الخد الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك ومن سخرك لتسير معه ميلاً فسر معه ميلين وكل ذلك أمر بالصبر على الأذى فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر لأنه يتعاون فيه باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعاً
الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرِ الاختيار أوله وآخره كَالْمَصَائِبِ مِثْلُ مَوْتِ الْأَعِزَّةِ وَهَلَاكِ الْأَمْوَالِ وَزَوَالِ الصحة بالمرض وعمى العين وفساد الأعضاء وبالجملة سائر أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى مقامات الصبر قال ابن عباس رضي الله عنهما الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلثمائة درجة وصبر عن محارم الله تعالى فله ستمائة درجة وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة وإنما فضلت هذه الرتبة مع أنها من الفضائل على ما قبلها وهي من الفرائض لأن كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم
فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين فإن ذلك شديد على النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أسألك من اليقين ما تهون علي به مصائب الدنيا (1) وقال صلى الله عليه وسلم انتظار الفرج بالصبر عبادة (2) وقال أنس حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه قال سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا قال الله تعالى جزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي // وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل إذا ابتليت عبدي ببلاءٍ فصبر ولم يشكني إلى عواده أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له وإن توفيته فإلى رحمتي وقال داود عليه السلام يا رب ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك قال جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه عنه أبداً وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه منها الصبر إلا كان ما عوضه منها أفضل مما انتزع منه وقرا خانما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وسئل فضيل عن الصبر فقال هو
_________
(1) فهذا صبر مستنده حسن اليقين
وقال أبو سليمان والله ما نصبر على ما نحب فكيف نصبر على ما نكره وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عز وجل إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله وولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً
(2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم اؤجرني بمصيبتي وأعقبني خيراً منها إلا فعل الله به ذلك(4/72)
الرضا بقضاء الله قيل وكيف ذلك قال الراضي لا يتمنى فوق منزلته وقيل حبس الشبلي رحمه الله في المارستان فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا أحباؤك جاءوك زائرين فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون فقال لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة ويطالعها وكان فيها {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} ويقال أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها أما تجدين الوجع فقالت إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه وقال داود لسليمان عليهما السلام يستدل على تقوى المؤمن بثلاث حسن التوكل فيما لم ينل وحسن الرضا فيما قد نال وحسن الصبر فيما قد فات وقال نبينا صلى الله عليه وسلم من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك (1) قَالَ الرَّاوِي فَلَقَدْ رَأَيْتُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ في المسجد سبعة كلهم قد قرءوا القرآن وروى جابر أنه عليه السلام قال رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وقد قيل الصبرالجميل هو ان لا يعرف صاحب المصيبة من غيره وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الصَّابِرِينَ تَوَجُّعُ الْقَلْبِ ولا فيضان العين بالدمع إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء ولأن البكاء توجع القلب على الميت فإن ذلك مقتضى البشرية ولا يفارق الإنسان إلى الموت وَلِذَلِكَ لَمَّا مَاتَ إبراهيم وَلَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقِيلَ لَهُ أما نهيتنا عن هذا فقال إن هَذِهِ رَحْمَةٌ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرحما بل ذلك أيضاً لا يخرج عن مقام الرضا فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألم بسببه لا محالة وقد تفيض عيناه إذا عظم ألمه وسيأتي
_________
(1) ويروى عن بعض الصالحين أنه خرج يوماً وفي كمه صرة فافتقدها فإذا هي قد أخذت من كمه فقال بارك الله له فيها لعله أحوج إليها مني وروي عن بعضهم أنه قال مررت على سالم مولى أبي حذيفة في القتلى وبه رمق فقلت له أسقيك ماء فقال جرني قليلاً إلى العدو واجعل الماء في الترس فإني صائم فإن عشت إلى الليل شربته فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى
فإن قلت فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الأمر إلى اختياره فهو مضطر شاء أم أبى فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهية المصيبة فذلك غير داخل في اختيار فاعلم أنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الشَّكْوَى وَإِظْهَارِ الْكَآبَةِ وَتَغْيِيرِ الْعَادَةِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ والمطعم وهذه الْأُمُورَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ جميعها ويظهر الرضا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى عَادَتِهِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَدِيعَةً فَاسْتُرْجِعَتْ كَمَا روي عن الرميصاء أم سليم رحمها الله أنها قَالَتْ تُوُفِّيَ ابْنٌ لِي وَزَوْجِي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت فقدم أبو طلحة فقمت فَهَيَّأْتُ لَهُ إِفْطَارَهُ فَجَعَلَ يَأْكُلُ فَقَالَ كَيْفَ الصبي قلت بأحسن حال بحمد الله ومنه فإنه لَمْ يَكُنْ مُنْذُ اشْتَكَى بِأَسْكَنَ مِنْهُ اللَّيْلَةَ ثُمَّ تَصَنَّعْتُ لَهُ أَحْسَنَ مَا كُنْتُ أَتَصَنَّعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَصَابَ مِنِّي حَاجَتَهُ ثُمَّ قُلْتُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ جِيرَانِنَا قَالَ مَا لَهُمْ قُلْتُ أُعِيرُوا عَارِيَةً فَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمْ وَاسْتُرْجِعَتْ جَزِعُوا فَقَالَ بِئْسَ مَا صَنَعُوا فَقُلْتُ هَذَا ابْنُكَ كَانَ عَارِيَةً مِنَ اللَّهِ تعالى وإن الله قد قَبَضَهُ إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال اللهم بارك لهما في ليلتهما(4/73)
ذلك في كتاب الرضا إن شاء الله تعالى وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء إن أحق من عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده فيما أبقاه له واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك واعلم أن أجر الصابرين به فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه
فإذن مهما دفع الكراهة بالتفكر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب نال درجة الصابرين نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب وقد قيل من كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقة فقد ظَهَرَ لَكَ بِهَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ أَنَّ وُجُوبَ الصَّبْرِ عام في جميع الأحوال والأفعال فإن الذي كفى الشهوات كلها واعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهراً وعن الصبر عن وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ بَاطِنًا فَإِنَّ اخْتِلَاجَ الْخَوَاطِرِ لَا يسكن وأكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر فهو كيفما كان تضييع زمان وآلة العبد قلبه وبضاعته عمره فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنساً بالله تعالى أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى فهو مغبون هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصوراً عليه ولا يكون ذلك غالباً بل يتفكر في وجوء الحيل لقضاء الشهوات إذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده ويتوهم مخالفتهم له ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته ولا يزال في شغل دائم فللشيطان جندان جند يطير وجند يسير والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار وهذا لأن الشيطان خلق من النار وخلق الإنسان من صلصال كالفخار والفخار قد اجتمع فيه مع النار الطين والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة فلا يتصور نار مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها وقد كلف الملعون المخلوق من النار أن يطمئن عن حركته ساجداً لما خلق الله من الطين فأبى واستكبر واستعصى وعبر عن سبب استعصائه بأن قَالَ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}
فإذن حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده ومهما كف عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه وانقياده بالإذعان سجود منه فهو روح السجود وإنما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالة عليه بالاصطلاح ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصور ذلك كما أن الانبطاح بين يد المعظم المحترم يرى استخفافاً بالعادة فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر وقالب الروح عن الروح وقشر اللب عن اللب فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب وتحقق أن الشيطان من المنظرين فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد فتشغل قلبك بالله وحده فلا يجد الملعون مجالاً فيك فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين
ولا تظنن أنه يَخْلُو عَنْهُ قَلْبٌ فَارِغٌ بَلْ هُوَ سَيَّالٌ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَسَيَلَانُهُ مِثْلُ الْهَوَاءِ فِي الْقَدَحِ فَإِنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَخْلُوَ الْقَدَحُ عَنِ الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْغَلَهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَقَدْ طَمِعْتَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ بَلْ بِقَدْرِ مَا يَخْلُو مِنَ الْمَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ لَا مَحَالَةَ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَشْغُولُ بِفِكْرٍ مُهِمٍّ فِي الدِّينِ لا يَخْلُو عَنْ جَوَلَانِ الشَّيْطَانِ وَإِلَّا فَمَنْ غَفَلَ عن الله تعالى وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَرِينٌ إِلَّا الشَّيْطَانُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى(4/74)
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الشَّابَّ الْفَارِغَ // وَهَذَا لِأَنَّ الشَّابَّ إِذَا تَعَطَّلَ عَنْ عَمَلٍ يَشْغَلُ بَاطِنَهُ بِمُبَاحٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دِينِهِ كَانَ ظَاهِرُهُ فَارِغًا وَلَمْ يَبْقَ قَلْبُهُ فَارِغًا بَلْ يُعَشِّشُ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَيَبِيضُ وَيُفَرِّخُ ثُمَّ تَزْدَوِجُ أَفْرَاخُهُ أَيْضًا وتبيض مرة أخرى وتفرخ وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالداً أسرع من توالد سائر الحيوانات لأن طبعه من النار وإذا وجد الحلفاء اليابسة كثر توالده فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة بل تسري شيئاً فشيئاً على الاتصال فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة فإذن إذا تأملت علمت أن أعدى عدوك شهوتك وهي صفة نفسك ولذلك قال الحسين بن منصور الحلاج حين كان يصلب وقد سئل عن التصوف ما هو فقال هِيَ نَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْكَ
فَإِذَنْ حَقِيقَةُ الصَّبْرِ وَكَمَالُهُ الصَّبْرُ عَنْ كُلِّ حَرَكَةٍ مَذْمُومَةٍ وَحَرَكَةُ الْبَاطِنِ أَوْلَى بِالصَّبْرِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا صَبْرٌ دَائِمٌ لَا يَقْطَعُهُ إِلَّا الْمَوْتُ نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه
بيان دَوَاءُ الصَّبْرِ وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ وَوَعَدَ الشِّفَاءَ فَالصَّبْرُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا أَوْ مُمْتَنِعًا فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل فالعلم والعمل هما الأخلاط التي منها تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها ولكن يحتاج كل مرض إلى علم آخر وعمل آخر وكما أن أقسام الصبر مختلفة فأقسام العلل المانعة منه مختلفة وإذا اختلفت العلل اختلف العلاج إذ معنى العلاج مضادة العلة وقمعها واستيفاء ذلك مما يطول ولكنا نعرف الطريق في بعض الأمثلة
فنقول إذا افتقر إلى الصبر عن شهوة الوقاع مثلاً وقد غلبت عليه الشهوة بحيث ليس يملك معها فرجه أو يملك فرجه ولكن ليس يملك عينه أو يملك عينه ولكن ليس يملك قلبه ونفسه اذ تزال تحدثه بمقتضيات الشهوات ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر والأعمال الصالحة فنقول قد قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنْ مُصَارَعَةِ بَاعِثِ الدين مع باعث الهوى وكل متصارعين أَرَدْنَا أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَلَا طَرِيقَ لَنَا فِيهِ إِلَّا تَقْوِيَةُ مَنْ أَرَدْنَا أَنْ تَكُونَ لَهُ الْيَدُ الْعُلْيَا وَتَضْعِيفُ الْآخَرِ فَلَزِمَنَا هَهُنَا تَقْوِيَةُ بَاعِثِ الدِّينِ وَتَضْعِيفُ بَاعِثِ الشَّهْوَةِ
فأما باعث الشهوة فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور
أحدها ان تنظر إلى مادة قوتها وهي الأغذية الطيبة المحركة للشهوة من حيث نوعها ومن حيث كثرتها فلا بد من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصاد عند الإفطار على طعام قليل في نفسه ضعيف في جنسه فيحترز عن اللحم والأطعمة المهيجة للشهوة
الثاني قطع أسبابه المهيجة في الحال فإنه إنما يهيج بالنظر إلى مظان الشهوة إذ النظر يحرك القلب والقلب يحرك الشهوة وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة والفرار منها بالكلية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النظرة سهم من سهام إبليس وهو سهم يسدده الملعون ولا ترس يمنع منه إلا تغميض الأجفان أو الهرب من صوب رميه فإنه إنما يرمي هذا السهم عن قوس الصور فإذا انقلبت عن صوب الصور لم يصبك سهمه
الثالث تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي تشتهيه وذلك بالنكاح فَإِنَّ كُلَّ مَا يَشْتَهِيهِ الطَّبْعُ فَفِي الْمُبَاحَاتِ(4/75)
