وَإِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَمُرَاقَبَتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكر
وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ فَمُرَاقَبَتُهُ بِمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ ثُمَّ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ فِي النِّعْمَةِ وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا
وَلَا يَخْلُو الْعَبْدُ فِي جُمْلَةِ أَحْوَالِهِ عَنْ بَلِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَنِعْمَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ
بَلْ لَا يَنْفَكُّ العبد في كل حال من فرض لله تَعَالَى عَلَيْهِ إِمَّا فِعْلٍ يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَتُهُ أَوْ مَحْظُورٍ يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ أَوْ نَدْبٍ حَثَّ عَلَيْهِ لِيُسَارِعَ بِهِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَابِقَ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ أَوْ مُبَاحٍ فِيهِ صَلَاحُ جِسْمِهِ وَقَلْبِهِ وَفِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ ولكل واحد من ذلك حدود لابد مِنْ مُرَاعَاتِهَا بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فقد ظلم نفسه} فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته في هذه الأقسام الثلاثة فإذا كَانَ فَارِغًا مِنَ الْفَرَائِضِ وَقَدَرَ عَلَى الْفَضَائِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ لِيَشْتَغِلَ بِهَا فَإِنَّ مَنْ فَاتَهُ مَزِيدُ رِبْحٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَرْكِهِ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَالْأَرْبَاحُ تُنَالُ بِمَزَايَا الفضائل فبذلك يأخذ العبد من دنياه لآخرته كما قال تعالى {ولا تنس نصيبك من الدنيا}
وكل ذلك إنما يمكن بصبر ساعة واحدة فإن الساعات ثلاث ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية
وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدرى ما يقضى الله فيها وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الاولى
ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدرى وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر رضي الله تعالى عنه من قوله عليه السلام لا يكون المؤمن ظاعناً إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم (1)
وما روى عنه أيضا في معناه وعلى العاقل أن تكون له أربعة ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب (2) فإن في هذه الساعة عونا له على بقية الساعات
ثم هذه الساعات التي هو فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب لا ينبغي أن يخلو عن عمل هو أفضل الأعمال وهو الذكر والفكر فإن الطعام الذى يتناوله مثلا فيه من العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح
والناس فيه أقسام قسم ينظرون إليه بعين التبصر والاعتبار فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به وكيفية تقدير الله لأسبابه وخلق الشهوات الباعثة عليه وخلق الآلات المسخرة للشهوة فيه كما فصلنا بعضه في كتاب الشكر وهذا مقام ذوى الألباب
وقسم ينظرون فيه بعين المقت والكراهة ويلاحظون وجه الاضطرار إليه وبودهم لو استغنوا عنه ولكن يرون أنفسهم مقهورين فيه مسخرين لشهواته وهذا مقام الزاهدين
وقوم يرون في الصنعة الصانع ويترقون منها إلى صفات الخالق فتكون مشاهدة ذلك سببا لتذكر أبواب من الفكر تنفتح عليهم بسببه وهو أعلى المقامات وهو من مقامات العارفين وعلامات المحبين إذ المحب إذا رأي صنعة حبيبه وكتابه وتصنيفه نسى الصنعة واشتغل قلبه بالصانع وكل ما يتردد العبد فيه صنع الله تعالى فله في النظر منه إلى
_________
(1) حديث أبى ذر لا يكون المؤمن ظاعناً إلا في ثلاث تزود لمعاد الحديث أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال انه في صحف موسى وقد تقدم
(2) حديث وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي بها ربه الحديث وهي بقية حديث أبى ذر الذى قبله(4/403)
الصانع مجال رحب إن فتحت له أبواب الملكوت وذلك عزيز جدا
وقسم رابع ينظرون إليه بعين الرغبة والحرص فيتأسفون على ما فاتهم منه ويفرحون بما حضرهم من جملته ويذمون منه مالا يوافق هواهم ويعيبونه ويذمون فاعله فيذمون الطبيخ والطباخ ولا يعلمون أن الفاعل للطبيخ والطباخ ولقدرته ولعلمه هو الله تعالى وأن من ذم شيئا من خلق الله بغير إذن فقد ذم الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر (1) فهذه المرابطة الثانية بمراقبة الأعمال على الدوام والاتصال وشرح ذلك يطول وفيما ذكرناه تنبيه على المنهاج لمن أحكم الأصول المرابطة الثالثة محاسبة النفس بعد العمل ولنذكر فضيلة المحاسبة ثم حقيقتها
أما الفضيلة فقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَاسِبَةِ عَلَى مَا مَضَى من الأعمال ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عَنْهُ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوهَا قبل أن توزنوا وفي الخبر انه عليه السلام جاءه رجل فقال يا رسول الله أوصنى فقال أمستوص أنت فقال نعم قال إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فامضه وإن كان غيا فانته عنه وفي الخبر وينبغى للعاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يحاسب فيها نفسه وَقَالَ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المؤمنون لعلكم تفلحون} وَالتَّوْبَةُ نَظَرٌ فِي الْفِعْلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ بالندم عليه وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ (2) وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} وعن عمر رضي الله عنه انه كان يضرب قدميه بالدره إذا جنه الليل ويقول لنفسه ماذا عملت اليوم وعن ميمون ابن مهران أنه قال لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل وروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضوان الله عليه قال لها عند الموت ما أحد من الناس أحب إلي من عمر ثم قال لها كيف قلت فأعادت عليه ما قال فقال لا أحد أعز على من عمر
فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة غيرها وحديث أبى طلحة حين شغله الطائر في صلاته فتدبر ذلك فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندما ورجاء للعوض مما فاته (3)
وفي حديث ابن سلام أنه حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في بنيك وغلمانك ما يكفونك هذا فقال أردت أن أجرب نفسي هل تنكره وقال الحسن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبه ثم فسر المحاسبة فقال إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول والله إنك لتعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات حيل بيني وبينك وهذا حساب قبل العمل ثم قال ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردت بهذا والله لا أعذر بهذا والله لا أعود لهذا أبدا إن شاء الله وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوما وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط عمر
_________
(1) حديث لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة
(2) حديث اني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة تقدم غير مرة
(3) حديث ابى طلحة: حين شغله الطائر عن صلاته فجعل حديقته صدقه تقدم غير مرة(4/404)
ابن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك وقال الحسن في قوله تعالى {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي ماذا أردت بأكلتي ماذا أردت بشربتي والفاجر يمضى قدما لا يعاتب نفسه وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا ثُمَّ ذَمَّهَا ثُمَّ خَطَمَهَا ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ له قائدا وهذا من معاتبة النفس كما سيأتي في موضعه وقال ميمون بن مهران التقى أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح وقال إبراهيم التيمي مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي يا نفس أي شيء تريدين فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاقلت فأنت في الأمنية فاعملي وقال مالك بن دينار سمعت الحجاج يخطب وهو يقول رحم الله امرأ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره رحم الله امرأ أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به رحم الله امرأ نظر في مكياله رحم الله امرأ نظر في ميزانه فما زال يقول حتى أبكانى وحكى صاحب للأحنف ابن قيس قال كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء وكان يجئ إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه ياحنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا
بيان حقيقة المحاسبة بعد العمل
أعلم أن العبد كما يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق فينبغى أن يكون له فِي آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةٌ يُطَالِبُ فِيهَا النَّفْسَ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى جَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا كَمَا يَفْعَلُ التُّجَّارُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ حِرْصًا منهم على الدنيا وخوفا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أياما قلائل فكيف لَا يُحَاسِبُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَطَرُ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ أَبَدَ الْآبَادِ مَا هَذِهِ المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك وَمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ مَعَ الشَّرِيكِ أَنْ يَنْظُرَ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الزِّيَادَةُ مِنَ النُّقْصَانِ فَإِنْ كَانَ مِنْ فَضْلٍ حَاصِلٍ اسْتَوْفَاهُ وَشَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ خُسْرَانٍ طَالَبَهُ بِضَمَانِهِ وَكُلَّفَهُ تَدَارُكَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ الْفَرَائِضُ وَرِبْحُهُ النَّوَافِلُ وَالْفَضَائِلُ وَخُسْرَانُهُ الْمَعَاصِي وَمَوْسِمُ هَذِهِ التِّجَارَةِ جملة النهار ومعامله نفسه الأمارة بالسوء فيحاسبها عَلَى الْفَرَائِضِ أَوَّلًا فَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ وَرَغَّبَهَا فِي مِثْلِهَا وَإِنْ فَوَّتَهَا مِنْ أَصْلِهَا طَالَبَهَا بِالْقَضَاءِ وَإِنْ أَدَّاهَا نَاقِصَةً كَلَّفَهَا الْجُبْرَانَ بِالنَّوَافِلِ وَإِنِ ارْتَكَبَ معصية اشتغل بعقوبتها وتعذيبها وَمُعَاتَبَتِهَا لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا مَا يَتَدَارَكُ بِهِ مَا فرط كما يصنع التاجر بشريكه وكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يغبن في شيء منها فينبغى أن يتقى غبينة النفس ومكرها فإنها خداعة ملبسة مكارة فليطالبها أولا بتصحيح الجواب عن جميع ماتكلم به طول نهاره وَلْيَتَكَفَّلْ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحِسَابِ مَا سَيَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ في صعيد القيامة وهكذا عن نظره بل عن خواطره وأفكاره وقيامه وقعوده وأكله وشربه ونومه حتى عن سكوته أنه لم سكت وعن سكونه لم سكن فإذا عرف مجموع الواجب على النفس وصح عنده قدر أدى الواجب فيه كان ذلك القدر محسوبا له فيظهر له الباقي على نفسه فليثبته عليها وليكتبه على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي الذي على شريكه على قلبه وفي جريدة حسابه
ثم النفس غريم يمكن أن يستوفى منه الديون أما بعضها فبالغرامة والضمان وبعضها برد عينه وبعضها(4/405)
بالعقوبة لها على ذلك ولا يمكن شيء من ذلك إلى بعد تحقيق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء
ثم ينبغي أن يحاسب النفس على جميع العمر يوما يوما وساعة ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة كما نقل عن توبه ابن الصمة وكان بالرقة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت فسمعوا قائلا يقول يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى فهكذا ينبغي أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة ولو رمى العبد بكل معصية حجرا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره ولكنه يتساهل في حفظ المعاصى والملكان يحفظان عليه ذلك {أحصاه الله ونسوه} المرابطة الرابعة في معاقبة النفس على تقصيرها
مهما حاسب نفسه فلم تسلم عن مقارفه معصية وارتكاب تقصير في حق الله تعالى فلا ينبغى أن يهملها فإنه أن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي وأنست بها نفسه وعسر عليه فطامها وكان ذلك بسبب هلاكها بل ينبغي أن يعاقبها فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغى أن يعاقب البطن بالجوع وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته
هكذا كانت عادة سالكي طريق الآخرة فقد روى عن منصور بن إبراهيم أن رجلا من العباد كلم امرأة فلم يزل حتى وضع يده على فخذها ثم ندم فوضع يده على النار حتى يبست وروى أنه كان في بني إسرائيل رجل يتعبد في صومعته فمكث كذلك زمانا طويلا فأشرف ذات يوم فإذا هو بامرأة فافتتن بها وهم بها فأخرج رجله لينزل إليها فأدركه الله بسابقه فقال ما هذا الذي أريد أن أصنع فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى فندم فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال هيهات هيهات رجل خرجت تريد أن تعصى الله تعود في صومعتي لا يكون والله له ذلك أبدا فتركها معلقة في الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت فسقطت فشكر الله له ذلك وأنزل في بعض كتبه ذكره ويحكى عن الجنيد قال سمعت ابن الكريبي يقول أصابتني ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وتقصيرا فحدثتني نفسي بالتأخير حتى أصبح وأسخن الماء أو أدخل الحمام ولا أعنى على نفسي فقلت واعجبا أنا أعامل الله في طول عمري فيجب له على حق فلا أجد في المسارعة وأجد الوقوف والتأخر آليت أن لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه وآليت أن لا أنزعها ولا أعصرها ولا أجففها في الشمس ويحكى أن غزوان وأبا موسى كانا في بعض مغازيهما فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى بقرت وقال إنك للحاظة إلى ما يضرك
ونظر بعضهم نظرة واحدة امرأة فجعل على نفسه أن لا يشرب الماء البارد طول حياته فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش
ويحكى أن حسان بن أبي سنان مر بغرفة فقال متى بنيت هذه ثم أقبل على نفسه فقال تسألين عما لا يعنيك لأعاقبنك بصوم سنة فصامها
وقال مالك بن ضيغم جاء رباح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر فقلنا إنه نائم فقال أنوم هذه الساعة هذا وقت نوم ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولا وقلنا له ألا نوقظه لك فجاء الرسول وقال هو أشغل من أن يفهم عني شيئا أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول أقلت وقت نوم هذه الساعة أفكان هذا عليك ينام الرجل متى شاء وما يدريك أن هذا ليس وقت(4/406)
نوم تتكلمين بما لا تعلمين أما إن لله على عهدا لا أنقضه أبدا لا أوسدك الأرض لنوم حولا إلا لمرض حائل أو لعقل زائل سوأة لك أما تستحين كم توبخين وعن غيك لا تنتهين قال وجعل يبكى وهو لا يشعر بمكاني فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته
ويحكى عن تميم الداري أنه نام ليلة لم يقم فيها يتهجد فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع
وعن طلحة رضي الله تعالى عنه قال انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء فكان يقول لنفسه ذوقى ونار جهنم أشد حرا أجيفة بالليل بطالة بالنهار فبينما هو كذلك إذ أبصر النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فأتاه فقال غلبتني نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكن لك بد من الذي صنعت أما لقد فتحت لك أبواب السماء ولقد باهى الله بك الملائكة ثم قال لأصحابه تزودوا من أخيكم فجعل الرجل يقول له يا فلان أدع لي يا فلان ادع لى فقال النبي صلى الله عليه وسلم عمهم فقال اللهم أجعل التقوى زادهم واجمع على الهدى أمرهم
فجعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ سدده فقال الرجل اللهم أجعل الجنة مآبهم // حديث طلحة: انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء وكان يقول لنفسه: ونار جهنم أشد حراالحديث بطوله أخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس من رواية ليث بن أبي سليم عنه وهذا منقطع أو مرسل ولا أدري من طلحة هذا وقال حذيفة بن قتاده قيل لرجل كيف تصنع بنفسك في شهواتها فقال ما على وجه الأرض نفس أبغض إلى منها فكيف أعطيها شهواتها ودخل ابن السماك على داود الطائي حين مات وهو في بيته على التراب فقال: يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وعذبت نفسك قبل أن تعذب فاليوم ترى ثواب من كنت تعمل له
وعن وهب بن منبه: إن رجلا تعبد زمانا ثم بدت له إلى الله تعالى حاجة فقام سبعين سبتا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة ثم سأل حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه وقال منك أتيت لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك فنزل إليه ملك وقال يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك
وقال عبد الله بن قيس كنا في غزاة لنا فحضر العدو فصيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول أي نفسي ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك فقلت لأرمقنه اليوم فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم ثم أن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في موضعه حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل فوالله ما زال ذاك دأبه حتى رأيته صريعا فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة
وقد ذكرنا حديث أبى طلحة لما اشتغل قلبه في الصلاة بطائر في حائطه فتصدق بالحائط كفارة لذلك
وإن عمر كان يضرب قدميه بالدره كل ليلة ويقول ماذا عملت اليوم وعن مجمع أنه رفع رأسه إلى السطح فوقع بصره على امرأة فجعل على نفسه أن لا يرفع رأسه إلى السماء ما دام في الدنيا
وكان الأحنف بن قيس لا يفارقه المصباح بالليل فكان يضع أصبعه عليه ويقول لنفسه ما حملك على أن صنعت يوم كذا كذا وأنكر وهيب بن الورد شيئا على نفسه فنتف شعرات على صدره حتى عظم ألمه ثم جعل يقول لنفسه ويحك إنما أريد بك الخير
ورأى محمد بن بشر داود الطائى وهو يأكل عند إفطاره خبزا بغير ملح فقال له لو اكلته بملح فقال أن نفسى لتدعوني الى الملح منذ سنة ولا ذاق دواد ملحا ما دام في الدنيا
فكذا كانت عقوبة أولى الحزم لأنفسهم والعجب انك تعاقب عبدك وأمتك واهلك وولدك على ما يصدر منهم من سوء خلق وتقصير في أمر وتخاف انك لو تجاوزت عنهم لخرج أمرهم عن الاختيار وبغوا عليك ثم تهمل(4/407)
نفسك وهى أعظم عدو لك واشد طغيانا عليك وضررك من طغيانها أعظم من ضررك من طغيان أهلك فان غايتهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا ولو عقلت لعلمت إن العيش عيش الآخرة وإن فيه النعيم المقيم الذى لا آخر له ونفسك هى التي تنغص عليك عيش الآخرى فهى بالمعاقبة أولى من غيرها المرابطة الخامسة: المجاهدة
وهو انه إذا حاسب نفسه فرآها قد قارفت معصية فينبغى ان يعاقبها بالعقوبات التي مضت وان رآها تتوانى بحكم الكسل في شىء من الفضائل أو ورد من الأوراد فينبغى أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها ويلزمها فنونا من الوظائف جبرا لما فات منه وتداركالما فرط فهكذا كان يعمل عمال الله تعالى فقد عاقب عمر بن الخطاب نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدق بأرض كانت له قيمتها مائتا ألف درهم وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة وأخر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين
وفات ابن أبى ربيعة ركعتا الفجر فاعتق رقبة
وكان بعضهم يجعل على نفسه صوم سنة أو الحج ما شيا أو التصدق بجميع ماله
كل ذلك مرابطه للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها
فإن قلت إن كانت نفسى لا تطاوعنى على المجاهدة والمواظبة على الأوراد فما سبيل معالجتها فأقول سبيلك في ذلك ان تسمعها ما ورد في الأخبار من فضل المجتهدين (1) ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله مجتهد في العبادة فتلاحظ أقواله وتقتدى به وكان بعضهم يقول كنت إذا اعترتنى فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع والى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعا إلا أن هذا العلاج قد تعذر اذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الاولين فينبغى ان يعدل من المشاهدة الى السماع فلا شىء انفع من سماع أحوالهم ومطالعة اخبارهم وما كانوا فيه من الجهد الجهيد وقد انقضى تعبهم وبقى ثوابهم ونعيمهم ابد الاباد لا ينقطع فما اعظم ملكهم وما أشد حسرة من لا يقتدى بهم فيمتع نفسه أياما قلائل بشهوات مكدرة ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله تعالى من ذلك
ونحن نورد من اوصاف المجتهدين وفضائلهم ما يحرك رغبة المريد في الاجتهاد اقتداء بهم فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحم الله اقواما يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى (2) حديث طوبي لمن طال عمره وحسن عمله أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن بشر وفيه بقية رواه بصيغة عن وهو مدلس وللترمذى من حديث أبى بكرة خير الناس من طال عمره وحسن عمله وقال حسن صحيح وقد تقدم //
ويروى أن الله تعالى يقول لملائكته ما بال عبادي مجتهدين فيقولون الهنا خوفتهم شيئا فخافوه وشوقتهم الى شىء فاشتاقوا إليه فيقول الله تبارك وتعالى فكيف لو رآنى عبادى لكانوا اشد اجتهادا وقال الحسن أدركت أقواما وصحبت
_________
(1) الأخبار الواردة في حق المجتهدين أخرجها أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين وله وللنسائي وابن ماجه من حديث أبى هريرة بإسناد صحيح رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وايقظ امرأته وللترمذى من حديث بلال عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ الحديث وقال غريب ولا يصح وقد تقدم في الأوراد مع غيره من الأخبار في ذلك
(2) حديث رحم الله أقواما تحسبهم مرضى وما بمرضى لم أجد له أصلا في حديث مرفوع لا لكن رواه أحمد في الزهد موقوفا على في كلام له قال فيه ينظر اليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض قال الحسن أجهدتهم العبادة قال الله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} قال الحسن يعملون ما عملوا من أعمال البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله(4/408)
طوائف منهم ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر ولهى كانت أهون في أعينهم من هذا التراب الذى تطئونه بارجلكم أن كان احدهم ليعيش عمره كله ما طوى له ثوب ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط وأدركتهم عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم إذا عملوا الحسنة فرحوا بها ودأبوا في شكرها وسألوا الله ان يتقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله تعالى أن يغفرها لهم والله ما زالوا كذلك وعلى ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا الا بالمغفرة ويحكى أن قوماً دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه واذا فيهم شاب ناحل الجسم فقال عمر له يا فتى ما الذى بلغ بك ما أرى فقال يا أمير المؤمنين اسقام وأمراض فقال سألتك بالله الا صدقتنى فقال يا أمير المؤمنين ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرة وصغر عندى زهرتها وحلاوتها واستوى عند ذهبها وحجرها وكأنى أنظر إلى عرش ربى والناس يساقون إلى الجنة والنار فأظمأت لذلك نهارى وأسهرت ليلى وقليل حقير كل ما إنا فيه في جنب ثواب الله وعقابه وقال أبو نعيم كان داود الطائى يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز فقيل له في ذلك فقال بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية
ودخل رجل عليه يوما فقال ان في سقف بيتك جذعا مكسورا فقال يا ابن أخي ان لى في البيت منذ عشرين سنة ما نظرت الى السقف
وكانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام
وقال محمد بن عبد العزيز جلسنا إلى أحمد بن رزين من غدوة إلى العصر فما التفت يمنه ولا يسرة فقيل له في ذلك فقال إن الله عز وجل خلق العينين لينظر بهما العبد الى عظمة الله تعالى فكل من نظر بغير اعتبار كتبت عليه خطيئة وقالت امرأة مسروق ما كان يوجد مسروق إلا وساقاه منتفختان من طول الصلاة
وقالت والله ان كنت لاجلس خلفه فابكى رحمة له
وقال أبو الدرداء لولا ثلاث ما أحببت العيش يوما واحدا الظمأ لله بالهواجر والسجود لله في جوف الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة ويصوم فى الحر حتى يخضر جسده ويصفر فكان علقمة بن قيس يقول له لم تعذب نفسك فيقول كرامتها أريد
وكان يصوم حتى يخضر جسده ويصلى حتى يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا فقال إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئا الا جئت به
وكان بعض المجتهدين يصلى كل يوم الف ركعة حتى أقعد من رجليه فكان يصلى جالسا ألف ركعة فإذا صلى العصر احتبى ثم قال عجبت للخليقة كيف أرادت بك بدلا منك عجبت للخليقة كيف أنست بسواك بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك وكان ثابت البنانى قد حببت إليه الصلاة فكان يقول اللهم ان كنت أذنت لأحد أن يصلى لك في قبره فائذن لي أن أصلى في قبرى
وقال الجنيد ما رأيت أعبد من السرى اتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعا إلا في علة الموت
وقال الحارث بن سعد مر قوم براهب فرأوا ما يصنع بنفسه من شدة اجتهاده فكلموه في ذلك فقال وما هذا عند ما يراد بالخلق من ملاقاة الأهوال وهم غافلون قد اعتكفوا على حظوظ أنفسهم ونسوا حظهم الأكبر من ربهم فبكى القوم عن آخرهم
وعن أبى محمد المغازلى قال جاور أبو محمد الجريرى بمكة سنة فلم ينم ولم يتكلم ولم يستند إلى عمود ولا الى حائط ولم يمد رجليه فعبر عليه أبو بكر الكتانى فسلم عليه وقال له يا أبا محمد بم قدرت على اعتكافك هذا فقال علم صدق باطنى فأعاننى على ظاهرى فاطرق الكتاني ومشى مفكرا وعن بعضهم قال دخلت على فتح الموصلى فرأيته قد مد كفيه(4/409)
يبكى حتى رأيت الدموع تنحدر من بين أصابعه فدنوت منه فإذا دموعه قد خالطها صفرة فقلت ولم بالله يا فتح بكيت الدم فقال لولا أنك أحلفتنى بالله ما أخبرتك نعم بكيت دما فقلت له على ماذا بكيت الدموع فقال على تخلفى عن واجب حق الله تعالى وبكيت الدم على الدموع لئلا يكون ما صحت لى الدموع قال فرأيته بعد موته في المنام فقلت ما صنع الله بك قال غفر لى فقلت له فماذا صنع في دموعك فقال قربنى ربى عز وجل وقال لى يا فتح الدمع على ماذا قلت يارب على تخلفى عن واجب حقك فقال والدم على ماذا فقلت على دموعى أن لا تصح لى فقال لى يا فتح ما أردت بهذا كله وعزتى وجلالى لقد صعد حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة
وقيل إن قوما أرادوا سفرا فحادوا عن الطريق فانتهوا إلى راهب منفرد عن الناس فنادوه فأشرف عليهم من صومعته فقالوا يا راهب إنا قد أخطأنا الطريق فكيف الطريق فأومأ برأسه إلى السماء فعلم القوم ما أراد فقالوا يا راهب إنا سائلوك فهل أنت مجيبنا فقال سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع والعمر لا يعود والطالب حثيث فعجب القوم من كلامه فقالوا يا راهب علام الخلق غدا عند مليكهم فقال على نياتهم فقالوا أوصنا فقال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما بلغ البغية
ثم أرشدهم إلى الطريق وأدخل رأسه في صومعته
وقال عبد الواحد بن زيد مررت بصومعة راهب من رهبان الصين فناديته يا راهب فلم يجبنى فناديته الثانية فلم يجبنى فناديته الثالثة فأشرف على وقال يا هذا ما أنا براهب إنما الراهب من رهب الله في سمائه وعظمه في كبريائه وصبر على بلائه ورضى بقضائه وحمده على آلائه وشكره على نعمائه وتواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته وخضع لمهابته وفكر في حسابه وعقابه فنهاره صائم وليله قائم قد أسهره ذكر النار ومسألة الجبار فذلك هو الراهب وأما أنا فكلب عقور حسبت نفسى فى هذه الصومعة عن الناس لئلا أعقرهم فقلت يا راهب فما الذى قطع الخلق عن الله تعالى بعد أن عرفوه فقال يا أخى لم يقطع الخلق عن الله تعالى إلا حب الدنيا وزينتها لأنها محل المعاصى والذنوب والعاقل من رمى بها عن قلبه وتاب إلى الله تعالى من ذنبه وأقبل على ما يقربه من ربه
وقيل لداود الطائى لو سرحت لحيتك فقال إنى إذن لفارغ
وكان أويس القرنى يقول هذه ليلة الركوع فيحيى الليل كله في ركعة وإذا كانت الليلة الآتية قال هذه ليلة السجود فيحيى الليل كله في سجدة
وقيل لما تاب عتبة الغلام كان لا يتهنأ بالطعام والشراب فقالت له أمه لو رفقت بنفسك قال الرفق أطلب دعينى أتعب قليلا وأتنعم طويلا وحج مسروق فما نام قط إلا ساجدا وكان سفيان الثورى يقول عند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يحمد القوم التقى
وقال عبد الله بن داود كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه أى كان لا ينام طول الليل
وكان كهمس بن الحسن يصلى كل يوم ألف ركعة ثم يقول لنفسه قومى يا مأوى كل شر فلما ضعف اقتصر على خمسمائة ثم كان يبكى ويقول ذهب نصف عملى
وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له يا أبت مالى أرى الناس ينامون وأنت لا تنام فيقول يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات
ولما رأت أم الربيع ما يلقى الربيع من البكاء والسهر نادته يا بنى لعلك قتلت قتيلا قال نعم يا أماه قالت فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك فوالله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك فيقول يا أماه هى نفسى
وعن عمر ابن أخت بشر بن الحارث قال سمعت خالى بشر بن الحارث يقول لأمى يا أختى جوفي وخواصرى تضرب على فقالت له أمى يا أخى أتأذن لى حتى أصلح لك قليل حساء بكف دقيق عندى تتحساه يرم جوفك فقال لها ويحك أخاف أن يقول أين لك هذا الدقيق فلا أدرى إيش(4/410)
أقول له
فبكت أمى وبكى معهما وبكيت معهم
قال عمر ورأت أمى ما ببشر من شدة الجوع وجعل يتنفس نفسا ضعيفا فقالت له أمى يا أخى ليت أمك لم تلدنى فقد والله تقطعت كبدى مما أرى بك فسمعته يقول لها وأنا فليت أمى لم تلدنى وإذ ولدتنى لم يدر ثديها على
قال عمر وكانت أمى تبكى عليه الليل والنهار
وقال الربيع أتيت أويسا فوجدته جالسا حتى صلى الفجر ثم جلس فجلست فقلت لا أشغله عن التسبيح فمكث مكانه حتى صلى الظهر ثم قام إلى الصلاة حتى صلى العصر ثم جلس موضعه حتى صلى المغرب ثم ثبت مكانه حتى صلى العشاء ثم ثبت مكانه حتى صلى الصبح ثم جلس فغلبته عيناه فقال اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة ومن بطن لا تشبع فقلت حسبى هذا منه ثم رجعت
ونظر رجل إلى أويس فقال يا أبا عبد الله ما لى أراك كأنك مريض فقال وما لأويس أن لا يكون مريضا يطعم المريض وأويس غير طاعم وينام المريض وأويس غير نائم
وقال أحمد بن حرب يا عجباً لمن يعرف أن الجنة تزين فوقه وأن النار تسعر تحته كيف ينام بينهما وقال رجل من النساك أتيت إبراهيم ابن أدهم فوجدته قد صلى العشاء فقعدت أرقبه فلف نفسه بعباءة ثم رمى بنفسه فلم ينقلب من جنب إلى جنب الليل كله حتى طلع الفجر وأذن المؤذن فوثب إلى الصلاة ولم يحدث وضوءا فحاك ذلك في صدرى فقلت له رحمك الله قد نمت الليل كله مضطجعا ثم لم تجدد الوضوء فقال كنت الليل كله جائلا في رياض الجنة أحيانا وفي أودية النار أحيانا فهل في ذلك نوم
وقال ثابت البنانى أدركت رجالا كان أحدهم يصلى فيعجز عن أن يأتى فراشه إلا حبوا وقيل مكث أبو بكر بن عياش أربعين سنة لا يضع جنبه على فراش ونزل الماء في إحدى عينيه فمكث عشرين سنة لا يعلم به أهله وقيل كان ورد سمنون في كل يوم خمسمائة ركعة
وعن أبى بكر المطوعى قال كان وردى في شبيبتى كل يوم وليلة أقرأ فيه قل هو الله أحد إحدى وثلاثين ألف مرة أو أربعين ألف مرة شك الراوى وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت رجل أصيب بمصيبة منكسر الطرف منخفض الصوت رطب العينين إن حركته جاءت عيناه بأربع ولقد قالت له أمه ما هذا الذى تصنع بنفسك تبكى الليل عامته لا تسكت لعلك يا بنى أصبت نفسا لعلك قتلت قتيلا فيقول يا أمه أنا أعلم بما صنعت بنفسى وقيل لعامر ابن عبد الله كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر فقال هل هو إلا أنى صرفت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار وليس في ذلك خطير أمر وكان يقول ما رأيت مثل الجنة نام طالبها ولا مثل النار نام هاربها وكان إذا جاء الليل قال أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يصبح فإذا جاء النهار قال أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسى فإذا جاء الليل قال من خاف أدلج وعند الصباح يحمد القوم السرى
وقال بعضهم صحبت عامر بن عبد القيس أربعة أشهر فما رأيته نام بليل ولا نهار
ويروى عن رجل من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال صليت خلف علي رضي الله تعالى عنه الفجر فلما سلم انفتل عن يمينه وعليه كآبة فمكث حتى طلعت الشمس ثم قلب يده وقال والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون شعثا غبرا صفرا قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم وكأن القوم باتوا غافلين يعنى من كان حوله وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطا في مسجد بيته يخوف به نفسه وكان يقول لنفسه قومى فوالله لأزحفن بك زحفا حتى يكون الكلل منك لا منى فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه ويقول أنت أولى بالضرب من دابتى وكان يقول أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا كلا والله لنزاحمهم عليه زحاما(4/411)
حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالا
وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له القيامة غدا ما وجد متزايدا
وكان إذا جاء الشتاء اضطجع على السطح ليضر به البرد وإذا كان في الصيف اضطجع داخل البيوت ليجد الحر فلا ينام وانه مات وهو ساجد وانه كان يقول اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي
وقال القاسم بن محمد غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها فغدوت يوما إليها فإذا هى تصلى صلاة الضحى وهى تقرأ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتبكى وتدعو وتردد الآية فقمت حتى مللت وهى كما هى فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فقلت أفرغ من حاجتى ثم أرجع ففرغت من حاجتى ثم رجعت وهى كما هى تردد الآية وتبكى وتدعو
وقال محمد بن إسحاق لما ورد علينا عبد الرحمن ابن الأسود حاجا اعتلت إحدى قدميه فقام يصلى على قدم واحدة حتى صلى الصبح بوضوء العشاء
وقال بعضهم ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه سيما الصالحين صفرة الألوان من السهر وعمش العيون من البكاء وذبول الشفاه من الصوم عليهم غبرة الخاشعين وقيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره وكان عامر بن عبد القيس يقول إلهى خلقتنى ولم تؤامرنى وتميتنى ولا تعلمنى وخلقت معى عدوا وجعلته يجرى منى مجرى الدم وجعلته يرانى ولا أراه ثم قلت لى استمسك إلهى كيف أستمسك إن لم تمسكنى إلهى في الدنيا الهموم والأحزان وفي الآخرة العقاب والحساب فأين الراحة والفرح وقال جعفر بن محمد كان عتبة الغلام يقطع الليل بثلاث صيحات كان إذا صلى العتمة وضع رأسه بين ركبتيه يتفكر فإذا مضى ثلث الليل صاح صيحة ثم وضع رأسه بين ركبتيه يتفكر فإذا مضى الثلث الثانى صاح صيحة ثم وضع رأسه بين ركبتيه يتفكر فإذا كان السحر صاح صيحة قال جعفر بن محمد فحدثت به بعض البصريين فقال
لا تنظر الى صياحه ولكن انظر إلى ما كان فيه بين الصيحتين حتى صاح وعن القاسم بن راشد الشيبانى قال كان زمعة نازلا عندنا بالمحصب وكان له أهل وبنات وكان يقوم فيصلى ليلا طويلا فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون أفلا تقومون فترحلون فيتواثبون فيسمع من ههنا باك ومن ههنا داع من ههنا قارئ ومن ههنا متوضئ فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى
وقال بعض الحكماء إن لله عبادا أنعم عليهم فعرفوه وشرح صدورهم فأطاعوه وتوكلوا عليه فسلموا الخلق والأمر إليه فصارت قلوبهم معادن لصفاء اليقين وبيوتا للحكمة وتوابيت للعظمة وخزائن للقدرة فهم بين الخلق مقبلون ومدبرون وقلوبهم تجول في الملكوت وتلوذ بمحجوب الغيوم ثم ترجع ومعها طوائف من لطائف الفوائد وما لا يمكن واصفا أن يصفه فهم في باطن أمورهم كالديباج حسنا وهم الظاهر مناديل مبذولون لمن أرادهم تواضعا
وهذه طريقة لا يبلغ إليها بالتكلف وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء
وقال بعض الصالحين بينما أنا أسير في بعض جبال بيت المقدس إذ هبطت إلى واد هناك فإذا أنا بصوت قد علا وإذا تلك الجبال تجيبه لها دوى عال فاتبعت الصوت فإذا أنا بروضة عليها شجر ملتف وإذا أنا برجل قائم فيها يردد هذه الآية يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خير محضرا إلى قوله ويحذركم الله نفسه قال فجلست خلفه أسمع كلامه وهو يردد هذه الآية إذ صاح صيحة خر مغشيا عليه فقلت وا أسفاه هذا لشقائى
ثم انتظرت إفاقته فأفاق بعد ساعة فسمعته وهو يقول أعوذ بك من مقام الكذابين أعوذ بك من أعمال البطالين أعوذ بك من إعراض الغافلين
ثم قال لك خشعت قلوب الخائفين وإليك(4/412)
فزعت آمال المقصرين ولعظمتك ذلت قلوب العارفين ثم نفض يده فقال مالى وللدنيا وما للدنيا وما لى عليك يا دنيا بأبناء جنسك وألاف نعيمك إلى محبيك فاذهبى وإياهم فاخدعى ثم قال أين القرون الماضية وأهل الدهور السالفة في التراب يبلون وعلى الزمان يفنون فناديته يا عبد الله أنا منذ اليوم خلفك أنتظر فراغك فقال وكيف يفرغ من يبادر الأوقات وتبادره يخاف سبقها بالموت إلى نفسه أم كيف يفرغ من ذهبت أيامه وبقيت آثامه ثم قال أنت لها ولكل شدة أتوقع نزولها ثم لها عنى ساعة وقرأ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ثم صاح صيحة أخرى أشد من الأولى وخر مغشيا عليه فقلت قد خرجت روحه فدنوت منه فإذا هو يضطرب ثم أفاق وهو يقول من أنا ما خطرى هب لى إساءتى من فضلك وجللني بسترك واعف عن ذنوبى بكرم وجهك إذا وقفت بين يديك فقلت له بالذى ترجوه لنفسك وتثق به إلا كلمتنى فقال عليك بكلام من ينفعك كلامه ودع كلام من أو بقته ذنوبه إنى لفى هذا الموضع مذ شاء الله أجاهد إبليس ويجاهدنى فلم يجد عونا على ليخرجنى مما أنا فيه غيرك فإليك عنى يا مخدوع فقد عطلت على لسانى وميلت إلى حديثك شعبة من قلبى وأنا أعوذ بالله من شرك ثم أرجو أن يعيذنى من سخطه ويتفضل على برحمته قال فقلت هذا ولى الله أخاف أن أشغله فأعاقب فى موضعى هذا فانصرفت وتركته
وقال بعض الصالحين بينما أنا أسير في مسير لى إذ ملت إلى شجرة لأستريح تحتها فإذا أنا بشيخ قد أشرف على فقال لى يا هذا قم فإن الموت لم يمت ثم هام على وجه فاتبعته فسمعته وهو يقول كل نفس ذائقة الموت اللهم بارك لى في الموت فقلت وفيما بعد الموت فقال من أيقن بما بعد الموت شمر مئزر الحذر ولم يكن له في الدنيا مستقر ثم قال يا من لوجهه عنت الوجوه بيض وجهى بالنظر إليك واملأ قلبى من المحبة لك وأجرنى من ذلك التوبيخ غدا عندك فقد آن لى الحياء منك وحان لى الرجوع عن الإعراض عنك قم قال لولا حلمك لم يسعنى أجلى ولولا عفوك لم ينبسط فيما عندك أملى ثم مضى وتركنى
وقد أنشدوا في هذا المعنى
نحيل الجسم مكتئب الفؤاد ... تراه بقمة أو بطن وادى
ينوح على معاص فاضحات ... يكدر ثقلها صفو الرقاد
فإن هاجت مخاوفه وزادت ... فدعوته أغثنى يا عمادى
فأنت بما ألاقيه عليم
كثير الصفح عن زلل العباد وقيل أيضا
ألذ من التلذذ بالغوانى ... إذا أقبلن في حلل حسان
منيب فر من أهل ومال ... يسيح إلى مكان من مكان
ليخمل ذكره ويعيش فردا ... ويظهر في العبادة بالأمانى
تلذذه التلاوة أين ولى ... وذكر بالفؤاد وباللسان
وعند الموت يأتيه بشير ... يبشر بالنجاة من الهوان
فيدرك ما أراد وما تمنى ... من الراحات في غرف الجنان
وكان كرز بن وبرة يختم القرآن في كل يوم ثلاث مرات ويجاهد نفسه في العبادات غاية المجاهدة فقيل له قد أجهدت نفسك فقال كم عمر الدنيا فقيل سبعة آلاف سنة فقال كم مقدار يوم القيامة فقيل خمسون ألف سنة فقال كيف يعجز أحدكم أن يعمل سبع يوم حتى يأمن ذلك اليوم يعنى أنك لو عشت عمر الدنيا واجتهدت(4/413)
سبعة آلاف سنة وتخلصت من يوم واحد كان مقداره خمسين ألف سنة لكان ربحك كثيرا وكنت بالرغبة فيه جديرا فكيف وعمرك قصير والآخرة لا غاية لها فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مرابطة النفس ومراقبتها
فمهما تمردت نفسك عليك وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء فإنه قد عز الآن وجود مثلهم ولو قدرت على مشاهدة من اقتدى بهم فهو أنجع في القلب وأبعث على الاقتداء فليس الخبر كالمعاينة وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء فإن لم تكن إبل فمعزى وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في الدين وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء وتؤثر مخالفة العقلاء
فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات وقل لها يا نفس لا تستنكفى أن تكونى أقل من امرأة فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها ولنذكر الآن نبذة من أحوال المجتهدات فقد روى عن حبيبة العدوية أنها كانت إذا صلت العتمة قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت إلهى قد غارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها وخلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامى بين يديك ثم تقبل على صلاتها فإذا طلع الفجر قالت إلهى هذا الليل قد أدبر وهذا النهار قد أسفر فليت شعرى أقبلت منى ليلتى فأهنا أم رددتها على فأعزى وعزتك لهذا دأبى ودأبك ما أبقيتنى وعزتك لو انتهرتنى عن بابك ما برحت لما وقع في نفسى من جودك وكرمك
ويروى عن عجزة أنها كانت تحيى الليل وكانت مكفوفة البصر فإذا كان في السحر نادت بصوت لها محزون إليك قطع العابدون دجى الليالى يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك فبك يا إلهى أسألك لا بغيرك أن تجعلنى في أول زمرة السابقين وأن ترفعنى لديك في عليين في درجة المقربين وان تلحقنى بعبادك الصالحين فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجبة ثم لا تزال تدعو وتبكى إلى الفجر
وقال يحيى بن بسطام كنت أشهد مجلس شعوانة فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء فقلت لصاحب لى لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها فقال أنت وذاك قال فأتينا فقلت لها لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئا فكان لك أقوى على ما تريدين قال فبكت ثم قالت والله لوددت أنى أبكى حتى تنفد دموعى ثم أبكى دما حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحى وأنى لى بالبكاء وأنى لى بالبكاء
فلم تزل تردد وأنى لى بالبكاء حتى غشى عليها
وقال محمد بن معاذ حدثتنى امرأة من المتعبدات قالت رأيت في منامى كأنى أدخلت الجنة فإذا أهل الجنة قيام على أبوابهم فقلت ما شأن أهل الجنة قيام فقال لى قائل خرجوا ينظرون إلى هذه المرأة التى زخرفت الجنان لقدومها فقلت ومن هذه المرأة فقيل أمة سوداء من أهل الأيكة يقال لها شعوانة
قالت فقلت أختى والله قالت فبينما أنا كذلك إذ أقبل بها على نجيبة تطير بها في الهواء فلما رأيتها ناديت يا أختى أما ترين مكانى من مكانك فلو دعوت لى مولاك فألحقنى بك قالت فتبسمت إلى وقالت لم يأن لقدومك ولكن احفظى عنى اثنتين ألزمى الحزن قلبك وقدمى محبة الله على هواك ولا يضرك متى مت وقال عبد الله بن الحسن كانت لى جارية رومية وكنت بها معجبا فكانت في بعض الليالى نائمة إلى جنبى فانتبهت فالتمستها فلم أجدها فقمت أطلبها فإذا هى ساجدة وهي تقول بحبك لي الا ما غفرت لي ذنوبي فقلت لها لا تقولي بحبك لي ولكن قولي بحبى لك فقالت يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الاسلام وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام وقال أبو هاشم القرشي قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها سرية فنزلت في بعض(4/414)
ديارنا قال فكنت أسمع لها من الليل أنينا وشهيقا فقلت يوما لخادم لي أشرف على هذه المرأة ماذا تصنع قال فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئيا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهي مستقبلة القبلة تقول خلقت سرية ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة أتراها تظن أنك لا ترى فعالها وأنت عليم خبير وأنت على كل شيء قدير وقال ذو النون المصري خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل على وهو يقول وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ويبكي فلما قرب مني السواد اذا هي امرأة عليها جبة صوف وبيدها ركوة فقالت لي من أنت غير فزعة مني فقلت رجل غريب فقالت يا هذا وهل يوجد مع الله غربة قال فبكيت لقولها فقالت ما الذي أبكاك فقلت قد وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه قالت فإن كنت صادقا فلم بكيت قلت يرحمك الله والصادق لا يبكي قالت لا قلت ولم ذاك قالت لأن البكاء راحة القلب فسكت متعجبا من قولها
وقال أحمد بن علي استأذنا على عفيرة فحجبتنا فلازمنا الباب فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا فسمعتها وهي تقول اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك ثم فتحت الباب ودخلنا عليها فقلنا لها يا أمة الله ادعي لنا فقالت جعل الله قراءكم في بيتى المغفرة ثم قالت لنا مكث عطاء السلمي أربعين سنة فكان لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيا عليه فأصابه فتق في بطنه فيا ليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص وياليتها إذا عصت لم تعد وقال بعض الصالحين خرجت يوما إلى السوق ومعى جارية حبشية فاحتبستها في موضع بناحية السوق وذهبت في بعض حوائجى وقلت لا تبرحى حتى أنصرف إليك قال فانصرفت فلم أجدها في الموضع فانصرفت إلى منزلى وأنا شديد الغضب عليها فلما رأتنى عرفت الغضب في وجهى فقالت يا مولاى لا تعجل على إنك أجلستنى في موضع لم أر فيه ذاكرا لله تعالى فخفت أن يخسف بذلك الموضع فعجبت لقولها وقلت لها أنت حرة
فقالت ما صنعت كنت أخدمك فيكون لى أجران وأما الآن فقد ذهب عنى أحدهما
وقال ابن العلاء السعدى كانت لى ابنة عم يقال لها بريرة تعبدت وكانت كثيرة القراءة في المصحف فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت فلم تزل تبكى حتى ذهبت عيناها من البكاء فقال بنو عمها انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعدلها في كثرة البكاء قال فدخلنا عليها فقلنا يا بريرة كيف أصبحت قالت أصبحنا أضيافا منيخين بأرض غربة ننتظر متى ندعى فنجيب فقلنا لها ما هذا البكاء قد ذهبت عيناك منه فقالت إن يكن لعينى عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا ثم أعرضت
قال فقال القوم قوموا بنا فهى والله في شىء غير ما نحن فيه وكانت معاذة العدوية إذا جاء النهار تقول هذا يومى الذى أموت فيه فما تطعم حتى تمسى فإذا جاء الليل تقول هذه الليلة التى أموت فيها فتصلى حتى تصبح وقال أبو سليمان الداراني بت ليلة عند رابعة فقامت إلى محراب لها وقمت أنا إلى ناحية من البيت فلم تزل قائمة إلى السحر فلما كان السحر قلت ما جزاء من قوانا على قيام هذه الليلة قالت جزاؤه أن تصوم له غدا وكانت شعوانة تقول في دعائها إلهى ما أشوقنى إلى لقائك وأعظم رجائى لجزائك وأنت الكريم الذى لا يخيب لديك أمل الآملين ولا يبطل عندك شوق المشتاقين إلهى إن كان دنا أجلى ولم يقربنى منك عمل فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللى فإن عفوت فمن أولى منك بذلك وإن عذبت فمن أعدل منك هنالك إلهى قد جرت على نفسى في النظر لها وبقى لها حسن نظرك فالويل لها إن لم تسعدها إلهى إنك لم تزل بى برا أيام حياتى فلا تقطع عنى برك بعد مماتى(4/415)
ولقد رجوت ممن تولانى في حياتى بإحسانه أن يسعفنى عند مماتى بغفرانه إلهى كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتى ولم تولنى إلا الجميل في حياتى إلهى إن كانت ذنوبى قد أخافتنى فإن محبتى لك قد أجارتنى فتول من أمرى ما أنت أهله وعد بفضلك على من غره جهله إلهى لو أردت إهانتى لما هديتنى ولو أردت فضيحتى لم تسترنى فمتعنى بما له هديتنى وأدم لى ما به سترتنى إلهى ما أظنك تردنى في حاجة أفنيت فيها عمرى إلهى لولا ما قارفت من الذنوب ما خفت عقابك ولولا ما عرفت من كرمك ما رجوت ثوابك وقال الخواص دخلنا على رحلة العابدة وكانت قد صامت حتى اسودت وبكت حتى عميت وصلت حتى أقعدت وكانت تصلى قاعدة فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئا من العفو ليهون عليها الأمر قال فشهقت ثم قالت علمى بنفسى قرح فؤادى وكلم كبدى والله لوددت أن الله لم يخلقنى ولم أك شيئا مذكورا ثم أقبلت على صلاتها
فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين لينبعث نشاطك ويزيد حرصك وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك على سبيل الله
وحكايات المجتهدين غير محصورة وفيما ذكرناه كفاية للمعتبر
وإن أردت مزيدا فعليك بالمواظبة على مطالعة كتاب حلية الأولياء فهو مشتمل على شرح أحوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبالوقوف عليه يستبين لك بعدك وبعد أهل عصرك من أهل الدين
فإن حدثتك نفسك بالنظر إلى أهل زمانك وقالت إنما تيسر الخير في ذلك الزمانلكثرة الأعوان والآن فإن خالفت أهل زمانك رأوك مجنونا وسخروا بك فوافقهم فيما هم فيه وعليه فلا يجرى عليك إلا ما يجرى عليهم والمصيبة إذا عمت طابت فإياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها وقل لها أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبى في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم وتستجهلينهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك فإذا كنت تتركين موافقتهم خوفا من الغرق وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال ومن أين تطيب المصيبة إذا عمت ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم حيث قالو إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك وحملها على الاجتهاد فاستعصت أن لا تترك معاتبتها وتوبيخها وتعريفها سوء نظرها لنفسها فعساها تنزجر عن طغيانها المرابطة السادسة في تَوْبِيخُ النَّفْسِ وَمُعَاتَبَتُهَا
اعْلَمْ أَنَّ أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ وَقَدْ خُلِقَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ مَيَّالَةً إِلَى الشَّرِّ فَرَّارَةً مِنَ الْخَيْرِ وَأُمِرْتَ بِتَزْكِيَتِهَا وَتَقْوِيمِهَا وَقَوْدِهَا بِسَلَاسِلِ الْقَهْرِ إِلَى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وَفِطَامِهَا عَنْ لَذَّاتِهَا فَإِنْ أَهْمَلْتَهَا جَمَحَتْ وَشَرَدَتْ وَلَمْ تَظْفَرْ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَازَمْتَهَا بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة كانت نفسك هى النفس اللوامة التى أقسم الله بها ورجوت أَنْ تَصِيرَ النَّفْسَ الْمُطْمَئِنَّةَ الْمَدْعُوَّةَ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ عِبَادِ اللَّهِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً قال تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولا بوعظ نفسك أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس إلا فاستحى منى وقال تعالى وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وَسَبِيلُكَ أَنْ تُقْبِلَ عَلَيْهَا فَتُقَرِّرَ عِنْدَهَا جَهْلَهَا وغباوتها وأنها أبدا تتعزر بِفِطْنَتِهَا وَهِدَايَتِهَا وَيَشْتَدُّ أَنَفُهَا وَاسْتِنْكَافُهَا إِذَا نُسِبَتْ إِلَى الْحُمْقِ فَتَقُولَ لَهَا يَا نَفْسُ مَا أَعْظَمَ جَهْلَكِ تَدَّعِينَ الْحِكْمَةَ(4/416)
وَالذَّكَاءَ وَالْفِطْنَةَ وَأَنْتِ أَشَدُّ النَّاسِ غَبَاوَةً وَحُمْقًا أَمَا تَعْرِفِينَ مَا بَيْنَ يَدَيْكِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنَّكِ صَائِرَةٌ إِلَى إِحْدَاهُمَا عَلَى الْقُرْبِ فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم وعساك اليوم تختطفين أو غدا فأراك ترين الموت بعيدا ويراه الله قريبا أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قريب وأن البعيد ما ليس بآت أما تعلمين أن الموت يأتى بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأة وأنه لا يأتى في شيء دون شيء ولا في شتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتى في الصبا دون الشباب ولا في الشباب دون الصبا بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة فإن لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة ثم يفضى إلى الموت فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب أَمَا تَتَدَبَّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يلعبون لاهية قلوبهم وَيْحَكِ يَا نَفْسُ إِنْ كَانَتْ جَرَاءَتُكِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ لِاعْتِقَادِكِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاكِ فَمَا أَعْظَمَ كُفْرَكِ وَإِنْ كَانَ مَعَ عِلْمِكِ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْكِ فَمَا أَشَدَّ وَقَاحَتَكِ وَأَقَلَّ حَيَاءَكِ وَيْحَكِ يَا نَفْسُ لَوْ وَاجَهَكِ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكِ بَلْ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكِ بِمَا تَكْرَهِينَهُ كَيْفَ كَانَ غَضَبُكِ عَلَيْهِ وَمَقْتُكِ لَهُ فَبِأَيِّ جَسَارَةٍ تَتَعَرَّضِينَ لِمَقْتِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَشَدِيدِ عِقَابِهِ أَفَتَظُنِّينَ أَنَّكِ تُطِيقِينَ عَذَابَهُ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ جَرِّبِي نَفْسَكِ إِنْ أَلْهَاكِ الْبَطَرُ عَنْ أَلِيمِ عَذَابِهِ فَاحْتَبِسِي سَاعَةً فِي الشَّمْسِ أَوْ فِي بَيْتِ الْحَمَّامِ أَوْ قَرِّبِي أُصْبُعَكِ مِنَ النَّارِ لِيَتَبَيَّنَ قدر طاقتك أمتغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فَمَا لَكِ لَا تُعَوِّلِينَ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ تعالى في مهمات دنياك فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله تعالى وإذا أَرْهَقَتْكِ حَاجَةٌ إِلَى شَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا يَنْقَضِي إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَمَا لَكِ تَنْزِعِينَ الرُّوحَ فِي طَلَبِهَا وَتَحْصِيلِهَا مِنْ وجوه الحيل فلا تُعَوِّلِينَ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعْثُرَ بِكِ عَلَى كَنْزٍ أَوْ يُسَخِّرَ عَبْدًا مِنْ عبيده فيحمل إليك حاجتك مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ مِنْكِ وَلَا طَلَبٍ أَفَتَحْسَبِينَ أَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا وَقَدْ عَرَفْتِ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَأَنَّ رَبَّ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَاحِدٌ وَأَنْ ليس للإنسان إلا ما سعى
ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودواعيك الباطلة فإنك تدعين الإيمان بلسانك وأثر النفاق ظاهر عليك ألم يقل لك سيدك ومولاك وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقال في أمر الآخرة وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة وصرفك عن السعى فيها فكذبته بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ما هذا من علامات الإيمان لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت انفلت وتخلصت وهيهات أتحسبين أنك تتركين سدى ألم تكونى نطفة من مني يمنى ثم كنت علقة فخلق فسوى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك أما تتفكرين أنه مماذا خلقك من نطفة خلقك فقدرك ثم السبيل يسرك ثم أماتك فأقبرك أفتكذبينه في قوله
ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكونى مكذبة فما لك لا تأخذين حذرك ولو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وتركته وجاهدت نفسك فيه أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودى يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وبرهان أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة(4/417)
الأولياء أقل عندك من قول صبى من جملة الأغبياء أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أو أقل منه ما هذه أفعال العقلاء بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وسخروا من عقلك فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وآمنت به فما لك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة فبماذا أمنت استعجال الأجل وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا يعد نفسه بالتفقه فى السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه اعتمادا على كرم الله سبحانه وتعالى ثم هبى أن الجهد في آخر العمر نافع وأنه موصل إلى الدرجات العلا فلعل اليوم آخر عمرك فلم تشتغلين فيه بذلك فإن أوحى إليك بالإمهال فما المانع من المبادرة وما الباعث لك على التسويف هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس وهذا محال وجوده أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وتقولين غدا غدا فقد جاء الغد وصار يوما فكيف وجدته أما علمت أن الغد الذى جاء وصار يوما كان له حكم الأمس لا بل الذى تعجزين عنه اليوم فأنت غدا عنه أعجز وأعجز لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التى تعبد العبد بقلعها فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوى فأخرها إلى سنة أخرى مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخا ويزيد القالع ضعفا ووهنا فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط فى المشيب بل من العناء رياضة الهرم ومن التعذيب تهذيب الذيب
والقضيب الرطب يقبل الانحناء فإذا جف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية وتركنين إلى التسويف فما بالك تدعين الحكمة وأية حماقة تزيد على هذه الحماقة
ولعلك تقولين ما يمنعنى عن الاستقامة إلا حرصى على لذة الشهوات وقلة صبرى على الآلام والمشقات فما أشد غباوتك وأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك فاطلبى التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة فإن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها قرب أكلة تمنع أكلات
وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصح ويهنأ بشربة طول عمره وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضا مزمنا وامتنع عليه شربه طول العمر فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر أم يقضى شهوته في الحال خوفاً من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذى هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر وإن طالت مدته
وليت شعرى ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مدة أو ألم النار في دركات جهنم فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفى أو لحمق جلى
أما الكفر الخفى فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب
وأما الحمق الجلى فاعتمادك على كرم الله تعالى وعفوه من غير التفات إلى مكره واستدراجه واستغنائه عن عبادتك مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز أو حبة من المال أو كلمة واحدة تسمعينها(4/418)
من الخلق بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة من رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قال الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت والأحمق من أتبع نفسههواها وتمنى على الله الأماني
ويحك يا نفس لا ينبغى أن تغرك الحياة الدنيا ولا يغرنك بالله الغرور فانظرى لنفسك فما أمرك بمهم لغيرك ولا تضيعى أوقاتك فالأنفاس معدودة فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك فاغتنمى الصحة قبل السقم والفراغ قبل الشغل والغنى قبل الفقر والشباب قبل الهرم والحياة قبل الموت واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها يَا نَفْسُ أَمَا تَسْتَعِدِّينَ لِلشِّتَاءِ بِقَدْرِ طُولِ مُدَّتِهِ فَتَجْمَعِينَ لَهُ الْقُوتَ وَالْكُسْوَةَ وَالْحَطَبَ وَجَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَلَا تَتَّكِلِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ حَتَّى يَدْفَعَ عَنْكِ الْبَرْدَ مِنْ غَيْرِ جُبَّةٍ وَلَبَدٍ وَحَطَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قادر على ذلك أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف بردا وأقصر مدة من زمهرير الشتاء أم تظنين أن ذلك دون هذا كلا أن يكون هذا كذلك أو أن يكون بينهما مناسبة في الشدة والبرودة أفتظنين أن العبد ينجو منها يغير سَعْيٍ هَيْهَاتَ كَمَا لَا يَنْدَفِعُ بَرْدُ الشِّتَاءِ إِلَّا بِالْجُبَّةِ وَالنَّارِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَلَا يَنْدَفِعُ حَرُّ النَّارِ وَبَرْدُهَا إِلَّا بِحِصْنِ التَّوْحِيدِ وَخَنْدَقِ الطَّاعَاتِ وَإِنَّمَا كَرَمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ عَرَّفَكِ طَرِيقَ التَّحَصُّنِ وَيَسَّرَ لَكِ أَسْبَابَهُ لَا فى أن يندفع عنك العذاب دون حصنه كما أن كرم الله تعالى فى دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها من بين حديدة وحجر حتى تدفعى بها برد الشتاء عن نفسك وكما ان شراه الحطب والجبة مما يستغنى عنه خالقك ومولاك وإنما تشترينه لنفسك إذ خلقه سببا لاستراحتك فطاعاتك ومجاهداتك أيضا هو مستغن عنها وإنما هى طريقك إلى نجاتك فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها والله غنى عن العالمين
ويحك يا نفس انزعى عن جهلك وقيسى آخرتك بدنياك فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وكما بدأنا أول خلق نعيده وكما بدأكم تعودون وسنة الله تعالى لا تجدين لها تبديلا ولا تحويلا ويحك يا نفس ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها فعسر عليك مفارقتها وأنت مقبلة على مقاربتها وتؤكدين في نفسك مودتها فاحسن أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه وعن أهوال القيامة وأحوالها فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فمد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك ومالك فيها إلا مجاز وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزى به وعش ما شئت فإنك ميت (1) ويحك يا نفس أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها مع أن الموت من ورائه فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدرى أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا وخلوا وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ويبنون ما لا يسكنون ويؤملون ما لا يدركون يبنى كل واحد قصرا مرفوعا إلى جهة السماء ومقره قبر محفور تحت الأرض فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقينا ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعا
أما تستحيين يا نفس من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم واحسبى أنك لست ذات بصيرة تهتدى إلى هذه الأمور وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه والاقتداء فقيسى عقل الأنبياء والعلماء
_________
(1) حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم في العلم وغيره(4/419)
والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا واقتدى من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء
يا نفس ما أعجب أمرك وأشد جهلك وأظهر طغيانك عجبا لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجليلة ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه وأدهشك عن فهمها أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك فاحسبى أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين انت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك وسيأتى زمان لا يبقى ذكرك ولا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا فكيف تبيعين يا نفس ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقى هذا إن كنت ملكا من ملوك الأرض سلم لك الشرق والغرب حتى أذعنت لك الرقاب وانتظمت لك الأسباب كيف ويأبى إدبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك بل أمر دارك فضلا عن محلتك فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك فما لك لا تتركينها ترفعا عن خسة شركائها وتنزها عن كثرة عنائها وتوقيا من سرعة فنائها أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها وما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء فما أجهلك وأخس همتك وأسقط رأيك إذ رغبت عن ان تكونى في زمرة المقربين من النبيين والصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبدين لتكونى في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياما قلائل فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا والدين فبادرى ويحك يا نفس فقد أشرفت على الهلاك واقترب الموت وورد النذير فمن ذا يصلى عنك بعد الموت ومن ذا يصوم عنك بعد الموت ومن ذا يترضى عنك ربك بعد الموت
ويحك يا نفس مالك إلا أيام معدودة هى بضاعتك إن اتجرت فيها وقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك والقبر بيتك والتراب فراشك والدود أنيسك والفزع الأكبر بين يديك أما علمت يا نفس أن عسكر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان المغلظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوما ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم وأنت في أمنيتهم ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لا شتروه لو قدروا عليه وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة ويحك يا نفس أما تستحيين تزينين ظاهرك للخلق وتبارزين الله في السر بالعظائم أفتستحيين من الخلق ولا تستحيين من الخالق ويحك أهو أهون الناظرين عليك أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل تدعين إلى الله وأنت عنه فارة وتذكرين بالله وأنت له ناسية أما تعلمين يا نفس أن المذنب أنتن من العذرة وأن العذرة لا تطهر غيرها فلم تطمعين في تطهير غيرك وأنت غير طيبة في نفسك ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق المعرفة لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حمارا لإبليس يقودك إلى حيث يريد ويسخر بك ومع هذا فتعجبين بعملك وفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأسا برأس لكان الربح في يديك وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك وقد لعن الله إبليس بخطيئة واحدة بعد أن عبده مائتى ألف سنة وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة مع كونه نبيه وصفيه ويحك يا نفس ما أغدرك ويحك يا نفس ما أوقحك ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصى ويحك كم تعقدين فتنقضين ويحك كم تعهدين فتغدرين ويحك يا نفس أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير(4/420)
مرتحلة عنها أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا جمعوا كثيرا وبنوا مشيدا وأملوا بعيدا فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا ويحك يا نفس أما لك بهم عبرة أما لك إليهم نظرة أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين هيهات هيهات ساء ما تتوهمين ما أنت إلا فى هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك فابنى على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل يكون قبرك أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقى أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان وكلح الوجوه وبشرى بالعذاب فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء والعجب كل العجب منك يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة والفطنة ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك ولا تحزنين بنقصان عمرك وما نفع مال يزيد وعمر ينقص ويحك يا نفس تعرضين عن الآخرة وهى مقبلة عليك وتقبلين على الدنيا وهى معرضة عنك فكم من مستقبل يوما لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لا يبلغه فأنت تشاهدين ذلك في إخوانك وأقاربك وجيرانك فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك فاحذرى أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبد أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله سره وعلانيته فانظرى يَا نَفْسُ بِأَيِّ بَدَنٍ تَقِفِينَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ تُجِيبِينَ وَأَعِدِّي لِلسُّؤَالِ جَوَابًا وَلِلْجَوَابِ صَوَابًا وَاعْمَلِي بَقِيَّةَ عُمُرِكِ فِي أَيَّامٍ قِصَارٍ لِأَيَّامٍ طِوَالٍ وَفِي دَارِ زَوَالٍ لِدَارِ مُقَامَةٍ وَفِي دَارِ حَزَنٍ وَنَصَبٍ لِدَارِ نَعِيمٍ وخلود اعملى قبل أن لا تعملى اخرجى من الدنيا اختيارا خروج الأحرار قبل أن تخرجى منها على الاضطرار ولا تفرحى بما يساعدك من زهرات الدنيا فرب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر فويل لمن له الويل ثم لا يشعر يضحك ويفرح ويلهو ويمرح ويأكل ويشرب وقد حق له في كتاب الله انه من وقود النار فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا وسعيك لها اضطرارا ورفضك لها اختيارا وطلبك للآخرة ابتدارا ولا تكونى ممن يعجز عن شكر ما أوتى ويبتغى الزيادة فيما بقى وينهى الناس ولا ينتهى واعلمى يا نفس أَنَّهُ لَيْسَ لِلدِّينِ عِوَضٌ وَلَا لِلْإِيمَانِ بَدَلٌ وَلَا لِلْجَسَدِ خَلَفٌ وَمَنْ كَانَتْ مَطِيَّتَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ
