثير على أن يقوم غيرك بالإنفاق على زوجك وولدك؟ إنكم لا تعمرون الأرض وتثيرونها كما أثارها غيركم وعمَّروها، إنكم لا تستخرجون خيرات الأرض من خباياها وظواهرها كما استخرجها غيركم من أنحاء البر والبحر!!. ص _107(1/100)
إنكم بدوافع الرغبة الحيوانية تصيحون فى طلب الزواج والأولاد، وتطلبون الكثير الكثير، فعلام يدل هذا؟ على أن العقل الإسلامى يعرف رغبته ويسمع صوتها، ولكنه لا يعرف واجبه ولا يلبى نداءه!. ثم استتليت : لا الشعب يدرى، ولا السلطة تدرى! ظلمات بعضها فوق بعض!!. إن المثال السابق سقته إثر واقع عرض لى وأنا أكتب الآن، وهو يخدم الفكرة التى أريد إبرازها، وهى أن علل الأمم لا تداوى بالارتجال السريع، والرغبة النزقة. والشبان الذين يظنون الإسلام يمكن أن يقوم بعد انقلاب عسكرى أو ثورة عامة لن يقيموا إسلاما إذا نجحوا! فإن الدولة المحترمة وليد طبيعى لمجتمع محترم، والحكومة الصالحة نتيجة طبيعية لأمة صالحة! أما حيث تتكون شعوب، ماجنة وضيعة فسيتولى الأمر فيها حكام من المعدن نفسه (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). والاتجاه إلى الجماهير لغرس العقائد وتزكية الأخلاق وإنشاء تقاليد شريفة، وإقامة شواخص ماجدة ترنو إليها البصائر، وإقامة الصلاة جماعة بعد جماعة، أعنى وقتا بعد وقت من الفجر إلى العشاء، وتحصين الرجال والنساء ضد الانحراف والانحلال، والتغلغل فى الأسواق والميادين والمنظمات والنقابات لإحياء كلمات الله وإنفاذ وصاياه.. ذلك كله كان طريق الأنبياء وحوارييهم ومن نهج نهجهم.. ولم تقع معركتا بدر والفتح إلا بقدر أعلى انساق إليه المسلمون دون خطة سابقة أو إعداد مبيت..!!. أعرف أن عددا من الحكومات مرتد عن الإسلام يقينا، وأنه لن يذخر وسعا فى مقاومة المد الإسلامى وفتنة أهله، وعلاج ذلك يتم بالتزام الخط الذى رسمه الأنبياء، والصبر على ص _108(1/101)
لأوائه وضرائه، فهو ـ وان طال المدى ـ أقصر الطرق إلى الوصول، وأولاها برعاية الله، وأبعدها عن الأطماع والشبهات.. ولا تحسبن هذا الخط أبعد عن المخاطر وأقرب إلى السلامة، إنه صعب التكاليف ثقيل الأعباء، وقد رأيت أعداء الإسلام يرقبون هذا الخط بحذر ويرون أصحابه هم الأعداء الحقيقيون لهم. إن قصة خدمة الإسلام عن طريق الانقلابات والثورات راودت أناسا لهم إخلاص وليست لهم تجربة، ولم تنجح من سنين طويلة هذه المحاولات، ورأيى أنها لو نجحت فإلى حين، ثم يبدأ الجهاد لتنظيف الشعوب من أقذائها، وإحداث تغيير جذرى فى أخلاقها وعاداتها! أى أننا سنرجع إلى الإصلاح الشعبى عن طريق الشعب نفسه لا عن طريق الأوامر الرسمية. لست أنكر قيمة السلطة فى اختصار المسافة، وإقرار المعروف ومحو المنكر، وإنى أعلم أن الدولة جزء من الدين، وأن أجهزتها الفعالة جزء من شعب الإيمان السبعين.. وكون الحكم من شعائر الإسلام حقيقة لا يمارى فيها إلا جاهل أو جاحد...!. وهذا كله لا يلغى ولا يوهن عمل الأمة نفسها فى تثبيت العقائد والأخلاق والعادات الحسنة، وفى إعلاء سلطان الضمير وتتبع مسارب السلوك الخفية والجلية، وفى فرض رقابة دقيقة على أجهزة الحكم، وإبطال شرعيتها إن هى نسيت وظيفتها أو جاوزت حدودها.. إن الدولة فى الإسلام صورة ظاهرة لباطن الأمة، وهى يدها التى تحقق بها ما تبغى، وقدمها التى تسعى بها إلى ما تريد.. بيد أن ضراوة الطباع البشرية السافلة قلبت هذا كله رأسا على عقب، وأمكنت ناسا من عبيد ذواتهم أن يفهموا الحكم على نحو آخر، إنهم لم يفهموه عبادة لله بل سيادة على الآخرين، ولم يفهموه أمانة ثقيلة العبء بل فهموه مغنما لذيذ الطعم، وتطاولت هذه ص _109(1/102)
الحال على الأمة المنكوبة فأصابها من الضياع ما أصابها.... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن وضع قريش بين القبائل العربية يجعل الأمور تتدافع إليها، ويجعلها مرشحة أكثر من غيرها لتولى السلطة، فأحب أن يشعرها بما لها وما عليها لترغب وترهب، روى أحمد فى مسنده عن أبى موسى الأشعرى قال: " قام رسول الله على باب بيت فيه نفر من قريش، وأخذ بعضادتى الباب، فقال: هل فى البيت إلا قرشى؟ فقيل: يا رسول الله غير فلان ابن أختنا، فقال: ابن أخت القوم منهم! ثم قال : إن هذا الأمر فى قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا - يعنى المال - أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل " أى لا تنفعه توبة ولا فداء. وقد قامت لقريش دولة بل دول فى المشارق والمغارب، فهل راعت شروط الاستخلاف، أم جرت على الإسلام وأمته المتاعب..؟. لقد لبث الحكم فى أيدينا أحقابا، فلما لم تحسن الأمة الإفادة منه فى دعم رسالتها ورفع رايتها، انتزعه الآخرون منها، وها هى ذى تلهث لتستعيده. وهو إن شاء الله عائد إلينا طال الزمان أو قصر، غير أنه لن يعود حتى تختفى من بيننا أوهام كثيرة فى فهم معنى السلطة، وحتى ترقى أمتنا ماديا ومعنويا فتكون الدولة فى يدها لخير الجماهير لا لإرضاء فرد مغرور.. إن فن الحكم فى العالم المعاصر قد ارتقى إلى أوج بعيد، وفى انجلترا مثلا يستطيع عامل فى أحد المناجم أن يجابه الحكومة دون أن تخالجه ذرة من قلق! وقد ينتصر أو ينهزم فلا يزيده نصر ولا تنقصه هزيمة!. ولو وقع ذلك فى بعض الدول الإسلامية لأمر الحاكم بقطع عنقه، ولمزت الدهماء على جسده الملقى يقولون: ما دخلك يا صعلوك فى سياسة الملوك؟. ص _110(1/103)