مِنْ جِنْسِهِ مَا يُغْنِي عَنِ الْمَحْظُورَاتِ مِنْهُ وهذا هو العلاج الأنفع في حق الأكثر فإن قطع الغذاء يضعف عن سائر الأعمال ثم قد لا يقمع الشهوة في حق أكثر الرجال ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء //
فهذه ثلاثة أسباب فالعلاج الأول وهو قطع الطعام يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح وعن الكلب الضاري ليضعف فتسقط قوته الثاني يضاهي تغيب اللحم عن الكلب وتغييب الشعير عن البهيمة حتى لا تتحرك بواطنها بسبب مشاهدتها والثالث يضاهي تسليتها بشيء قليل مما يميل إليه طبعها حتى يبقى معها من القوة ما تصبر به على التأديب
وأما تَقْوِيَةُ بَاعِثِ الدِّينِ فَإِنَّمَا تَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا إِطْمَاعُهُ فِي فَوَائِدِ الْمُجَاهَدَةِ وَثَمَرَاتِهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُكْثِرَ فِكْرَهُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فِي فَضْلِ الصَّبْرِ وَفِي حُسْنِ عواقبه في الدنيا والآخرة وفي الأثر إن ثواب الصبر على المصيبة اكثر مما فات وانه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر ومن أسلم خسيساً في نفيس فلا ينبغي أن يحزن لفوات الخسيس في الحال وهذا من باب المعارف وهو من الإيمان فتارة يضعف وتارة يقوى فإن قوي قوى باعث الدين وهيجه تهييجاً شديداً وإن ضعف ضعفه وإنما قوة الإيمان يعبر عنها باليقين وهو المحرك لعزيمة الصبر وأقل ما أوتي الناس اليقين وعزيمة الصبر
والثاني أن يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجاً قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر بها فيستجريء عليها وتقوى منته في مصارعتها فإن الاعتياد والممارسة للأعمال الشاقة تؤكد القوى التي تصدر منها تلك الأعمال ولذلك تزيد قوة الحمالين والفلاحين والمقاتلين وبالجملة فقوة الممارسين للأعمال الشاقة تزيد على قوة الخياطين والعطارين والفقهاء والصالحين وذلك لأن قواهم لم تتأكد بالممارسة
فالعلاج الأول يضاهي إطماع المصارع بالخلعة عند الغلبة ووعده بأنواع الكرامة كما وعد فرعون سحرته عند إغرائه إياهم بموسى حيث قال صلى الله عليه وسلم وإنكم إذاً لمن المقربين
والثاني يضاهي تعويد الصبي الذي يراد منه المصارعة والمقاتلة بمباشرة أسباب ذلك منذ الصبا حتى يأنس به ويستجرىء عليه وتقوى فيه منته فمن ترك بالكلية المجاهدة بالصبر ضعف فيه باعث الدين ولا يقوى على الشهوة وإن ضعفت وَمَنْ عَوَّدَ نَفْسَهُ مُخَالَفَةَ الْهَوَى غَلَبَهَا مَهْمَا أَرَادَ
فَهَذَا مِنْهَاجُ الْعِلَاجِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصبر ولا يمكن استيفاؤه وإنما أشدها كف الباطن عن حديث النفس وإنما يشتد ذلك على من تفرغ له بأن قمع الشهوات الظاهرة وآثر العزلة وجلس للمراقبة والذكر والفكر فإن الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب إلى جانب وهذا لا علاج له البتة إلا قطع العلائق كلها ظاهراً وباطناً بالفرار عن الأهل والولد والمال والجاه والرفقاء والأصدقاء ثم الاعتزال إلى زاوية بعد إحراز قدر يسير من القوت وبعد القناعة به ثم كل ذلك لا يكفي ما لم تصر الهموم هماً واحداً وهو الله تعالى ثم إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك مالم لم يكن له مجال في الفكر وسير بالباطن في ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله تعالى وسائر أبواب معرفة الله تعالى حتى إذا استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه وإن(4/76)
لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من القراءة والأذكار والصلوات ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور فإن الفكر بالباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة ثم إذا فعل ذلك كله لم يسلم له من الأوقات إلا بعضها إذ لا يخلو في جميع أوقاته عن حوادث تتجدد فتشغله عن الفكر والذكر من مرض وخوف وإيذاء من إنسان وطغيان من مخالط إذ لا يستغني عن مخالطة من يعينه في بعض أسباب المعيشة فهذا أحد الأنواع الشاغلة
وأما النوع الثاني فهو ضروري اشد ضرورة اشد من الأول وهو اشتغاله بالمطعم والملبس وأسباب المعاش فإن تهيئة ذلك أيضاً تحوج إلى شغل إن تولاه بنفسه وإن تولاه غيره فلا يخلو عن شغل قلب بمن يتولاه ولكن بعد قطع العلائق كلها يسلم له أكثر الأوقات إن لم تهجم به ملمة أو واقعة وفي تلك الأوقات يصفو القلب ويتيسر له الفكر وينكشف فيه من أسرار الله تعالى في ملكوت السموات والأرض مالا يقدر على عشر عشيره في زمان طويل لو كان مشغول القلب بالعلائق والانتهاء إلى هذا هو أقصى المقامات التي يمكن أن تنال بالاكتساب والجهد فأما مقادير ما ينكشف مبالغ ما يرد من لطف الله تعالى في الأحوال والأعمال فذلك يجري مجرى الصيد وهو بحسب الرزق فقد يقل الجهد ويجل الصيد وقد يطول الجهد ويقل الحظ والمعول وراء هذا الاجتهاد على جذبة من جذبات الرحمن فإنها توازي أعمال الثقلين وليس ذلك باختيار العبد نعم اختيار العبد في أن يتعرض لتلك الجذبة بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا فإن المجذوب إلى أسفل سافلين لا ينجذب إلى أعلى عليين وكل مهموم بالدنيا فهو منجذب إليها فقطع العلائق الجاذبة هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها وذلك لأن تلك النفحات والجذبات لها أسباب سماوية إذ قال الله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون وهذا من أعلى أنواع الرزق والأمور السماوية غائبة عنا فلا ندري متي ييسر الله تعالى أسباب الرزق فما علينا إلا تفريغ المحل والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أجله كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش ويبث البذر فيها وكل ذلك لا ينفعه إلا بمطر ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر إلا أنه يثق بفضل الله تعالى ورحمته أنه لا يخلي سنة عن مطر فكذلك فلما تجلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب عن حشيش الشهوات وبذر فيه بذر الإرادة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع وعند ظهور الغيم فيقوى انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة وعند اجتماع الهمم وتساعد القلوب كما في يوم عرفة ويوم الجمعة وأيام رمضان فإن الهمم والأنفاس أسباب بحكم تقدير الله تعالى لاستدرار رحمته حتى تستدر بها الأمطار في أوقات الاستسقاء وهي لا ستدراك أمطار المكاشفات ولطائف المعارف من خزائن الملكوت أشد مناسبة منها لاستدرار قطرات الماء واستجرار الغيوم من أقطار الجبال والبحار بل الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك وإنما أنت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك فصار ذلك حجاباً بينك وبينها فلا تحتاج إلا إلى أن تنكسر الشهوة ويرفع الحجاب فتشرق أنوار المعارف من باطن القلب وإظهار ماء الأرض بحفر القنى أسهل وأقرب من الاسترسال إليها من مكان بعيد منخفض عنها ولكونه حاضراً في القلب ومنسياً بالشغل عنه سمى الله تعالى جميع معارف الإيمان تذكراً فقال تَعَالَى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون وقال تعالى وليتذكر أولو الألباب وقال تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر(4/77)
فهذا هو علاج الصبر عن الوساوس والشواغل وهو آخر درجات الصبر وإنما الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر
قال الجنيد رحمه الله السير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن وهجران الخلق في حب الحق شديد والسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد والصبر مع الله أشد فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق
وأشد العلائق على النفس علاقة الخلق وحب الجاه فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء وكيف لا تكون أغلب اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية والربوبية محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية وعنه العبارة بقوله تعالى قل الروح من أمر ربي وليس القلب مذموماً على حبه ذلك وإنما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالم الأمر إذ حسده على كونه من عالم الأمر فأضله وأغواه وكيف يكون مذموماً عليه وهو يطلب سعادة الآخرة فليس يطلب إلا بقاء لا فناء فيه وعزاً لا ذل فيه وأمناً لا خوف فيه وغنى لا فقر فيه وكمالاً لا نقصان فيه وهذه كلها من أوصاف الربوبية وليس مذموماً على طلب ذلك بل حق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له وطالب الملك طالب للعلو والعز والكمال لا محالة ولكن الملك ملكان ملك مشوب بأنواع الآلام وملحوق بسرعة الانصرام ولكنه عاجل وهو في الدنيا وملك مخلد دائم لا يشوبه كدر ولا ألم ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل وقد خلق الإنسان عجولاً راغباً في العاجلة فجاء الشيطان وتوسل إليه بواسطة العجلة التي في طبعه فاستغواه بالعاجلة وزين له الحاضرة وتوسل إليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الآخرة ومناه مع ملك الدنيا ملك الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى الله الأماني فانخدع المخذول بغروره واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر إمكانه ولم يتدل الموفق بحبل غروره إذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة فعبر عن المخذولين بقوله تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال تعالى إن هؤلاء يحبون العاجله ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً وقال تعالى فأعرض عمن تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدنيا ذلك مبلغهم من العلم
ولما استطار مكر الشيطان في كافة الخلق أرسل الله الملائكة إلى الرسل وأوحوا إليهم ما تم على الخلق من إهلاك العدو وإغوائه فاشتغلوا بدعوة الخلق إلى الملك الحقيقي عن الملك المجازى الذي لا أصل له إن سلم ولا دوام له أصلاً فنادوا فيهم يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وإبراهيم وكل كتاب منزل ما أنزل إلالدعوة الخلق إلى الملك الدائم المخلد والمراد منهم أن يكونوا ملوكاً في الدنيا ملوكاً في الآخرة أما ملك الدنيا فالزهد فيها والقناعة باليسير منها وأما ملك الآخرة فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه وعزاً لا ذل فيه وقرة عين أخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس
والشيطان يدعوهم إلى ملك الدنيا لعلمه بأن ملك الآخرة يفوت به إذ الدنيا والآخرة ضرتان ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له أيضاً ولو كانت تسلم له لكان يحسده أيضاً ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول(4/78)
الهموم في التدبيرات وكذا سائر أسباب الجاه ثم مهما تسلم وتتم الأسباب ينقضي العمر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس فضرب الله تعالى لها مثلاً فقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح والزهد في الدنيا لما أن كان ملكاً حاضراً حسده الشيطان عليه فصده عنه
ومعنى الزهد أن يملك العبد شهوته وغضبه فينقادان لباعث الدين وإشارة الإيمان وهذا ملك بالاستحقاق إذ به يصير صاحبه حراً وباستيلاء الشهوة عليه يصير عبداً لفرجه وبطنه وسائر أغراضه فيكون مسخراً مثل البهيمة مملوكاً يستجره زمام الشهوة آخذاً بمختنقه إلى حيث يريد ويهوى فما أعظم اغترار الإنسان إذ ظن أنه ينال الملك بأنه يصير مملوكاً وينال الربوبية بأن يصير عبداً ومثل هذا هل يكون إلا معكوساً في الدنيا منكوساً في الآخرة ولهذا قال بعض الملوك لبعض الزهاد هل من حاجة قال كيف أطلب منك حاجة وملكي أعظم من ملكك فقال كيف قال من أنت عبده فهو عبد لي فقال كيف ذلك قال أنت عبد شهوتك وغضبك وفرجك وبطنك وقد ملكت هؤلاء كلهم فهم عبيد لي فهذا إذن هو الملك في الدنيا وهو الذي يسوق إلى الملك في الآخرة فالمخدوعون بغرور الشيطان خسروا الدنيا والآخرة جميعاً والذين وفقوا للاشتداد على الصراط المستقيم فازوا بالدنيا والآخرة جميعاً
فإذا عرفت الآن معنى الملك والربوبية ومعنى التسخير والعبودية ومدخل الغلط في ذلك وكيفية تعمية الشيطان وتلبيسه يسهل عليك النزوع عن الملك والجاه والإعراض عنه والصبر عند فواته إذ تصير بتركه ملكاً في الحال وترجو به ملكاً في الآخرة
ومن كوشف بهذه الأمور بعد أن ألف الجاه وأنس به ورسخت فيه بالعادة مباشرة أسبابه فلا يكفيه في العلاج مجرد العلم والكشف بل لا بد وأن يضيف إليه العمل وعمله في ثلاثة أمور أحدها أن يهرب عن موضع الجاه كي لا يشاهد أسبابه فيعسر عليه الصبر مع الأسباب كما يهرب من غلبته الشهوة من مشاهدة الصور المحركة ومن لم يفعل هذا فقد كفر نعمة الله في سعة الأرض إذ قال تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها الثاني أن يكلف نفسه في أعماله أفعالاً تخالف ما اعتاده فيبدل التكلف بالتبذل وزي الحشمة بزي التواضع وكذلك كل هيئة وحال وفعل في مسكن وملبس ومطعم وقيام وقعود كان يعتاده وفاء بمقتضى جاهه فينبغي أن يبدلها بنقائضها حتى يرسخ باعتياد ذلك ضد ما رسخ فيه من قبل باعتياد ضده فلا معنى للمعالجة إلا المضادة الثالث أن يراعى في ذلك التلطف والتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبذل فإن الطبع نفور ولا يمكن نقله عن أخلاقه إلا بالتدريج فيترك البعض ويسلي نفسه بالبعض ثم إذا قنعت نفسه بذلك البعض ابتدأ بترك البعض من ذلك البعض إلى أن يقنع بالبقية وهكذا يفعل شيئاً فشيئاً إِلَى أَنْ يَقْمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي رَسَخَتْ فيه وإلى هذا التدريج الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى وإليه الإشارة بقوله عليه السلام لا تشادوا هذا الدين فإن من يشاده يغلبه //(4/79)
فإذن ما ذكرناه من علاج الصبر عن الوسواس وعن الشهوة وعن الجاه أضفه إلى ما ذكرناه من قوانين طرق المجاهدة في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات فاتخذه دستورك لتعرف به علاج الصبر في جميع الأقسام التي فصلناها من قبل فإن تفصيل الآحاد يطول ومن راعى التدريج ترقى به الصبر إلى حال يشق عليه الصبر دون كما كان يشق عليه معه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً وما كان مكروهاً عنده مشرباً هنيئاً لا يصبر عنه وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات فإن الصبي يحمل على التعلم في الابتداء قهراً فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم والصبر على اللعب وإلى هذا يشير ما حكي عن بعض العارفين أنه سأل الشبلي عن الصبر أيه أشد فقال الصبر في الله تعالى فقال لا فقال الصبر لله فقال لا فقال الصبر مع الله فقال لا فقال فأيش قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف وقد قيل في معنى قوله تعالى اصبروا وصابروا ورابطوا اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله وقيل الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد قيل في معناه