فَاتَّعِظِي يَا نَفْسُ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَاقْبَلِي هَذِهِ النَّصِيحَةَ فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْمَوْعِظَةِ فَقَدْ رضى بالنار وما أراك بها راضية ولا لهذه الموعظة واعية فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعينى عليها بدوام التهجد والقيام فإن لم تزل فالمواظبة على الصيام فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام فإن لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام فإن لم تزل فاعلمى أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه فوطنى نفسك على النار فقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلا فكل ميسر لما خلق له فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطى من نفسك والقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك فلا سبيل لك إلى القنوط ولا سبيل لك إلى الرجاء مع انسداد طرق الخير عليك فإن ذلك اغترار وليس برجاء فانظرى الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التى ابتليت بها وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة فقد بقى فيك موضع للرجاء فواظبي على النياحة والبكاء واستعينى بأرحم الراحمين واشتكى إلى أكرم الأكرمين وأدمنى الاستغاثة ولا تملى طول الشكاية لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك فإن مصيبتك قد عظمت وبليتك قد تفاقمت وتماديك قد طال وقد انقطعت منك الحيل وراحت عنك العلل فلا مذهب ولا مطلب ولا مستغاث ولا مهرب ولا ملجأ ولا منجا إلا إلى مولاك فافزعى إليه بالتضرع واخشعى في تضرعك على قدر عظم جهلك وكثرة ذنوبك لأنه يرحم المتضرع الذليل ويغيث الطالب المتلهف ويجيب دعوة(4/421)
المضطر وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة وإلى رحمته محتاجة وقد ضاقت بك السبل وانسدت عليك الطرق وانقطعت منك الحيل ولم تنجح فيك العظات ولم يكسرك التوبيخ فالمطلوب منه كريم والمسئول جواد والمستغاث به بر رءوف والرحمة واسعة والكرم فائض والعفو شامل وقولى يا أرحم الراحمين يا رحمن يا رحيم يا حليم يا عظيم يا كريم أنا المذنب المصر أنا الجرىء الذى لا أقلع أنا المتمادى الذى لا أستحى هذا مقام المتضرع المسكين والبائس الفقير والضعيف الحقير والهالك الغريق فعجل إغاثتى وفرجى وأرنى آثار رحمتك وأذقنى برد عفوك ومغفرتك وارزقنى قوة عظمتك يا أرحم الراحمين
اقتداء بأبيك آدم عليه السلام فقد قال وهب بن منبه لما أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض مكث لا ترقأ له دمعة فاطلع الله عز وجل عليه في اليوم السابع وهو محزون كئيب كظيم منكس رأسه فأوحى الله تعالى إليه يا آدم ما هذا الجهد الذى أرى بك قال يا رب عظمت مصيبتى وأحاطت بى خطيئتى وأخرجت من ملكوت ربى فصرت في دار الهوان بعد الكرامة وفي دار الشقاء بعد السعادة وفي دار النصب بعد الراحة وفي دار البلاء بعد العافية وفي دار الزوال بعد القرار وفي دار الموت والفناء بعد الخلود والبقاء فكيف لا أبكى على خطيئتى فأوحى الله تعالى إليه يا آدم ألم أصطفك لنفسى وأحللتك دارى وخصصتك بكرامتى وحذرتك سخطى ألم أخلقك بيدى ونفخت فيك من روحى وأسجدت لك ملائكتى فعصيت أمرى ونسيت عهدى وتعرضت لسخطى فو عزتى وجلالى لو ملأت الأرض رجالا كلهم مثلك يعبدونني ويسبحونني ثم عصونى لأنزلتهم منازل العاصين فبكى آدم عليه السلام عند ذلك ثلثمائة عام
وكان عبيد الله البجلى كثير البكاء يقول في بكائه طول ليله إلهى أنا الذى كلما طال عمرى زادت ذنوبى أنا الذى كلما هممت بترك خطيئة عرضت لى شهوة أخرى واعبيداه خطيئة لم تبل وصاحبها في طلب أخرى واعبيداه إن كانت النار لك مقيلا ومأوى واعبيداه إن كانت المقامع برأسك تهيأ واعبيداه قضيت حوائج الطالبين ولعل حاجتك لا تقضى
وقال منصور بن عمار سمعت في بعض الليالى بالكوفة عابدا يناجى ربه وهو يقول يا رب وعزتك ما أرد بمعصيتك مخالفتك ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا لنظرك مستخف ولكن سولت لى نفسى وأعاننى على ذلك شقوتى وغرنى سترك المرخى على فعصيتك بجهلى وخالفتك بفعلى فمن عذابك الآن من يستنقذنى أو بحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنى واسوأتاه من الوقوف بين يديك غدا إذا قيل للمخفين جوزوا وقيل للمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط ويلى كلما كبرت سنى كثرت ذنوبى ويلى كلما طال عمرى كثرت معاصى فإلى متى أتوب وإلى متى أعود أما آن لى أن أستحيى من ربي
فهذه طرق القوم في مناجاة مولاهم وفي معاتبة نفوسهم وإنما مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصدهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء فمن أهمل المعاتبة والمناجاة لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ مُرَاعِيًا وَيُوشِكُ أَنْ لَا يكون الله تعالى عنه راضيا والسلام ثم كتاب المحاسبة والمراقبة
يتلوه كتاب التفكر إن شاء الله تعالى والحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه(4/422)
كتاب التفكر وهو الكتاب التاسع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم
الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يقدر لانتهاء عزته نحوا ولا قطرا ولم يجعل لمراقى أقدام الأوهام ومرمى سهام الأفهام إلى حمى عظمته مجرى بل ترك قلوب الطالبين في بيداء كبريائه والهة حيرى كلما اهتزت لنيل مطلوبها ردتها سبحات الجلال قسرا وإذا همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبرا صبرا ثم قيل لها أجيلى فى ذل العبودية منك فكرا لأنك لو تفكرت في جلال الربوبية لم تقدرى له قدرا وإن طلبت وراء الفكر في صفاتك أمرا فانظرى في نعم الله تعالى وأياديه كيف توالت عليك تترى وجددى لكل نعمة منها ذكرا وشكرا وتأملى في بحار المقادير كيف فاضت على العالمين خيرا وشرا ونفعا وضرا وعسرا ويسرا وفوزا وخسرا وجبرا وكسرا وطيا ونشرا وإيمانا وكفرا وعرفانا ونكرا فإن جاوزت النظر في الأفعال إلى النظر في الذات فقد حاولت أمرا إمرا وخاطرت بنفسك مجاوزة حد طاقة البشر ظلما وجورا فقد انبهرت العقول دون مبادى إشراقهوانتكصت على أعقابها اضطرارا وقهرا والصلاة على محمد سيد ولد آدم وإن كان لم يعد سيادته فخرا صلاة تبقى لنا في عرصات القيامة عدة وذخرا وعلى آله وأصحابه الذين أصبح كل واحد منهم في سماء الدين بدرا ولطوائف المسلمين صدرا وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فقد وردت السنة بأن تفكر ساعة خير من عبادة سنة (1) وكثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ومورده ومجراه ومسرحه وطريقه وكيفيته ولم يعلم أنه كيف يتفكر وفيماذا يتفكر ولماذا يتفكر وما الذى يطلب به أهو مراد لعينه أم لثمرة تستفاد منه فإن كان لثمرة فما تلك الثمرة أهى من العلوم أو من الأحوال أو منهما جميعا وكشف جميع ذلك مهم ونحن نذكر أولا فضيلة التفكر
ثم حقيقة التفكر وثمرته
ثم مجارى الفكر ومسارحه إن شاء الله تعالى فضيلة التفكر
قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى وَأَثْنَى عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ فَقَالَ تَعَالَى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ قَوْمًا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فقال صلى الله عليه وسلم تفكروا في
_________
(1) حديث تفكر ساعة خير من عبادة سنة أخرجه ابن حبان في كتاب العظمة من حديث أبى هريرة بلفظ ستين سنة بإسناد ضعيف ومن طريقه ابن الجوزى في الموضوعات ورواه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أنس بلفظ ثمانين سنة وإسناده ضعيف جدا ورواه أبو الشيخ من قول ابن عباس بلفظ خير من قيام ليلة(4/423)
خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره (1) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على قوم ذات يوم وهم يتفكرون فقال ما لكم لا تتكلمون فقالوا نتفكر في خلق الله عز وجل قال فكذلك فافعلوا تفكروا في خلقه ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها بياضها وبياضها نورها مسيرة الشمس أربعين يوما بها خلق من خلق الله عز وجل لم يعصوا الله طرفة عين قالوا يا رسول الله فأين الشيطان منهم قال ما يدرون خلق الشيطان أم لا قالوا من ولد آدم قال لا يدرون خلق آدم أم لا (2) وعن عطاء قال انطلقت يوما أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا قال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم زر غبا تزدد حبا قال ابن عمير فأخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فبكت وقالت كل أمره كان عجبا أتانى في ليلتى حتى مس جلده جلدى ثم قال ذرينى أتعبد لربى عز وجل فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال ويحك يا بلال وما يمنعنى أن أبكى وقد أنزل الله تعالى على في هذه الليلة إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (3) فقيل للأوزاعى ما غاية التفكير فيهن قال يقرؤهن ويعقلهن
وعن محمد بن واسع إن رجلا من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبى ذر فسألها عن عبادة أبى ذر فقالت كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر
وعن الحسن قال تفكر ساعة خير من قيام ليلة
وعن الفضيل قال الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك
وقيل لإبراهيم إنك تطيل الفكرة فقال الفكرة مخ العقل وكان سفيان بن عيينة كثيرا ما يتمثل بقول القائل
إذا المرء كانت له فكرة ... ففى كل شئ له عبرة
وعن طاوس قال قال الحواريون لعيسى بن مريم يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك فقال نعم من كان منطقه ذكرا وصمته فكرا ونظره عبرة فإنه مثلى
وقال الحسن من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو وفي قوله تَعَالَى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض يغير الحق قال أمنع قلوبهم التفكر في أمرى
وعن أبى سعيدى الخدري قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطوا أعينكم حظها من العبادة فقالوا يا رسول الله وما حظها من العبادة قال النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه (4) وعن امرأة كانت تسكن البادية قريبا من مكة أنها قالت لو تطالعت قلوب المتقين بفكرها إلى ما قد ادخر لها في حجب الغيب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم في الدنيا عين
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده فكان يمر به مولاه فيقول يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو
_________
(1) حديث ابن عباس إِنَّ قَوْمًا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَكَّرُوا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره أخرجه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهانى في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقى في الشعب من حديث ابن عمر وقال هذا إسناد فيه نظر قلت فيه الوازع بن نافع متروك
(2) حديث خرج على قوم ذات يوم وهم يتفكرون فقال ما لكم لا تتكلمون فقالوا نتفكر في خلق الله الحديث رويناه في جزء من حديث عبد الله بن سلام
(3) حديث عطاء انطلقت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة الحديث قال ابن عمير فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في نزول إن في خلق السموات والأرض وقال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها تقدم في الصبر والشكر أنه في صحيح ابن حبان من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء
(4) حديث أبي سعيد الخدري أعطوا أعينكم حظها من العبادة الحديث أخرجه ابن أبى الدنيا ومن طريقه ابو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة بإسناد ضعيف(4/424)
جلست مع الناس كان آنس لك فيقول لقمان إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم وما علم امرؤ قط إلا عمل
وقال عمر بن عبد العزيز الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة
وقال عبد الله بن المبارك يوما لسهل بن على ورآه ساكتا متفكرا أين بلغت قال الصراط
وقال بشر لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل وعن ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب
وبينا أبو شريح يمشى إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكى فقيل له ما يبكيك قال تفكرت في ذهاب عمرى وقلة عملى واقتراب أجلى
وقال أبو سليمان عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر وقال أبو سليمان الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحيى القلوب وَقَالَ حاتم مِنَ الْعِبْرَةِ يَزِيدُ الْعِلْمُ وَمِنَ الذكر يزيد يَزِيدُ الْحُبُّ وَمِنَ التَّفَكُّرِ يَزِيدُ الْخَوْفُ
وَقَالَ ابن عباس التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه
ويروى أن الله تعالى قال في بعض كتبه إنى لست أقبل كلام كل حكيم ولكن انظر إلى همه وهواه فإذا كان همه وهواه لى جعلت صمته تفكرا وكلامه حمدا وإن لم يتكلم
وقال الحسن إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة
وقال إسحاق بن خلف كان داود الطائي رحمة الله تعالى على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكى حتى وقع في دار جار له قال فوثب صاحب الدار من فراشه عريانا وبيده سيف وظن أنه لص فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال من ذا الذى طرحك من السطح قال ما شعرت بذلك
وقال الجنيد اشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد والتنسم بنسيم المعرفة والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد والنظر بحسن الظن لله عز وجل ثم قال يا لها من مجالس ما أجلها ومن شراب ما ألذه طوبى لمن رزقه
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَعِينُوا عَلَى الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر
وقال أيضا صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم في الرأي سلامة من التفريط والندم والروية والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة ومشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم
وقال أيضا الفضائل أربع إحداها الحكمة وقوامها الفكرة
والثانية العفة وقوامها في الشهوة
والثالثة القوة وقوامها في الغضب والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس
فهذه أقاويل العلماء في الفكرة وما شرع أحد منهم في ذكر حقيقتها وبيان مجاريها
بيان حقيقة الفكر وثمرته
أعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة
ومثاله أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وإراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة فله طريقان {أحدهما} أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتمادا على مجرد قوله وهذا يسمى تقليدا ولا يسمى معرفة
والطريق الثاني أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار ثم يعرف أن الآخرة أبقى
فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين
فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكرا واعتبارا وتذكرا ونظرا(4/425)
وتأملا وتدبرا
أما التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة
وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر فهى مختلفة المعانى وإن كان أصل المسمى واحد كما أن اسم الصارم والمهند والسيف يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة
فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد
فكذلك الاعتبار ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم التذكر لا اسم الاعتبار وأما النظر والتفكر فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظرا فكل متفكر فهو متذكر وليس كل متذكر متفكرا
وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحى عن القلب
وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة
فهذا هو الفرق بين التذكر والتفكر
والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت في القلب على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى فالمعرفة نتاج المعرفة
فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر
وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية وإنما تنسد طريق زيادة المعارف بالموت
أو بالعوائق وهذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدى إلى طريق التفكير
وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التى بها تستثمر العلوم كالذى لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئا فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضى إلى النتاج فيها
ومعرفة طريق الاستعمال والاستثمار تارة تكون بنور إلهى في القلب يحصل بالفطرة كما كان للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وذلك عزيز جدا وقد تكون بالتعلم والممارسة وهو الأكثر
ثم المتفكر قد تحضره هذه المعارف وتحصل له الثمرة وهو لا يشعر بكيفية حصولها ولا يقدر على التعبير عنها لقلة ممارسته لصناعة التعبير في الإيراد
فكم من إنسان يعلم أن الآخرة أولى بالإيثار علما حقيقيا ولو سئل عن سبب معرفته لم يقدر على إيراده والتعبير عنه مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين وهو أن الأبقى أولى بالإيثار وأن الآخرة أبقى من الدنيا فتحصل له معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار فرجع حاصل حقيقة التفكر إلى إحضار معرفتين للتوصل بهما إلى معرفة ثالثة
وأما ثمرة الفكر فهى العلوم والأحوال والأعمال ولكن ثمرته الخاصة
العلم لا غير
نعم إذا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْقَلْبِ تَغَيَّرَ حَالُ الْقَلْبِ وَإِذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْقَلْبِ تَغَيَّرَتْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ
فالعمل تابع الحال والحال تابع العلم والعلم تابع الفكر
فَالْفِكْرُ إِذَنْ هُوَ الْمَبْدَأُ وَالْمِفْتَاحُ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهَا وهذا هو الذى يكشف لك فضيلة التفكر وأنه خير من الذكر والتذكر لأن الفكر ذكر وزيادة
وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر
فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال ولذلك قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فقيل هو الذى ينقل من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة وقيل هو الذى يحدث مشاهدة وتقوى ولذلك قال تعالى {لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} وإن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله ما ذكرناه من أمر الآخرة فإن الفكر يعرفنا أن الآخرة أولى بالإيثار فإذا رسخت هذه المعرفة يقينا(4/426)
في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا
وهذا ما عنيناه بالحال إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها والنفرة عن الآخرة وقلة الرغبة فيها
وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته ثم أثمر تغير الإرادة أعمال الجوارح في إطراح الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة
فههنا خمس درجات أولاها التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب وثانيتها التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما والثالثة حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها
والرابعة تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة
{والخامسة} خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدد له من الحال
فكما يضرب الحجر على الحديد فيخرج منه نار يستضىء بها الموضع فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة وتنتهض الأعضاء للعمل فكذلك زناد نور المعرفة هو الفكر فيجمع بين المعرفتين كما يجمع بين الحجر والحديد ويؤلف بينهما تأليفا مخصوصا كما يضرب الحجر على الحديد ضربا مخصوصا فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه
ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره
فإذن ثمرة الفكر العلوم والأحوال والعلوم لا نهاية لها والأحوال التى تتصور أن تتقلب على القلب لا يمكن حصرها
ولهذا لو أراد مريد أن يحصر فنون الفكر ومجاريه وأنه فيماذا يتفكر لم يقدر عليه لأن مجارى الفكر غير محصورة وثمراته غير متناهية نعم نحن نجتهد في ضبط مجاريه بالإضافة إلى مهمات العلوم الدينية وبالإضافة إلى الأحوال التى هى مقامات السالكين ويكون ذلك ضبطا جمليا فإن تفصيل ذلك يستدعى شرح العلوم كلها وجملة هذه الكتب كالشرح لبعضها فإنها مشتملة على علوم تلك العلوم تستفاد من أفكار مخصوصة
فلنشر إلى ضبط الجامع فيها ليحصل الوقوف على مجارى الفكر
بيان مجارى الفكر
أعلم أن الفكر قد يجرى في أمر يتعلق بالدين وقد يجرى فيما يتعلق بغير الدين وإنما غرضنا ما يتعلق بالدين فلنترك القسم الآخر
ونعنى بالدين المعاملة التى بين العبد وبين الرب تعالى فجميع أفكار العبد إما أن تتعلق بالعبد وصفاته وأحواله وإما أن تتعلق بالمعبود وصفاته وأفعاله لا يمكن أن يخرج عن هذين القسمين
وما يتعلق بالعبد إما أن يكون نظرا فيما هو محبوب عند الرب تعالى أو فيما هو مكروه ولا حاجة إلى الفكر في غير هذين القسمين
وما يتعلق بالرب تعالى إما ان يكون نظرا في ذاته وصفاته وأسمائه الحسنى وإما أن يكون في أفعاله وملكه وملكوته وجميع ما في السموات والأرض وما بينهما
وينكشف لك انحصار الفكر في هذه الأقسام بمثال وهو أن حال السائرين إلى الله تعالى والمشتاقين إلى لقائه يتعلق بمعشوقه أو يتعلق بنفسه
فإن تفكر في معشوقه فإما أن يتفكر في جماله وحسن صورته في ذاته ليتنعم بالفكر فيه وبمشاهدته وإما ان يتفكر في أفعاله اللطيفة الحسنة الدالة على أخلاقه وصفاته ليكون ذلك مضعفا للذة ومقويا لمحبته(4/427)
وإن تفكر في نفسه فيكون فكره في صفاته التى تسقطه من عين محبوبه حتى يتنزه عنها أو في الصفات التى تقربه منه وتحببه إليه حتى يتصف بها
فإن تفكر في شيء خارج عن هذه الأقسام فذلك خارج عن حد العشق وهو نقصان فيه لأن العشق التام الكامل ما يستغرق العاشق ويستوفي القلب حتى لا يترك فيه متسعا لغيره
فمحب الله تعالى ينبغى أن يكون كذلك فلا يعدو نظره وتفكره محبوبه
ومهما كان تفكره محصورا في هذه الأقسام الأربعة لم يكن خارجاً عن مقتضى المحبة أصلا فلنبدأ بالقسم الأول وهو تفكره في صفات نفسه وأفعال نفسه ليميز المحبوب منها عن المكروه فإن هذا الفكر هو الذى يتعلق بعلم المعاملة الذى هو المقصود بهذا الكتاب وأما القسم الآخر فيتعلق بعلم المكاشفة
ثم كل واحد مما هو مكروه عند الله أو محبوب ينقسم إلى ظاهر كالطاعات والمعاصى وإلى باطن كالصفات المنجيات والمهلكات التى محلها القلب وذكرنا تفصيلها في ربع المهلكات والمنجيات
والمعاصى تنقسم إلى ما يتعلق بالأعضاء السبعة وإلى ما ينسب إلى جميع البدن كالفرار من الزحف وعقوق الوالدين والسكون في المسكن الحرام
ويجب في كل واحد من المكاره التفكر في ثلاثة أمور {الأول} التفكر في أنه هل هو مكروه عند الله أم لا فرب شيء لا يظهر كونه مكروها بل يدرك بدقيق النظر والثاني التفكر في أنه إن كان مكروها فما طريق الاحتراز عنه والثالث أن هذا المكروه هل هو متصف به في الحال فيتركه أو هو متعرض له في الاستقبال فيحترز عنه أو قارفه فيما مضى من الأحوال فيحتاج إلى تداركه وكذلك كل واحد من المحبوبات ينقسم إلى هذه الانقسامات فإذا جمعت هذه الاقسام زادت مجارى الفكر في الأقسام على مائة والعبد مدفوع إلى الفكر إما في جميعها أو في أكثرها
وشرح آحاد هذه الانقسامات يطول ولكن انحصر هذا القسم في أربعة أنواع الطاعات والمعاصى والصفات المهلكات والصفات المنجيات
فلنذكر في كل نوع مثالا ليقيس به المريد سائرها وينفتح له باب الفكر ويتسع عليه طريقه
النوع الأول المعاصى ينبغى أَنْ يُفَتِّشَ الْإِنْسَانُ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ جَمِيعَ أعضائه السبعة تفصيلا ثم بدنه على الجملة هَلْ هُوَ فِي الْحَالِ مُلَابِسٌ لِمَعْصِيَةٍ بِهَا فَيَتْرُكَهَا أَوْ لَابَسَهَا بِالْأَمْسِ فَيَتَدَارَكَهَا بِالتَّرْكِ وَالنَّدَمِ أَوْ هُوَ مُتَعَرِّضٌ لَهَا فِي نَهَارِهِ فَيَسْتَعِدَّ لِلِاحْتِرَازِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْهَا
فَيَنْظُرَ فِي اللِّسَانِ وَيَقُولَ إِنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلْغَيْبَةِ وَالْكَذِبِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْغَيْرِ وَالْمُمَارَاةِ وَالْمُمَازَحَةِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِي إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَكَارِهِ فَيُقَرِّرَ أَوَّلًا فِي نَفْسِهِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَفَكَّرَ فِي شَوَاهِدِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى شِدَّةِ العذاب فيها ثم يتفكر في أحواله أنه كيف يتعرض لها من حيث لا يشعر ثم يتفكر أنه كيف يحترز منه ويعلم أنه لا يتم له ذلك إلا بالعزلة والانفراد أو بأن لا يجالس إلا صالحا تقيا ينكر عليه مهما تكلم بما يكرهه الله وإلا فيضع حجرا في فيه إذا جالس غيره حتى يكون ذلك مذكرا له فهكذا يكون الفكر في حيلة الاحتراز
ويتفكر في سمعه يُصْغِيَ بِهِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَالْكَذِبِ وَفُضُولِ الْكَلَامِ وإلى اللهو والبدعة وأن ذلك إنما يسمعه من زيد وعمرو وأنه ينبغى أن يحترز عنه بالاعتزال أو بالنهى عن المنكر فمهما كان ذلك فيتفكر فِي بَطْنِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِمَّا بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ مِنَ الحلال(4/428)
فإن ذلك مكروه عند الله ومقوى للشهوة التى هى سلاح الشيطان عدو الله وإما بأكل الحرام أو الشبهة فينظر من أين مطعمه وملبسه ومسكنه ومكسبه وما مكسبه ويتفكر في طريق الحلال ومداخله
ثم يتفكر في طريق الحيلة في الاكتساب منه والاحتراز من الحرام وَيُقَرِّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا ضَائِعَةٌ مع أكل الحرام وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها وأن الله تعالى لا يقبل صلاة عبد في ثمن ثوبه درهم حرام (1) كما ورد الخبر به
فهكذا يتفكر في أعضائه ففى هذا القدر كفاية عن الاستقصاء
فمهما حصل بالتفكر حقيقة المعرفة بهذه الأحوال اشتغل بالمراقبة طول النهار حتى يحفظ الأعضاء عنها
وأما النوع الثاني وهو الطَّاعَاتُ فَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي الْفَرَائِضِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَيْفَ يُؤَدِّيهَا وَكَيْفَ يَحْرُسُهَا عَنِ النُّقْصَانِ والتقصير أو كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى عُضْوٍ عُضْوٍ فَيَتَفَكَّرُ فِي الأفعال التى تتعلق بها مما يحبه الله تعالى فيقول مثلا
إن العين خلقت للنظر في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ عِبْرَةً وَلِتُسْتَعْمَلَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَشْغَلَ الْعَيْنَ بِمُطَالَعَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَلِمَ لَا أَفْعَلُهُ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ الْمُطِيعِ بِعَيْنِ التعظيم فأدخل السرور على قلبه وأنظر إلى فلان الفاسق بعين الازدراء فأزجره بذلك عن معصيته فَلِمَ لَا أَفْعَلُهُ
وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي سَمْعِهِ إلى قَادِرٌ عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِ مَلْهُوفٍ أَوِ اسْتِمَاعِ حكمة وعلمالسرور على قلبه وأنظر إلى فلان الفاسق بعين الازدراء فأزجره بذلك عن معصيته فَلِمَ لَا أَفْعَلُهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي سَمْعِهِ إلى قَادِرٌ عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِ مَلْهُوفٍ أَوِ اسْتِمَاعِ حكمة وعلم أو استماع قراءة وذكر فمالى أُعَطِّلُهُ وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِهِ وَأَوْدَعَنِيهِ لأشكره فمالى أكفر نعمة الله فيه بتضييعه أو تعطيله
وَكَذَلِكَ يَتَفَكَّرُ فِي اللِّسَانِ وَيَقُولُ إِنِّي قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّعْلِيمِ وَالْوَعْظِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى قُلُوبِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَبِالسُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ زَيْدٍ الصَّالِحِ وَعَمْرٍو الْعَالِمِ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَكُلُّ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ
وَكَذَلِكَ يَتَفَكَّرُ فِي مَالِهِ فَيَقُولُ أَنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَتَصَدَّقَ بالمال الفلاني فإنا مُسْتَغْنٍ عَنْهُ وَمَهْمَا احْتَجْتُ إِلَيْهِ رَزَقَنِي اللَّهُ تعالى مثله وإن كنت محتاجا الآن فأبا إِلَى ثَوَابِ الْإِيثَارِ أَحْوَجُ مِنِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَالِ
وَهَكَذَا يُفَتِّشُ عَنْ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَجُمْلَةِ بدنه وأمواله بل عن دوابه وغلمانه وَأَوْلَادِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَوَاتُهُ وَأَسْبَابُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَا فَيَسْتَنْبِطَ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ وُجُوهُ الطَّاعَاتِ الْمُمْكِنَةِ بِهَا وَيَتَفَكَّرُ فِيمَا يُرَغِّبُهُ فِي الْبِدَارِ إِلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ ويتفكر في إخلاص النية فيها ويطلب لها مظان الاستحقاق حتى يزكو بها عمله وقس على هذا سائر الطاعات
وأما النوع الثالث فهى الصِّفَاتُ الْمُهْلِكَةُ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ فَيَعْرِفُهَا مِمَّا ذكرناه في ربع المهلكات وَهِيَ اسْتِيلَاءُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَالْغَفْلَةِ وَالْغُرُورِ وَغَيْرِ ذلك ويتفقد من قلبه هذه الصفات فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه والاستشهاد بالعلامات عليه فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها وتخلف فإذا ادعت التواضع والبراءة من الكبر فينبغى أن تجرب بحمل حزمة حطب في السوق كما كان الأولون يجربون به أنفسهم
وإذا ادعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره ثم يجربها في كظم الغيظ وكذلك في سائر الصفات
وهذا تفكر في أنه هل هو موصوف بالصفة المكروهة أم لا ولذلك علامات ذكرناها
_________
(1) حديث أن الله لا يقبل صلاة عبد في ثوبه درهم حرام أخرجه أحمد من حديث ابن عمر بسند فيه مجهول وقد تقدم(4/429)
في ربع المهلكات فإذا دلت العلامة على وجودها فكر في الأسباب التى تقبح تلك الصفات عنده وتبين أن منشأها من الجهل والغفلة وخبث الدخلة
كما لو رأى من نفسه عجبا بالعمل فيتفكر ويقول إنما عمل ببدني وجارحتى وبقدرتى وإرادتى وكل ذلك ليس مني ولا إلى وإنما هو من خلق الله وفضله علي فهو الذي خلقني وخلق جارحتي وخلق قدرتي وإرادتي وهو الذي حرك أعضائي بقدرته وكذلك قدرتي وإرادتي فكيف أعجب بعملي أو بنفسي ولا أقوم لنفسي بنفسي
فإذا أحس في نفسه بالكبر قرر على نفسه ما فيه من الحماقة ويقول لها لم ترين نفسك أكبر والكبير من هو عند الله كبير وذلك ينكشف بعد الموت وكم من كافر في الحال يموت مقربا إلى الله تعالى بنزوعه عن الكفر وكم من مسلم يموت شقيا بتغير حاله عند الموت بسوء الخاتمة
فإذا عرف أن الكبر مهلك وأن أصله الحماقة فيتفكر في علاج إزالة ذلك بأن يتعاطى أفعال المتواضعين
وإذا وجد في نفسه شهوة الطعام وشرهه تفكر في أن هذه صفة البهائم ولو كان في شهوة الطعام والوقاع كمال لكان ذلك من صفات الله وصفات الملائكة كالعلم والقدرة ولما اتصف به البهائم ومهما كان الشره عليه أغلب كان بالبهائم أشبه وعن الملائكة المقربين أبعد
وكذلك يقرر على نفسه في الغضب ثم يتفكر في طريق العلاج وكل ذلك ذكرناه في هذه الكتب
فمن يريد أن يتسع له طريق الفكر فلا بد له من تحصيل ما في هذه الكتب
وأما النوع الرابع وهو المنجيات فهو التَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالصَّبْرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَالشُّكْرُ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ فِي الطَّاعَاتِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَتَعْظِيمُهُ وَالرِّضَا بِأَفْعَالِهِ وَالشَّوْقُ إِلَيْهِ وَالْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ له
وكل ذلك ذكرناه في هذا الربع وذكرنا أسبابه وعلاماته
فليتفكر العبد كُلَّ يَوْمٍ فِي قَلْبِهِ مَا الَّذِي يَعُوزُهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْمُقَرِّبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا افْتَقَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يُثْمِرُهَا إِلَّا عُلُومٌ وَأَنَّ الْعُلُومَ لَا يُثْمِرُهَا إِلَّا أَفْكَارٌ
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَكْتَسِبَ لِنَفْسِهِ أَحْوَالَ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ فَلْيُفَتِّشْ ذُنُوبَهُ أَوَّلًا وَلْيَتَفَكَّرْ فِيهَا وَلْيَجْمَعْهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلْيُعَظِّمْهَا فِي قَلْبِهِ
ثُمَّ لْيَنْظُرْ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّشْدِيدِ الَّذِي وَرَدَ فِي الشَّرْعِ فِيهَا وليتحقق عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَنْبَعِثَ لَهُ حَالُ النَّدَمِ
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَثِيرَ مِنْ قَلْبِهِ حَالَ الشُّكْرِ فَلْيَنْظُرْ في إحسان الله إليه وَأَيَادِيهِ عَلَيْهِ وَفِي إِرْسَالِهِ جَمِيلَ سَتْرِهِ عَلَيْهِ على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر فليطالع ذلك
وَإِذَا أَرَادَ حَالَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ فَلْيَتَفَكَّرْ فِي جَلَالِ اللَّهِ وَجَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ في عجائب حكمته وبدائع صنعه كما سنشير إلى طرف منه في القسم الثاني من الفكر وَإِذَا أَرَادَ حَالَ الْخَوْفِ فَلْيَنْظُرْ أَوَّلًا فِي ذُنُوبِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ثُمَّ لْيَنْظُرْ فِي الْمَوْتِ وسكراته ثم فيما بعده من سؤال منكر ونكير وعذاب الْقَبْرِ وَحَيَّاتِهِ وَعَقَارِبِهِ وَدِيدَانِهِ ثُمَّ فِي هَوْلِ النداء عند نفخة الصور ثم في هول المحشر عند جمع الْخَلَائِقِ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ فِي الْمُنَاقَشَةِ في الحساب في النقير والقطمير ثم في الصراط ودقته وحدته ثم في خطر الأمر عنده أنه يصرف إلى الشمال فيكون من أصحاب النار أو يصرف إلى اليمين فينزل دار القرار ثم ليحضر بعد أهوال القيامة في قلبه صورة جهنم ودركاتها ومقامعها وأهوالها وسلاسلها وأغلالها وزقومها وصديدها وأنواع العذاب فيها وقبح صور الزبانية الموكلين بها وَأَنَّهُمْ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَهَا
وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهَا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لها تغيظا وزفيرا وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ شَرْحِهَا
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَجْلِبَ حَالَ الرَّجَاءِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَأَشْجَارِهَا وأنهارها وحورها وولدانها وَنَعِيمِهَا الْمُقِيمِ وَمُلْكِهَا الدَّائِمِ(4/430)
فَهَكَذَا طَرِيقُ الْفِكْرِ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ الْعُلُومُ الَّتِي تُثْمِرُ اجْتِلَابَ أَحْوَالِ مَحْبُوبَةٍ أَوِ التَّنَزُّهِ عن صفات مذمومة
وقد ذكرنا في كل واحد من هذه الأحوال كتابا مفردا يستعان به على تفصيل الفكر أما بذكر مجامعه فَلَا يُوجَدُ فِيهِ أَنْفَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بالتفكر فإنه جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَفِيهِ شِفَاءٌ لِلْعَالَمِينَ وفيه مَا يُورِثُ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَالصَّبْرَ وَالشُّكْرَ وَالْمَحَبَّةَ وَالشَّوْقَ وَسَائِرَ الْأَحْوَالِ وَفِيهِ مَا يَزْجُرُ عَنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهُ الْعَبْدُ وَيُرَدِّدَ الْآيَةَ الَّتِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّفَكُّرِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَفَهْمٍ خَيْرٌ مِنْ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ فَلْيَتَوَقَّفْ فِي التَّأَمُّلِ فِيهَا وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا أَسْرَارًا لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلَّا بِدَقِيقِ الْفِكْرِ عَنْ صَفَاءِ الْقَلْبِ بَعْدَ صِدْقِ الْمُعَامَلَةِ
وَكَذَلِكَ مُطَالَعَةُ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ (1) وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِهِ بَحْرٌ مِنْ بُحُورِ الْحِكْمَةِ وَلَوْ تَأَمَّلَهَا الْعَالِمُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَمْ يَنْقَطِعْ فِيهَا نَظَرُهُ طُولَ عُمُرِهِ
وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزى به (2) فإن هذه الكلمات جامعة حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأملين فيها طول العمر إذ لو وقفوا على معانيها وغلبت على قلوبهم غلبة يقين لاستغرقتهم ولحال ذلك بينهم وبين التلفت إلى الدنيا بالكلية
فهذا هو طريق الفكر في علوم المعاملة وصفات العبد من حيث هي محبوبة عند الله تعالى أو مكروهة
والمبتدئ ينبغي أن يكون مستغرق الوقت في هذه الأفكار حتى يعمر قلبه بالأخلاق المحمودة والمقامات الشريفة وينزه باطنه وظاهره عن المكاره وليعلم أن هذا مع أنه أفضل من سائر العبادات فليس هو له غاية المطلب بل المشغول به محجوب عن مطلب الصديقين وهوالتنعم بالفكر في جلال الله تعالى وجماله واستغراق القلب بحيث يفنى عن نفسه أي ينسى نفسه وأحواله ومقاماته وصفاته فيكون مستغرق الهم بالمحبوب كالعاشق المستهتر عند لقاء الحبيب فإنه لا يتفرغ للنظر في أحوال نفسه وأوصافها بل كالمبهوت الغافل عن نفسه وهو منتهى لذة العشاق
فأما ما ذكرناه فهو تفكر في عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب ولذلك كان الخواص يدور في البوادي فلقيه الحسين بن منصور وقال فيم أنت قال أدور في البوادي أصلح حالي في التوكل فقال الحسين أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين
وأما التنزه عن الصفات المهلكات فيجري مجرى الخروج عن العدة في النكاح
وأما الاتصاف بالصفات المنجيات وسائر الطاعات فيجري مجرى تهيئة المرأة وجهازها وتنظيفها ووجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها فإن استغرقت جميع عمرها في تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجابا لها عن لقاء المحبوب
فهكذا ينبغي أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفا من الضرب وطمعا في الأجرة فدونك وإلعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب حجابا كثيفا فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ولكن للمجالسة أقوم آخرون
وإذا عرفت مجال الفكر في علوم المعاملة التى بين العبد وبين ربه فينبغي أن تتخذ ذلك عادتك وديدنك صباحا ومساء فلا تغفل عن نفسك وعن صفاتك المبعدة من الله تعالى وأحوالك المقربة إليه سبحانه وتعالى
بل كل مريد فينبغي أن يكون له جريدة يثبت فيها
_________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم تقدم
(2) حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم غير مرة(4/431)
جملة الصفات المهلكات وجملة الصفات المنجيات وجملة المعاصي والطاعات ويعرض نفسه عليها كل يوم
ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة فإنه إن سلم منها سلم من غيرها وهي البخل والكبر والعجب والرياء والحسد وشدة الغضب وشره الطعام وشره الوقاع وحب المال وحب الجاه
ومن المنجيات عشرة الندم على الذنوب والصبر على البلاء والرضا بالقضاء والشكر على النعماء واعتدال الخوف والرجاء والزهد في الدنيا والإخلاص في الأعمال وحسن الخلق مع الخلق وحب الله تعالى والخشوع له
فهذه عشرون خصلة عشرة مذمومة وعشرة محمودة فمهما كفى من المذمومات واحدة فيخط عليها في جريدته ويدع الفكر فيها ويشكر الله تعالى على كفايته إياها وتنزيه قلبه عنها ويعلم أن ذلك لم يتم إلا بتوفيق الله تعالى وعونه ولو وكله إلى نفسه لم يقدر على محو أقل الرذائل عن نفسه فيقبل على التسعة الباقية وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع وكذا يطالب نفسه بالاتصاف بالمنجيات فإذا اتصف بواحدة منها كالتوبة والندم مثلا خطعليها واشتغل بالباقي وهذا يحتاج إليه المريد المشمر
وأما أكثر الناس من المعدودين من الصالحين فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة كأكل الشبهة وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة والمراء والثناء على النفس والإفراط في معاداة الأعداء وموالاة الأولياء والمداهنة مع الخلق في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أكثر من يعد نفسه من وجوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه وما لم يظهر الجوارح عن الآثام لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتطهيره
بل كل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من المعصية فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكرهم فيها لا في معاص هم بمعزل عنها
مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر عن إظهار نفسه بالعلم وطلب الشهرة وانتشار الصيت إما بالتدريس أو بالوعظ ومن فعل ذلك تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون فإنه إن كان كلامه مقبولا حسن الوقع في القلوب لم ينفك عن الإعجاب والخيلاء والتزين والتصنع وذلك من المهلكات وإن رد كلامه لم يخل عن غيظ وأنفة وحقد على من يرده وهو أكثر من غيظه على من يرد كلام غيره وقد يلبس الشيطان عليه ويقول إن غيظك من حيث إنه رد الحق وأنكره فإن وجد تفرقة بين أن يرد عليه كلامه أو يرد على عالم آخر فهو مغرور وضحكة للشيطان ثم مهما كان له ارتياح بالقبول وفرح بالثناء واستنكاف من الرد أو الإعراض لم يخل عن تكلف وتصنع لتحسين اللفظ والإيراد حرصا على استجلاب الثناء والله لا يحب المتكلفين والشيطان قد يلبس عليه ويقول إنما حرصك على تحسين الألفاظ والتكلف فيها لينتشر الحق ويحسن موقعه في القلب إعلاء لدين الله
فإن كان فرحه بحسن ألفاظه وثناء الناس عليه أكثر من فرحه بثناء الناس على واحد من أقرانه فهو مخدوع وإنما يدور حول طلب الجاه وهو يظن أن مطلبه الدين ومهما اختلج ضميره بهذه الصفات ظهر على ظاهره ذلك حتى يكون للموقر له المعتقد لفضله أكثر احتراما ويكون بلقائه أشد فرحا واستبشارا ممن يغلو في موالاة غيره وإن كان ذلك الغير مستحقا للموالاة وربما ينتهي الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء فيشق على أحدهم أن يختلف بعض تلامذته إلى غيره وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه
وكل ذلك رشح الصفات المهلكات المستكنة في سر القلب التى قد يظن العالم النجاة منها وهو مغرور فيها وإنما ينكشف ذلك بهذه العلامات ففتنة العالم عظيمة وهو إما مالك وإماهالك ولا مطمع له في سلامة العوام
فمن أحس في نفسه بهذه الصفات فالواجب عليه العزلة والانفراد وطلب الخمول والمدافعة للفتاوي مهما سئل(4/432)
فقد كان المسجد يحوى في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كلهم مفتون وكانوا يتدافعون الفتوى
وكل من كان يفتى كان يود أن يكفيه غيره
وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس إذا قالوا لا تفعل هذا فإن هذا الباب لو فتح لاندرست العلوم من بين الخلق وليقل لهم إن دين الإسلام مستغن عني فإنه قد كان معمورا قبلي وكذلك يكون بعدي ولو مت لا تنهدم أركان الإسلام فإن الدين مستغن عني وأما أنا فلست مستغنيا عن إصلاح قلبي
وأما أداء ذلك إلى اندارس العلم فخيال يدل على غاية الجهل فإن الناس لو حبسوا في السجن وقيدوا بالقيود وتوعدوا بالنار على طلب العلم لكان حب الرياسة والعلو يحملهم على كسر القيود وهدم حيطان الحصون والخروج منها والاشتغال بطلب العلم
فالعلم لا يندرس ما دام الشيطان يحبب إلى الخلق الرياسة والشيطان لا يفتر عن عمله إلى يوم القيامة
بل ينتهض لنشر العلم أقوام لا نصيب لهم في الآخرة كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1) وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر (2) فلا ينبغي أن يغتر العالم بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتى يتربي في قلبه حب الجاه والثناء والتعظيم فإن ذلك بذر النفاق
قال صلى الله عليه وسلم حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (3) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساد فيها من حب الجاه والمال في دين المرء المسلم (4) ولا ينقلع حب الجاه من القلب إلا بالاعتزال عن الناس والهرب من مخالطتهم وترك كل ما يزيد جاهه في قلوبهم
فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه وفي استنباط طريق الخلاص منها وهذه وظيفة العالم المتقي
فأما أمثالنا فينبغي أن يكون تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار فإن من خاف شيئاً هرب منه ومن رجا شيئاً طلبه وقد علمنا أن الهرب من النار بترك الشبهات والحرام وبترك المعاصي ونحن منهمكون فيها وأن طلب الجنة بتكثير نوافل الطاعات ونحن مقصرون في الفرائض منها
فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا أنه يقتدى بنا في الحرص على الدنيا والتكالب عليها ويقال لو كان هذا مذموما لكان العلماء أحق وأولى باجتنابه منا
فليتنا كنا كالعوام إذا متنا ماتت معنا ذنوبنا
فما أعظم الفتنة التى تعرضنا لها لو تفكرنا فنسأل الله تعالى أن يصلحنا ويصلح بنا ويوفقنا للتوبة قبل أن يتوفانا إنه الكريم اللطيف بنا المنعم علينا
فهذه مجاري أفكار العلماء والصالحين في علم المعاملة فإن فرغوا منها انقطع التفاتهم عن أنفسهم وارتقوا منها إلى التفكر في جلال الله وعظمته والتنعم بمشاهدته بعين القلب ولا يتم ذلك إلا بعد الانفكاك من جميع المهلكات والاتصاف بجميع المنجيات وإن ظهر شيء منه قبل ذلك كان مدخولا معلولا مكدرا مقطوعا وكان ضعيفا كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم ويكون كالعاشق الذي خلا بمعشوقه ولكن تحت ثيابه حيات وعقارب تلدغه مرة بعد أخرى فتنغص عليه لذة المشاهدة ولا طريق له في كمال التنعم إلا بإخراج العقارب والحيات من ثيابه
وهذه الصفات المذمومة عقارب وحيات وهي مؤذيات ومشوشات وفي القبر يزيد ألم لدغها على
_________
(1) حديث إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم تقدم
(2) حديث إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر تقدم أيضا في العلم
(3) حديث حب المال والجاه ينبت النفاق في القلب الحديث تقدم
(4) حديث ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم الحديث تقدم(4/433)
لدغ العقارب والحيات
فهذا القدر كاف في التنبيه على مجارى فكر العبد في صفات نفسه المحبوبة والمكروهة عنه ربه تعالى
القسم الثاني الفكر في جلال الله وعظمته وكبريائه
وفيه مقامان المقام الأعلى الفكر في ذاته وصفاته ومعاني أسمائه وهذا مما منع منه حيث قيل تفكروا في خلق الله تعالى ولا تفكروا في ذات الله وذلك لأن العقول تتحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر
بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى كحال بصر الخفاش بالإضافة إلى نور الشمس فإنه لا يطيقه البتة بل يختفي نهارا وانما يتردد ليلا ينظر في بقية نور الشمس إذا وقع على الأرض
وأحوال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس فإنه يقدر على النظر إليها ولا يطيق دوامه ويخشى على بصره لو أدام النظر ونظره المختطف إليها يورث العمش ويفرق البصر
وكذلك النظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب إذن أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذات الله سبحانه وصفاته فإن أكثر العقول لا تحتمله بل القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء وهو أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته
بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا إذ قيل لهم إنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورجل ويد وعين وعضو وأن يكون جسما مشخصا له مقدار وحجم
فأنكروا هذا وظنوا أن ذلك قدح في عظمة الله وجلاله حتى قال بعض الحمقى من العوام إن هذا وصف بطيخ هندي لا وصف الإله لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء
وهذا لأن الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه فكل ما لا يساويه في صفاته فلا يفهم العظمة فيه نعم غايته أن يقدر نفسه جميل الصورة جالسا على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره فلا جرم غايته أن يقدر ذلك في حق الله تعالى وتقدس حتى يفهم العظمة
بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا له طيران لأنكر ذلك وقال كيف يكون خالقي أنقص مني أفيكون مقصوص الجناح أو يكون زمنا لا يقدر على الطيران أو يكون لي آلة وقدرة لا يكون له مثلها وهو خالقي ومصوري وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل وإن الإنسان لجهول ظلوم كفار ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه لا تخبر عبادي بصفاتى فينكروني ولكن أخبرهم عني بما يفهمون
ولما كان النظر في ذات الله تعالى وصفاته خطرا من هذا الوجه اقتضى أدب الشرع وصلاح الخلق أن لا يتعرض لمجاري الفكر فيه لكنا نعدل إلى المقام الثاني وهو النظر في أفعاله ومجاري قدره وعجائب صنعه وبدائع أمره في خلقه فإنها تدل على جلاله وكبريائه وتقدسه وتعاليه وتدل على كمال علمه وحكمته وعلى نفاذ مشيئته وقدرته
فينظر إلى صفاته من آثار صفاته فإنا لا نطيق النظر إلى صفاته كما أنا نطيق النظر إلى الأرض مهما استنارت بنور الشمس
ونستدل بذلك على عظم نور الشمس بالإضافة إلى نور القمر وسائر الكواكب لأن الأرض من آثار نور الشمس والنظر في الآثار يدل على المؤثر دلالة ما وإن كان لا يقوم مقام النظر في نفس المؤثر
وجميع موجودات الدنيا أثر من آثار قدرة الله تعالى ونور من أنوار ذاته بل لا ظلمة أشد من العدم ولا نور أظهر من الوجود
ووجود الأشياء كلها نور من أنوار ذاته تعالى وتقدس إذ قوام وجود الأشياء بذاته القيوم بنفسه كما أن قوام(4/434)
نور الأجسام بنور الشمس المضيئة بنفسها ومهما انكشف بعض الشمس فقد جرت العادة بأن يوضع طشت ماء حتى ترى الشمس فيه ويمكن النظر إليها فيكون الماء واسطة يغض قليلا من نور الشمس حتى يطاق النظر إليها فكذلك الأفعال واسطة نشاهد فيها صفات الفاعل ولا نبهر بأنوار الذات بعد أن تباعدنا عنها بواسطة الأفعال
فهذا سر قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ الله ولا تتفكروا في ذات الله تعالى
بَيَانُ كَيْفِيَّةِ التَّفَكُّرِ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ مِمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ وكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف فَفِيهَا عَجَائِبُ وَغَرَائِبُ تَظْهَرُ بِهَا حِكْمَةُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَجَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ وَإِحْصَاءُ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لأنه لو كان البحر مداداً لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره
ولكنا نشير إلى جمل منه ليكون ذلك كالمثال لماعداه
فنقول الموجودات المخلوقة منقسمة الى مالا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها وكم من الموجودات التى لا نعلمها كما قال الله تعالى ويخلق ما لا تعلمون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون {وقال} وننشئكم فيما لا تعلمون {وإلى} ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها فيمكننا أن نتفكر في تفصيلها
وهي منقسمة إلى ما أدركناه بحس البصر وإلى ما لا ندركه بالبصر أما الذي لا ندركه بالبصر فكالملائكة والجن والشياطين والعرش والكرسي وغير ذلك
ومجال الفكر في هذه الأشياء مما يضيق ويغمض
فلنعدل إلى الأقرب إلى الأفهام وهي المدركات بحس البصر وذلك هو السموات السبع والأرض وما بينهما فالسموات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها وحركتها ودورانها في طلوعها وغروبها والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها وما بين السماء والأرض وهو الجو مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها وشهبها وعواصف رياحها
فهذه هي الأجناس المشاهدة من السموات والأرض وما بينهما وكل جنس منها ينقسم إلى أنواع وكل نوع ينقسم إلى أقسام ويتشعب كل قسم إلى أصناف
ولا نهاية لانشعاب ذلك وانقسامه في اختلاف صفاته وهيآته ومعانيه الظاهرة والباطنة وجميع ذلك مجال الفكر
فلا تتحرك ذرة في السموات والأرض من جماد ولا نبات ولا حيوان ولا فلك ولا كوكب إلا والله تعالى هو محركها وفي حركتها حكمة أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة كل ذلك شاهد لله تعالى بالوحدانية ودال على جلاله وكبريائه وهي الآيات الدالة عليه
وقد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الايات كما قال الله تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وكما قال تعالى ومن آياته من أول القرآن إلى آخره فلنذكر كيفية الفكر في بعض الآيات
فمن آياته الْإِنْسَانُ الْمَخْلُوقُ مِنَ النُّطْفَةِ وَأَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْكَ نَفْسُكَ وَفِيكَ مِنَ الْعَجَائِبِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا تَنْقَضِي الْأَعْمَارُ فِي الْوُقُوفِ على عشر عشيره وأنت غافل عنه
فيامن هُوَ غَافِلٌ عَنْ نَفْسِهِ وَجَاهِلٌ بِهَا كَيْفَ تَطْمَعُ فِي مَعْرِفَةِ غَيْرِكَ وَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّدَبُّرِ فِي نَفْسِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فقال وفي أنفسكم أفلا تبصرون وذكر أنك مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ فَقَالَ قُتِلَ الْإِنْسَانُ ما أكفره من أي شئ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أنشره وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون وقال تعالى(4/435)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كان علقة فخلق فسوى وَقَالَ تَعَالَى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ {وقال} أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذا هو خصيم مبين {وقال} إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ثم ذكر كَيْفَ جَعَلَ النُّطْفَةَ عَلَقَةً وَالْعَلَقَةَ مُضْغَةً وَالْمُضْغَةَ عِظَامًا فَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة الْآيَةَ
فَتَكْرِيرُ ذِكْرِ النُّطْفَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لَيْسَ لِيُسْمَعَ لَفْظُهُ وَيُتْرَكَ التَّفَكُّرُ فِي مَعْنَاهُ فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى النُّطْفَةِ وَهِيَ قَطْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ قَذِرَةٌ لَوْ تُرِكَتْ سَاعَةً لِيَضْرِبَهَا الْهَوَاءُ فَسَدَتْ وَأَنْتَنَتْ كَيْفَ أَخْرَجَهَا رَبُّ الْأَرْبَابِ مِنَ الصلب والترائب وَكَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَلْقَى الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَيْفَ قَادَهُمْ بِسِلْسِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ وَكَيْفَ اسْتَخْرَجَ النُّطْفَةَ مِنَ الرَّجُلِ بِحَرَكَةِ الْوِقَاعِ وَكَيْفَ اسْتَجْلَبَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ أَعْمَاقِ الْعُرُوقِ وَجَمَعَهُ فِي الرَّحِمِ
ثُمَّ كَيْفَ خَلَقَ الْمَوْلُودَ مِنَ النُّطْفَةِ وَسَقَاهُ بِمَاءِ الحيض وغذاه حتى نما وربا وَكَبُرَ وَكَيْفَ جَعَلَ النُّطْفَةَ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُشْرِقَةٌ عَلَقَةً حَمْرَاءَ ثُمَّ كَيْفَ جَعَلَهَا مُضْغَةً ثُمَّ كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إِلَى الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ وَالْأَوْتَارِ وَاللَّحْمِ ثُمَّ كَيْفَ رَكَّبَ مِنَ اللُّحُومِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ الْأَعْضَاءَ الظَّاهِرَةَ فَدَوَّرَ الرَّأْسَ وَشَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْأَنْفَ وَالْفَمَ وَسَائِرَ الْمَنَافِذِ ثُمَّ مَدَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ وقسم رءوسها بِالْأَصَابِعِ وَقَسَّمَ الْأَصَابِعَ بِالْأَنَامِلِ ثُمَّ كَيْفَ رَكَّبَ الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ مِنَ الْقَلْبِ وَالْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالرِّئَةِ وَالرَّحِمِ وَالْمَثَانَةِ وَالْأَمْعَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار فلو ذهبنا إلى أن نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات لانقضي فيه الْأَعْمَارُ
فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى الْعِظَامِ وَهِيَ أَجْسَامٌ صُلْبَةٌ قَوِيَّةٌ كَيْفَ خَلَقَهَا مِنْ نُطْفَةٍ سَخِيفَةٍ رَقِيقَةٍ ثُمَّ جَعَلَهَا قِوَامًا لِلْبَدَنِ وَعِمَادًا لَهُ ثُمَّ قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمِنْهُ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ وَطَوِيلٌ وَمُسْتَدِيرٌ وَمُجَوَّفٌ وَمُصْمَتٌ وَعَرِيضٌ وَدَقِيقٌ
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْتَاجًا إِلَى الْحَرَكَةِ بِجُمْلَةِ بَدَنِهِ وَبِبَعْضِ أَعْضَائِهِ مُفْتَقِرًا لِلتَّرَدُّدِ فِي حاجاته لَمْ يَجْعَلْ عَظْمَهُ عَظْمًا وَاحِدًا بَلْ عِظَامًا كَثِيرَةً بَيْنَهَا مَفَاصِلُ حَتَّى تَتَيَسَّرَ بِهَا الْحَرَكَةُ وَقَدَّرَ شَكْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى وَفْقِ الْحَرَكَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِهَا ثُمَّ وَصَلَ مَفَاصِلَهَا وَرَبَطَ بعضها ببعض بِأَوْتَارٍ أَنْبَتَهَا مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَظْمِ وَأَلْصَقَهُ بالعطم الْآخَرِ كَالرِّبَاطِ لَهُ ثُمَّ خَلَقَ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَظْمِ زَوَائِدَ خَارِجَةً مِنْهُ وَفِي الْآخَرِ حُفَرًا غَائِصَةً فِيهِ مُوَافِقَةً لِشَكْلِ الزَّوَائِدِ لِتَدْخُلَ فيها وتنطبق عليها فصار العبد إِنْ أَرَادَ تَحْرِيكَ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ وَلَوْلَا الْمَفَاصِلُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ
ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ عِظَامَ الرَّأْسِ وَكَيْفَ جمعها وركبها وقد ركبها من خمسة وخمسين عظما مختلفة الأشكال والصور فَأَلَّفَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِحَيْثُ اسْتَوَى بِهِ كرة الرأس كما تراه فمنها ستة تخص القحف وأربعة عشر للحي الأعلى واثنان للحي الْأَسْفَلَ وَالْبَقِيَّةُ هِيَ الْأَسْنَانُ بَعْضُهَا عَرِيضَةٌ تَصْلُحُ لِلطَّحْنِ وَبَعْضُهَا حَادَّةٌ تَصْلُحُ لِلْقَطْعِ وَهِيَ الْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ وَالثَّنَايَا ثُمَّ جَعَلَ الرَّقَبَةَ مَرْكَبًا لِلرَّأْسِ وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات فيها تحريفات(4/436)
وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض ويطول ذكر وجه الحكمة فيها
ثُمَّ رَكَّبَ الرَّقَبَةَ عَلَى الظَّهْرِ وَرَكَّبَ الظَّهْرَ مِنْ أَسْفَلِ الرَّقَبَةِ إِلَى مُنْتَهَى عَظْمِ الْعَجُزِ من أربع وعشرين خرزة وركب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة فيتصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضا مؤلف من ثلاثة أجزاء
ثُمَّ وَصَلَ عِظَامَ الظَّهْرِ بِعِظَامِ الصَّدْرِ وَعِظَامِ الْكَتِفِ وَعِظَامِ الْيَدَيْنِ وَعِظَامِ الْعَانَةِ وَعِظَامِ الْعَجُزِ وعظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين فلا نطول بذكر عدد ذلك ومجموع عدد العظام فى بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون عظما سوى العظام الصغيرة التى حشى بها خلل المفاصل فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ نُطْفَةٍ سخيفة رقيقة
وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم قريب يعرفه الأطباء والمشرحون إنما الغرض أن ينظر منها فى مدبرها وخالقها أنه كيف قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها وخصصها بهذا العدد الْمَخْصُوصِ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَيْهَا وَاحِدًا لَكَانَ وَبَالًا عَلَى الْإِنْسَانِ يَحْتَاجُ إِلَى قَلْعِهِ وَلَوْ نَقَصَ مِنْهَا وَاحِدًا لَكَانَ نُقْصَانًا يَحْتَاجُ إِلَى جبره فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج فى جبرها وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا بها على جلالة خالقها ومصورها فشتان بين النظرين
ثم انظر كيف خلق الله تعالى آلات لتحريك العظام وهو العضلات فخلق فى بدن الإنسان خمسمائة عضلة وتسعا وعشرين عضلة والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية وهى مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وقدر حاجاتها فأربع وعشرون عضلة منها هى لتحريك حدقة العين وأجفانها لو نقصت واحدة من جملتها اختل أمر العين وهكذا لكل عضو عضلات بعدد مخصوص وقدر مخصوص وأمر الاعصاب والعروق والأوردة والشرايين وعددها ومنابتها وانشعاباتها أعجب من هذا كله وشرحه يطول فللفكر مجال فى آحاد هذه الأجزاء ثم فى جملة البدن فكل ذلك نظر إلى عجائب أجسام البدن وعجائب المعانى والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه وإلى بدنه وصفاته فترى به من العجائب والصنعة ما يقضى به العجب وَكُلُّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ قَذِرَةٍ فَتَرَى مِنْ هَذَا صُنْعَهُ فِي قَطْرَةِ ماء فما صنعه فى ملكوت السموات وكواكبها وما حكمته فى أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها وَاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَتَفَاوَتِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا فَلَا تَظُنَنَّ أن ذرة من ملكوت السموات تَنْفَكُّ عَنْ حِكْمَةٍ وَحِكَمٍ بَلْ هِيَ أَحْكَمُ حلقا وَأَتْقَنُ صُنْعًا وَأَجْمَعُ لِلْعَجَائِبِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ بَلْ لَا نِسْبَةَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ إلى عجائب السموات وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأخرج ضحاها
فَارْجِعِ الْآنَ إِلَى النُّطْفَةِ وَتَأَمَّلْ حَالَهَا أَوَّلًا وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَتَأَمَّلْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا لِلنُّطْفَةِ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا أَوْ عَقْلًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ رُوحًا أَوْ يَخْلُقُوا فِيهَا عَظْمًا أَوْ عِرْقًا أَوْ عَصَبًا أَوْ جِلْدًا أَوْ شَعْرًا هَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا كُنْهَ حَقِيقَتِهِ وَكَيْفِيَّةَ خِلْقَتِهِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَعَجَزُوا عَنْهُ فَالْعَجَبُ مِنْكَ لَوْ نَظَرْتَ إِلَى صورة إنسان مصور على حائط تأنق النقاش فى تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها كأنه إنسان عظم تعجبك من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم فى قلبك محله مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وبالقدرة وبالعلم وبالإرادة وشىء من ذلك ليس من(4/437)
فعل النقاش ولا خلقه بل هو من خلق غيره وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب مخصوص فيكثر تعجبك منه وتستعظمه
وَأَنْتَ تَرَى النُّطْفَةَ الْقَذِرَةَ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَخَلَقَهَا خَالِقُهَا فِي الْأَصْلَابِ وَالتَّرَائِبِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْهَا وَشَكَّلَهَا فَأَحْسَنَ تَشْكِيلَهَا وَقَدَّرَهَا فَأَحْسَنَ تَقْدِيرَهَا وَتَصْوِيرَهَا وَقَسَّمَ أَجْزَاءَهَا الْمُتَشَابِهَةَ إِلَى أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأَحْكَمَ الْعِظَامَ فِي أَرْجَائِهَا وَحَسَّنَ أَشْكَالَ أَعْضَائِهَا وَزَيَّنَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا وَرَتَّبَ عُرُوقَهَا وَأَعْصَابَهَا وَجَعَلَهَا مَجْرًى لِغِذَائِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ بَقَائِهَا وَجَعَلَهَا سَمِيعَةً بصيرة عالمة ناطفة وَخَلَقَ لَهَا الظَّهْرَ أَسَاسًا لِبَدَنِهَا وَالْبَطْنَ حَاوِيًا لِآلَاتِ غِذَائِهَا وَالرَّأْسَ جَامِعًا لِحَوَاسِّهَا فَفَتَّحَ الْعَيْنَيْنِ ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها ثُمَّ حَمَاهَا بِالْأَجْفَانِ لِتَسْتُرَهَا وَتَحْفَظَهَا وَتَصْقُلَهَا وَتَدْفَعَ الْأَقْذَاءَ عَنْهَا ثُمَّ أَظْهَرَ فِي مِقْدَارِ عَدَسَةٍ منها صورة السموات مَعَ اتِّسَاعِ أَكْنَافِهَا وَتَبَاعُدِ أَقْطَارِهَا فَهُوَ يَنْظُرُ إليها ثم شق أذنيه وَأَوْدَعَهُمَا مَاءً مُرًّا لِيَحْفَظَ سَمْعَهَا وَيَدْفَعَ الْهَوَامَّ عنها وحوطها بصدقة الْأُذُنِ لِتَجْمَعَ الصَّوْتَ فَتَرُدَّهُ إِلَى صِمَاخِهَا وَلِتُحِسَّ بِدَبِيبِ الْهَوَامِّ إِلَيْهَا وَجَعَلَ فِيهَا تَحْرِيفَاتٍ وَاعْوِجَاجَاتٍ لِتَكْثُرَ حَرَكَةُ مَا يَدُبُّ فِيهَا وَيَطُولَ طَرِيقُهُ فَيَتَنَبَّهَ مِنَ النَّوْمِ صَاحِبُهَا إِذَا قَصَدَهَا دَابَّةٌ فِي حَالِ النَّوْمِ ثُمَّ رَفَعَ الْأَنْفَ مِنْ وَسَطِ الْوَجْهِ وَأَحْسَنَ شَكْلَهُ وَفَتَحَ مَنْخَرَيْهِ وَأَوْدَعَ فيه حاسه الشم ليستدل باستنشاق الروايح على مطاعمه وأغذيته وليستنشقة بِمَنْفَذِ الْمَنْخَرَيْنِ رَوْحَ الْهَوَاءِ غِذَاءً لِقَلْبِهِ وَتَرْوِيحًا لِحَرَارَةِ بَاطِنِهِ وَفَتَحَ الْفَمَ وَأَوْدَعَهُ اللِّسَانَ نَاطِقًا وترجما وَمُعْرِبًا عَمَّا فِي الْقَلْبِ وَزَيَّنَ الْفَمَ بِالْأَسْنَانِ لتكون آلَةَ الطَّحْنِ وَالْكَسْرِ وَالْقَطْعِ فَأَحْكَمَ أُصُولَهَا وَحَدَّدَ رءوسها وبيض لونها ورتب صفوفها متساوية الرءوس مُتَنَاسِقَةَ التَّرْتِيبِ كَأَنَّهَا الدَّرُّ الْمَنْظُومُ وَخَلَقَ الشَّفَتَيْنِ وَحَسَّنَ لَوْنَهَا وَشَكْلَهَا لِتَنْطَبِقَ عَلَى الْفَمِ فَتَسُدَّ منفذه وليتم بها حروف الكلام وخلق الْحَنْجَرَةَ وَهَيَّأَهَا لِخُرُوجِ الصَّوْتِ وَخَلَقَ لِلِّسَانِ قُدْرَةً للحركات والتقطيعات لتتقطع الصَّوْتَ فِي مَخَارِجَ مُخْتَلِفَةٍ تَخْتَلِفُ بِهَا الْحُرُوفُ لِيَتَّسِعَ بِهَا طَرِيقُ النُّطْقِ بِكَثْرَتِهَا ثُمَّ خَلَقَ الْحَنَاجِرَ مُخْتَلِفَةَ الْأَشْكَالِ فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ وَالْخُشُونَةِ وَالْمَلَاسَةِ وَصَلَابَةِ الْجَوْهَرِ وَرَخَاوَتِهِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ حَتَّى اخْتَلَفَتْ بِسَبَبِهَا الْأَصْوَاتُ فَلَا يَتَشَابَهُ صَوْتَانِ بَلْ يظهر بين كل صوتين فرقا حَتَّى يُمَيِّزَ السَّامِعُ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ فِي الظُّلْمَةِ ثُمَّ زَيَّنَ الرَّأْسَ بِالشَّعَرِ وَالْأَصْدَاغِ وَزَيَّنَ الْوَجْهَ بِاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَزَيَّنَ الْحَاجِبَ بِرِقَّةِ الشَّعَرِ وَاسْتِقْوَاسِ الشَّكْلِ وَزَيَّنَ الْعَيْنَيْنِ بِالْأَهْدَابِ
ثُمَّ خَلَقَ الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ وَسَخَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ لِفِعْلٍ مَخْصُوصٍ فَسَخَّرَ الْمَعِدَةَ لِنُضْجِ الْغِذَاءِ والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم والطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد فالطحال يخدمها بجذب السوداء عنها والمرارة تخدمها بجذب الصفراء عنها والكلية تخدمها بجذب المائية عنها والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثم تُخْرِجَهُ فِي طَرِيقِ الْإِحْلِيلِ وَالْعُرُوقَ تَخْدِمُ الْكَبِدَ فِي إِيصَالِ الدَّمِ إِلَى سَائِرِ أَطْرَافِ الْبَدَنِ ثُمَّ خَلَقَ الْيَدَيْنِ وَطَوَّلَهُمَا لِتَمْتَدَّ إِلَى الْمَقَاصِدِ وَعَرَّضَ الْكَفَّ وَقَسَّمَ الْأَصَابِعَ الْخَمْسَ وَقَسَّمَ كُلَّ أصبع بثلاث أنامل ووضع الأربعة فِي جَانِبٍ وَالْإِبْهَامَ فِي جَانِبٍ لِتَدُورَ الْإِبْهَامُ على الجميع ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر فى وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع وتفاوت الأربع فى الطول وترتيبها فى صف واحد لم يقدروا عليه إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض والإعطاء فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد وإن جمعها كانت له آلة للضرب وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له وإن بسطها وضم أصابعها كانت مجرفة له ثم خلق الأظفار على رءوسها زِينَةً لِلْأَنَامِلِ وَعِمَادًا لَهَا مِنْ وَرَائِهَا حَتَّى لا تنقطع وَلِيَلْتَقِطَ بِهَا الْأَشْيَاءَ الدَّقِيقَةَ الَّتِي(4/438)