إن الشعب والحكومة معا دون مستوى الإسلام الذى ينتمون إليه، بل هم والحق يقال عار عليه! لقد اختفت تحت أطباق الثرى تقاليد الخلافة الراشدة، وبقيت فى العقل الباطن للدهماء تقاليد السلاطين الذين هم ظل الله فى الأرض، وفتاوى العلماء الذين تواصوا بقبول الأمر الواقع، أو بالتعبير الفقهى الخضوع لمن نالوا الحكم بالغلبة والقهر..!. ثم كان من احتاك المسلمين بغيرهم من أهل الأرض، أن ظهرت وطبقت فلسفة الديمقراطية، ورأى من لهم فقه وتقوى أنها قريبة من " الشورى الإسلامية" فكيف انتقلت إلينا " ديمقراطية " الغرب؟.. إن الحكم الفردى صالح بينها وبين رغبته، ويستطيع الحاكم " المهم " فى بلاد الإسلام أن يظل عشرات السنين، يُنتخب هو وحده لا غير، عشر مرات أو أكثر ما دام حيا.. ويقول هذا الحاكم للمتدينين هذه هى الشورى التى تنادون بها، ويقول للناس من وراء الحدود، أنا وليد انتخابات حرة، وإرادة شعبية. والأرض والسماء يعلمان أن هذا كذب وزور.. والأمر يحتاج إلى تغيير جذرى كما قلنا فى كيان الأمة وعقلها وضميرها حتى لا تمر هذه المهازل أبدا.. ويضحك أولو الألباب ومن حقهم أن يبكوا عندما يسمعون متحدثا باسم الإسلام يصحح هذه الأوضاع!. هل تحتاج أمتنا إلى أربعين سنة تصح فيها كما احتاج بنو إسرائيل؟ لا أدرى! كل ما أقدر على قوله أن الإسلام لا يقبل حكما عسكريا، ولا يعرف خرافة: " الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد " وأن على دعاة الإسلام من خلال تعاليمه لا من خلال تقاليد عصور الانحطاط والفوضى فى تاريخه المديد. ص _111(1/104)
عليهم أن يعدُّوا قتيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر شهيدا أغر الجبين لا صعلوكا يقاوم السلاطين، فإنهم بهذا المنطق الجبان لن يكونوا مسلمين! ولن يصلحوا لقيادة أنفسهم بله أن يقودوا العالمين..!. وصلة الاقتصاد بالسياسة وثيقة، ومراقبة سير المال بين جماهير الناس لابد منها، وتحديد موقف الحاكم من المال العام شارة كل دولة محترمة. وقبل أن نشير إلى ما يقع فى بلادنا الإسلامية نريد أن نثبت نموذجا من الخلافة الراشدة يوضح طبيعة الحكومة الإسلامية والسمة البارزة لحياة الحاكم المسلم. كان عمر بن الخطاب مرموق المكانة فى الجاهلية والإسلام فلما ولى الخلافة، واتسعت رقعة الدولة فى عهده، وورث ملك الأكاسرة والقياصرة، لوحظ عليه أنه حريص على استصغار شأن نفسه سرا وعلنا، وعلى توكيد أنه رجل لولا فضل الله ما كان شيئا يذكر..!!. كان عمر مع قافلة من الناس يمرون بشعاب " ضجنان " - جبل قريب من مكة - فسمع يقول: " لقد رأيتنى فى هذا المكان، وأنا فى إبل للخطاب وكان فظا غليظا أحتطب عليها مرة، وأختبط عليها أخرى، ثم أصبحت اليوم يضرب الناس بجنباتى ليس فوقى أحد! ثم تمثل بهذا البيت: لا شئ فيما ترى إلا بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد! وخرج عمر يوما حتى أتى المنبر فشوهد عليلا، وكانوا قد وصفوا له عسل النحل، وفى بيت المال عكة - آنية صغيرة - فقال للناس: إن أذنتم لى فيها أخذتها، وإلا فإنها علىَّ حرام، فأذنوا له فيها..!!. وكان عمر يؤكد أنه ما قبل الخلافة إلا رجاء أن ينهض بما لا يقدر غيره على النهوض به، ولولا ذلك لنأى عنها، وفى ذلك يقول: " ليعلم من ولى هذا الأمر من بعدى أن سيُريده عنه القريب والبعيد، وإنى لأقاتل الناس عن نفسى قتالا! ولو علمت أن أحدا من ص _112(1/105)
الناس أقوى على هذا الأمر منى لكنت أن أقدم فيضرب عنقى أحب إلى من أن أتولاه... وقال عمر للناس يوما: " أنا أخبركم بما أستحل من مال المسلمين! يحل لى حلتان، حلة فى الشتاء وحلة فى القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتى وقوت أهلى كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم.. ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبنى ما أصابهم ". ورووا أن الربيع بن زيادة الحارثى وفد على عمر بن الخطاب فأنس إليه عمر وأعجبته هيئته، فشكا إليه عمر طعاما غليظا أكله فقال الربيع: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بطعام لين وملبس لين لأنت، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه، وقال أما والله ما أراك أردت الله بمقالتك، ما أردت إلا مقاربتى! ويحك، هل تدرى ما مثلى ومثل هؤلاء ـ جماهير الناس ـ؟. فقال الربيع: ما مثلك ومثلهم؟ قال عمر: قتل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم وقالوا له: أنفق علينا! فهل يحل له أن يستأثر منها بشىء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين قال: فكذلك مثلى ومثلهم.. ثم قال عمر: إنى لم أستعمل عليكم عمالى ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم! ولكنى استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم. فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علىَّ ليرفعها إلى حتى أقصه منه! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال ص _113(1/106)
عمر: وما لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقص من نفسه؟ وكتب عمر إلى أمراء الأجناد: لا تضربوا المسلمين فتذلوهم! ولا تخرموهم فتكفروهم! ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم!. تلك علاقة الشعوب بحكامها فى تعاليم الإسلام، وقد نكبت الجماهير فى أقطار عدة برجال مترفين استباحوا الضعفاء، وأذلوا من أعز الله، وأعزوا من أذل الله ، فقامت عليهم ثورات محنقة ركب موجتها شبان مغامرون باسم الاشتراكية التى تنصف الشعوب وتحقق العدالة الاجتماعية، فماذا كان؟. دخلت الشعوب فى محن متتابعة أفقدتها دينها ودنياها معا، وأنزلت بها هزائم عسكرية وسياسية كست الوجوه بالقار والعار!. رفع أولئك المغامرون شعار العروبة بعد تجريدها من الإسلام، واتباعها المذاهب المغيرة على بلادنا من الشرق الشيوعى أو الغرب الصليبى، وأكرهت الجماهير إكراها على قبول الشعار الجديد. وكان بالقادة الجدد جوع شديد إلى الظهور والعظمة، كما كان بهم جوع إلى الرفاهة والبذخ فإذا قصورهم تترع بالملذات وأهلوهم يمرحون فى فنون من الوجاهات والمتع.. ولما كانوا خالين من المواهب الرفيعة والتجارب المفيدة، فقد أساءوا النقل والاقتباس، وزعموا أنهم سوف ينهضون بالبلاد صناعيا، فأضاعوها زراعيا وصناعيا.. وكانت نتائج انقطاعهم عن الله، وجهالتهم بالحياة، أن خذلتهم قوانين الأرض ص _114(1/107)