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود
وقيل ايضا الصبر يحمل في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يجمل
هذا آخر ما أردنا شرحه عن علوم الصبر وأسراره
الشطر الثاني من الكتاب في الشكر
وله ثلاثة أركان الأول في فضيلة الشكر وحقيقته وأقسامه وأحكامه الثاني في حقيقة النعمة وأقسامها الخاصة والعامة الثالث في بيان الأفضل من الشكر والصبر
الركن الأول في نفس الشكر بَيَانُ فَضِيلَةِ الشُّكْرِ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع أنه قال ولذكر الله أكبر فَقَالَ تَعَالَى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تكفرون وَقَالَ تَعَالَى مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شكرتم وآمنتم وقال تعالى وسنجزي الشاكرين وقال عز وجل إخباراً عن إبليس اللعين لأقعدن لهم صراطك المستقيم قيل هو طريق الشكر ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في الخلق فقال ولا تجد اكثرم شاكرين وقال تعالى وقليل من عبادي الشكور وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فقال تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم واستثنى في خمسة أشياء في الإغناء والإجابة والرزق والمغفرة والتوبة فقال تعالى فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء {وقال} فيكشف ما تدعون إليه إن شاء {وقال} يرزق من يشاء بغير حساب {وقال} ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {وقال} ويتوب الله على من يشاء وهو خلق من أخلاق الربوبية إذ قال تعالى والله شكور حليم وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى وقالوا الحمد لله الذي صدقناه وعده {وقال} وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين(4/80)
وأما الأخبار فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر (1) حديث عطاء دخلت على عائشة فقلت لها أخبرينا بأعجب ما رأيت من رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ واي امره لم يكن عجبا الحديث في بكائه في صلاة الليل اخرجه ابو الشيخ ابن حبان في كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طريقة ابن الجوزي في الوفا وفيه ابو جناب واسمه يحيى بن ابي حبة ضعفه الجمهور ورواه ابن حبان في صحيحه من رواية عبد الملك ابن ابي سليمان عن عطاء دون قولها واي امره لم يكن عجبا وهو عند مسلم من رواية عروة عن عائشة مقتصرا على آخر الحديث وهذا يدل على أن البكاء ينبغي أن لا ينقطع أبداً وإلى هذا السر يشير ما روي أنه مر بعض الأنبياء بحجر صغير يخرج منه ماء كثير فتعجب منه فأنطقه الله تعالى فقال منذ سمعت قوله تعالى وقودها الناس والحجارة فأنا أبكي من خوفه فسأله أن يجيره من النار فأجاره ثم رآه بعد مدة على مثل ذلك فقال لم تبكي الآن فقال ذاك بكاء الخوف وهذا بكاء الشكر والسرور وقلب العبد كالحجارة أو أشد قسوة ولا تزول قسوته إلا بالبكاء في حال الخوف والشكر جميعاً وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة قيل ومن الحمادون قال الذين يشكرون الله تعالى على كل حال (2) حديث الحمد رداء الرحمن لم اجد له اصلا وفي الصحيح من حديث ابي هريرة الكبر رداؤه الحديث وتقدم في العلم وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام إني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي في كلام طويل وأوحى الله تعالى إليه أيضاً في صفة الصابرين أن دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر وهو خير الكلام وعند الشكر أستزيدهم وبالنظر إلي أزيدهم ولما نزل في الكنوز ما نزل قال عمر رضي الله عنه أي المال نتخذ فقال عليه السلام ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً او قلبا شاكرا // حديث عمر ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلبا شاكرا الحديث تقدم في النكاح فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلاً عن المال وقال ابن مسعود الشكر نصف الإيمان
بيان حد الشكر وحقيقته
اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ وَالْحَالُ هُوَ الْفَرَحُ الْحَاصِلُ بِإِنْعَامِهِ وَالْعَمَلُ هُوَ الْقِيَامُ بِمَا هُوَ مَقْصُودُ الْمُنْعِمِ وَمَحْبُوبُهُ وَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْقَلْبِ وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإحاطة بكمال معانيه
_________
(1) حديث الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر علقه البخاري واسنده الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حيان من حديث ابي هريرة ورواه ابن ماجه من حديث سنان بن سنة وفي اسناده اختلاف وروى عن عطاء أنه قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت وأي شأنه لم يكن عجباً أتاني ليلة فدخل معي في فراشي أو قالت في لحافي حتى مس جلدي جلده ثم قال يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي فقالت قلت إني احب قربك لكني أوثر هواك فأذنت له فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبداً شكوراً ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي إن في خلق السموات والأرض الآية
(2) حديث ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون الحديث اخرجه الطبراني وابو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بلفظ أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الحديث وفيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور وفي لفظ آخر الذين يشكرون الله على السراء والضراء وقال صلى الله عليه وسلم الحمد رداء الرحمن(4/81)
فالأصل الأول العلم وهو علم بثلاثة أمور بعين النعمة ووجه كونها نعمة في حقه وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه فإنه لا بد من نعمة ومنعم ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة فهذه الأمور لا بد من معرفتها هذا في حق غير الله تعالى فأما في حق الله تعالى فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله وهو المنعم والوسائط مسخرون من جهته
وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس إذ دخل التقديس والتوحيد فيها بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس ثم إذا عرف ذاتاً مقدسة فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد وما عداه غير مقدس وهو التوحيد ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط فالكل نعمة منه فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد كمال القدرة والانفراد بالفعل وعن هذا عبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قال من قال سبحان الله فله عشر حسنات ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون حسنة ومن قال الحمد لله فله ثلاثون حسنة (1) وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله (2) وقال ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله (3) ولاتظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب فسبحان الله كلمة تدل على التقديس ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد والحمد لله كلمة تدل على النعمة من الواحد الحق فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين
واعلم أن تمام هذه المعرفة بنفي الشرك في الأفعال فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه بل منه بوجه ومن غيره بوجه فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق الملك نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما لأنه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضاً مضطران من جهة الملك في الإيصال وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك ارهاق وامر جزم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئاً فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد فلا يورث ذلك شركاً في توحيده من اضافة النعمة اليه إلى الملك
وكذلك من الكاتب وأن الحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل شاءت أم أبت كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلاً إلى مخالفة الملك ولو خلي ونفسه لما اعطاك ذروة مما في يده فكل من وصل إليك نعمة من الله تعالى على يده فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة وهيج عليه الدواعي وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك وأن غرضه المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيل إلى تركه فهو إذن إنما يعطيك
_________
(1) حديث من قال سبحان الله فله عشر حسنات الحديث تقدم في الدعوات
(2) حديث أفضل الذكر لا إله إلا الله وافضل الوعاء الحمد لله احرجه الترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه وابن حبان من حديث جابر
(3) حديث ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله لم اجده مرفوعا وانما رواه ابن ابي الدنيا في كتاب الشكر عن ابراهيم النخعي يقال إن الحمد اكثر الكلام تضعيفا(4/82)
لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك فهو إذن إنما يطلب نفع نفسه بنفعك فليس منعماً عليك بل اتخذك وسبيله إلى نعمة أخرى وهو يرجوها وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطراً إلى الإيصال إليك فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله وكنت موحداً وقدرت على شكره بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكراً
ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف شكرك فقال الله عز وجل علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكراً
فإذن لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفاً لا بالنعمة ولا بالمنعم فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره فبنقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح وبنقصان فرحك ينقص عملك فهذا بيان هذا الأصل
الأصل الثاني الحال المستمدة من أصل المعرفة وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضعوهو أيضاً في نفسه شكر على تجرده كما أن المعرفة شكر ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإنعام ولعل هذا يتعذر عليك فهمه فنضرب لك مثلاً فنقول الملك الذي يريد الخروج الى سفره فأنعم بفرس على انسانيتصور أن يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه أحدها أن يفرح بالفرس من حيث أنه فرس وإنه مال ينتفع به ومركوب يوافق غرضه وإنه جواد نفيس وهذ فرح من لاحظ له في الملك بل غرضه الفرس فقط ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح الوجه الثاني أن يفرح به لا من حيث إنه فرس بل من حيث تستدل به على عناية الملك به وشفقته عليه واهتمامه بجانبه لو وجد هذا الفرس في صحراء أو أعطاه غير الملك لكان لا يفرح به أصلاً لاستغنائه عن الفرس أصلاً أو استحقاره له بالاضافة الى مطلوبه من نيل المحل في قلب الملك الوجه الثالث أن يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته القرب منه وربما يرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرساً ويعتني به هذا القدر من العناية بل هو طالب لأن لا ينعم الملك بشيء من ماله على أحد إلا بواسطته ثم إنه ليس يريد من الوزارة الوزارة بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه حتى لو خير بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختار القرب فهذه ثلاث درجات فالأولى لا يدخل فيها معنى الشكر أصلاً لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ففرحه بالفرس لا بالمعطى وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه وإنما الشكر التام في الفرح الثالث وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام فهذا هو الرتبة العليا وأمارته ان لايفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس لانه جواد ومهملج بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه ولذلك قال الشبلي رحمه الله الشكر رؤية المنعم(4/83)
لا رؤية النعمة وقال الخواص رحمه الله شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب وشكر الخاصة على واردات القلوب وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة ويستحلي الأشياء المرة كما قيل
ومن يك ذا فم مر مريض ... جد مراً به الماء الزلالا
فإذن هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى فإن لم تكن إبل فمعزى فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية أما الأولى فخارجة عن كل حساب فكم من فرق بين من يريد الملك للفرس ومن يريد الفرس للملك وكم من فرق بين من يريد الله لينعم عليه وبين من يريد نعم الله ليصل بها إليه
الأصل الثالث العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح أَمَّا بِالْقَلْبِ فَقَصْدُ الْخَيْرِ وَإِضْمَارُهُ لِكَافَّةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْمِيدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا بِالْجَوَارِحِ فَاسْتِعْمَالُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا على معصيته حتى إن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم وشكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه فيه فيدخل هذا في جملة شكر نعم الله تعالى بهذه الأعضاء والشكر باللسان لإظهار الرضا عن الله تعالى وهو مأمور به فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل كيف أصبحت قال بخير فأعاد صلى الله عليه وسلم وسلم السؤال حتى قال في الثالثة بخير أحمد الله وأشكره فقال صلى الله عليه وسلم وسلم هذا الذي أردت منك // حديث قال صلى الله عليه وسلم لرجل كيف أصبحت فقال بخير فأعاد السؤال حتى قال في الثالثة بخير أحمد الله واشكره فقال هذا الذي اردت منك اخرجه الطبراني في الدعاء من رواية الفضيل بن عمرو مرفوعا نحوه قال في الثالثة احمد الله وهذا معضل ورواه في المعجم الكبير من حديث عبد الله بن عمرو ليس فيه تكرار السؤال وقال احمد الله اليك وفيه راشد بن سعد ضعفه الجمهور لسوء حفظه ورواه مالك في الموطأ موقوفا على عمر بإسناد صحيح وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج الشكر لله تعالى ليكون الشاكر مطيعاً والمستنطق له به مطيعاً وما كان قصدهم الرياء بإظهار الشوق وكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر أو يشكو يسكت فالشكر طاعة والشكوى معصية قبيحة من أهل الدين وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى فهو المبلي والقادر على إزالة البلاء وذل العبد لمولاه عز والشكوى إلى غيره ذل وإظهار الذل للعبد مع كونه عبداً مثله ذل قبيح قال الله تعالى {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له} وقال تعالى {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} فالشكر باللسان من جملة الشكر وقد روي أن وفداً قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقام شاب ليتكلم فقال عمر الكبر الكبر فقال يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسكن منك فقال تكلم فقال لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك وإنما نحن وقد الشكر جئناك نشكرك باللسان وننصرف فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته
فأما قول من قال إن الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع فهو نظر إلى فعل اللسان مع بعض أحوال القلب وقول من قال إن الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه نظر إلى مجرد عمل اللسان وقول القائل(4/84)
إن الشكر هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة جامع لأكثر معاني الشكر لا يشذ منه إلا عمل اللسان وقول حمدون القصار شكر النعمة أن ترى نفسك في الشكر طفيلياً إشارة إلى أن معنى المعرفة من معاني الشكر فقط وقول الجنيد الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة إشارة إلى حال من أحوال القلب على الخصوص وهؤلاء أقوالهم تعرب على أحواهم فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق ثم قد يختلف جواب كل واحد في حالتين لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم اشتغالاً بما يهمهم عما لا يهمهم أو يتكلمون بما يرونه لائقاً بحالة السائل اقتصاراً على ذكر القدر الذي يحتاج إليه وإعراضاً عما لا يحتاج إليه فلا ينبغي أن تظن أن ما ذكرناه طعن عليهم وأنه لو عرض عليهم جميع المعاني التي شرحناها كانوا ينكرونها بل لا يظن ذلك بعاقل أصلاً إلا أن تعرض منازعة من حيث اللفظ في أن اسم الشكر في وضع اللسان هل يشمل جميع المعاني أم يتناول بعضها مقصوداً وبقية المعاني تكون من توابعه ولوازمه ولسنا نقصد في هذا الكتاب شرح موضوعات اللغات فليس ذلك من علم طريق الآخرة في شيء والله الموفق برحمته
بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر في حق الله تعالى
لعل يخطر ببالك أن الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم فلا يكونون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين أحدهما أن الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعاً سجداً فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع إذ لا حظ للملك فيه وهو غائب لا علم له ولا حظ لله تعالى في أفعالنا كلها الوجه الثاني أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته فكيف نشكر نعمة بنعمة ولو أعطانا الملك مركوباً فأخذنا مركوباً آخر له وركبناه أو أعطانا الملك مركوباً آخر لم يكن الثاني شكر للأول منا بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول ثم لا يمكن شكر الشكر الا بنعة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالاً في حق الله تعالى من هذين الوجهين ولسنا نشك في الامرين جميعاً والشرع قد ورد به فكيف السبيل إلى الجمع فاعلم أن هذا الخاطر قد خطر لداود عليه السلام وكذلك لموسى عليه السلام فقال يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك وفي لفظ آخر وشكري لك نعمة أخرى منك توجب على الشكر لك فأوحى الله تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني وفي خبر آخر إذا عرفت أن النعمة مني رضيت منك بذلك شكراً
فإن قلت فقد فهمت السؤال وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحى إليهم فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى فأما كون العلم باستحالة الشكر شكراً فلا أفهمه فإن هذا العلم أيضاً نعمة منه فكيف صار شكراً وكأن الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر وأن قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الأولى والفهم قاصر عن درك السر فيه فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه فاعلم أن هذا قرع باب من المعارف وهي أعلى(4/85)
من علوم المعاملة ولكنا نشير منها إلى ملامح ونقول ههنا نظران نظر بعين التوحيد المحض وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره وأن كل شيء هالك إلا وجهه وأن ذلك صدق في كل حال أزلاً وأبداً لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم ولا قيوم إلا واحد ولا يتصور أن يكون غير ذلك فإذن ليس في الوجود غير الحي القيوم وهو الواحد الصمد فإذا نظرت من هذا المقام عرفت أن الكل منه مصدره وإليه مرجعه فهو الشاكر وهو المشكور وهو المحب وهو المحبوب ومن ههنا نظر حبيب بن أبي حبيب حيث قرأ {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} فقال واعجباه أعطى وأثنى إشارة إلى أنه إذا أثنى على إعطائه فعلى نفسه أثنى فهو المثني وهو المثني عليه ومن ههنا نظر الشيخ أبو سعيد المهينى حيث قرىء بين يديه {يحبهم ويحبونه} فقال لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق يحبهم لأنه إنما يحب نفسه أشار به إلى أنه المحب وأنه المحبوب وهذه رتبة عالية لا تفهمها إلا بمثال على حد عقلك فلا يخفى عليك أن المصنف إذا أحب تصنيفه لقد أحب نفسه والصانع إذا أحب صنعته فقد أحب نفسه والوالد إذا أحب ولده من حيث إنه ولده فقد أحب نفسه وكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وصنعته فإن أحبه فما أحب إلا نفسه وإذا لم يحب الانفسه فبحق أحب ما أحب وهذا ما أحب وهذا كله نظر بعين التوحيد وتعبر الصوفية عن هذه الحالة بفناء النفس أي فني عن نفسه وعن غير الله فلم ير إلا الله تعالى فمن لم يفهم هذا ينكر عليهم ويقول كيف فني وطول ظله أربعة أذرع ولعله يأكل في كل يوم أرطالاً من الخبز فيضحك عليهم الجهال لجهلهم بمعاني كلامهم وضرورة قول العارفين أن يكونوا ضحكة للجاهلين وإليه الإشارة بقوله تعالى إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذ رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين ثم بين أن ضحك العارفين عليهم غدا أعظم إذ قال تعالى {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون} وكذلك أمة نوح عليه السلام كانوا يضحكون عليه عند اشتغاله بعمل السفينة قال {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} فهذا أحد النظرين النظر الثاني نظر من لم يبلغ إلى مقام الفناء عن نفسه وهؤلاء قسمان قسم لم يثبتوا إلا وجود أنفسهم وأنكروا أن يكون لهم رب يعبد وهؤلاء هم العميان المنكوسون وعماهم في كلتا العينين لأنهم نفوا ما هو الثابت تحقيقاً وهو القيوم الذي هو قائم بنفسه وقائم على كل نفس بما كسبت وكل قائم فقائم به ولم يقتصروا على هذا حتى أثبتوا أنفسهم ولو عرفوا لعلموا أنهم من حيث هم هم لا ثبات لهم ولا وجود لهم وإنما وجودهم من حيث أوجدوا لا من حيث وجدوا وفرق بين الموجود وبين الموجد وليس في الوجود إلا موجود واحد وموجد فالموجود حق والموجد باطل من حيث هو هو والموجود قائم وقيوم والموجد هالك وفان وإذا كان كل من عليها فان فلا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام الفريق الثاني ليس بهم عمى ولكن بهم عور لأنهم يبصرون بإحدى العينين وجود الموجود الحق فلا ينكرونه والعين الأخرى إن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً كما(4/86)
أن الذي قبله جاحد تحقيقاً فإن جاوز حد العمى إلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين فأثبت عبداً ورباً فبهذا القدر من إثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد ثم إن كحل بصره بما يزيد في أنواره فيقل عمشه وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أثبته سوى الله تعالى فإن بقي في سلوكه كذلك فلا يزال يفضي به النقصان إلى المحو فينمحي عن رؤية ما سوى الله فلا يرى إلا الله ليكون قد بلغ كمال التوحيد وحيث أدرك نقصاً في وجود ما سوى الله تعالى دخل في أوائل التوحيد وبينهما درجات لا تحصى فبهذا تتفاوت درجات الموحدين وكتب الله المنزلة على ألسنة رسله هي الكحل الذي به يحصل أنوار الأبصار والأنبياء هم الكحالون وقد جاءوا داعين إلى التوحيد المحض وترجمته قول لا إله إلا الله ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق والواصلون إلى كمال التوحيد هم الأقلون والجاحدون والمشركون أيضاً قليلون وهم على الطرف الأقصى المقابل لطرف التوحيد إذ عبدة الأوثان قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فكانوا داخلين في أوائل أبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً والمتوسطون هم الأكثرون وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال فتلوح له حقائق التوحيد ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت زماناً ولكن لا يدوم والدوام فيه عزيز
لكل إلى شأو العلا حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
ولما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب القرب فقيل له {واسجد واقترب} قال في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) حديث إنه ليغان على قلبي الحديث تقدم في التوبة وقبله في الدعوات فكان ذلك لترقيه إلى سبعين مقاماً بعضها فوق البعض أولها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى آخرها فكان استغفاره لذلك ولما قالت عائشة رضي الله عنها أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد
_________
(1) حديث قال في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك الحديث اخرجه مسلم من حديث عائشة أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم أعوذ بعفوك من عقابك كلام عن مشاهدة فعل الله فقط فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله فاستعاذ بفعله من فعله ثم اقترب ففني عن مشاهدة الأفعال وترقى إلى مصادر الأفعال وهي الصفات فقال أعوذ برضاك من سخطك وهما صفتان ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب ورقي من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال وأعوذ بك منك وهذا فرار منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه اذ رأى ذلك نقصاناً واقترب فقال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فقوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي خبر عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدتها وقوله أنت كما أثنيت على نفسك بيان أنه المثني والمثني عليه وأن الكل منه بدأ وإليه يعود وأن كل شيء هالك إلا وجهه فكان أول مقاماته نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله تعالى وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل فانظر إلى ماذا انتهت نهايته اذ انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية فكان يستغفر الله من الأولى ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ في اليوم والليلة سبعين مرة(4/87)
{قال} أفلا أكون عبداً شكوراً // حديث عائشة لما قالت له غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء الحديث رواه ابو الشيخ وهو بقية حديث عطاء عنها المتقدم قبل هذا بتسعة أحاديث وهو عند مسلم من رواية عروة عنها مختصرا وكذلك هو في الصحيحين مختصرا من حديث المغيرة بن شعبة معناه أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى {لئن شكرتم لأزيدنكم}
واذا تغلغنا في بحار المكاشفة فلنقبض العنان ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة فنقول الأنبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة وعقبات شديدة وإنما الشرع كله تعريف طريق سلوك تلك المسافة وقطع تلك العقبات وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى ومقام آخر فيظهر في ذلك المقام بإضافة إلى تلك المشاهدة الشكر والشاكر والمشكور ولا يعرف ذلك إلا بمثال فأقول يمكنك أن تفهم أن ملكاً من الملوك ارسل الى عبد قد بعد منه مركوبا وملبوسا ونقد الاجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ويقرب من حضرة الملك ثم يكون له حالتان إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم ببعض مهماته ويكون له عناية في خدمته والثانية أن لا يكون للملك حظ في العبد ولا حاجة به إليه بل حضوره لا يزيد في ملكه لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء وغيبته لا تنقص من ملكه فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه فمنزل العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى والثانية غير محال ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكراً في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه وأما في الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلاً ومع ذلك يتصور أن يكون شاكراً وكافراً ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق فقد شكره مولاه إذ اسْتَعْمَلَ نِعْمَتَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أَيْ فِيمَا أَحَبَّهُ لعبده لا لنفسه وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته أي استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضاً نعمته إِذَا أَهْمَلَهَا وَعَطَّلَهَا وَإِنْ كَانَ هَذَا دُونَ ما لو بعد منه فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم فيبعدون بها عن حضرته وإنما سعادتهم في القرب منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب وعن بعدهم وقربهم عبر الله تعالى إذ قال {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا} الآية فإذن نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب والله تعالى غني عنه قرب أم بعد والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية وإن عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو أيضاً كفر كفران إن لِلنِّعْمَةِ بِالتَّضْيِيعِ وَكُلُّ مَا خُلِقَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا خُلِقَ آلَةً لِلْعَبْدِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى سعادة الآخرة ونيل القرب من الله تعالى فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة وكل كسلان ترك الاستعمال أو عاص استعملها في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة ولكن لا تشملهما المحبة والكراهة بل رب مراد(4/88)