لَا تَتَنَاوَلُهَا الْأَنَامِلُ وَلِيَحُكَّ بِهَا بَدَنَهُ عِنْدَ الحاجة فالظفر الذى هو أخس الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهر به حكة لكان أعجز الخلق وأضعفهم ولم يقم أحد مقامه فى حك بدنه ثم هدى اليد إِلَى مَوْضِعِ الْحَكِّ حَتَّى تَمْتَدَّ إِلَيْهِ وَلَوْ فِي النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى طَلَبٍ وَلَوِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى مَوْضِعِ الْحَكِّ إِلَّا بَعْدَ تَعَبٍ طَوِيلٍ ثُمَّ خَلَقَ هَذَا كُلَّهُ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ فِي داخل الرحم فى ظلمات ثلاث ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد إليه البصر لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا فشيئا ولا يرى المصور ولا آلته فهل رأيت مصورا أو فاعلا لا يمس آلته ومصنوعه ولا يلاقيه وهو يتصوف فيه فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَأَظْهَرَ بُرْهَانَهُ
ثُمَّ انْظُرْ مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ إِلَى تَمَامِ رَحْمَتِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا ضَاقَ الرَّحِمُ عَنِ الصَّبِيِّ لَمَّا كَبِرَ كَيْفَ هَدَاهُ السَّبِيلَ حَتَّى تَنَكَّسَ وَتَحَرَّكَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَضِيقِ وَطَلَبَ الْمَنْفَذَ كَأَنَّهُ عَاقِلٌ بَصِيرٌ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ
ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ وَاحْتَاجَ إِلَى الْغِذَاءِ كَيْفَ هَدَاهُ إِلَى الْتِقَامِ الثَّدْيِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَدَنُهُ سَخِيفًا لَا يَحْتَمِلُ الْأَغْذِيَةَ الْكَثِيفَةَ كَيْفَ دَبَّرَ لَهُ فِي خَلْقِ اللَّبَنِ اللَّطِيفِ وَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ الفرث والدم سائغا خالصا وَكَيْفَ خَلَقَ الثَّدْيَيْنِ وَجَمَعَ فِيهِمَا اللَّبَنَ وَأَنْبَتَ منهما حَلَمَتَيْنِ عَلَى قَدْرِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا فَمُ الصَّبِيِّ ثُمَّ فَتَحَ فِي حَلَمَةِ الثَّدْيِ ثُقْبًا ضَيِّقًا جِدًّا حَتَّى لَا يَخْرُجَ اللَّبَنُ مِنْهُ إلا بعد المص تدريجا فإن الطفل لايطيق مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلَ ثُمَّ كَيْفَ هَدَاهُ لِلِامْتِصَاصِ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَضِيقِ اللَّبَنَ الْكَثِيرَ عِنْدَ شِدَّةِ الْجُوعِ
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عَطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ كَيْفَ أَخَّرَ خَلْقَ الْأَسْنَانِ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ فِي الْحَوْلَيْنِ لَا يَتَغَذَّى إِلَّا بِاللَّبَنِ فَيَسْتَغْنِي عَنِ السِّنِّ وَإِذَا كَبِرَ لَمْ يُوَافِقْهُ اللَّبَنُ السَّخِيفُ وَيَحْتَاجُ إِلَى طَعَامٍ غَلِيظٍ وَيَحْتَاجُ الطَّعَامُ إِلَى الْمَضْغِ وَالطَّحْنِ فَأَنْبَتَ لَهُ الْأَسْنَانَ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا فَسُبْحَانَهُ كَيْفَ أَخْرَجَ تِلْكَ الْعِظَامَ الصُّلْبَةَ فى تلك اللثات اللَّيِّنَةِ ثُمَّ حَنَنَّ قُلُوبَ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْهِ لِلْقِيَامِ بِتَدْبِيرِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَدْبِيرِ نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ يُسَلِّطِ اللَّهُ الرَّحْمَةَ عَلَى قُلُوبِهِمَا لَكَانَ الطِّفْلُ أَعْجَزَ الْخَلْقِ عَنْ تَدْبِيرِ نَفْسِهِ
ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ رَزَقَهُ الْقُدْرَةَ وَالتَّمْيِيزَ وَالْعَقْلَ وَالْهِدَايَةَ تَدْرِيجًا حَتَّى بَلَغَ وَتَكَامَلَ فَصَارَ مُرَاهِقًا ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا إِمَّا كَفُورًا أَوْ شَكُورًا مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا فَانْظُرْ إِلَى اللُّطْفِ وَالْكَرَمِ ثُمَّ إِلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ تَبْهَرْكَ عَجَائِبُ الْحَضْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَرَى خَطًّا حَسَنًا أَوْ نَقْشًا حسنا على حائط فيستحسنه فيصرف جميع همه إِلَى التَّفَكُّرِ فِي النَّقَّاشِ وَالْخَطَّاطِ وَأَنَّهُ كَيْفَ نَقَشَهُ وَخَطَّهُ وَكَيْفَ اقْتَدَرَ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَسْتَعْظِمُهُ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ مَا أَحْذَقَهُ وَمَا أَكْمَلَ صَنْعَتَهُ وَأَحْسَنَ قُدْرَتَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى هَذِهِ الْعَجَائِبِ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ ثُمَّ يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عَظَمَتُهُ وَلَا يُحَيِّرُهُ جَلَالُهُ وَحِكْمَتُهُ فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ عَجَائِبِ بَدَنِكَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِقْصَاؤُهَا فَهُوَ أَقْرَبُ مَجَالٍ لِفِكْرِكَ وَأَجْلَى شَاهِدٍ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِكَ وَأَنْتَ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ مَشْغُولٌ ببطنك وفرجك ولا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ إِلَّا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ وتشبع فينام وتشتهى فتجامع وتغضب فتقاتل والبهائم كلها تُشَارِكُكَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي حُجِبَتِ الْبَهَائِمُ عَنْهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى بالنظر في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ إِذْ بِهَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ مُقَرَّبًا مِنْ حَضْرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ لِلْبَهَائِمِ وَلَا لِإِنْسَانٍ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِشَهَوَاتِ الْبَهَائِمِ فَإِنَّهُ شَرٌّ مِنَ الْبَهَائِمِ بِكَثِيرٍ(4/439)
إِذْ لَا قُدْرَةَ لِلْبَهِيمَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا هُوَ فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْقُدْرَةَ ثُمَّ عَطَّلَهَا وَكَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهَا فَأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بل هم أضل سبيلا
وَإِذَا عَرَفْتَ طَرِيقَ الْفِكْرِ فِي نَفْسِكَ فَتَفَكَّرْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّكَ ثُمَّ فِي أنهارها وجبالها ومعادتها ثم ارتفع منها إلى ملكوت السموات أما الأرض فمن آياته أَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَمِهَادًا وَسَلَكَ فِيهَا سُبُلًا فِجَاجًا وَجَعَلَهَا ذَلُولًا لِتَمْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَجَعَلَهَا قَارَّةً لَا تَتَحَرَّكُ وَأَرْسَى فِيهَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا لَهَا تَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ ثُمَّ وَسَّعَ أَكْنَافَهَا حَتَّى عَجَزَ الْآدَمِيُّونَ عَنْ بُلُوغِ جميع جوانبها وإن طالت إعمارهم وكثر تطوافهم فقال تعالى والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون وقال تعالى هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وقال تعالى الذى جعل لكم الأرض فراشا وقد أكثر فى كتابه العزيز ممن ذِكْرِ الْأَرْضِ لِيُتَفَكَّرَ فِي عَجَائِبِهَا فَظَهْرُهَا مَقَرُّ للأحياء وبطنها مرقد للأموات قال تَعَالَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا
فانظر إلى الأرض وهى ميتة فإذا أنزل عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَاخْضَرَّتْ وَأَنْبَتَتْ عَجَائِبَ النبات وَخَرَجَتْ مِنْهَا أَصْنَافُ الْحَيَوَانَاتِ ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ أَحْكَمَ جَوَانِبَ الْأَرْضِ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشَّوَامِخِ الصُّمِّ الصِّلَابِ وَكَيْفَ أَوْدَعَ الْمِيَاهَ تَحْتَهَا فَفَجَّرَ الْعُيُونَ وَأَسَالَ الْأَنْهَارَ تَجْرِي عَلَى وَجْهِهَا وَأَخْرَجَ مِنَ الْحِجَارَةِ الْيَابِسَةِ وَمِنَ التُّرَابِ الْكَدِرِ مَاءً رَقِيقًا عذبا صَافِيًا زُلَالًا وَجَعَلَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَأَخْرَجَ بِهِ فُنُونَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ مِنْ حَبٍّ وَعِنَبٍ وَقَضْبٍ وَزَيْتُونٍ وَنَخْلٍ وَرُمَّانٍ وَفَوَاكِهَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالصِّفَاتِ والأرابيح يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَتُخْرَجُ مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ
فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ اخْتِلَافَهَا بِاخْتِلَافِ بُذُورِهَا وَأُصُولِهَا فَمَتَى كان فى النواة نخلة مطوقة لعناقيد الرطب ومتى كان فى حبة واحدة سمع سنابل فى كل سنبلة مائة ثُمَّ انْظُرْ إِلَى أَرْضِ الْبَوَادِي وَفَتِّشْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا فَتَرَاهَا تُرَابًا مُتَشَابِهًا فَإِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٍ أَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً وَنَبَاتًا مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَعْمٌ وَرِيحٌ وَلَوْنٌ وَشَكْلٌ يُخَالِفُ الْآخَرَ فَانْظُرْ إِلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَكَثْرَةِ أَشْكَالِهَا ثُمَّ اخْتِلَافِ طَبَائِعِ النَّبَاتِ وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَكَيْفَ أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقَاقِيرَ الْمَنَافِعَ الْغَرِيبَةَ فَهَذَا النَّبَاتُ يُغَذِّي وَهَذَا يُقَوِّي وَهَذَا يُحْيِي وَهَذَا يَقْتُلُ وَهَذَا يُبَرِّدُ وَهَذَا يُسَخِّنُ وَهَذَا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق وهذا يستحيل إلى الصفراء وهذا يقمع البلغم والسوداء وهذا يستحيل إليهما وهذا يصفى الدم وهذا يستحل دما وهذا يفرح وهذا ينوم وهذا يقوى وهذا يضعف فلم تنبت من الأرض ورقة ولا تبنة إِلَّا وَفِيهَا مَنَافِعُ لَا يَقْوَى الْبَشَرُ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا النَّبَاتِ يَحْتَاجُ الْفَلَّاحُ فِي تَرْبِيَتِهِ إِلَى عَمَلٍ مخصوص فالنخل تؤثر الكرم يكسح والزرع ينقى عنه الحشيش والدغل وبعض ذلك يستنبت ببث البذر فى الأرض وبعضه بغرس الأغصان وبعضه يركب فى الشجر وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ أَجْنَاسِ النَّبَاتِ وأنواعة ومنافعه وأحواله وعجائبه لا نقضت الْأَيَّامُ فِي وَصْفِ ذَلِكَ فَيَكْفِيكَ مِنْ كُلٍّ جنس نبذة يسيرة تدلك على طريق الفكر فهذه عجائب النبات
ومن أياته الجواهر المودعة تحت الجبال والمعادن الحاصلة من الأرض ففى الأرض قطع متجاورات مختلفة فانظر إلى الجبال كيف يخرج منها الجواهر النفيسة من الذهب والفضة والفيروزج واللعل وغيرها بعضها منطبعة تحت المطارق كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وبعضها لا ينطبع كالفيروزوج واللعل(4/440)
وكيف هدى الله الناس إلى استخراجها وتنقيتها واتخاذ الأوانى والآلات والنقود والحلى منها ثم انظر إلى معادن الأرض من النفط والكبريت والقار وغيرها وأقلها الملح ولا يحتاج إليه إلا لتطييب الطعام ولو خلت عنه بلدة لتسارع الهلاك إليها فانظر إلى رحمة الله تعالى كيف خلق بعض الأراضى سبخة بجوهرها بحيث يجتمع فيها الماء الصافى من المطر فيستحيل ملحا مالحا محرقا لا يمكن تناول مثقال منه ليكون ذلك تطييبا لطعامك إذا أكلته فيتهنأ عيشك وما من جماد ولا حيوان ولا نبات إلا وفيه حكمة وحكم من هذا الجنس ما خلق شىء منها عبثا ولا لعبا ولا هزلا بل خلق الكل بالحق كما ينبغى وعلى الوجه الذى ينبغى وكما يليق بجلاله وكرمه ولطفه ولذلك قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقنهما إلا بالحق
ومن آياته أصناف الحيوانات وانقسمها إِلَى مَا يَطِيرُ وَإِلَى مَا يَمْشِي وَانْقِسَامَ مَا يَمْشِي إِلَى مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وإلى ما يمشى على أَرْبَعٍ وَعَلَى عَشْرٍ وَعَلَى مِائَةٍ كَمَا يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْحَشَرَاتِ ثُمَّ انْقِسَامَهَا فِي الْمَنَافِعِ وَالصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالطِّبَاعِ فَانْظُرْ إِلَى طُيُورِ الجو وإلى وحوش البر والبهائم الأهلية ترى فيها من العجائب ولا تَشُكُّ مَعَهُ فِي عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَةِ مُقَدِّرِهَا وَحِكْمَةِ مُصَوِّرِهَا وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَقْصَى ذَلِكَ بَلْ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ عَجَائِبَ الْبَقَّةِ أو النملة أو النخلة أو العنكبوت وهى من صغار الحيوانات بِنَائِهَا بَيْتَهَا وَفِي جَمْعِهَا غِذَاءَهَا وَفِي إِلْفِهَا لزوجها وفى ادخارها لنفسا وَفِي حِذْقِهَا فِي هَنْدَسَةِ بَيْتِهَا وَفِي هِدَايَتِهَا إلى حاجاتها لم نقدر على ذلك فترى العنكبوت يبنى بيته على طرف نهر فيطلب أولا موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونه حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتدىء ويلقى اللعاب الذى هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانيا وثالثا ويجعل بعد ما بينهما متناسبا تناسبا هندسيا حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللحمة فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على موضع التقاء اللحمة بالسدى ويراعى فى جميع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البق والذباب ويقعد فى زاوية مترصدا لوقوع الصيد فى الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفى الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقى منكسا فى الهواء ينتظر ذبابة تطير فإذا طارت رمى بنفسه إليه فإخذه ولف خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه أو تكون بنفسه أو كونه آدمى أو علمه أو لا هادى له ولا معلم أفيشك ذو بصيرة فى أنه مسكين ضعيف عاجز بل الفيل العظيم شخصه الظاهرة قوته عاجز عن أمر نفسه فكيف هذا الحيوان الضعيف أفلا يشهد هو بِشَكْلِهِ وَصُورَتِهِ وَحَرَكَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعَجَائِبِ صَنْعَتِهِ لِفَاطِرِهِ الْحَكِيمِ وَخَالِقِهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ فَالْبَصِيرُ يَرَى فِي هَذَا الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا تَتَحَيَّرُ فِيهِ الْأَلْبَابُ وَالْعُقُولُ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَهَذَا الْبَابُ أَيْضًا لَا حَصْرَ لَهُ فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ وأشكالها وأخلاقها وَطِبَاعَهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَإِنَّمَا سَقَطَ تَعَجُّبُ الْقُلُوبِ مِنْهَا لِأُنْسِهَا بِكَثْرَةِ الْمُشَاهَدَةِ نَعَمْ إِذَا رَأَى حيوانا غريبا وَلَوْ دُودًا تَجَدَّدَ تَعَجُّبُهُ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَهُ وَالْإِنْسَانُ أَعْجَبُ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَ يَتَعَجَّبُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ لَوْ نَظَرَ إِلَى الْأَنْعَامِ التى ألفها تَعَجُّبُهُ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَهُ وَالْإِنْسَانُ أَعْجَبُ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَ يَتَعَجَّبُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ لَوْ نَظَرَ إِلَى الْأَنْعَامِ الَّتِي أَلِفَهَا وَنَظَرَ إِلَى أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا ثُمَّ إِلَى مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا مِنْ جُلُودِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا الَّتِي جَعَلَهَا الله لباسا لخلقه وأكانا لَهُمْ فِي ظَعْنِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَآنِيَةً لَأَشْرِبَتِهِمْ وَأَوْعِيَةً لأغذيتهم وَصِوَانًا لِأَقْدَامِهِمْ وَجَعَلَ(4/441)
أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا أَغْذِيَةً لَهُمْ ثُمَّ جَعَلَ بَعْضَهَا زِينَةً لِلرَّكُوبِ وَبَعْضَهَا حَامِلَةً لِلْأَثْقَالِ قَاطِعَةً لِلْبَوَادِي وَالْمُفَازَاتِ الْبَعِيدَةِ لَأَكْثَرَ النَّاظِرُ التَّعَجُّبَ مِنْ حِكْمَةِ خَالِقِهَا وَمُصَوِّرِهَا فَإِنَّهُ مَا خَلَقَهَا إِلَّا بِعِلْمٍ مُحِيطٍ بِجَمِيعِ مَنَافِعِهَا سَابِقٍ عَلَى خَلْقِهِ إِيَّاهَا فَسُبْحَانَ مَنِ الْأُمُورُ مَكْشُوفَةٌ فِي عِلْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَمِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ وَمِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِوَزِيرٍ أَوْ مُشِيرٍ فَهُوَ الْعَلِيمُ الخبير الْقَدِيرُ فَلَقَدِ اسْتَخْرَجَ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ مِمَّا خَلَقَهُ صِدْقَ الشَّهَادَةِ مِنْ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِتَوْحِيدِهِ فَمَا لِلْخَلْقِ إِلَّا الْإِذْعَانُ لِقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالِاعْتِرَافُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَعْرِفَتِنَا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أن يكرمنا بهدايته بمنه ورأفته ومن آياته البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض التى هى قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض حتى إن جميع المكشوف من البوادى والجبال والأرض بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة فى بحر عظيم وبقية الأرض مستورة بالماء قال النبي صلى الله عليه وسلم الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض فانسب اصطبلا إلى جميع الأرض واعلم أن الأرض بالإضافة إلى البحر مثله
وقد شاهدت عجائب الأرض وما فيها فتأمل الآن عجائب البحر فإن عجائب ما فيه من الحيوان والجواهر أضعاف عجائب مَا تُشَاهِدُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ سعته أضعاف سعة الارض ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام ما ترى ظهورها فى البحر فتظن أنها جزيرة فينزل أنها جزيرة فينزل الركاب عليها فربما تحس بالنيران إذا اشتغلت فتتحرك ويعلم أنها حيوان وما من صنف من أصناف حيوان البر من فرس أو طير أو بقر أو إنسان إلا وفى البحر أمثاله وأضعافه وفيه أجناس لا يعهد لها نظير فى البر وقد ذكرت أوصافها فى مجلدات وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر وجمع عجائبه
ثم انْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ اللُّؤْلُؤَ وَدَوَّرَهُ فِي صَدَفِهِ تَحْتَ الْمَاءِ وَانْظُرْ كَيْفَ أَنْبَتَ الْمَرْجَانَ من صم الصخور تحت الماء وإنما هو نبات على هيئة شجر ينبت من الحجر ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا عَدَاهُ مِنَ الْعَنْبَرِ وَأَصْنَافِ النَّفَائِسِ الَّتِي يَقْذِفُهَا الْبَحْرُ وَتُسْتَخْرَجُ مِنْهُ ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عَجَائِبِ السُّفُنِ كَيْفَ أَمْسَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَسَيَّرَ فِيهَا التُّجَّارَ وَطُلَّابَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرَهُمْ وَسَخَّرَ لَهُمُ الْفُلْكَ لِتَحْمِلَ أثقالهم ثم أرسل الرياح لتسوق السفن ثم عرف الملاحين موارد الرياح ومهابها ومواقيتها ولا يستقصى على الجملة عجائب صنع الله فى البحر فى مجلدات وأعجب من ذلك كله مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ قَطْرَةِ الْمَاءِ وَهُوَ جِسْمٌ رَقِيقٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ مُشِفٌّ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لطيف التركيب سريع القبول للتقطيع كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للانفصال والاتصال بِهِ حَيَاةُ كُلِّ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ فَلَوِ احْتَاجَ الْعَبْدُ إِلَى شَرْبَةِ مَاءٍ وَمُنِعَ مِنْهَا لَبَذَلَ جَمِيعَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمُلْكَ الدُّنْيَا فِي تَحْصِيلِهَا لَوْ مَلَكَ ذَلِكَ ثُمَّ لَوْ شَرِبَهَا وَمُنِعَ مِنْ إِخْرَاجِهَا لَبَذَلَ جَمِيعَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمُلْكَ الدُّنْيَا فِي إِخْرَاجِهَا فَالْعَجَبُ مِنَ الْآدَمِيِّ كَيْفَ يَسْتَعْظِمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ وَنَفَائِسَ الْجَوَاهِرِ وَيَغْفُلُ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ إِذَا احْتَاجَ إِلَى شُرْبِهَا أَوِ الِاسْتِفْرَاغِ عَنْهَا بَذَلَ جَمِيعَ الدُّنْيَا فِيهَا فَتَأَمَّلْ فِي عَجَائِبِ الْمِيَاهِ وَالْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَالْبِحَارِ فَفِيهَا مُتَّسَعٌ لِلْفِكْرِ وَمَجَالٌ
وَكُلُّ ذَلِكَ شَوَاهِدُ مُتَظَاهِرَةٌ وَآيَاتٌ مُتَنَاصِرَةٌ نَاطِقَةٌ بِلِسَانِ حَالِهَا مُفْصِحَةٌ عَنْ جَلَالِ بَارِئِهَا مُعْرِبَةٌ عَنْ كَمَالِ حِكْمَتِهِ فيها منادية أرباب القلوب بنغماتها قائلة لكل ذى لب أما ترانى وترى صورتى وتركيبى(4/442)
وصفات ومنافعى واختلاف حالاتى وكثرة فوائدى أتظن أنى كونت نفسى أو خلقنى أحد من جنسى أو ما تستحيى أن تنظر فى كلمة مرقومة من ثلاثة أحرف فتقطع بأنها من صنعة آدمى عالم قادر مريد متكلم ثم تنظر إلى عجائب الخطوط الإلهية المرقومة على صفحات وجهى بالقلم الإلهى الذى لا تدرك الأبصار ذاته ولا حركته ولا اتصاله بمحل الخط ثم ينفك قلبك عن جلالة صانعه
وتقول النطفة لأرباب السمع والقلب لا للذين هم عن السمع معزولون توهمنى فى ظلمة الأحشاء مغموسة فى دم الحيض فى الوقت الذى يظهر التخطيط والتصوير على وجهى فينفش النقاش حدقتى وأجفانى وجبهتى وخدى وشفتى فترى التقويس يظهر شيئاً فشيئاً على التدريج ولا ترى داخل النطفة نقاشا ولا خارجها ولا داخل الرحم ولا خارجه ولا خبر منها للأم ولا للأب ولا للنطفة ولا للرحم فما هذا النقاش بأعجب مما نشاهده ينقش بالقلم صورة عجيبة لو نظرت إليها مرة أو مرتين لتعلمته فهل تقدر على أن تتعلم هذا الجنس من النقش والتصوير الذى يعم ظاهر النطفة وباطنها وجميع أجزائها من غير ملامسة للنطفة ومن غير اتصال بها لا من داخل ولا من خارج فإن كنت لا تتعجب من هذه العجائب ولا تفهم بها أن الذى صور ونقش وقدر لا نظير له ولا يساويه نقاش ولا مصور كما أن نقشه وصنعه لا يساويه نقش وصنع فبين الفاعلين من المباينة والتباعد ما بين الفعلين فإن كنت لا تتعجب من هذا فتعجب من عدم تعجبك فإنه أعجب من كل عجب فإن الذى أعمى بصيرتك مع هذا الوضوح ومنعك من التبيين مع هذا البيان جدير بأن تتعجب منه فسبحان من هدى وأضل وأغوى وأرشد وأشقى وأسعد وفتح بصائر أحبابه فشاهدوه فى جميع ذرات العالم وأجزائه وأعمى قلوب أعدائه واحتجب عنهم بعزه وعلائه فله الخلق والأمر والامتنان والفضل واللطف والقهر لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه
ومن آياته الهواء اللطيف المحبوس بين مقعر السماء ومحدب الأرض يدرك بحس اللمس عند هبوب الرياح جسمه ولا يرى بالمين شخصه وجملته مثل البحر الواحد والطيور محلقة فى جو السماء ومستبقة سباحة فيه بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر فى الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هبوب الرياح كما تضطرب أمواج البحر فإذا حرك الله الهواء وجعله ريحا هابة فإن شاء جعله نشرابين يَدَيْ رَحْمَتِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لواقح فَيَصِلُ بِحَرَكَتِهِ رُوحُ الْهَوَاءِ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ فَتَسْتَعِدُّ لِلنَّمَاءِ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ عَذَابًا عَلَى الْعُصَاةِ مِنْ خَلِيقَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ثم انظر إلى لطف الهواء ثم شدته وقوته مهما ضغط فى الماء فالزق المنفوخ يتحامل عليه الرجل القوى ليغمسه فى الماء فيعجز عنه والحديد الصلب تضعه على وجه الماء فيرسب فيه
فانظر كيف ينقبض الهواء من الماء بقوته مع لطافته وبهذه الحكمة أمسك الله تعالى السفن على وجه الماء وكذلك كل مجوف فيه هواء لا يغوص فى الماء لأن الهواء ينقبض عن الغوص فى الماء فلا ينفصل عن السطح الداخل من السفينة فتبقى السفينة الثقيلة مع قوتها وصلابتها معلقة فى الهواء اللطيف كالذى يقع فى بئر فيتعلق بذيل رجل قوى ممتنع عن الهوى فى البئر
فالسفينة بمقعرها تتشبث بأذيال الهواء القوى حتى تمتنع من الهوى والغوص فى الماء فسبحان من علق المركب الثقيل فى الهواء اللطيف من غير علاقة تشاهد وعقدة تشد
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عَجَائِبِ الْجَوِّ وَمَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنَ الْغُيُومِ وَالرُّعُودِ وَالْبُرُوقِ وَالْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالشُّهُبِ وَالصَّوَاعِقِ فَهِيَ عَجَائِبُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى جُمْلَةِ ذَلِكَ في قوله تعالى وما خلقنا السموات والأرض(4/443)
وما بينهما لاعبين وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيْنَهُمَا
وَأَشَارَ إِلَى تَفْصِيلِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى حَيْثُ قَالَ تَعَالَى وَالسَّحَابِ المسخر بين السماء والأرض وحيث تعرض للرعد والبرق والسحاب والمطر فإذا لم يكن لك حظ من هذه الجملة إلا أن ترى المطر بعينك وتسمع الرعد بأذنك فالبهيمة تشاركك فى هذه المعرفة فارتفع من حضيض عالم البهائم إلى عالم الملأ الأعلى فقد فتحت عينيك فأدركت ظاهرها فغمض عينك الظاهرة وانظر ببصيرتك الباطنة لترى عجائب باطنها وغرائب أسرارها وهذا أيضا باب يطول الفكر فيه إذ لا مطمع في استقصائه
فَتَأَمَّلِ السَّحَابَ الْكَثِيفَ الْمُظْلِمَ كَيْفَ تَرَاهُ يَجْتَمِعُ فِي جَوٍّ صَافٍ لَا كُدُورَةَ فِيهِ وَكَيْفَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَهُوَ مَعَ رَخَاوَتِهِ حَامِلٌ لِلْمَاءِ الثَّقِيلِ وَمُمْسِكٌ لَهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ الله فى إرسال الماء وتقطيع القشرات كل قطرة بالقدر الذي أراده الله تعالى وعلى الشكل الذى شاءه فترى السحاب يرش الماء على الأرض ويرسله قطرات متفاصلة لا تدرك قطرة منها قطرة ولا تتصل واحدة بأخرى بل تنزل كل واحدة فى الطريق الذى رسم لها لا تعدل عنه فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْضَ قَطْرَةً قَطْرَةً فَلَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا مِنْهَا قَطْرَةً أو يعرفوا عدد ما ينزل منها فى بلدة واحدة أو قرية واحدة لعجز حساب الجن والإنس عن ذلك فلا يعلم عددها الا الذى أوجدها
ثم كل قطرة منها عينت لكل جزء من الأرض ولكل حيوان فيها من طير ووحش وجميع الحشرات والدواب ومكتوب على تلك القطرة بخط إلهى لا يدرك بالبصر الظاهر أنها رزق الدودة الفلانية التى فى ناحية الجبل الفلانى تصل إليها عند عطشها فى الوقف الفلانى هذا مع ما فى انعقاد البرد الصلب من الماء اللطيف وفى تناثر الثلوج كالقطن المندوف من العجائب التى لا تحصى
كل ذلك فضل من الجبار القادر وقهر من الخلاق القاهر ما لأحد من الخلق فيه شرك ولا مدخل بل ليس للمؤمنين من خلقه إلا الاستكانة والخضوع تحت جلاله وعظمته ولا للعميان الجاحدين إلا الجهل بكيفيته ورجم الظنون بذكر سببه وعلته فيقول الجاهل المغرور إنما ينزل الماء لأنه ثقيل بطبعه وإنما هذا سبب نزوله ويظن أن هذه معرفة انكشفت له ويفرح بها ولو قيل له ما معنى الطبع وما الذى خلقه ومن الذى خلق الماء الذي طبعه الثقل وما الذى رقى الماء المصبوب فى أسافل الشجر إلى أعالى الأغصان وهو ثقيل بطبعه فكيف هوى إلى أسفل ثم ارتفع إلى فوق فى داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا بحيث لا يرى ولا يشاهد حتى ينتشر فى جميع أطراف الأوراق فيغذى كل جزء من كل ورقة ويجرى إليها فى تجاويف عروق شعرية صغار يروى منه العرق الذى هو أصل الورقة ثم ينتشر من ذلك العرق الكبير الممدود فى طول الورقة عروق صغار فكأن الكبير نهر وما انشعب عنه جداول ثم ينشعب من الجداول سوق أصغر منها ثم ينتشر منها خيوط عنكبوتية دقيقة تخرج عن إدراك البصر حتى تنبسط فى جميع عرض الورقة فيصل الماء فى أجوافها إلى سائر أجزاء الورقة ليغذيها وينميها ويزينها وتبقى طراوتها ونضارتها وكذلك إلى سائر أجزاء الفواكه فإن كان الماء يتحرك بطبعه إلى أسفل فكيف تحرك إلى فوق فإن كان ذلك يجذب جاذب فما الذى سخر ذلك الجاذب وإن كان ينتهى بالآخرة إلى خالق السموات والأرض وجبار الملك والملكوت فلم لا يحال عليه من أول الأمر فنهاية الجاهل بداية العاقل
ومن آياته ملكوت السموات والأرض وما فيها من الكواكب وهو الأمر كله ومن أدرك الكل وفاته عجائب السموات فقد فاته الكل تحقيقا
فالأرض والبحار والهواء وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات قطرة فى بحر وأصغر
ثم انظر كيف عظم الله أمر السموات وَالنُّجُومِ فِي كِتَابِهِ فَمَا مِنْ سُورَةٍ إِلَّا وَتَشْتَمِلُ عَلَى تَفْخِيمِهَا فِي مَوَاضِعَ وَكَمْ مِنْ قَسَمٍ فِي الْقُرْآنِ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّمَاءِ ذات البروج والسماء والطارق والسماء(4/444)
ذات الحبك والسماء وما بناها وكقوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها وكقوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وقوله تعالى والنجم إذا هوى فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تعلمون عظيم فقد عَلِمْتَ أَنَّ عَجَائِبَ النُّطْفَةِ الْقَذِرَةِ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فَمَا ظَنُّكَ بِمَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَحَالَ الْأَرْزَاقَ عَلَيْهِ وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى وفي السماء رزقكم وما توعدون وأثنى على المفكرين فيه فقال ويتفكرون في خلق السموات والأرض وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته (1) أى تجاوزها من غير فكر وذم المعرضين عنها فقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون فأى نسبة لجميع البحار والأرض إلى السماء وهى متغيرات على القرب والسموات صلاب شداد محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله ولذلك سماه الله تعالى محفوظا فقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا وقال سبحانه وبنينا فوقكم سبعاً شداداً {وقال} أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سمكها فسواها فانظر إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت
ولا تظنن أن معنى النظر إلى الملكوت بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتفرقها فإن البهائم تشاركك فى هذا النظر
فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم بقوله وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض لا بل كل ما يدرك بحاسة البصر فالقرآن يعبر عنه بالملك والشهادة وما غاب عن الأبصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت والله تعالى عالم الغيب والشهادة وجبار الملك والملكوت ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وهو عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول
فأجل أيها العاقل فكر فى الملكوت فعسى يفتح لك ابواب السماء فتجول بقلبك فى أقطارها إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرحمن فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال رأى قلبى ربى وهذا لأن بلوغ الأقصى لا يكون إلا بعد مجاوزة الأدنى وأدنى شىء إليك نفسك ثم الأرض التى هى مقرك ثم الهواء المكتنف لك ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض ثم عجائب الجو وهو ما بين السماء والأرض ثم السموات السبع بكواكبها ثم الكرسى ثم العرش ثم الملائكة الذين هم حملة العرش وخزان السموات ثم منه تجاوز إلى النظر إلى رب العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما فبينك وبين هذه المفاوز العظيمة والمسافات الشاسعة والعقبات الشاهقة وأنت بعد لم تفرغ من العقبة القريبة النازلة وهى معرفة ظاهر نفسك ثم صرت تطلق اللسان بوقاحتك وتدعى معرفة ربك وتقول قد عرفته وعرفت خلقه ففي ماذا أتفكر إلى ماذا أتطلع
فارفع الآن رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْظُرْ فِيهَا وَفِي كَوَاكِبِهَا وفى دورانها وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَشَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَاخْتِلَافِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا وَدُؤُوبِهَا فِي الْحَرَكَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ فِي حَرَكَتِهَا وَمِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي سَيْرِهَا بَلْ تَجْرِي جَمِيعًا فِي مَنَازِلَ مُرَتَّبَةٍ بِحِسَابٍ مُقَدَّرٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ إِلَى أن يطويها الله تعالى طى السجل للكتاب وتدبر عدد كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها فبعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البياض وبعضها إلى اللون الرصاصى ثم انظر كيفية أشكالها فبعضها على صورة العقرب وبعضها على صورة الحمل والثور والأسد والإنسان وما من صورة فى الأرض إلا ولها مثال فى السماء
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى مَسِيرِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا فِي مُدَّةِ سَنَةٍ ثُمَّ هِيَ تَطْلُعُ فِي كل يوم وتغرب
_________
(1) حديث ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته أى قوله تعالى ويتفكرون في خلق السموات والأرض تقدم(4/445)
بسير آخر سخرها له خالقها وَلَوْلَا طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا لَمَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَمْ تُعْرَفِ الْمَوَاقِيتُ وَلَأَطْبَقَ الظَّلَامُ عَلَى الدَّوَامِ أَوِ الضِّيَاءُ عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ لَا يَتَمَيَّزُ وقت المعاش عن وقت الاستراحة فانظر كيف جعل الله تعالى الليل لباسا والنوم سباتا والنهار معاشا وَانْظُرْ إِلَى إِيلَاجِهِ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ عَلَيْهِمَا عَلَى ترتيب مخصوص
وانظر إلى إمالته مسير الشمس عن وسط السماء حتى اختلف بسببه الصيف والشتاء والربيع والخريف فإذا انخفضت الشمس من وسط السماء فى مسيرها برد الهواء وظهر الشتاء وإذا استوت فى وسط السماء اشتد القيظ وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان
وعجائب السموات لَا مَطْمَعَ فِي إِحْصَاءِ عُشْرِ عُشَيْرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا وَإِنَّمَا هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ الفكر واعتقد على طريق الجملة أنه ما مِنْ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى حكم كثيرة فى خلقه ثم فى مقداره ثم فى شكله ثم فى لونه ثم فى وضعه من السماء وقربه من الكواكب التى بجنبه وبعده وقس على ذلك ما ذكرناه من أعضاء بدنك إذ ما من جزء إلا وفيه حكمة بل حكم كثيرة وأمر السماء أعظم بل لا نسبة لعالم الأرض إلى عالم السماء لا فى كبر جسم ولا فى كثرة معانيه
وقس التفاوت الذى بينهما فى كثرة المعانى بما بينهما من التفاوت فى كبر الأرض فأنت تعرف من كبر الأرض واتساع أطرافها أنه لا يقدر آدمى على أن يدركها ويدور بجوانبها وقد اتفق الناظرون على أن الشمس مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة وفي الأخبار ما يدل على عظمتها (1) ثم الكواكب التى تراها أصغرها مثل الأرض ثمانى مرات وأكبرها ينتهى إلى قريب من مائة وعشرين مرة مثل الأرض
وبهذا تعرف ارتفاعها وبعدها إذ للعبد صارت ترى صغارا ولذلك أشار الله تعالى إلى بعدها فقال رفع سمكها فسواها
وفى الأخبار أن ما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام (2) فإذا كان مقدرا كوكب واحد مثل الأرض أضعافا فانظر إلى كثرة الكواكب
ثم أنظر إلى السماء التى الكواكب مركوزة فيها وإلى عظمها
ثم انظر إلى سرعة حركتها وأنت لا تحس بحركتها فضلا عن أن تدرك سرعتها لكن لا تشك أنها فى لحظة تسير مقدار عرض كوكب لأن الزمان من طلوع أول جزء من كوكب إلى تمامه يسير وذلك الكوكب هو مثل الأرض مائة مرة وزيادة فقد دار الفلك فى هذه اللحظة مثل الأرض مائة مرة وهكذا يدور على الدوام وأنت غافل عنه
وانظر كيف عبر جبريل عليه السلام عن سرعة حركته إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم هل زالت الشمس فقال لا نعم فقال كيف تقول لا نعم فقال من حين قلت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس خمسمائة عام (3) فانظر إلى عظم شخصها ثم إلى خفة حركتها ثم انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم كيف أثبت صورتها مع اتسع أكنافها فى حدقة العين مع صغرها حتى تجلس على الأرض وتفتح عينيك نحوها فترى جميعها
فهذه السماء بعظمها وكثرة كواكبها لا تنظر إليها بل انظر إلى بارئها كيف خلقها ثم أَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَمِنْ غَيْرِ علاقة من فوقها وكل العالم
_________
(1) الحديث الدال على عظم الشمس رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمر رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشمس حين غربت فقال فى نار الله الحامية لولا ما نزعها من أمر الله لأهلكت ما على الأرض وللطبرانى فى الكبير من حديث أبى أمامة وكل بالشمس تسعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم لولا ذلك ما أنت على شىء إلا أحرقته
(2) حديث بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام أخرجه الترمذى من رواية الحسن عن أبى هريرة وقال غريب قال ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلى بن زيد قالوا ولم يسمع الحسن من أبى هريرة ورواه أبو الشيخ فى العظمة من رواية أبى نصرة عن أبى ذر ورجاله ثقات إلا أنه لا يعرف لأبى نصرة سماع من أبى ذر
(3) حديث أنه قال لجبريلل هل زالت الشمس فقال لا نعم فقال كيف تقول لا نعم فقال من حين قلت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام لم اجد له أصلا(4/446)
كَبَيْتٍ وَاحِدٍ وَالسَّمَاءُ سَقْفُهُ فَالْعَجَبُ مِنْكَ أَنَّكَ تَدْخُلُ بَيْتَ غَنِيٍّ فَتَرَاهُ مُزَوَّقًا بِالصَّبْغِ مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ فَلَا يَنْقَطِعُ تَعَجُّبُكَ مِنْهُ وَلَا تَزَالُ تَذْكُرُهُ وَتَصِفُ حُسْنَهُ طُولَ عُمُرِكَ وَأَنْتَ أَبَدًا تَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الْعَظِيمِ وَإِلَى أَرْضِهِ وَإِلَى سَقْفِهِ وَإِلَى هَوَائِهِ وَإِلَى عَجَائِبِ أَمْتِعَتِهِ وغرائب حيواناته وبدائع نقوشه ثُمَّ لَا تَتَحَدَّثُ فِيهِ وَلَا تَلْتَفِتُ بِقَلْبِكَ إليه فما هذا البيت دون ذلك البيت الذى تصفه بل ذلك البيت هو ايضا جزء من الأرض التى هى أخس أجزاء هذا البيت ومع هذا فلا تنظر إليه ليس له سبب إلا أنه بيت ربك هو الذى انفرد ببنائه وترتيبه وأنت قد نسيت نفسك وربك وبيت ربك واشتغلت ببطنك وفرجك ليس لك هم إلا شهوتك أو حشمتك وغاية
شهوتك أن تملأ بطنك ولا تقدر على أن تأكل عشر ما تأكله بهيمة فتكون البهيمة فوقك بعشر درجات
وغاية حشمتك أن تقبل عليك عشرة أو مائة من معارفك فينافقون بألسنتهم بين يديك ويضمرون خبائث الاعتقادات عليك وإن صدقوك فى مودتهم إياك فلا يملكون لك ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا وقد يكون فى بلدك من أغنياء اليهود والنصارى من يزيد جاهه على جاهك وقد اشتغلت بهذا الْغُرُورِ وَغَفَلْتَ عَنِ النَّظَرِ فِي جَمَالِ مَلَكُوتِ السموات والأرض ثم غفلت عن التنعم بالنظر إلى جلال مالك الملكوت والملك
وما مثلك ومثل عقلك إلا مثل النملة تخرج من جحرها الذى حفرته فى قصر مشيد من قصور الملك رفيع البنيان حصين الأركان مزين بالجوارى والغلمان وأنواع الذخائر والنفائس فإنها إذا خرجت من جحرها ولقيت صاحبتها لم تتحدث لو قدرت على النطق إلا عن بيتها وغذائها وكيفية ادخارها فأما حال القصر والملك الذى فى القصر فهى بمعزل عنه وعن التفكر فيه بل لا قدرة لها على المجاوزة بالنظر عن نفسها وغذائها وبيتها إلى غيره
وكما غفلت النملة عن القصر وعن أرضه وسقفه وحيطانه وسائر بنيانه وغفلت أيضا عن سكانه فأنت أيضا غافل عن بيت الله تعالى وعن ملائكته الذين هم سكان عوانه فلا تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك ولا تعرف من ملائكة السموات إلا ما تعرف النملة منك ومن سكان بيتك
نعم ليس للنملة طريق إلى أن تعرفك وتعرف عجائب قصرك وبدائع صنعة الصانع فيه وأما أنت فلك قدرة على أن تجول فى الملكوت وتعرف من عجائبه ما الخلق غافلون عنه
ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط فإنه مجال لا آخر له ولو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضل الله تعالى علينا بمعرفته وكل ما عرفناه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه جملة العلماء والأولياء وما عرفوه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجملة ما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه محمد نبينا صلى الله عليه وسلم وما عرفه الأنبياء كلهم قليل بالإضافة إلى ما عرفته الملائكة المقربون كإسرافيل وجبريل وغيرهما ثم جميع علوم الملائكة والجن والإنس إذا أضيف إلى علم الله سبحانه وتعالى لم يستحق أن يسمى علماً بل هو إلى أن يسمى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب
فسبحان من عرف عباده ما عرف ثم خاطب جميعهم فقال وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً
فهذا بيان معاقد الجمل التى تجول فيها فكر المتفكرين في خلق الله تعالى وليس فيها فكر في ذات الله تعالى ولكن يستفاد من الفكر فى الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته وجلاله وقدرته وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم
وهذا كما أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه فلا تزال تطلع على غريبه من تصنيفه أو شعره فتزداد به معرفة وتزداد بحسنه له توقيرا وتعظيما واحتراما حتى إن كل كلمة من كلماته وكل بيت عجيب من أبيات شعره يزيده محلا من قلبك يستدعى التعظيم له فى نفسك
فهكذا تأمل في خلق الله تعالى وتصنيفه وتأليفه وكل ما في الوجود من خلق الله وتصنيفه والنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا وإنما لكل عبد(4/447)
منها بقدر ما رزق فلنقتصر على ما ذكرناه ولنضف إلى هذا ما فصلناه في كتاب الشكر فإنا نظرنا فى ذلك الكتاب فى فعل الله تعالى من حيث هو إحسان إلينا وإنعام علينا
وفى هذا الكتاب نظرنا فيه من حيث أنه فعل الله فقط وكل ما نظرنا فيه فإن الطبيعي ينظر فيه ويكون نظره سبب ضلاله وشقاوته والموفق ينظر فيه فيكون سبب هدايته وسعادته
وما من ذرة في السماء والأرض إلا والله سبحانه وتعالى يضل بها من يشاء ويهدي بها من يشاء فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله تعالى وصنعه استفاد منه المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته واهتدى به ومن نظر فيها قاصرا للنظر عليها من حيث تأثير بعضها فى بعض لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب فقد شقى وارتدى فنعوذ بالله من الضلال ونسأله أن يجنبنا مزلة أقدام الجهال بمنه وكرمه وفضله وجوده ورحمته
تم الكتاب التاسع من ربع المنجيات والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله وسلامه يتلوه كتاب ذكر الموت وما بعده وبه كمل جميع الديوان بحمد الله تعالى وكرمه
كتاب ذكر الموت وما بعده وهو الكتاب العاشر من ربع المنجيات وبه اختتام
كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى قصم بالموت رقاب الجبابرة وكسر به ظهور الأكاسرة وقصر به آمال القياصرة الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم فى الحافرة فنقلوا من القصور إلى القبور ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود ومن ملاعبة الجوارى والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ فى التراب ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل فانظر هل وجدوا من الموت حصنا وعزا واتخذوا من دونه حجابا وحرزا وانظر هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا فسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء واستأثر باستحقاق البقاء وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء ثم جعل الموت مخلصا للأتقياء وموعدا فى حقهم للقاء وجعل القبر سجنا للأشقياء وحبسا ضيقا عليهم إلى يوم الفصل والقضاء فله الإنعام بالنعم المتظاهرة وله الانتقام بالنقم القاهرة وله الشكر فى السموات والأرض وله الحمد فى الأولى والآخرة والصلاة على محمد ذي المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فجدير بمن الموت مصرعه والتراب مضجعه والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه والقبر مقره وبطن الأرض مستقره والقيامة موعده والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا فى الموت ولا ذكر إلا له ولا استعداد إلا لأجله ولا تدبير إلا فيه ولا تطلع إلا إليه ولا تعريج إلا عليه ولا اهتمام إلا به ولا حول إلا حوله ولا انتظار وتربص إلا له وحقيق بأن يعد نفسه من الموتى ويراها فى أصحاب القبور فإن كل ما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ(4/448)
لما بعد الموت (1) ولن يتيسر الاستعداد للشيء إلا عند تجدد ذكره على القلب ولا يتجدد ذكره إلا عند التذكر بالإصغاء إلى المذكرات له والنظر في المنبهات عليه
ونحن نذكر من أمر الموت ومقدماته ولواحقه وأحوال الآخرة والقيامة والجنة والنار ما لا بد للعبد من تذكاره على التكرار وملازمته بالافتكار والاستبصار ليكون ذلك مستحثا على الاستعداد فقد قرب لما بعد الموت الرحيل فما بقي من العمر إلا القليل والخلق عنه غافلون اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ونحن نذكر ما يتعلق بالموت في شطرين الشطر الأول في مقدماته وتوابعه إلى نفخة الصور وفيه ثمانية أبواب
الباب الأول في فضل ذكر الموت والترغيب فيه
الباب الثاني في ذكر طول الأمل وقصره
الباب الثالث في سكرات الموت وشدته وما يستحب من الأحوال عند الموت
الباب الرابع في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده
الباب الخامس في كلام المحتضرين من الخلفاء والأمراء والصالحين
الباب السادس في أقاويل العارفين على الجنائز والمقابر وحكم زيارة القبور
الباب السابع في حقيقة الموت وما يلقاه الميت في القبر إلى نفخة الصور
الباب الثامن فيما عرف من أحوال الموتى بالمكاشفة في المنام
الباب الأول في ذكر الموت والترغيب في الإكثار من ذكره
أعلم أَنَّ الْمُنْهَمِكَ فِي الدُّنْيَا الْمُكِبَّ عَلَى غُرُورِهَا الْمُحِبَّ لِشَهَوَاتِهَا يَغْفُلُ قَلْبُهُ لَا مَحَالَةَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ فَلَا يَذْكُرُهُ وَإِذَا ذُكِّرَ بِهِ كَرِهَهُ وَنَفَرَ مِنْهُ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ثُمَّ النَّاسُ إِمَّا مُنْهَمِكٌ وَإِمَّا تَائِبٌ مُبْتَدِئٌ أو عَارِفٌ مُنْتَهٍ أَمَّا الْمُنْهَمِكُ فَلَا يَذْكُرُ الْمَوْتَ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَيَذْكُرُهُ لِلتَّأَسُّفِ عَلَى دُنْيَاهُ وَيَشْتَغِلُ بِمَذِمَّتِهِ وَهَذَا يَزِيدُهُ ذِكْرُ الْمَوْتِ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا
وَأَمَّا التَّائِبُ فَإِنَّهُ يُكْثِرُ مَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ لِيَنْبَعِثَ بِهِ مِنْ قَلْبِهِ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ فيفي بتمام التوبة وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد وهو معذور في كراهة الموت ولا يدخل هذا تحت قوله صلى الله عليه وسلم من كره لقاء الله كره الله لقاءه (2) فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره وهو كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه فلا يعد كارها للقائه
وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له لا شغل له سواه وإلا التحق بالمنهمك في الدنيا وَأَمَّا الْعَارِفُ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْمَوْتَ دَائِمًا لِأَنَّهُ موعد لقائه لِحَبِيبِهِ وَالْمُحِبُّ لَا يَنْسَى قَطُّ مَوْعِدَ لِقَاءِ الحبيب وهذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت ويحب مجيئه ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين
كما روي عن حذيفة أنه لما حضرته الوفاة قال حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم اللهم إن كنت تعلم
_________
(1) حديث الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت تقدم غير مرة
(2) حديث من كره لقاء الله كره الله لقاءه متفق عليه من حديث أبي هريرة(4/449)
أن الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلى من الصحة والموت احب إلى من العيش فسهل على الموت حتى ألقاك فإذن التائب معذور في كراهة الموت وهذا معذور في حب الموت وتمنيه وأعلى منهما رتبة من فوض أمره إلى الله تعالى فصار لا يختار لنفسه موتاً ولا حياة بل يكون أحب الأشياء إليه احبها إلى مولاه
فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا وهو الغاية والمنتهى
وعلى كل حال ففي ذكر الموت ثواب وفضل فإن المنهمك أيضا يستفيد بذكر الموت التجافي عن الدنيا إذ ينغص عليه نعيمه ويكدر عليه صفو لذته
وكل ما يكدر على الإنسان اللذات والشهوات فهو من أسباب النجاة
بيان فضل ذكر الموت كيفما كان
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثروا من ذكر هاذم اللذات (1) ومعناه نغصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونهم إليها فتقبلوا على اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم ما أكلتم منها سمينا (2) وقالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله هل يحشر مع الشهداء أحد قال نعم من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة (3) وإنما سبب هذه الفضيلة كلها أن ذكر الموت يوجب التجافي عن دار الغرور ويتقاضى الاستعداد للآخرة والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا
وقال صلى الله عليه وسلم تحفة المؤمن الموت (4) وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن إذ لا يزال فيها في عناء من مقاساة نفسه ورياضة شهواته ومدافعه شيطانه فالموت إطلاق له من هذا العذاب والإطلاق تحفة في حقه وقال صلى الله عليه وسلم الموت كفارة لكل مسلم (5) واراد بهذا المسلم حقا المؤمن صدقا الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده ويتحقق فيه أخلاق المؤمنين ولم يتدنس من المعاصي إلا باللمم والصغائر فالموت يطهره منها ويكفرها بعد اجتنابه الكبائر وإقامته الفرائض قال عطاء الخراساني مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلس قد استعلى فيه الضحك فقال شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات قالوا وما مكدر اللذات قال الموت (6) وقال أنس رضي الله تعالى عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ ويزهد في الدنيا (7) وقال صلى الله عليه وسلم كفى بالموت مفرقا (8) وقال عليه السلام كفى بالموت واعظا (9) وخرج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المسجد فإذا قوم يتحدثون ويضحكون فقال اذكروا الموت أما والذي نفسي بيده لو تعلمون
_________
(1) حديث أكثروا من ذكر هاذم اللذات أخرجه الترمذي وقال حسن والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
(2) حديث لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم ما أكلتم منها سمينا أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أم حبيبة الجهنية وقد تقدم
(3) حديث قالت عائشة هل يحشر مع الشهداء أحد قال نعم من ذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة تقدم
(4) حديث تحفة المؤمن الموت أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت والطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمر مرسلا بسند حسن
(5) حديث الموت كفارة لكل مسلم أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والخطيب في التاريخ من حديث انس قال ابن العربي في سراج المريدين أنه حسن صحيح وضعفه ابن الجوزي وقد جمعت طرقه في جزء
(6) حديث عطاء الخراساني مر النبي صلى الله عليه وسلم بمجلس قد استعلاه الضحك فقال شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت هكذا مرسلا ورويناه في أمالى الجلال من حديث أنس ولا يصح
(7) حديث أنس أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ ويزهد في الدنيا أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت بإسناد ضعيف جدا
(8) حديث كفى بالموت مفرقا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس وعراك بن مالك بسند ضعيف ورواه ابن أبي الدنيا في البر والصلة من رواية أبي عبد الرحمن الحبلى مرسلا
(9) حديث كفى بالموت واعظا أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من حديث عمار ابن ياسر بسند ضعيف وهو مشهور من قول الفضيل بن عياض رواه البيهقي في الزهد(4/450)
ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا (1) وذكر عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فأحسنوا الثناء عليه فقال كيف ذكر صاحبكم للموت قالوا ما كنا نكاد نسمعه يذكر الموت قال فإن صاحبكم ليس هنالك (2) وقال ابن عمر رضي الله عنهما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة فقال رجل من الأنصار من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله فقال أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ (3)
أما الآثار فقد قال الحسن رحمه الله تعالى فضح الموت الدنيا فلم يترك لذى لب فرحا
وقال الربيع بن خثيم
ما غائب ينتظره المؤمن خيرا له من الموت وكان يقول لا تشعروا بي أحدا وسلوني إلى ربي سلا
وكتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه يا أخي أحذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده
وكان ابن سيرين إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه
وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذا كرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة
وقال إبراهيم التيمى شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل
وقال كعب من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها
وقال مطرف رأيت فيما يرى النائم كأن قائلا يقول في وسط مسجد البصرة قطع ذكر الموت قلوب الخائفين فوالله ما تراهم إلا والهين
وقال أشعث كنا ندخل على الحسن فإنما هو النار وأمر الآخرة وذكر الموت
وقالت صفية رضي الله تعالى عنها أن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها فقالت اكثري ذكر الموت يرق قلبك ففعلت فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها وكان عيسى عليه السلام إذا ذكر الموت عنده يقطر جلده دما
وكان داود عليه السلام إذا ذكر الموت والقيامة يبكي حتى تنخلع أوصاله فإذا ذكر الرحمة رجعت إليه نفسه
وقال الحسن ما رأيت عاقلا قط إلا أصبته من الموت حذرا وعليه حزينا
وقال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء عظني فقال لست أول خليفة تموت قال زدني قال ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت وقد جاءت نويتك فبكى عمر لذلك وكان الربيع بن خثيم قد حفر قبرا في داره فكان ينام فيه كل يوم مرات يستديم بذلك ذكر الموت وكان يقول لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير إِنَّ هَذَا الْمَوْتَ قَدْ نَغَّصَ عَلَى أَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ فَاطْلُبُوا نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ وقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة اكثر ذكر الموت فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك وقال أبو سليمان الداراني قلت لأم هرون أتحبين الموت قالت لا قلت لم قالت لو عصيت آدميا ما اشتهيت لقاءه فكيف أحب لقاءه وقد عصيته
بيان الطريق في تحقيق ذكر الموت
اعلم أن الموت هائل وخطره عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا فلا ينجع ذكر الموت في قلبه
فالطريق فيه أن يفرغ العبد قلبه عن كل
_________
(1) حديث خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد فإذا قوم يتحدثون ويضحكون فقال أذكروا الموت الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف
(2) حديث ذكر عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فأحسنوا الثناء عليه فقال كيف كان ذكر صاحبكم للموت الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت من حديث أنس بسند ضعيف وابن المبارك في الزهد قال أخبرنا مالك بن مغول فذكره بلاغا بزيادة فيه
(3) حديث ابن عمر أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة فقال رجل من الأنصار من أكيس الناس الحديث أخرجه ابن ماجه مختصرا وابن أبي الدنيا بكماله بإسناد جيد(4/451)
شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة أو يركب البحر فإنه لا يتفكر إلا فيه فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وينكسر قلبه
وأنجع طريق فيه أَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ أَشْكَالِهِ وَأَقْرَانِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرَ مَوْتَهُمْ وَمَصَارِعَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ وَيَتَذَكَّرَ صُوَرَهُمْ فِي مَنَاصِبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَيَتَأَمَّلَ كَيْفَ مَحَا التُّرَابُ الْآنَ حُسْنَ صُوَرِهِمْ
وَكَيْفَ تَبَدَّدَتْ أَجَزَاؤُهُمْ في قبورهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم فمهما تذكر رجل رجلا وفصل في قلبه حاله وكيفية موته وتوهم صورته وتذكر نشاطه وتردده وتأمله للعيش والبقاء ونسيانه للموت وانخداعه بمواتاة الأسباب وركونه إلى القوة والشباب وميله إلى الضحك واللهو وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع
وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله
وأنه كيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه
وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه
وكيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر وهو غافل عما يراد به حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه فانكشف له صورة الملك وقرع سمعه النداء إما بالجنة أو بالنار فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم وغفلته كغفلتهم وستكون عاقبته كعاقبتهم
قال أبو الدرداء رضي الله عنه إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم
وقال ابن مسعود رضي الله عنه السعيد من وعظ بغيره
وقال عمر بن عبد العزيز ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غاديا أو رائحا إلى الله عز وجل تضعونه في صدع من الأرض قد توسد التراب وخلف الأحباب وقطع الأسباب
فملازمة هذه الأفكار وأمثالها مَعَ دُخُولِ الْمَقَابِرِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَرْضَى هُوَ الَّذِي يجدد ذكر الموت في القلب حتى يغلب عليه بحيث يصير نصب عينيه فعند ذلك يوشك أن يسند له ويتجافى عن دار الغرور وإلا فالذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان قليل الجدوى في التحذير والتنبيه وَمَهْمَا طَابَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَذَكَّرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَا بُدَّ له مِنْ مُفَارَقَتِهِ نَظَرَ ابن مطيع ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى دَارِهِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا ثُمَّ بَكَى فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْلَا الْمَوْتُ لَكُنْتُ بِكِ مَسْرُورًا وَلَوْلَا مَا نَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ ضِيقِ الْقُبُورِ لَقَرَّتْ بالدنيا أعيننا ثم بكى بكاء شديدا حتى ارتفع صوته
الباب الثاني في طول الأمل وفضيلة قصر الأمل وسبب طوله وكيفية
معالجته فَضِيلَةُ قِصَرِ الْأَمَلِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا (1) وروى علي كرم الله وجهه أنه صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ الحب للدنيا ثم قال إلا إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ويبغض وإذا أحب عبدا أعطاه الإيمان ألا إن للدين أبناء وللدنيا أبناء فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوا
_________
(1) حديث قال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تحدث نفسك بالمساء الحديث أخرجه ابن حبان ورواه البخاري من قول ابن عمر في آخر حديث كن في الدنيا كأنك غريب(4/452)
من أبناء الدنيا ألا إن الدنيا قد ارتحلت مولية ألا إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ألا وإنكم في يوم عمل ليس فيه حساب ألا وإنكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل (1) وقالت أم المنذر اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عشية إلى الناس فقال أيها الناس إما تستحون من الله قالوا وما ذاك يا رسول الله قال تجمعون مالا تأكلون وتأملون ما لا تدركون وتبنون ما لا تسكنون (2) وقال أبو سعيد الخدري اشترى أسامة بن زيد من زيد ابن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ألا تعجبون من أسامة المشترى إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي ولا رفعت طرفي فظننت أنى واضعه حتى أفيض ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (3) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يخرج يهريق الماء فيتمسح بالتراب فأقول له يا رسول الله إن الماء منك قريب فيقول ما يدريني لعلي لا أبلغه (4) والبزاز بسند ضعيف وروي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاثة أعواد فغرز عودا بين يديه والآخر إلى جنبه وأما الثالث فأبعده فقال هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا الإنسان وهذا الأجل وذاك الأمل يتعاطاه ابن آدم ويختلجه الأجل دون الأمل (5) وقال عليه السلام مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية إن اخطأته المنايا وقع في الهرم (6) قال ابن مسعود هذا المرء وهذه الحتوف حوله شوارع إليه والهرم وراء الحتوف والأمل وراء الهرم فهو يؤمل وهذه الحتوف شوارع إليه فأيها أمر به أخذه فإن اخطأته الحتوف قتله الهرم وهو ينتظر الأمل
قال عبد الله خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط وسطه خطا وخط خطوطا إلى جنب الخط وخط خطا خارجا وقال أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا الإنسان للخط الذي في الوسط وهذا الأجل محيط به وهذه الأعراض للخطوط التي حوله تنهشه إن اخطأه هذا نهشه هذا وذاك الأمل يعني الخط الخط الخارج (7) وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان الحرص والأمل (8) وفي رواية وتشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث علي إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ اتِّبَاعُ الهوى وطول الأمل الحديث بطوله أخرجه ابن أبي الدنيا
(2) حديث أم المنذر أيها الناس أما تستحيون من الله تعالى قالوا وما ذاك يا رسول الله قال تجمعون مالا تأكلون الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا
(3) حديث أبي سعيد اشتري أسامة بن زيد من زيد بن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ألا تعجبون من أسامة الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل
(4) حديث ابن عباس كان يخرج يهريق الماء فيمسح بالتراب فأقول الماء منك قريب فيقول ما يدريني لعلي لا أبلغه أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن أبي الدنيا في قصر الأمل
(5) حديث أنه أخذ ثلاثة أعواد فغرز عودا بين يديه الحديث أخرجه احمد وابن أبي الدنيا في قصر الأمل واللفظ له
(6) حديث مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منيه الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن الشخير وقال حسن
(7) حديث ابن مسعود خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط وسطه خطا الحديث رواه البخاري
(8) حديث أنس يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنان الحرص والأمل وفي رواية ويشب معه اثنان الحرص على المال والحرص على العمر ورواه مسلم(4/453)
نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل (1) وقيل بينما عيسى عليه السلام جالس وشيخ يعمل بمسحاة يثير بها الأرض فقال عيسى اللهم أنزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة فقال عيسى اللهم اردد إليه الأمل فقام فجعل يعمل فسأله عيسى عن ذلك فقال بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير فألقيت المسحاة واضطجعت ثم قالت لي نفسي والله لا بد لك من عيش ما بقيت فقمت إلى مسحاتي
وقال الحسن قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكلكم يحب أن يدخل الجنة قالوا نعم يا رسول الله قال قصروا من الأمل وثبتوا آجالكم بين أبصاركم واستحيوا من الله حق الحياء (2) وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دعائه اللهم إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة وأعوذ بك من حياة تمنع خير الممات وأعوذ بك من أمل يمنع خير العمل (3)
الآثار قال مطرف بن عبد الله لو علمت متى أجلي لخشيت على ذهاب عقلي ولكن الله تعالى من على عباده بالغفلة عن الموت ولولا الغفلة ما تهنأوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق
وقال الحسن السهو والأمل نعمتان عظيمتان على بني آدم ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق وقال الثوري بلغني أن الإنسان خلق احمق ولولا ذلك لم يهنأه العيش وقال أبو سعيد بن عبد الرحمن إنما عمرت الدنيا بقلة عقول أهلها وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني مؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل وليس يغفل عنه وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض وثلاث أحزنتني حتى أبكتني فراق الأحبة محمد وحزبه وهول المطلع والوقوف بين يدي الله ولا أدري إلى الجنة يؤمر بي أو إلى النار
وقال بعضهم رأيت زرارة بن أبي أوفى بعد موته في المنام فقلت أي الأعمال أبلغ عندكم قال التوكل وقصر الأمل
وقال الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباءة
وسأل المفضل بن فضالة ربه أن يرفع عنه الأمل فذهبت عن شهوة الطعام والشراب ثم دعا ربه فرد عليه الأمل فرجع إلى الطعام والشراب وقيل للحسن يا أبا سعيد ألا تغسل قميصك فقال الأمر أعجل من ذلك
وقال الحسن الموت معقود بنواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم
وقال بعضهم أنا كرجل ماد عنقه والسيف عليه ينتظر متى تضرب عنقه
وقال داود الطائي لو أملت أن أعيش شهرا لرأيتني قد أتيت عظيما وكيف أؤمل ذلك وأرى الفجائع تغشى الخلائق في ساعات الليل والنهار وحكى أنه جاء شقيق البلخى إلى أستاذ له يقال له أبو هاشم الرمانى وفي طرف كسائه شيء مصرور فقال له استاذه إيش هذا معك فقال لوزات دفعها إلى أخ لي وقال أحب أن تفطر عليها فقال يا شقيق وأنت تحدث نفسك أنك تبقى إلى الليل لا كلمتك أبدا قال فأغلق في وجهي الباب ودخل وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته إن لكل سفر زادا لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه وعقابه ترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم فإنه والله ما بسط أمل من لا يدرى لعله لا يصبح بعد مسائه ولا يمسى بعد صباحه وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا وكم رأيت ورأيتم من كان بالدنيا مغترا وإنما تقر عين من
_________
(1) حديث نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد وهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
(2) حديث الحسن أكلكم يحب أن يدخل الجنة قالوا نعم يا رسول الله قال قصروا من الأمل الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا
(3) حديث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من أمل يمنع خير الآخرة وأعوذ بك من حياة تمنع خير الممات وأعوذ بك من أمل يمنع خير العمل أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من رواية حوشب عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده ضعف وجهالة ولا أدري من حوشب(4/454)
وثق بالنجاة من عذاب الله تعالى وإنما يفرح من أمن أهوال القيامة فأما من لا يداوى كلما إلا أصابه جرح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله من أن آمركم بما لا أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيبتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر والموازين فيه منصوبة لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت ولو عنيت به الجبال لذابت ولو عنيت به الأرض لتشققت أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة وإنكم صائرون إلى إحداهما
وكتب رجل إلى أخ له أما بعد فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت ونحن في أضغات أحلام والسلام