وبركات السماء فإذا العرب والمسلمون يقعون فى ورطات رهيبة وتجتاحهم هزائم مذلة فى كل ساحة. وما عسى أن يفعل القدر لرجل يخطب فى الحشود المسوقة إليه فيقول وهو يعبث بين أصابعه بقلم: ماذا فعل محمد للناس؟ محمد (!) هكذا يذكر صاحب الرسالة العظمى (!) وتصورت معزة خرجت من مربضها لتقول للشمس : اغربى إنك ما تصنعين للكون شيئا...!!. وزعيم آخر نسى كل النسيان أنه كان فى طفولته يجرى وراء جحاش القرية ثم صيرته الاشتراكية زعيما فإذا هو لا يمتطى فى تنقلاته إلا الطائرات السمتية كبرا عن أعظم السيارات. وآخر، وآخر... ما أكثر الأصفار التى ظنت نفسها ألوفا فى أرض الإسلام اليتيم!. والجماهير تنظر فى بلاهة، وقد حبسها فى موقفها السلبى حب الدنيا وكراهية الموت وإرخاص الحق وعشق الشهوات... إن رسالتنا الكبرى قاعدتها أمة مؤمنة بها حريصة عليها وأداتها الأولى جهاز الحكم فيها وقد تكون الأداة قاصرة، أياما أو شهورا ! أن تكون الأداة مضادة لرسالة الأمة منسلخة عن وحيها، والأمة نفسها لا تعى ولا تتحرك، فالأمر يتصل بالقاعدة نفسها...! والإصلاح الأول لا يتجه إلا إليها... من أجل ذلك أهيب بالإسلاميين أولى الغيرة على دينهم ألا يضيعوا وقتا فى جدال، وألا ينخدعوا عن فساد الموضوع بفساد الشكل، وأن يتجهوا إلى أمتهم ذاتها يعالجون عشرات العلل الكامنة والوافدة التى تنخر فى كيانها وتباعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها. إن الحالمين بانقلاب عسكرى يجب أن يستيقظوا وإلا كانوا هم أنفسهم قسما من المرضى! لقد تدبرت أحوال دول ما تزال تعبد الأصنام فوجدتها وصلت إلى حد الاكتفاء ص _115(1/108)
الزراعى، وقفزت إلى الصناعات الإلكترونية، وفجرت القنبلة الذرية، واستقرت فيها الأنظمة الديمقراطية، ورجعت البصر إلى أمتى فوجدتها دون ذلك كله، فازداد حتى بخطورة ما انتهينا إليه!. بل لقد تأكد لدى أن الحضارة الغربية ـ بشقيها المتنافرين ـ قد تبقى عصرا آخر لا يعلم إلا الله مداه، ما بقى المسلمون رسميا وشعبيا على هذا المستوى من الإسفاف فى نواحى حياتهم الفردية والاجتماعية..! لأنهم لن يصلحوا بديلا لوراثة الأرض!. إن الدين كما درسته فى كتاب ربى إيمان وإصلاح لا نفاق وإفساد! ألا تقرأ قوله تعالى (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون). ما أحلى شعار الحكم بما أنزل الله.. هل تحكم بما أنزل الله فى نفسك؟ وفى بيتك؟، وبين جيرانك وإخوانك؟ وفى عملك..؟. لقد تقلبت بين طوائف كثيفة، وبلوت الكبار والصغار، فشعرت أن الناس عندما يتخفون عن مشاعر الحب والرحمة، وتستبد بهم نوازع الأثرة والتكاثر، يتحولون إلى وحوش مرهوبة الفتك!. أين كلمة الرسول: " لن تؤمنوا حتى تحابوا "؟ إن فقدانها لا يسد مسده شىء، وشرائع الحدود والقصاص ما منها بد! بيد أنها لا تغنى أبدا عن شرائع الأخلاق وتقاليد الحنان والأدب والرفق.. والحكومات تستبعد من عالم القانون نصوصا دينية لا ريب فيها لأن الصليبية والشيوعية قررتا إماتة هذه النصوص، وسوف تعترضان محاولات بعث الحياة فى هذا التراث..!!. ص _116(1/109)
حسنا، فهل يتحقق الإسلام عندما يطبق المسئولون فى العالم الإسلامى هذه الشرائع؟ إن الذين جاءوا بطريق غير إسلامى لن يحسنوا الحكم بما أنزل الله! والذى سرق منصبه بطريق التزوير أو الاغتصاب لن ينصف الإسلام يوم يقطع يد لص صغير، كل ما حدث أن اللص الكبير قطع يد لص ضعيف.. الإسلام كل لا يغنى بعضه عن بعض، والحكومة فيه إفراز طبيعى لأمة مؤمنة، أمة اختارت الأكفأ والأصلح ، وائتمنته على دينها ودنياها، ووضعته تحت رقابتها، ولها حق مطلق فى تنحيته يوم تشاء..!. الشعوب الطبيعية عرفت ذلك ونفذته جزءا من منطق الفطرة، أعنى منطق الإسلام، وهل الإسلام إلا الفطرة السليمة؟. إن غيرنا أقرب إلى تعاليم الإسلام فى مجال الحكم، وإن كان بعيدا عنه فى مجال الاعتقاد!. يعلم الناس أن مستر " تشرشل " هو بطل انجلترا وكاسب النصر لها فى الحرب العالمية الثانية، وحقه على قومه كبير، لكن قومه رأوا غيره أقدر منه فى أيام السلام وأجدر بالوزارة فأبعدوه دون حرج، وذهب الرجل إلى بيته دون ضجة.. وكذلك جنرال " ديغول " الذى مسح العار عن وطنه فى أيام كالحات، وقاد فى المنفى حرب مقاومة انتهت بالنصر! لقد قال له الفرنسيون يوما: جنرال لم ورقك واترك منصبك فكان الرجل أسرع من البرق فى جمع أوراقه والانطلاق إلى قريته. ولو فكر أحدهما فى الخروج على مشيئة أمته لما وجد خادما يقدم له الطعام، بل ما وجد من يبيعه الخبز، ذاك لو بقى حيا!. أما فى البلاد التى يعيش فيها مليار عربى ومسلم فللوثنية السياسية منطق آخر. يقول القائد اليهودى " مردخاى ": " إن النصر الذى تم لنا فى حرب الأيام الستة فاق أشد الأحلام جنونا " وهذا حق، فقد كسب اليهود أرضا ومالا وجاها تتجاوز الخيال دون ص _117(1/110)
خسائر تذكر، لم تكن حربا هذه الرواية التى وقعت! إن القادة العرب قدموا جنودهم لجزار لا تكل يداه من الذبح، وعندما تعب من التنكيل بخصمه ساق البقية أسرى!!. ثم ماذا؟ رجع القادة المدحورون المعصوبون بالخزى يقولون فى وقاحة لم يعرف التاريخ لها نظير: هذه نكسة! المهم أننا نحن بقينا..!. ثم ماذا أيضا؟ انتظروا من الجماهير أن تهتف بأسمائهم وأن تقدم لذواتهم المصونة الولاء..!. وتم لهم ما انتظروه! قادة النصر فى الغرب تستبدل بهم شعوبهم من تراه أفضل لها، وقادة الهزيمة هنا يبقون جاثمين على صدر الأمة حتى يوردوها القبور... ولا أزال أستغرب الصمت الذى يحف قتل عشرات الألوف من المسلمين فى حماة ثم فى طرابلس - لبنان. لئن كان القتل جريمة شنعاء إن هذا الصمت الجبان جريمة أشنع لكن هذه نتائج الموت الأدبى.. ومازلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب، أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك..!. إن علل أمتنا غليظة، وإذا لم ينشغل دعاة الإصلاح بعلاجها فبم يشتغلون؟. هناك تقاليد انحدرت إلينا من ماض طويل، ما أنزل الله بها من سلطان، ثم جاءنا الاستعمار العسكرى والثقافى بتقاليد أخرى هى من مباذل الغرب وهناته، ربما كان محصنا ضدها أو قليل التشكى منها، لكنها لما جاءتنا كانت بالغة الضرر.. هذه التقاليد وتلك، اعوجت بفكرنا وسلوكنا على سواء، وأكاد أقول: إننا بهذا الاعوجاج نشبه بنى إسرائيل قبل أن يعاقبوا بأيام التيه! أو نشبههم عندما تمردوا على الوحى، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم.. وما خلت الأمة على تطاول القرون من مذكر بالحق وداع إلى الخير! والذى ألفت النظر إليه أن التغيير الحاسم لا يتم ارتجالا، ولا يتم بين عشية وضحاها، ويجب أن يتجرد له ص _118(1/111)