محبوب ورب مراد مكروه ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه وقد انحل بهذا الإشكال الأول وهو أنه إذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر وبهذا أيضاً ينحل الثاني فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد وفعلك عطاء من الله تعالى ومن حيث أنت محله فقد أثنى عليك وثناؤه نعمة أخرى منه إليك فهو الذي أعطى وهو الذي أثنى وصار أحد فعليه سبباً لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته فله الشكر على كل حال وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجب له كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق للعلم وموجده ولكن بمعنى أنك محل له وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء إذ جعلك خالق الأشياء شيئاً وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظانا لنفسك شيئاً من ذاتك فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئاً فأنت شيء إذ جعلك شيئاً فإن قطع النظر عن جعله كنت لا شيء تحقيقياً وإلى هذا أشار صلى الله الله عليه وسلم حيث قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له // حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له من حديث على وعمران بن حصين لما قيل له يا رسول الله ففيم العمل إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل فتبين أن الخلق مجاري قدرة الله تعالى ومحل أفعاله وإن كانوا هم أيضاً من أفعاله ولكن بعض أفعاله محل للبعض وقوله {اعملوا} وإن كان جارياً على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو فعل من أفعاله وهو سبب لعلم الخلق أن العمل نافع وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة وانبعاث الداعية أيضاً من أفعال الله تعالى وهو سبب لحركة الأعضاء وهي أيضاً من أفعال الله تعالى ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي الأول شرط للثاني كما كان خلق الجسم سبباً لخلق العرض إذ لا يخلق العرض قبله وخلق الحياة شرط لخلق العلم وخلق العلم شرط لخلق الإرادة والكل من أفعال الله تعالى وبعضها سبب للبعض أي هو شرط ومعنى كونه شرطاً أنه لا يستعد لقبول فعل الحياة إلا جوهر ولا يستعد لقبول العلم إلا ذو حياة ولا لقبول الارادة الاذو علم فيكون بعض أفعاله سبباً للبعض بهذا المعنى لا بمعنى أن بعض أفعاله موجد لغيره بل ممهد شرط الحصول لغيره وهذا إذا حقق ارتقى إلى درجة التوحيد الذي ذكرناه
فإن قلت فلم قال الله تعالى اعملوا وإلا فأنتم معاقبون مذمومون على العصيان وما إلينا شيء فكيف نذم وإنما الكل إلى الله تعالى فاعلم أن هذا القول من الله تعالى سبب لحصول اعتقاد فينا والاعتقاد سبب لهيجان الخوف وهيجان الخوف سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور وذلك سبب للوصول إلى جوار الله والله تعالى مسبب الأسباب ومرتبها فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له هذه الأسباب حتى يقوده بسلسلتها إلى الجنة ويعبر عن مثله بأن كلاً ميسر لما خلق له ومن لم يسبق له من الله الحسنى بعد عن سماع كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء فإذا لم يسمع لم يعلم وإذا لم يعلم لم يخف وإذا لم يخف لم يترك الركون إلى الدنيا وإذا لم يترك الركون إلى الدنيا بقي في حزب الشيطان وإن جهنم لموعدهم أجمعين فإذا عرفت هذا تعجبت من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل فما من أحد إلا وهو مقود الى الجنة بسلاسل الأسباب وهو تسليط العلم والخوف عليه وما من مخذول إلا وهو مقود إلى النار بالسلاسل وهو تسليط الغفلة والأمن والغرور عليه فالمتقون يساقون إلى الجنة قهرا والمجرمون يقادون إلى النار قهراً ولا قاهر إلا الله الواحد القهار(4/89)
ولا قادر إلا الملك الجبار واذا انكشفت الغطاء عن أعين الغافلين فشاهدوا الأمر كذلك سمعوا عند ذلك نداء المنادي {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم لا ذلك على الخصوص ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفعهم الكشف فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى فإنه أصل أسباب الهلاك
بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه
اعلم إِنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ وَتَرْكَ الْكُفْرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يكرهه إذ معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابه ومعنى الكفر نقيض ذلك إما بترك الاستعمال أو باستعمالها في مكارهه ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان أحدهما السمع ومستنده الآيات والأخبار والثاني بصيرة القلب وهو النظر بعين الاعتبار وهذا الأخير عسير وهو لأجل ذلك عزيز فلذلك أرسل الله تعالى الرسل وسهل بهم الطريق على الخلق ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْجُودٍ خَلَقَهُ إِذْ مَا خَلَقَ شَيْئًا فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَتَحْتَ الْحِكْمَةِ مَقْصُودٌ وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْبُوبُ وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى جَلِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ أَمَّا الْجَلِيَّةُ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الشَّمْسِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهَارُ مَعَاشًا وَاللَّيْلُ لِبَاسًا فَتَتَيَسَّرُ الْحَرَكَةُ عِنْدَ الْإِبْصَارِ وَالسُّكُونُ عِنْدَ الِاسْتِتَارِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ حِكَمِ الشَّمْسِ لَا كُلِّ الْحِكَمِ فِيهَا بَلْ فِيهَا حِكَمٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ دَقِيقَةٌ وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْغَيْمِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ وَذَلِكَ لِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ مَطْعَمًا لِلْخَلْقِ وَمَرْعًى لِلْأَنْعَامِ وَقَدِ انْطَوَى الْقُرْآنُ عَلَى جملة من الحكم الجليلة التي تحتملها أَفْهَامُ الْخَلْقِ دُونَ الدَّقِيقِ الَّذِي يَقْصُرُونَ عَنْ فَهْمِهِ إِذْ قَالَ تَعَالَى {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حباً وعنباً} الآية وأما الحكمة في سائر الكواكب السيارة منها والثوابت فَخَفِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كَافَّةُ الْخَلْقِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ فَهْمُ الْخَلْقِ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ لِتَسْتَلِذَّ الْعَيْنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} فَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ سَمَاؤُهُ وَكَوَاكِبُهُ وَرِيَاحُهُ وَبِحَارُهُ وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعظاء حَيَوَانَاتِهِ لَا تَخْلُو ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ عَنْ حكم كثيرة من حكمه واحدة إلى عشرة إِلَى أَلْفٍ إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ وَكَذَا أَعْضَاءُ الحيوان تنقسم إلا مَا يُعْرَفُ حِكْمَتُهَا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْإِبْصَارِ لا للبطش واليد للبطش لا للمشي والرجل للمشي لا للشم فأما الأعضاء الباطنة من الأمعاء والمرارة والكبد والكلية وآحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظ وسائر الصفات فلا يعرف الحكمة فيها سائر الناس والذين يعرفونها لا يعرفون منها إلا قدراً يسيراً بالإضافة إلى ما في علم الله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فَإِذَنْ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِي جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَلَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ فِيهِ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ إِذْ خُلِقَتْ لَهُ الْيَدُ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ كفر نعمة العين ونعمة الشمس إذ الإبصار يتم بهما وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما يضره فيهما فقد استعملها في غير ما اريد به وهذا لأن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا ولا أنس(4/90)
إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن ولا يبقى البدن إلا بالغذاء ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهراً وباطناً فكل ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس والراجح إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة فلذلك قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق} الآية فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية ولتذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا وَلَكِنْ يُضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَمْلِكُ مَا يَسْتَغْنِي عنه كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا ثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تتناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يسوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوي مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلاً فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو فى معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعاني في غيره فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فِيهِمَا فَإِذَنْ مَنْ كَنَزَهُمَا فَقَدْ ظَلَمَهُمَا وَأَبْطَلَ الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولها الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين(4/91)
بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاً ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس والحبس أهوك منه وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأواني لحفظ المائعات ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنة نار جهنم وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاماً ودابة إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض فى أعيانهما وموقهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره وكموقع المرآة من الألوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيداً عنده وينزل منزلا المكنوز وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار وهو ظلم
فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما جاز بيع الدرهم بمثله فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلاً قليلاً ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به وهو تيسر التوصل به إلى غيره وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضاً لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلا مضافات دقيقة في صفاته وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد وأما إذا باع درهماً بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لاحمد فيها ولا أجر فهو أيضاً ظلم لأنه إضاعة خصوص المسامحة وإخراجها في معرض المعارضة وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغنٍ عنها إذ من معه طعام فلم(4/92)
لا يأكله إن كان محتاجاً ولم يجعله بضاعة تجارة وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجاً إليه فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضاً مستغنٍ عنه ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت في الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أوي من جميع ما أوردناه في الخلافيات وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكناً بالقوت وكان ممكناً بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضرورياً فلذلك قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف في وجوه التحديد كما يحد شرع عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء (1) وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر فأقول مثلاً لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل وتفضيل الناقص عدول عن العدل والله لا يأمر بالعدل ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف كأخذ المصحف وبعضها خسيس كإزالة النجاسة فإذا أخذت المصحف باليسار وأزلت النجاسة باليمين فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه وظلمته وعدلت عن العدل وكذلك إذا بصقت مثلاً في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها وإلى ما شرفها بأن وضع فيها بيتاً أضافه إلى نفسه استمالةً
_________
(1) حديث لولا أن الشياطين يحومون على بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء تقدم فى الصوم(4/93)
لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه بدنك في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات وإلى ما هي خسيسة كقضاء الحاجة ورمي البصاق فإذا رميت بصاقك إلى الجهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروهاً حتى إن بعضهم كان قد جمع إكراراً من الحنطة وكان يتصدق بها فسئل عن سببه فقال لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهواً فأريد أن أكفره بالصدقة نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون في ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين أحدهما الشرب والآخر الآخذ باليسار ومن باع خمراً في وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يقال خان من وجهين {أحدهما} بيع الخمر والآخر البيع في وقت النداء ومن قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه فالمعاصي كلها ظلمات بعضها فوق بعض فيمنحق بعضها في جنب البعض فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين وكذلك مَنْ كَسَرَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ غَيْرِ حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غَرَضٍ صَحِيحٍ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْأَشْجَارِ وَخَلْقِ الْيَدِ أَمَّا الْيَدُ فَإِنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ لِلْعَبَثِ بَلْ لِلطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ المعينة على الطاعة وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق لَهُ الْعُرُوقَ وَسَاقَ إِلَيْهِ الْمَاءَ وَخَلَقَ فِيهِ قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده فكسره قبل منتهى نشوة لَا عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِعُ بِهِ عِبَادُهُ مُخَالَفَةٌ لِمَقْصُودِ الْحِكْمَةِ وَعُدُولٌ عَنِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَلَهُ ذَلِكَ إِذِ الشَّجَرُ وَالْحَيَوَانُ جُعِلَا فِدَاءً لِأَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا فَانِيَانِ هَالِكَانِ فَإِفْنَاءُ الْأَخَسِّ فِي بَقَاءِ الْأَشْرَفِ مُدَّةً مَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ مِنْ تَضْيِيعِهِمَا جَمِيعًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السموات وما في الأرض جميعا منه نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضاً وإن كان محتاجاً لأن كل شجرة بعينها لاتفى بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحدة ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلماً فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به من غيره فيرجع جانبه بذلك فإن نبت ذلك في موات الأرض لا بسعي آدمي اختص بمغرسه أو بغرسه فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى أخذه فللسابقخاصية السبق فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقراء عن هذا الترجيح بالملك وهو مجاز محض إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذي له ما في السموات والأرض وكيف يكون العبد مالكاً وهو في نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدة لعبيده فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها(4/94)