وكتب آخر إلى أخ له إن الحزن على الدنيا طويل والموت من الإنسان قريب وللنقص في كل يوم منه نصيب وللبلاء في جسمه دبيب فبادر قبل أن تنادى بالرحيل والسلام
وقال الحسن كان آدم عليه السلام قبل أن يخطئ أمله خلف ظهره وأجله بين عينيه فلما أصاب الخطيئة حول فجعل أمله بين عينيه وأجله خلف ظهره
وقال عبد الله بن سميط سمعت أبي يقول أيها المغتر بطول صحته أما رأيت ميتا قط من غير سقم أيها المغتر بطول المهلة أما رأيت مأخوذا قط من غير عدة إنك لو فكرت في طول عمرك لنسيت ما قد تقدم من لذاتك أبالصحة تغترون أم بطول العافية تمرحون أم الموت تأمنون أم على ملك الموت تجترئون إن ملك الموت إذا جاء لا يمنعه منك ثروة مالك ولا كثرة احتشادك أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب وغصص وندامة على التفريط ثم يقال رحم الله عبدا عمل لما بعد الموت رحم الله عبداً نظر لنفسه قبل نزول الموت وقال أبو زكريا التيمي بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أتى بحجر منقور فطلب من يقرؤه فأتى بوهب بن منبه فإذا فيه ابن آدم إنك لو رأيت قرب ما بقى من أجلك لزهدت في طول أملك ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت من حرصك وحيلك وإنما يلقاك غدا ندمك لو قد زلت بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك وفارقك الوالد والقريب ورفضك الولد والنسيب فلا أنت إلى دنياك عائد ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة فبكى سليمان بكاء شديدا وقال بعضهم رأيت كتابا من محمد بن يوسف إلى عبد الرحمن بن يوسف سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني أحذرك متحولك من دار مهلتك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك فإن يكن الله معك فلا يأس ولا وحشة ولا فاقة وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك من سوء مصرع وضيق مضجع ثم تبلغك صيحة الحشر ونفخ الصور وقيام الجبار لفصل قضاء الخلائق وخلاء الأرض من أهلها والسماوات من سكانها فباحت الأسرار وأسعرت النار ووضعت الموازين وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فكم من مفتضح ومستور وكم من هالك وناج وكم من معذب ومرحوم فيا ليت شعري مالى وحالك يومئذ ففي هذا ما هدم اللذات وأسلى عن الشهوات وقصر عن الأمل وأيقظ النائمين وحذر الغافلين أعاننا الله وإياكم على هذا الخطر العظيم وأوقع الدنيا والآخرة من قلبي وقلبك موقعهما من قلوب المتقين فإنما نحن به وله والسلام وخطب عمر بن عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا يجمعكم الله فيه للحكم والفضل فيما بينكم فخاب وشقى غدا عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنته التي عرضها السموات والأرض وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى وباع قليلا بكثير وفانيا بباق وشقوة بسعادة ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلف بعدكم الباقون ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه وانقطع أمله فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد(4/455)
قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب وايم الله إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي ولكنها سنن من الله عادلة آمر فيها بطاعته وأنهى فيها عن معصيته واستغفر الله ووضع كمه على وجهه وجعل يبكي حتى بلت دموعه لحيته وما عاد إلى مجلسه حتى مات
وقال القعقاع بن حكيم قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء
وقال الثوري رأيت شيخا في مسجد الكوفة يقول أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة لو أنتظر الموت أن ينزل بي ولو أتاني ما أمرته بشيء ولا نهيته عن شيء ولا لى على أحد شيء ولا لأحد عندي شيء
وقال عبد الله بن ثعلبة تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار
وقال أبو محمد بن علي الزاهد خرجنا في جنازة بالكوفة وخرج فيها داود الطائي فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن فجئت فقعدت قريبا منه فتكلم فقال من خاف الوعيد قصر عليه البعيد ومن طال أمله ضعف عمله وكل ما هو آت قريب واعلم يا أخي أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤم واعلم أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور إنما يندمون على ما يخلفون ويفرحون بما يقدمون فما ندم عليه أهل القبور أهل الدنيا عليه يقتتلون وفيه يتنافسون وعليه عند القضاة يختصمون وروى أن معروفاً الكرخي رحمه الله تعالى أقام الصلاة قال محمد بن أبي توبة فقال لي تقدم فقلت إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها فقال معروف وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع من خير العمل
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته إن الدنيا ليست بدار قراركم دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها الظعن عنها فكم من عامر موثق عما قليل يخرب وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى إنما الدنيا كفىء ظلال قلص فذهب بينا ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قدير العين إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر إنها تسر قليلا وتحزن طويلا
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إنه كان يقول في خطبته أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور الوحا الوحا ثم النجا النجا
بيان السبب في طول الأمل وعلاجه
اعلم أن طول الأمل له سببان أحدهما الجهل والآخر حب الدنيا
أما حب الدنيا فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة فيمنى نفسه أبدا بما يوافق مراده وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب وسائر أسباب الدنيا فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه فيلهو عن ذكر الموت فلا يقدر قربه فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت والحاجة إلى الإستعداد له سوف ووعد نفسه وقال الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب وإذا كبر فيقول إلى أن تصير شيخا فإذا صار شيخا قال إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة أو ترجع من هذه السفرة أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك
فَلَا يَزَالُ يُسَوِّفُ وَيُؤَخِّرُ وَلَا يَخُوضُ فِي شُغُلٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشُّغُلِ عَشَرَةُ أشغال أخر وهكذا على التدريج(4/456)
يُؤَخِّرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَيُفْضِي بِهِ شُغُلٌ إِلَى شُغُلٍ بَلْ إِلَى أَشْغَالٍ إِلَى أَنْ تختطفه الْمَنِيَّةُ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَسِبُهُ فَتَطُولُ عِنْدَ ذَلِكَ حَسْرَتُهُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ وَصِيَاحُهُمْ مِنْ سَوْفَ يَقُولُونَ وَاحُزْنَاهُ مِنْ سَوْفَ
وَالْمُسَوِّفُ الْمِسْكِينُ لَا يَدْرِي أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى التَّسْوِيفِ الْيَوْمَ هُوَ مَعَهُ غَدًا وَإِنَّمَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْمُدَّةِ قُوَّةً وَرُسُوخًا وَيَظُنُّ أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ أَنْ يكون للخائض في الدنيا والحافظ لها فراغ قط وهيهات فما يفرغ منها إلا من طرحها فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَمَا انْتَهَى أرب إلا إلى أرب
وأصل هذه الأماني كلها حب الدنيا والأنس بها والغفلة عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم أحبب من أحببت فإنك مفارقه (1)
وأما الجهل فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب وليس يتفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عدوا لكانوا أقل من عشر رجال البلد وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر فإلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب
وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الْمَوْتِ فَجْأَةً وَلَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ بعيد وإن كان ذلك بعيدا فالمرض فجأة غير بعيد وكل مرض فإنما يقع فجأة وإذا مرض لم يكن الموت بعيد ولو تفكر هذا الغافل وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص مِنْ شَبَابٍ وَشَيْبٍ وَكُهُولَةٍ وَمِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وخريف وربيع من ليل ونهار لعظم استشعاره واشتغل بالاستعداد له ولكن الجهل بهذه الأمور وحب الدنيا دعواه إلى طول الأمل وإلى الغفلة عن تقدير الموت القريب فهو أبدا يظن أن الموت يكون بين يديه ولا يقدر نزوله به ووقوعه فيه وهو أبدا يظن أنه يشيع الجنائز ولا يقدر أن تشيع جنازته لأن هذا قد تكرر عليه وألفه وهو مشاهدة موت غيره فأما موت نفسه فلم يألفه ولم يتصور أن يألفه فإنه لم يقع وإذا وقع في دفعه أخرى بعد هذه فهو الأول وهو الآخر
وسبيله أَنْ يَقِيسَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تُحْمَلَ جِنَازَتُهُ وَيُدْفَنَ فِي قَبْرِهِ ولعل اللبن الذي يغطي به لحده قد ضرب وفرغ منه وهو لا يدري فتسويفه جهل محض
وإذا عرفت أن سببه الجهل وحب الدنيا فعلاجه دفع سببه
أما الجهل فيدفع بالفكر الصافي من القلب الحاضر وبسماع الحكمة البالغة من القلوب الطاهرة
وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد وهو الداء العضال الذي أعيا الأولين والآخرين علاجه ولا علاج له إِلَّا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ عظيم العقاب وجزيل الثواب ومهما حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ ارْتَحَلَ عَنْ قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا فَإِنَّ حُبَّ الْخَطِيرِ هُوَ الَّذِي يمحو عن القلب حب الحقير فإذا رأى حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها وإن أعطى ملك الأرض من المشرق إلى المغرب وكيف وليس عنده من الدنيا إلا قدر يسير مكدر منغص فكيف يفرح بها أو يترسخ في القلب حبها مع الإيمان بالآخرة فنسأل الله تعالى أن يرينا الدنيا كما أراها الصالحين من عباده
ولا علاج في تقدير الموت في القلب مثل النظر إلى من مات من الأقران والأشكال وأنهم كيف جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا
أما من كان مستعدا فقد فاز فوزا عظيما وأما من كان مغرورا بطول الأمل فقد خسر خسرانا مبينا
فلينظر الإنسان كل ساعة في أطرافه وأعضائه وليتدبر أنها كيف تأكلها الديدان لا محالة وكيف تتفتت عظامها وليتفكر أن الدود يبدأ بحدقته اليمنى أولا أو اليسرى فما على بدنه شيء إلا وهو طعمة الدود وما له من نفسه إلا العلم والعمل الخالص لوجه الله تعالى
_________
(1) حديث أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم غير مرة(4/457)
وكذلك يتفكر فيما سنورده من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ومن الحشر والنشر وأهوال القيامة وقرع النداء يوم العرض الأكبر
فأمثال هذه الأفكار هي التي تجدد ذكر الموت على قلبه وتدعوه إلى الاستعداد له
بيان مراتب الناس في طول الأمل وقصره
أعلم أن الناس في ذلك يتفاوتون فمنهم من يأمل البقاء ويشتهى ذلك أبدا قال الله تعالى يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ومنهم من يأمل البقاء إلى الهرم وهو أقصى العمر الذي شاهده ورآه وهو الذي يحب الدنيا حبا شديدا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشيخ شاب في حب طلب الدنيا وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين اتقوا وقليل ما هم (1) ومنهم من يأمل إلى سنة فلا يشتغل بتدبير ما وراءها فلا يقدر لنفسه وجودا في عام قابل ولكن هذا يستعد في الصيف للشتاء وفي الشتاء للصيف فإذا جمع ما يكفيه لسنته اشتغل بالعبادة ومنهم من يأمل مدة الصيف أو الشتاء فلا يدخر في الصيف ثياب الشتاء ولا في الشتاء ثياب الصيف
ومنهم من يرجع أمله إلى يوم وليلة فلا يستعد إلا لنهاره وأما للغد فلا
قال عيسى عليه السلام لا تهتموا برزق غد فإن يكن غد من آجالكم فستأتى فيه أرزاقكم مع آجالكم وإن لم يكن من آجالكم فلا تهتموا لآجال غيركم
ومنهم من لا يجاوز أمله ساعة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم يا عبد الله إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ومنهم من لا يقدر البقاء أيضا ساعة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيمم مع القدرة على الماء قبل مضي ساعة ويقول لعلى لا أبلغه ومنهم من يكون الموت نصب عينيه كأنه واقع به فهو ينتظره وهذا الإنسان هو الذي يصلي صلاة مودع وفيه ورد ما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة إيمانه فقال ما خطوت خطوة إلا ظننت أنى لا أتبعها أخرى (2) وكما نقل عن الأسود وهو حبشي أنه كان يصلي ليلا ويلتفت يمينا وشمالا فقال له قائل ما هذا قال أنظر ملك الموت من أي جهة يأتينى
فهذه مراتب الناس ولكل درجات عند الله وليس من أمله مقصور على شهر كمن أمله شهر ويوم بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله ف إن الله لا يظلم مثقال ذرة ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ثم يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى العمل وكل إنسان يدعى أنه قصير الأمل وهو كاذب إنما يظهر ذلك بأعماله فإنه يعتنى بأسباب ربما لا يحتاج إليها في سنة فيدل ذلك على طول أمله
وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب العين لا يغفل عنه ساعة فليستعد للموت الذي يرد عليه في الوقت فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته وفرح بأنه لم يضيع نهاره بل استوفى منه حظه وادخره لنفسه ثم يستأنف مثله إلى الصباح وهكذا إذا أصبح
ولا يتيسر هذا إلا لمن فرغ القلب عن الغد وما يكون فيه
فمثل هذا إذا مات سعد وغنم وإن عاش سر بحسن الاستعداد ولذة المناجاة فالموت له سعادة والحياة له مزيد فليكن الموت على بالك يا مسكين فإن السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك ولعلك قد قاربت المنزل وقطعت المسافة ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتناما لكل نفس أمهلت فيه
_________
(1) حديث الشيخ شاب في حب الدنيا وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين اتقوا وقليل ما هم لم أجده بهذا اللفظ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال
(2) حديث سؤاله لمعاذ عن حقيقة إيمانه فقال ما خطوت خطوة إلا طننت أني لا أتبعها أخرى أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وهو ضعيف(4/458)
بيان المبادرة إلى العمل وحذر آفة التأخير
اعلم أن من له أخوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غد وينتظر قدوم الآخر بعد شهر أو سنة فلا يستعد للذي يقدم إلى شهر أو سنة وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غد
فالاستعداد نتيجة قرب الإنتظار فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل قلبه بالمدة ونسى ما وراء المدة ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها لا ينقص منها اليوم الذي مضى وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا يرى لنفسه متسعا في تلك السنة فيؤخر العمل كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغبا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مقيدا أو موتا مجهزا أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر (1) وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ من الناس الصحة والفراغ (3) حديث من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وقد تقدم (4) حديث جاءت الرجفه تتبعها الرادفة الحديث أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي بن كعب (5) حديث كان إذا أنس من أصحابه غفلة أو غرة نادى فيهم بصوت رفيع أتتكم المنية الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل من حديث زيد السليمي مرسلا (6) حديث أبي هريرة أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد أخرجه أبن أبي الدنيا في قصر الأمل وأبو القاسم البغوي بإسناد فيه لين (7) حديث ابن عمر خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشمس على أطراف السعف فقال ما بقى من الدنيا إلا مثل ما بقى من يومنا هذا في مثل ما مضى منه أخرجه ابن أبي الدنيا فيه بإسناد حسن والترمذي نحوه من حديث أبي سعيد وحسنه (8) حديث مثل الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من حديث أنس ولا يصح (9) وقال ابن مسعود رضي الله عنه تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام {فقال} إن النور إذا دخل الصدر انفسح فقيل يا رسول الله هل لذلك من علامة تعرف
_________
(1) حديث ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غني مطغيا أو فقرا منسيا الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ هل ينتظرون إلا غناء الحديث وقال حسن ورواه ابن المبارك في الزهد ومن طريقه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بلفظ المصنف وفيه من لم يسم
(2) حديث ابن عباس اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا فيه بإسناد حسن ورواه ابن المبارك في الزهد من رواية عمرو بن ميمون الأزدي مرسلا
(3) حديث نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ أخرجه البخاري من حديث ابن ابن عباس وقد تقدم أَيْ إِنَّهُ لَا يَغْتَنِمُهُمَا ثُمَّ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا عند زوالهما وقال صلى الله عليه وسلم من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا إن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة
(4) وقال حديث من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن صلى الله عليه وسلم جاءت الراجفة تتبعها وجاء الموت بما فيه
(5) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنس من أصحابه غفلة أو غرة نادى فيهم بصوت رفيع أتتكم المنية راتبة لازمة إما بشقاوة وإما بسعادة
(6) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد
(7) وقال ابن عمر خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشمس على أطراف السعف فقال ما بقي من الدنيا إلا كما بقي من يومنا هذا في مثل ما مضى منه
(8) وقال صلى الله عليه وسلم مثل الدنيا كمثلثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع
(9) وقال جابر كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خطب فذكر الساعة رفع صوته واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش يقول صبحتكم ومسيتكم بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين أصبعيه حديث جابر كان إذا خطب فذكر الساعة رفع صوته واحمرت وجنتاه الحديث أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في قصر الأمل واللفظ له(4/459)
{قال} نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله وقال السدي الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا أي أيكم أكثرللموت ذكرا وأحسن له استعدادا وأشد منه خوفا وحذرا
وقال حذيفة ما من صباح ولا مساء إلا ومنادى ينادى أيها الناس الرحيل الرحيل
وتصديق ذلك قوله تعالى إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر في الموت
وقال سحيم مولى بني تميم جلست إلى عامر بن عبد الله وهو يصلي فأوجز في صلاته ثم أقبل على فقال أرحني بحاجتك فإني أبادر قلت وما تبادر قال ملك الموت رحمك الله قال فقمت عنه وقام إلى صلاته
ومر داود الطائي فسأله رجل عن حديث فقال دعنى إنما أبادر خروج نفسي قال عمر رضي الله عنه التؤدة في كل شيء خير إلا في أعمال الخير للآخرة
وقال المنذر سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه ويحك بادرى قبل أن يأتيك الأمر ويحك بادرى قبل أن يأتيك الأمر حتى كرر ذلك ستين مرة أسمعه ولا يراني
وَكَانَ الحسن يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ الْمُبَادِرَةَ الْمُبَادِرَةَ فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَتِ انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجل رحم الله امرأ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلَى عَدَدِ ذُنُوبِهِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عدا يَعْنِي الْأَنْفَاسَ آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قبرك
واجتهد أبو موسى الأشعري قبل موته اجتهادا شديدا فقيل له لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق فقال إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها والذي بقي من أجلى أقل من ذلك قال فلم يزل على ذلك حتى مات
وكان يقول لامرأته شدي رحلك فليس على جهنم معبرة
وقال بعض الخلفاء على منبره عباد الله اتقوا الله ما استطعتم وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا واستعدوا للموت فقد أظلكم وترحلوا فقد جد بكم وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة وإن غائبا يجد به الجديدان الليل والنهار لحرى بسرعة الأوبة وإن قادما يحل بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة فالتقى عند ربه من ناصح نفسه وقدم توبته وغلب شهوته فإن أجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به يمنيه التوبة ليسوقها ويزين إليه المعصية ليرتكبها حتى تهجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها وإنه ما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به فيا لها حسرة على ذي غفلة أو يكون عمره عليه حجة وان ترديه أيامه إلى شقوة جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن طاعة الله معصية ولا يحل به بعد الموت حسرة إنه سميع الدعاء وإنه بيده الخير دائما فعال لما يشاء
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى فتنتم أنفسكم قال بالشهوات واللذات وتربصتم قال بالتوبة وارتبتم قال شككتم حتى جاء أمر الله قال الموت وغركم بالله الغرور قال الشيطان وقال الحسن تصبروا وتشددوا فإنما هي أيام قلائل وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى الرجل منكم فيجيب ولا يلتفت فانتقلوا بصالح ما بحضرتكم
وقال ابن مسعود ما منكم من أحد أصبح إلا وهو ضيف وما له عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة
وقال أبو عبيدة الباجي دخلنا على الحسن في مرضه الذي مات فيه فقال مرحبا بكم وأهلا حياكم الله بالسلام وأحلنا وإياكم دار المقام هذه علانية حسنة إن صبرتم وصدقتم واتقيتم فلا يكن حظكم من هذا الخبر رحمكم الله أن تسمعوه بهذه الأذن وتخرجوه من هذه الأذن فإن من رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غاديا(4/460)
ورائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ولكن رفع له علم فشمر إليه الوحا الوحا النجا النجا علام تعرجون أتيتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معا رحم الله عبدا جعل العيش عيشا واحدا فأكل كسرة ولبس خلقا ولزق بالأرض واجتهد في العبادة وبكى على الخطيئة وهرب من العقوبة وابتغى الرحمة حتى يأتيه أجله وهو على ذلك وقال عاصم الأحول قال لي فضيل الرقاشي وأنا سائلة يا هذا لا يشغلنك كثرة الناس عن نفسك فإن الأمر يخلص إليك دونهم ولا تقل أذهب ههنا وههنا فينقطع عنك النهار في لا شيء فإن الأمر محفوظ عليك ولم تر شيئا قط أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم
الباب الثالث في سكرات الموت وشدته وما يستحب من الأحوال عنده
اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبْدِ الْمِسْكِينِ كَرْبٌ وَلَا هَوْلٌ وَلَا عَذَابٌ سِوَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ بِمُجَرَّدِهَا لَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ وَيَتَكَدَّرَ عَلَيْهِ سُرُورُهُ وَيُفَارِقَهُ سَهْوُهُ وَغَفْلَتُهُ وَحَقِيقًا بِأَنْ يُطَوِّلَ فِيهِ فِكْرَهُ وَيُعَظِّمَ لَهُ اسْتِعْدَادَهُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي كُلِّ نَفَسٍ بِصَدَدِهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ كَرْبٌ بِيَدِ سِوَاكَ لَا تَدْرِي مَتَى يَغْشَاكَ
وقال لقمان لابنه
يا بني أمر لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب مجالس اللهو فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه خمس خشبات لتكدرت عليه لذته وفسد عليه عيشه وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع وهو عنه غافل فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها ومن لم يذقها فإنما يعرفها إلا بالقياس إلى الآلام التي أدركها وإما الاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه
فأما القياس الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح فيقدر ما يسري إلى الروح يتألم والمؤلم يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء فلا يصيب الروح إلا بعض الألم فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده
والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجده إنما يجري في جزء من الروح يلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة وإنما يعظم أثر الاحتراق لأن أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهرا وباطنا إلا وتصيبه النار فتحسه الأجزاء الروحانية المنتشرة في سائر أجزاء اللحم
وأما الجراحة فإنما تصيب الموضع الذي مسه الحديد فقط فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار فألم النزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه فإنه المنزوع المجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من الفرق إلى القدم فلا تسأل عن كربة وألمه حتى قالوا إن الموت لا شد من ضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأن قطع البدن بالسيف إنما يؤلم لتعلقه بالروح فكيف إذا كان المقاول المباشر نفس الروح وإنما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوته في قلبه وفي لسانه وإنما انقطع صوت الميت وصياحه من شدة ألمه لأن الكرب قد بالغ فيه وتصاعد على قلبه وبلغ كل(4/461)
موضع منه فهد كل قوة وضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغاثة
أما العقل فقد غشيه وشوشه
وأما اللسان فقد أبكمه وأما الأطراف فقد ضعفها
ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة ولكنه لا يقدر على ذلك فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خوارا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه واربد حتى كأنه ظهر منه التراب الذي هو أصل فطرته وقد جذب منه كل عرق على حياله فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان إلى أصله وترتفع الأنثيان إلى أعالي موضعهما وتخضر أنامله
فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه ولو كان المجذوب عرقا واحدا لكان ألمه عظيما فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم لا من عرق واحد بل من جميع العروق
ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجا فتبرد أولا قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها ويغلق دونه باب التوبة وتحيط به الحسرة والندامة وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقبل توبة العبد ما لم يغرغر (1) وقال مجاهد في قوله تعالى وليست التوبة للذين يعلمون السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إني تبت الآن قال إذا عاين الرسل فعند ذلك تبدو له صفحة وجه ملك الموت فلا تسأل عن طعم مرارة الموت وكربه عند ترادف سكراته ولذلك كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول اللهم هون على محمد سكرات الموت (2) والناس إنما لا يستعيذون منه ولا يستعظمونه لجهلهم به فإن الأشياء قبل وقوعها إنما تدرك بنور النبوة والولاية ولذلك عظم خوف الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الموت حتى قال عيسى عليه السلام يا معشر الحواريين ادعوا الله تعالى أن يهون على هذه السكرة يعني الموت فقد خفت الموت مخافة أوقفني خوفي من الموت على الموت وروى أن نفرا من إسرائيل مروا بمقبرة فقال بعضهم لبعض لو دعوتم الله تعالى أن يخرج لكم من هذه المقبرة ميتا تسألونه فدعوا الله تعالى فإذا هم برجل قد قام وبين عينيه أثر السجود قد خرج من قبر من القبور فقال يا قوم ما أردتم مني لقد ذقت الموت منذ خمسين سنة ما سكنت مرارة الموت من قلبي
وقالت عائشة رضي الله عنها لا أغبط أحد يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروي أنه عليه السلام كان يقول اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل اللهم فأعني على الموت وهونه علي (3) وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الموت وغصته وألمه فقال هو قدر ثلثمائة ضربة بالسيف (4) وسئل صلى الله عليه وسلم عن الموت وشدته فقال إن أهون الموت بمنزلة حسكة في صوف فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا ومعها صوف (5) ودخل صلى الله عليه وسلم على مريض ثم قال إني أعلم ما يلقى ما منه عرق إلا ويألم للموت على حدته // حديث دخل على مريض فقال أني لايعلم ما يلقى ما منه عرق إلا ويألم للموت على جدته أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من حديث سلمان بسند ضعيف ورواه في المرض والكفارات من رواية عبيد بن عمير مرسلا مع إختلاف ورجاله ثقات وكان علي كرم الله وجهه يحض على القتال ويقول
_________
(1) حديث أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أخرجه الترمذي وحسنه ابن ماجة من حديث ابن عمر
(2) حديث كان يقول اللهم هون على محمد سكرات الموت تقدم
(3) حديث كان يقول اللهم تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من حديث صعمة بن غيلان الجعفي وهو معضل سقط منه الصحابي وللتابعي
(4) حديث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الموت وغصته وألمة فقال هو قدر ثلثمائة ضربة بالسيف أخرجه ابن أبي الدنيا فيه هكذا مرسلا ورجالة ثقات
(5) حديث سأل عن الموت وشدته فقال أنن أهون الموت بمنزلة حسكة الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من رواية شهر بن حوشب مرسلا(4/462)
إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موت على فراش
وقال الأوزاعي بلغنا أن الميت يجد ألم الموت ما لم يبعث من قبره
وقال شداد بن أوس الموت افظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن وهو أشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض وإلى في القدور ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بالموت ما انتفعوا بعيش ولا لذوا بنوم
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال إذا بقي على المؤمن من درجاته شيء لم يبلغها بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وكربه درجته في الجنة وإذا كان للكافر معروف لم يجز به هون عليه في الموت ليستكمل ثواب معروفه فيصير إلى النار
وعن بعضهم أنه كان يسأل كثيرا من المرضى كيف تجدون الموت فلما مرض قيل له فأنت كيف تجده فقال كأن السموات مطبقة على الأرض وكأن نفسي يخرج من ثقب إبرة
وقال صلى الله عليه وسلم موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر (1) وروى عن مكحول عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال لو أن شعرة من شعر الميت وضعت على أهل السموات والأرض لماتوا بإذن الله تعالى لأن في كل شعرة الموت ولا يقع الموت بشيء إلا مات (2) ويروى لو أن قطرة من ألم الموت وضعت على جبال الدنيا كلها لذابت (3) وروى إن إبراهيم عليه السلام لما مات قال الله تعالى له كيف وجدت الموت يا خليلي قال كسفود جعل في صوف رطب ثم جذب فقال أما إنا قد هونا عليك وروى عن موسى عليه السلام أنه لما صارت روحه إلى الله تعالى قال له ربه يا موسى كيف وجدت الموت قال وجدت نفسي كالعصفور حين يقلى على المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير وروى عنه أنه قال وجدت نفسي كشاة حية تسلخ بيد القصاب وروي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كان عنده قدح من ماء عند الموت فجعل يدخل يده في الماء ثم يمسح بها وجهه ويقول اللهم هون علي سكرات الموت (4) وفاطمة رضي الله عنها تقول واكرباه لكربك يا أبتاه وهو يقول لا كرب على أبيك بعد اليوم (5) وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار يا كعب حدثنا عن الموت فقال نعم يا أمير المؤمنين إن الموت كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل وأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة (6)
فهذه سكرات الموت على أولياء الله وأحبابه في حالنا ونحن المنهمكون في المعاصي وتتوالى علينا مع سكرات الموت بقية الدواهي فإن دواهي الموت ثلاث
الأولى شدة النزع كما ذكرناه
_________
(1) حديث موت الفجأه راحة للمؤمن وأسف على الفاجر أخرجه أحمد من حديث عائشة بإسناد صحيح قال وأخذة أسف ولأبي داود من حديث خالد السلمي موت الفجأة أخذة أسف
(2) حديث مكحول لو أن شعرة من شعر الميت وصمت على أهل السموات والأرض لماتوا الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت من رواية أبي ميسرة رفعه وفيه لو أن ألم شعرة وزاد وإن في يوم القيامة لتسعين هولا أدناه هولا يضاعف على الموت سبعين ألف ضعف وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل والحديث مرسل حسن الإسناد
(3) حديث لو أن قطرة من الموت وضعت على جبال الدنيا كلها لذابت لم أجد له أصلا ولعل المصنف لم يورده حديثا فإنه قال ويروى
(4) حديث أنه كان عنده قدح من ماء عند الموت فجعل يدخل يده في الماء ثم يمسح بها وجهه ويقول اللهم هون على سكرات الموت متفق عليه من حديث عائشة
(5) حديث أن فاطمة قالت واكرباء لكربك يأبت الحديث أخرجه البخاري من حديث أنس بلفظ واكرب ابتاء وفي رواية لابن خزيمة واكرباء
(6) حديث إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت ولمن مفاسلة ليسلم بعضها على بعض الحديث رويناه في الأربعين لأبي هدبة إبراهيم بن هدبة عن أنس وأبو هدبة مالك(4/463)
الدهية الثانية مشاهدة صورة ملك الموت ودخول الروع والخوف منه على القلب فلو رأى صورته التي يقبض عليها روح العبد المذنب أعظم الرجال قوة لم يطق رؤيته
فقد روى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض عليها روح الفاجر قال لا تطيق ذلك قال بلى قال فأعرض عنى فأعرض عنه
ثم التفت فإذا هو برجل أسود قائم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه ومناخيره لهيب النار والدخان فغشى على إبراهيم عليه السلام
ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند الموت إلا صورة وجهك لكان حسبه وروى أبو هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ داود عليه السلام كان رجلا غيورا وكان إذا خرج أغلق الأبواب فأغلق ذات يوم وخرج فأشرفت امرأته فإذا هي برجل في الدار فقالت من أدخل هذا الرجل لئن جاء داود ليلقين منه عناء فجاء داود فرآه فقال من أنت فقال أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنع مني الحجاب فقال فأنت والله إذن ملك الموت وزمل داود عليه السلام مكانه (1) وروي أن عيسى عليه السلام مر بجمجمة فضربها برجله فقال تكلمي بإذن الله فقالت يا روح الله أنا ملك زمان كذا وكذا بينا أنا جالس في ملكي على تاجي وحولي جنودي وحشمي على سرير ملكي إذ بدا لي ملك الموت فزال مني كل عضو على حياله ثم خرجت نفسي إليه فيا ليت ما كان من تلك الجموع كان فرقة وياليت ما كان من ذلك الأنس كان وحشة فهذه يلقاها العصاة ويكفاها المطيعون فقد حكى الأنبياء مجرد سكرة النزع دون الروعة التي يدركها من يشاهد صورة ملك الموت كذلك ولو رآها في منامه ليلة لتنغص عليه بقية عمره فكيف برؤيته في مثل تلك الحال
وأما المطيع فإنه يراه في أحسن صورة وأجملها فقد روى عكرمة عن ابن عباس إن إبراهيم عليه السلام كان رجلا غيورا وكان له بيت يتعبد فيه فإذا خرج أغلقه فرجع ذات يوم فإذا برجل في جوف البيت فقال من أدخلك داري فقال أدخلنيها ربها فقال أنا ربها فقال أدخلنيها من هو أملك بها مني ومنك فقال من أنت من الملائكة قال أنا ملك الموت قال هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن قال نعم فأعرض عني فأعرض ثم التفت فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه وحسن ثيابه وطيب ريحه فقال يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك كان حسبه
ومنها مشاهدة الملكين الحافظين قال وهيب بلغنا أنه ما من ميت يموت حتى يتراءى له ملكاه الكاتبان عمله فإن كان مطيعا قالا له جزاك الله عنا خيرا فرب مجلس صدق أجلستنا وعمل صالح أحضرتنا وإن كان فاجرا قالا له لا جزاك الله عنا خيرا فرب مجلس سوء أجلستنا وعمل غير صالح أحضرتنا وكلام قبيح أسمعنا فلا جزاك الله عنا خيرا
فذلك شخوص بصر الميت إليهما ولا يرجع إلى الدنيا أبدا
الداهية الثالثة مشاهدة العصاة مواضعهم من النار وخوفهم قبل المشاهدة فإنهم في حال السكرات قد تخاذلت قواهم واستسلمت للخروج أرواحهم ولن تخرج أرواحهم ما لم يسمعوا نغمة ملك الموت بأحد البشريين إما أبشر يا عدو الله بالنار أو أبشر يا ولي الله بالجنة
ومن هذا كان خوف أرباب الألباب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيره وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار (2) وقال صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث ابي هريرة أن داود كان رجلا غيورا الحديث أخرج أحمد باسناد جيد نحوه وابن أبي الدنيا في كتاب الموت بلفظ
(2) حديث لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيرة وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار أخرجه ابن أبي الدنيا الموت من رواية رجل لم يسم عن علي موقوفا لا تخر نفسا ابن آدم من الدنيا حتى يعلم أين مصيرة إلى الجنة أم إلى النار وفي رواية حرام على نفس ان تخرج من الدنيا حتى تعلم من أهل الجنة هى أم من أهل النار وفي الصحيحين من حيث عبادة بن بن الصامت ما يشهد لذلك أن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته الحديث(4/464)
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وفقالوا كلنا نكره الموت قال ليس ذاك بذاك إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه (1) وروى أن حذيفة بن اليمان قال لابن مسعود وهو لما به من آخر الليل قم فأنظر أي ساعة هي فقام ابن مسعود ثم جاءه فقال قد طلعت الحمراء فقال حذيفة أعوذ بالله من صباح إلى النار ودخل مروان على أبي هريرة فقال مروان اللهم خفف عنه فقال أبو هريرة اللهم اشدد ثم بكى أبو هريرة وقال والله ما أبكى حزنا على الدنيا ولا جزعا من فراقكم ولكن انتظر إحدى البشريين من ربى بجنة أم بنار
وروى في الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إن الله إذا رضى عن عبد قال يا ملك الموت أذهب إلى فلان فأتني بروحه لأريحه حسبي من عمله قد بلوته فوجدته حيث أحب فينزل ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة ومعهم قضبان الريحان وأصول الزعفران كل واحد منهم يبشره ببشارة سوى بشارة صاحبه وتقوم الملائكة صفين لخروج روحه معهم الريحان فإذا نظر إليهم إبليس وضع يده على رأسه ثم صرخ قال فيقول له جنوده مالك يا سيدنا فيقول أما ترون ما أعطى هذا العبد من الكرامة أين كنتم من هذا قالوا قد جهدنا به فكان معصوما (2) وقال الحسن لا راحة للمؤمن إلا في لقاء الله ومن كانت راحته في لقاء الله تعالى فيوم الموت يوم سروره وفرحه وأمنه وعزه وشرفه
وقيل لجابر بن زيد عند الموت ما تشتهي قال نظرة إلى الحسن فلما دخل عليه الحسن قيل له هذا الحسن فرفع طرفه إليه ثم قال يا إخواناه الساعة والله افارقكم إلى النار أو إلى الجنة
وقال محمد بن واسع عند الموت يا إخواناه عليكم السلام إلى النار أو يعفو الله وتمنى بعضهم أن يبقى في النزع أبدا ولا يبعث لثواب ولا عقاب فخوف سوء الخاتمة قطع قلوب العارفين وهو من الدواهي العظيمة عند الموت
وقد ذكرنا معنى سوء الخاتمة وشدة خوف العارفين منه في كتاب الخوف والرجاء وهو لائق بهذا الموضع
ولكننا لا نطول بذكره وإعادته
بيان ما يستحب من أحوال المحتضر عند الموت
أعلم أن المحبوب عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكون ومن لسانه أن يكون ناطقا بالشهادة ومن قلبه أن يكون حسن الظن بالله تعالى
أما الصورة فقد رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ارقبوا الميت عند ثلاث إذا رشح جبينة ودمعت عيناه ويبست شفتاه فهي من رحمة الله قد نزلت به وإذا غط غطيط المخنوق وأحمر لونه واربدت شفتاه فهو من عذاب الله قد نزل به // حديث ارقبوا الميت عند ثلاث إذا رشح جبينه وذرفت عيناه الحديث أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث سلمان ولا يصح
وأما انطلاق لسانه بكلمة الشهادة فهي علامة الخير قال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه الحديث متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت
(2) حديث أن الله إذا رضى على عبده قال يا ملك الموت اذهب إلى فلان فأتني بروحه لأريحة الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من حديث تميم الدالي باسناد ضعيف بزيادة كثيرة ولم يصرح في أول الحديث برفعه وفي آخره ما دل على انه مرفوع وللنسائي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح إذا حضر الميت أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون أخرجي راضية عنك إلى روح الله وريحان ورب راض راض غير غضبان الحديث(4/465)
لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (1) وفي رواية حذيفة فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا (2) وقال عثمان قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة (3) وقال عبيد الله وهو يشهد وقال عثمان إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها عند موته إلا كانت زاده إلى الجنة
وقال عمر رضي الله عنه احضروا موتاكم وذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون ولقنوهم لا إله إلا الله
وقال أبو هريرة سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول حضر ملك الموت رجلا يموت فنظر في قلبه فلم يجد فيه شيئا ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقا بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر له بكلمة الإخلاص (4)
وينبغي للملقن أن لا يلح في التلقين ولكن يتلطف فربما لا ينطق لسان المريض فيشق عليه ذلك ويؤدى إلى استثقاله التلقين وكراهيته للكلمة ويخشى أن يكون ذلك سبب سوء الخاتمة
وإنما معنى هذه الكلمة أن يموت الرجل وليس في قلبه شيء غير الله فإذا لم يبق له مطلوب سوى الواحد الحق كان قدومه بالموت على محبوبه غاية النعيم في حقه وإن كان القلب مشغوفا بالدنيا ملتفتا إليها متأسفا على لذاتها وكانت الكلمة على رأس اللسان ولم ينطبق القلب على تحقيقها وقع الأمر في خطر المشيئة فإن مجرد حركة اللسان قليل الجدوى إلا أن يتفضل الله تعالى بالقبول
وأما حسن الظن فهو مستحب في هذا الوقت وقد ذكرنا ذلك في كتاب الرجاء وقد وردت الأخبار بفضل حسن الظن بالله
دخل وائلة بن الأسقع على مريض فقال أخبرني كيف ظنك بالله قال أغرقتني ذنوب لي وأشرفت على هلكة ولكني أرجو رحمة ربي فكبر واثلة وكبر أهل البيت بتكبيره وقال الله أكبر سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو يموت فقال كيف تجدك قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال صلى الله عليه وسلم ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا المظن إلا أعطاه الله الذي يرجو وآمنه من الذي يخاف (5) (6) وقال ثابت البناني كان شاب به حدة وكان له أم تعظه كثيرا وتقول له يا بني إن لك يوما فاذكر يومك فلما نزل به أمر الله تعالى أكبت عليه أمه وجعلت تقول له يا بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا وأقول إن لك يوما فقال يا أمه إن لي ربا كثير المعروف وإني لأرجو أن لا يعدمني اليوم بعض معروفه قال ثابت فرحمه الله بحسن ظنه بربه
وقال جابر بن وداعة كان شاب به رهق فاحتضر فقالت له أمه يا بني توصي بشيء قال نعم خاتمى لا تسلبينيه فإن فيه ذكر الله تعالى فلعل الله يرحمني فلما دفن رؤى في المنام فقال أخبروا أمي أن الكلمة قد نفعتني وأن الله قد غفر لي
ومرض اعرابي فقيل له إنك تموت فقال أين يذهب بي قالوا إلى الله قال فما كراهتي أن أذهب إلى من لا يرى الخير إلا منه
وقال أبو المعتمر بن سليمان قال أبي لما حضرته الوفاة يا معتمر حدثني بالرخص لعلى ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به وكانوا يستحبون أن يذكر للعبد محاسن عمله عند موته لكى يحسن ظنه بربه
_________
(1) حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله تقدم
(2) حديث حذيفه فانها تهدم ما قبلها تقدم
(3) من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة تقدم
(4) حديث أبي هريرة حضر ملك الموت رجلا يموت فنظر في قلبه فلم يجد فيه شيئا الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين والطبراني والبيهقي في الشعب وإسناده جيد إلا أن في رواية البيهقي رجلا لم يسم وسمى في رواية الطبراني إسحق بن يحيى بن طلحة وهو ضعيف
(5) حديث دخل واثلة بن الأسقع على مريض فقال أخبرني كيف ظنك بالله وفيه يقول الله أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما يشاء أخرجه ابن حبان بالمرفوع منه وقد تقدم وأحمد والبيهقي في الشعب به جميعا
(6) حديث دخل على شاب وهو يموت فقال كيف تجدك فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي الحديث تقدم(4/466)
بيان الحسرة عند لقاء ملك الموت بحكايات يعرب لسان الحال عنها
قال أشعث بن أسلم سأل إبراهيم عليه السلام ملك الموت وأسمه عزرائيل وله عينان عين في وجهه وعين في قفاه فقال يا ملك الموت ما تصنع
إذا كان نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان كيف تصنع قال أدعوا الأرواح بإذن الله فتكون بين اصبعي هاتين وقال قد دحيت له الأرض فتركت مثل الطشت بين يديه يتناول منها ما يشاء قال وهو يبشره بأنه خليل الله عز وجل
وقال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت عليه السلام مالى لا أراك تعدل بين الناس تأخذ هذا وتدع هذا قال ما أنا بذلك بأعلم منك إنما هي صحف أو كتب تلقى إلي فيها أسماء وقال وهب بن منبه كان ملك من الملوك أراد أن يركب إلى أرض فدعا بثياب ليلبسها فلم تعجبه فطلب غيرها حتى لبس ما أعجبه بعد مرات وكذلك طلب دابة فأتى بها فلم تعجبه حتى أتى بدواب فركب أحسنها فجاء إبليس فنفخ في منخره نفخة فملأه كبرا
ثم سار وسارت معه الخيول وهو لا ينظر إلى الناس كبرا فجاءه رجل رث الهيئة فسلم فلم يرد عليه السلام فأخذ بلجام دابته فقال أرسل اللجام فقد تعاطيت أمر عظيما قال إن لي إليك حاجة قال اصبر حتى أنزل قال لا الآن فقهره على لجام دابته فقال أذكرها قال هو سر فأدنى له رأسه فساره وقال أنا ملك الموت فتغير لون الملك واضطرب لسانه ثم قال دعني حتى أرجع إلى أهلي وأقضي حاجتي وأودعهم قال لا والله لا ترى أهلك وثقلك أبدا فقبض روحه فخر كأنه خشبة ثم مضى فلقي عبدا مؤمنا في تلك الحال فسلم عليه فرد السلام فقال إن لي إليك حاجة أذكرها في أذنك فقال هات فساره وقال أنا ملك الموت فقال أهلا ومرحبا بمن طالت غيبته على فوالله ما كان في الأرض غائب أحب إلى أن ألقاه منك فقال ملك الموت اقض حاجتك التي خرجت لها فقال مالي حاجة أكبر عندي ولا أحب من لقاء الله تعالى قال فاختر على أي حال شئت أن أقبض روحك فقال تقدر على ذلك قال نعم إني أمرت بذلك قال فدعني حتى اتوضأ وأصلي ثم اقبض روحي وأنا ساجد فقبض روحه وهو ساجد وقال أبو بكر بن عبد الله المزني جمع رجل من بني إسرائيل مالا فلما أشرف على الموت قال لبنيه أروني أصناف أموالي فأتى بشيء كثير من الخيل والإبل والرقيق وغيره فلما نظر إليه بكي تحسرا عليه فرآه ملك الموت وهو يبكى فقال له ما يبكيك فوالذي خولك ما أنا بخارج من منزلك حتى أفرق بين روحك وبدنك قال فالمهلة حتى أفرقه قال هيهات انقطعت عنك المهلة فهلا كان ذلك قبل حضور أجلك فقبض روحه
وروى أن رجلا جمع مالا فأوعى ولم يدع صنفا من المال إلا اتخذه وابتنى قصرا وجعل عليه بابين وثيقين وجمع عليه حرسا من غلمانه ثم جمع أهله وصنع لهم طعاما وقعد على سريره ورفع إحدى رجليه على الأخرى وهم يأكلون فلما فرغوا قال يا نفس أنعمي لسنين فقد جمعت لك ما يكفيك فلم يفرغ من كلامه حتى أقبل إليه ملك الموت في هيئة رجل عليه خلقان من الثياب وفي عنقه مخلاة يتشبه بالمساكين فقرع الباب بشدة عظيمة قرعا أفزعه وهو على فراشه فوثب إليه الغلمان وقالوا ما شأنك فقال أدعوا إلى مولاكم فقالوا وإلى مثلك يخرج مولانا قال نعم فأخبروه بذلك فقال هلا فعلتم به وفعلتم فقرع الباب قرعة أشد من الأولى فوثب إليه الحرس فقال أخبروه أني ملك الموت فلما سمعوه ألقى عليهم الرعب ووقع على مولاهم الذل والتخشع فقال قولوا له قولا لينا وقولوا هل تأخذ به أحدا فدخل عليه وقال اصنع في مالك ما أنت صانع فإني لست بخارج منها حتى أخرج روحك فأمر بماله حتى وضع بين يديه فقال حين رآه لعنك الله من مال أنت شغلتني عن عبادة ربي ومنعتني أن أتخلى لربي فأنطق(4/467)
الله المال فقال لم تسبني وقد كنت تدخل على السلاطين بي ويرد المتقي عن بابهم وكنت تنكح المتنعمات بي وتجلس مجالس الملوك بي وتنفقني في سبيل الشر فلا امتنع منك ولو أنفقتني في سبيل الخير نفعتك خلقت يا بن آدم من تراب فمنطلق ببر ومنطلق بإثم ثم قبض ملك الموت روحه فسقط
وقال وهب بن منبه قبض ملك الموت روح جبار من الجبابرة ما في الأرض مثله ثم عرج إلى السماء فقالت الملائكة لمن كنت أشد رحمة ممن قبضت روحه قال أمرت بقبض نفس امرأة في فلاة من الأرض فأتيتها وقد ولدت مولودا فرحمتها لغربتها ورحمت ولدها لصغره وكونه في فلاة لا متعهد له بها
فقالت الملائكة الجبار الذي قبضت الآن روحه هو ذلك المولود الذي رحمته فقال ملك الموت سبحان اللطيف لما يشاء قال عطاء بن يسار إذا كانت ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة فيقال اقبض في هذه السنة من في هذه الصحيفة قال فإن العبد ليغرس الغراس وينكح الأزواج ويبني البنيان وإن اسمه في تلك الصحيفة وهو لا يدري
وقال الحسن ما من يوم إلا وملك اليوم يتصفح كل بيت ثلاث مرات فمن وجده منهم قد استوفى رزقه وانقضى أجله قبض روحه فإذا قبض روحه أقبل أهله برنة وبكاء فيأخذ ملك الموت بعضادتي الباب فيقول والله ما أكلت له رزقا ولا أفنيت له عمرا ولا انتقصت له أجلا وإن لي فيكم لعودة بعد عودة حتى لا ابقي منكم أحدا
قال الحسن فوالله لو يرون مقامه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم وقال يزيد الرقاشى بينما جبار من الجبابرة من بني إسرائيل جالس في منزله قد خلا ببعض أهله إذ نظر إلى شخص قد دخل من باب بيته فثار إليه فزعا مغضبا فقال له من أنت ومن أدخلك على داري فقال أما الذي أدخلني الدار فربها وأما أنا فالذي لا يمنع من الحجاب ولا استأذن على الملوك ولا أخاف صولة المتسلطين ولا يمتنع مني كل جبار عنيد ولا شيطان مريد قال فسقط في يد الجبار وارتعد حتى سقط منكبا على وجهه ثم رفع رأسه إليه مستجديا متذللا له فقال له أنت إذن ملك الموت قال أنا هو قال فهل أنت ممهل حتى أحدث عهدا قال هيهات انقطعت مدتك وانقضت أنفاسك ونفدت ساعاتك فليس إلى تأخيرك سبيل قال فإلى أين تذهب بي قال إلى عملك الذي قدمته وإلى بيتك الذي مهدته قال فإني لم اقدم عملا صالحا ولم أمهد بيتا حسنا قال فإلى لظى نزاعة للشوى ثم قبض روحه فسقط ميتا بين أهله فمن بين صارخ وباك
قال يزيد الرقاشى لو يعلمون سوء المنقلب كان العويل على ذلك اكثر
وعن الأعمش عن خيثمة قال دخل ملك الموت على سليمان بن داود عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فلما خرج قال الرجل من هذا قال هذا ملك الموت قال لقد رايته ينظر إلى كأنه يريدني قال فماذا تريد قال أريد أن تخلصني منه فتأمر الريح حتى تحملني إلى أقصى الهند ففعلت الريح ذلك ثم قال سليمان لملك الموت بعد أن أتاه ثانيا رأيتك تديم النظر إلى واحد من جلسائي قال نعم كنت أتعجب منه لأني كنت أمرت أن أقبضه بأقصى الهند في ساعة قريبة وكان عندك فعجبت من ذلك
الباب الرابع في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعلم أن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حيا وميتا وفعلا وقولا وجميع أحواله عبرة للناظرين(4/468)
وتبصرة للمستبصرين إذ لم يكن أحد أكرم على الله منه إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيه وكان صفيه ورسوله ونبيه فأنظر هل أمهله ساعة عند انقضاء مدته وهل أخره لحظة بعد حضور منيته لا بل أرسل إليه الملائكة الكرام الموكلين بقبض أرواح الأنام فجدوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها وعالجوها ليرحلوها عن جسده الطاهر إلى رحمة ورضوان وخيرات حسان بل إلى مقعد صدق في جوار الرحمن فاشتد مع ذلك في النزع كربه وظهر أنينه وترادف قلقه وارتفع حنينه وتغير لونه وعرق جبينه واضطربت في الإنقباض والإنبساط شماله ويمينه حتى بكى لمصرعه من حضره وانتحب لشدة حاله من شهد منظره فهل رأيت منصب النبوة دافعا عنه مقدورا وهل راقب الملك فيه أهلا وعشيرا وهل سامحه إذ كان للحق نصيرا وللخلق بشيرا ونذيرا هيهات بل امتثل ما كان به مأمورا واتبع ما وجده في اللوح مسطورا فهذا كان حاله وهو عند الله ذو المقام المحمود والحوض المورود وهو أول من تنشق عنه الأرض وهو صاحب الشفاعة يوم العرض فالعجب أنا لا نعتبر به ولسنا على ثقة فيما نلقاه بل نحن أسراء الشهوات وقرناء المعاصي والسيئات فما بالنا لا نتعظ بمصرع محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وحبيب رب العالمين لعلنا نظن أننا مخلدون أو نتوهم أنا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون هيهات هيهات بل نتيقن أنا جميعا على النار واردون ثم لا ينجو منها إلا المتقون فنحن للورود مستيقنون وللصدور عنها متوهمون لا بل ظلمنا أنفسنا إن كنا كذلك لغالب الظن منتظرين فما نحن والله من المتقين وقد قال الله رب العالمين {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظالمين فيها جثيا} فلينظر كل عبد إلى نفسه أنه إلى الظالمين أقرب أم إلى المتقين فانظر إلى نفسك بعد أن تنظر إلى سيرة السلف الصالحين فلقد كانوا مع ما وفقوا له من الخائفين
ثم انظر إلى سيد المرسلين فإنه كان من أمره على يقين إذ كان سيد النبيين وقائد المتقين واعتبر كيف كان كربه عند فراق الدنيا وكيف اشتد أمره عند الانقلاب إلى جنة المأوى قال ابن مسعود رضي الله عنه دخلنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها حين دنا الفراق فنظر إلينا فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم ثم قال مرحبا بكم حياكم الله آواكم الله نصركم الله وأوصيكم بتقوى الله وأوصى بكم الله إني لكم منه نذير مبين ألا تعلوا على الله في بلاده وعباده وقد دنا الأجل والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى وإلى الكأس الأوفى فاقرءوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدى مني السلام ورحمة الله حديث ابن مسعود دخلنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت أمنا عائشة حين دنا الفراق الحديث رواه البزار وقال هذا الكلام قد روى عن مرة عن عبد الله من غير وجه وأسانيدها متقاربة قال وعبد الرحمن الأصبهاني لم يسمع هذا من مرة وإنما هو عمن أخبره عن مرة قال ولا أعلم أحد رواه عن عبد الله غير مرة قلت وقد روى من غير وجه رواه ابن سعد في الطبقات من رواية ابن عوف عن ابن مسعود وروينا في مشيخة القاضي أبي بكر الأنصاري من رواية الحسن العربي عن ابن مسعود ولكنهما منقطعان وضعيفان والحسن العربي إنما يرويه عن مرة كما رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط (1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عند موته من لأمتي بعدي فأوحى الله تعالى إلى جبريل أن بشر حبيبي ان لا أخذله في أمته الحديث أخرجه الطبراني من حديث جابر وابن عباس في حديث طويل فيه من لأمتي المصطفاة من بعدي قال أبشر ياحبيب الله فإن الله عز وجل يقول قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تدخلها أنت وأمتك قال الآن طابت نفسي وإسناده ضعيف وقالت عائشة رضي الله عنها أمرنا
_________
(1) وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لجبريل عليه السلام عند موته من لأمتي بعدي فأوحى الله تعالى إلى جبريل أن بشر حبيبي أني لا أخذله في أمته وبشره بأنه أسرع الناس خروجا من الأرض إذا بعثوا وسيدهم إذا جمعوا وأن الجنة محرمة على الأمم حتى تدخلها أمته
فقال الآن قرت عيني(4/469)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسله بسبع قرب من سبعة آبار ففعلنا ذلك فوجد راحة فخرج فصلى بالناس واستغفر لأهل أحد ودعا لهم وأوصى بالأنصار فقال أما بعد يا معشر المهاجرين فإنكم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد على التى هي عليها اليوم وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم يعنى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ثم قال إن عبدا خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر رضي الله عنه وظن أنه يريد نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك يا أبا بكر سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أمرا أفضل عندي في الصحبة من أبي بكر (1) قالت عائشة رضي الله عنها فقبض صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت فدخل على أخي عبد الرحمن وبيده سواك فجعل ينظر إليه فعرفت انه يعجبه ذلك فقلت له آخذه لك فأومأ برأسه أن نعم فناولته إياه فأدخله في فيه فاشتد عليه فقلت إلينه لك فأومأ برأسه أن نعم فلينته وكان بين يديه ركوة ماء فجعل يدخل فيها يده ويقول لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ثم نصب يده يقول الرفيق الأعلى الرفيق الأعلى فقلت إذن والله لا يختارنا (2) وروى سعيد بن عبد الله عن أبيه قال لما رأت الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلا أطافوا بالمسجد فدخل العباس رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك ثم دخل عليه علي رضي الله عنه فأعلمه بمثله فمد يده وقال ها فتناولوه فقال {ما تقولون} قالوا نقول نخشى أن تموت وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثاب الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس إنه بلغني أنكم تخافون على الموت كأنه استنكار منكم للموت وما تنكرون من موت نبيكم ألم أنع إليكم وتنعى إليكم أنفسكم هل خلد نبي قبلي فيمن بعث فأخلد فيكم ألا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون به وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم فإن الله عز وجل قال وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمنوا إلى آخرها وإن الأمور تجري بإذن الله فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد ومن غالب الله غلبه ومن خادع الله خدعه فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم وأوصيكم بالأنصار خيرا فإنهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم ألم يشاطروكم الثمار ألم يوسعوا عليكم في الديار ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم ألا ولا تستأثروا عليهم ألا وإني فرط لكم وأنتم لاحقون بي ألا وإن موعدكم الحوض حوضي أعرض مما بين بصرى الشام وصنعاء اليمن يصب فيه ميزاب الكوثر ماؤه أشد بياضاً من اللبن وألين من الزبد وأحلى من الشهد من شرب منه لم يظمأ أبدا حصباؤه اللؤلؤ وبطحاؤه المسك من حرمه في الموقف غدا حرم الخير كله ألا فمن أحب أن يرده علي غدا فليكفف لسانه ويده إلا مما ينبغي فقال العباس يا نبي الله أوص بقريش فقال إنما أوصي بهذا الأمر قريشا والناس تبع لقريش برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم فاستوصوا آل قريش بالناس خيرا يا أيها الناس إن الذنوب تغير النعم وتبدل القسم فإذا بر الناس برهم أئمتهم وإذا فجر الناس عقولهم قال الله تعالى وكذلك نولى
_________
(1) حديث عائشة أمرنا أن نغسله بسبع قرب من سبعة آبار فنعلنا ذلك فوجد راحة فخرج فصلى في الناس واستغفر لأهل احد الحديث أخرجه الدارمي في مسنده وفيه إبراهيم بن المختار مختلف فيه عن محمد بن اسحق وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة
(2) حديث عائشة قبض في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وجمع الله بين ربقي صوريقه عند الموت الحديث متفق عليه(4/470)
بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (1) حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر سل يا أبا بكر فقال يا رسول الله دنا الأجل فقال قد دنا الأجل الحديث في سؤالهم له من يلي غسلك وفيم نكفنك وكيفية الصلاة عليه رواه ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر وهو الواقدي باسناد ضعيف إلى ابن عوف عن ابن مسعود وهو مرسل ضعيف كما تقدم (2) فقام عمر فلما كبر وكان رجلا صيتا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالتكبير فقال أين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون قالها ثلاث مرات مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق القلب إذا قام في مقامك غلبه البكاء فقال إنكن صويحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس قال فصلى أبو بكر بعد الصلاة التي صلى عمر فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك ويحك ماذا صنعت بي والله لولا أني ظننت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك ما فعلت
فيقول عبد الله إني لم أر أحدا أولى بذلك منك قالت عائشة رضي الله عنها وما قلت ذاك ولا صرفته عن أبي بكر إلا رغبة به عن الدنيا ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة إلا من سلم الله وخشيت أيضا أن لا يكون الناس يحبون رجلا صلى في مقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي أبدا إلا أن يشاء الله فيحسدونه ويبغون عليه ويتشاءمون به فإذن الأمر أمر الله والقضاء قضاؤه وعصمه الله من كل ما تخوفت عليه من أمر الدنيا والدين (3) وقالت عائشة رضي الله عنها فلما
_________
(1) حديث سعيد بن عبد الله عن أبيه قال لما رأت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلا أطافوا بالمسجد فدخل العباس فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم فذكر الحديث في خروجه متوكئا معصوب الرأس يخط رجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر فذكر خطبته بطولها هو حديث مرسل ضعيف وفيه نكارة ولم أجد له أصلا وأبوه عبد الله بن ضرار بن الأزور تابعى روي عن ابن مسعود قال أبو حاتم فيه وفي أبيه سعيد ليس بالقوى وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه سل أبا بكر فقال يا رسول الله دنا الأجل فقال قد دنا الأجل وتدلى فقال ليهنك يا نبي الله ما عند الله فليت شعري عن منقلبنا فقال إلى الله وإلى سدرة المنتهى ثم إلى جنة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والرفيق الأعلى والحظ والعيش المهن فقال يا نبي الله من يلي غسلك قال رجال من أهل بيتي الأدنى فالأدنى قال ففيم نكفنك فقال في ثيابي هذه وفي حلة يمانية وفي بياض مصر فقال كيف الصلاة عليك منا وبكينا وبكى ثم قال مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفيرى قبري ثم أخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي على الله عز وجل {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} ثم يأذن للملائكة في الصلاة علي فأول من يدخل علي من خلق الله ويصلي علي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة ثم الملائكة بأجمعها صلى الله عليهم أجمعين ثم أنتم فادخلوا علي أفواجا فصلوا علي أفواجا زمرة زمرة وسلموا تسليما ولا تؤذوني بتزكية ولا صيحة ولا رنة وليبدأ منكم الإمام وأهل بيتي الأدنى فالأدنى ثم زمر النساء ثم زمر الصبيان قال فمن يدخلك القبر قال زمر من أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة لا ترونهم وهم يرونكم قوموا فأدوا عني إلى من بعدي
(2) وقال عبد الله بن زمعة جاء بلال في أول شهر ربيع الأول فأذن بالصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر يصلي بالناس فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر فقلت قم يا عمر فصل بالناس
(3) حديث عبد الله بن زمعة جاء بلال في أول الربيع الأول فأذن بالصلاة فقال النبيي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر الحديث أخرجه أبو داود باسناد جيد نحوه مختصرا دون قوله فقالت عائشة أن أبا بكر رجل رقيق إلى آخره ولم يقل في أول ربيع الأول وقال مروا من يصلى بالناس وقال يأبى الله ذلك والمؤمنون مرتين وفي رواية له فقال لا لا لا ليصل للناس ابن أبي قحافة يقول ذلك مغضبا وأما ما في آخره من قول عائشة ففي الصحيحين من حديثها فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيك إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فقال إنكن صواحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس(4/471)
كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا منه خفة في أول النهار فتفرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين وأخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء فبينا نحن على ذلك لم نكن على مثل حالنا في الرجاء والفرح قبل ذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخرجن عني هذا الملك يستأذن علي فخرج من في البيت غيري ورأسه في حجري فجلس وتنحيت في جانب البيت فناجى الملك طويلا ثم إنه دعاني فأعاد رأسه في حجري وقال للنسوة ادخلن فقلت ما هذا بحس جبريل عليه السلام فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل يا عائشة هذا ملك الموت جاءني فقال إن الله عز وجل أرسلني وأمرني أن لا أدخل عليك إلا بإذن فإن لم تأذن لي أرجع وإن أذنت لي دخلت وأمرني أن لا أقبضك حتى تأمرني فماذا أمرك فقلت أكفف عني حتى يأتيني جبريل عليه السلام فهذه ساعة جبريل فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب ولا رأى فوجمنا وكأنما ضربنا بصاخة ما نحير إليه شيئا وما يتكلم أحد من أهل البيت إعظاما لذلك الأمر وهيبة ملأت أجوافنا قالت وجاء جبريل في ساعته فسلم فعرفت حسه وخرج أهل البيت فدخل فقال إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك وهو أعلم بالذي تجد منك ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق وأن تكون سنة في أمتك فقال أجدني وجعا فقال أبشر فإن الله تعالى أراد أن يبلغك ما أعد لك فقال يا جبريل إن ملك الموت استأذن علي وأخبره الخبر فقال جبريل يا محمد إن ربك إليك مشتاق ألم يعلمك الذي يريد بك لا والله تعالى ما استأذن ملك الموت على أحد قط ولا يستأذن عليه أبدا إلا أن ربك متم شرفك وهو إليك مشتاق قال فلا تبرح إذن حتى يجىء وأذن للنساء فقال يا فاطمة ادنى فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تدمع وما تطيق الكلام ثم قال أدني مني رأسك فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك وما تطيق الكلام فكان الذي رأينا منها عجبا فسألتها بعد ذلك فقالت أخبرني وقال إني ميت اليوم فبكيت ثم قال إني دعوت الله أن يلحقك بي في أول أهلي وأن يجعلك معي فضحكت وأدنت ابنيها منه فشمهما قالت وجاء ملك الموت واستأذن فأذن له فقال الملك
ما تأمرنا يا محمد قال الحقني بربي الآن فقال بلى من يومك هذا أما إن ربك إليك مشتاق ولم يتردد عن أحد تردده عنك ولم ينهنى عن الدخول على أحد إلا بإذن غيرك ولكن ساعتك أمامك وخرج قالت وجاء جبريل فقال السلام عليك يا رسول الله هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبدا طوى الوحي وطويت الدنيا وما كان لي في الأرض حاجة غيرك ومالي فيها حاجة إلا حضورك ثم لزوم موقفي لا والذي بعث محمدا بالحق ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما يسمع من حديثه ووجدنا وإشفاقنا قالت فقمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أضع رأسه بين ثديي وأمسكت بصدره وجعل يغمى عليه حتى يغلب وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قط فجعلت أسلت ذلك العرق وما وجدت رائحة شيء أطيب منه فكنت أقول له إذا أفاق بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي ما تلقى جبهتك من الرشح فقال يا عائشة إن نفس المؤمن تخرج بالرشح ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار فعند ذلك ارتعنا وبعثنا إلى أهلنا فكان أول رجل جاءنا ولم يشهده أخي بعثه إلى أبي فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء أحد وإنما صدهم الله عنه لأنه ولاه جبريل وميكائيل وجعل إذا أغمى عليه قال بل الرفيق الأعلى كأن الخيرة تعاد عليه فإذا أطاق الكلام قال الصلاة الصلاة إنكم لا تزالون متماسكين ما صليتم جميعا الصلاة الصلاة كان يوصي بها حتى مات وهو(4/472)
يقول الصلاة الصلاة (1) قالت عائشة رضي الله عنها مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضحى وانتصاف النهار يوم الاثنين (2) قالت فاطمة رضي الله عنها ما لقيت من يوم الاثنين والله لا تزال الأمة تصاب فيه بعظيمة وقالت أم كلثوم يوم أصيب علي كرم الله وجهه بالكوفة مثلها ما لقيت من يوم الاثنين مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قتل علي كرم وفيه قتل أبي فما لقيت من يوم الاثنين وقالت عائشة رضي الله عنها لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحم الناس حين ارتفعت الرنة وسجى رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة بثوبة فاختلفوا فكذب بعضهم بموته وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد البعد وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير بيان وبقي آخرون معهم عقولهم وأقعد آخرون فكان عمر بن الخطاب فيمن كذب بموته وعلي فيمن أقعد وعثمان فيمن أخرس
فخرج عمر على الناس وقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت وليرجعنه الله عز وجل وليقطعن أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت إنما واعده الله عز وجل كما واعد موسى وهو آتيكم (3) وفي رواية أنه قال يا أيها الناس كفوا ألسنتكم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لم يمت والله لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلا علوته بسيفي هذا