رجال لا يخافون فى الله لومة لائم، ولا تخلع قلوبهم رهبة أو رغبة، يمشون فى الطريق الطويل الذى سار فيه الأنبياء، ولا يفكرون فى انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة، إنما يفكرون فى الإصلاح المتأنى، والتغيير الذى جزم القرآن الكريم بنتائجه قال (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وهناك من يطلب السلطة لتكون بين يديه أداة التغيير المنشود!. وأكره أن أتهم نية هؤلاء أو نهجهم، فقد عشت معهم ومازلت بينهم، ووجهة هؤلاء الرجال أن الحكم فى أرض الإسلام منحرف من زمان بعيد، وهم يتساءلون: ما الشرعية التى يعتمد عليها هذا الحكم؟ الحكومات المدنية تستند فى مشروعية بقائها على أنها تمثل الشعب، والحكومات الدينية تستند إلى أنها تطبق الدين!. فماذا لم يكن ثم تمثيل للشعب ولا تحكيم للدين فأين مشروعية البقاء؟ والنزاع الدموى الطويل الذى شجر بين الفريقين يرجع إلى التنافر الحقيقى بين الأمر الواقع وطلاب التغيير!. وأنا أدعو هنا إلى سياسة جديدة فى خدمة الإسلام، وبناء أمته التى تتواثب حولها شياطين الإنس والجن تكفينها والخلاص منها. ودعوتى أساسها الاستفادة من التجارب الطويلة، والنظر الدقيق فى الأسلوب الذى سار عليه رسل الله، وخاتمهم العظيم محمد بن عبد الله، الذى دعا إلى الحق، وتنزه عن كل مأرب، وأمن أهل الدنيا على ما بأيديهم (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد). وقد لاحظت فى أثناء الصراع القاسى بين الإسلاميين وغيرهم من الحكام، أن أغلب ص _119(1/112)
الذين يملكون الأمور يمضون مع تيار السلطة وينغمسون فى عبابه انغماس السمك فى الماء. أى أنهم يحسون أن الخروج منه انتقال إلى الموت، فهم يدفعون عن حياتهم، ويرون من يحاول استلاب السلطة منهم قاتلا، يجب الإجهاز عليه قبل أن يجهز عليهم!. وشىء ثان أن ظنهم سيئ بالإسلاميين، فهم لا يرونهم أصحاب مبادئ بل أصحاب مطامع، وأن مغانم الحكم هى التى تحركهم، فلماذا تترك لهم؟. والشىء الثالث الخطير أن بعضهم يجهل الإسلام جهلا بسيطا أو مركبا بل لقد رأيت فى سياحاتى بالعالم الإسلامى من يكره الصلاة والعفاف أكثر من كره الشيوعيين والصليبيين لهما..!!. ويفرض هذا كله على الدعاة التجرد التام وهم يرفعون راية الإسلام، وأن يعلنوا بقوة عزوفهم عن الحكم ورفضهم لمناصبه، وإيثارهم أن يقوم غيرهم بمهمة التطبيق والتنفيذ وتأييدهم القوى لمن يسارع من الحكام إلى العمل بالإسلام.. وليست مهمة الدعاة تلمس الأخطاء وكشف أصحابها، ولا أن نتحول إلى نقاد سياسيين يشغلنا الهجاء عن البناء. الذى أراه أن نكدح فى الميادين الداخلية لنعيد بناء أمة توشك أن تتحول إلى أنقاض، وما أكثر هذه الميادين وأفقرها إلى العاملين إننا لو انتصرنا فيها ربحنا تسعة أعشار المعركة. وكل عمل مقرون بالجهل أو الغلو يصيب الإسلام فى مقاتله، ويجعل صاحبه ـ من حيث لا يدرى ـ عونا لخصوم هذا الدين.. قد تقول : إن السلطات القائمة سوف تمنعنا من هذا العمل! فماذا ترى؟. وأقول : إن الأنبياء منعوا من قبل عن أداء رسالتهم لكنهم مضوا فى الطريق الطويل ص _120(1/113)
يتحملون التكذيب والتعويق (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله) مضوا يبنون ولا يهدمون ويحسنون ولا يسيئون، مضوا فى طريق التوعية والتربية والتبصير بالآخرة والاشراف على الحياة الدنيا من مستواهم العالى، لا يزاحمون عليها، ولا يُظن بهم طمع فيها، حتى تخير الله لهم مكان النصر وزمانه، وكان ما قدر الله!!. عاش من عاش محققا رسالته، ومات من مات موطدا عند الله مكانته. لقد سمعت شبابا يشكو طول هذا الطريق، ويهز رأسه رافضا، إنه يريد معركة سريعة!. إن ريبتى شديدة فى قلوب هؤلاء أو فى عقولهم، وأدعو الله أن يقى الإسلام شرهم. ص _121
الأبعاد الإنسانية لخطاب الرسول فى حجة الوداع عندما أصلى على محمد أشعر بأننى أزجى الثناء الحسن لمن يستحقه، وأنوه بالعبودية الصادقة لمن عاش حياته يرضى ربه ويجاهد فى سبيله! وأسأل ربى أن يتقبل صاحب هذه الحياة المباركة ويخلد آثاره، وأن يساعدنى على اقتفاء أثره والاقتداء بسنته.. وعندما أسلم على محمد، وإخوانه المرسلين أقف على أطلال ماض طويل، وتاريخ سحيق كان رسل الله خلاله يكافحون الطواغيت ويخاصمون الجاهليات، وقد سال عرقهم ودمهم وتغضن جبينهم وتنكد عيشهم، ولكنهم صابروا وتحملوا.. وبعد لأى دارت الرحى على الكافرين فحصدتهم، ونجت العقائد والشرائع ومعالم الوحى الأعلى، وخلصت للأجيال المقبلة كى ينتفعوا بها، ويحصدوا ما غرس الأولون! وقيل بعد هذا العراك المرير ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى …) وقيل أيضا (سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين). إننى عندما أصلى وأسلم على محمد، أصل نفسى بأشرف ما فى الوجود، وأثبت خطوى على الصراط المستقيم، وأرتضى قيادة تحتضن الحق وتؤثر الرشد، وأعلن أن هواى مع ما جاء به. إن الصلاة والسلام هنا توكيد منهج وتحمل عبء، ومشاركة قلبية وفكرية للإنسان ص _122(1/114)