من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكاً له بالأخذ باليد فإن اليد وصاحب اليد أيضاً مملوك ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله فى في عباده ولذلك نقول من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم وهو من الذين يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم لا يدخل هذا في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو بحكم نقصانهم لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} بل الحق الذي لا كدورة فيه والعدل الذي لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الشُّكْرِ واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق في قوله تعالى {وقليل من عبادي الشكور} وفرح إبليس لعنه الله بقوله {ولا تجد أكثرهم شاكرين} فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف معنى هذا كله وأموراً أخر وراء ذلك تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير
فإن قلت فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى حكمه في كل شيء وأنه جعل بعض أفعال العباد سبباً لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعاً من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضاً من فعل الله تعالى فأين العبد في البين حتى يكون شاكراً مرة وكافراً أخرى فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات بمباديها ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع في السير فضلاً عن أن يجول في جو الملكوت جولان الطير فنقول إن الله عز وجل في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادى إشراقها فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض(4/95)
في نور الشمس ولكن لضعف في أبصار الخفافيش فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادي حقائقها شيئاً ضعيفاً جداً فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله تعالى صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة المشيئة فهي توهم منها أمراً محملاً عند المتناطقين باللغات التي هى حروف وأصوات المتفاهمين بها وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كفصور لفظ القدر ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبة واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة وقيل إنهما جميعاً داخلان في وصف المشيئة ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمراً مجملاً عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات ثم انقسم عباده الذين هم أيضاً من خلقه واختراعه إلى من سبقت له المشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها ويكون ذلك قهراً في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته إلى غايتها في بعض الأمور فكان لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة فاستعير لنسبة المستعملين في إتمام الحكمة بهم عبارة الرضا واستعير للذين استوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة الغضب فظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها فاستعير له الكفران وأردف ذلك بنقمة اللعن والمذمة زيادة في النكال وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت بسببه الحكمة إلى غايتها فاستعير له عبارة الشكر وأردف بخلعة الثناء والإطراء زيادة في الرضا والقبول والإقبال فكان الحاصل أنه تعالى أعطى الجمال ثم أثنى وأعطى النكال ثم قبح وأردى وكان مثاله أن ينظف الملك عبده الوسخ عن أوساخه ثم يلبسه من محاسن ثيابه فإذا تمم زينته قال يا جميل ما أجملك وأجمل ثيابك وأنظف وجهك فيكون بالحقيقة هو المجمل وهو المثني على الجمال فهو المثني عليه بكل حال وكأنه لم يثني من حيث المعنى إلا على نفسه وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر والصورة فهكذا كانت الأمور فى الأزال وهكذا تتسلسل الأسباب والمسببات بتقدير رب الأرباب ومسبب الأسباب ولم يكن ذلك على اتفاق وبحث بل عن إرادة وحكمة وحكم حق وأمر جزم استعير له لفظ القضاء وقيل إنه كلمح بالبصر أو هو أقرب لفاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء الجزم بما سبق به التقدير فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض لفظ القدر فكان لفظ القضاء بإزاء الآمر الواحد الكلي ولفظ القدر بإزاء التفصيل المتمادي إلى غير نهاية وقيل إن شيئاً من ذلك ليس خارجاً عن القضاء والقدر فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفضيل وكان بعضهم لقصوره لا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء على مجامعه فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع وقيل لهم اسكنوا فما لهذا خلقتم لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وامتلأت مشكاة بعضهم نوراً مقتبساً من نور الله تعالى في السموات والأرض وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار فمسته نار فاشتعل نوراً على نور فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كلها كما هي عليه فقيل لهم تأدبوا بآداب الله تعالى واسكنوا وإذا(4/96)
ذكر القدر فأمسكوا (1) فإن للحيطان آذاناً وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك سبب هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس وكونوا كمن قيل فيهم
شربنا شراباً طيباً عند طيب ... كذلك شراب الطيبين يطيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضله ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلاً له وإذا كنت أهلاً له فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك والأعمى يمكن أن يقاد ولكن حدٍ ما فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلاً ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو بحال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل ينال بقوة اليقين ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء فقال صلى الله عليه وسلم لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء // حديث قيل له يقال إن عيسى مشى على الماء قال لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء هذا حديث منكر لا يعرف هكذا والمعروف رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب اليقين من قول بكر بن عبد الله المزنى قال فقد الحواريون نبيهم فقيل لهم توجه نحو البحر فانطلقوا يطلبونه فلما انتهو إلى البحر إذا هو قد أقبل يمشى على الماء فذكر حديثا فيه أن عيسى قال لو أن لابن آدم من اليقين شعره مشى على الماء وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس بسند ضعيف من حديث معاذ بن جبل لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة والمحبة والرضا والغضب والشكر والكفران لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها وقد ضرب الله تعالى مثلاً لذلك تقريباً إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وقال تعالى {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى {ليضل عن سبيله} والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجاً إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكون فعله دون فعلي فإنك أخطات إذ أضفت ذلك إلى نفسك بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص المحبوب إتماماً للعدل فإن عدله تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها وتارة يتم فيك فإنك أيضاً من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب
_________
(1) حديث إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود وقد تقدم فى العلم ولم يصرح المصنف بكونه حديثا(4/97)
حركاتك في التعبير هو فعله الذي رتبه بالعدل ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت فلذلك تضيفه إلى نفسك وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلاً إلى لعب المشعبذ الذي يخرج صوراً من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهي مؤلفة من خرق لا تتحرك بأنفسها وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر فى ظلام الليل ورءوسها في يد المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحريك ولكنهم ربما لا يعلمون كيف تفصيله والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيده فكذلك صبيان أهل الدنيا والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى العلماء ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها المتحركة فيحيلون عليها والعلماء يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون إلا العارفون والعلماء والراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطاً دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضاً ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كي لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعبر عن هذه المشاهدات في القرآن وقيل {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً وهذه أمور لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى {يتنزل الأمر بينهن} فقال لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني وفي لفظ آخر لقلتم إنه كافر
ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار وامتزج بعلم المعاملة ما ليس منه فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول إذا رجع حقيقة الشكر إلى كون العبد مستعملاً في إتمام حكمة الله تعالى فأشكر العباد أحبهم إلى الله وأقربهم إليه وأقربهم إلى الله الملائكة ولهم أيضاً ترتيب وما منهم إلا وله مقام معلوم وأعلاهم في رتبة القرب ملك اسمه إسرافيل عليه السلام وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة وقد أصلح الله تعالى بهم الأنبياء عليهم السلام وهم أشرف مخلوق على وجه الأرض ويلي درجتهم درجة الأنبياء فإنهم في أنفسهم أخيار وقد هدى الله بهم سائر الخلق وتمم بهم حكمته وأعلاهم رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم إذا أكمل الله به الدين وختم به النبيين ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم في أنفسهم صالحون وقد أصلح الله بهم سائر الخلق ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه ومن غيره ثم يليهم السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء دينهم ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل من سائر الأنبياء فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم ولم يكن السيف والملك لغيره من الأنبياء ثم يلي العلماء والسلاطين الصالحون الذين أصلحوا دينهم ونفوسهم فقط فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع(4/98)
واعلم أن السلطان به قوام الدين فلا ينبغي أن يستحقر وإن كان ظالماً فاسقاً قال عمرو بن العاص رحمه الله إمام غشوم خير من فتنة تدوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ويفسدون وما يصلح الله بهم أكثر فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر // حديث سيكون عليكم أمراء يفسدون وما يصلح الله بهم أكثر الحديث أخرجه مسلم من حديث أم سلمة يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ورواه الترمذى بلفظ سيكون عليكم أئمة وقال حسن صحيح وللبزار بسند ضعيف من حديث ابن عمر السلطان ظل الله فى الأرض يأوى اليه كل مظلوم من عبادة فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر وأما قوله وما يصلح الله بهم أكثر فلم أجده بهذا اللفظ إلا أنه يؤخذ من حديث ابن مسعود حين فزع إليه الناس لما أنكروا سيرة الوليد بن عقبة فقال عبد الله اصبروا فإن جور إمامكم خمسين سنة خير من هرج شهر فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فذكر حديثا فيه والإمارة الفاجرة خير من الهرج رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد لا بأس به وقال سهل من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل وسئل أي الناس خير فقال السلطان فقيل كنا نرى أن شر الناس السلطان فقال مهلا إن لله تعالى له كل يوم نظرتين نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ونظرة إلى سلامة أبدانهم فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنبه وكان يقول الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من سبعين قاصاً يقصون
الركن الثاني من أركان الشكر
ما عليه الشكر
وهو النعمة فلنذكر فيه حقيقة النعمة وأقسامها ودرجاتها وأصنافها ومجامعها فيما يخص ويعم فإن إحصاء نعم الله على عباده خارج عن مقدور البشر كما قال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فنقدم أموراً كلية تجري مجرى القوانين في معرفة النعم ثم نشتغل بذكر الآحاد والله الموفق للصواب
بيان حقيقة النعمة وأقسامها
اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يسمى نعمة ولكن النعمة بالحقيقة هي السعادة الأخروية وتسمية ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وإما مجاز كتسمية السعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة نعمة فإن ذلك غلط محض وقد يكون اسم النعمة للشى صدقاً ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق فكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بوسطة واحدة أو بوسائط فإن تسمية نعمة صحيحة وصدق لأجل أنه يفضي إلى النعمة الحقيقية