وأما علي فإنه أقعد فلا يبرح البيت
وأما عثمان فجعل لا يكلم أحدا يؤخذ بيده فيجاء به ويذهب به ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعباس فإن الله عز وجل أيدهما بالتوفيق والسداد وإن كان الناس لم يرعووا إلا بقول أبي بكر حتى جاء العباس فَقَالَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت ولقد قال وهو بين أظهركم {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}
وبلغ أبا بكر الخبر وهو في بني الحرث بن الخزرج فجاء ودخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إليه
_________
(1) حديث عائشه لما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا منه خفة في أول النهار فتفرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين وأخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء فبينما نحن على ذلك لم يكن على مثل حالنا في الرجاء والفرح قبل ذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخرجن عني هذا ملك يستأذن على الحديث بطوله في مجيء ملك الموت ثم ذهابه ثم مجيء جبريل ثم مجيء ملك المووت ووفاته صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبراني في الكبير من حديث جابر وابن عباس مع اختلاف في حديث طويل فيه فلما كان يوم الأثنين اشتد الأمر وأوحى الله إلى ملك الموت ان اهبط إلى حبيبي وصفيى محمد صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وارفق به في قبض روحه وفيه دخول ملك الموت واستئذانه في قبضه فقال يا ملك الموت أين خلفت حبيبي جبريل قال خلفته في سماء الدنيا والملائكة يعزونه فيك فما كان بأسرع أن أتاه جبريل فقعد عند رأسه وذكر بشارة جبريل له بما أعد الله له وفيه ادن ياملك الموت فانته إلى ما أمرت به الحديث فيه فدنا ملك الموت يعالج قبض روح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر كربة لذلك إلى أن قال فقبض رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حديث طويل في ورقتين كبار وهو منكر وفيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان عن أبيه عن وهب بن منبه قال أحمد كان يكذب على وهب بن منبه وأبو إدريس أيضا متروك قاله الدارقطني ورواه الطبراني أيضا من حديث الحسين بن علي أن جبريل جاءه أولا فقال له عن ربه كيف تجدك ثم جاءه جبريل اليوم الثالث ومعه ملك الموت وملك الهواء إسماعيل وأن جبريل دخل أولا فسأله ثم استأذن ملك الموت وقوله إمض لما أمرت به وهو منكر أيضا فيه عبد الله بن ميمون القداح قال البخاري ذاهب الحديث ورواه أيضا من حديث ابن عباس في مجيء ملك الموت أولا واستأذانه وقووله ان ربك يقرأك السلام فقال أين جبريل فقال هو قريب مني الآن يأتي فخرج ملك الموت حتى نزل عليه جبريل الحديث وفيه المختار بن نافع منكر الحديث
(2) حديث عائشة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضحى وانتصاف النهار يوم الاثنين رواه بن عبد البر
(3) حديث عائشة لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحم الناس حين ارتفعت الرنة وسجي رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة بثوبه فاختلفوا فكذب بعضهم بموته وأخرس بعضهم فما تكلم لا بعد البعد وخلط آخرون ومعهم عقولهم وأقعد آخرين وكان عمر بن الخطاب ممن كذب بموته وعلي فيمن أقعد وعثمان فيمن أخرس فخرج عمر على الناس وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت الحديث إلى قوله عند ربكم تختصرون لم أجد له أصلا وهو منكر(4/473)
ثم أكب عليه فقبله ثم قال بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كان الله تعالى ليذيقك الموت مرتين فقد والله توفي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خرج إلى الناس فقال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد رب محمد فإنه حى لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم الآية (1) فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية إلا يومئذ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما بلغه الخبر دخل بيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيناه تهملان وغصصه ترتفع كقصع الجرة وهو في ذلك جلد الفعل والمقال فأكب عليه فكشف عن وجهه وقبل جبينه وخديه ومسح وجهه وجعل يبكي ويقول بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي طبت حيا وميتا انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء والنبوة فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء ولولا أن موتك كان اختيارا منك لجدنا لحزنك بالنفوس ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء العيون فأما مالا نستطيع نفيه عنا فكمد وأدكار محالفان لا يبرحان اللهم فأبلغه عنا اذكرنا يا محمد صلى الله عليك عند ربك ولنكن من بالك فلولا ما خلفت من السكينة لم يقم أحد لما خلفت من الوحشة اللهم أبلغ نبيك عنا وأحفظه فينا (2)
وعن ابن عمر أنه لما دخل أبو بكر البيت وصلى وأثنى عج أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلى كلما ذكر شيئا ازدادوا فما سكن عجيجهم إلا تسليم رجل على الباب صيت جلد قال السلام عليكم يا أهل البيت {كل نفس ذائقة الموت} الآية إن في الله خلفا من كل أحد ودركا لكل رغبة ونجاة من كل مخافة فالله تعالى فارجوا وبه فثقوا
فاستمعوا له وأنكروه وقطعوا البكاء فلما انقطع البكاء فقد صوته فاطلع أحدهم فلم ير أحدا ثم عادوا فبكوا فناداهم مناد آخر لا يعرفون صوته يا اهل البيت اذكروا الله تعالى واحمدوه على كل حال تكونوا من المخلصين إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل رغيبة فالله فأطيعوا وبأمره فاعملوا
فقال أبو بكر هذا الخضر واليسع عليهما السلام حضرا النبي صلى الله عليه وسلم (3) واستوفى القعقاع بن عمرو حكاية خطبة أبي بكر رضي الله عنه فقال قام أبو بكر في الناس
_________
(1) حديث بلغ أبا بكر الخبر وهو في بنى الحارث بن الخزرج فجاء فدخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إليه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال بأبي أنت وأمي ما كان الله ليذيقك الموت مرتين الحديث إلى آخر قوله وكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية إلا يومئذ أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسمح حتى نزل ودخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مغشى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال بأبي وأمي أنت والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموته التي كتبت عليك فقد متها ولهما من حديث ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس الحديث وفيه ولله ولكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر لفظ البخاري فيهما
(2) حديث أن أبا بكر لما بلغه الخبر دخل بيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيناه تهملان وغصصه ترتفع كقسع الحرة وهو في ذلك جلد الفعل والمقال فأكب عليه فكشف الثوب عن وجهه الحديث إلى قوله واحفظه فينا أخرجه ابن ابي الدنيا في كتاب العزاء من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف جاء أبو بكر ورسوله الله صلى الله عليه وسلم مسجى فكشف الثوب عن وجهه الحديث إلى آخره
(3) حديث ابن عمر في سماع التعزية به صلى الله عليه وسلم إن في الله خلفا من كل أحد ودركا لكل رغبة ونجاة من كل مخافة فالله فارجوا وبه فثقوا ثم سمعوا آخر بعده أن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل مصيبة فالله فاطيعوا وبأمره فاعملوا فقال أبو بكر هذا الخضر واليسع لم أجد فيه ذكر اليسىء وأما ذكر الخضر في التعزية فأنكر النووي في كتب الحديث وقال إنما ذكره الأصحاب قلت بلى قد رواه الحاكم في المستدرك في حديث أنس ولم يصححه ولا يصح رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء من حديث أنس أيضا قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أجتمع أصحابه حوله يبكون فدخل عليهم رجلا طويل شعر المنكبين في إزار ورداء يتخطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخذ بعضاضتي باب البيت فبكى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أقبل على أصحاب فقال إن إن في الله عزاء من كل مصيبه وعوض من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله تعالى فأنيبوا ونظره إليكم في البلاء فإنظروا فإن المصاب من لم يجبره الثواب ثم ذهب الرجل فقال أبو بكر على الرجل فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحد فقال أبو بكر لعل هذا الخضر أخو نبينا عليه السلام جاء يعزينا ورواه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف جدا ورواه ابن أبي الدنيا أيضا من حديث علي ابن أبي طالب لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء آت نسمع حسه ولا نرى شخصه قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن في الله عوضا من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فأرجوا فأن المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم فقال على تدرون من هذا هو الخضر وفيه محمد بن جعفر الصادق تكلم فيه وفيه أنقطاع بين علي بن الحسين وبين جدة علي والمعروف عن علي بن الحسين مرسلا من غير ذكر على كما رواه الشافعي في الأم وليس فيه ذكر الخضر(4/474)
خطيبا حيث قضى الناس عبراتهم بخطبة جلها الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله وأثنى عليه على كل حال وَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده صدق وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلله الحمد وحده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وأشهد أن الكتاب كما شرع وأن الدين كما شرع وأن الحديث كما حدث وأن القول كما قال وأن الله هو الحق المبين اللهم فصل على محمد عبدك ورسولك ونبيك وحبيبك وأمينك وخيرتك وصفوتك بأفضل ما صليت به على أحد من خلقك اللهم واجعل صلواتك ومعافاتك ورحمتك على سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين محمد قائد الخير وإمام الخير ورسول الرحمة اللهم قرب زلفته وعظم برهانه وكرم مقامه وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون وألاخرون وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة واخلفه فينا في الدنيا والآخرة وبلغه الدرجة والوسيلة في الجنة اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم إنك حميد مجيد أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت وإن الله قد قدم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعا فإن الله عز وجل قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده على ما عندكم وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم ولا يفتننكم عن دينكم وعالجوا الشيطان بالخير تعجزوه ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم
وقال ابن عباس لما فرغ أبو بكر من خطبته قال يا عمر أنت الذي بلغني انك تقول ما مات نبي الله صلى الله عليه وسلم أما ترى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا كذا وكذا ويوم كذا كذا وكذا وقال تعالى في كتابه {إنك ميت وإنهم ميتون} فقال والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا أشهد أن الكتاب كما أنزل وأن الحديث كما حدث وأن الله حي لا يموت {إنا لله وإنا إليه راجعون} وصلوات الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله صلى الله عليه وسلم ثم جلس إلى أبي بكر
وقالت عائشة رضي الله عنها لما اجتمعوا لغسله قالوا والله ما ندري كيف نغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنجرده عن ثيابه كما نصنع بموتانا أو نغسله في ثيابه قالت فأرسل الله عليهم النوم حتى ما بقي منهم رجل إلا واضع لحيته على صدره نائما ثم قال قائل لا يدري من هو غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه فانتبهوا ففعلوا ذلك فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه حتى إذا فرغوا من غسله كفن
وقال علي كرم الله وجهه أردنا خلع قميصه فنودينا لا تخلعوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثيابه
فأقررناه فغسلناه في قميصه كما نغسل موتانا مستلقيا ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه إلا قلب لنا حتى نفرغ منه وإن معنا لحفيفا في البيت كالريح الرخاء ويصوت بنا ارفقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم ستكفون فهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك(4/475)
سبدا ولا لبدا إلا دفن معه
قال أبو جعفر فرش لحده بمفرشه وقطيفته وفرشت ثيابه عليها التي كان يلبس يقظان على القطيفة والمفرش ثم وضع عليها في أكفانه فلم يترك بعد وفاته مالا ولا نبي في حياته لبنة على لبنة ولا وضع قصبة على قصبة (1) ففي وفاته عبرة تامة وللمسلمين به أسوة حسنة وفاة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
لما احتضر أبو بكر رضي الله تعالى عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال ليس كذا ولكن قولي {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما فإن الحي إلى الجديد أحوج من الميت
وقالت عائشة رضي الله عنها عند موته
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقال أبو بكر ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا عليه فقالوا ألا ندعوا لك طبيبا ينظر إليك قال قد نظر إلى طبيبي وقال إني فعال لما أريد
ودخل عليه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه يعوده فقال يا أبا بكر أوصنا فقال إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا تأخذن منها إلا بلاغك واعلم أن من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تخفرن الله في ذمته فيكبك في النار على وجهك
ولما ثقل أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأراد الناس منه أن يستخلف فاستخلف عمر رضي الله عنه فقال الناس له استخلفت علينا فظا غليظا فماذا تقول لربك فقال أقول استخلفت على خلقك خير خلقك
ثم أرسل إلى عمر رضي الله عنه فجاء فقال إني موصيك بوصية اعلم إن لله حقا في النهار لا يقبله في الليل وأن لله حقا في الليل لا يقبله في النهار وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل وإنما خفت موازين من خفت موزاينهم يوم القيامة باتباع الباطل وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلاالباطل أن يخف وإن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم فيقول القائل أنا دون هؤلاء ولا أبلغ مبلغ صالح الذي عملوا فيقول القائل أنا أفضل من هؤلاء وإن الله ذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغبا راهبا ولا يلقى بيديه إلى التهلكة ولا يتمنى على الله غير الحق
فإن حفظت وصيتي هذه فلا يكون غائب أحب إليك من الموت ولا بد لك منه وإن ضيعت وصيتي فلا يكون غائب أبغض إليك من الموت ولا بد لك منه ولست بمعجزه
وقال سعيد بن المسيب لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه أتاه ناس من الصحابة فقالوا يا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زودنا فإنا نراك لما بك
فقالوا أبو بكر من قال هؤلاء الكلمات ثم مات جعل الله روحه في الأفق المبين قالوا وما الأفق المبين قال قاع بين يديالعرش فيه رياض الله وأنهار وأشجار يغشاه كل يوم مائة
_________
(1) حديث أبي جعفر فرش لحده بمفرشه وقطيفته وفيه فلم يترك بعد وفاته مالا ولا بنى في حياته لبنة على لبنة ولا وضع قصبة على قصبة أما وضع المفرشة والقطيفته فالذي وضع القطيفة شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذكر ذلك من شرط كتابنا وأما كونه لم يترك مالا فقد تقدم من حديث عائشة وغيرها وأما كونه ما بنا في حياته فتقدم أيضا(4/476)
رحمة فمن قال هذا القول جعل الله روحه في هذا المكان اللهم إنك ابتدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم ثم جعلتهم فريقين فريقا للنعيم وفريقا للسعير فاجعلني للنعيم ولا تجعلني للسعير اللهم إنك خلقت الخلق فرقا وميزتهم قبل أن تخلقهم فجعلت منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا فلا تشقني بمعاصيك
اللهم إنك علمت ما تكسب كل نفس قبل أن تخلقها فلا محيص لها مما علمت فاجعلني ممن تستعمله بطاعتك اللهم إن أحدا لا يشاء حتى تشاء فاجعل مشيئتك أن أشاء ما يقربني إليك
اللهم إنك قد قدرت حركات العباد فلا يتحرك شيء إلا بإذنك فاجعل حركاتي في تقواك اللهم إنك خلقت الخير والشر وجعلت لكل واحد منهما عاملا يعمل به فاجعلني من خير القسمين اللهم إنك خلقت الجنة والنار وجعلت لكل واحدة منهما أهلا فاجعلني من سكان جنتك
اللهم إنك أردت بقوم الضلال وضيقت به صدورهم فاشرح صدري للإيمان وزينه في قلبي اللهم إنك دبرت الأمور وجعلت مصيرها إليك فأحيني بعد الموت حياة طيبة وقربني إليك زلفى اللهم من أصبح وأمسى ثقته ورجاؤه غيرك فأنت ثقتي ورجائي ولا حول ولا قوة إلا بالله قال أبو بكر هذا كله في كتاب الله عز وجل وفاة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
قال عم بن ميمون كنت قائما غداة أصيب عمر ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس وكان إذا مر بين الصفين قام بينهما فإذا رأى خللا قال استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا لا تقدم فكبر قال وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن أكبر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة وطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا أو شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا فمات منهم تسعة وفي رواية سبعة
فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه
وتناول عمر رضي الله تعالى عنه عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأما من كان يلي عمر فقد رأى ما رأيت وأما نواحي المسجد ما يدرون ما الأمر غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا ابن العباس انظر من قتلني قال فغاب ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة بن شعبة فقال عمر رضي الله عنه قاتله الله لقد كنت أمرت به معروفا
ثم قال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل مسلم قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال ابن عباس إن شئت فعلت أي إن شئت قتلناهم قال بعدما تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه قال وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ قال فقائل يقول أخاف عليه وقائل يقول لا بأس
فأتى بنبيذ فشرب منه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فشرب منه فخرج من جوفه فعرفوا أنه ميت
قال فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى من الله عز وجل قد كان لك صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة فقال وددت أن ذلك كان كفافاً لا علي ولا لي
فلما أدبر الرجل إذا إزاره يمس الأرض فقال ردوا على الغلام فقال يا ابن أخي أرفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك
ثم قال يا عبد الله انظر ما على من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه فقال إن وفي به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم وأد عني هذا المال وانطلق إلى أم المؤمنين عائشة فقل(4/477)
عمر يقرأ عليك السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه
فذهب عبد الله فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر ابن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما اقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء فقال ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين قد أذنت قال الحمد لله ما كان شيء أهم إلى من ذلك فإذا أنا قبضت فاحملوني ثم سلم وقل يستأذن عمر فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين
وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء يسترنها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فكبت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت داخلا فسمعنا بكاءها من داخل فقالوا أوص يا أمير المؤمنين واستخلف فقال ما أرى أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمارة سعدا فذاك وإلا فليستعن به أيكم أمر فإني لم اعز له من عجز ولا خيانة
وقال أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم فضلهم وبحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة الأموال وغيظ العدو وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام وأن يأخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله عز وجل وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل لهم من وراءهم ولا يكلفهم إلا طاقتهم قال فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال يستأذن عمر بن الخطاب فقالت أدخلوه فأدخلوه في موضع هنالك مع صاحبيه الحديث
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل عليه السلام ليبك الإسلام على موت عمر (1) وعن ابن عباس قال وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي فالتفت فإذا هو عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فترحم على عمر وقال ما خلفت أحد أحب إلى أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن ليجعلنك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذهبت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر // حديث ابن عباس قال وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون فذكر قول علي بن أبي طالب كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذهبت أنا وأبو بكر وعمر الحديث متفق عليه فإني كنت لأرجو أن لأظن أن يجعلك الله معهما وفاة عثمان رضي الله عنه
الحديث في قتله مشهور
وقد قال عبد الله بن سلام أتيت أخي عثمان لأسلم عليه وهو محصور فدخلت عليه فقال مرحبا يا أخي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في هذه الخوخة وهي خوخة في البيت فقال يا عثمان حصروك قلت نعم قال عطشوك قلت نعم فأدلى إلى دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت حتى
_________
(1) حديث قال لي جبريل عليه السلام لبيك الإسلام على موت عمر أخرجه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من حديث أبي بن كعب بسند ضعيف جدا وذكره ابن الجوزي في الموضوعات(4/478)
إني لأجد برده بين ثديي وبين كتفي وقال لي إن شئت نصرت عليهم وإن شئت أفطرت عندنا فاخترت أن أفطر عنده فقتل ذلك اليوم رضي الله عنه وقال عبد الله بن سلام لمن حضر تشحط عثمان في الموت حين جرح ماذا قال عثمان وهو يتشحط قالوا سمعناه يقول اللهم اجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثا قال والذي نفسي بيده لو دعا الله أن لا يجتمعوا أبدا ما اجتمعوا إلى يوم القيامة
وعن ثمامة بن حزن القشيري قال شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه فقال ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم على قال فجيء بهما كأنما هما حملان أو حماران فأشرف عليهم عثمان رضي الله عنه فقال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال من يشترى رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني ان أشرب منها ومن ماء البحر قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أنى جهزت جيش العسرة من مالي قالوا نعم أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن المسجد كان ضاق بأهله فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يشترى بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالى فأنتم اليوم تمنعونى أن أصلى فيها ركعتين قالوا اللهم نعم قالوا أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير بمكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى تساقط حجارته بالحضيض قال فركضه برجله وقال أسكن ثبير فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان قالوا اللهم نعم قال الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد (1) وروى عن شيخ من ضبة أن عثمان حين ضرب والدماء تسيل على لحيته جعل يقول {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} اللهم إني أستعديك عليهم وأستعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على ما ابتليتني وفاة علي كرم الله وجهه
قال الأصبغ الحنظلي لما كانت الليلة التي أصيب فيها علي كرم الله وجهه اتاه ابن التياح حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهو مضطجع متثاقل فعاد الثانية وهو كذلك ثم عاد الثالثة فقام علي يمشي وهو يقول
اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لافيكا
ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا
فلما بلغ الباب الصغير شد عليه ابن ملجم فضربه
فخرجت أم كلثوم أبنة علي رضى الله وعنه فجعلت تقول مالي ولصلاة الغداة قتل زوجي أمير المؤمنين صلاة الغداة وقتل أبي صلاة
الغداة وعن شيخ من قريش أن علياً كرم الله وجهه لما ضربه ابن ملجم قال فزت ورب الكعبة
وعن محمد بن علي أنه لما ضرب أوصى بنيه ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض
ولما ثقل الحسن بن علي رضي الله عنهما دخل عليه الحسين رضي الله عنه فقال يا أخي لأي شيء تجزع تقدم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى علي بن أبي طالب وهما أبواك وعلى خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وهما أماك وعلى حمزة وجعفر وهما عماك قال يا أخي أقدم على أمر لم أقدم على مثله
وعن محمد بن الحسن رضي الله عنهما قال لما نزل القوم بالحسين رضي الله عنه وأيقن أنهم قاتلوه قام في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال قد نزل من الأمر ما ترون وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر
_________
(1) حديث ثمامه بن حزن الفشيري شهدت الدارحين أشرف عليهم عثمان الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن والنسائي(4/479)
معروفها وانشمرت حتى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء ألا حسبي من عيش كالمرعي الوبيل ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا ينتاهي عنه ليرغب الؤمن في لقاء الله تعالى وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا جرما
الباب الخامس في كلام المحتضرين من الخلفاء والأمراء والصالحين
لما حضرت معاوية بن أبي سفيان الوفاة قال أقعدوني فأقعد فجعل يسبح الله تعالى ويذكره ثم بكى وقال تذكر ربك يا معاوية بعد الهرم والانحطاط إلا كان هذا وغصن الشباب نضر ريان وبكى حتى علا بكاؤه وقال يا رب أرحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي اللهم أقل العثرة واغفر الزلة وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولم يثق بأحد سواك
وروى عن شيخ من قريش انه دخل مع جماعة عليه في مرضه فرأوا في جلده غضونا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فهل الدنيا أجمع إلا ما جربنا ورأينا أما والله لقد استقبلنا زهرتها بجدتنا وباستلذاذنا بعيشنا فما لبثتنا الدنيا أن نقضت ذلك منا حالا بعد حال وعروة بعد عروة فأصبحت الدنيا وقد وترتنا وأخلفتنا واستلأمت إلينا أف للدنيا من دار ثم أف لها من دار
ويروى أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال أيها الناس إني من زرع قد استحصد وإني وليتكم ولن يليكم أحد من بعدي إلا وهو شر مني كما كان من قبلي خيرا مني ويا يزيد إذا وفى أجلي فول غسلي رجلا لبيبا فإن اللبيب من الله بمكان فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني واجعل الثوب على جلدي دون أكفاني ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين فإذا أدرجتموني في جديدي ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين وقال محمد بن عقبة لما نزل بمعاوية الموت قال يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى وإني لم أل من هذا الأمر شيئا
ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة نظر إلى غسال بجانب دمشق يلوي ثوبا بيده ثم يضرب به المغسلة فقال عبد الملك ليتني كنت غسالا آكل من كسب يدي يوما بيوم ولم أل من أمر الدنيا شيئا فبلغ ذلك أبا حازم فقال الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه وإذا حضرنا الموت لم نتمن ما هم فيه
وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه كيف تجدك يا أمير المؤمنين قال أجدني كما قال الله تعالى {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} الآية ومات
وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت من عنده فجلست في بيت آخر بيني وبينه باب وهو في قبة له فسمعته يقول {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} ثم هدا فجعلت لا أسمع حركة ولا كلاما فقلت لوصيف له انظر أنائم هو فلما دخل صاح فوثبت فإذا هو ميت
وقيل له لما حضره الموت أعهد يا أمير المؤمنين قال احذركم مثل مصرعي هذا فإنه لا بد لكم منه وروى أنه لما ثقل عمر بن عبد العزيز دعى له طبيب فلما نظر إليه قال أرى الرجل قد سقى السم ولا آمن عليه الموت فرفع عمر بصره وقال ولا تأمن الموت أيضا على من لم يسق السم قال الطبيب هل أحسست بذلك يا أمير المؤمنين قال نعم قد عرفت ذلك حين وقع في بطني قال فتعالج يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن تذهب نفسك قال ربي خير مذهوب إليه والله لو علمت أن شفائي عند شحمة أذنى(4/480)
ما رفعت يدي إلى أذنى فتناولته
اللهم خر لعمر في لقائك فلم يلبث إلا أياما حتى مات وقيل لما حضرته الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك يا أمير المؤمنين أبشر فقد أحيا الله بك سننا وأظهر بك عدلا فبكى ثم قال أليس أوقف فأسئل عن أمر هذا الخلق فوالله لو عدلت فيهم لخفت على نفسي أن لا تقوم بحجتها بين يدي الله إلا أن يلقنها الله حجتها فكيف بكثير مما ضيعنا وفاضت عيناه فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات ولما قرب وقت موته قال أجلسوني فأجلسوه فقال أنا الذي امرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ثلاث مرات ولكن لا إله إلا الله ثم رفع رأسه فأحد النظر فقيل له في ذلك فقال إني لأرى خضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله
وحكى عن هرون الرشيد أنه انتقى أكفانه بيده عند الموت وكان ينظر إليها ويقول {ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه}
وفرش المأمون رمادا واضطجع عليه وكان يقول يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه وكان المعتصم يقول عند موته لو علمت ان عمري هكذا قصير ما فعلت
وكان المنتصر يضطرب على نفسه عند موته فقيل له لا بأس عليك يا أمير المؤمنين فقال ليس إلا هذا لقد ذهبت الدنيا واقبلت الآخرة
وقال عمرو بن العاص عند الوفاة وقد نظر إلى صناديق لبنيه من يأخذها بما فيها ليته كان بعرا
وقال الحجاج عند موته اللهم أغفر لي فإن الناس يقولون إنك لا تغفر لي
فكان عمر بن عبد العزيز تعجبه هذه الكلمة منه ويغبطه عليها ولما حكى ذلك للحسن قال أقالها قيل نعم قال عسى
بيان أقاويل جماعة من خصوص الصالحين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من
أهل التصوف رضي الله عنهمم أجمعين
لما حضرت معاذاً رضي الله عنه الوفاة قال اللهم إني قد كنت أخافك وأنا اليوم ارجوك اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجرى الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر ولما اشتد به النزع ونزع نزعا لم ينزعه احد كان كلما أفاق من غمرة فتح طرفه ثم قال رب ما أخنقني خنقك فوعزتك إنك تعلم أن قلبي يحبك
ولما حضرت سلمان الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك قال ما أبكى جزعا على الدنيا ولكن عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب (1) فلما مات سلمان نظر في جميع ما ترك فإذا قيمته بضعة عشر درهما
ولما حضرت بلالا الوفاة قالت امرأته واحزناه فقال بل واطرباه غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه
وقيل فتح عبد الله بن المبارك عينه عند الوفاة وضحك وقال {لمثل هذا فليعمل العاملون}
ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك قال انتظر من الله رسولا يبشرني بالجنة أو بالنار ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال والله ما أبكى لذنب أعلم أني أتيته ولكن
_________
(1) حديث لما حضرت سلمان الوفاة بكى وفيه عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب أخرجه أحمد والحاكم وصححه وقد تقدم(4/481)
أخاف أني أتيت شيئا حسبته هيناً وهو عند الله عظيم
ولما حضرت عامر بن عبد القيس الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك قال ما أبكى جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن ابكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء ولما حضرت فضيلا الوفاة غشي عليه ثم فتح عينيه وقال وابعد سفراه واقلة زاده
ولما حضرت ابن المبارك الوفاة قال لنصر مولاه
اجعل رأسي على التراب فبكى نصر فقال له ما يبكيك قال ذكرت ما كنت فيه من النعيم وأنت هو ذا تموت فقيرا غريبا قال اسكت فإني سألت الله تعالى أن يحييني حياة الأغنياء وأن يميتني موت الفقراء ثم قال له لقنى ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلام ثان
وقال عطاء بن يسار تبدى إبليس لرجل عند الموت فقال له نجوت فقال ما آمنك بعد
وبكى بعضهم عند الموت فقيل له ما يبكيك آية في كتاب الله تعالى قوله عز وجل {إنما يتقبل الله من المتقين} ودخل الحسن رضي الله عنه على رجل يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا أوله لجدير أن يتقي آخره وإن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله وقال الجريري كنت عند الجنيد في حال نزعه وكان يوم الجمعة ويوم النيروز وهو يقرأ القرآن فختم فقلت له في الحالة يا أبا القاسم فقال ومن أولى بذلك مني وهو ذا تطوى صحيفتى وقال رويم حضرت وفاة أبي سعيد الخراز وهو يقول حنين قلوب العارفين إلى الذكر ... وتذكارهم وقت المناجاة للسر
أديرت كؤوس للمنايا عليهم ... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي الشكر
همومهم جوالة بمعسكر ... به أهل ود الله كالأنجم الزهر
فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر
وقيل للجنيد إن أبا سعيد الخزاز كان كثير التواجد عند الموت فقال لم يكن بعجب أن تطير روحه اشتياقا
وقيل لذي النون عند موته ما تشتهي قال أن أعرفه قبل موتي بلحظة
وقيل لبعضهم وهو في النزع قل الله فقال إلى متى تقولون الله وأنا محترق بالله
وقال بعضهم كنت عند ممشاد الدينوري فقدم فقيرا وقال السلام عليكم هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه قال فأشاروا إليه بمكان وكان ثم عين ماء فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله ومضى إلى ذلك المكان ومد رجليه ومات وكان أبو عباس الدينوري يتكلم في مجلسه فصاحت امرأة تواجدا فقال لها موتى فقامت المرأة فلما بلغت الدار التفتت إليه وقالت قد مت ووقعت ميتة
ويحكى عن فاطمة أخت أبي علي الروذباري قالت لما قرب أجل أبي علي الروذباري وكان رأسه في حجري فتح عينيه وقال هذه أبواب السماء قد فتحت وهذه الجنان قد زينت وهذا قائل يقول يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها ثم أنشا يقول
وحقك لا نظرت إلى سواكا ... بعين مودة حتى أراكا
أراك معذبي بفتور لحظ ... وبالخد المورد من حياكا
وقيل للجنيد قل لا إله إلا الله فقال ما نسيته فأذكره وسأل جعفر بن نصير بكران أن الدينوري خادم الشبلي ما الذي رأيت منه فقال قال على درهم مظلمة وتصدقت عن صاحبه بألوف فما على قلبي شغل أعظم منه ثم(4/482)
قال وضئني للصلاة ففعلت فنسيت تخليل لحيته وقد أمسك على لسانه فقبض على يدي وأدخلها في لحيته ثم مات فبكى جعفر وقال ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة وقيل لبشر بن الحارث لما احتضر وكان يشق عليه كأنك تحب الحياة فقال القدوم على الله شديد
وقيل لصالح بن مسمار ألا توصي بابنك وعيالك فقال إني لأستحي من الله أن أوصي بهم إلى غيره ولما احتضر أبو سليمان الداراني أتاه أصحابه فقالوا أبشر فإنك تقدم على رب غفور رحيم فقال لهم ألا تقولون احذر فإنك تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير ولما احتضر أبو بكر الواسطي قيل له أوصنا فقال احفظوا مراد الحق فيكم واحتضر بعضهم فبكت امرأته فقال لها ما يبكيك فقالت عليك أبكي فقال إن كنت باكية فابكي على نفسك فلقد بكيت لهذا اليوم أربعين سنة
وقال الجنيد دخلت على سري السقطي أعوده في مرض موته فقلت كيف تجدك فأنشأ يقول
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابني من طبيبي
فأخذت المروحة لأروحه فقال كيف ريح المروحة يجد من جوفه يحترق ثم أنشأ يقول
القلب محترق والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا رب إن يك شيء فيه لي فرج ... فامنن على به ما دام بي رمق
وحكي أن قوماً من أصحاب الشبلي دخلوا عليه وهو في الموت فقالوا له قل لا إله إلا الله فأنشأ يقول
إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجا ... يوم أدعو منك بالفرج
وحكى أن أبا العباس بن عطاء دخل على الجنيد في وقت نزعه فسلم عليه فلم يجبه ثم أجاب بعد ساعة وقال أعذرني فإني كنت في وردى ثم ولى وجهه إلى القبلة وكبر ومات
وقيل للكناني لما حضرته الوفاة ما كان عملك فقال لو لم يقرب أجلي ما أخبرتكم به وقفت على باب قلبي أربعين سنة فكلما مر فيه غير الله حجبته عنه
وحكى عن المعتمر قال كنت فيمن حضر الحكم بن عبد الملك حين جاءه الحق فقلت اللهم هون عليه سكرات الموت فإنه كان وكان فذكرت محاسنه فأفاق فقال من المتكلم فقلت أنا فقال إن ملك الموت عليه السلام يقول لي إني بكل سخي رفيق ثم طفئ
ولما حضرت يوسف بن أسباط الوفاة شهده حذيفة فوجده قلقا فقال يا أبا محمد هذا أوان القلق والجزع فقال يا أبا عبد الله وكيف لا أقلق ولا أجزع وإني لا أعلم أني صدقت الله في شيء من عملي فقال حذيفة واعجباه لهذا الرجل الصالح يخلف عند موته أنه لا يعلم أنه صدق الله في شيء من عمله
وعن المغازلي قال دخلت على شيخ لي من أصحاب هذه الصفة وهو عليل وهو يقول يمكنك أن تعمل ما تريد فارفق بي ودخل بعض المشايخ على ممشاد الدينوري في وقت وفاته فقال له فعل الله تعالى وصنع من باب الدعاء فضحك ثم قال منذ ثلاثين سنة تعرض على الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي
وقيل لرويم عند الموت قل لا إله إلا الله فقال لا أحسن غيره
ولما حضرت الثوري الوفاة قيل له قل لا إله إلا الله فقال أليس ثم أمر ودخل المزني على الشافعي رحمة الله عليهما في مرضه الذي توفي فيه فقال له كيف أصبحت(4/483)
يا أبا عبد الله فقال أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا ولسوء عملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا وعلى الله تعالى واردا ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ثم أنشأ يقول
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما
ولولاك لم يغوي بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما
ولما حضرت أحمد بن خضروية الوفاة سئل عن مسئلة فدمعت عيناه وقال يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح الساعة لي لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة فآن لي أوان الجواب
فهذه أقاويلهم وإنما اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم فغلب على بعضهم الخوف وعلى بعضهم الرجاء وعلى بعضهم الشوق والحب فتكلم كل واحد منهم على مقتضى حاله والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم
الباب السادس في أقاويل العارفين على الجنائز والمقابر وحكم زيارة
القبور
أعلم أَنَّ الْجَنَائِزَ عِبْرَةٌ لِلْبَصِيرِ وَفِيهَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُهُمْ مُشَاهَدَتُهَا إِلَّا قساوة لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ أَبَدًا إِلَى جِنَازَةِ غَيْرِهِمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْجَنَائِزِ يُحْمَلُونَ أَوْ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ عَلَى الْقُرْبِ لَا يَقَدِّرُونَ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ أَنَّ الْمَحْمُولِينَ على الجنائز هكذا كانوا يَحْسَبُونَ فَبَطَلَ حُسْبَانُهُمْ وَانْقَرَضَ عَلَى الْقُرْبِ زَمَانُهُمْ فَلَا يَنْظُرُ عَبْدٌ إِلَى جِنَازَةٍ إِلَّا وَيُقَدِّرُ نَفْسَهُ مَحْمُولًا عَلَيْهَا فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا عَلَى الْقُرْبِ وَكَأَنْ قَدْ وَلَعَلَّهُ فِي غَدٍ أَوْ بعد غد
ويروى عن أبي هريرة أنه كان إذا رأى جنازة قال امضوا فإنا على الأثر
وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال اغدوا فإنا رائحون
موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له
وقال أسيد بن حضير ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه
ولما مات اخو مالك بن دينار خرج مالك في جنازته يبكي ويقول والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ماذا صرت إليه ولا أعلم ما دمت حياً
وقال الأعمش كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزى لحزن الجميع
وقال ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ فَلَا نَرَى إِلَّا مُتَقَنِّعًا بَاكِيًا
فَهَكَذَا كَانَ خَوْفُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ
وَالْآنَ لَا نَنْظُرُ إِلَى جَمَاعَةٍ يَحْضُرُونَ جِنَازَةً إِلَّا وَأَكْثَرُهُمْ يَضْحَكُونَ وَيَلْهُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي مِيرَاثِهِ وَمَا خَلَّفَهُ لِوَرَثَتِهِ وَلَا يَتَفَكَّرُ أَقْرَانُهُ وَأَقَارِبُهُ إِلَّا فِي الْحِيلَةِ الَّتِي بِهَا يَتَنَاوَلُ بَعْضَ مَا خَلَّفَهُ وَلَا يَتَفَكَّرُ واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه وفي حَالِهِ إِذَا حُمِلَ عَلَيْهَا وَلَا سَبَبَ لِهَذِهِ الْغَفْلَةِ إِلَّا قَسْوَةُ الْقُلُوبِ بِكَثْرَةِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ حَتَّى نَسِينَا اللَّهَ تَعَالَى وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَالْأَهْوَالَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا فَصِرْنَا نَلْهُو وَنَغْفُلُ وَنَشْتَغِلُ بما لا يعنينا
فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْيَقَظَةَ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ فإن أحسن أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤهم على الميت ولو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الميت
نظر إبراهيم الزيات إلى إناس يترحمون على الميت فقال لو ترحمون على أنفسكم لكان خيرا لكم إنه نجا من أهوال ثلاثة وجه ملك الموت وقد رأى ومرارة الموت وقد ذاق وخوف الخاتمة وقد أمن
وقال أبو عمرو بن العلاء جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه شعرا فأطلعت جنازة فأمسك وقال شيبتي والله هذه الجنائز
وأنشأ يقول
تروعنا الجنائز مقبلات ... ونلهو حين تذهب مدبرات(4/484)
كروعة ثلة لمغار ذئب ... فلما غاب عادت راتعات
فمن آداب حضور الجنائز التَّفَكُّرُ وَالتَّنَبُّهُ وَالِاسْتِعْدَادُ وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا عَلَى هَيْئَةِ التواضع كما ذكرنا آدابه وسننه في فن الفقه وَمِنْ آدَابِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الصلاح فإن الخاتمة مخطرة لا تدري حقيقتها
ولذلك روي عن عمر بن ذر أنه مات واحد من جيرانه وكان مسرفا على نفسه فتجافى كثير من الناس عن جنازته فحضرها هو وصلى عليها فلما دلى في قبره وقف على قبره وقال يرحمك الله يا أبا فلان فلقد صحبت عمرك بالتوحيد وعفرت وجهك بالسجود وإن قالوا مذنب وذو خطايا فمن منا غير مذنب وغير ذي خطايا ويحكى أن رجلا من المنهمكين في الفساد مات في بعض نواحي البصرة فلم تجد امرأته من يعينها على مل جنازته إذ لم يدر بها أحد من جيرانه لكثرة فسقه فاستأجرت حمالين وحملتها إلى المصلى فما صلى عليه أحد فحملتها إلى الصحراء للدفن فكان على جبل قريب من الموضع زاهد من الزهاد الكبار فرأته كالمنتظر للجنازة ثم قصد أن يصلي عليها فانتشر الخبر في البلد بأن الزاهد نزل ليصلي على فلان فخرج أهل البلد فصلى الزاهد وصلوا عليه وتعجب الناس من صلاة الزاهد عليه فقال قيل لي في المنام انزل إلى موضع فلان ترى فيه جنازة ليس معها أحد إلا امرأة فصل عليه فإنه مغفور له فزاد تعجب الناس فاستدعى الزاهد امرأته وسألها عن حاله وأنه كيف كانت سيرته قالت كما عرف كان طول نهاره في الماخور مشغولا بشرب الخمر فقال انظري هل تعرفين منه شيئا من أعمال الخير قالت نعم ثلاثة أشياء كان كل يوم يفيق من سكره وقت الصبح يبدل ثيابه ويتوضأ ويصلي الصبح في جماعة ثم يعود إلى الماخور ويشتغل بالفسق والثاني أنه كان أبدا لا يخلو بيته من يتيم أو يتيمين وكان إحسانه إليهم أكثر من إحسانه إلى أولاده وكان شديد التفقد لهم
والثالث أنه كان يفيق في أثناء سكره في ظلام الليل فيبكي ويقول يا رب أي زاوية من زوايا جهنم تريد أن تملأها بهذا الخبيث يعني نفسه
فانصرف الزاهد وقد ارتفع إشكاله من أمره
وعن صلة بن أشيم وقد دفن أخ له فقال على قبره
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا
بيان حال القبر وأقاويلهم عند القبور
قال الضحاك قال رجل يا رسول الله من أزهد الناس قال من لم ينس القبر والبلى وترك فضل زينة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد غدا من أيامه وعد نفسه من أهل القبور (1) وقيل لعلي كرم الله وجهه ما شأنك جاورت المقبرة قال إني أجدهم خير جيران أجدهم جيران صدق يكفون الألسنة ويذكرون الآخرة
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ (2) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المقابر فجلس إلى قبر وكنت أدنى القوم منه
فبكى وبكيت وبكوا فقال ما يبكيكم قلنا بكينا لبكائك قال هذا قبر أمي آمنة بنت وهب استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي فاستأذنته أن أستغفر لها فأبى علي فأدركني ما يدرك الولد من الرقة (3) وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته
_________
(1) حديث الضحاك قال رجل يارسول الله من أزهد الناس قال من لم ينس القبور واللى الحديث تقدم
(2) حديث مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ تقدم في الباب الثالث من آداب الصحبة
(3) حديث عمر خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المقابر فجلس على قبر وكنت أدنى القوم الحديث وفيه هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في زيارتها فأذن لى وتقدم في آداب الصحبة أيضا ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور من حديث ابن مسعود وفيه ذكر لعمر بن الخطاب وآخره عند بن ماجة مختصرا وفيه أيوب بن هانىء ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم صالح(4/485)
فسئل عن ذلك وقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكى إذا وقفت على قبر فقال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد (1) وقيل أن عمرو بن العاص نظر إلى المقبرة فنزل وصلى ركعتين فقيل له هذا شيء لم تكن تصنعه فقال ذكرت أهل القبور وما حيل بينهم وبينه فأحببت أن أتقرب إلى الله بهما
وقال مجاهد أول ما يكلم ابن آدم حفرته فتقول أنا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الظلمة هذا ما أعددت لك فما أعددت لي وقال أبو ذر ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري
وكان أبو الدرداء يقعد إلى القبور فقيل له في ذلك فقال أجلس إلى قوم يذكروني معادي وإذا قمت لم يغتابوني
وكان جعفر بن محمد يأتي القبور ليلا ويقول يا أهل القبور مالي إذا دعوتكم لا تجيبوني ثم يقول حيل والله بينهم وبين جوابي وكأن بي أكون مثلهم ثم يستقبل الصلاة إلى طلوع الفجر
وقال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه يا فلان لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه وإنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب قال ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه
وكان يزيد الرقاشي يقول أيها المقبور في حفرته والمتخلي في القبر بوحدته المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت وبأي إخوانك اغتبطت ثم يبكي حتى يبل عمامته ثم يقول استبشر والله بأعماله الصالحة واغتبط والله بإخوانه المتعاونين على طاعة الله تعالى وكان إذا نظر إلى القبور خار كما يخور الثور
وقال حَاتِمٍ الْأَصَمِّ مَنْ مَرَّ بِالْمَقَابِرِ فَلَمْ يَتَفَكَّرْ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ فَقَدْ خَانَ نَفْسَهُ وخانهم
وكان بكر العابد يقول يا أماه ليتك كنت بي عقيما إن لابنك في القبر حبسا طويلا ومن بعد ذلك منه رحيلا
وقال يحيى بن من معاذ يا ابن آدم دعاك ربك إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه إن أجبته من دنياك واشتغلت بالرحلة إليه دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها
وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على المقابر يقول ما أحسن ظواهرك إنما الدواهي في بواطنك وكان عطاء السلمي إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة ثم يقول يا أهل القبور متم فواموتاه وعاينتم أعمالكم فواعملاه ثم يقول غدا عطاء في القبور فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح وقال سفيان من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار
وكان الربيع بن خيثم قد حفر في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع ومكث ما شاء الله ثم يقول رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت يرددها ثم يرد على نفسه يا ربيع قد رجعتك فاعمل
وقال أحمد بن حرب تتعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه ويسوى فراشه للنوم فتقول يا ابن آدم لم لا تذكر طول بلاك وما بيني وبينك شيء وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَلَمَّا نَظَرَ إلى القبور بكى ثم أقبل على فقال يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّاتِهِمْ وعيشهم أَمَا تَرَاهُمْ صَرْعَى قَدْ حَلَّتْ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ واستحكم فيهم البلى وأصابت الهوام مقيلا في أَبْدَانِهِمْ ثُمَّ بَكَى وَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْقُبُورِ وقد أمن من عذاب الله
وقال ثابت البناني دخلت المقابر فلما قصدت الخروج منها فإذا بصوت قائل يقول يا ثابت لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس مغمومة فيها
ويروى أن فاطمة بنت الحسين نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسن فغطت وجهها وقالت
_________
(1) حديث عثمان كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته وفيه إن القبر أول منازل الآخرة أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه وتقدم في أداب الصحبة(4/486)
وكانوا رجاء ثم أمسوا رزية ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وقيل إنها ضربت على قبره فسطاطا واعتكفت عليه سنة
فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ودخلت المدينة فسمعوا صوتا من جانب البقيع هل وجدوا ما فقدوا فسمعوا من الجانب الآخر بل يئسوا فانقلبوا
وقال أبو موسى التميمي توفيت امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه البصرة وفيهم الحسن فقال له الحسن يا أبا فراس ماذا أعددت لهذا اليوم فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة فلما دفنت أقام الفرزدق على قبرها فقال
أخاف وراء القبر إن لم تعافني ... أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا
وقد أنشدوا في أهل القبور قف بالقبور وقل على ساحاتها ... من منكم المغمور في ظلماتها ومن المكرم منكم في قعرها ... قد ذاق برد الأمن من روعاتها
أما السكون لذي العيون فواحد ... لا يستبين الفضل في درجاتها
لو جاوبوك لأخبروك بألسن ... تصف الحقائق بعد من حالاتها
أما المطيع فنازل في روضة ... يفضي إلى ما شاء من دوحاتها
والمجرم الطاغي بها متقلب ... في حفرة يأوى إلى حياتها وعقارب تسعى إليه فروحه ... في شدة التعذيب من لدغاتها
ومر داود الطائي على امرأة تبكي على قبر وهي تقول
عدمت الحياة ولا نلتها ... إذا كنت في القبر قد ألحدوكا
فكيف وأين أذوق لطعم الكرى ... وأنت بيمناك قد وسدوكا
ثم قالت يا ابناه بأي خديك بدأ الدود فصعق داود مكانه وخر مغشيا عليه
وقال مالك بن دينار مررت بالمقبرة فأنشأت أقول
أتيت القبور فناديتها ... فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه ... وأين المزكى إذا ما أفتخر
قال فنوديت من بينها أسمع صوتا ولا أرى شخصا وهو يقول
تفانوا جميعا فما مخبر ... وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى ... فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك فيما ترى معتبر
قال فرجعت وأنا باك أبيات وجدت مكتوبة على القبور
وجد مكتوبا على قبر
تناجيك أجداث وهن صموت ... وسكانها تحت التراب خفوت(4/487)
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت ووجد على قبر آخر مكتوبا
أيا غانم أما ذراك فواسع ... وقبرك معمور الجوانب محكم
وما ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم
وقال ابن السماك مررت على المقابر فإذا على قبر مكتوب
يمر أقاربي جنبات قبرى ... كأن أقاربي لم يعرفوني
ذوو الميراث يقتسمون مالي ... وما يألون أن جححدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهم وعاشوا ... فيالله أسرع ما نسوني
ووجد على قبر مكتوبا
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا حرس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها ... يا من يعد عليه اللفظ والنفس
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا ... وأنت دهرك في اللذات منغمس لا يرحم الموت ذا جهل لغرته ... ولا الذي كان منه العلم يقتبس
كم أخرس الموت في قبر وقفت به ... عن الجواب لسنا ما به خرس قد كان قصرك معمورا له شرف ... فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
ووجد على قبر آخر مكتوبا
وقفت على الأحبة حين صفت ... قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي ... رأت عيناي بينهم مكاني
ووجد على قبر طبيب مكتوبا
قد قلت لما قال لي قائل ... صار لقمان إلى رمسه
فأين ما يوصف من طبه ... وحذقه في الماء مع جسه
هيهات لا يدفع عن غيره ... من كان لا يدفع عن نفسه
ووجد على قبر آخر مكتوبا
يا أيها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل ... أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث ترى ... كل إلى مثقله سينتقل
فهذه أبيات كتبت على قبور لتقصير سكانها عن الأعتبار قبل الموت
والبصير هو الذي ينظر إلى غيره فيرى مكانه بين أظهرهم فيستعد للحوق بهم ويعلم أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يلحق بهم وليتحقق أنه لو عرض عليهم يوم من أيام عمره الذي هو مضيع له لكان ذلك أحب إليهم من الدنيا بحذافيرها لأنهم عرفوا قدر الأعمار وانكشفت لهم حقائق الأمور فإنما حسرتهم على يوم من العمر ليتدارك المقصر به تقصيره فيتخلص من العقاب وليستزيد الموفق به رتبته فيتضاعف له الثواب فإنهم إنما عرفوا قدر العمر بعد انقطاعه فحسرتهم على ساعة من الحياة وأنت(4/488)
قادر على تلك الساعة ولعلك تقدر على أمثالها ثم أنت مضيع لها فوطن نفسك على التحسر على تضييعهما عند خروج الأمر من الاختيار إذا لم تأخذ نصيبك من ساعتك على سبيل الإبتدار فقد قال بعض الصالحين رأيت أخا لي في الله فيما يرى النائم فقلت يا فلان عشت الحمد لله رب العالمين قال لأن أقدر على أن أقولها يعني الحمد لله رب العالمين أحب إلى من الدنيا وما فيها ثم قال ألم تر حيث كانوا يدفنونني فإن فلانا قد قام فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها
بيان أقاويلهم عِنْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ
حَقٌّ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَدُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ أَقَارِبِهِ أَنْ يُنْزِلَهُ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْتِ مَنْزِلَةَ مَا لو كانا فِي سَفَرٍ فَسَبَقَهُ الْوَلَدُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ مُسْتَقَرُّهُ وَوَطَنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ تَأَسُّفُهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِهِ عَلَى الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا تَقَدُّمٌ وَتَأَخُّرٌ
وَهَكَذَا الْمَوْتُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ السَّبْقُ إِلَى الْوَطَنِ إِلَى أَنْ يَلْحَقَ الْمُتَأَخِّرُ وَإِذَا اعْتَقَدَ هَذَا قَلَّ جَزَعُهُ وَحُزْنُهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ مِنَ الثَّوَابِ مَا يُعَزَّى بِهِ كُلُّ مصاب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن أقدم سقطا أحب إلي من أن أخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل الله (1) وَإِنَّمَا ذَكَرَ السِّقْطَ تَنْبِيهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَإِلَّا فَالثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ مَحَلِّ الْوَلَدِ مِنَ القلب
وقال زيد بن أسلم توفي ابن لداود عليك السلام فحزن عليه حزنا شديدا فقيل له ما كان عدله عندك قال ملء الأرض ذهبا قيل له فإن لك من الأجر في الآخرة مثل ذلك وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا كَانُوا لَهُ جُنَّةً مِنَ النار فقالت امرأة عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اثنان قَالَ أَوِ اثْنَانِ (2) وَلِيُخْلِصِ الْوَالِدُ الدُّعَاءَ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ أَرْجَى دُعَاءٍ وَأَقْرَبُهُ إِلَى الإجابة
وقف محمد بن سليمان على قبر ولده فقال اللهم إني أصبحت أرجوك له وأخافك عليه فحقق رجائي وآمن خوفي
ووقف أبو سنان على قبر ولده فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ مَا وَجَبَ لِي عَلَيْهِ فَاغْفِرْ لَهُ مَا وَجَبَ لَكَ عَلَيْهِ فَإِنَّكَ أَجْوَدُ وَأَكْرَمُ
وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ بِرِّي فَهَبْ لَهُ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ طَاعَتِكَ
ولما مات ذر بن عمر بن ذر قام أبوه عمر بن ذر بعد وضعه في لحده فقال يا ذر لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك ثم قال اللهم إن هذا ذر متعتني به ما متعتني ووفيته أجله ورزقه ولم تظلمه اللهم وقد كنت ألزمته طاعتك وطاعتي اللهم ما وعدتني عليه من الأجر في مصيبتي فقد وهبت له ذلك فهب لي عذابه ولا تعذبه
فأبكى الناس ثم قال عند انصرافه ما علينا بعدك من خصاصة يا ذر وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة فلقد مضينا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك ونظر رجل إلى امرأة في البصرة فقال ما رأيت مثل هذه النضارة وما ذاك إلا من قلة الحزن فقالت يا عبد الله أني لفي حزن ما يشركني فيه أحد قال فكيف قالت أن زوجي ذبح شاة في يوم عيد الأضحى وكان لي صبيان مليحان يلعبان فقال أكبرهما للآخر أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة قال نعم فأخذه وذبحه وما شعرنا به إلا متشطحا في دمه فلما ارتفع الصراخ هرب الغلام فلجأ إلى جبل فرهقه ذئب فأكله فخرج أبوه يطلبه فمات عطشا من شدة الحر قالت فأرداني الدهر كما ترى
فأمثال هذه المصائب ينبغي أن تتذكر عند موت الأولاد لِيَتَسَلَّى بِهَا عَنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ فَمَا مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا وَيَتَصَوَّرُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَمَا يَدْفَعُهُ اللَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ الأكثر
_________
(1) حديث لأن أقدم سقطا أحب إلى من أخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل الله لم أجد فيه ذكر مائة فارس وروى بن ماجة من حديث أبي هريرة لَسِقْطٌ أُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ فارس أخافه خلفي
(2) حديث لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الولد فيحتبسهم الحديث تقدم في النكاح(4/489)
بيان زيارة القبور والدعاء للميت وما يتعلق به
زيارة القبور مستحبة على الجملة للتذكر والاعتبار وزيارة قبور الصالحين لأجل التبرك مع الاعتبار وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ أَذِنَ في ذلك بعد (1) روي عن علي رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال كنت نهيتكم عم زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرا (2)
وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه في ألف مقنع فلم ير باكيا أكثر من يومئذ (3) وفي هذا اليوم قال أذن لي في الزيارة دون الاستغفار (4) كما أوردنا من قبل
وقال ابن أبي مليكة أقبلت عائشة رضي الله عنها يوما من المقابر فقلت يا أم المؤمنين من أين أقبلت قالت من قبر أخي عبد الرحمن فقلت أليس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنها قالت نعم ثم أمر بها (5) ولا ينبغي أن يتمسك بهذا فيؤذن للنساء في الخروج إلى المقابر فإنهن يكثرن الهجر على رءوس المقابر فلا يفي خير زيارتهن بشرها وَلَا يَخْلُونَ فِي الطَّرِيقِ عَنْ تَكَشُّفٍ وَتَبَرُّجٍ وَهَذِهِ عَظَائِمُ وَالزِّيَارَةُ سُنَّةٌ فَكَيْفَ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِهَا
نَعَمْ لَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْمَرْأَةِ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ تَرُدُّ أَعْيُنَ الرِّجَالِ عَنْهَا وَذَلِكَ بِشَرْطِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الدُّعَاءِ وَتَرْكِ الْحَدِيثِ عَلَى رأس القبر
وقال أبو ذر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة وصل على الجنائز لعل ذلك أن يحزنك فإن الحزين في ظل الله (6) وقال ابن أبي مليكة قال رسول الله زروا موتاكم وسلموا عليهم فإن لكم فيهم عبرة (7) وعن نافع أن ابن عمر كان لا يمر بقبر أحد إلا وقف عليه وسلم عليه وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة في الأيام فتصلي وتبكي عنده وقال النبي صلى الله عليه وسلم من زار قبر والديه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا (8) وعن ابن سيرين قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الرجل ليموت والداه وهو عاق لهما فيدعو الله لهما من بعدهما فيكتبه الله من البارين (9) وقال النبي صلى الله عليه وسلم من زار قبري فقد
_________
(1) حديث نهيه عن زيارة القبور ثم أذنه في ذلك أخرجه مسلم
(2) حديث علي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرا رواه أحمد
(3) حديث زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه في ألف مقمع فلم ير باكيا أكثر من يومئذ أخرجه ابن أبي الدنيا
(4) حديث وقال في هذا اليوم أذن لي في الزيارة دون الاستغفار
(5) حديث ابن أبي مليكة أقبلت عائشة يوما من المقابر فقلت يا أم المؤمنين من أين أقبلت قالت من قبر أخي عبد الرحمن قلت أليس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنها قالت نعم ثم أمر بها أخرجه ابن أبي الدنيا في القبور بإسناد جيد
(6) حديث أبي ذر زر القبور تذكر الآخرة واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة
(7) حديث ابن أبي مليكة زورا موتاكم وسلموا عليهم وصلوا عليهم الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا
(8) حديث من زار قبر ابويه أو أحدهما في كل جمعه غفر له وكتب برا أخرجه الطبراني في الصغير والأوسطمن حديث أبي هريرة وابن أبي الدنيا في القبور من رواية محمد بن النعمان يرفعه وهو معضل ومحمد بن النعمان مجهول وشيخه عند الطبراني يحيى بن العلاء البجلى متروك
(9) حديث ابن سيرين إن الرجل ليموت والداه وهو عاق لهما فيدعو الله لهما من بعدهما فيكتبه الله من البارين أخرجه ابن أبي الدنيا فيه وهو مرسل صحيح الإسناد ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عقبة أبي الغيزران عن محمد بن جحادة عن أنس قال ورواه الصلت بن الحجاج عن ابن جحادة عن قتادة عن أنس ويحيى بن عقبة والصلت بن الحجاج كلاهما ضعيف(4/490)
وجبت له شفاعتي (1) وقال صلى الله عليه وسلم من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة (2) وقال كعب الأحبار ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَدْبِرَ القبلة مستقبلا بوجهه الْمَيِّتِ وَأَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يَمْسَحَ الْقَبْرَ وَلَا يَمَسَّهُ وَلَا يُقَبِّلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى قَالَ نافع كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَأَيْتُهُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجِيءُ إِلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ السَّلَامُ عَلَى أبي بكر السلام على أبي وينصرف وعن أبي أمامة قال رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف وقالت عائشة رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم (3) وقال سليمان بن سحيم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه سلامهم قال نعم وأرد عليهم وقال أبو هريرة إذا مر الرجل بقبر لرجل يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه وإذا مر بقبر لا يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام وقال رجل من آل عاصم الجحدري رأيت عاصما في منامي بعد موته بسنتين فقلت أليس قد مت قال بلى فقلت أين أنت قال أنا والله فى روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبى بكر ابن عبد الله المزني فنتلاقى أخباركم قلت أجسامكم أم أرواحكم قال هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح قال قلت فهل تعلمون بزيارتنا إياكم قال نعم تعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس قلت وكيف ذاك دون الأيام كلها قال لفضل يوم الجمعة وعظمه وكان محمد بن واسع يزور يوم الجمعه فقيل له لو أخرت إلى يوم الأثنين قال بلغنى أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده وقال الضحاك من زار قبرا قبل طلوع الشمس يوم السبت علم الميت بزيارته قيل وكيف ذاك قال لمكان يوم الجمعة وقال بشر ابن منصور لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبانة فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال آنَسَ اللَّهُ وَحْشَتَكُمْ وَرَحِمَ غُرْبَتَكُمْ وَتَجَاوَزَ عَنْ سيئاتكم وقبل الله حسناتكم لا يزيد على هذه الكلمات قال الرجل فأمسيت ذات ليلة فانصرفت إلى أهلى ولم آت إلى المقابر فأدعو كما كنت أدعو فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاءونى فقلت ما أنتم وما حاجتكم قالوا نحن أهل المقابر قلت ما جاء بكم قالوا إنك قد عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك قلت وما هي قالوا الدعوات التي كنت تدعو لنا بها قلت فإني أعود لذلك فما تركتها بعد ذلك وقال بشار بن غالب النجراني رأيت رابعة العدوية العابدة فى منامي وكنت كثير الدعاء لها فقالت لي يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على طبق من نور مخمرة بمناديل الحرير قلت وكيف ذاك قالت وهكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى فاستجيب لهم جعل ذلك الدعاء على أطباق من نور وخمر مناديل الحرير ثم أتى به الميت فقيل له هذه هدية فلان إليك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الميت فى قبره إلا كالغريق المتغوث ينتظر دعوة تلحقه
_________
(1) حديث من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي تقدم في أسرار الحج
(2) حديث من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة
(3) حديث عائشة ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم أخرجه ابن أبي الدنيا في القبور وفيه عبد الله بن سمعان ولم أقف على حاله ورواه ابن عبد البر في التمهيد من حديث ابن عباس نحوه وصححه عبد الحق الأشبيلي(4/491)
من أبيه أو أخيه أو صديق له فإذا لحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها وإن هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار (1) حديث سعيد بن عبد الله الأزدي قال شهدت أبا أمامة الباهلي وهو في النزع فقال يا سعيد إذا مت فاصنعوا بي كما أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان ابن فلانة الحديث في تلقين الميت في قبره أخرجه الطبراني //
ولا بأس بقراءة القرآن على القبور روي عن علي بن موسى الحداد قال كنت مع أحمد بن حنبل في جنازة ومحمد بن قدامة الجوهرى معنا فلما دفن الميت جاء رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر بن إسماعيل الحلبي قال ثقه قال هل كتبت عنه شيئا قال نعم قال أخبرني مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه فاتحة البقرة وخاتمتها وقال سمعت ابن عمر يوصى بذلك فقال له أحمد فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ وقال محمد بن أحمد المروزى سمعت أحمد بن حنبل يقول إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم وقال أبو قلابة أقبلت من الشام إلى البصرة فنزلت الخندق فتطهرت وصليت ركعتين بليل ثم وضعت رأسي على قبر فنمت ثم تنبهت فإذا صاحب القبر يشتكيني يقول لقد آذيتني منذ الليلة ثم قال إنكم لا تعلمون ونحن نعلم ولا نقدر على العمل ثم قال للركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها ثم قال جزى الله عنا أهل الدنيا خيرا أقرئهم السلام فإنه قد يدخل علينا من دعائهم نورا مثل الجبال فَالْمَقْصُودُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلزَّائِرِ الِاعْتِبَارُ بِهَا وَلِلْمَزُورِ الِانْتِفَاعُ بِدُعَائِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ الزَّائِرُ عَنِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلَا عَنِ الاعتبار به وإنما يحصل له الاعتبار بأن يصور في قلبه الميت كيف تفرقت أجزاءه وَكَيْفَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ وَأَنَّهُ عَلَى الْقُرْبِ سيلحق به كما روى عن مطرف بن أبي بكر الهذلي قال كانت عجوز في عبد القيس متعبدة فكان إذا جاء الليل تحزمت ثم قامت إلى المحراب وإذا جاء النهار خرجت إلى القبور فبلغني أنها عوتبت في كثرة إتيانها المقابر فقالت إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى وإني لآتي القبور فكأني