حرر الإيمان من الخرافة، ونفى الحق من الشوائب، وربط الفطرة السليمة بالوحى، وصالح بين العقل والدين، وجعل الدنيا مهادا صالحا للأخرى.. إن محمدا ليس بشرا عاديا.. إذا كان الناس أجمعون قد خلقوا للعبادة، فإن محمدا كان النموذج الأكمل للعبودية المستكينة العانية المستسلمة لجلال الله، وإذا كانوا قد خلقوا ليظهر أيهم أحسن عملا، فإن محمدا حلق بسيرته فى مستوى ترنو إليه الفلاسفة والأبطال والقادة العظام ثم يتمنون لو أدركوا غباره، ونضح عليهم سنا منه.. نعم ليس محمد بشرا عاديا، وقد درست حياة رؤساء وساسة ومفكرين ورجال سلام ورجال حروب، وأناسا واتتهم الحظوظ فبرزواه وآخرين كبت بهم الحظوظ ففشلوا.. وأبت بعد هذه الدراسة وأنا أحمل فى نفسى تقديرا، خاصا لمحمد النبى الإنسان، النبى المربى، النبى الذى أصلح أخطاء القرون، ورد للعالم عقله الغائب، وكثير ما أودع تقديرى ذاك فى الصيغة التى أمرنا بترديدها صيغة الصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله. استصحبت هذه العاطفة وأنا أطالع الصحائف الأخيرة من السيرة الناضرة وأتابع الكلمات التى قيلت فى حجة الوداع، إن الخطبة التى ألقيت فى هذه الحجة لا تستغرق بضع دقائق ولكنها أهم من خطاب يستغرق بضع ساعات، ولا عجب فصاحبها أوتى جوامع الكلم، واختصرت المعانى له اختصارا قوالب للحق، وأوعية للمعانى، وشفاء لما فى الصدور، وذاك حسبهم من الأداء... وليس فى خطبة الوداع شرائع جديدة، إنها ترديد لأحكام سبقت، أو تطبيق لأصول تقدمت، أو تلخيص لما استفاض شرحه، والمراد تذكير الناس عامة بما قد يحاول الشيطان زحزحتهم عنه أو تنسيتهم إياه.. وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشعر بأنه قارب النهاية، وأن الأمة التى أنشأها قد تشبثت بظهر الأرض وفرضت نفسها على التاريخ، وانتقل الأذان مع الرياح الأربع، وتوزعت جماعات الصلاة على أطراف الزمان، فهى تلتقى على طاعة الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ماذا بقى(1/115)
له؟ لا يريد لنفسه شيئا، صحيح أنه مرسل للعالمين، ليكن، ص _123
فهؤلاء الذين رباهم سيمدون النور إلى ما بقى من أرض الله، إن الجيل الذى رباه جزء من الرسالة التى أداها... من أجل ذلك كان يحدث وفى الوقت نفسه كان يودع، وفى تضاعيف حديثه كان يفرغ كل ما فى فؤاده من نصح وحب وإخلاص. والعرب قبل غيرهم من الناس أجدر أهل الأرض أن يعوا هذه الوصايا، فإن النبى الخاتم عانى معاناة طويلة وهو يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويبرئهم من علل يكاد يكون الشفاء منها مستحيلا، وعندما صنع منهم بالإسلام أمة جديدة أراد أن تكون هذه الأمة عنوانا عظيما على حقيقة عظيمة، أى أن دعايتها للإسلام ليست نشرات مكتوبة توزعها وزارة السياحة، أو خطبا تعتمد على إحصاءات مكذوبة، أو أنباء مختلقة.. لا، لا. إن جمال عملها بالإسلام، وصدق بلاغها عنه هو الذى يصنع لها القبول ويجمع حولها الأنصار. إن النبى عليه الصلاة والسلام يعرف العرب معرفة جيدة، ويعرف أغوار الفرقة والخصام فى أفئدتهم، ويريد إشعارهم بالنعمة التى أفاءها الله عليهم، ولذلك يقول لهم فى هذه الحجة (حجة الوداع): " ويحكم أو ويلكم!! انظروا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "!!. ما أغلى هذه الوصية، وما أبعد مداها فى التاريخ لقوم يعقلون.. على أن العلاج النبوى ليس لطيش الغرائز عند جنس بعينه، إنه لأجناس الخلق كلهم والأمر كما قلنا فى مكان آخر: إن الله ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أجمعين (وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس). ص _124(1/116)
ومن ثم جاء فى آخر الخطاب النبوى " ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ". وقد دخل فى دين الله بعد ذلك ألوف وألوف كانوا على اختلاف الألسنة والوجوه أوعى وأقدر، ولا يزال المد متصلا إلى قيام الساعة. ونعرض الآن للمبادئ الرئيسية فى هذه الخطبة الجليلة وفق ترتيب اخترناه يناسب عصرنا. ا- الإنسانية متساوية القيمة فى أى إهاب تبرز، لا يفرق بينها سواد أو بياض، لا تفاوت بينها نسب إفريقى أو أوربى، فالنزاعات العنصرية، والنعرات الوطنية ضرب من الدجل والإفك!. ومن ذكر الواقع الردىء أن نصف الحضارة الحديثة بأنها حضارة القوميات والألوان، وأن شعوب أوربا وأمريكا تضمر فى نفسها احتقار، لأبناء القارات الأخرى، ومهما غطت هذا الشعور فهو يتنفس بقوة فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تفلح المواثيق النظرية فى كسر شره.. وقد نبه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ضلال هذا المسلك فى خطبة الوداع بقوله: " أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربى فضل على عجمى إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال "اللهم اشهد ". 2- ولكسب المال قصة عميقة المجرى فى تاريخ البشر، وقد راقبت الأنظمة المتضادة وهى تحاول توفير الطمأنينة بين الناس، راقبت نظام التحكير ونظام التسعير، نظام إطلاق الملكية وتقييدها، نظام سيطرة الفرد وسيطرة الشعب، فوجدت أن النفس تدور حول أثرتها، ولا تبالى فى سبيل غايتها.. ص _125(1/117)
وما لم يكن هناك إيمان بالله فإن قوانين الأرض مسرح للعبث والتظالم، من أجل ذلك يقول الرسول فى هذه الخطبة " أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه " لكن هذه الإشارة المجملة لا تغنى عن إيضاح أوسع يحسم مادة التظالم بين الناس فى شئون الحياة كلها، فلنستمع إلى هذا التوجيه المثير. 3- أيها الناس أتدرون فى أى شهر أنتم، وفى أى يوم أنتم، وفى أى بلد أنتم، قالوا: فى يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم.. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد!. لكن بعض الجبارين، حكاما كانوا أم محكومين، تحملهم قوتهم على اجتياح الضعفاء، ونكبتهم فى حقوقهم المادية والأدبية، وقد اشتعلت ثورات هائلة للثأر من الظلمة، ووقعت حمامات دم، لم يكن القصاص فيها من الظلمة بقدر ما كان من ذراريهم وحواشيهم، ثم اتسع الخرق فهلكت ألوف مؤلفة من الأبرياء، وقامت حكومات جديدة ونشأت أنظمة أخرى، وتكررت المأساة نفسها حتى لكأن التاريخ سلسلة من المظالم مَن يفر فيها من الجناة أضعاف من تحيط بهم خطاياهم، وسوف يبقى الأمر كذلك حتى نعى قول الرسول فى هذه الخطبة " إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ".. 4- وكان الربا قديما رذيلة ساذجة، أساسها إمهال المعسر بثمن يسير أو فاحش، ثم أمسى فى المؤسسات العالمية رذيلة معقدة مدروسة تطيح فيها شعوب وجماعات، الدولة الفقيرة الآن تريد بناء مرفق هى فى حاجة إليه، فتقترض المال المطلوب من دولة غنية، ثم تأخذه على شرط شراء مواد البناء من الدولة المقرضة، وجعل الجهاز العامل من أبناء هذه الدولة! وبعد أن تحدد سعر الفائدة الربوية كما تشاء، تحدد أجور الموظفين من بينها، وأسعار المواد التى تقدمها، وتصرف القرض مائة ليعود إليها عدة مئات.. ص _126(1/118)