والأسباب المعينة واللذات المسماة نعمة نشرحها بتقسيمات القسمة الأولى أن الأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم إلى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً كالعلم وحسن الخلق وإلى ما هو ضار فيهما جميعاً كالجهل وسوء الخلق وإلى ما ينفع في الحال المضر في المآل كالتلذذ باتباع الشهوة وإلى ما يضر في الحال ويؤلم ولكن ينفع في المآل كقمع الشهوات ومخالفة النفس فالنافع في الحال والمآل هو النعمة تحقيقاً كالعلم وحسن الخلق والضار فيهما هو البلاء تحقيقاً وهو ضدهما والنافع في الحال في المآل بلاء محض عند ذوي البصائر وتظنه الجهال نعمة ومثاله الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم فإنه يعده نعمة إن كان جاهلاً وإذا علمه علم أن ذلك بلاء سيق إليه والضار في الحال النافع في المآل نعمة عند ذوي الألباب بلاء عند الجهال ومثاله الدواء البشع في الحال مذاقه إلا أنه شاف من الأمراض والأسقام وجالب للصحة والسلامة فالصبي الجاهل إذا كلف شربه ظنه بلاء والعاقل يعده نعمة ويتقلد المنة ممن يهديه إليه ويقربه منه ويهيىء له أسبابه فلذلك تمنع الأم ولدها من الحجامة والأب يدعوه إليها فإن الأب لكمال عقله يلمح العاقبة والأم لفرط حبها وقصورها تلحظ الحال والصبي لجهله يتقلد منة من أمه دون أبيه(4/99)
ويأنس إليها وإلى شفقتها ويقدر الآب عدو له ولو عقل لعلم أن الأم عدواً باطناً فى سورة صديق لأن منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض وآلام أشد من الحجامة ولكن الصديق الجاهل شر من العدو العاقل وكل إنسان فإنه صديق نفسه ولكنه صديق جاهل فلذلك تعمل به مالا يعمل به العدو
قسمة ثانية اعلم أن كل الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها فقلما يصفو خيرها كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب وإلى ما ضره أكثر من نفعه في حق أكثر الأشخاص كالمال الكثير والجاه الواسع وإلى ما يكافىء ضرور نفعه وهذه أمور تختلف بالأشخاص فرب إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح وإن كثر فينفقه في سبيل الله ويصرفه إلى الخيرات فهو مع هذه التوفيق نعمة في حقه ورب إنسان يستضر بالقليل أيضاً إذ لا يزال مستصغراً له شاكياً من ربه طالباً للزيادة عليه فيكون ذلك مع هذا الخذلان بلاء في حقه
قسمة ثالثة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى ما هو مؤثر لذاته لا لغيره وإلى مؤثر لغيره وإلى مؤثر لذاته ولغيره فالأول ما يؤثر لذاته لا لغيره كلذة النظر إلى وجه الله تعالى وسعادة لقائه وبالجملة سعادة الأخرى التي لا انقضاء لها فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها بل تطلب لذاتها الثاني ما يقصد لغيره ولا غرض أصلاً في ذاته كالدراهم والدنانير فإن الحاجة لو كانت لا تنقضى بها فكانت هي والحصباء بمثابة واحدة ولكن لما كانت وسيلة إلى اللذات سريعة الإيصال إليها صارت عند الجهال محبوبة في نفسها حتى يجمعوها ويكنزوها ويتصارفوا عليها بالربا ويظنون أنها مقصودة ومثال هؤلاء مثال من يحب شخصاً فيحب بسببه رسوله الذي يجمع بينه وبينه ثم ينسى في محبة الرسول محبة الأصل فيعرض عنه طول عمره ولا يزال مشغولاً بتعهد الرسول ومراعاته وتفقده وهو غاية الجهل والضلال الثالث ما يقصد لذاته ولغيره كالصحة والسلامة فإنها تقصد ليقدر بسببها على الذكر والفكر الموصلين إلى لقاء الله تعالى أو ليتوصل بها إلى استيفاء لذات الدنيا وتقصد أيضاً لذاتها فإن الإنسان وإن استغنى عن الشيء الذي تراد سلامة الرجل لأجله فيريد أيضاً سلامة الرجل من حيث إنها سلامة فإذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً وما يؤثر لذاته ولغيره أيضاً فهو نعمة ولكن دون الأول فأما مالا يؤثر إلا لغيره كالنقدين فلا يوصفان أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة بل من حيث هما وسيلتان فيكونان نعمة في حق من يقصد أمر ليس يمكنه أن يتوصل إليه إلا بهما فلو كان مقصده العلم والعبادة ومعه الكفاية التي هي ضرورة حياته استوى عند الذهب والمدر فكان وجودهما وعدمهما عنده بمثابة واحدة بل ربما شغله وجودهما عن الفكر والعبادة فيكونان بلاء في حقه ولا يكونان نعمة
قسمة رابعة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى نافع ولذيذ وجميل فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال والنافع هو الذي يفيد في المآل والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال والشرور أيضاً تنقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم وكل واحد من القسمين ضربان مطلق ومقيد فالمطلق هو الذي اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة أما في الخير فكالعلم والحكمة فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة وأما في الشر فكالجهل فإنه ضار وقبيح ومؤلم وإنما يحس الجاهل بألم جهله إذا عرف أنه جاهل وذلك بأن يرى غيره عالماً ويرى نفسه جاهلاً فيدرك ألم النقص فتنبعث منه شهوة العلم اللذيذة ثم قد يمنع الحسد والكبر والشهوات البدنية عن التعلم فيتجاذبه متضادان فيعظم ألمه فإنه إن ترك التعلم تألم بالجهل ودرك النقصان وإن اشتغل بالتعلم تألم بترك الشهوات أو بترك(4/100)
الكبر وذل التعلم ومثل هذا الشخص لا يزال في عذاب دائم لا محالة الضرب الثاني المقيد وهو الذي جمع بعض هذه الأوصاف دون بعض فرب نافع مؤلم كقطع الإصبع المتآكلة والسلعة الخارجة من البدن ورب نافع قبيح كالحمق فإنه بالإضافة إلى بعض الأحوال نافع فقد قيل استراح من لا عقل له فإنه لا يتهم بالعاقبة فيستريح في الحال إلى أن يحين وقت هلاكه ورب نافع من وجه ضار من وجه كإلقاء المال في البحر عند خوف الغرق فإنه ضار للمال نافع للنفس في نجاتها
والنافع قسمان ضروري كالإيمان وحسن الخلق في الإيصال إلى سعادة الآخرة وأعني بهما العلم والعمل إذ لا يقوم مقامهما البتة غيرهما وإلى ما لا يكون ضروريا كالسكنجبين مثلاً في تسكين الصفراء فإنه قد يمكن تسكينها أيضاً بما يقوم مقامه
قسمة خامسة اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ واللذات بالإضافة إلى الإنسان من حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع عقلية وبدنية مشتركة مع بعض الحيوانات وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات أما العقلية فكلذة العلم والحكمة إذ ليس يستلذها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن ولا الفرج وإنما يستلذها القلب لاختصاصه بصفة يعبر عنها بالعقل وهذه أقل اللذات وجوداً وهي أشرفها أما قلتها فلأن العلم لا يستلذه إلا عالم والحكمة لا يستلذها إلا حكيم وما أقل أهل العلم والحكمة وما أكثر المتسمين باسمهم والمترسمين برسومهم وأما شرفها فلأنها لازمة لا تزول أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة ودائمة لا تمل فالطعام يشبع منه فيمل وشهوة الوقاع يفرغ منها فتستثقل والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل ومن قدر على الشريف الباقي أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني في أقرب الآماد فهو مصاب في عقله محروم لشقاوته وإدباره وأقل أمر فيه أن العلم والعقل لا يحتاج إلى أعوان وحفظة بخلاف المال إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالإنفاق والمال يسرق والولاية يعزل عنها والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ ولا أيدي السلاطين بالعزل فيكون صاحبه في روح الأمن أبداً وصاحب المال والجاه في كرب الخوف أبداً ثم العلم نافع ولذيذ وجميل في كل حال أبداً والمال تارة يجذب إلى الهلاك وتارة يجذب إلى النجاة ولذلك ذم الله تعالى المال في القرآن في مواضع وإن سماه خيراً في مواضع وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم فإما لعدم الذوق فمن لم يذق لم يعرف ولم يشتق إذ الشوق تبع الذوق وإما لفساد أمزجتهم ومرض قلوبهم بسبب إتباع الشهوات كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مراً وإما لقصور فطنتهم إذ لم تخلق لهم بعد الصفة التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل والطيور السمان ولا يستلذ إلا اللبن وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة ولا استطابته اللبن تدل على أنه ألذ الأشياء فالقاصرون عزدرك لذة العلم والحكمة ثلاثة إما من لم يحي باطنه كالطفل وإما من مات بعد الحياة بإتباع الشهوات وإما من مرض بسبب إتباع الشهوات وقوله تعالى {في قلوبهم مرض} إشارة إلى مرض العقول وقوله عز وجل {لينذر من كان حياً} إشارة إلى من لم يحى حياة باطنة وكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى وإن كان عند الجهال من الأحياء ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وإن كانوا موتى بالأبدان الثانية لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء وذلك موجود في الأسد والنمر وبعض الحيوانات الثالثة ما يشارك فيها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج وهذه أكثرها وجوداً وهي أخسها ولذلك اشترك فيها كل ودرج حتى الديدان والحشرات ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة وهو(4/101)
أشدها التصاقاً بالمتغافلين فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالثة فصار أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة لا سيما لذة معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله وهذه رتبة الصديقين ولا ينال تمامها إلا بخروج استيلاء حب الرياسة من القلب وآخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرياسة وأما شره البطن والفرج فكسره مما يقوى عليه الصالحون وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون فأما قمعها بالكلية حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجاً عن مقدور البشر نعم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل وعند هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام قلب لا يحب إلا الله تعالى ولا يستريح إلا بزيادة المعرفة به والفكر فيه وقلب لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله وإنما لذته بالجاه والرياسة والمال وسائر الشهوات البدنية وقلب أغلب أحواله الأنس بالله سبحانه والتلذذ بمعرفته والفكر فيه ولكن قد يعتريه في بعض الأحوال الرجوع إلى أوصاف البشرية وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية ويعتريه في بعض الأحوال تلذذ بالعلم والمعرفة أما الأول فإن كان ممكناً في الوجود فهو في غاية البعد وأما الثاني فالدنيا طافحة به وأما الثالث والرابع فموجودان ولكن على غاية الندور ولا يتصور أن يكون ذلك نادراً شاذاً وهو مع الندور يتفاوت في القلة والكثرة وإنما تكون كثرته في الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام فلا يزال يزداد العهد طولاً وتزداد مثل هذه القلوب قلة إلى أن تقرب الساعة ويقضي الله أمراً كان مفعولا وإنما وجب أن يكون هذا نادراً لأنه مبادي ملك الآخرة والملك عزيز والملوك لا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والجمال إلا نادراً وأكثر الناس من دونهم فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عبارة عن عالم الشهادة والآخرة عبارة عن عالم الغيب وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة والصورة في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة الوجود فإنها أولى في حق رؤيتك فإنك لا ترى نفسك وترى صورتك في المرآة أولاً فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة فالقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة والقلب المتأخر متقدماً وهذا نوع من الانعكاس ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم فكذلك عالم الملك والشهادة محاكٍ لعالم الغيب والملكوت فمن الناس من يسر له نظر الاعتبار فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فيسمى عبوره عبرة وقد أمر الحق به فقال {فاعتبروا يا أولي الأبصار} ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستنفتح إلى حبسه أبواب جهنم وهذا الحبس مملوء ناراً من شأنها أن تطلع على الأفئدة إلا أن بينه وبين إدراك المها حجاباً فإذا رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا الجنة والنار مخلوقتان ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة وعلم اليقين قد يكون في الدنيا ولكن للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين فلذلك قال الله تعالى {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} أي في الدنيا {ثم لترونها عين اليقين} أي في الآخرة فإذن قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزاً كالشخص الصالح لملك الدنيا
قسمة سادسة حاوية لمجامع النعم اعلم أن النعم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها وإلى ما هي مطلوبة لأجل(4/102)
الغاية أم الغاية فإنها سعادة الآخرة ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور بقاء لا فناء له وسرور لا غم فيه وعلم لا جهل معه وغنى لا فقر بعده وهي النعمة الحقيقية وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لا عيش إلا عيش الآخرة (1) وقال ذلك في الشدة تسلية النفس وذلك في وقت حفر الخندق في شدة الضر وقال ذلك مرة في السرور منعاً للنفس من الركون إلى سرور الدنيا وذلك عند إحداق الناس به في حجة الوداع حديث قوله في حجة الوداع لا عيش إلا عيشة الآخرة رواه الشافعي مرسلا والحاكم متصلا وصححه وتقدم في الحج وقال رجل اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تعلم ما تمام النعمة قال لا قال تمام النعمة دخول الجنة حديث قال رجل اللهم إني أسألك تمام النعمة الحديث (2) أما الوسائل فتنقسم إلى الأقرب الأخص كفضائل النفس وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن وهو الثاني وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة للنفس كالتوفيق والهداية فهي إذن أربعة أنواع النوع الأول وهو الأخص الفضائل النفسية ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى الإيمان وحسن الخلق وينقسم الإيمان إلى علم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وإلى علوم المعاملة وحسن الخلق ينقسم إلى قسمين ترك مقتضى الشهوات والغضب واسمه العفة ومراعاة العدل في الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلاً ولا يقدم كيف شاء بل يكون إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال الله تعالى إن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان فمن خصي نفسه ليزيل شهوة النكاح أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من الآفات أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان ومن انهمك في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان وإنما العدل أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان فإذن الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى الله تعالى أربعة علم مكاشفة وعلم معاملة وعفة وعدالة ولا يتم هذا في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني وهو الفضائل البدنية وهي أربعة الصحة والقوة والجمال وطول العمر ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة المال والأهل والجاه وكرم العشيرة ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة والبدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة هداية الله ورشده وتسديده وتأييده فمجموع هذه النعم ستة عشر إذا قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحدة من الأربعة إلى أربعة وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى البعض إما حاجة ضرورية أو نافعة أم الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة الآخرة البتة إلا بهما فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا فكذلك حاجة الفضائل النفسية التي تكسب هذه العلوم وتهذب الأخلاق إلى صحة البدن ضروري وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم النفسية والبدنية إلى النعم الخارجة مثل المال والعز والأهل فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل إلى بعض النعم الداخلة