_________
(1) حديث ما الميت في قبره إلا كالغريق المتغوث ينتظر دعوة تلحقه من أبيه أو من أخيه أو من صديق له الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس وفيه الحسن بن علي بن عبد الواحد قال الذهبي حدث عن هشام بن عمار بحديث باطل وقال بعضهم مات أخ لي فرأيته في المنام فقلت ما كان حالك حيث وضعت في قبرك قال أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به
ومن هذا يستحب تلقين الميت بعد الدفن والدعاء له قال سعيد بن عبد الله الأزدى شهدت أبا أمامة الباهلى وهو في النزع فقال يا سعيد إذا مت فاصنعوا بى كما أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ثم ليقل يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوى قاعدا ثم ليقل يا فلان ابن فلانة الثالثة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تسمعون فيقول له اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله عز وجل حجيجه دونهما فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال فلينسبه إلى حواء(4/492)
انظر وقد خرجوا من بين أطباقها وكأني انظر إلى تلك الوجوه المتعفرة وإلى تلك الأجسام المتغيرة وإلى تلك الأجفان الدسمة فيا لها من نظرة لو أشربها العباد قلوبهم ما أنكل مرارتها للأنفس وأشد تلفها للأبدان بل ينبغي أن يحضر من صورة الميت ما ذكره عمر بن عبد العزيز حيث دخل عليه فقيه فتعجب من تغير صورته لكثرة الجهاد والعبادة فقال له يا فلان لو رأيتني بعد ثلاث وقد أدخلت قبريى وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان وخرج الصديد من الفم وانفتح الفم ونتأ البطن فعلا الصدر وخرج الصلب من الدبر وخرج الدود والصديد من المناخر لرأيت أعجب مما تراه الآن
ويستحب الثناء على الميت وألا يذكر إلا بالجميل قالت عائشة رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه (1) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فإنهم قد أمضوا إلى ما قدموا (2) وقال صلى الله عليه وسلم لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا وإن يكونوا من أهل النار فحسبهم ما هم فيه (3) وقال أنس بن مالك مرت جنازة عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأثنوا عليها شرا فقال عليه السلام وجبت ومروا بأخرى فأثنوا عليها خيراً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجبت فسأله عمر عن ذلك فقال إن هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار وأنتم شهداء الله في الأرض (4) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إن العبد ليموت فيثني عليه القوم الثناء يعلم الله منه غيره ليقول الله تعالى لملائكته أشهدكم أني قد قبلت شهادة عبيدي على عبدي وتجاوزت عن علمي في عبدي (5)
الباب السابع في حقيقة الموت وما يلقاه الميت في القبر إلى نفخة
الصور بيان حقيقة الموت
أعلم أن للناس في حقيقة الموت ظنونا كاذبة قد اخطأوا فيها فظن بعضهم أن الموت هو العدم وأنه لا حشر ولا نشر ولا عاقبة للخير والشر وأن موت الإنسان كموت الحيوانات وجفاف النبات وهذا رأى الملحدين وكل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر وظن قوم أنه ينعدم بالموت ولا يتأم بضار ولا يتنعم بثواب ما دام في القبر إلى أن يعاد في وقت الحشر وقال آخرون إن الروح باقية لا تنعدم بالموت وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح دون الأجساد وإن الأجساد لا تبعث ولا تحشر أصلا وكل هذه ظنون فاسدة ومائلة عن الحق بل الذي تشهد له طرق الاعتبار وتنطق به الآيات والأخبار أن الموت معناه تغير حال فقط وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد إما معذبة وإما منعمة ومعنى مفارقتها للجسد
_________
(1) حديث إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تفعوا فيه أخرجه أبو داود من حديث عائشه
(2) حديث لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى ما قدموا أخرجه البخاري من حديث عائشة أيضا
(3) حديث لا تذكروا موتاكم إلا بخير الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت هكذا بإسناد ضعيف من حديث عائشة وهو عند النسائي من حديث عائشة باسناد جيد منتصرا هل ما ذكر منه هنا بلفظ هلكاكم وذكر الزيادة صاحب مسند الفردوس وعلم عليه علامة النسائي والطبراني
(4) حديث أنس مرت جنازة عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأثنوا عليها شرا فقال وجبت الحديث متفق عليه
(5) حديث أبي هريرة إن العبد ليموت فيثني عليه القوم الثناء يعلم الله منه غير ذلك الحديث أخرجه أحمد من رواية شيخ من أهل البصرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه على ربه عز وجل ما من عبد مسلم يموت فيشهد له ثلاث أبيات من جيرانه الأدنين بخير إلا قال الله عز وجل قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما أعلم(4/493)
انقطاع تصرفها عن الجسد بخروج الجسد عن طاعتها فإن الأعضاء آلات الروح تستعملها حتى أنها لتبطش باليد وتسمع بالأذن وتبصر بالعين وتعلم حقيقة الأشياء بالقلب والقلب ههنا عبارة عن الروح والروح تعلم الأشياء بنفسها من غير آلة ولذلك قد يتألم بنفسه بأنواع الحزن والغم والكمد ويتنعم بأنواع الفرح والسرور وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد مفارقة الجسد وما هو لها بواسطة الأعضاء فيتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر ولا يبعد أن تؤخر إلى يوم البعث والله أعلم بما حكم به على كل عبد من عباده وإنما تعطل الجسد بالموت يضاهي تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه وبشدة تقع في الأعصاب تمنع نفوذ الروح فيها فتكون الروح العالمة العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء وقد استعصى عليها بعضها والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها وكل الأعضاء آلات والروح هي المستعملة لها وأعنى بالروح المعنى الذي يدرك من الإنسان العلوم وآلام الغموم ولذات الأفراح ومهما بطل تصرفها في الأعضاء لم تبطل منها العلوم والإدراكات ولا بطل منها الأفراح والغموم ولا بطل منها قبولها للآلآم واللذات والإنسان بالحقيقة هو المعنى المدرك للعلوم وللآلام واللذات وذلك لا يموت أي لا ينعدم ومعنى الموت انقطاع تصرفه عن البدن وخروج البدن عن أن يكون آلة له كما أن معنى الزمانة خروج اليد عن أن تكون آلة مستعملة فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها وحقيقة الإنسان نفسه وروحه وهي باقية نعم تغير حاله من جهتين إحداهما أنه سلب منه عينه وأذنه ولسانه ويده ورجله وجميع أعضائه وسلب منه أهله وولده وأقاربه وسائر معارفه وسلب منه خيله ودوابه وغلمانه ودوره وعقاره وسائر أملاكه ولا فرق بين أن تسلب هذه الأشياء من الإنسان وبين أن يسلب الإنسان من هذه الأشياء فإن المؤلم هو الفراق والفراق يحصل تارة بأن ينهب مال الرجل وتارة بأن يسبى الرجل عن الملك والمال والألم واحد في الحالتين وإنما معنى الموت سلب الإنسان عن أمواله بإزعاجه إلى عالم آخر لا يناسب هذا العالم فإن كان له في الدنيا شيء يأنس به ويستريح إليه ويعتد بوجوده فيعظم تحسره عليه بعد الموت ويصعب شقاؤه في مفارقته بل يلتفت قلبه إلى واحد واحد من ماله وجاهه وعقاره حتى إلى قميص كان يلبسه مثلا ويفرح به وإن لم يكن يفرح إلا بذكر الله ولم يأنس إلا به عظم نعيمه وتمت سعادته إذا خلى بينه وبين محبوبه وقطعت عنه العوائق والشواغل إذ جميع أسباب الدنيا شاغلة عن ذكر الله فهذا أحد وجهى المخالفة بين حال الموت وحال الحياة
والثاني أنه ينكشف له بالموت ما لم يكن مكشوفاً له في الحياة كما قد ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفاً له في النوم والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وأول ما ينكشف له ما يضره وينفعه من حسناته وسيئاته وقد كان ذلك مسطورا في كتاب مطوي في سر قلبه وكان يشغله عن الاطلاع عليه شواغل الدنيا فإذا انقطعت الشواغل انكشف له جميع أعماله فلا ينظر إلى سيئه إلا ويتحسر عليها تحسرا يؤثر أن يخوض غمرة النار للخلاص من تلك الحسرة وعبد ذلك يقال له {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} وينكشف كل ذلك عند انقطاع النفس وقبل الدفن وتشتعل فيه نيران الفراق أعنى فراق ما كان يطمئن إليمن هذه الدنيا الفانية دون ما أراد منها لأجل الزاد والبلغة فإن من طلب الزاد للبلغة فإذا بلغ المقصد فرح بمفارقته بقية الزاد إذ لم يكن يريد الزاد لعينه وهذا حال من لم يأخذ من الدنيا إلا بقدر الضرورة وكان يود أن تنقطع ضرورته ليستغنى عنه فقد حصل ما كان يوده(4/494)
واستغنى عنه وهذه أنواع من العذاب والآلام عظيمة تهجم عليه قبل الدفن ثم عند الدفن قد ترد روحه إلى الجسد لنوع آخر من العذاب وقد يعفى عنه ويكون حال المتنعم بالدنيا المطمئن إليها كحال من تنعم عند غيبة ملك من الملوك في داره وملكه وحريمه اعتمادا على أن الملك يتساهل في أمره أو على أن الملك ليس يدري ما يتعاطاه من قبيح أفعاله فأخذه الملك بغتة وعرض عليه جريدة قد دونت فيها جميع فواحشه وجناياته ذرة ذرهوخطوة خطوة والملك قاهر متسلط وغيور على حرمه ومنتقم من الجناة على ملكه وغير ملتفت إلى من يتشفع إليه في العصاة عليه فانظر إلى هذا المأخوذ كيف يكون حاله قبل نزول عذاب الملك به من الخوف والخجلة والحياء والتحسر والندم فهذا حال الميت الفاجر المغتر بالدنيا المطمئن إليها قبل نزول عذاب القبر به بل عند موته نعوذ بالله منه فإن الخزى والافتضاح وهتك الستر أعظم من كل عذاب يحل بالجسد من الضرب والقطع وغيرهما فهذه إشارة إلى حال الميت عند الموت شاهدها أولو البصائر بمشاهدة باطنة أقوى من مشاهدة العين وشهد لذلك شواهد الكتاب والسنة
نعم لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة ومعرفة الحياة بمعرفة حقيقة الروح في نفسها وإدراك ماهية ذاتها ولم يؤذن لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يتكلم فيها ولا أن يزيد على أن يقول {الروح من أمر ربي} (1) فليس لأحد من علماء الدين أن يكشف عن سر الروح وإن اطلع عليه وإنما المأذون فيه ذكر حال الروح بعد الموت
ويدل على أن الموت ليس عبارة عن انعدام الروح وانعدام إدراكها آيات وأخبار كثيرة أما الآيات فما ورد في الشهداء إذ قال تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين} ولما قتل صناديد قريش يوم بدر ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فلان يا فلان يا فلان قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فقيل يا رسول الله أتناديهم وهم أموات فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنهم لأسمع لهذا الكلام منكم إلا أنهم لا يقدرون على الجواب (2) فهذا نص في روح الشقي وبقاء إدراكها ومعرفتها والآية نص أرواح في الشهداء ولا يخلو الميت عن سعادة أو شقاوة وقال صلى الله عليه وسلم القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة (3) وهذا نص صريح على أن الموت معناه تغير حال فقط وأن ما سيكون من شقاوة الميت وسعادته يتعجل عند الموت من غير تأخير وإنما يتأخر بعض أنواع العذاب والثواب دون أصله
وروى أنس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال الموت القيامة فمن مات فقد قامت قيامته (4) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَاتَ أحدكم عرض عليه مقعده غدوة وعشية إن كان من أهل الجنة فمن الجنة وإن كان من أهل النار فمن النار ويقال هذا مقعدك حتى تبعث إليه يوم القيامة (5) وليس يخفى ما في مشاهدة المقعدين من عذاب ونعيم في الحال وعن أبي قيس قال كنا مع علقمة في جنازة فقال أما هذا فقد قامت قيامته وقال علي كرم الله وجهه
_________
(1) حديث إنه لم يؤذن لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يتكلم في الروح متفق عليه من حديث ابن مسعود في سؤال اليهود عن الروح ونزول قوله تعالى {ويسألونك عن الروح} وقد تقدم
(2) حديث ندائه من قتل من صناديد قريش يوم بدر يا فلان قد وجدت ما وعدني ربي حقا أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب
(3) حديث القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وتقدم في الرجاء والخوف
(4) حديث أنس الموت القيامة من مات فقد قامت قيامته أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت بإسناد ضعيف وقد تقدم
(5) حديث إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر(4/495)
حرام على نفس أن تخرج من الدنيا حتى تعلم من أهل الجنة هى أم من أهل النار وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من مات غريبا مات شهيدا ووقى فتانات القبر وغدى وريح عليه برزقه من الجنة (1) وقال مسروق ما غبطت مؤمنا في اللحد قد استراح من نصب الدنيا وأمن عذاب الله تعالى وقال يعلى بن الوليد كنت أمشي يوما مع أبي الدرداء فقلت له ما تحب لمن تحب قال الموت قلت فإن لم يمت قال يقل ماله وولده وإنما أحب الموت لأنه لا يحبه إلا المؤمن والموت إطلاق المؤمن من السجن وإنما أحب قلة المال والولد لأنه فتنة وسبب للأنس بالدنيا والأنس بمن لا بد من فراقه غاية الشقاء فكل ما سوى الله وذكره والأنس به فلا بد من فراقه عند الموت لا محالة ولهذا قال عبد الله بن عمرو إنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو روحه مثل رجل بات في سجن فأخرج منه فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها وهذا الذي ذكره حال من تجافى عن الدنيا وتبرم بها ولم يكن له أنس إلا بذكر الله تعالى وكانت شواغل الدنيا تحبسه عن محبوبه ومقاساة الشهوات تؤذيه فكان في الموت خلاصه من جميع المؤذيات وانفراده بمحبوبه الذي كان به أنسه من غير عائق ولا دافع وما أجدر ذلك بأن يكون منتهى النعيم واللذات وأكل اللذات للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله لأنهم ما أقدموا على القتال إلا قاطعين التفاتهم عن علائق الدنيا مشتاقين إلى لقاء الله راضين بالقتل في طلب مرضاته فإن نظر إلى الدنيا فقد باعها طوعا بالآخرة والبائع لا يلتفت قلبه إلى المبيع وإن نظر إلى الآخرة فقد اشتراها وتشوق إليها فما أعظم فرحه بما اشتراه إذا رآه وما أقل التفاته إلى ما باعه إذا فارقه وتجرد القلب لحب الله تعالى قد يتفق في بعض الأحوال ولكن لا يدركه الموت عليه فيتغير والقتال سبب للموت فكان سببا لإدراك الموت على مثل هذه الحالة فلهذا عظيم النعيم إذ معنى النعيم أن ينال الإنسان ما يريده قال الله تعالى {ولهم ما يشتهون} فكان هذا أجمع عبارة لمعاني لذات الجنة وأعظم العذاب أن يمنع الإنسان عن مراده كما قال الله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} فكان هذا أجمع عبارة لعقوبات أهل جهنم وهذا النعيم يدركه الشهيد كما انقطع نفسه من غير تأخير وهذا أمر انكشف لأرباب القلوب بنور اليقين وأن أردت عليه شهادة من جهة السمع فجميع أحاديث الشهداء تدل عليه وكل حديث يشتمل على التعبير عن منتهى نعيمهم بعبارة أخرى فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر ألا أبشرك يا جابر وكان قد استشهد أبوه يوم أحد فقال بلى بشرك الله بالخير فقال إن الله عز وجل قد أحيا أباك وأقعده بين يديه وقال تمن علي يا عبدي ما شئت أعطيكه فقال يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك فأقتل فيك مرة أخرى قال له أنه قد سبق منى أنك إليها لا ترجع (2) وقال كعب يوجد رجل في الجنة يبكي فيقال له لم تبكي وأنت في الجنة قال أبكي لأني لم أقتل في الله إلا قتلة واحدة فكنت أشتهى أن أرد فأقتل فيه قتلات
واعلم أن المؤمن ينكشف له عقيب الموت من سعة جلال الله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن والمضيق
_________
(1) حديث أبي هريرة من مات غريبا مات شهيدا ووقى فتاني القبر أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف وقال فتنة القبر وقال ابن أبي الدنيا فتان
(2) حديث عائشة ألا أبشرك يا جابر الحديث وفيه إن الله أحيا أباك فأقعده بين يديه الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت بإسناد فيه ضعيف وللترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث جابر ألا أبشرك بما لقى الله به أباك قال بلى يا رسول الله الحديث وفيه فقال ياعبدي تمن علي أعطك قال بارب تحيني فأقتل فيك ثانية قال الرب سبحانه إنه سبق مني أنهم لا يرجعون(4/496)
ويكون مثاله كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف لا يبلغ طرفه أقصاه فيه أنواع الأشجار والأزهار والثمار والطيور فلا يشتهى العود إلى السجن المظلم وقد ضرب لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلا فقال لرجل مات أصبح هذا مرتحلا عن الدنيا وتركها لأهلها فإن كان قد رضي فلا يسره أن يرجع إلى الدنيا كما لا يسر أحدكم أن يرجع إلى بطن أمه (1) فعرفك بهذا أن نسبة سبعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى ظلمة الرحم وقال صلى الله عليه وسلم أن مثل المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج من بطنها بكى على مخرجه حتى إذا رأى الضوء ووضع لم يحب أن يرجع إلى مكانه (2) وكذلك المؤمن يجزع من الموت فإذا أفضى إلى ربه لم يحب أن يرجع إلى الدنيا كما لا يحب الجنين أن يرجع إلى بطن أمه وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن فلانا قد مات فقال مستريح أو مستراح منه (3) أشار بالمستريح إلى المؤمن وبالمستراح منه إلى الفاجر إذ يستريح أهل الدنيا منه وقال أبو عمر صاحب السقيا مر بنا ابن عمر ونحن صبيان فنظر إلى قبر فإذا جمجمة بادية فأمر رجلا فواراها ثم قال إن هذه الأبدان ليس يضرها هذا الثرى شيئا وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة وعن عمرو بن دينار قال ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وإنهم ليغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم وقال مالك بن أنس بلغني أن أرواح المؤمنين مرسلة تذهب حيث شاءت وقال النعمان ابن بشير سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر يقول ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب يمور في جوها فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم (4) وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور (5) ولذلك قال أبو الدرداء اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة وكان قد مات وهو خاله وسئل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي قال في حواصل طير بيض في ظل العرش وأرواح الكافرين في الأرض السابعة وقال أبو سعيد الخدري سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إن الميت يعرف من يغسله ومن يحمله ومن يدليه في قبره (6) وقال صالح المري بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليهم كيف كان مأواك وفي أي الجسدين كنت في طيب أو خبيث وقال عبيد بن عمير أهل القبور يترقبون الأخبار فإذا أتاهم الميت قالوا ما فعل فلان فيقول ألم يأتكم أو
_________
(1) حديث قال لرجل مات أصبح هذا قد خلا من الدنيا وتركها لأهلها فإن كان قد رضي فلا يسره أن يرجع إلى الدنيا كما لا يسر أحدكم أن يرجع إلى بطن أمه أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث عمرو بن دينار مرسلا ورجاله ثقات
(2) حديث إن مثل المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج من بطنها بكى على مخرجه حتى إذا رأى الضوء ووضع لم يحب أن يرجع إلى مكانه أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من رواية بقية عن جابر بن غانم السلفي عن سليم بن عامر الجنائزي مرسلا هكذا
(3) حديث قيل لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فلانا قد مات فقال مستريح أو مستراح منه متفق عليه من حديث أبي قتادة بلفظ مر عليه جنازة فقال ذلك وهو عند ابن أبي الدنيا في الموت باللفظ الذي أورده المصنف
(4) حديث النعمان بن بشير ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب يمور في جوفها فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم أخرجه ابن أبي الدنيا أبو بكر بن لال من رواية مالك بن أدى عن النعمان من قوله الله الله ورواه بكماله الأزدي في الضعفاء وقال لا يصح إسناده وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بكماله في ترجمة أبي إسماعيل السكوني رواية عن مالك بن أدي ونقل عن أبيه أن كلا منهما مجهول قال الأزدي لا يصح إسناده وذكر ابن حبان في الثقات مالك بن أدى
(5) حديث أبي هريرة لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور أخرجه ابن أبي الدنيا والمحاملي بإسناد ضعيف ولأحمد من رواية من سمع انسانا عن أنس إن أعمالكم فإنها تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات الحديث
(6) حديث أبي سعيد الخدري إن الميت يعرف من يغسله ومن يحمله ومن يدليه في قبره رواه أحمد من رواية رجل عنه اسمه معاوية أو ابن معاوية(4/497)
ما قدم عليكم فيقولون {إنا لله وإنا إليه راجعون} سلك به غير سبيلنا وعن جعفر بن سعيد قال إذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب وقال مجاهد إن الرجل ليبشر بصلاح ولده في قبره وروى أبو أيوب الأنصاري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا يقولون انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد فيسألونه ماذا فعل فلان وماذا فعلت فلانه وهل تزوجت فلانة فإذا سألوه عن رجل ميت قبله وقال مات قبلي قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية (1) حديث يقول القبر للميت حين يوضع فيه ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنه الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور والطبراني في مسند الشامين وأبو أحمد الحاكم في السكني من حديث أبي الحجاج التمالي بإسناد ضعيف // والفذاذ هو الذي يقدم رجلا ويؤخر أخرى هكذا فسره الراوي وقال عبيد بن عمير الليثي ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها أنا بيت الظلمة والوحدة والإنفراد فإن كنت في حياتك لله مطيعا كنت عليك اليوم رحمة وإن كنت عاصيا فأنا اليوم عليك نقمة أنا الذي من دخلني مطيعا خرج مسرورا ومن دخلني عاصيا خرج مثبورا وقال محمد بن صبيح بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره عذب أو أصابه بعض ما يكره ناداه جيرانه من الموتى أيها المتخلف في الدنيا بعد إخوانه وجيرانه أما كان لك فينا معتبر أما كان لك في متقدمنا إياك فكرة أما رأيت انقطاع أعمالنا عنا وأنت في المهلة فهلا استدركت ما فات إخوانك وتناديه بقاع الأرض أيها المغتر بظاهر الدنيا هلا اعتبرت بمن غيب من أهلك في بطن الأرض ممن غرته الدنيا قبلك ثم سبق به أجله إلى القبور وأنت تراه محمولا تهاداه أحبته إلى المنزل الذي لا بد له منه وقال يزيد الرقاشي بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوشته أعماله ثم أنطقها الله فقالت أيها العبد المنفرد في حفرته انقطع عنك الأخلاء والأهلون فلا أنيس لك اليوم عندنا وقال كعب إذا وضع العبد الصالح في القبر احتوشته أعماله الصالحة الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة قال فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه فقد أطال بي القيام لله عليهما فيأتونه من قبل رأسه فيقول الصيام لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله في الدار الدنيا فلا سبيل لكم عليه فيأتونه من قبل جسده فيقول الحج والجهاد إليكم عنه فقد أنصب نفسه وأتعب بدنه وحج وجاهد لله فلا سبيل لكم عليه قال فيأتونه من قبل يديه فتقول الصدقة كفوا عن صاحبي فكم من صدقه خرجت من هاتين اليدين حتى وقعت في يد الله تعالى ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه قال فيقال له هنيئا طبت حيا وطبت ميتا قال وتأتيه ملائكة الرحمة فتفرش له فراشا من الجنة ودثارا من الجنة ويفسح له في قبره مد بصره ويؤتى بقنديل من الجنة
_________
(1) حديث أبي أيوب أن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاهاتلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير يقولون انظروا أخاكم حتى يستريح أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت والطبراني في مسند الشامين بإسناد ضعيف ورواه ابن المبارك في الزهد موقوفا على أبي أيوب بإسناد جيد ورفعه ابن صاعد في زوائده على الزهد وفيه سلام الطويل ضعيف وهو عند النسائي وابن حبان نحوه من حديث بيان كلام القبر للميتوكلام الموتى إما بلسان المقال أو بلسان الحال التي هي أفصح في تفهيم الموتى من لسان المقال في تفهيم الأحياء قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول القبر للميت حين يوضع فيه ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود ما غرك بي إذ كنت تمر بي فذاذا فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقول القبر إني إذا أتحول عليه خضرا ويعود جسده نورا وتصعد روحه إلى الله تعالى(4/498)
فيستضيء بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره وقال عبد الله بن عبيد بن عمير في جنازة بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الميت يقعد وهو يسمع خطو مشيعيه فلا يكلمه شيء إلا قبره ويقول ويحك ابن آدم أليس قد حذرتني وحذرت ضيقي ونتني وهولي ودودي فماذا أعددت لي (1)
بيان عذاب القبر وسؤال منكر ونكير
قال البراء بن عازب خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره منكسا رأسه ثم قال اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثلاثا ثم قال إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة بعث الله ملائكة كأن وجوههم الشمس معهم حنوطه وكفنه فيجلسون مد بصره فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وفتحت أبواب السماء فليس منها باب إلا يحب أن يدخل بروحه منه فإذا صعد بروحه قيل أي رب عبدك فلان فيقول ارجعوه فأروه ما أعددت له من الكرامة فإني وعدته منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حتى يقال يا هذا من ربك وما دينك وما نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم قال فينتهرأنه انتهارا شديدا وهي آخر فرصة تعرض على الميت فإذا قال ذلك نادى مناد أن قد صدقت وهي معنى قوله تعالى {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} ثم يأتيه آت حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول أبشر برحمة ربك وجنات فيها نعيم مقيم فيقول وأنت فبشرك الله بخير من أنت فيقول أنا عملك الصالح والله ما علمت أن كنت لسريعا إلى طاعة الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله خيرا {قال} ثم يناد مناد أن افرشوا له من فرش الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيفرش له من فرش الجنة ويفتح له باب إلى الجنة فيقول اللهم عجل قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي {قال} وأما الكافر فإنه إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة غلاظ شداد معهم ثياب من نار وسرابيل من قطران فيحتوشونه فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وغلقت أبواب السماء فليس بها باب إلا يكره أن يدخل بروحه منه فإذا صعد بروحه نبذ وقيل أي ربعبدك فلان لم تقبله سماء ولا ارض فيقول الله عز وجل ارجعوه فأروه ما أعددت له من الشر إني وعدته {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} وأنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حتى يقال له يا هذا من ربك ومن نبيك وما دينك فيقول لا أدرى فيقال لا دريت ثم يأتيه آت قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب فيقول أبشر بسخط من الله وبعذاب أليم مقيم فيقول بشرك الله شرا من أنت فيقول أنا عملك الخبيث والله إن كنت لسريعا في معصية الله بطيئا عن طاعة الله فجزاك الله شرا فيقول وأنت فجزاك الله شرا ثم يقيض له أعمى أصم أبكم معه مرزبة من حديد لو اجتمع عليها الثقلان على أن يقلوها لم يستطيعوا لو ضرب بها جبل صار ترابا فيضربه بها ضربة فيصير ترابا ثم تعود فيه الروح فيضربه بها بين عينيه ضربة يسمعها من على الأرضين ليس الثقلين {قال} ثم ينادي مناد أن افرشوا له لوحين من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيفرش له لوحان من نار ويفتح له باب إلى النار (2) وقال محمد بن علي ما من ميت يموت إلا مثل له
_________
(1) حديث عبد الله بن عبيد بن عمير بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الميت يقعد وهو يسمع خطو مشيعيه فلا يكلمه إلا قبره يقول ويحك يا ابن آدم الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في القبور هكذا مرسلا ورجاله ثقات ورواه ابن المبارك في الزهد إلا أنه قال بلغني ولم يرفعه
(2) حديث البراء خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره منكسا رأسه ثم قال اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر الحديث بطوله أخرجه أبو داود والحاكم بكماله قال صحيح على شرط الشيخين وضعفه ابن حبان ورواه النسائي وابن ماجه مختصرا(4/499)
عند الموت أعماله الحسنة وأعماله السيئة قال فيشخص إلى حسناته ويطرق عن سيئاته وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية ومرضيا عنك إلى روح الله وكرامته فإذا أخرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة ومسخوط عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وأن لها نشيشا ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين (1) وعن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقرأ قوله تعالى حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربي أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت قال أي شيء تريد في أي شيء ترغب أتريد أن ترجع لتجمع المال وتغرس الغراس وتبني البنيان وتشق الأنهار قال لا لعلي أعمل صالحاً فيما تركت قال فيقول الجبار {كلا إنها كلمة هو قائلها} أي ليقولنها عند الموت وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له في قبره سبعون ذراعا ويضىء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون فيماذا أنزلت فإن له معيشة ضنكاً قالوا الله ورسوله أعلم قال عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون (2) ولا ينبغي أن يتعجب من هذا العدد على الخصوص فإن أعداد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات فإن لها أصولا معدودة ثم تتشعب منها فروع معدودة ثم تنقسم فروعها إلى أقسام وتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات وهي بأعيانها تنقلب عقارب وحيات فالقوي منها يلدغ لدغ التنين والضعيف يلدغ لدغ العقرب وما بينهما يؤذي إيذاء الحية وأرباب القلوب والبصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات والشعاب فروعها إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنور النبوة فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة وأسرار خفية ولكنها عند أرباب البصائر واضحة فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم فإن قلت فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه ولا نشاهد شيئا من ذلك فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة فأعلم أن لك ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا
إحداهما وهو الأظهر والأصح والأسلم أن تصدق بأنها موجودة وهي تلدغ الميت ولكنك لا تشاهد ذلك فإن هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من علم الملكوت أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل وما كانوا يشاهدونه ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك وإن كنت آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي مالا تشاهده الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا بل هي جنس آخر وتدرك بحاسة أخرى
_________
(1) حديث أبي هريرة إن المؤمن إذا حضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا وابن حبان مع اختلاف والبزار بلفظ المصنف
(2) حديث أبي هريرة المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له في قبره سبعون ذراعا الحديث ورواه ابن حبان(4/500)
المقام الثاني أن تتذكر أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصبح في نومه ويعرق جبينه وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد
المقام الثالث أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها وهو السم ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضى إليه في العادة فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب السبب يراد لثمرته لا لذاته
وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإن كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما حتى يرد بالقلب وأنواع العذاب ما يتمنى معه إن لم يكن قد تنعم من العشق والوصال بل هذا بعينه أحد أنواع عذاب الميت فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه فصار يعشق ماله وعقاره وجاهه وولده وأقاربه ومعارفه ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو استرجاعه منه فماذا ترى يكون حاله أليس يعظم شقاؤه ويشتد عذابه ويتمنى ويقول ليته لم يكن لي مال قط ولا جاه قط فكنت لا أتاذى بفراقه فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعة واحدة ما حال من كان له واحد ... غيب عنه ذلك الواحد فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا فتؤخذ منه الدنيا وتسلم إلى أعدائه ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسره على ما فاته من نعيم الآخرة والحجاب عن الله عز وجل فإن حب غير الله يحجبه عن لقاء الله والتنعم به فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته وحسرته ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد وذل الرد والحجاب عن الله تعالى وذلك هو العذاب الذي يعذب به إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم كما قال تعالى {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم} وأما من لم يأنس بالدنيا ولم يحب إلا الله وكان مشتاقا إلى لقاء الله فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاساة الشهوات فيها وقدم على محبوبه وانقطعت عنه العوائق والصوارف وتوفر عليه النعيم مع الأمن من الزوال أبد الآباد ولمثل ذلك فليعمل العاملون
والمقصود أن الرجل قد يحب فرسه بحيث لو خير بين أن يؤخذ منه وبين أن تلدغه عقرب آثر الصبر على لدغ العقرب فإذن ألم فراق الفرس عنده أعظم من العقرب وحبه الفرس هو الذي يلدغه إذا أخذ منه فرسه فليستعد لهذه اللدغات فإن الموت يأخذ منه فرسه ومركبه وداره وعقاره وأهله وولده وأحبائه ومعارفه ويأخذ منه جاهه وقبوله بل يأخذ منه سمعه وبصره وأعضاءه وييأس من رجوع جميع ذلك إليه فإذا لم يحب سواه وقد أخذ جميع ذلك منه فذلك أعظم عليه من العقارب والحيات وكما لو أخذ ذلك منه وهو حي فيعظم عقابه فكذلك إذا مات لأنا قد بينا أن المعنى الذي هو المدرك للآلام واللذات لم يمت بل عذابه بعد الموت أشد لأنه في الحياة يتسلى بأسباب يشغل بها حواسه من مجالسة ومحادثة ويتسلى برجاء العود إليه ويتسلى برجاء العوض منه ولا سلوة(4/501)
بعد الموت إذ قد انسد عليه طرق التسلي وحصل اليأس فإذن كل قميص له ومنديل قد أحبه بحيث كان يشق عليه لو أخذ منه فإنه يبقى متأسفا عليه ومعذبا به فإن كان مخفا في الدنيا سلم وهو المعني بقولهم نجا المخفون وإن كان مثقلا عظم عذابه وكما أن الحال من يسرق منه دينار أخف من حال من يسرق منه عشرة دنانير فكذلك حال صاحب الدرهم أخف من حال صاحب الدرهمين وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم صاحب الدرهم أخف حسابا من صاحب الدرهمين (1) وما من شيء من الدنيا يتخلف عنك عند الموت إلا وهو حسرة عليك بعد الموت فإن شئت فاستكثر وإن شئت فاستقلل فإن استكثرت فلست بمستكثر إلا من الحسرة وإن استقللت فلست تخفف إلا من ظهرك وإنما تكثر الحيات والعقارب في قبور الأغنياء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وفرحوا بها واطمأنوا إليها فهذه مقامات الإيمان في حيات القبر وعقاربه وفي سائر أنواع عذابه رأى أبو سعيد الخدري ابنا له قد مات في المنام فقال له يا بني عظني قال لا تخالف الله تعالى فيما يريد قال يا بني زدني قال يا أبت لا تطيق قال قل قال لا تجعل بينك وبين الله قميصا فما لبس قميصا ثلاثين سنة فإن قلت فما الصحيح من هذه المقامات الثلاث فأعلم أن في الناس من لم يثبت إلا الأول وأنكر ما بعده ومنهم من أنكر الأول وأثبت الثاني ومنهم من لم يثبت إلا الثالث وإنما الحق الذي انكشف لنا بطريق الاستبصار أن كل ذلك في حيز الإمكان وأن من ينكر بعض ذلك فهو لضيق حوصلته وجهله باتساع قدرة الله سبحانه وعجائب تدبيره فينكر من أفعال الله تعالى ما لم يأنس به ويألفه وذلك جهل وقصور بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب ممكنة والتصديق بها واجب ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع ورب عبد تجمع عليه هذه الأنواع الثلاثة نعوذ بالله من عذاب الله قليله وكثيره
هذا هو الحق فصدق به تقليدا فيعز على بسيط الأرض من يعرف ذلك تحقيقا والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك في تفصيل ذلك ولا تشتغل بمعرفته بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب كيفما كان فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين أو بسيف أو بموسى وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه وهذا غاية الجهل فقد علم على القطع أن العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم أو نعيم مقيم فينبغي أن يكون الاستعداد له فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان
بيان سؤال منكر ونكير وصورتهما وضغطة القبر وبقية القول في عذاب
القبر قال أبو هريرة قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مات العبد أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير فيقولان ما كنت تقول في النبي فإن كان مؤمنا قال هو عبد الله ورسوله أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله فيقولان إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا وينور له في قبره ثم يقال له نم فيقول دعوني أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقال له نم فينام كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقا قال لا أدري
_________
(1) حديث صاحب الدرهم أخف حسابا من صاحب الدرهمين(4/502)
كنت أسمع الناس يقولون شيئا وكنت أقوله فيقولان إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك (1) وعن عطاء بن يسار قال قال رسول الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا عمر كيف بك إذا انت مت فانطلق بك قومك فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر ثم رجعوا إليك فغسلوك وكفنوك وحنطوك ثم احتملوك حتى يضعوك فيه ثم يهيلوا عليك التراب ويدفنوك فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر منكر ونكير أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف يجران أشعارهما ويبحثان القبر بأنيابهما فتلتلاك وترتراك كيف بك عند ذلك يا عمر فقال عمر ويكون معى مثل عقلي الآن قال {نعم} قال إذن أكفيكهما (2) وهذا نص صريح في أن العقل لا يتغير بالموت إنما يتغير البدن والأعضاء فيكون الميت عاقلا مدركا عالما بالآلام واللذات كما كان لا يتغيرمن عقله شيء وليس العقل المدرك هذه الأعضاء بل هو شيء باطن ليس له طول ولا عرض بل الذي لا ينقسم في نفسه هو المدرك للأشياء ولو تناثرت أعضاء الإنسان كلها ولم يبق إلا الجزء المدرك الذى لا يتجزأ ولا ينقسم لكان الإنسان العاقل بكماله قائما باقيا وهو كذلك بعد الموت فإن ذلك الجزء لا يحله الموت ولا يطرأ عليه العدم وقال محمد بن المنكدر بلغنى أن الكافر يسلط عليه في قبره دابة عمياء صماء في يدها سوط من حديد في رأسه مثل غرب الجمل تضربه به إلى يوم القيامة لا تراه فتتقيه ولا تسمع صوته فترحمه وقال أبو هريرة إذا وضع الميت في قبره جاءت أعماله الصالحة فاحتوشته فإن أتاه من قبل رأسه جاء قراءته للقرآن وإن أتاه من قبل رجليه جاء قيامه وإن أتاه من قبل يده قالت اليدان والله لقد كان يبسطني للصدقة والدعاء لا سبيل لكم عليه وإن جاء من قيل فيه جاء ذكره وصيامه وكذلك تقف الصلاة والصبر ناحية فيقول أما إني لو رأيت خللا لكنت أنا صاحبه قال سفيان تجاحش عنه أعماله الصالحة كما يجاحش الرجل عن أخيه وأهله وولده ثم يقال له عند ذلك بارك الله لك في مضجعك فنعم الأخلاء أخلاؤك ونعم الأصحاب أصحابك وعن حذيفة قال كنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على رأس القبر ثم جعل ينظر فيه ثم قال يضغط المؤمن في هذا ضغطة ترد منه حمائله (3) وقالت عائشة رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن للقبر ضغطة ولو سلم أو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ (4) أحمد وعن أنس قال توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة مسقامة فتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءنا حاله فلما انتهينا إلى القبر فدخله انتقع وجهه صفرة فلما خرج أسفر وجهه فقلنا يا رسول الله رأينا منك شأنا فمم ذلك قال ذكرت ضغطة ابنتي وشدة عذاب القبر فأتيت فأخبرت أن الله قد خفف عنها وقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين (5)
_________
(1) حديث أبي هريرة إذا مات العبد أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن حبان مع اختلاف
(2) حديث عطاء بن يسار قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر ابن الخطاب يا عمر كيف بك إذا أنت مت فانطلق بك قومكفقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور هكذا مرسلا ورجاله ثقات قال البيهقي في الاعتقاد رويناه من وجه صحيح عن عطاء بن يسار مرسلا قلت ووصله ابن بطة في الأبانة من حديث ابن عباس ورواه البيهقي في الاعتقاد من حديث عمر وقال غريب بهذا الأسناد تفرد به مفضل ولأحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن عمر فقال عمر أيرد إلينا عقولنا فقال نعم كهيئتكم اليوم فقال عمر بغية الحجر
(3) حديث حذيفة كنت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة فجلس على رأس القبر ثم جعل ينظر فيه الحديث رواه أحمد
(4) حديث عائشة إن للقبر ضغطة لو سلم أو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ رواه
(5) حديث أنس توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة مسقامة الحديث وفيه لقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت(4/503)
الباب الثامن فيما عرف من أحوال الموتى بالمكاشفة في المنام
اعلم أن أنوار البصائر المستفادة من كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ومن مناهج الاعتبار تعرفنا أحوال الموتى على الجملة وانقسامهم إلى سعداء وأشقياء ولكن حال زيد وعمرو بعينه فلا ينكشف أصلا فإنا إن عولنا على إيمان زيد وعمرو فلا ندري على ماذا مات وكيف ختم له وإن عولنا على صلاحه الظاهر فالتقوى محله القلب وهو غامض يخفي على صاحب التقوى فكيف على غيره فلا حكم لظاهر الصلاح دون التقوى الباطن قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين فلا يمكن معرفة حكم زيد وعمرو إلا بمشاهدته ومشاهدة ما يجري عليه وإذا مات فقد تحول من عالم الملك والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت فلا يرى بالعين الظاهرة وإنما يرى بعين أخرى خلقت تلك العين في قلب كل إنسان ولكن جعل عليها غشاوة كثيفة من شهواته وأشغاله الدنيوية فصار لا يبصر بها ولا يتصور أن يبصر بها شيئا من عالم الملكوت ما لم تنقشع تلك الغشاوة عن عين قلبه
ولما كانت الغشاوة منقشعة عن أعين الأنبياء عليهم السلام فلا جرم نظروا إلى الملكوت وشاهدوا عجائبه والموتى في عالم الملكوت فشاهدوهم وأخبروا ولذلك رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضغطة القبر في حق سعد ابن معاذ وفي حق زينب ابنته (1) وكذلك حال أبي جابر لما استشهد إذ أخبره أن الله أقعده بين يديه ليس بينهما ستر ومثل هذه المشاهدة لا مطمع فيها لغير الأنبياء والأولياء الذين تقرب درجتهم منهم
إنما الممكن من أمثالنا مشاهدة أخرى ضعيفة إلا أنها أيضا مشاهدة نبوية وأعني بها المشاهدة في المنام وهي من أنوار النبوة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة (2) وهو أيضا انكشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الصالح الصادق ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه ومن كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه فكان ما يراه أضغات أحلام ولذلك أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطهارة عند النوم لينام طاهرا (3) وهو إشارة إلى طهارة الباطن أيضا فهو الأصل وطهارة الظاهر بمنزلة التتمة والتكملة لها ومهما صفا الباطن انكشف في حدقة القلب ما سيكون في المستقبل كما انكشف دخول مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم حتى نزل قوله تعالى لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق (4) وقلما يخلوا الإنسان عن منامات دلت على أمور فوجدها صحيحة والرؤيا ومعرفة الغيب في النوم من عجائب صنع الله تعالى وبدائع فطرة الآدمي وهو من أوضح الأدلة على عالم الملكوت والخلق غافلون عنه كغفلتهم عن سائر عجائب القلب وعجائب العالم والقول في حقيقة الرؤيا من دقائق علوم المكاشفة فلا يمكن ذكره علاوة على علم المعاملة ولكن القدر الذي يمكن ذكره ههنا مثال يفهمك المقصود وهو أن تعلم أن القلب مثاله مثال مرآة تتراءى فيها الصور وحقائق الأمور وأن كل ما قدره الله تعالى من ابتداء خلق العالم إلى آخره مسطور ومثبت في خلق خلقه الله تعالى يعبر عنه تارة باللوح وتارة بالكتاب المبين وتارة بإمام مبين كما ورد في القرآن فجميع
_________
(1) حديث رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضغطة القبر في حق سعد بن معاذ وفي حق زينب ابنته وكذلك حال أبي جابر لما استشهد تقدمت الثلاثة أحاديث في الباب الذي قبله
(2) حديث الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة تقدم
(3) حديث أمره بالطهارة عند النوم متفق عليه من حديث البراء إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة الحديث
(4) حديث انكشف دخول مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره من رواية مجاهد مرسلا(4/504)
ما جرى في العالم وما سيجرى مكتوب فيه ومنقوش عليه نقشا لا يشاهد بهذه العين ولا تظنن أن ذلك اللوح من خشب أو حديد أو عظم وأن الكتاب من كاغد أو رق بل ينبغي أن تفهم قطعا أن لوح الله لا يشبه لوح الخلق وكتاب الله لا يشبه كتاب الخلق كما أن ذاته وصفاته لا تشبه ذات الخلق وصفاتهم بل إن كنت تطلب له مثالا يقربه إلى فهمك فأعلم أن ثبوت المقادير في اللوح يضاهي ثبوت كلمات القرآن وحروفه في دماغ حافظ القرآن وقلبه فإنه مسطور فيه حتى كأنه حين يقرؤه ينظر إليه ولو فتشت دماغه جزءا جزءا لم تشاهد من ذلك الخط حرفا وإن كان ليس هناك خط يشاهد ولا حرف ينظر فمن هذا النمط ينبغي أن تفهم كون اللوح منقوشا بجميع ما قدره الله تعالى وقضاه واللوح في المثال كمرآة ظهر فيها الصور فلو وضع في مقابلة المرآة مرآة أخرى لكانت صورة تلك المرآة تتراءى في هذه إلا أن يكون بينهما حجاب فالقلب مرآة تقبل رسوم العلم واللوح مرآة رسوم العلم كلها موجودة فيها واشتغال القلب بشهواته ومقتضى حواسه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح اللوح الذي هو من عالم الملكوت فإن هبت ريح حركت هذا الحجاب ورفعته تلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف وقد يثبت ويدوم وقد لا يدوم وهو الغالب وما دام متيقظا فهو مشغول بما تورده الحواس عليه من عالم الملك والشهادة وهو حجاب عن عالم الملكوت
ومعنى النوم أن توكد الحواس عليه فلا تورده على القلب فإذا تخلص منه ومن الخيال وكان صافيا في جوهره ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ فوقع في قلبه شيء مما في اللوح كما تقع الصورة من مرآة في مرآة أخرى إذا ارتفع الحجاب بينهما إلا أن النوم مانع سائر الحواس عن العمل وليس مانعا للخيال عن عمله وعن تحركه فما ويقع في القلب يبتدره الخيال فيحاكيه بمثال يقاربه وتكون المتخيلات أثبت في الحفظ من غيرها فيبقى الخيال في الحفظ فإذا انتبه لم يتذكر إلا الخيال فيحتاج المعبر أن ينظر إلى هذا الخيال حكاية أي معنى من المعانى فيرجع إلى المعاني بالمناسبة التي بين المتخيل والمعاني وأمثلة ذلك ظاهرة عند من نظر في علم التعبير ويكفيك مثال واحد وهو أن رجلا قال لابن سيرين رأيت كأن بيدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال أنت مؤذن تؤذن قبل الصبح في رمضان قال صدقت فانظر أن روح الختم هو المنع ولأجله يراد الختم وإنما ينكشف للقلب حال الشخص من اللوح المحفوظ كما هو عليه وهو كونه مانعا للناس من الأكل والشرب ولكن الخيال ألف المنع عند الختم بالخاتم فثمتله بالصورة الخيالية التي تتضمن روح المعنى ولا يبقى في الحفظ إلا الصورة الخيالية
فهذه نبذة يسيرة من بحر علم الرؤيا الذي لا تنحصر عجائبه وكيف لا وهو أخو الميت وإنما الموت هو عجب من العجائب وهذا لأنه يشبهه من وجه ضعيف أثر في كشف الغطاء عن عالم الغيب حتى صار النائم يعرف ما سيكون في المستقبل فماذا نرى في الموت الذي يخرق الحجاب ويكشف الغطاء بالكلية حتى يرى الإنسان عند انقطاع النفس من غير تأخير نفسه إما محفوفة بالأنكال والمخازي والفضائح نعوذ بالله من ذلك وإما مكنوفا بنعيم مقيم وملك كبير لا آخر له وعند هذا يقال للأشقياء وقد انكشف الغطاء {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} ويقال أفسخر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تبصروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون وإليهم الإشارة بقوله تعالى {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} فأعلم العلماء وأحكم الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قط بباله ولا اختلج به ضميره فلو لم يكن للعاقل هم وغم إلا الفكرة في خطر تلك الحال أن الحجاب عماذا يرتفع وما الذي ينكشف عنه الغطاء من(4/505)
شقاوة لازمة أم سعادة دائمة لكان ذلك كافياً في استغراق جميع العمر
والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا وأعجب من ذلك فرحنا بأموالنا وأهلينا وبأسبابنا وذريتنا بل بأعضائنا وسمعنا وبصرنا مع أنا نعلم مفارقة جميع ذلك يقينا ولكن أين من ينفث روح القدس في روعة فيقول ما قال لسيد النبيين أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به (1) فلا جرم لما كان ذلك مكشوفا له بعين اليقين كان في الدنيا كعابر سبيل لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (2) ولم يخلف دينارا ولا درهما (3) ولم يتخذ حبيبا ولا خليلا نعم قال لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن (4) فبين أن خلة الرحمن تخللت باطن قلبه وأن حبه تمكن من حبة قلبه فلم يترك فيه متسعا لخليل ولا لحبيب وقد قال لأمته {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فإنما أمته من اتبعه وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا وأقبل على الآخرة فإنه ما دعا إلا إلى الله واليوم الآخر وما صرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة فبقدر ما أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الآخرة فقد سلكت سبيله الذي سلكه وبقدر ما سلكت سبيله فقد أتبعته وبقدر ما اتبعته فقد صرت من أمته وبقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله ورغبت عن متابعته والتحقت بالذين قال الله تعالى فيهم {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى} فلو خرجت من مكمن الغرور وأنصفت نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت أنك من حين تصبح إلى حين تمسي لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك ولا تسكن إلا لعاجل الدنيا ثم تطمع أن تكون غدا من أمته وأتباعه وما أبعد ظنك وما أبرد طمعك {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} ولنرجع إلى ما كنا فيه وبصدده فقد امتد عنان الكلام إلى غير مقصده ولنذكر الآن من المنامات الكاشفة لأحوال الموتى ما يعظم الانتفاع به إذ ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وليس ذلك إلا المنامات
بيان منامات تكشف عن أحوال الموتى والأعمال النافعة في الآخرة
فمن ذلك رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي (5) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فرأيته لا ينظر إلى فقلت يا رسول الله ما شأني فالتفت إلي وقال ألست المقبل وأنت صائم قال والذي نفسي بيده لا أقبل امرأة وأنا صائم أبدا وقال العباس رضي الله عنه كنت ودا لعمر فاشتهيت أن أراه في المنام فما رأيته إلا عند رأس الحول فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول هذا أوان فراغي إن كان عرشي ليهد لولا أني لقيته رءوفا رحيما وقال الحسن بن علي قال لي علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي فقلت يا رسول الله ما لقيت من أمتك قال أدع عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم وأبدلهم بي من هو شر لهم مني فخرج فضربه ابن ملجم وقال بعض الشيوخ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله استغفر لي فأعرض عني فقلت يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا عن محمد بن المنكدر
_________
(1) حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم
(2) حديث لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة
(3) حديث لم يخلف دينارا ولا درهما
(4) حديث لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن صاحبكم خليل الرحمن تقدم أيضا
(5) حديث من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي متفق عليه من حديث أبي هريرة(4/506)
عن جابر بن عبد الله أنك لم تسأل شيئا قط فقلت لا فأقبل علي فقال غفر الله لك (1) وروى عن العباس بن عبد المطلب قال كنت مواخيا لأبي لهب مصاحبا له فلما مات وأخبر الله عنه بما أخبر حزنت عليه وأهمني أمره فسألت الله تعالى حولا أن يريني إياه في المنام قال فرأيته يلتهب نارا فسألته عن حاله فقال صرت إلى النار في العذاب لا يخفف عني ولا يروح إلا ليلة الاثنين في كل الأيام والليالي قلت وكيف ذلك قال ولد في تلك الليلة محمد صلى الله عليه وسلم فجاءتني أميمة فبشرتني بولادته آمنة إياه ففرحت به وأعتقت وليدة لي فرحا به فأثابني الله بذلك أن رفع عني العذاب في كل ليلة اثنين وقال عبد الواحد بن زيد خرجت حاجا فصحبني رجل كان لا يقوم ولا يقعد ولا يتحرك ولا يسكن إلا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال أخبرك عن ذلك خرجت أول مرة إلى مكة ومعي أبي فلما انصرفنا نمت في بعض المنازل فبينما أنا نائم إذ أتاني آت فقال لي قم فقد أمات الله أباك وسود وجهه قال فقمت مذعورا فكشفت الثوب عن وجهه فإذا هو ميت أسود الوجه فداخلني من ذلك رعب فبينما أنا في ذلك الغم إذ غلبتني عيني فنمت فإذا على رأس أبي أربعة سودان معهم أعمدة حديد إذ أقبل رجل حسن الوجه بين ثوبين أخضرين فقال لهم تنحوا فمسح وجهه بيده ثم أتاني فقال قم فقد بيض الله وجه أبيك فقلت له من أنت بأبي أنت وأمي فقال أنا محمد قال فقمت فكشفت الثوب عن وجه أبي فإذا هو أبيض فما تركت الصلاة بعد ذلك عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عمر بن عبد العزيز قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما جالسان عنده فسلمت وجلست فبينما أنا جالس إذ أتى بعلي ومعاوية فأدخلا بيتا وأجيف عليهما الباب وأنا أنظر فما كان بأسرع من أن خرج علي رضي الله عنه وهو يقول قضى لي ورب الكعبة وما كان بأسرع من أن خرج معاوية على أثره وهو يقول غفر لي ورب الكعبة واستيقظ ابن عباس رضي الله عنهما مرة من نومه فاسترجع وقال قتل الحسين والله وكان ذلك قبل قتله فأنكره أصحابه فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زجاجة من دم فقال ألا تعلم ما صنعت أمتي بعدي قتلوا بني الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعهما إلى الله تعالى فجاء الخبر بعد أربعة وعشرين يوما بقتله في اليوم الذي رآه ورؤى الصديق رضي الله عنه فقيل له إنك كنت تقول أبدا في لسانك هذا أوردني الموارد فماذا فعل الله بك قال قلت به لا إله إلا الله فأوردني الجنة
بيان منامات المشايخ رحمة الله عليهم أجمعين
قال بعض المشايخ رأيت متمما الدورقي في المنام فقلت يا سيدي ما فعل الله بك فقال دير بي في الجنان فقيل لي يا متمم هل استحسنت فيها شيئا قلت لا يا سيدي فقال لو استحسنت منها شيئا لوكلتك إليه ولم أوصلك إلى ورؤى يوسف بن الحسين في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي قيل بماذا قال ما خلطت جدا بهزل وعن منصور بن إسماعيل قال رأيت عبد الله بن البزار في النوم فقلت ما فعل الله بك قال أوقفني بين يديه فغفر لي كل ذنب أقررت به إلا ذنبا واحدا فإني استحييت أن أقر به فاوقفني في العرق حتى سقط لحم وجهي فقلت
_________
(1) حديث ابن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا 2 رواه مسلم وقد تقدم(4/507)
ما كان ذلك لذنب قال نظرت إلى غلام جميل فاستحسنته فاستحييت من الله أن أذكره وقال أبو جعفر الصيدلاني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وحوله جماعة من الفقراء فبينما نحن كذلك إذ انشقت السماء فنزل ملكان أحدهما بيده طشت وبيد الآخر إبريق فوضع الطشت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل يده ثم أمر حتى غسلوا ثم وضع الطشت بين يدي فقال أحدهما للآخر لا تصب على يده فإنه ليس منهم فقلت يا رسول الله أليس قد روى عنك أنك قلت المرء مع من أحب قال بلى قلت يا رسول الله فإني أحبك وأحب هؤلاء الفقراء فقال صلى الله عليه وسلم صب على يده فإنه منهم وقال الجنيد رأيت في المنام كأني أتكلم على الناس فوقف على ملك فقال أقرب ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى ماذا فقلت عمل خفي بميزان وفي قولي الملك وهو يقول كلام موفق والله ورؤى مجمع في النوم فقيل له كيف رأيت الأمر فقال رأيت الزاهدين في الدنيا ذهبوا بخير الدنيا والآخرة وقال رجل من أهل الشام للعلاء بن زياد رأيتك في النوم كأنك في الجنة فنزل عن مجلسه وأقبل عليه ثم قال لعل الشيطان أراد أمرا فعصمت منه فأشخص رجلا يقتلني وقال محمد بن واسع الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره وقال صالح بن بشير رأيت عطاء السلمي في النوم فقلت له رحمك الله لقد كنت طويل الحزن في الدنيا قال أما والله لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحا دائما فقلت في أي الدرجات أنت فقال مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وسئل زرارة بن أبي أوفى في المنام أي الأعمال أفضل عندكم فقال الرضا وقصر الأمل وقال يزيد بن مذعور رأيت الأوزاعي في المنام فقلت يا أبا عمرو دلني على عمل أتقرب به إلى الله تعالى قال ما رأيت هناك درجة أرفع من درجة العلماء ثم درجة المحزونين قال وكان يزيد شيخا كبيرا فلم يزل يبكي حتى أظلمت عيناه وقال ابن عيينة رأيت أخي في المنام فقلت يا أخي ما فعل الله بك فقال كل ذنب استغفرت منه غفر لي وما لم استغفر منه لم يغفر لي وقال على الطلحي رأيت في المنام امرأة لا تشبه نساء الدنيا فقلت من أنت فقالت حوراء فقلت زوجيني نفسك قالت اخطبني إلى سيدي وأمهرني قلت وما مهرك قالت حبس نفسك عن آفاتها وقال إبراهيم بن إسحق الحربي رأيت زبيدة في المنام فقلت ما فعل الله بك قالت غفر لي فقلت لها بما أنفقت في طريق مكة قالت أما النفقات التي أنفقتها رجعت أجورها إلى أربابها وغفر لي ببنتي ولما مات سفيان الثوري رؤى في المنام فقيل له ما فعل بك قال وضعت أول قدمي على الصراط والثاني في الجنة وقال أحمد بن أبي الحواري رأيت فيما يرى النائم جارية ما رأيت أحسن منها وكان يتلألأ وجهها نورا فقلت لها مماذا ضوء وجهك قالت تذكر تلك الليلة التي بكيت فيها قلت نعم قالت أخذت دمعك فمسحت به وجهي فمن ثم ضوء وجهي كما ترى وقال الكتاني رأيت الجنيد في المنام فقلت له ما فعل الله بك قال طاحت تلك الإشارات وذهبت تلك العبارات وما حصلنا إلا على ركعتين كنا نصليهما في الليل ورؤيت زبيدة في المنام فقيل لها ما فعل الله بك قالت غفر لي بهذه الكلمات الأربع لا إله إلا الله أفني بها عمري لا إله إلا الله أدخل بها قبري لا إله إلا الله أخلو بها وحدي لا إله إلا الله ألقى بها ربي عز وجل وقال يا بشر أما استحييب منى كنت تخافنى كل ذلك الخوف ورؤى أبو سليمان في النوم فقيل له ما فعل الله بك قال رحمنى ورؤى بشر في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال رحمني وما كان شيء أضر على من إشارات القوم إلى وقال أبو بكر الكتاني رأيت في النوم شابا لم أر أحسن منه فقلت له من أنت قال التقوى قلت فأين تسكن قال كل قلب حزين ثم التفت فإذا امرأة سوداء فقلت من أنت قالت أنا السقم قلت فأين(4/508)
تسكنين قالت كل قلب فرح مرح قال فانتبهت وتعاهدت أن لا أضحك إلا غلبة وقال أبو سعيد الخراز رأيت في المنام كأن إبليس وثب على فأخذت العصا لأضربه فلم يفزع منها فهتف بي هاتف إن هذا لا يخاف من هذه وإنما يخاف من نور يكون في القلب وقال المسوحى رأيت إبليس في النوم يمشى عريانا فقلت ألا تستحي من الناس فقال بالله هؤلاء ناس لو كانوا من الناس ما كنت ألعب بهم طرفي النهار كما يتلاعب الصبيان بالكرة بل الناس قوم غير هؤلاء قد أسقموا جسمي وأشار بيده إلى أصحابنا الصوفية وقال أبو سعيد الخراز كنت في دمشق فرأيت في المنام كان النبي صلى الله عليه وسلم جاءني متكئا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فجاء فوقف على وأنا أقول شيئا من الأصوات وأدق في صدري فقال شر هذا أكثر من 2 خيره وعن ابن عيينة قال رأيت سفيان الثوري في النوم كأنه في الجنة يطير من شجرة إلى شجرة يقول لمثل هذا فليعمل العاملون فقلت له أوصني قال أقلل من معرفة الناس وروى أبو حاتم الرازي عن قبيصة بن عقبة قال رأيت سفيان الثوري فقلت ما فعل الله بك فقال نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد فقد كنت قواما إذا أظلم الدجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد فدونك فاختر أي قصر أردته ... وزرني فإني منك غير بعيد
ورؤي الشبلي بعد موته بثلاثة أيام فقيل له ما فعل الله بك قال ناقشني حتى أيست فلما رأى يأسي تغمدني برحمته ورؤى بني عامر بعد موته في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي وجعلني حجة على المحبين ورؤى الثوري في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال رحمني فقيل له ما حال عبد الله بن المبارك فقال هو ممن يلج على ربه في كل يوم مرتين ورؤى بعضهم فسئل عن حاله فقال حاسبونا فدققوا ثم منوا فأعتقوا ورؤى مالك بن أنس فقيل ما فعل الله بك قال غفر لي بكلمة كان يقولها عثمان بن عفان رضي الله عنه عند رؤية الجنازة سبحان الحي الذي لا يموت ورؤى في الليلة التي مات فيها الحسن البصري كأن أبواب السماء مفتحة وكأن مناديا ينادي ألا إن الحسن البصري قدم على الله وهو عنه راض ورؤى الجاحظ فقيل له ما فعل الله بك فقال ولا تكتب بخطك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
ورأى الجنيد إبليس في المنام عريانا فقال ألا تستحي من الناس فقال وهؤلاء ناس الناس أقوام في مسجد الشونيزيه قد أضنوا جسدي وأحرقوا كبدي قال الجنيد فلما انتبهت غدوت إلى المسجد فرأيت جماعة قد وضعوا رءوسهم على ركبهم يتفكرون فلما رأوني قالوا لا يغرنك حديث الخبيث ورؤى النصر أباذي بمكة بعد وفاته في النوم فقيل له ما فعل الله بك قال عوتبت عتاب الأشراف ثم نوديت يا أبا القاسم بعد الاتصال انفصال فقلت لا يا ذا الجلال فما وضعت في اللحد حتى لحقت بربي ورأى عتبة الغلام حوراء في المنام على صورة حسنة فقالت يا عتبة أنا لك عاشقة فانظر لا تعمل من الأعمال شيئا فيحال بيني وبينك فقال عتبة طلقت الدنيا ثلاثا لا رجعة لي عليها حتى ألقاك وقيل رأى أيوب السختياني جنازة عاص فدخل الدهليز كيلا يصلي عليها فرأى الميت بعضهم في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي وقال قل لأيوب قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وقال بعضهم رأيت في الليلة التي مات فيها(4/509)
داود الطائي نورا وملائكة نزولا وملائكة صعودا فقلت أي ليلة هذه فقالوا ليلة مات فيها داود الطائي وقد زخرفت الجنة لقدوم روحه
وقال أبو سعيد الشحام رأيت سهلا الصعلوكي في المنام فقلت أيها الشيخ قال دع التشييخ قلت تلك الأحوال التي شاهدتها فقال لم تغن عنا فقلت ما فعل الله بك قال غفر لي بمسائل كان يسأل عنها العجز
وقال أبو بكر الرشيدي رأيت محمدا الطوسي المعلم في النوم فقال لي قل لأبي سعيد الصفار المؤدب
وكنا على أن لا نحول عن الهوى ... فقد وحياة الحب حلتم وما حلنا
قال فانتبهت فذكرت ذلك له فقال كنت أزور قبره كل جمعة فلم أزره هذه الجمعة
وقال ابن راشد رأيت ابن المبارك في النوم بعد موته فقلت أليس قد مت قال بلى قلت فما صنع الله بك قال غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب قلت فسفيان الثوري قال بخ بخ ذاك من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الآية وقال الربيع بن سليمان رأيت الشافعي رحمة الله عليه بعد وفاته في المنام فقلت يا أبا عبد الله ما صنع الله بك قال أجلسني على كرسي من ذهب ونثر على اللؤلؤ الرطب
ورأى رجل من أصحاب الحسن البصري ليلة مات الحسن كأن مناديا ينادي إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه
وقال أبو يعقوب القاري الدقيقي رأيت في منامي رجلا آدم طوالا والناس يتبعونه فقلت من هذا قالوا أويس القرني فأتيته فقلت أوصني رحمك الله فكلح في وجهي فقلت مسترشدا فأرشدني أرشدك الله فأقبل على وقال اتبع رحمة ربك عند محبته واحذر نقمته عند معصيته ولا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك ثم ولى وتركني
وقال أبو بكر بن أبي مريم رأيت ورقاء بن بشر الحضرمي فقلت ما فعلت يا ورقاء قال البكاء من خشية الله
وقال يزيد بن نعامة هلكت جارية في الطاعون الجارف فرآها أبوها في المنام فقال لها يا بنية أخبريني عن الآخرة قالت يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون والله لتسبيحه أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في فسحة عمل أحب إلى من الدنيا وما فيها وقال بعض أصحاب عتبة الغلام رأيت عتبة في المنام فقلت ما صنع الله بك قال دخلت الجنة بتلك الدعوة المكتوبة في بيتك قال فلما أصبحت جئت إلى بيتي فإذا خط عتبة الغلام في حائط البيت يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين ويا مقيل عثرات العاثرين ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين واجعلنا مع الأحياء المرزوقين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين وقال موسى بن حماد رأيت سفيان الثوري في الجنة يطير من نخلة إلى نخلة ومن شجرة إلى شجرة فقلت يا أبا عبد الله بم نلت هذا فقال بالورع قلت فما بال على بن عاصم قال ذاك لا يكاد يرى إلا كما يرى الكوكب
ورأى رجل من التابعين النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال يا رسول الله عظني قال نعم من لم يتفقد النقصان فهو في نقصان ومن كان في نقصان فالموت خير له
وقال الشافعي رحمة الله عليه دهمني في هذه الأيام أمر أمضني وآلمني ولم يطلع عليه غير الله عز وجل فلما كان البارحة أتاني آت في منامي فقال لي يا محمد بن إدريس قل اللهم إني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا ولا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني ولا أتقي إلا ما وقيتني اللهم فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية فلما أصبحت أعدت ذلك فلما ترحل النهار أعطاني الله عز وجل طلبتي وسهل لي الخلاص مما كنت فيه فعليكم بهذه الدعوات لا تغفلوا عنها
فهذه جملة من المكاشفات تدل على أحوال الموتى وعلى الأعمال المقربة إلى(4/510)
الله زلفى فلنذكر بعدها ما بين يدى الموتى من ابتداء نفخة الصور إلى آخر القرار إما فى الجنة أو فى النار والحمد لله حمد الشاكرين الشطر الثانى
من كتاب ذكر الموت فى أحوال الميت من وقت نفخة الصور إلى آخر الاستقرار فى الجنة أو فى النار وتفصيل ما بين يديه من الأهوال والأخطار
وفيه بيان نفخة الصور
وصفة أرض المحشر وأهله
وصفة طول يوم القيامة
وصفة يوم القيامة ودواهيها وأساميها
وصفة المساءلة عن الذنوب
وصفة الميزان وصفة الخصماء ورد المظالم
وصفة الصراط
وصفة الشفاعة
وصفة الحوض
وصفة جهنم وأهوالها وأنكالها وحياتها وعقاربها
وصفة الجنة وأصناف نعيمها وعدد الجنان وأبوابها وغرفها وحيطانها وأنهارها وأشجارها ولباس أهلها وفرشهم وسررهم وصفة طعامهم وصفة الحور العين والولدان
وصفة النظر إلى وجه الله تعالى
وباب في سعة رحمة الله تعالى وبه ختم الكتاب إن شاء الله تعالى صفة نفخة الصور