وجمهرة الدول الفقيرة الآن معرضة للإفلاس من جراء هذه السياسة الجشعة، وهى تترنح تحت وطأة الوفاء بما يبهظ كاهلها أو يقصم ظهرها.. ووددت لو تبنت الدول كلها مبدأ تحريم الربا، وتقرير مصاريف إدارية معقولة للصناديق أو المصارف التى تشتغل بالإقراض هكذا علَّم النبى البشرية من خمسة عشر قرنا عندما قال "... ألا وإن كل ربا فى الجاهلية موضوع، وإن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلَمون، قضى الله ألا ربا، وإن أول ربا أبدأ به - أسقطه - ربا عمى العباس بن عبد المطلب " - وكان من كبار التجار المتعاملين بالربا. وقد رأيت أن تحريم الربا لا يستريح له إلا من خشى ربه، وقد قال بشناعة الربا كارل ماركس فهل نفذ التحريم من حكم باسمه من الشيوعيين؟ كان الروس يبيعون السلاح للدول التابعة لهم بأغلى الأسعار، ثم يتقاضون الثمن المؤجل مضافا إليه ربا فاحش!. إن الحضارة المادية التى تقود العالم لا تعرف إلا اليوم الحاضر والربح العاجل، أما قوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) فحديث خرافة عندهم!. 5- وصيانة الدماء قضية خطيرة وعندما كتب الله القصاص فى القتل والجراحات، كان يريد زجر المجرمين عن العدوان، وعندما يعلم امرؤ أنه لاق حتما المصير الذى يوقعه بغيره سيتردد طويلا فى قتل هذا أو جرح ذاك... وإذا غلبه الطيش فاعتدى فإن منظره مقتولا أو معاقبا سيوقع الرهبة فى قلوب الآخرين، وقد قيل: القتل أنفى للقتل، وقال الله تعالى ( في القصاص حياة). وأغلب الدول العظمى الآن ألغت القصاص واكتفت بعقوبات تافهة لم تجد فى حماية ص _127(1/119)
المجتمع، وأصابتنا حُمّى التقليد، فشاعت بيننا الجرائم، وانشغل المظلومون بطلب الثأر لمن ينتمى إليهم أو ينتمون له. وقد حسم الإسلام هذه الفوضى، بشرائعه العادلة، ويجب علينا إسدال ستارة سميكة على الانحرافات التى سادت العالم لتبدأ بعدها صفحة جديدة من تطبيق الأحكام السماوية. ولا كرامة لباطل كما قال رسول الله فى هذه الخطبة الجامعة " ألا وإن كل دم ومال ومأثرة كانت فى الجاهلية، تحت قدمى هذه، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب " - قتله الهذليون فى الجاهلية وكان بين ظهرانيهم - وأراد النبى الكريم أن يفتح العرب بالإسلام صفحة جديدة تجب الماضى، ويبدأ بها عهد جديد. 6- وتحدث النبى - صلى الله عليه وسلم - عن حقوق النساء، وهو حديث يحتاج إليه المسلمون المعاصرون، كما يحتاج إليه بقية الناس فى المشارق والمغارب، ذلك أن مواريث المسلمين الثقافية مثقلة بتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، كما أن الأوربيين أسفت بهم شهواتهم إلى مدى ردىء. كان العرب لا يرون المرأة شيئا ولا يقيمون لها وزنا، بل لعلهم حسبوها شرا لابد منه! وقد لجأ بعضهم إلى قتلها وهى طفلة حسما للمتاعب والمخازى!!. ولما جاء الإسلام محا هذا المنطق محوا، وبين أن النساء شقائق الرجال، وأنهم سواء فى تكاليف العقائد والعبادات والأخلاق، وأنهم سواء فى استحقاق الثواب والعقاب بما يعانون من جهد فى سبيل الله، وأن الزعم بأن الذكورة تقدم صاحبها وأن الأنوثة تؤخر صاحبها لون من الكذب. وبذلك رفض الإسلام ما كان شائعا بين العرب من ازدراء الأنوثة، وأقام مجتمعه الجديد على قواعد أخرى، وإن كانت الطبيعة العربية فيما بعد تمردت على هذه القواعد، وكما نزعت إلى التشرذم والعصبيات والمنافرات وسفك الدم نزعت إلى حصر وظيفة المرأة فى ص _128(1/120)
شهوتى البطن والفرج، وضنت عليها بالوجود فى ميدان العلم والثقافة والعبادة والإصلاح ودعوة الخير التى هى الصفة الأولى للأمة الإسلامية (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير). ولا ريب أن وظيفة المرأة فى بناء الأسرة خطيرة لا يقبل التفريط فيها، كما أنه لا ريب فى أن المجتمع كله مطالب بصيانة الأعراض، ومنع أى عبث بها. والأمة الراشدة تستطيع التوفيق بين هذه الأهداف جميعا، فلا تضع المرأة فى قفص الاتهام بغباوة، ولا تطلقها لتكون مصيدة للآثام، ولا تجور على غيرة الرجل، ولا تهمل حقوق الله. وقد يخطئ الرجل فيؤاخذه المجتمع، ولا يدع تأديبه، وقد تخطئ المرأة فلا يتركها الدين وإنما يدع أمر تأديبها إلى زوجها؟ ليكون جبارا بل ليمنع العوج والنشوز، ويعيد الاستقرار فى جوانب البيت.. وفى ذلك قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى خطبة الوداع " أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا، وإن لكم عليهن حقا، فعليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه، إلا بإذنكم! فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع، وأن تضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف! وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرا !. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: " اللهم اشهد ". ص _129(1/121)
وعقد الزواج ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتقاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأرقى، ولم يقل الشارع: إن المرأة إذا ارتكبت خطأ ارتكب الرجل ضدها خطيئة، والمحزن أن تقاليد المسلمين بعيدة عن دينهم، وليست قط صورة تشرف الإسلام. ولا نعتذر بذلك لدنايا الغرب أو نهون منها! وإنما نريد إنصاف الشريعة ومحو الغبار الذى أخفى معالمها، وشرع الله أفضل من أهواء الناس فى الشرق أو الغرب. 7- وفى حجة الوداع أكد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرمة الأشهر الحرام، وهذا أمر يحتاج إلى بعض البيان، إن الأمم تحتاج إلى أمكنة وأزمنة يتوفر فيها السلام والهدوء، وتقلم فيها أظافر الوحوش الرابضة فى دماء البشر، أمكنة وأزمنة يأمن فيها الإنسان على حقوقه المادية والأدبية، ويثق بأنه لن يجد أذى أو كيدا من عدو أو صديق. وقد ألهم الله إبراهيم ومحمدا عليهما السلام فجعلا مكة والمدينة حرمين آمنين، كما أنه سبحانه جعل من السنة أربعة شهور تجمد فيها الخصومات حتما وتتوقف الحروب.. وفى عصرنا حاولت بعض الدول أن تجعل نفسها محايدة بين شتى الجبهات، كما أن هناك محاولات لجعل مناطق من الأرض مجردة من السلاح الذرى، والمحاولات لكفكفة شرور الناس متصلة!. بيد أن الأشرار لا يكفون عن بسط أيديهم بالشر ما استطاعوا، وفى الجاهلية العربية حاول نفر من الجبابرة إبطال حرمة الشهر الحرام، لأنه كان راغبا أن يقاتل فى هذا الشهر فأفتى نفسه بأن يحله، ويحرم شهرا آخر مكانه، ويمكن الإرجاء والتبديل تبعا للهوى. ولا ريب أن ذلك أضاع مكانة الأشهر الحرم، ومكن الأقوياء من العدوان، كلما تيسر لهم. ونحن المسلمين نود لو يملأ السلام أرجاء الأرض، ويستغرق أعمار البشر، وأنى لنا ذلك؟ فى كل صلاة نهتف من أعماقنا " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " وفى كل صلاة نتلفت يمينا ويسارا لنوزع السلام حوالينا!. ص _130(1/122)
ومع ذلك لم نفلت من شباك الفتانين والجبارين فخضنا الحروب كارهين مكرهين! ولا نزال كذلك حتى يوم الناس هذا، فماذا نصنع؟. إن نبينا صلوات الله عليه ناشد الناس أن يستعيدوا حرمة الأشهر الأربعة فلا يظلموا أنفسهم فيها، وعسى أن يكون ذلك ذريعة إلى منع القتال طوال السنة! ونحن نستأنف هذه المناشدة! بيد أننا نرفض أن تستغل ضدنا، فسوف نقاتل بقينا إذا اعتدى علينا فى أى شهر أو إذا استجم العدو خلالها وأعد عدته للهجوم متربصا بنا السوء!. إننا نعرض على العرب وغير العرب احترام الشهور لتتنفس فيها الإنسانية بهدوء. قال عليه الصلاة والسلام: " أيها الناس إنما النسيء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله " ـ والنسيء كما أشرنا آنفا ـ إرجاء حرمة الشهر إلى شهر آخر حسب الهوى، وقد ظلوا يفعلون ذلك حتى رجع الشهر المستباح إلى وضعه الطبيعى فقال النبى الكريم : " ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم، ولا ترجعوا بعدى كفار، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم قال: اللهم اشهد. 8- بديه أن يكون النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريصا على مستقبل أمته، كارها أن يصيبها ما أصاب الأمم الأولى من زيغ وغضب! والحق يخاف عليه من ناحيتين كلتاهما شر من صاحبتها!. الأولى: غارة همجية تدك قواعده وتمحو معالمه، وهذه تجىء من الخارج والأعداء كثيرون. والأخرى: فوضى علمية وعملية تجعل العدو يغلب القصد، والعوج يغلب الاستقامة، فإذا وجه الحقيقة دميم، وباطنها سقيم.. وهذه تجىء من الداخل، وخلل ص _131(1/123)
الأديان القديمة أتى منها، والمغالون والمنحرفون قد يكونون شرا من العاصين والفاجرين. وقد هوجم الإسلام من الداخل والخارج على سواء، وحاولت الشياطين أن تطفئ نوره، ولكن الله كتب له الحفظ وضمن لأصوله الخلود.. ونحن فى هذا العصر نشكو جراءة العدو وطول يده فى نهبنا، وغلظ طبعه فى إهانتنا، وعند التأمل العميق نرى المسلمين قد لحقتهم مغارم فادحة، وسقط لهم قتلى وجرحى كثيرون، أما المفقودون الذين تاهوا هنا وهناك ففوق الحصر!!. ومع شناعة الغزو الخارجى، فإن فوضانا الداخلية كانت أنكى، وسمعة الإسلام العالمية تحرج الصدور، حتى كتب بعض أعداء الإسلام عن التفرقة العنصرية فى الإسلام (!) كيف شرعها وقررها، وحتى عُرف أن الإسلام يرجح جانب الفرد المستبد على رأى الأمة (!) وأن الإسلام صديق الفقر والتخلف، وأنه عدو المرأة، وأن المال فى مجتمعه دولة بين الأغنياء (!) ومناكر كثيرة حاربها الإسلام منذ ظهر اعتبرت من تعاليمه. والفوضى الداخلية عندنا هى المسئولة عن هذا البلاء، وأعتقد أنها سبب الاستعمار الذى أذل جانبنا. ومع سوء الفقه وسوء الحكم خارت قوى المسلمين وذهبت ريحهم؟! ثم تطلعت الأخلاف بعيدا فرأت بريق التقدم يتخلل أقطارا أخرى لها فلسفات متبرجة ودعاوى ضخمة . فظن المظلومون أن العدالة هنالك، وظن الفقراء والمحرومون أنهم واجدو النعمة والكرامة فى مذاهب القوم ومسالكهم.. بل ظن أصحاب البلاهة والجهل أن الإسلام كان السبب فيما عرا البلاد من تقهقر، وخير لهم أن يستبدلوا به المبادئ التى خلبتهم.. وراجت سوق العلمانية والشيوعية والديمقراطية، وهى مذاهب سدت نقصا ملحوظا ص _132(1/124)
عندما ظهرت، لأنها ظهرت فى بيئات كان الخصام فيها شديدا بين العلم والدين والعدل الاجتماعى والنظام الطبقى، وبين حقوق الشعوب والحق الإلهى للملوك!. إلا أنها مذاهب قرنت بكل خير قدمته شرا يساويه أو يربو عليه، فإذا العالم مملوء بالإلحاد والفساد والأثرة، وانضم إلى ذلك شىء آخر مثير للعجب، إن الأديان الأرضية والسماوية جميعا لبست هذه المذاهب الجديدة على ضغائنها وخرافاتها القديمة، واشتبكت مع الإسلام تريد محوه والعيش على أنقاضه، فعلت ذلك الوثنية واليهودية والنصرانية دون حياء، والحرب الآن على قدم وساق فى الشرق الأقصى والأوسط وفى إفريقية وجنوب أوربا.. وبابا الفاتيكان وغيره يقومون برحلات وسياحات متتابعة للإجهاز على الدين الجريح.. بل إن الشيوعية ـ والمفروض أنها ذات صبغة عالمية ـ كشفت عن أنها حركة تخدم القومية الروسية أو الصينية، وتؤسس استعمارا من لون جديد وتعرض للفناء ثمانين مليونا من المسلمين، وتعمل على محو شخصيتهم، وإفناء عقيدتهم... إننى أحذر أمتى الكبرى من فناء ذريع يجتاحها مع هذا الاسترسال فى الغفلة والجهل بما يحاك ضدها من مؤامرات، وعجزها الشائن عن رد عدو يوشك أن يأتى عليها من القواعد. ولتعلم أمتنا، أن الحل الأول هو الحل الأخير، وأن التعاليم التى صنعتها قديما هى التى تصوننا الآن، وأن التفريط فى الإسلام محو لكينونتنا قال عليه الصلاة والسلام " أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا،، أمرا بينا : كتاب الله وسنة نبيه، وإنكم ستسألون عنى! فما انتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت! فجعل يشير بإصبعه السبابة إلى ص _133(1/125)