قد عرفت فيما سبق أحوال الميت فى سكرات الموت وخطره فى خوف العاقبة ثم مقاساته لظلمة الْقَبْرِ وَدِيدَانِهِ ثُمَّ لِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَسُؤَالِهِمَا ثُمَّ لِعَذَابِ الْقَبْرِ وَخَطَرِهِ إِنْ كَانَ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَخْطَارُ الَّتِي بَيْنَ يديه من نفخ الصور وبعث يَوْمَ النُّشُورِ وَالْعَرْضِ عَلَى الْجَبَّارِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَنَصْبِ الْمِيزَانِ لِمَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ ثُمَّ جواز الصراط مع دقته وحدته ثُمَّ انْتِظَارِ النِّدَاءِ عِنْدَ فَصْلِ الْقَضَاءِ إِمَّا بِالْإِسْعَادِ وَإِمَّا بِالْإِشْقَاءِ فَهَذِهِ أَحْوَالٌ وَأَهْوَالٌ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مَعْرِفَتِهَا ثُمَّ الْإِيمَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَالتَّصْدِيقِ ثُمَّ تَطْوِيلِ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ لِيَنْبَعِثَ مِنْ قَلْبِكَ دَوَاعِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ صَمِيمَ قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ سُوَيْدَاءِ أَفْئِدَتِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ شِدَّةُ تَشَمُّرِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِحَرِّ الصَّيْفِ وَبَرْدِ الشِّتَاءِ وَتَهَاوُنِهِمْ بِحَرِّ جَهَنَّمَ وَزَمْهَرِيرِهَا مَعَ مَا تَكْتَنِفُهُ مِنَ الْمَصَاعِبِ وَالْأَهْوَالِ بَلْ إِذَا سُئِلُوا عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ ثُمَّ غَفَلَتْ عَنْهُ قُلُوبُهُمْ وَمَنْ أُخْبِرَ بِأَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ مسموم فقال لصاحبه الذى أبصر صدقت ثم مد يديه لِتَنَاوُلِهِ كَانَ مُصَدِّقًا بِلِسَانِهِ وَمُكَذِّبًا بِعَمَلِهِ وَتَكْذِيبُ العمل أبلغ من تكذيب اللسان
وقد قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تعالى شتمنى ابن آدم وما ينبغى له أن يشتمنى وكذبنى وما ينبغى له أن يكذبنى أما شتمه إياى فيقول إن لى ولدا وأما تكذيبه فقوله لن يعيدنى كما بدأنى (1) وإنما فتور البواطن عن قوة اليقين والتصديق بالبعث والنشور لقلة الفهم فى هذا العالم لأمثال تلك الأمور ولو لم يشاهد الانسان توالد الحيوانات وقيل له إن صانعا يصنع من النطفة القدرة مثل هذا الآدمى المصور العاقل المتكلم المتصرف لاشتد نفور باطنه عن التصديق به ولذلك قال الله تعالى {أو لم يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هو خصيم مبين} وقال تعالى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} ففى خلق الآدمى مع كثرة عجائبه واختلاف تركيب أعضائه أعاجيب تزيد على الأعاجيب فى بعثه وإعادته فكيف ينكر ذلك من قدرة الله تعالى وحكمته من يشاهد
_________
(1) حديث قال الله تعالى شمتنى ابن آدم وما ينبغى له أن يشتمنى وكذبنى ما ينبغى له أن يكذبنى الحديث أخرجه البخارى من حديث أبى هريرة(4/511)
ذلك فى صنعته وقدرته فإن كان فى إيمانك ضعف فقو الإيمان بالنظر فى النشأة الأولى فإن الثانية مثلها وأسهل منها وإن كنت قوى الإيمان بها فأشعر قلبك تلك المخاوف والأخطار وأكثر فيها التفكر والاعتبار لتسلب عن قلبك الراحة والقرار فتشتغل بالتشمر للعرض على الجبار وتفكر أولا فيما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور فإنها صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رءوس الموتى فيثورون دفعة واحدة
فتوهم نفسك وقد وثبت متغيرا وجهك مغبرا بدنك من فرقك إلى قدمك من تراب قَبْرِكَ مَبْهُوتًا مِنْ شِدَّةِ الصَّعْقَةِ شَاخِصَ الْعَيْنِ نَحْوَ النِّدَاءِ وَقَدْ ثَارَ الْخَلْقُ ثَوْرَةً وَاحِدَةً من القبور التى طال فيها بلاؤهم وقد أزعجهم الفزع والرعب مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَشِدَّةِ الِانْتِظَارِ لِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون وقال تعالى {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} وقال تعالى {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} فلو لم يكن بين يدي الموتى إلا هول تلك النفخة لكان ذلك جديرا بأن يتقى فإنها نفخة وصيحة يصعق بها من في السموات والأرض يعنى يموتون بها إلا من شاء الله وهو بعض الملائكة
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر فينفخ (1)
قال مقاتل الصور هو القرن وذلك أن إسرافيل عليه السلام واضع فاه على القرن كهيئة البوق ودائرة رأس القرن كعرض السموات والأرض وهو شاخص بصره نحو العرش ينتظر متى يؤمر فينفخ النفخة الأولى فإذا نفخ صعق من في السموات والأرض أى مات كل حيوان من شدة الفزع إلا من شاء الله وهو جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت
ثم يأمر ملك الموت أن يقبض روح جبريل ثم روح ميكائيل ثم روح إسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت
ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى فى البرزخ أربعين سنة ثم يحيى الله تعالى إسرافيل فيأمره أن ينفخ الثانية فذلك قوله تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون على أرجلهم ينظرون إلى البعث وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعث إلى بعث إلى صاحب الصور فأهوى به إلى فيه وقدم رجلا وأخر أخرى ينتظر متى يؤمر بالنفخ ألا فاتقوا النفخة (2) فتفكر فى الخلائق وذلهم وانكسارهم واستكانتهم عند الانبعاث خوفا من هذه الصعقة وانتظارا لِمَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ وَأَنْتَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُنْكَسِرٌ كَانْكِسَارِهِمْ مُتَحَيِّرٌ كَتَحَيُّرِهِمْ
بل إن كنت فى الدنيا من المترفهين والأغنياء المتنعمين فملوك الأرض فى ذلك اليوم أذل أهل أرض الجمع وأصغرهم وأحقرهم يوطئون بالأقدام مثل الذرة وعند ذلك تقبل الوحوش من البرارى والجبال منكسة رءوسها مختلطة بالخلائق بعد توحشها ذليلة ليوم
_________
(1) حديث كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى الجبهة الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى سعيد وقال حسن ورواه ابن ماجه بلفظ إن صاحبى القرن بأيديهما أو فى أيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران وفى رواية ابن ماجة الحجاج بن أرطاة مختلف فيه
(2) حديث حين بعث إلى بعث إلى صاحب الصور فأهوى به إلى فيه وقدم رجلا وأخر أخرى الحديث لم أجده هكذا بل قد ورد أن إسرافيل من حين ابتداء الخلق وهو كذلك كما رواه البخارى فى التاريخ وأبو الشيخ فى كتاب العظمة من حديث أبى هريرة أن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر قال البخارى ولم يصح وفى رواية لأبى الشيخ ما طرف صاحب الصور مذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان وإسنادها جيد(4/512)
النشور من غير خطيئة تدنست بها ولكن حشرتهم شدة الصعقة وهول النفخة وشغلهم ذلك عن الهرب من الخلق والتوحش منهم وذلك قوله تعالى {وإذا الوحوش حشرت} ثم أقبلت الشياطين المردة بعد تمردها وعتوها وأذعنت خاشعة من هيبة العرض على الله تعالى تصديقا لقوله تعالى {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} فتفكر فى حالك وحال قلبك هنالك صفة أرض المحشر وأهله
ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلا إلى أرض المحشر أرض بيضاء قاع صفصف لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولا ترى عليها ربوة يختفى الإنسان وراءها ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها بل هو صعيد واحد بسيط لا تفاوت فيه يساقون إليه زمرا فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إذ ساقهم بالراجفة تتبعها الرادفة والراجفة هى النفخة الأولى والرادفة هى النفخة الثانية وحقيق لتلك القلوب أن تكون يومئذ واجفة ولتلك الأبصار أن تكون خاشعة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي ليس فيها معلم لأحد (1)
قال الراوى والعفرة بياض ليس بالناصع والنقى هو النقى عن القشر والنخالة ومعلم أى لا بناء يستر ولا تفاوت يرد البصر
ولا تظنن أن تلك الأرض مثل أرض الدنيا بل لا تساويها إلا فى الاسم قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات
قال ابن عباس يزداد فيها وينقص وتذهب أشجارها وجبالها وأوديتها وما فيها وتمد مد الأديم العكاظى أرض بيضاء مثل الفضة لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة والسموات تذهب شمسها وقمرها ونجومها فانظر يا مسكين في هول ذلك اليوم وشدته فإنه إذا اجتمع الخلائق على هذا الصعيد تناثرت من فوقهم نجوم السماء وطمس الشمس والقمر وأظلمت الأرض لخمود سراجها فبينا هم كذلك إذ دارت السماء من فوق رءوسهم وانشقت مع غلظها وشدتها خمسمائة عام والملائكة قيام على حافاتها وأرجائها فيا هول صوت انشقاقها فى سمعك ويا هيبة ليوم تنشق فيه السماء مع صلابتها وشدتها ثم تنهار وتسيل كالفضة المذابة تخالطها صفرة فصارت وردة كالدهان وصارت السماء كالمهل وصارت الجبال كالعهن واشتبك الناس كالفراش المبثوث وهم حفاة عراة مشاة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان قالت سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم راوية الحديث قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض فقال شغل الناس عن ذلك بهم لكل امرىء يومئذ شأن يغنيه (2) فأعظم بيوم تنكشف فيه العورات ويؤمن فيه مع ذلك النظر والالتفات كيف وبعضهم يمشون على بطونهم ووجوههم فلا قدرة لهم على الالتفات إلى غيرهم قال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم فقال رجل يا رسول الله وكيف يمشون على
_________
(1) حديث يحشر الناس يوم القايمة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي ليس فيها معلم لأحد متفق عليه من حديث سهل ابن سعد وفصل البخارى قوله ليس فيها معلم لأحد فجعلها من قول سهل أو غيره وأدرجها مسلم فيه
(2) حديث يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان قالت سودة راوية الحديث واسوأتاه الحديث أخرجه الثعلبى والبغوى وهو فى الصحيحين من حديث عائشة وهى القائلة واسوأتاه ورواه الطبرانى فى الأوسط من حديث أم سلمة وهى القائلة واسوأتاه(4/513)
وجوههم قال الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم (1) فى طبع الآدمى إنكار كل ما لم يأنس به ولو لم يشاهد الإنسان الحية وهى تمشى على بطنها كالبرق الخاطف لأنكر تصور المشى على غير رجل والمشى بالرجل أيضا مستبعد عند من لم يشاهد ذلك فإياك أن تنكر شيئا من عجائب يوم القيامة لمخالفته قياس ما فى الدنيا فإنك لو لم تكن قد شاهدت عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكارا لها فأحضر فى قلبك صورتك وأنت واقف عاريا مكشوفا ذليلا مدحورا متحيرا مبهوتا منتظرا لما يجرى عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاوة وأعظم هذه الحال فإنها عظيمة صفة العرق
ثم تفكر فى ازدحام الخلائق واجتماعهم حتى ازدحم على الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع من ملك وجن وإنس وشيطان ووحش وسبع وطير فأشرقت عليهم الشمس وقد تضاعف حرها وتبدلت عما كانت عليه من خفة أمرها ثم أدنيت من رءوس العالمين كقاب قوسين فلم يبق على الأرض ظل إلا ظل رب العالمين
ولم يمكن من الاستظلال به إلا المقربون فمن بين مستظل بالعرش وبين مضح لحر الشمس قد صهرته بحرها واشتد كربه وغمه من وهجها ثم تدافعت الخلائق ودفع بعضهم بعضا لشدة الزحام واختلاف الأقدام وانضاف إليه شدة الخجلة والحياء من الافتضاح والاختزاء عند العرض على جبار السماء فاجتمع وهج الشمس وحر الأنفاس واحتراق القلوب بنار الحياء والخوف ففاض العرق من أصل كل شعرة حتى سال على صعيد القيامة ثم ارتفع على أبدانهم على قدر منازلهم عند الله فبعضهم بلغ العرق ركبتيه وبعضهم حقوية وبعضهم إلى شحمة أذنيه وبعضهم كاد يغيب فيه قال ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم فى رشحه إلى أنصاف أذنيه (2) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين باعا ويلجمهم ويبلغ أذقنهم (3) كذا رواه البخاري ومسلم في الصحيح وفى حديث آخر قياما شاخصة أبصارهم أربعين سنة إلى السماء فيلجمهم العرق من شدة الكرب (4) وقال عقبة بن عامر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس فمن الناس من يبلغ عرقه عقبه ومنهم من يبلغ نصف ساقه ومنهم من يبلغ ركبته ومنهم من يبلغ فخذه ومنهم من يبلغ خاصرته ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه العرق وضرب بيده على رأسه هكذا (5) فتأمل يا مسكين فى عرق أهل المحشر وشدة كربهم وفيهم من ينادى فيقول رب أرحنى من هذا الكرب والانتظار ولو إلى النار وكل ذلك ولم يلقوا بعد حسابا ولا عقابا فإنك واحد منهم ولا تدرى إلى أين يبلغ بك العرق
_________
(1) حديث أبى هريرة يحشر الناس يوم القيامة ركبانا ومشاة وعلى وجوههم الحديث رواه الترمذى وحسنة وفى الصحيحين من حديث أنس أن رجلاً قال يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه قال أليس الذى أمشاه على الرجلين فى الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة
(2) حديث ابن عمر يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم فى رشحه إلى أنصاف أذنيه متفق عليه
(3) حديث أبى هريرة يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين ذراعا الحديث أخرجاه فى الصحيحين كما ذكره المصنف
(4) حديث قياما شاخصة أبصارهم أربعين سنة إلى السماء يلجمهم العرق من شدة الكرب أخرجه ابن عدي من حديث ابن مسعود وفيه أبو طيبة عيسى بن سليمان الجرجاني ضعفه ابن معين وقال ابن عدي لا أظن أنه كان يتعمد الكذب لكن لعله تشبه عليه
(5) حديث عقبة بن عامر تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس فمنهم من يبلغ عرقه عقبه الحديث رواه أحمد وفيه ابن لهيعة(4/514)
واعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب فى سبيل الله من حج وجهاد وصيام وقيام وتردد فى قضاء حاجة مسلم وتحمل مشقة فى أمر بمعروف ونهي عن منكر فسيخرجه الحياء والخوف فى صعيد القيامة ويطول فيه الكرب ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرور لعلم أن تعب العرق فى تحمل مصاعب الطاعات أهون أمرا وأقصر زمانا من عرق الكرب والانتظار فى القيامة فإنه يوم عظيمة شدته طويلة مدته صفة طول يوم القيامة
يوم تقف فيه الخلائق شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم لا يكلمون ولا ينظر فى أمورهم يقفون ثلمائة عام لا يأكلون فيه أكله ولا يشربون فيه شربة ولا يجدون فيه روح نسيم قال كعب وقتادة يوم يقوم الناس لرب العلمين قال يقومون مقدار ثلثمائة عام بل قال عبد الله بن عمرو تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال كيف بكم إنه جمعكم الله كما تجمع النبل فى الكنانة خمسين ألف سنة ولا ينظر إليكم (1) وقال الحسن ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لا يأكلون فيها أكلة ولا يشربون فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أجوافهم جوعا انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها واشتد لفحها فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضا فى طلب من يكرم على مولاه ليشفع فى حقهم فلم يتعلقوا بنبي إلا دفعهم وقال دعونى نفسى نفسى شغلنى أمرى عن أمر غيرى واعتذر كل واحد بشدة غضب الله تعالى وقال قد غضب اليوم ربنا غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله حتى يشفع نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يؤذن له فيه لا يملكون الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا فتأمل فِي طُولِ هَذَا الْيَوْمِ وَشِدَّةِ الِانْتِظَارِ فِيهِ حتى يخف عليك انتظار الصبر عن المعاصى فى عمرك المختصر
واعلم أن من طال انتظاره فى الدنيا للموت لشدة مقاساته للصبر عن الشهوات فإنه يقصر انتظاره فى ذلك اليوم خاصة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن طول ذلك اليوم فقال والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا (2) فاجتهد أن تكون من أولئك المؤمنين فما دام يبقى لك نفس من عمرك فالأمر إليك والاستعداد بيديك فاعمل فى أيام قصار لأيام طوال تربح ربحا لا منتهى لسروره واستحقر عمرك بل عمر الدنيا وهو سبعة الآف سنة فإنك لو صبرت سبعة الآف سنة مثلا لتخلص من يوم مقداره خمسون ألفا لكان ربحك كثيرا وتعبك يسيرا صفة يوم القيامة ودواهيه وأساميه
فاستعد يا مسكين لهذا اليوم العظيم شأنه المديد زمانه القاهر سلطانه القريب أوانه يَوْمَ تَرَى السَّمَاءَ فِيهِ قَدِ انْفَطَرَتْ وَالْكَوَاكِبَ من هوله قد انتثرت وَالنُّجُومَ الزَّوَاهِرَ قَدِ انْكَدَرَتْ وَالشَّمْسَ قَدْ كُوِّرَتْ والجبال قد
_________
(1) حديث ابن عمر تلا هذه الآية يوم يقوم الناس لرب العالمين {ثم قال} كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل فى الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم قلت إنما هو عبد الله بن عمر ورواه الطبرانى فى الكبير وفيه عبد الرحمن بن ميسرة ولم يذكر له ابن أبى حاتم راويا غير ابن وهب ولهم غير عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمى أربعة هذا أحدهم مصرى والثلاثة الآخرون شاميون
(2) حديث سئل عن طول ذلك اليوم فقال والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا أخرجه أبويعلى والبيهقى فى الشعب من حديث أبي سعيد الخدري وفيه ابن لهيعة وقد رواه ابن وهب عنعمرو بن الحارث بدل ابن لهيعة وهو حسن ولأبى يعلى من حديث أبى هريرة بإسناد جيد يهون ذلك على المؤمن كتدلى الشمس للغروب إلى أن تغرب ورواه البيهقى فى الشعب إلى أن قال أظنه رفعه بلفظ إن الله ليخفف على من يشاء من عباده طوله كوقت صلاة مفروضة(4/515)
سُيِّرَتْ وَالْعِشَارَ قَدْ عُطِّلَتْ وَالْوُحُوشَ قَدْ حُشِرَتْ وَالْبِحَارَ قَدْ سُجِّرَتْ وَالنُّفُوسَ إِلَى الْأَبْدَانِ قَدْ زُوِّجَتْ وَالْجَحِيمَ قَدْ سُعِّرَتْ وَالْجَنَّةَ قَدْ أُزْلِفَتْ والجبال قد نسفت والأرض قد مدت يوم ترى الأرض قد زلزلت فيه زالزالها وأخرجت الأرض أثقالها يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم يوم تحمل الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهى يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية يوم تسير الجبال وترى الأرض بارزة يوم ترج الأرض فيه رجا وتبس الجبال بسا فكانت هباء منبثا يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش يَوْمَ تَذْهَلُ فِيهِ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شديد يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار يوم تنسف فيه الجبال نسفا فتترك قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يوم ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب يوم تنشق فيه السماء فتكون وردة كالدهان فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان يوم يمنع فيه العاصى من الكلام ولا يسئل فيه عن الأجرام بل يؤخذ بالنواصى والأقدام يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً يوم تعلم فيه كل نفس ما أحضرت وتشهد ما قدمت وأخرت يوم تخرس فيه الألسن وتنطق الجوارح يوم شيب ذكره سيد المرسلين إذ قال له الصديق رضي الله عنه أراك قد شبت يا رسول الله قال شيبتنى هود وأخواتها (1) وهى الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت فيا أيها القارىء العاجز إنما حظك من قراءتك أن تمجمج القرآن وتحرك به اللسان ولو كنت متفكرا فيما تقرؤه لكنت جديرا بأن تنشق مرارتك مما شاب منه شعر سيد المرسلين وإذا قنعت بحركة اللسان فقد حرمت ثمرة القرآن فالقيامة أحد ما ذكر فيه وقد وصف الله بعض دواهيها وأكثر من أساميها لنقف بكثرة أساميها على كثرة معانيها فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي تَكْرِيرَ الْأَسَامِي وَالْأَلْقَابِ بَلِ الْغَرَضُ تَنْبِيهُ أُولِي الْأَلْبَابِ فَتَحْتَ كُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ سِرٌّ وَفِي كُلِّ نَعْتٍ مِنْ نُعُوتِهَا مَعْنًى فَاحْرِصْ عَلَى مَعْرِفَةِ معانيها
ونحن الآن نجمع لك أساميها وهى يوم القيامة ويوم الحسرة ويوم الندامة ويوم المحاسبة ويوم المساءلة ويوم المسابقة ويوم المناقشة ويوم المنافسة ويوم الزلزلة ويوم الدمدمة ويوم الصاعقة ويوم الواقعة ويوم القارعة ويوم الراجفة ويوم الرادفة ويوم الغاشية ويوم الداهية ويوم الآزفة ويوم الحاقة ويوم الطامة ويوم الصاخة ويوم التلاق ويوم الفراق ويوم المساق ويوم القصاص ويوم التناد ويوم الحساب ويوم المآب ويوم العذاب ويوم الفرار ويوم القرار ويوم اللقاء ويوم البقاء ويوم القضاء ويوم الجزاء ويوم البلاء ويوم البكاء ويوم الحشر ويوم الوعيد ويوم العرض ويوم الوزن ويوم الحق ويوم الحكم ويوم الفصل ويوم الجمع ويوم البعث ويوم الفتح ويوم الخزى ويوم عظيم ويوم عقيم ويوم عسير ويوم الدين ويوم اليقين ويوم النشور ويوم المصير ويوم النفخة ويوم الصيحة ويوم الرجفة ويوم الرجة ويوم الزجرة ويوم السكرة ويوم الفزع ويوم المنتهى ويوم الجزع ويوم المأوى ويوم الميقات ويوم الميعاذ ويوم المرصاد ويوم القلق ويوم العرق ويوم الافتقار ويوم الانكار ويوم الانتشار ويوم الانشقاق ويوم الوقوف ويوم الخروج ويوم الخلود ويوم التغابن ويوم عبوس ويوم معلوم ويوم الساعة ويوم مشهود ويوم لا ريب فيه ويوم تبلى فيه السرائر وَيَوْمٌ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم
_________
(1) حديث شيبتنى هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت أخرجه الترمذى وحسنه والحاكم وصححه وقد تقدم(4/516)
لا يغنى مولى عن مولى شيئا ويوم لا تملك نفس لنفس شيئا ويوم يدعون إلى نار جهنم دعا ويوم يسحبون فى النار على وجوههم ويوم تقلب وجوههم فى النار ويوم لا يجزى والد عن ولده ويوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ويوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون يوم لا مرد له من الله يوم هم بارزون ويوم هم على النار يفتنون يوم لا ينفع مال ولا بنون يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار
يوم ترد فيه المعاذير وتبلى السرائر وتظهر الضمائر وتكشف الأستار
يوم تخشع فيه الأبصار وتسكن الأصوات ويقل فيه الالتفات وتبرز الخفيات وتظهر الخطيئات يوم يساق العباد ومعهم الأشهاد ويشيب الصغير ويسكر الكبير فيومئذ وضعت الموازين ونشرت الدواوين وبرزت الجحيم وأغلى الحميم وزفرت النار ويئس الكفار وسعرت النيران وتغيرت الألوان وخرس اللسان ونطقت جوارح الإنسان
فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم حيث أغلقت الأبواب وأرخيت الستور واستترت عن الخلائق فقارفت الفجور فماذا تفعل وقد شهدت عليك جوارحك فالويل كل الويل لنا معشر الغافلين يُرْسِلُ اللَّهُ لَنَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَيُنَزِّلُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ الْمُبِينَ وَيُخْبِرُنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَنْ نُعُوتِ يَوْمِ الدِّينِ ثُمَّ يُعَرِّفُنَا غَفْلَتَنَا وَيَقُولُ اقْتَرَبَ الناس حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وهم يلعبون لاهية قلوبهم ثُمَّ يُعَرِّفُنَا قُرْبَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشق القمر إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ثُمَّ يَكُونُ أَحْسَنُ أَحْوَالِنَا أَنَّ نَتَّخِذَ دِرَاسَةَ هَذَا الْقُرْآنِ عَمَلًا فَلَا نَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ وَلَا نَنْظُرَ فِي كَثْرَةِ أَوْصَافِ هَذَا الْيَوْمِ وَأَسَامِيهِ وَلَا نَسْتَعِدَّ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ دَوَاهِيهِ
فَنَعُوذُ بِاللَّهِ من هذه الغفلة إن لم يداركنا الله بواسع رحمته صفة المساءلة
ثُمَّ تَفَكَّرْ يَا مِسْكِينُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِيمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْكَ مِنَ السُّؤَالِ شِفَاهًا مِنْ غير ترجمان فتسئل عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ فَبَيْنَا أَنْتَ فِي كُرَبِ الْقِيَامَةِ وَعَرَقِهَا وَشَدَّةِ عَظَائِمِهَا إِذْ نزلت ملائكة من رجاء السماء بأجسام عظام وأشخاص ضخام غلاظ شداد أمروا أن يأخذوا بنواصى المجرمين إلى موقف العرض على الجبار قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لله عز وجل ملكاً ما بين شفرى عينيه مسيرة مائة عام (1) فما ظنك بنفسك إذا شاهدت مثلا هؤلاء الملائكة أرسلوا إليك ليأخذوك إلى مقام العرض وتراهم على عظم أشخاصهم منكسرين لشدة اليوم مستشعرين مما بدا من غضب الجبار على عباده وعند نزولهم لا يبقى نبى ولا صديق ولا صالح إلا ويخرون لأذقانهم خوفا من أن يكونوا هم المأخوذين فهذا حال المقربين فما ظنك بالعصاة المجرمين وعند ذلك يبادر اقوام من شدة الفزع فيقولون للملائكة أفيكم ربنا وذلك لعظم موكبهم وشدة هيبتهم فتفزع الملائكة من سؤالهم إجلالا لخالقهم عن أن يكون فيهم فنادوا بأصواتهم منزهين لمليكهم عما توهمه أهل الأرض وقالوا سبحان ربنا ما هو فينا ولكنه آت من بعد وعند ذلك تقوم الملائكة صفا محدقين بالخلائق من الجوانب وعلى جميعهم شعار الذل والخضوع وهيئة الخوف والمهابة لشدة اليوم
وعند ذلك يصدق الله تعالى قوله {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} وقوله {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} فَيَبْدَأُ سُبْحَانَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فيقول}
_________
(1) حديث إن لله عز وجل ملكا ما بين شفرى عينيه مسيرة مائة عام لم أره بهذا اللفظ(4/517)
{مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أنت علام الغيوب} فَيَا لَشِدَّةِ يَوْمٍ تَذْهَلُ فِيهِ عُقُولُ الْأَنْبِيَاءِ وتنمحى علومهم من شدة الهيبة إذ يقال لهم ما أجبتم وقد أرسلتم إلى الخلائق وكانوا قد علموا فتدهش عقولهم فلا يدرون بماذا يجيبون فيقولون من شدة الهيبة لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
وهم فى ذلك الوقت صادقون إذ طارت منهم العقول وانمحت العلوم إلى أن يقويهم الله تعالى فيدعى نوح عليه السلام فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير
ويؤتى بعيسى عليه السلام فيقول الله تعالى له {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فيبقى متشحطا تحت هيبة هذا السؤال سنين فيالعظم يوم تقام فيه السياسة على الأنبياء بمثل هذا السؤال ثم تقبل الملائكة فينادون واحدا واحدا يا فلان بن فلانة هلم إلى موقف العرض وعند ذَلِكَ تَرْتَعِدُ الْفَرَائِصُ وَتَضْطَرِبُ الْجَوَارِحُ وَتُبْهَتُ الْعُقُولُ وَيَتَمَنَّى أَقْوَامٌ أَنْ يُذْهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَلَا تُعْرَضَ قَبَائِحُ أَعْمَالِهِمْ عَلَى الْجَبَّارِ وَلَا يَكْشِفَ سَتْرَهُمْ عَلَى مَلَأِ الْخَلَائِقِ
وَقَبْلَ الِابْتِدَاءِ بِالسُّؤَالِ يَظْهَرُ نُورُ الْعَرْشِ {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ ربها} وايقن كل عبد بإقبال الجبار لمساءلة العباد وظن كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَا يَرَاهُ أَحَدٌ سِوَاهُ وأنه المأخوذ بالأخذ والسؤال دون من عداه فيقول الجبار سبحانه وتعالى عند ذلك يا جبريل ائتى بالنار فيجىء لها جبريل ويقول يا جهنم أجيبي خالقك ومليكك فيصادفها جبريل على غيظها وغضبها فلم يلبث بعد ندائها أن ثارت وفارت وزفرت إلى الخلائق وشهقت وسمع الخلائق تغيظها وزفيرها وانتهضت خزنتها متوثبة إلى الخلائق غضبا على من عصى الله تعالى وخالف أمره فأخطر ببالك وأحضر فى قلبك حالة قلوب العباد وقد امتلأت فزعا ورعبا فتساقطوا جثيا على الركب وولوا مدبرين يوم ترى كل أمة جاثية وسقط بعضهم على الوجوه منكبين وينادى العصاة والظالمون بالويل والثبور وينادى الصديقون نفسى نفسى فبينما هم كذلك إذ زفرت الناس زفرتها الثانية فتضاعف خوفهم وتخاذلت قواهم وظنوا أنهم مأخوذون ثم زفرت الثالثة فتساقط الخلائق على وجوههم وشخصوا بأبصارهم ينظرون من طرف خفى خاشع وانهضمت عند ذلك قلوب الظالمين فبلغت الحناجر كاظمين وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين
وبعد ذلك اقبل الله تعالى على الرسل وقال ماذا أجبتم فإذا رأوا ما قد أقيم من السياسة على الأنبياء اشتد الفزع على العصاة ففر الوالد من ولده والأخ من أخيه والزوج من زوجته وبقى كل واحد منتظرا لأمره ثُمَّ يُؤْخَذُ وَاحِدٌ وَاحِدٌ فَيَسْأَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى شفاها عن قليل عمله وكثيره وعن سره وعلانيته وعن جميع جوارحه وأعضائه قال أبو هريرة قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون فى رؤية الشمس فى الظهيرة ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون فى رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فوالذي نفسي بيده لا تضارون فى رؤية ربكم فيلقى العبد فيقول له ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول العبد بلى فيقول أظننت أنك ملاقى فيقول لا فيقول فأنا أنساك كما نسيتنى (1) فتوهم نفسك يا مسكين وقد أخذت الملائكة بعضديك وأنت واقف بين يدي الله تعالى يسألك شفاها فيقول لك ألم أنعم عليك بالشباب ففيماذا أبليته ألم أمهل لك فى العمر ففيماذا أفنيته الم أرزقك المال فمن أين اكتسبته وفيماذا أنفقته ألم أكرمك بالعلم فماذا عملت فيما علمت فَكَيْفَ تَرَى حَيَاءَكَ وَخَجْلَتَكَ وَهُوَ يَعُدُّ عَلَيْكَ إِنْعَامَهُ وَمَعَاصِيَكَ وَأَيَادِيَهُ وَمُسَاوِيَكَ فَإِنْ أَنْكَرْتَ شَهِدَتْ عليك جوارحك قال أنس رضي الله عنه كنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث أبى هريرة هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون فى رؤية الشمس فى الظهيرة ليس دونها سحاب الحديث متفق عليه دون قوله فيلقى العبد الخ فانفرد بها مسلم(4/518)
فضحك ثم قال أتدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب الم تجرنى من الظلم قال يقول بلى قال فيقول فإنى لا أجيز على نفسى إلا شاهدا منى فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقى قال فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول لأعضائه بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل (1) فنعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله تعالى وعد المؤمن بأن يستر عليه ولا يطلع عليه غيره
سأل ابن عمر رجل فقال له كيف سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فى النجوى فقال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ثم يقول إنى سترتها عليك فى الدنيا وإنى أغفرها لك اليوم (2) وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة (3) فهذا إنما يرجى لعبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم واحتمل فى حق نفسه تقصيرهم ولم يحرك لسانه بذكر مساويهم ولم يذكرهم فى غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه فهذا جدير بأن يجازى بمثله فى القيامة وهب أنه قد ستره عن غيرك أليس قد قرع سمعك النداء إلى العرض فيكفيك تلك الروعة جزاء عن ذنوبك إذ يؤخذ بناصيتك فتقاد وفؤادك مضطرب ولبك طائر وفرائصك مرتعدة وجوارحك مضطربة ولونك متغير والعالم عليك من شدة الهول مظلم فقدر نفسك وأنت بهذه الصفة تتخطى الرقاب وتخرق الصفوف وتقاد كما تقاد الفرس المجنوب وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم فتوهم نفسك أنك فى أيدى الموكلين بك على هذه الصفة حتى انتهى بك إلى عرش الرحمن فرموك من أيديهم وناداك الله سبحانه وتعالى بعظيم كلامه يا ابن آدم ادن منى فدنوت منه بقلب خافق محزون وجل وطرف خاشع ذليل وفؤاد منكسر وَأُعْطِيتَ كِتَابَكَ الَّذِي لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا فَكَمْ مِنْ فَاحِشَةٍ نَسِيتَهَا فتذكرتها وَكَمْ مِنْ طَاعَةٍ غَفَلْتَ عَنْ آفَاتِهَا فَانْكَشَفَ لك عن مساويها فكم لك من خجل وجبن وكم لك من حصر وعجز فَلَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ قَدَمٍ تَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ تُجِيبُ وَبِأَيِّ قَلْبٍ تَعْقِلُ مَا تقول ثم تفكر فى عظم حياتك إذا ذكرك ذنوبك شفاها إذ يقول يا عبدى أما استحييت منى فبارزتنى بالقبيح واستحييت من خلقى فأظهرت لهم الجميل أكنت أهون عليك من سائر عبادي استخففت بنظرى إليك فلم تكترت واستعظمت نظر غيرى ألم أنعم عليك فماذا غرك بى اظننت أنى لا أراك وأنك لا تلقانى
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما منكم من أحد إلا ويسأله الله رب العالمين ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان (4) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقفن أحدكم بين يدي الله عز وجل ليس بينه وبينه حجاب فيقول له ألم أنعم عليك ألم أوتك ما لا فيقول بلى فيقول ألم أرسل إليك رسولا فيقول بلى ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة (5) وقاله ابن مسعود ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بى يا ابن آدم ما عملت فيما علمت يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين يا ابن آدم ألم أكن رقيبا على عينك وأنت تنظر بها إلى ما لا يحل
_________
(1) حديث أنس أتدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه الحديث رواه مسلم
(2) حديث سأل ابن عمر رجل فقال كيف سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فى النجوى الحديث رواه مسلم
(3) حديث من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة تقدم
(4) حديث ما منكم من أحد إلا ويسأله رب العالمين الحديث متفق عليه من حديث ابن عدي عن أبى حاتم بلفظ إلا سيكلمه الحديث
(5) حديث ليقفن أحدكم بين يدي الله تعالى ليس بينه وبينه ترجمان الحديث أخرجه البخارى من حديث عدي بن حاتم(4/519)
لك ألم أكن رقيبا على أذنيك وهكذا حتى عد سائر أعضائه وقال مجاهد لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وعن علمه ما عمل فيه وعن جسده فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيماذا أنفقه فأعظم يا مسكين بحيائك عند ذلك بخطرك فإنك بين أن يقال لك سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فعند ذلك يعظم سرورك وفرحك ويغبطك الأولون والآخرون وإما أن يقال للملائكة خذوا هذا العبد السوء فغلوه ثم الجحيم صلوه وعند ذلك لو بكت السموات والأرض عليك لكان ذلك جديرا بعظم مصيبتك وشدة حسرتك على ما فرطت فيه من طاعة الله وعلى ما بعت آخرتك من دنيا دنيئة لم تبق معك صفة الميزان
ثُمَّ لَا تَغْفُلْ عَنِ الْفِكْرِ فِي الْمِيزَانِ وتطاير الكتب إلى الأيمان والشمائل فإن الناس بعد السؤال ثلاث فرق {فرقة} ليس لهم حسنة فيخرج من النار عنق أسود فيلقطهم لقط الطير الحب وينطوى عليهم ويلقيهم فى النار فتبتلعهم النار وينادى عليهم شقاوة لا سعادة بعدها وقسم آخر لا سيئة لهم فينادى مناد ليقم الحمادون لله على كل حال فيقومون ويسرحون إلى الجنة ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل ثم بمن لم تشغله تجارة الدنيا ولا بيعها عن ذكر الله تعالى
وينادى عليهم سعادة لا شقاوة بعدها ويبقى قسم ثالث وهم الأكثرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وقد يخفى عليهم ولا يخفى على الله تعالى أن الغالب حسناتهم أو سيئاتهم ولكن يأبى الله إلا أن يعرفهم ذلك ليبين فضله عند العفو وعدله عند العقاب فتتطاير الصحف والكتب منطوية على الحسنات والسيئات وينصب الميزان وتشخص الأبصار إلى الكتب أتقع فى اليمين أو فى الشمال ثم إلى لسان الميزان أيميل إلى جانب السيئات أو إلى جانب الحسنات وهذه حالة هائلة تطيش فيها عقول الخلائق وروى الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه فى حجر عائشة رضي الله عنها فنعس فذكرت الآخرة فبكت حتى سال دمعها فنقط على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتبه فقال ما يبكيك يا عائشة قالت ذكرت الآخرة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة قال والذي نفسي بيده فى ثلاث مواطن فإن أحدا لا يذكر إلا نفسه إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل
وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ كتابه أو شماله وعند الصراط (1) وعن أنس يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتى الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقى فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
وعند خفه كفة الحسنات تقبل الزبانية وبأيديهم مقامع من حديد عليهم ثياب من نار فيأخذون نصيب النار إلى النار قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم القيامة إنه يوم ينادى الله تعالى فيه آدم عليه السلام فيقول له قم يا آدم فابعث بعث النار فيقول وكم بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فلما سمع الصحابة ذلك أبلسوا حتى ما أوضحوا بضاحكة فلما رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عند أصحابه قال اعملوا وأبشروا فوالذى نفس محمد بيده إن معكم لخليقتين ما كانتا مع أحد قط إلا كثرتاه مع من هلك من بنى آدم وبنى إبليس قالوا وما هما يا رسول الله قال يأجوج ومأجوج قال فسرى عن القوم فقال اعملوا وأبشروا فوالذى نفس
_________
(1) حديث الحسن أن عائشة ذكرت الآخرة فبكت الحديث وفيه فقال ما يبكيك يا عائشة قالت ذكرت الآخرة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة الحديث أخرجه أبو داود من رواية الحسن أنها ذكرت النار فبكت فقال ما يبكيك دون كون رأسه صلى الله عليه وسلم فى حجرها وأنه نعس وإسناده جيد(4/520)
محمد بيده ما أنتم فى الناس يوم القيامة إلا كالشامة فى جنب البعير أو كالرقمة فى ذراع الدابة (1) صفة الخصماء ورد المظالم
قد عرفت هول الميزان وخطره وأن الأعين شاخصة إلى لسان الميزان فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وما أدراك ماهيه نار حامية واعلم أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ خَطَرِ الْمِيزَانِ إِلَّا مَنْ حَاسَبَ فِي الدُّنْيَا نَفْسَهُ وَوَزَنَ فِيهَا بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته كما قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وَإِنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتُوبَ عَنْ كُلِّ معصية قبل الموت تَوْبَةً نَصُوحًا وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَرُدَّ الْمَظَالِمَ حَبَّةً بعد حبة ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسوء ظنه بقلبه وبطيب قلوبهم حَتَّى يَمُوتَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مَظْلَمَةٌ وَلَا فَرِيضَةٌ
فَهَذَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ رَدِّ الْمَظَالِمِ أَحَاطَ بِهِ خُصَمَاؤُهُ فَهَذَا يَأْخُذُ بِيَدِهِ وَهَذَا يَقْبِضُ عَلَى نَاصِيَتِهِ وهذا يتعلق بلببه هذا يَقُولُ ظَلَمْتَنِي وَهَذَا يَقُولُ شَتَمْتَنِي وَهَذَا يَقُولُ استهزأت بى وهذا يقول ذكرتنى فى الغيبة بما يسوءنى وَهَذَا يَقُولُ جَاوَرْتَنِي فَأَسَأْتَ جِوَارِي وَهَذَا يَقُولُ عاملتنى فغششتنى وهذا يقول بايعتنى فغبنتنى وأخفيت عنى عيب سلعتك وهذا يقول كذبت فى سعر متاعك وهذا يقول رأيتنى محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتنى وَهَذَا يَقُولُ وَجَدْتَنِي مَظْلُومًا وَكُنْتَ قَادِرًا عَلَى دفع الظلم عنى فداهنت الظالم وما راعيتنى فبينا أنت كذلك وقد انشب الخصماء فيك مخالبهم وأحكموا فى تلابيبك أيديهم وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق فى عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته فى مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم إِذْ قَرَعَ سَمْعَكَ نِدَاءُ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظلم اليوم فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار وتتذكر ما أنذرك الله تعالى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حَيْثُ قَالَ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء وأنذر الناس الآية
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك باعراض الناس ويناولك أَمْوَالَهُمْ وَمَا أَشَدَّ حَسَرَاتِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إذا وقف ربك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا فعند ذلك تؤخذ حسناتك التى تعبت فيها عمرك وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم
قال أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم هل تدرون من المفلس قلنا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا دينار ولا متاع قال المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتى وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار (2) فانظر إلى مصيبتك فى مثل هذا اليوم إذ ليس يسلم لك حسنة من آفات الرياء ومكايد الشيطان فإن سلمت حسنة واحدة فى كل مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل لعلمت أنه لا ينقضى عنك يوم إلا ويجرى
_________
(1) حديث يقول الله يا آدم قم فابعث بعث النار فيقول وكم بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون الحديث متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري ورواه البخارى من حديث أبي هريرة نحوه وقد تقدم
(2) حديث ابي هريرة هل تدرون من المفلس قالوا المفلس يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع الحديث تقدم(4/521)
على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفى جميع حسناتك فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشبهات والتقصير فى الطاعات وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء فقد روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين ينتطحان فقال يا أبا ذر أتدرى فيم ينتطحان قلت لا قال ولكن الله يدرى وسيقضى بينهما يوم القيامة (1)
وقال أبو هريرة في قوله عز وجل {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} أنه يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شىء فيبلغ من عدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كونى ترابا فذلك حين يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً فكنت أنت يا مسكين فى يوم ترى صحيفتك خالية عن حسنات طال فيها تعبك فتقول أين حسناتى فيقال نقلت إلى صحيفة خصمائك وترى صحيفتك مشحونة بسيئات طال فى الصبر عنها نصبك واشتد بسبب الكف عنها عناؤك فتقول يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط فيقال هذه سيئات القوم الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء وظلمتهم فى المبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارسة وسائر أصناف المعاملة
قال ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن سيرضى منكم بما هو دون ذلك بالمحقرات وهى الموبقات فاتقوا الظلم ما استطعتم فإن العبد ليجىء يوم القيامة بأمثال الجبال من الطاعات فيرى أنهن سينجينه فما يزال عبد يجىء فيقول رب إن فلانا ظلمنى بمظلمة فيقول امح من حسناته فما يزال كذلك حتى لا يبقى من حسناته شىء وإن مثل ذلك مثل سفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم فحطبوا فلم يلبثوا أن أعظموا نارهم وصنعوا ما أرادوا (2) وكذلك الذنوب ولما نزل قوله تعالى {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا فى الدنيا مع خواص الذنوب قال نعم ليكررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه (3) قال الزبير والله إن الأمر لشديد فأعظم بشدة يوم لا يسامح فيه بخطوة ولا يتجاوز فيه عن لطمة ولا عن كلمة حتى ينتقم للمظلوم من الظالم قال أنس سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يحشر الله العباد عراة غبرا بهما قال قلنا ما بهما قال ليس معهم شىء ثم يناديهم ربهم تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغى لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه مظلمة حتى أقتصه منه ولا لأحد من أهل النار إن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقتصه منه حتى اللطمة قلنا وكيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غبرا بهما فقال بالحسنات والسيئات (4) فاتقوا الله عباد الله ومظالم العباد بأخذ أموالهم
_________
(1) حديث يا أبا ذر أتدرى فيم ينتطحان قلت لا قال ولكن ربك يدرى وسيقضى بينهما أخرجه احمد من رواية أشياخ لم يسموا عن أبى ذر
(2) حديث ابن مسعود إن الشيطان قد أيس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن سيرضى منكم بما دون ذلك المحقرات وهى الموبقات الحديث وفى آخره وإن مثل ذلك مثل سفر نزلوا بفلاة الحديث رواه أحمد والبيهقى فى الشعب مقتصرا على آخره إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا الحديث واسناده جيد فأما أول الحديث فرواه مسلم مختصرا من حديث جابر إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب ولكن فى التحريش بينهم
(3) حديث لما نزل قوله تعالى {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا الحديث أخرجه أحمد واللفظ له والترمذى من حديث الزبير وقال حسن صحيح
(4) حديث أنس يحشر العباد عراة غبرا بهما قلنا ما بهما قال ليس معهم شىء الحديث قلت ليس من حديث أنس وإنما هو عبيد الله بن أنيس رواه أحمد بإسناد حسن وقال غرلا مكان غبرا(4/522)
والتعرض لأعراضهم وتضييق قلوبهم وإساءة الخلق فى معاشرتهم فإن ما بين العبد وبين الله خاصة فالمغفرة إليه أسرع ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال أرباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص ويسر ببعض الحسنات بينه وبين الله بكمال الإخلاص بحيث لا يطلع عليه إلا الله فعساه يقربه ذلك إلى الله تعالى فينال به لطفه الذى ادخره لأحبابه المؤمنين فى دفع مظالم العباد عنهم كما روى عن أنس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه فقال عمرا ما يضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمى قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذلى مظلمتى من أخى فقال الله تعالى أعط أخاك مظلمته قال يا رب لم يبق من حسناته شيء فقال الله تعالى للطالب كيف تصنع ولم يبق من حسناته شىء قال يا رب يتحمل عنى من أوزارى قال وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم قال فقال الله للطالب ارفع رأسك فانظر فى الجنان فرفع رأسه فقال يا رب أرى مدائن من فضة مرتفعة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأى صديق هذا أو لأى شهيد هذا قال لمن أعطانى الثمن قال يا رب ومن يملك ثمنه قال أنت تملكه قال وما هو قال عفوك عن أخيك قال يا رب إنى قد عفوت عنه قال الله تعالى خذ بيد أخيك فأدخله الجنة ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين (1) وهذا تنبيه على أن ذلك إنما ينال بالتخلق بأخلاق الله وهو إصلاح ذات البين وسائر الأخلاق
فتفكر الآن فى نفسك إن خلت صحيفتك عن المظالم أو تلطف لك حتى عفا عنك وأيقنت بسعادة الأبد كيف يكون سرورك فى منصرفك من مفصل الفضاء وقد خلع عليك خلعة الرضا وعدت بسعادة ليس بعدها شقاء وبنعيم لا يدور بحواشيه الفناء وعند ذلك طار قلبك سرورا وفرحا وابيض وجهك واستنار وأشرق كما يشرق القمر ليلة البدر فتوهم تبخترك بين الخلائق رافعا رأسك خاليا عن الأوزار ظهرك ونضرة نسيم النعيم وبرد الرضا يتلألأ من جبينك وخلق الأولين والآخرين ينظرون إليك وإلى حالك ويغبطونك فى حسنك وجمالك والملائكة يمشون بين يديك ومن خلفك وينادون على رءوس الأشهاد هذا فلان بن فلان رضى الله عنه وأرضاه وقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا أفترى أن هذا المنصب ليس بأعظم من المكانة التى تنالها فى قلوب الخلق فى الدنيا بريائك ومداهنتك وتصنعك وتزينك فإن كنت تعلم أنه خير منه بل لانسبة له إليه فتوسل إلى إدراك هذه الرتبة بالإخلاص الصافى والنية الصادقة فى معاملتك مع الله فلن تدرك ذلك إلا به
وإن تكن الأخرى والعياذ بالله بأن خرج من صحيفتك جريمة كنت تحسبها هينة وهى عند الله عظيمة فمقتك لأجلها فقال عليك لعنتى يا عبد السوء لا أتقبل منك عبادتك فلا تسمع هذا النداء إلا ويسود وجهك ثم تغضب الملائكة لغضب الله تعالى فيقولون وعليك لعنتنا ولعنة الخلائق أجمعين وعند ذلك تنثال إليك الزبانية وقد غضبت لغضب خالقها فأقدمت عليك بفظاظتها وزعارتها وصورها المنكرة فأخذوا بناصيتك يسحبونك على وجهك على ملأ الخلق وهم ينظرون إلى اسوداد وجهك وإلى ظهور خزيك وأنت تنادى بالويل والثبور وهم يقولون لك لا تدع اليوم ثبورا واحدا وادع ثبورا كثيرا وتنادى الملائكة ويقولون هذا فلان بن فلان
_________
(1) حديث أنس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمى قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العالمين الحديث بطوله أخرجه ابن أبى الدنيا فى حسن الظن بالله والحاكم فى المستدرك وقد تقدم(4/523)
كشف الله عن فضائحه ومخازيه ولعنه بقبائح مساويه فشقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وربما يكون ذلك بذنب أذنبته خفية من عباد الله أو طلبا للمكانة فى قلوبهم أو خوفا من الافتضاح عندهم فما أعظم جهلك إذ تحترز عن الافتضاح عند طائفة يسيرة من عباد الله في الدنيا المنقرضة ثم لا تخشى من الافتضاح العظيم فى ذلك الملأ العظيم مع التعرض لسخط الله وعقابه الأليم والسياق بأيدى الزبانية إلى سواء الجحيم فهذه أحوالك وأنت لم تشعر بالخطر الأعظم وهو خطر الصراط
صفة الصراط
ثم تفكر بعد هذه الأهوال في قول الله تعالى {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} وفي قوله تعالى {فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون} فالناس من بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط وهو جسر ممدود على متن النار أحد من السيف وأدق من الشعر فَمَنِ اسْتَقَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ خَفَّ عَلَى صِرَاطِ الْآخِرَةِ وَنَجَا وَمَنْ عَدَلَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالْأَوْزَارِ وَعَصَى تَعَثَّرَ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ مِنَ الصراط وتردى فتفكر الآن فيما يحل من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك عن المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته واضطررت إلى أن ترفع القدم الثانية والخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون وتتنازلهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب وأنت تنظر إليهم كيف يتنكسون فتتسفل إلى جهة النار رءوسهم وتعلوا أرجلهم فياله من منظر ما أفظعه ومرتقى ما أصعبه ومجاز ما أضيقه فانظر إلى حالك وأنت تزحف عليه وتصعد إليه وأنت مثقل الظهر بأوزارك تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار والرسول عليه السلام يقول يا رب سلم سلم والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم للكثرة من زل عن الصراط من الخلائق فكيف بك لو زلت قدمك ولم ينفعك ندمك فناديت بالويل والثبور وقلت هذا ما كنت أخافه فياليتنى قدمت لحياتي يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً يا ليتني كنت تراباً يا ليتني كنت نسياً منسياً يا ليت أمي لم تلدني وعند ذلك تختطفك النيران والعياذ بالله وينادي المنادي {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فلا يبقى سبيل إلا الصياح والأنين والتنفس والاستغاثة فكيف ترى الآن عقلك وهذه الأخطار بين يديك فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم وإن كنت به مؤمناً وعنه غافلاً وبالاستعداد له متهاوناً فما أعظم خسرانك وطغيانك وماذا ينفعك إيمانك إذا لم يبعثك على السعي في طلب رضا الله تعالى بطاعته وترك معاصيه فلو لم يكن بين يديك إلا هول الصراط وارتياع قلبك من خطر الجواز عليه وإن سلمت فناهيك به هولاً وفزعاً ورعباً قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجيز بأمته من الرسل ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم اللهم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تختطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو (1) وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله
_________
(1) حديث ينصب الصراط بين ظهرى جهنم فأكون أول من يجيز متفق عليه من حديث أبى هريرة فى أثناء حديث طويل(4/524)
صلى الله عليه وسلم يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف تختطف الناس يميناً وشمالاً وعلى جنبتيه ملائكة يقولون اللهم سلم اللهم سلم فمن الناس من يمر مثل البرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس المجري ومنهم من يسعى سعياً ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يحبو حبواً ومنهم من يزحف زحفاً فأما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون وأما ناس فيؤخذون بذنوب وخطايا فيحترقون فحماً ثم يؤذن في الشفاعة (1) وذكر إلى آخر الحديث وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء وذكر الحديث إلى أن ذكر وقت سجود المؤمنين قال ثم يقول للمؤمنين ارفعوا رءوسكم فيرفعون رءوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوره على إبهام قدمه فيضيء مرة ويخبو مرة فإذا أضاء قدم قدمه فمشى وإذا أظلم قام ثم ذكر مرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كشد الفرس ومنهم من يمر كشد الرجل حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه تجر منه يد وتعلق أخرى وتعلق رجل وتجر أخرى وتصيب جوانبه النار قال فلا يزال كذلك حتى يخلص فإذا خلص وقف عليها ثم قال الحمد لله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل (2) وقال أنس بن مالك سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول الصراط كحد السيف أو كحد الشعرة وإن الملائكة ينجون المؤمنين والمؤمنات وإن جبريل عليه السلام لآخذ بحجزتى وإني لأقول يا رب سلم سلم فالزالون والزالات يومئذ كثير (3)
فهذه أهوال الصراط وعظائمه فطول فيه فكرك فإن أسلم الناس من أهوال يوم القيامة من طال فيها فكره في الدنيا فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينك ويرق قلبك حال السماع ثم تنساه على القرب وتعود إلى لهوك ولعبك فماذا من الخوف في شيء بل من خاف شيئاً هرب منه ومن رجا شيئاً طلبه فلا ينجيك إلا خوف يمنعك عن معاصي الله تعالى ويحثك على طاعته وابعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة فقال أحدهم استعنت بالله نعوذ بالله اللهم سلم سلم وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم فالشيطان يضحك من استعاذتهم كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بعد قال بلسانه أعوذ بهذا الحصن الحصين وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه فأنى يغني عنه ذلك من السبع وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول لا إله إلا الله صادقاً ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره ومن اتخذ إلهه هواه فهو
_________
(1) حديث أبى سعيد يحشر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف الحديث متفق عليه مع اختلاف ألفاظ
(2) حديث ابن مسعود يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وذكر الحديث إلى ذكر سجود المؤمنين الحديث بطوله رواه ابن عدي والحاكم وقد تقدم بعضه مختصرا
(3) حديث أنس الصراط كحد السيف أو كحد الشعرة الحديث أخرجه البيهقى فى الشعب وقال هذا إسناد وضعيف قال وروى عن زياد النميرى عن أنس مرفوعا الصراط كحد الشعرة أو كحد السيف قال وهى رواية صحيحة انتهى ورواه أحمد(4/525)
بعيد من الصدق في توحيده وأمره مخطر في نفسه فإن عجزت عن ذلك كله فكن محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تعظيم سننه ومتشوقاً إلى مراعاة قلوب الصالحين من أمته ومتبركاً بأدعيتهم فعساك أن تنال من شفاعته أو شفاعتهم فتنجو بالشفاعة إن كنت قليل البضاعة
صفة الشفاعة
اعلم أن إذا حق دخول النار على طوائف من المؤمنين فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصديقين بل شفاعة العلماء والصالحين وكل من له عند الله تعالى جاه وحسن معاملة فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه فكن حريصاً على أن تكتسب لنفسك عندهم رتبة الشفاعة وذلك بأن لا تحقر آدمياً أصلاً فإن الله تعالى خبأ ولايته في عباده فلعل الذي تزدريه عينك هو ولي الله ولا تستصغر معصية أصلاً فإن الله تعالى خبأ غضبه في معاصيه فلعل مقت الله فيه ولا تستحقر أصلاً طاعة فإن الله تعالى خبأ رضاه في طاعته فلعل رضاه فيه ولو الكلمة الطيبة أو النية الحسنة أو ما يجري مجراه
وشواهد الشفاعة في القرآن والأخبار كثيرة قال الله تعالى {ولسوف يعطيك ربك فترضى} روى عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وقول عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك} ثم رفع يديه وقال أمتي أمتي ثم بكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد فسله ما يبكيك فأتاه جبريل فسأله فأخبره والله أعلم به فقال يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (1) وقال صلى الله عليه وسلم أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبل نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأعطيت الشفاعة وكل نبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (2) وقال صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر وقال صلى الله عليه وسلم إنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق الأرض عنه وأنا أول شافع وأول مشفع بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه (3) وقال صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة مستجابة فأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة (4) وقال ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينصب للأنبياء منابر من ذهب فيجلسون عليها ويبقى منبري لا أجلس عليه قائماً بين يدي ربي منتصباً مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي فأقول يا رب أمتي فيقول الله عز وجل يا محمد وما تريد أن أصنع بأمتك فأقول يا رب عجل حسابهم فما أزال أشفع حتى أعطي صكاكاً برجال قد بعث بهم
_________
(1) حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وقول عيسى صلى الله عليه وسلم {إن تعذبهم فإنهم عبادك} ثم رفع يديه ثم قال أمتي أمتي ثم بكى الحديث وفيه يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك ولا نسوءك فى أمتك قلت ليس هو من حديث عمرو بن العاص وإنما هو من حديث ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه مسلم ولعله سقط من الإحياء ذكر عبد الله من بعض النساخ
(2) حديث أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي الحديث وفيه وأعطيت الشفاعة متفق عليه من حديث جابر إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث أبي بن كعب قال الترمذى حسن صحيح
(3) حديث أنا سيد ولد آدم ولا فخر الحديث أخرجه الترمذى وقال حسن وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري
(4) حديث لكل نبي دعوة مستجابة فأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة متفق عليه من حديث أنس ورواه مسلم من حديث أبى هريرة(4/526)
إلى النار وحتى إن مالكاً خازن النار يقول يا محمد ما تركت للنار لغضب ربك في أمتك من بقية (1) وقال صلى الله عليه وسلم إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من حجر ومدر (2) وقال أبو هريرة أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال أنا سيد المرسلين يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس بعضهم لبعض ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم عليه السلام فيأتون آدم فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله تعالى بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم آدم عليه السلام إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم خليل الله فيأتون إبراهيم خليل الله عليه السلام فيقولون أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنى كنت كذبت ثلاث كذبات ويذكرها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى عليه السلام فيقولون يا 4 موسى أنت رسول الله فضلك برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى عليه السلام فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول عيسى عليه السلام إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم النبيين وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ثم يفتح الله لي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي أمتى يا رب فقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى (3) وفي حديث آخر
هذا السياق بعينه مع ذكر خطايا إبراهيم وهو قوله في الكواكب هذا ربي وقوله لآلهتهم بل فعله كبيرهم هذا وقوله
_________
(1) حديث ابن عباس ينصب للأنبياء منابر من ذهب يجلسون عليها ويبقى منبري لا أجلس عليه قائماً بين يدي ربى منتصبا الحديث أخرجه الطبراني فى الأوسط وفى إسناده محمد بن ثابت والبنانى ضعيف
(2) حديث إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من حجر ومدر أخرجه أحمد والطبرانى من حديث بريدة بسند حسن
(3) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم آتي بلحم فرفع إليه الذراع وكان يعجبه فنهش منها نهشة ثم قال أنا سيد الناس الحديث بطوله فى الشفاعة قال وفي حديث آخر هذا السياق مهع ذكر خطايا إبراهيم متفق عليه وهذه الرواية الثانية أخرجها مسلم(4/527)
إنى سقيم
فهذه شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولآحاد أمته من العلماء والصالحين شفاعة أيضاً حتى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر (1) وقال صلى الله عليه وسلم يقال للرجل قم يا فلان فاشفع فيقوم الرجل فيشفع للقبيلة ولأهل البيت وللرجل والرجلين على قدر عمله (2) وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن رجلاً من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار ويقول يا فلان هل تعرفني فيقول لا والله ما أعرفك من أنت فيقول أنا الذي مررت بي في الدنيا فاستسقيتني شربة ماء فسقيتك قال قد عرفت قال فاشفع لي بها عند ربك فيسأل الله تعالى ذكره ويقول إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال هل تعرفني فقلت لا من أنت فقال أنا الذي استسقيتني في الدنيا فسقيتك فاشفع لي عند ربك فشفعني فيه فيشفعه الله فيه فيؤمر به فيخرج من النار (3) وعن أنس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر (4) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني أقوم بين يدي ربي عز وجل فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري (5) وقال ابن عباس رضي الله عنهما جلس ناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم عجباً إن الله عز وجل اتخذ من خلقه خليلاً اتخذ إبراهيم خليلاً وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم فسلم وقال قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجي الله وهو كذلك وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر (6)
صفة الحوض
اعلم أن الحوض مكرمة عظيمة خص الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم وقد اشتملت الأخبار على وصفه ونحن
_________
(1) حديث يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر رويناه فى جزء أبى عمر بن السماك من حديث أبى أمامة إلا أنه قال مثل أحد الحيين ربيعة ومضر وفيه فكأن المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان واسناده حسن وللترمذى وابن ماجة والحاكم من حديث عبد الله بن أبي الجدعا يدخل الجنة بشفاعة الرجل من أمتي أكثر من بنى تميم قالوا سواك قال سواى قال الترمذى حسن صحيح وقال الحاكم صحيح قيل أراد بالرجل أويسا
(2) حديث يقال للرجل قم يا فلان فاشفع فيقوم يشفع للقبيلة ولأهل البيت وللرجل والرجلين على قدر عمله أخرجه الترمذى من حديث أبى سعيد إن من أمتي من يشفع للفئام ومنهم من يشفع للقبيلة الحديث وقال حسن وللبزار من حديث أنس أن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة
(3) حديث أنس إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار ويقول يا فلان هل تعرفني فيقول لا والله ما أعرفك من أنت فيقول أنا الذي مررت بى فى الدنيا يوما فاستسقيتنى شربة فسقيتك الحديث فى شفاعته فيه واخراجه من النار أخرجه أبو منصور الديلمي فى مسند الفردوس بسند ضعيف
(4) حديث أنس أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا الحديث أخرجه الترمذى وقال حسن غريب
(5) حديث فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى هريرة وقال حسن غريب صحيح
(6) حديث ابن عباس جلس ناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم عجباً إن الله اتخذ من خلقه خليلاً اتخذ إبراهيم خليلا الحديث رواه الترمذى وقال غريب(4/528)
نرجو أن يرزقنا الله تعالى في الدنيا علمه وفي الآخرة ذوقه فإن من صفاته أن من شرب منه لم يظمأ أبداً قال أنس أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقالوا له يا رسول الله لم ضحكت فقال آية أنزلت علي آنفاً وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر حتى ختمها ثم قال هل تدرون ما الكوثر قالوا الله ورسوله أعلم قال إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء (1) وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر (2) وقال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما بين لابتي حوضي مثل ما بين المدينة وصنعاء أو مثل ما بين المدينة وعمان (3) وروى ابن عمر أنه لما نزل قوله تعالى {إنا أعطيناك الكوثر} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو نهر في الجنة حافتاه من ذهب شرابه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك يجري على جنادل اللؤلؤ والمرجان (4) وقال ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقان ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً أول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين فقال عمر بن الخطاب ومن هم يا رسول الله قال هم الشعث رءوسا الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد (5) فقال عمر بن عبد العزيز والله لقد نكحت المتنعمات فاطمة بنت عبد الملك وفتحت لي أبواب السدد إلا أن يرحمني الله لا جرم لا أدهن رأسي حتى يشعث ولا أغسل ثوبي الذي على جسدي حتى يتسخ وعن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المضحية من شرب منه لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة عرضه مثل طوله ما بين عمان وأيلة ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل (6) وعن سمرة قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لكل نبي حوضاً وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة (7) فهذا رجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرج كل عبد أن يكون في جملة الواردين وليحذر أن يكون متمنياً ومغتراً وهو يظن أنه راج فإن الراجي للحصاد من بث البذر ونقى الأرض وسقاها الماء ثم جلس يرجو فضل الله بالإنبات ودفع الصواعق إلى أوان الحصاد فأما من ترك الحراثة أو الزراعة وتنقية الأرض وسقيها وأخذ يرجو من فضل الله أن ينبت له الحب والفاكهة فهذ مغتر ومتمن
_________
(1) حديث أنس أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقالوا له يا رسول الله لم ضحكت فقال آية نزلت علي آنفاً وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر رواه مسلم
(2) حديث أنس بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف الحديث أخرجه الترمذى وقال حسن صحيح ورواه البخارى من قول أنس لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء الحديث وهو مرفوع وإن لم يكن صرح به عن النبي صلى الله عليه وسلم
(3) حديث أنس ما بين لابنى حوضي مثل ما بين المدينة وصنعاء أو مثل ما بين المدينة ما بين المدينة وعمان رواه مسلم
(4) حديث ابن عمر لما نزل قوله تعالى {إنا أعطيناك الكوثر} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو نهر في الجنة حافتاه من ذهب الحديث أخرجه الترمذى مع اختلاف لفظ وقال حسن صحيح ورواه الدارمى فى مسنده وهو أقرب إلى لفظ المصنف
(5) حديث ثوبان إن حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء الحديث أخرجه الترمذى وقال غريب وابن ماجه
(6) حديث أبى ذر قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء الحديث رواه مسلم
(7) حديث سمرة إن لكل نبي حوضاً وإنهم ليتباهون أيهم أكثر واردة الحديث أخرجه الترمذى وقال غريب قال روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح(4/529)
وليس من الراجين في شيء وهكذا رجاء أكثر الخلق وهو غرور الحمقى نعوذ بالله من الغرور والغفلة فإن الاغترار بالله أعظم من الاغترار بالدنيا قال الله تَعَالَى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور}
القول في صفة جهنم وأهوالها وأنكالها
يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ عَنْ نَفْسِهِ الْمَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ شَوَاغِلِ هَذِهِ الدُّنْيَا الْمُشْرِفَةِ عَلَى الِانْقِضَاءِ وَالزَّوَالِ دَعِ التَّفَكُّرَ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ وَاصْرِفِ الْفِكْرَ إِلَى مَوْرِدِكَ فَإِنَّكَ أخبرت بأن النار مورد للجميع إذ قيل {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظالمين فيها جثياً} فَأَنْتَ مِنَ الْوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ وَمِنَ النَّجَاةِ فِي شَكٍّ فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْرِدِ فَعَسَاكَ تَسْتَعِدُّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الْخَلَائِقِ وَقَدْ قَاسَوْا مِنْ دَوَاهِي الْقِيَامَةِ مَا قَاسَوْا فَبَيْنَمَا هُمْ فِي كُرَبِهَا وَأَهْوَالِهَا وُقُوفًا يَنْتَظِرُونَ حَقِيقَةَ أَنْبَائِهَا وَتَشْفِيعَ شُفَعَائِهَا إِذْ أَحَاطَتْ بِالْمُجْرِمِينَ ظُلُمَاتٌ ذَاتُ شُعَبٍ وَأَظَلَّتْ عَلَيْهِمْ نار ذات لهب وسمعوا لها زفيراً وجرجرة تفصح عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَيْقَنَ الْمُجْرِمُونَ بِالْعَطَبِ وَجَثَتِ الْأُمَمُ عَلَى الرُّكَبِ حَتَّى أشفق البرءاء من سوء المنقلب وخرج المنادي من الزبانية قائلاً أين فلان بن فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل المضيع عمره في سوء العمل فيبادرونه بمقامع حديد ويستقبلونه بعظائم التهديد ويسوقونه إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَيُنَكِّسُونَهُ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ وَيَقُولُونَ لَهُ {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فأسكنوا داراً ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك مبهمة المهالك يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير شرابهم فيها الحميم ومستقرهم الجحيم الزبانية تقمعهم والهاوية تجمعهم أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك قد شُدَّتْ أَقْدَامُهُمْ إِلَى النَّوَاصِي وَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْمَعَاصِي يُنَادُونَ مِنْ أَكْنَافِهَا وَيَصِيحُونَ فِي نواحيها وأطرافها يا مالك قد حق علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد يَا مَالِكُ قَدْ نَضِجَتْ مِنَّا الْجُلُودُ يَا مَالِكُ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنَّا لَا نَعُودُ فَتَقُولُ الزَّبَانِيَةُ هَيْهَاتَ لَاتَ حِينَ أَمَانٍ وَلَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْ دَارِ الْهَوَانِ فَاخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وَلَوْ أُخْرِجْتُمْ مِنْهَا لَكُنْتُمْ إِلَى مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ تَعُودُونَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْنَطُونَ وَعَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ يَتَأَسَّفُونَ وَلَا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف بل يكبون على وجوههم مغلولين النار من فوقهم والنار من تحتهم والنار عن أيمانهم والنار عن شمائلهم فهم غرقى في النار طعامهم نار وشرابهم نار ولباسهم نار ومهادهم نار فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وثقل السلاسل فهم يتجلجلون في مضايقها ويتحطمون في دركاتها ويضطربون بين غواشيها تغلى بهم النار كغلي القدور ويهتفون بالويل والعويل
ومهما دعوا بالثبور صب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم فيتفجر الصديد من أفواههم وننقطع من العطش أكبادهم وتسيل على الخدود أحداقهم ويسقط من الوجنات لحومها ويتمعط من الأطراف شعورها بل جلودها وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها قد عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَلَا يَمُوتُونَ فكيف بك لو نظرت إليهم وقد سوّدت وُجُوهُهُمْ أَشَدَّ سَوَادًا مِنَ الْحَمِيمِ وَأُعْمِيَتْ أَبْصَارُهُمْ وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم وكسرت عظامهم وجدعت آذانهم ومزقت جلودهم وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين نواصيهم وأقدامهم وهم يمشون على النار بوجوههم ويطأون حسك الحديد بأحداقهم فلهيب النار سار في بواطن أجزائها وَحَيَّاتُ الْهَاوِيَةِ وَعَقَارِبُهَا مُتَشَبِّثَةٌ بِظَوَاهِرِ أَعْضَائِهِمْ هَذَا بعض جملة أحوالهم وانظر الآن في تفصيل أهوالهم وتفكر أيضاً في أودية جهنم وشعابها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم(4/530)
إن في جهنم سبعين ألف واد في كل واد سبعين ألف شعب في كل شعب سبعون ألف ثعبان وسعون ألف عقرب لا ينتهي الكافر والمنافق حتى يوقع ذلك كله (1) وقال علي كرم الله وجهه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعوذوا بالله من جب الحزن أو وادي الحزن قيل يا رسول الله وما وادي أو جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة أعده الله تعالى للقراء المرائين (2) فهذه سعة جهنم وانشعاب أوديتها وهي بحسب عدد أودية الدنيا وشهوتها وعدد أبوابها بعدد الأعضاء السبعة التي بها يعصي العبد بعضها فوق بعض الأعلى جهنم ثم سقر ثم لظى ثم الحطمة ثم السير ثم الجحيم ثم الهاوية فانظر الآن في عمق الهاوية فإنه لا حد لعمقها كما لا حد لعمق شهوات الدنيا فكما لا ينتهي أرب من الدنيا إلا إلى أرب أعظم منه فلا تنتهي هاوية من جهنم إلا إلى هاوية أعمق منها قال أبو هريرة كنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا وجبة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين عاماً الآن انتهى إلى قعرها (3)
ثم انظر إِلَى تَفَاوُتِ الدَّرَكَاتِ فَإِنَّ الْآخِرَةَ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فَكَمَا أَنَّ إِكْبَابَ النَّاسِ عَلَى الدنيا يتفاوت فمن مُنْهَمِكٌ مُسْتَكْثِرٌ كَالْغَرِيقِ فِيهَا وَمِنْ خَائِضٍ فِيهَا إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ فَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ النَّارِ لَهُمْ مُتَفَاوِتٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فَلَا تَتَرَادَفُ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي النَّارِ كَيْفَمَا كَانَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ مَعْلُومٌ عَلَى قَدْرِ عِصْيَانِهِ وَذَنْبِهِ إِلَّا أَنَّ أَقَلَّهُمْ عَذَابًا لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بحذافير لَافْتَدَى بِهَا مِنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ ما هو قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أدنى أهل النار عذاباً يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه (4) فانظر الآن إلى من خفف عليه واعتبر بمن شدد عليه
ومهما تشككت في شدة عذاب النار فقرب إصبعك من النار وقس ذلك به ثم اعلم أنك أخطأت في القياس فإن نار الدنيا لا تناسب نار جهنم ولكن لما كان أشد عذاب في الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب جهنم بها وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها طائعين هرباً مما هم فيه وعن هذا عبر في بعض الأخبار حيث قيل إن نار الدنيا غسلت بسبعين ماء من مياه الرحمة حتى أطاقها أهل الدنيا (5) بل صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة نار جهنم فقال أمر الله تعالى أن يوقد على النار ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليه ألف عام حتى ابيضت ثم أوقد عليه ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة (6) وقال صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها في نفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدونه في الصيف من حرها وأشد ما تجدونه في الشتاء من زمهريرها (7)
_________
(1) حديث إن في جهنم سبعين ألف واد في كل واد سبعون ألف شعب في كل شعب سبعون ألف ثعبان وسبعون ألف عقرب لا ينتهي الكافر والمنافق حتى يوقع ذلك كله لم أجده هكذا بجملته وسيأتى بعده ما ورد فى ذكر الحيات والعقارب
(2) حديث على تعوذوا بالله من جب الحزن أو وادي الحزن الحديث رواه ابن عدى بلفظ وادى الحزن وقال باطل وأبو نعيم والأصبهانى بسند ضعيف ورواه الترمذى وقال غريب وابن ماجه من حديث أبى هريرة بلفظ جب الحزن وضعفه ابن عدى وتقدم فى ذم الجاه والرياء
(3) حديث أبى هريرة كنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا وجبة الحديث وفيه هذا حجر أرسل في جهنم الحديث رواه مسلم
(4) حديث إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة من ينتعل بنعلين من نار الحديث متفق عليه من حديث النعمان بن بشير
(5) حديث إن نار الدنيا غسلت بسبعين ماء من مياه الرحمة حتى أطاقها أهل الدنيا ذكر ابن عبد البر من حديث ابن عباس وهذه ال 4 نار قد ضربت بماء البحر سبع مرات ولولا ذلك ما انتفع بها أحد وللبزار من حديث أنس وهو ضعيف وما وصلت إليكم حتى أحسبه قال نضحت بالماء فتضىء عليكم
(6) حديث أمر الله أن يوقد على النار ألف عام حتى احمرت الحديث تقدم
(7) حديث اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة(4/531)
وقال أنس بن مالك يؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الكفار فيقال اغمسوه في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت نعيما قط فيقال لا ويؤتى بأشد الناس ضراً في الدنيا فيقال اغمسوه في الجنة غمسة ثم يقال له هل رأيت ضراً قط فيقول لا وقال أبو هريرة لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لماتوا وقد قال بعض العلماء في قوله {تلفح وجوههم النار} إنها لفحتهم لفحة واحدة فما أبقت لحماً على عظم إلا ألقته عند أعقابهم
ثم انظر بعد هذا في نتن الصديد الذي يسيل من أبدانهم حتى يغرقون فيه وهو الغساق قال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أن دلواً من غساق جهنم ألقى في الدنيا لأنتن أهل الأرض (1) فهذا شرابهم إذا استغاثوا من العطش فيسقى أحرهم من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو يميت وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً
ثم انظر إلى طعامهم وهو الزقوم كما قال الله تعالى {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم} وقال تعالى {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} وقال تعالى {تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية} وقال تعالى {إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً} وقال ابن عباس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا أفسدت على أهل الدنيا معايشهم (2) فكيف من يكون طعامه ذلك وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ارغبوا فيما رغبكم الله واحذروا وخافوا ما خوفكم اللهبه من عذابه وعقابه ومن جهنم فإنه لو كانت قطرة من الجنة معكم في دنياكم التي أنتم فيها طيبها لكم ولو كانت قطرة من النار معكم في دنياكم التي أنتم فيها خبثتها عليكم (3) وقال أبو الدرداء قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ويستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون كما كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بشراب فيستغيثون بشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخل الشراب بطونهم قطع ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم قال فيدعون خزنة جهنم أن ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فيقولون أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال قال فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال فيجيبهم إنكم ماكثون (4) قال الأعمش أنبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال فيجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون {قال}
_________
(1) حديث أبي سعيد الخدري لو أن دلو من غساق ألقى في الدنيا لأنتن أهل الأرض أخرجه الترمذى وقال إنما نعرفه من حديث رشد بن سعد وفيه ضعف
(2) حديث ابن عباس لو أن قطرة من الزقوم قطرت فى دار الدنيا أفسدت على أهل الأرض معاشهم الحديث أخرجه الترمذى وقال حسن صحيح وابن ماجه
(3) حديث أنس ارغبوا فيما رغبكم فيه واحذروا وخافوا مما خوفكم به من عذاب الله وعقابه من جهنم الحديث لم أجد له إسنادا
(4) حديث أبى الدرداء يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام الحديث أخرجه الترمذى من رواية سمرة بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال الدارمى والناس لا يعرفون هذا الحديث وإنما روى عن الأعمش عن سمرة بن عطية عن شهر عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قوله(4/532)
فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل وقال أبو أمامة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه {قال} يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدني منه شوي وجهه فوقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} وقال تعالى {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه} فهذه طعامهم وشرابهم عند جوعهم وعطشهم (1)
فانظر الآن إلى حيات جهنم وعقاربها وإلى شدة سمومها وعظم أشخاصها وفظاظة منظرها وقد سلطت على أهلها وأغريت بهم فهي لا تفتر عن النهش واللدغ ساعة واحدة قال أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا له زييبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهازمه يعنى أشدافه فيقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله تَعَالَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله من فضله الآية (2) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم إن في النار لحيات مثل أعناق البخت يلسعن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً وإن فيها لعقارب كالبغال الموكفة يلعسن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً وهذه الحيات والعقارب إنما تسلط على من سلط عليه في الدنيا البخل وسوء الخلق وإيذاء الناس ومن وقي ذلك وقي هذه الحيات فلم تمثل له (3) ثم تفكر بعد هذا كله في تعظيم أجسام أهل النار فإن الله تعالى يزيد في أجسامهم طولاً وعرضاً حتى يتزايد عذابهم بسببه فيحسون بلفح النار ولدغ العقارب والحيات من جميع أجزائها دفعة واحدة على التوالي قال أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ضرس الكافر في النار مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث (4) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفته السفلى ساقطة على صدره والعليا قالصة قد غطت وجه (5) وقال عليه السلام إن الكافر ليجر لسانه في سجين يوم القيامة يتواطؤه الناس (6) ومع عظم الأجسام كذلك تحرقهم النار مرات فتجدد جلودههم ولحومهم قال الحسن في قوله تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها قال تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا
ثم تفكر الآن في بكاء أهل النار وشهيقهم ودعاتهم بالويل والثبور فإن ذلك يسلط عليهم في أول إلقائهم في النار قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك (7) وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يرسل على أهل النار البكاء فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يرى في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت وما دام يؤذن لهم في البكاء والشهيق والزفير والدعوة بالويل والثبور فلهم فيه مستروح ولكنهم يمنعون أيضاً من ذلك (8) قال محمد بن
_________
(1) حديث أبى أمامة في قوله تعالى {ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه} قال يقرب إليه الحديث أخرجه الترمذى وقال غريب
(2) حديث أبي هريرة من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع الحديث أخرجه البخارى من حديث أبى هريرة ومسلم من حديث جابر نحوه
(3) حديث إن في النار لحيات مثل أعناق البخت يلسعن اللسعة الحديث أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة عن دراج عن عبد الله بن الحارث بن جزه
(4) حديث أبى هريرة ضرس الكافر في النار مثل أحد الحديث رواه مسلم
(5) حديث شفته السفلى ساقطة على صدره والعليا قالصة قد غطت وجهه أخرجه الترمذى من حديث أبى سعيد وقال حسن صحيح غريب
(6) حديث إن الكافر ليجر لسانه فرسخين يوم القيامة يتواطؤه الناس أخرجه الترمذى من رواية أبى المخارق عن ابن عمر وقال غريب وأبو المخارق لا يعرف
(7) حديث يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام الحديث أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود
(8) حديث أنس يرسل على أهل النار البكاء فيبكون حتى تنقطع الدموع الحديث أخرجه ابن ماجه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس والرقاشى ضعيف(4/533)
كعب لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله عز وجل في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} فيقول الله تعالى مجيباً لهم {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير} ثم يقولون {ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} فيجيبهم الله تعالى أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال فيقولون ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل به فيجيبهم الله تعالى أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ثم يقولون {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} فيجيبهم الله تعالى {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فلا يتكلمون بعدها أبداً وذلك غاية شدة العذاب قال مالك بن أنس رضي الله عنه قال زيد بن أسلم في قوله تعالى {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} قال صبروا مائة سنة ثم جزعوا مائة سنة ثم صبروا مائة سنة ثم قالوا {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} وقال صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ويقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت (1) وعن الحسن قال يخرج من النار رجل بعد ألف عام وليتني كنت ذلك الرجل ورؤي الحسن رضي الله عنه جالساً في زاوية وهو يبكي فقيل له لم تبكي فقال أخشى أن يطرحني في النار ولا يبالي فهذه أصناف عذاب جهنم على الجملة وتفصيل عمومها وأجزائها ومحنها وحسرتها لا نهاية له فأعظم الأمور عليهم مع ما يلاقونه من شدة العذاب حسرة فوت نعيم الجنة وفوت لقاء الله تعالى وفوت رضاه مع علمهم بأنهم باعوا كل ذلك بثمن بخس دراهم معدودة إذ لم يبيعوا ذلك إلا بشهوات حقيرة في الدنيا أياماً قصيرة وكانت غير صافية بل كانت مكدرة منغصة فيقولون في أنفسهم واحسرتاه كيف أهلكنا أنفسنا بعصيان ربنا وكيف لم نكلف أنفسنا الصبر أياماً قلائل ولو صبرنا لكانت قد انقضت عنا أيامه وبقينا الآن في جوار رب العالمين متنعمين بالرضا والرضوان فيالحسرة هؤلاء وقد فاتهم وبلوا بِمَا بُلُوا بِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ من نعيم الدنيا ولذاتها ثم إنهم لو لم يشاهدوا نعيم الجنة لم تعظم حسرتها لكنها تعرض عليهم فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى يوم القيامة بناس من النار إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فيقول الله تعالى ذاك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب المقيم (2) وقال أحمد بن حرب إن أحدنا يؤثر الظطل على الشمس ثم لا يؤثر الجنة على النار
وقال عيسى عليه السلام كم من جسد صحيح ووجه صبيح ولسان فصيح غدا بين أطباق النار يصيح
وقال داود إلهي لا صبر لي على حر شمسك فكيف صبري على حر نارك ولا صبر لي على صوت رحمتك فكيف على صوت عذابك
فانظر يا مسكين في هذه الأهوال واعلم أن الله تعالى خلق النار بأهوالها وخلق أهلاً لا يزيدون ولا ينقصون وأن هذا أمر قد قضي وفرغ منه قال الله تعالى وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون
_________
(1) حديث يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيذبح أخرجه البخارى من حديث ابن عمر ومسلم من حديث أبى سعيد وقد تقدم
(2) حديث يؤمر يوم القيامة بناس من النار إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا روائحها الحديث رويناه فى الأربعين لأبى هدية عن أنس وأبو هدية إبراهيم بن هدية هالك(4/534)
ولعمري الإشارة به يوم القيامة بل في أزل ولكن أظهر يوم القيامة ما سبق به القضاء فالعجب مِنْكَ حَيْثُ تَضْحَكُ وَتَلْهُو وَتَشْتَغِلُ بِمُحَقَّرَاتِ الدُّنْيَا ولست تدري أن القضاء بماذا سبق فِي حَقِّكَ
فَإِنْ قُلْتَ فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا مَوْرِدِي وَإِلَى مَاذَا مَآلِي وَمَرْجِعِي وَمَا الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ فِي حَقِّي فَلَكَ عَلَامَةٌ تستأنس بها وتصدق رجاءك بسببها وهي أَنْ تَنْظُرَ إِلَى أَحْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ يسر لك سبيل الخير فَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ مُبْعَدٌ عَنِ النَّارِ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَقْصِدُ خَيْرًا إِلَّا وَتُحِيطُ بِكَ الْعَوَائِقُ فتدفعه ولا تقصد شراً إلا ويتيسر لَكَ أَسْبَابُهُ فَاعْلَمْ أَنَّكَ مَقْضِيٌّ عَلَيْكَ فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذَا عَلَى الْعَاقِبَةِ كَدَلَالَةِ الْمَطَرِ عَلَى النَّبَاتِ وَدَلَالَةِ الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ
فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لفي جحيم فَاعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى الْآيَتَيْنِ وَقَدْ عَرَفْتَ مُسْتَقَرَّكَ من الدارين والله أعلم
القول في صِفَةُ الْجَنَّةِ وَأَصْنَافُ نَعِيمِهَا
اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الدار التي عرفت همومها وغمومها تقابلها دار أخرى فتأمل نعيمها وسرورها فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة في الأخرى فاستثر الخوف من قلبك بطول الفكر في أهوال الجحيم واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان وسق نفسك بسوط الخوف وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الْمُلْكَ الْعَظِيمَ وَتَسْلَمَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَتَفَكَّرْ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ جَالِسِينَ عَلَى مَنَابِرِ الياقوت الأحمر في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر مُتَّكِئِينَ عَلَى أَرَائِكَ مَنْصُوبَةٍ عَلَى أَطْرَافِ أَنْهَارٍ مُطَّرِدَةٍ بِالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ مَحْفُوفَةٍ بِالْغِلْمَانِ وَالْوِلْدَانِ مُزَيَّنَةٍ بِالْحُورِ الْعِينِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ يمشين في درجات الجنان إذا اختالت إحداهن في مشيها حمل أعطافها سبعون ألفاً من الولدان عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان قاصرات الطرف عين ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر يَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى وَجْهِ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ وَقَدْ أشرقت في وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم فتر ولا ذلة بل عباد مكرمون وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهيت أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَخَافُونَ فِيهَا وَلَا يَحْزَنُونَ وهم من ريب المنون آمنون فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبناً وخمراً وعسلاً في أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور ويؤتون بأكواب وأي أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان كوب فيه من الرحيق المختوم ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره يبدو الشراب من ورائه برقته وحمرته لم يصنعه آدمي فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته في كف خادم يحكي ضياء وجهه الشمس في إشراقها ولكن من أين للشمس حلاوة مثل حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقه
فَيَا عَجَبًا لِمَنْ يُؤْمِنُ بِدَارٍ هَذِهِ صِفَتُهَا وَيُوقِنُ بِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا وَلَا تَحِلُّ الفجائع بمن نزل بفنائها ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها وَيَتَهَنَّأُ بِعَيْشٍ دُونَهَا وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا سَلَامَةُ الْأَبْدَانِ مَعَ الْأَمْنِ(4/535)
مِنَ الْمَوْتِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْحَدَثَانِ لَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَهْجُرَ الدُّنْيَا بِسَبَبِهَا وَأَنْ لَا يُؤْثِرَ عَلَيْهَا مَا التَّصَرُّمُ وَالتَّنَغُّصُ مِنْ ضَرُورَتِهِ كَيْفَ وَأَهْلُهَا مُلُوكٌ آمِنُونَ وَفِي أَنْوَاعِ السرير ممتعون لهم فيها كل ما يشتهون وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون وَإِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ يَنْظُرُونَ وَيَنَالُونَ بِالنَّظَرِ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَنْظُرُونَ مَعَهُ إِلَى سائر نعيم الجنان ولا يلتفتون وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون وهم من زوالها آمنون قال أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون (1)
وَمَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ صِفَةَ الْجَنَّةِ فَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ وَرَاءَ بَيَانِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانٌ واقرأ من قوله تعالى لمن خاف مقام ربه جنتان إِلَى آخِرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ وَاقْرَأْ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ وغيرها من السور
وإن أردت أن تعرف تفصيل صفاتها من الأخبار فتأمل الآن تفصليها بعد أن اطلعت على جملتها وتأمل أولاً عدد الجنان قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلَهُ تَعَالَى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن (2) ثم انظر إلى أبواب الجنة فإنها كثيرة بحسب أصول الطاعات كما أن أبواب النار بحسب أصول المعاصي قال أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة كلها وللجنة ثمانية أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد فقال أبو بكر رضي الله عنه والله ما على أحد من ضرورة من أيها دعي فهل يدعى أحد منها كلها قال نعم وأرجو أن تكون منهم (3) وعن عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه أنه ذكر النار فعظم أمرها ذكراً لا أحفظه ثم قال وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان فعمدوا إلى إحداهما كما أمروا به فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى أو بأس ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم فلم تتغير أشعارهم بعدها أبداً ولا تشعث رءوسهم كأنما دهنوا بالدهان ثم انتهوا إلى الجنة فقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ثم تلقاهم الولدان يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحبيب يقدم عليهم من غيبة يقولون له أبشر أعد الله لك من الكرامة كذا قال فينطق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين فيقول قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا فتقول أنت رأيته فيقول أنا رأيته وهو بأثري فيستخفها الفرح حتى تقوم إلى أسكفة بابها فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أحمر وأخضر وأصفر من كل لون ثم يرفع رأسه فينظر إلى سقفه فإذا مثل البرق ولولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره ثم يطأطىء رأسه فإذا أزواجه وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ثم اتكأ فقال الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي
_________
(1) حديث أبى هريرة ينادى مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد
(2) حديث جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما الحديث متفق عليه من حديث أبى موسى
(3) حديث أبي هريرة من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة الحديث متفق عليه(4/536)
لولا أن هدانا الله ثم ينادي مناد تحيون فلا تموتون أبداً وتقيمون فلا تظعنون أبداً وتصحون فلا تمرضون أبداً وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك (1)
ثم تأمل الآن في غرف الجنة واختلاف درجات العلو فيها فَإِنَّ الْآخِرَةَ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا وَكَمَا أن بين الناس في الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ الْمَحْمُودَةِ تَفَاوُتًا ظَاهِرًا فَكَذَلِكَ فِيمَا يُجَازَوْنَ بِهِ تَفَاوُتٌ ظَاهِرٌ فَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَاجْتَهَدْ أَنْ لَا يَسْبِقَكَ أَحَدٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَمَرَكَ الله بالمسابقة والمنافسة فيها فقال تعالى {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} وقال تعالى {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} والعجب أنه لو تقدم عليك أقرانك أو جيرانك بزيادة درهم أو بعلو بناء ثقل عليك ذلك وضاق به صدرك وتنغص بسبب الحسد عيشك وأحسن أحوالك أن تستقر في الجنة وأنت لا تسلم فيها من أقوام يسبقونك بلطائف لا توازيها الدنيا بحذافيرها فقد قال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تتراءون الكوكب الغائر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين (2) وقال أيضاً إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق من آفاق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما (3) وقال جابر قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحدثكم بغرف الجنة قال قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليك بأبينا أنت وأمنا قال إن في الجنة غرفاً من أصناف الجوهر كله يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وفيها من النعيم واللذات والسرور مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر قال يا رسول الله ولمن هذه الغرف قال لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام قال قلنا يا رسول الله ومن يطيق ذلك قال أمتي تطيق ذلك وسأخبركم عن ذلك من لقي أخاه فسلم عليه أو رد عليه فقد أفشى السلام ومن أطعم أهله وعياله من الطعام حتى يشبعهم فقد أطعم الطعام ومن صام شهر رمضان ومن كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام ومن صلى العشاء الآخرة وصلى الغداة في جماعة فقد صلى بالليل والناس نيام (4) يعني اليهود والنصارى والمجوس
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله {ومساكن طيبة في جنات عدن} قال قصور من لؤلؤ في كل قصر سبعون داراً من ياقوت أحمر في كل دارسبعون بيتاً من زمرد أخضر في كل بيت سرير على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن في كل غداة يعني من القوة ما يأتي على ذلك أجمع (5)
_________
(1) حديث آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد الحديث أخرجه مسلم من حديث أنس
(2) حديث أبى سعيد إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تراءون الكوكب الحديث متفق عليه وقد تقدم
(3) حديث إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما يرون النجم الطالع رواه الترمذى وحسنة وابن ماجه من حديث أبى سعيد
(4) حديث جابر ألا أحدثكم بغرف الجنة قلت بلى يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا قال إن في الجنة غرفاً من أصناف الجوهر الحديث أخرجه أبو نعيم من رواية الحسن عن جابر
(5) حديث سئل عن قوله تعالى {ومساكن طيبة في جنات عدن} قال قصور من لؤلؤ الحديث أخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى كتاب العظمة والآجرى فى كتاب النصيحة من رواية الحسن بن خليفة عن الحسن قال سألت أبا هريرة وعمران بن حصين في هذه الآية ولا يصح والحسن ابن خليفة لم يعرفه ابن أبى حاتم والحسن البصرى لم يسمع من أبى هريرة على قول الجمهور(4/537)
صفة حائط الجنة وأراضيها وأشجارها وأنهارها
تأمل في صورة الجنة وتفكر في غبطة سكانها وفي حسرة من حرمها لقناعته بالدنيا عوضاً عنها فقد قال أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إن حائط الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب ترابها زعفران وطينها مسك (1) وسئل صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال درمكة بيضاء مسك خالص (2) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من سره أن يسقيه الله عز وجل الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا (3) وقال أنهار الجنة تتفجر من تحت تلال أو تحت جبال المسك (4) ولو كان أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعها لكان ما يحليه الله عز وجل به في الآخرة أفضل من حلية الدنيا جميعها (5) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} (6) وقال أبو أمامة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إن الله عز وجل ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي فقال يا رسول الله قد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أدري أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما هي} قال السدر فإن لها شوكاً فقال قد قال الله تعالى في سدر مخضود يخضد الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة ثم تنفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما منها لون يشبه الآخر (7) وقال جرير بن عبد الله نزلنا الصفاح فإذا رجل نائم تحت شجرة قد كادت الشمس أن تبلغه فقلت للغلام انطلق بهذا النطع فأظله فانطلق فأظله فلما استيقظ فإذا هو سلمان فأتيته أسلم عليه فقال يا جرير تواضع لله فإن من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة هل تدري ما الظلمات يوم القيامة قلت لا أدري قال ظلم الناس بعضهم بعضاً ثم أخذ عويداً لا أكاد أراه من صغره فقال يا جرير لو طلبت مثل هذا في الجنة لم تجده قلت يا أبا عبد الله فأين النخل والشجر قال أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر
صفة لباس أهل الجنة وفرشهم وسررهم وأرائكهم وخيامهم
قال الله يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير والآيات في ذلك كثيرة وإنما تفصيله في الأخبار فقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى
_________
(1) حديث أبى هريرة إن حائط الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب ترابها زعفران وطينها مسك أخرجه الترمذى بلفظ وملاطها المسك وقال ليس اسناده بذلك القوى وليس عندى بمتصل ورواه البزار من حديث أبى سعيد بإسناد فيه مقال ورواه موقوفا عليه بإسناد صحيح
(2) حديث سئل عن تربة الجنة فقال درمكة بيضاء مسك خالص أخرجه مسلم من حديث أبى سعيد أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فذكره
(3) حديث أبي هريرة من سره أن يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا أخرجه الطبرانى فى الأوسط بإسناد حسن وللنسائى بإسناد صحيح من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة ومن شرب الخمر فى الدنيا لم يشربها فى الآخرة
(4) حديث أنهار الجنة تتفجر من تحت تلال أو تحت جبال المسك أخرجه العقيلى فى الضعفاء من حديث أبى هريرة
(5) حديث لو كان أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعها لكان ما يحليه الله به في الآخرة أفضل من حليه أهل الدنيا جميعها أخرجه الطبرانى فى الأوسط من حديث أبى هريرة بإسناد حسن
(6) حديث إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة
(7) حديث أبى أمامة أقبل أعرابي فقال يا رسول الله قد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية قال ما هي قال السدر الحديث أخرجه ابن المبارك فى الزهد عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر مرسلا من غير ذكر لأبى أمامة(4/538)
ثيابه ولا يفنى شبابه في الجنة مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر عن قلب بشر (1) وقال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلق تخلق أم نسج تنسج فسكت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَحِكَ بعض القوم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مم تضحكون من جاهل سأل عالماً ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل ينشق عنها ثمر الجنة مرتين (2) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إن أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة ورشحهم المسك لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشية وفي رواية على كل زوجة سبعون حلة (3) وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى يحلون فيها من أساور من ذهب قال إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب (4) وقال صلى الله عليه وسلم الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون (5) رواه البخاري في الصحيح قال ابن عباس الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب وقال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى {وفرش مرفوعة} قال ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض (6)
صفة طعام أهل الجنة
بيان طعام أهل الجنة مذكور في القرآن من الفواكه والطيور السمان والمن والسلوى والعسل واللبن وأصناف كثيرة لا تحصى قال الله تعالى كلما رزقوا فيها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً وذكر الله تعالى شراب أهل الجنة في مواضع كثيرة وقد قال ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت قائماً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه حبر من أحبار اليهود فذكر أسئلة إلى أن قال فمن أول إجازة يعني على الصراط فقال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال زيادة كبد الحوت قال فما غداؤهم على أثرها قال ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل في أطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين فيها تسمى سلسبيلاً فقال صدقت (7) وقال زيد بن أرقم جاء رجل من اليهود إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال يا أباالقاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون وقال لأصحابه إن أقرلى بها خصمته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلى والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم
_________
(1) حديث أبي هريرة من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس لا تبلى ثيابه الحديث رواه مسلم دون قوله فى الجنة مالا عين رأت الخ فاتفق عليه الشيخان من حديث آخر لأبى هريرة قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت الحديث
(2) حديث قال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أتخلق خلقا أم تنسج نسجا الحديث أخرجه النسائى من حديث عبد الله بن عمرو
(3) حديث أبى هريرة أول زمرة تدخل الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر الحديث متفق عليه
(4) حديث في قوله تعالى يحلون فيها من أساور من ذهب قال إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب أخرجه الترمذى من حديث أبى سعيد دون ذكر الآية وقال لا نعرفه إلا من حديث رشد بن سعد
(5) حديث الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً الحديث عزاه المصنف للبخارى وهو متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى
(6) حديث أبى سعيد في قوله تعالى {وفرش مرفوعة} قال ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض أخرجه الترمذى بلفظ ارتفاعها لكما بين السماء والأرض وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث رشد بن سعد
(7) حديث ثوبان جاء حبر من أحبار اليهود فذكر سؤاله إلى أن قال فمن أول الناس إجازة يعني على الصراط فقال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال زيادة كبد النون الحديث رواه مسلم بزيادة فى أوله وآخره(4/539)
والمشرب والجماع فقال اليهودي فإن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجتهم عرق يفيض من جلودهم مثل المسك فإذا البطن قد ضمر (1) وقال ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً (2) وقال حذيفة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن في الجنة طيراً مثل البخاتي قال أبو بكر رضي الله عنه إنها لناعمة يا رسول الله قال أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر (3) وقال عبد الله بن عمر في قوله تعالى يطاف عليهم بصحاف قال يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة فيها لون ليس في الأخرى مثله وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ومزاجه من تسنيم قال يمزج لأصحاب اليمين ويشربه المقربون صرفاً وقال لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها
صفة الحور العين والولدان
قد تكرر في القرآن وصفهم ووردت الأخبار بزيادة شرح فيه
روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدمه من الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ولملأت ما بينهما رائحة ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا بما فيها (4) يعني الخمار وقال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى {كأنهن الياقوت والمرجان} قال تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وإنه يكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك (5) وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما أسري بي دخلت في الجنة موضعاً يسمى البيدخ عليه خيام اللؤلؤ والزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر فقلن السلام عليك يا رسول الله فقلت يا جبريل ما هذا النداء قال هؤلاء المقصورات في الخيام استأذن ربهن في السلام عليك فأذن لهن فطفقن يقلن نحن الراضيات فلا نسخط أبداً ونحن الخالدات فلا نظعن أبداً وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى حور مقصورات في الخيام // حديث أنس لما أسري بي دخلت في الجنة موضعاً يسمى الصرح عليه خيام اللؤلؤ والزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر الحديث وفيه أن جبريل قال هؤلاء المقصورات في الخيام وفيه فطفقن يقلن نحن الراضيات فلا نسخط لم أجده هكذا
_________
(1) حديث زيد بن أرقم جاء رجل من اليهود فقال يا أبا القاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون الحديث وفيه حاجتهم عرق يفيض من جلودهم مثل المسك أخرجه النسائى فى الكبرى بإسناد صحيح
(2) حديث ابن مسعود إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا أخرجه البزار بإسناد صحيح
(3) حديث حذيفة إن في الجنة طيراً أمثال البخاتى الحديث غريب من حديث حذيفة ولأحمد من حديث أنس بإسناد صحيح إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى فى شجر الجنة قال أبو بكر يا رسول الله إن هذه الطير ناعمة قال أكلتها أنعم منها قالها ثلاثا وإنى أرجو أن تكون ممن يأكل منها وهو عند الترمذى من وجه آخر ذكر فيه نهر الكوثر وقال فيه طير أعناقها كأعناق الجزر قال عمر إن هذه لناعمة الحديث وليس فيه ذكر لأبى بكر وقال حسن
(4) حديث غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها الحديث أخرجه البخارى من حديث أنس
(5) حديث أبي سعيد الخدري في قوله تعالى {كأنهن الياقوت والمرجان} قال تنظر إلى وجهها فى خمرها أصفى من المرآة الحديث أخرجه أبو يعلى من رواية أبى الهيثم عن أبى سعيد بإسناد حسن ورواه أحمد وفيه ابن لهيعة ورواه ابن المبارك فى الزهد والرقائق من رواية أبى الهيثم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا دون ذكر أبى سعيد وللترمذى من حديث ابن مسعود إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض مخ ساقها من وراء سبعين حلة الحديث ورواه عنه موقوفا قال وهذا أصح وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم(4/540)
بتمامه وللترمذى من حديث على أن فى الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن أصواتا لم تسمع الخلائق مثلها يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له وقال غريب ولأبى الشيخ فى كتاب العظمة حديث ابن أبى أوفى بسند ضعيف فيجتمعن فى كل سبعة أيام فيقلن بأصوات الحديث
وقال مجاهد في قوله تعالى {وأزواج مطهرة} قال من الحيض والغائط والبول والبصاق والنخامة والمني والولد
وقال الأوزاعي {في شغل فاكهون} قال شغلهم افتضاض الأبكار وقال رجل يا رسول الله أيباضع أهل الجنة قال يعطى الرجل منهم من القوة في اليوم الواحد أفضل من سبعين منكم (1) وقال عبد الله بن عمر إن أدنى أهل الجنة منزلة من يسعى له ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف ثيب يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا (2) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ في الجنة سوقاً ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها وإن فيها لمجتمع الحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط فطوبى لمن كان لنا وكنا له (3) وقال أنس رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الحور العين في الجنة يتغنين نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام (4) وقال يحيى بن كثير في قوله تعالى {في روضة يحبرون} قال السماع في الجنة وقال أبو أمامة الباهلي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتحميد الله وتقديسه (5)
بيان جمل مفرقة من أوصاف أهل الجنة وردت بها الأخبار
روى أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ألا هل من مشمر للجنة إن الجنة لا خطر 1 لها هى ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وفاكهة كثيرة نضيجة وزوجة وزوجة حسناء جميلة في حبرة ونعمة في مقام أبداً ونضرة في دار عالية بهية سليمة قالوا نحن المشمرون لها يا رسول الله قال قولوا إن شاء الله تعالى ثم ذكر الجهاد وحقه عليه (6) وجاء رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال هل في الجنة خيل فإنها تعجبني قال إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك فى الجنة حيث شئت وقال له رجل إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل فقال يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما اشتهت نفسك ولذت
_________
(1) حديث قال رجل يا رسول الله أيباضع أهل الجنة قال يعطى الرجل منهم من القوة في اليوم الواحد أفضل من سبعين منكم أخرجه الترمذى وصححه وابن حبان من حديث أنس يعطى المؤمن فى الجنة قوة كذا وكذا من الجماع فقيل أو يطيق ذلك قال يعطى قوة مائة
(2) حديث إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف بكر وثمانية آلالف ثيب يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا أخرجه أبو الشيخ فى طبقات المحدثين وفى كتاب العظمة من حديث ابن أبى أوفى إلا أنه قال مائة حوراء ولم يذكر فيه عناقه لهن وإسناده ضعيف وتقدم قبله بحديث
(3) حديث إن في الجنة سوقاً ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء الحديث أخرجه الترمذى فرقة فى موضعين من حديث على وقد تقدم بعضه قبل هذا بحديثين
(4) حديث أنس إن الحور فى الجنة يتغنين فيقلن نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام أخرجه الطبرانى فى الأوسط وفيه الحسن بن داود بن المنكدر قال البخارى يتكلمون فيه وقال ابن عدى أرجو أنه لا بأس به
(5) حديث أبى أمامة ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتحميد الله وتقديسه أخرجه الطبرانى بإسناد حسن
(6) حديث أسامة بن زيد ألا هل من مشمر للجنة إن الجنة لا خطر لها الحديث أخرجه ابن ماجه وابن حبان(4/541)
عيناك (1) وعن أبي سعيد الخدري قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي يكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة (2) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استقر أهل الجنة في الجنة اشتاق الإخوان إلى الإخوان فيسير سرير هذا إلى سرير هذا فيلتقيان ويتحدثان ما كان بينهما في دار الدنيا فيقول يا أخي تذكر يوم كذا في مجلس كذا فدعونا الله عز وجل فغفر لنا (3) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أهل الجنة جرد مرد جعاد مكحولون أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم طولهم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع (4) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم وثنتان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء وإن عليهم التيجان وإن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب (5) وقال صلى الله عليه وسلم نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب وإذا طيرها كالبخت وإذا فيها جارية فقلت يا جارية لمن أنت فقالت لزيد بن حارثة وإذا في الجنة مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر (6) وقال كعب خلق الله تعالى آدم عليه السلام بيده وكتب التوراة بيده وغرس الجنة بيده ثم قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فهذه صفات الجنة ذكرناها جملة ثم نقلناها تفصيلاً
وقد ذكر الحسن البصري رحمه الله جملتها فقال إن رمانها مثل الدلاء وإن أنهارها لمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من عسل مصفى لم يصفه الرجال وأنها من خمر لذة للشاربين لا تسفه الأحلام ولا تصدع منها الرءوس وإن فيها مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر ملوك ناعمون أبناء ثلاث وثلاثون في سن واحد طولهم ستون ذراعاً في السماء كحل جرد مرد قد أمنوا العذاب واطمأنت بهم الدار وإن أنهارها لتجري على رضراض من ياقوت وزبرجد وإن عروقها ونخلها وكرمها اللؤلؤ وثمارها لا يعلم علمها إلا الله تعالى وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة وإن لهم فيها خيلاً وإبلاً هفافة رحالها وأزمتها وسروجها من ياقوت يتزاورون فيها وأزواجهم الحور العين كأنهن بيض مكنون وإن المرأة لتأخذ بين إصبعيها سبعين حلة فتلبسها فيرى
_________
(1) حديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له هل في الجنة خيل فإنها تعجبنى الحديث أخرجه الترمذى من حديث بريدة مع اختلاف لفظ وفيه المسعودى مختلف فيه ورواه ابن المبارك فى الزهد بلفظ المصنف من رواية عبد الرحمن بن سابط مرسلا قال الترمذى وهذا أصح وقد ذكر أبو موسى المدينى عبد الرحمن بن سابط فى ذيله على ابن منده فى الصحابة ولا يصح له صحبة
(2) حديث أبى سعيد إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهى ويكون حمله وفصاله ونشأته فى ساعة واحدة أخرجه ابن ماجة والترمذى وقال حسن غريب قال وقد اختلف أهل العلم فى هذا فقال بعضهم فى الجنة جماع ولا يكون ولد انتهى ولأحمد من حديث لأبى رزين يلذ ويلم مثل لذاتكم فى الدنيا ويتلذذن بكم غير أن لا توالد
(3) حديث إذا استقر أهل الجنة اشتاق الإخوان إلى الإخوان فيسير سرير هذا إلى سرير هذا أخرجه البزار من رواية الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس وقال لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد تفرد به أنس انتهى والربيع بن صبيح ضعيف جدا ورواه الأصفهانى فى الترغيب والترهيب مرسلا دون ذكر أنس
(4) حديث أهل الجنة جرد مرد بيض جعاد مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين الحديث أخرجه الترمذى من حديث معاذ وحسنه دون قوله بيض جعاد ودون قوله على خلق آدم إلى آخره ورواه أيضا من حديث أبى هريرة مختصرا أهل الجنة جرد مرد كحل وقال غريب وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا
(5) حديث أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى سعيد منقطعا من أوله إلى قوله وإن عليهم التيجان ومن هنا بإسناده أيضا وقال لا نعرفه إلا من حديث رشد بن سعد
(6) حديث نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب وإذا طيرها كالبخت الحديث رواه الثعلبى فى تفسيره من رواية أبى هرون العبدى عن أبى سعيد وأبو هرون اسمه عمارة بن حريث ضعيف جدا وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة يقول الله أعددت لعبادي الصالحين مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر(4/542)
مخ ساقها من وراء تلك السبعين حلة قد طهر الله الأخلاق من السوء والأجساد من الموت لا يمتخطون فيها ولا يبولون ولا يتغوطون وإنما هو حبشاء ورشح مسك لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً أما إنه ليس ليل يكر الغدو على الرواح والرواح على الغدو وإن آخر من يدخل الجنة وأدناهم منزلة ليمد له في بصره وملكه مسيرة مائة عام في قصور من الذهب والفضة وخيام اللؤلؤ ويفسح له في بصره حتى ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه يغدى عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب ويراح عليهم بمثلها في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله ويجد طعم آخره كما يجد طعم أوله وإن في الجنة لياقوتة فيها سبعون ألف دار في كل دار سبعون ألف بيت ليس فيها صدع ولا ثقب
وقال مجاهد إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه وأرفعهم الذي ينظر إلى ربه بالغداة والعشي وقال سعيد ابن المسيب ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة سوار من ذهب وسوار من لؤلؤ وسوار من فضة
وقال أبو هريرة رضي الله عنه إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء إذا مشت مشى عن يمينها ويسارها سبعون ألف وصيفة وهي تقول أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وقال يحيى بن معاذ ترك الدنيا شديد وفوت الجنة أشد وترك الدنيا مهر الآخرة وقال أيضاً في طلب الدنيا ذل النفوس وفي طلب الآخرة عز النفوس فيا عجباً لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى ويترك العز في طلب ما يبقى
صفة الرؤية والنظر إلى وجه الله تبارك تعالى
قال الله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى وهي اللذة الكبرى التي ينسى فيها نعيم أهل الجنة وقد ذكرناه حقيقتها في كتاب المحبة وقد شهد لها الكتاب والسنة على خلاف ما يعتقده أهل البدعة قال جرير بن عبد الله البجلي كنا جلوساً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى القمر ليلة البدر فقال إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} (1) وهو مخرج في الصحيحين وروى مسلم في الصحيح عن صهيب قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة {قال} إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه قالوا ما هذا الموعد ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيرفع الحجاب وينظرون إلى وجه الله عز وجل فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه (2) وقد روى حديث الرؤيا جماعة من الصحابة وهذه هي غاية الحسنى ونهاية النعمى وكل ما فصلناه من التنعم عند هذه النعمة ينسى وليس لسرور أهل الجنة عند سعادة اللقاء منتهى بل لا نسبة لشىء من لذات الجنة إلى لذة اللقاء وقد أوجزنا في الكلام هنا لما فصلناه في كتاب المحبة والشوق والرضا فلا ينبغي أن تكون همة العبد من الجنة بشيء سوى لقاء المولى وأما سائر نعيم الجنة فإنه يشارك فيه البهيمة المسرحة في المرعى
_________
(1) حديث جرير كنا جلوساً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى القمر ليلة البدر فقال إنكم ترون ربكم الحديث هو فى الصحيحين كما ذكر المصنف
(2) حديث صهيب فى قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة رواه مسلم كما ذكره المصنف(4/543)
نختم الكتاب بباب في سعة رحمة الله تعالى على سبيل التفاؤل بذلك
فقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وسلم يحب الفأل (1) وليس لنا من الأعمال ما نرجو به المغفرة فنقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في التفاؤل ونرجو أن يختم عاقبتنا بالخير في الدنيا والآخرة كما ختمنا الكتاب بذكر رحمة الله تعالى
فقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رحيماً
ونحن نستغفر الله تعالى مِنْ كُلِّ مَا زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ أَوْ طغى به القلم في كتابنا هذا وفي سائر كتبنا ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا ونستغفره مما ادعيناه وأظهرناه من العلم والبصيرة بدين الله تعالى مع التقصير فيه ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه الكريم ثم خالطه غيره ونستغفره من كل وعد وعدناه به من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به ونستغفره من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته ونستغفره من كل تصريح وتعريض بنقصان ناقص وتقصير مقصر كنا متصفين به ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف تزينا للناس في كتاب سطرناه أو كلام نظمناه أو علم أفدناه أو استفدناه ونرجو بعد الاستغفار من جميع ذلك كله لنا ولمن طالع كتابنا هذا أو كتبه أو سمعه أن نكرم بالمغفرة والرحمة والتجاوز عن جميع السيئات ظاهراً وباطناً فإن الكرم عميم والرحمة واسعة والجود على أصناف الخلائق فائض
ونحن خلق من خلق الله عز وجل لا وسيلة لنا إليه إلا فضله وكرمه فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة (2) ويروى أنه كان يوم القيامة أخرج الله تعالى كتاباً من تحت العرش فيه إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين فيخرج من النار مثلا أهل الجنة (3) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتجلى الله عز وجل لنا يوم القيامة ضاحكاً فيقول أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم يشفع الله تعالى آدم يوم القيامة من جميع ذريته في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل يقول يوم القيامة للمؤمنين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا ربنا فيقول لم فيقولون رجونا عفوك ومغفرتك فيقول قد أوجبت لكم مغفرتي (6) وقال
_________
(1) حديث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب التفاؤل متفق عليه من حديث أنس فى أثناء حديث ويعجبنى الفأل الصالح والكلمة الحسنة ولهما من حديث أبى هريرة وخيرهما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم
(2) حديث إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس الحديث أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وسلمان
(3) حديث إذا كان يوم القيامة أخرج الله كتاباً من تحت العرش فيه إن رحمتي سبقت غضبى الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي لفظ البخارى وقال مسلم كتب فى كتابه على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي
(4) حديث يتجلى الله لنا يوم القيامة ضاحكاً فيقول أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً أو نصرانيا أخرجه مسلم من حديث أبى موسى إذا كان يوم القيامة دفع الله الى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداؤك من النار ولأبى داود أمتى أمة مرحومة لاعذاب عليها فى الآخرة الحديث وأما أول الحديث فرواه الطبرانى من حديث أبى موسى أيضا يتجلى الله ربنا لنا ضاحكا يوم القيامة حتى ينظروا إلى وجهه فيخرون له سجدا فيقول ارفعوا رءوسكم فليس هذا يوم عبادة وفيه على بن زيد بن جدعان
(5) حديث يشفع الله آدم يوم القيامة من ذريته في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف اخرجه الطبرانى من حديث أنس بإسناد ضعيف
(6) حديث إن الله تعالى يقول يوم القيامة للمؤمنين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم الحديث أخرجه أحمد والطبرانى من حديث معاذ بسند ضعيف(4/544)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل يوم القيامة أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام (1) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتمع أهل النار في النار ومن شاء الله معهم من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين قالوا بلى فيقولون ما أغنى عنكم إسلامكم إذ أنتم معنا في النار فيقولون كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيسمع الله عز وجل ما قالوا فيأمر بإخراج من كان في النار من أهل القبلة فيخرجون فإذا رأى ذلك الكفار قالوا يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} (2) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها (3) وقال جابر بن عبد الله من زادت حسناته على سيآته يوم القيامة فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب ومن استوت حسناته وسيآته فذلك الذي يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة وإنما شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أوبق نفسه وأثقل ظهره
ويروى إن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام يا موسى استغاث بك قارون فلم تغثه وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته وعفوت عنه وقال سعد بن بلال يؤمر يوم القيامة بإخراج رجلين من النار فيقول الله تبارك وتعالى ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد ويأمر بردهما إلى النار فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها ويتلكأ الآخر ويأمر بردهما ويسألهما عن فعلهما فيقول الذي عدا إلى النار قد حذرت من وبال المعصية فلم أكن لأتعرض لسخطك ثانية ويقول الذي تلكأ حسن ظني بك كان يشعرني أن لا تردني إليها بعد ما أخرجتني منها فيأمر بهما إلى الجنة وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحمتي (4) ويروى أن أعرابياً سمع ابن عباس يقرأ {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} فقال الأعرابي فوالله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يوقعكم فيها فقال ابن عباس خذوها من غير فقيه وقال الصنابحي دخلت على عبادة بن الصامت وهو في مرض الموت فبكيت فقال مهلاً لم تبكي فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثا واحدا وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من شهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله حرم الله النار عليه (5) وقال عبد الله ابن عمرو بن العاص قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك
_________
(1) حديث يقول الله عز وجل يوم القيامة أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام أخرجه الترمذى من حديث أنس وقال حسن غريب
(2) حديث إذا اجتمع أهل النار في النار ومن شاء الله معهم من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين قالوا بلى فيقولون ما أغنى عنكم إسلامكم إذ أنتم معنا فى النار الحديث فى إخراج أهل القبلة من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} أخرجه النسائى فى الكبرى من حديث جابر نحوه بإسناد صحيح
(3) حديث لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشقيقة بولدها متفق متفق عليه من حديث عمرو بن الخطاب وفي أوله قصة المرأة من السبي إذ وجدت صبيا في السبى فأخذته ببطنها فأرضعته فى سباعيات أبى الأسعد القشيرى من
(4) حديث ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد غفرته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها بينكم وادخلوا الجنة برحمتي رويناه في سباعيات أبي الأسعد القشيري من حديث أنس وفيه الحسين بن داود البلخي قال الخطيب ليس بثقة
(5) حديث الصنابحى عن عبادة بن الصامت من شهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله حرمه الله على النار أخرجه مسلم من هذا الوجه واتفقا عليه من غير رواية الصنابحى بلفظ آخر(4/545)
اليوم فيخرج بطاقة فيها أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أن محمداً رسول الله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء (1) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر حديث طويل يصف فيه القيامة والصراط إن الله يقول للملائكة من وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه من النار فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به فكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً قال فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون منها كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون مما يلي الحجر والشجر ما يكون إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل أبيض قالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة يقولون هؤلاء عتقاء الرحمن الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتم فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين فيقول الله تعالى إن لكم عندي ما هو أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضائي عنكم فلا أسخط عليكم بعده أبداً (2) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذات يوم فقال عرضت علي الأمم يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبى ليس معه أحد والنبي معه الرهط فرأيت سواداً كثيراً فرجوت أن تكون أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً قد سد الأفق فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواد كثيراً فقيل لي هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر ذلك الصحابة فقالوا أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله ورسوله هؤلاء هم أبناؤنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة فقال ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله فقال أنت منهم ثم قام آخر فقال مثل قول عكاشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة (3) عن عمر بن حزم الأنصاري قال تغيب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا يخرج إلا لصلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا فقلنا يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه قد حدث حدث قال لم يحدث إلا خير إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم وإني سألت ربي في هذه الثلاثة أيام المزيد فوجدت ربي ماجداً واجداً كريماً فأعطاني مع كل واحد من
_________
(1) حديث عبد الله بن عمرو إن الله يستخلص رجلاً من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينتشر له تسعة وتسعون سجلا فذكر حديث البطاقة ابن ماجه والترمذى وقال حسن غريب
(2) حديث إن الله يقول للملائكة من وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه من النار فيخرجون خلقا كثيرا الحديث فى إخراج الموحدين وقوله تعالى لأهل الجنة فلا أسخط عليكم بعده أبدا أخرجاه فى الصحيحين كما ذكر المصنف من حديث أبى سعيد
(3) حديث ابن عباس عرضت علي الأمم يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد الحديث إلى قوله سبقك بها عكاشة رواه البخارى(4/546)
السبعين ألفاً سبعين ألفاً قال قلت يا رب وتبلغ أمتي هذا قال أكمل لك العدد من الأعراب (1) وقال أبو ذر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض لى جبريل فى جانب الحرة فقال بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة فقلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى قال نعم وإن سرق وإن زنى قلت وإن سرق وإن زنى قال وإن سرق وإن زنى قلت وإن سرق وإن زنى قال وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر (2) وقال أبو الدرداء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن سرق وإن زنى يا رسول الله فقال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن سرق وإن زنى فقال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإنى سرق وإن زنى يا رسول الله قال وإن رغم أنف أبي الدرداء (3) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل فقيل له هذا فداؤك من النار (4) وروى مسلم في الصحيح عن أبي بردة أنه حدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله تعالى مكانه النار يهودياً أو نصرانياً فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلف له (5) وروي أنه وقف صبي في بعض المغازي ينادي عليه فيمن يزيد في يوم صائف شديد الحر فبصرت به امرأة في خباء القوم فأقبلت تشتد وأقبل أصحابها خلفها حتى أخذت الصبي وألصقته إلى صدرها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وجعلته على بطنها تقيه الحر وقالت ابني ابني فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وقف عليهم فأخبروه الخبر فسر برحمتهم ثم بشرهم فقال أعجبتم من رحمة هذه لابنها قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى أرحم بكم جميعاً من هذه بابنها (6) والحمد لله تعالى عودا على بدء والصلاة والتسليم على سيدنا محمد فى كل حركة وهده يقول مؤلفه عبد الرحيم بن الحسين العراقى اننى أكملت مسودة هذا التأليف فى سنة 761 وأكملت تبييض هذا المختصر منها فى يوم الأثنين 12 من شهر ربيع الأول سنة 790 انتهى فتفرق المسلمون على أفضل السرور وأعظم البشارة
فهذه الأحاديث وما أوردنا في كتاب الرجاء يبشرنا بسعة رحمة الله تعالى فنرجو من الله تعالى أن لا يعاملنا بما نستحقه ويتفضل علينا بما هو أهله بمنه وسعة جوده ورحمته
_________
(1) حديث عمرو بن حزم الأنصارى تغيب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا يخرج إلا لصلاة مكتوبة ثم يرجع وفيه إن ربى وعدنى أن يدخل من أمتى الجنة سبعين ألفاً لا حساب عليهم {وفيه} أعطانى مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً أخرجه البيهقى فى البعث والنشور ولأحمد وأبى يعلى من حديث أبى بكر فزادنى مع كل واحد سبعين ألفا وفيه رجل لم يسم ولأحمد والطبرانى فى الأوسط من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر فقال عمر فهلا استزدته فقال قد استزدته فأعطانى مع كل رجل سبعين ألفا قال عمر فهلا استزدته قال قد استزدته فأعطانى هكذا وفرج عبد الله بن أبي بكر بين يديه قال عبد الله وبسط باعيه وحثى عليه وفيه موسى بن عبيدة الرندى ضعيف
(2) حديث أبى ذر عرض لي جبريل في جانب الحرة فقال بشر أمتك بأنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة الحديث متفق عليه بلفظ أتانى جبريل فبشرنى وفى رواية لهما أتانى آت من ربى
(3) حديث أبى الدرداء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن زنى وإن سرق الحديث رواه أحمد بإسناد صحيح
(4) حديث إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل فقيل له هذا فداؤك من النار رواه مسلم من حديث أبى موسى نحوه وقد تقدم
(5) حديث أبي بردة أنه حدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهودياً أو نصرانيا عزاه المصنف لرواية مسلم وهو كذلك
(6) حديث وقف صبي في بعض المغازي ينادي عليه فيمن يزيد في يوم صائف شديد الحر فبصرت به امرأة الحديث وفيه الله أرحم بكم جميعاً من هذه بابنها متفق عليه مختصرا مع اختلاف من حديث عمر بن الخطاب قال قدم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبى فإذا امرأة من السبى تسعى إذ وجدت صبيا فى السبى أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار قلنا لا والله وهى تقدر على أن لا تطرحه فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله أرحم بعباده من هذه بولدها لفظ مسلم وقال البخارى فإذا امرأة من السبى قد تحلب ثديها تسعى إذ وجدت صبيا الحديث(4/547)