السماء، ثم إلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد اللهم اشهد ". هذه هى المعانى التى شاء الرسول أن يؤكدها فى حجته الأخيرة بالناس وهو يقول: أيها الناس، اسمعوا منى أبين لكم، فإنى لا أدرى: لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا..!. والوصايا التى أودعها النبىء ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمائر الناس لا تتضمن قضايا فلسفية ولا نظرات خيالية، إنها مبادئ سيقت فى كلمات سهلة سائغة، لكنها استوعبت جملة الحقائق التى يحتاج إليها العالم ليرشد ويسعد. وهى على وجازتها أهدى وأجدى من مواثيق عالمية طنانة. ذلك أن قائلها كان عامر الفؤاد بحب الناس والعطف عليهم، شديد الحرص على ربطهم بالله وإعدادهم للقائه، عميق الشعور بعبء البلاغ الذى أخذه على عاتقه، موقنا بأن الحياة الصحيحة يستحيل أن تتم بعيدا عن الله ووحيه.. وقد نأى المسلمون ـ فى هذا العصر ـ عن مواريث نبيهم، وإذا كان الشيطان على عهد النبوة قد يئس أن يعبد فى جزيرة العرب.. وإذا كان الإسلام على عهد النبوة قد دفن النعرات الجاهلية والعصبيات الدموية، فإن هذا العصر جدد آمال الشيطان، بل نفخ فيها روح القوة... والعالم الإسلامى اليوم تتوزعه نحو مائة قومية، وتمشى جماهيره تحت مائة راية... وبعض هذه القوميات يقبل الإسلام ضيفا عليه ـ ضيفا فحسب ـ وبعضها الآخر تبلغ به القحة أن يعد نفسه بديلا عن الدين... وقد تفرسنا فى هذه القوميات البديلة عن الدين كما يزعم أصحابها، فإذا الدين المزهود فيه هو الإسلام وحده! وإذا القوميات المنتحلة مصيدة استعمارية لطعن الإسلام وحده، والسماح بالمرور لكل دين آخر... والقوميات الكبيرة تتجول فى محيط السياسة العالمية كأنها حيتان فاغرة فاها، تبتلع ما تريد، وقد استطاعت أن تصنع فى إفريقية أكثر من خمسين قومية صغيرة، أقيمت وفق ص _134(1/126)
مواصفات خاصة، وأشرف على تخطيط حدودها رجال الكنائس المسيحية، وذلك لتنفيذ خطة الفاتيكان فى القضاء على الإسلام وجعل النصرانية الدين الأول فى هذه القارة.. والخطة المرسومة تنفذ بأناة ودهاء، ويتعهدها البابا نفسه بزياراته وبركاته (!)... وما صنع فى إفريقية صنع مثله من قبل فى آسيا، فروسيا أنشأت الاتحاد السوفيتى من أربع عشرة قومية، خمس منها إسلامية، قيل لها كى تقف مقاومتها الحربية: إنها لن تضار من الانضمام إلى هذا الاتحاد من الناحية الدينية.. قال الأستاذ أحمد سليمان المحامى فى مجلة الفكر الإسلامى السودانية: أصدر لينين منشورا مليئا بالوعود الحسنة للمسلمين، وقعه معه ستالين فى 15/12/1917 م ـ إذ كان مسئولا عن شئون القوميات ـ جاء فيه : إن أديانكم وعاداتكم ومعاهدكم العلمية والقومية مصونة من كل اعتداء! نظموا حياتكم القومية تنظيما يستند إلى أسس الحرية والاستقلال، وهذا من حقكم الشرعى (!) واعلموا أننا نحن البلاشفة ندافع عنكم وعن حقوق كل الشعوب التى تعيش فى أنحاء روسيا.. إننا برفع علمنا هذا، إنما نعلن للشعوب المستعبدة فى روسيا شعار الحرية والاستقلال.. أيها المسلمون، نحن ننتظر منكم معاونتكم المادية والأدبية ". ولكن سرعان ما نكص ستالين عن وعده عندما استتب له الأمر.. وهو بهذا النكوص يكرر ما فعلته من قبل القيصرة كاترين الثانية التى وعدت المسلمين بحمايتهم إذا استكانوا للحكم الروسى، فلما ملكت أمرهم أصدرت فى 8/ 4/ 783 1م منشورا تعلن فيه دون حياء، بل تعلن فيه وقد أخذتها العزة بالإثم حنثها بوعدها قائلة: " لذلك أرانى فى حل من تعهداتى السابقة بالتخلى عن القرم، وترك شعوبها حرة مستقلة، وأجد من حقى أن أعود فيما أعطيت وأن أضع يدى على هذا الإقليم.. ". الواقع أن المسلمين ضياع فى روسيا على عهد القياصرة البيض والحمر جميعا، وأنهم يعاملون باستهانة وجفاء، وقد شرحنا ذلك فى كتابنا " الإسلام فى وجه الزحف الأحمر ". إنه(1/127)
ـ كما ينقل موظف من بلد إلى بلد ـ تنقل شعوب بأسرها من قطر إلى قطر! وتبتر بترا ص _135
علاقاتها بماضيها ومجتمعها وأواصرها الروحية والتاريخية، يكفى أن يضمن لها الأكل، كما يضمن للدواب العلف ثم تظل تكدح إلى أن تهلك!! كذلك فُعل بالمسلمين. ويقول الأستاذ أحمد سليمان: إن الأساليب التى اتخذتها كاترين هى، هى التى اتخذها ستالين، الحكام أغلبهم من القومية السلافية، والنفى مصير كل من يرتاب فى ولائه، والإعدام يقضى به حتما على كل من يرفع صوته متبرما من ظلم وقع عليه أو على غيره.. وكما فرضت كاترين توطين بعض الطوائف الكارهة للإسلام فى أرض الإسلام فعل ستالين، فقد نفى عشرات الألوف من المسلمين إلى سيبيريا واستبدل بهم مهاجرين من قوميات أخرى، وفى أحد الأفواج التى نقلت إلى الأرض الإسلامية بلغ عدد اليهود القادمين خمسة وثلاثين ألفا، وكان بعض البلاشفة من السلالات اليهودية يقولون لأبناء جلدتهم: لقد انتقمنا لكم من المسلمين الذين طرد أسلافهم جدودكم عندما كانوا فى جزيرة العرب!! وها أنتم أولاء تعيشون وسطهم فى أرض الاتحاد السوفيتى العظيم... ". المأساة الكئيبة أن المسلمين يجهلون تاريخهم، وأن العرب خاصة يجهلون أو يجحدون ما صنع الإسلام لهم وكيف رفع خسيستهم ! إننى أذكرهم بوصايا النبى وهو يودعهم، ويدعهم يواجهون الحياة وحدهم! إنه يقول لهم: لستم وحدكم، معكم كتابى وسنتى! ميراث لا يعدله ميراث احذروا التهاون به، فمن فعل ذلك (فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق). سلام على صاحب الرسالة الخاتمة، مادامت الأرض والسماء، وما قامت بربها الأشياء.(1/128)