فإن قلت فما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة من المال والأهل والجاه والعشيرة فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح المبلغ والآلة المسهلة للمقصود أما المال فالفقير في طلب العلم والكمال وليس
_________
(1) حديث قوله عند حفر الخندق لا عيش إلا عيشة الآخرة متفق عليه من حديث أنس
(2) أخرجه الترمذي من حديث معاذ بسند حسن(4/103)
له كفاية كساع إلى الهيجا بغير سلاح وكبازي يروم الصيد بلا جناح ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ للرجل الصالح وقال صلى الله عليه وسلم نعم العون على تقوى الله المال 2 وكيف لا ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب الأقوات وفي تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة ثم يتعرض لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر والفكر ولا تندفع إلا بسلاح المال ثم ذلك يحرم عن فضيلة الحج والزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات
وقال بعض الحكماء وقد قيل له ما النعيم فقال الغنى فإني رأيت الفقير لا عيش له قيل زدنا قال الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له قيل زدنا قال العافية فإني رأيت المريض لا عيش له قيل زدنا قال الشباب فإني رأيت الهرم لا عيش له وكأن ما ذكره إشارة إلى نعيم الدنيا ولكن من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم من أصبح معافى بدنه آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حيزت له الدنيا بحذافيرها (1) وقال صلى الله عليه وسلم في الولد إذا مات العبد انقطع عمله إلا في ثلاث ولد صالح يدعو له الحديث حديث إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وتقدم في النكاح وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كناب النكاح وأما الأقارب
فهما كثر أولاد الرجل وأقاربه كانوا له مثل الأعين والأيدي فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لمو انفرد به لطال شغله وكل ما يفرغ قلبك من ضرورات الدنيا فهو معين لك على الدين فهو إذن نعمة وأما العز والجاه فبه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم ولا يستغني عنه مسلم فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه وظالم يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه وقلبه رأس ماله وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه ولذلك قيل الدين والسلطان توأمان قال تَعَالَى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لفسدت الأرض} ولا معنى للجاه إلا ملك القلوب كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه فكما يحتاج إلى سقف يدفع عنه المطر وجبة تدفع عنه البرد وكلب يدفع الذئب عن ماشيته فيحتاج أيضاً إلى من يدفع الشر به عن نفسه وعلى هذا القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه وكذلك علماء الدين لا على القصد التناول من خزائنهم والاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم ولا تظن أن نعمة الله تعالى على صلى الله عليه وسلم حيث نصره وأكمل دينه وأظهره على جميع أعدائه ومكن في القلوب حبه حتى اتسع به عزه وجاهه كانت أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذي ويضرب حتى افتقر إلى الهرب والهجرة // حديث ما ناله صلى الله عليه وسلم من الأذى ونحوه حتى افتقر إلى الهرب والهجرة رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل الحديث وللترمذي وصححه وابن ماجة من حديث أنس لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله ولقد أذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد إتى علي ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شئ إبط بلال قال الترمذي معنى هذا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هاربا من مكة ومعه بلال وللبخاري عن عروة قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فدفعه عنه الحديث وللبزار وأبي يعلى من حديث أنس قال لقد ضربوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى غشي عليه فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وإسناده صحيح على شرط مسلم
_________
(1) حديث نعم المال الصالح للرجل الصالح رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث عمرو بن العاص بسند جيد
حديث نعم العون على تقوى الله المال رواه ابو منصور الديلمي في مسند الفردوس من رواية محمد بن المنكدر عن جابر ورواه أبو القاسم البغوي من رواية المنكدر مرسلا ومن طريقة رواه القضاعي في مسند الشهاب هكذا مرسلا
حديث من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث عبيد الله ابن محصن الأنصاري وقد تقدم
وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما إذ قال صلى الله عليه وسلم نعم العون على الدين المرأة الصالحة
حديث نعم العون على الدين المرأة الصالحة لم أجد له اسنادا ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة(4/104)
فإن قلت كرم العشيرة وشرف الأهل هو من النعم أم لا فأقول نعم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش (1) ولذلك كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم عليه السلام حديث كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة الأرومة الأصل هذا معلوم فروى مسلم من حديث واثلة بن الأسقى مرفوع إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم وفي رواية الترمذي إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وله من حديث العباس وحسنه وابن عباس والمطلب ابن ربيعة وصححه والمطلب بن أبي وداعة وحسنه إن الله خلق الخلق فجعلني من خير وفي حديث ابن عباس ما بالوا أقوام يبتذلون أصل فوالله لأنا أفضلهم أصلا وخيرهم موضعا وقال صلى الله عليه وسلم تخيروا لنطفكم الأكفاء (2) حديث اطلبوا الخير عند حسان الوجوه أخرجه أبو يعلي من رواية اسماعيل بن عياش عن خيرة بنت محمد بن ثابت بن سباع عن أمها عائشة وخيرة وأمها لا أعرف حالهما ورواه ابن حبان من وجه آخر في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر وله طرق كلها ضعيفة // وقال عمر
_________
(1) حديث الأئمة من قريش رواهالنسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح
(2) حديث تخيروا ليطفكم أرجه ابن ماجة من حديث عائشة وتقدم في النكاح وقال صلى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في المنبت السوء إياكم وخضراء الدمن تقدم فيه أيضا فهذا أيضاً من النعم ولست أعني به الانتساب إلى الظلمة وأرباب الدنيا بل الانتساب إلى شجرة صلى الله عليه وسلم وإلى أئمة العلماء وإلى الصالحين والأبرار المتوسمين في العلم والعمل
فإن قلت فما معنى الفضائل البدنية فأقول لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة والقوة وإلى طول العمر إذ لا يتم علم وعمل إلا بهما ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى حديث أفضل السعادة طول العمر في عبادة الله غريب بهذا اللفظ وللترمذي من حديث أبي بكرة أن رجل قال يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله وقال حسن صحيح وإنما يستحقر من جملته أمر الجمال فيقال يكفي أن يكون البدن سليماً من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات ولعمري الجمال قليل الغناء ولكنه من الخيرات أيضا أما في الدنيا فلا يخفي نفعه فيها وأما في الآخرة فمن وجهين {أحدهما} أن القبيح مذموم والطباع عنه نافرة وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهه في الصدور أوسع فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه إذ هو نوع قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات لا يقدر عليها القبيح وكل معين على قضاء حاجات الدنيا فمعين على الآخرة بواسطتها والثاني أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس لأن نور النفس إذ أتم إشراقه تأدى إلى البدن فالمنظر والمخبر كثيرا ما يتلازمان ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيآت البدن فقالوا الوجه والعين مرآة الباطن ولذلك يظهر فيه أثر الغضب والسرور والغم ولذلك قيل طلاقة الوجه عنوان ما في النفس وقيل ما في الأرض قبيح إلا ووجهه الأحسن ما فيه واستعرض المأمون جيشا فعرض عليه رجل قبيح فاستنطقه فإذا هو ألكن فأسقط اسمه من الديوان وقال الروح إذا أشرقت على الظاهر فصباحة أو على الباطن ففصاحة وهذا ليس له ظاهر ولا باطن وقد قال صلى الله عليه وسلم اطلبوا الخير عند صباح الوجوه(4/105)
رضي الله تعالى عنه إذا بعثتم رسولاً فاطلبوه حسن الوجه حسن الاسم وقال الفقهاء إذا تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجهاً أولاهم بالإمامة وقال تعالى ممتناً بذلك {وزاده بسطة في العلم والجسم} ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وتناصف خلقة الوجه بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه
فإن قلت فقد أدخلت المال والجاه والنسب والأهل والولد في حيز النعم وقد ذم الله تعالى المال والجاه وكذا رسول صلى الله عليه وسلم حديث ذم المال والجاه أخرجه الترمذي من حديث كعب بن مالك ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب المال والشرف لدينه وقد تقدم في ذم المال والبخل // وكذا العلماء قال تعالى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وقال عز وجل {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} وقال علي كرم الله وجهه في ذم النسب الناس أبناء ما يحسنون وقيمة كل امرىء ما يحسنه وقيل المرء بنفسه لا بأبيه فما معنى كونها نعمة مع كونها مذمومة شرعاً فاعلم أن من يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المؤولة والعمومات المخصصة كان الضلال عليه أغلب ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى إدراك العلوم على ما هي عليه ثم ينزل النقل على وفق ما ظهر له منها بالتأويل مرة وبالتخصيص أخرى فهذه نعم معينة على أمر الآخرة لا سبيل إلى جحدها إلا أن فيها فتنا ومخاوف فمثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم نافع فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سمها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة وإن أصابها السوادي الغر فهي عليه بلاء وهلاك وهو مثل البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلئ فمن ظفر بالبحر فإن كان عالماً بالسباحة وطريق الغوص وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر فقد ظفر بنعمه وإن خاضه جاهلاً بذلك فقد هلك فلذلك مدح الله تعالى المال وسماه خيرا ومدحه رسول صلى الله عليه وسلم وقال نعم العون على تقوى الله تعالى المال وكذلك مدح الجاه والعز إذ من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أظهره على الدين كله وحببه في قلوب الخلق وهو المعني بالجاه ولكن المنقول في مدحهما قليل والمنقول في ذم المال والجاه كثير وحيث ذم الرياء فهو ذم الجاه إذ الرياء مقصوده اجتلاب القلوب ومعنى الجاه ملك القلوب وإنما كثر هذا وقل ذاك لأن الناس أكثرهم جهال بطريق الرقية لحية المال وطريق الغوص في بحر الجاه فوجب تحذيرهم فإنهم يهلكون بسم المال قبل الوصول إلى ترياقه ويهلكهم تمساح بحر الجاه قبل العثور على جواهره ولو كانا في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى كل أحد لما تصور أن ينضاف إلى النبوة الملك كما كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولا أن ينضاف إليها الغنى كما كان لسليمان عليه السلام فالناس كلهم صبيان والأموال حيات والأنبياء والعارفون معزمون فقد يضر الصبي مالا يضر المعزم نعم المعزم لو كان له ولد يريد بقاءه وصلاحه وقد وجد حية وعلم أنه لو أخذها لأجل ترياقها لاقتدى به ولده وأخذ الحية إذا رآها ليلعب بها فيهلك فله غرض في الترياق وله غرض في حفظ الولد فواجب عليه أن يزن غرضه في الترياق بغرضه في حفظ الولد فإذا كان يقدر على الصبر عن الترياق ولا يستضر به ضرراً كثيراً ولو أخذها لأخذها الصبي ويعظم ضرره بهلاكهم فواجب عليه أن يهرب عن الحية إذا رآها ويشير على الصبي بالهرب ويقبح صورتها في عينه ويعرفه أن فيها سماً قاتلاً لا ينجو منه أحد ولا يحدثه أصلاً بما فيها من نفع الترياق فإن ذلك ربما يغره فيقدم عليه من غير تمام المعرفة وكذلك الغواص إذا علم أنه لو غاص في البحر بمرأى من ولده لاتبعه وهلك(4/106)
فواجب عليه أن يحذر الصبي ساحل البحر والنهر فإن كان لا ينزجر الصبي بمجرد الزجر مهما رأى والده يحوم حول الساحل فواجب عليه أن يبعد من الساحل مع الصبي ولا يقرب منه بين يديه فكذلك الأمة في حجر الأنبياء عليهم السلام كالصبيان الأغبياء ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنَا لكم مثل الوالد لولده وقال صلى الله عليه وسلم إنما تتهافتون على النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم وحظهم الأوفر في حفظ أولادهم عن المهالك فإنهم لم يبعثوا إلا لذلك وليس لهم في المال حظ إلا بقدر القوت فلا جرم اقتصروا على قدر القوت وما فضل فلم يمسكون بل أنفقوه فإن الإنفاق فيه الترياق وفي الإمساك السم ولو فتح للناس باب كسب المال ورغبوا فيه لمالوا إلى سم الإمساك ورغبوا عن ترياق الإنفاق فلذلك قبحت الأموال والمعنى به تقبيح إمساكها والحرص عليها للاستكثار منها والتوسع في نعيمها بما يوجب الركون إلى الدنيا ولذتها فأما أخذها بقدر الكفاية وصرف الفاضل إلى الخيرات فليس بمذموم وحق كل مسافر أن لا يحمل إلا بقدر زاده في السفر إذا صمم العزم على أن يختص بما يحمله فأما إذا سمحت نفسه بإطعام الطعام وتوسيع الزاد على الرفقاء فلا بأس بالاستكثار وقوله عليه الصلاة والسلام ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب معناه لأنفسكم خاصة ولا فقد كان فيمن يروي هذا الحديث ويعمل به من يأخذ مائة ألف درهم في موضع واحد ويفرقها في موضعه وإلا يمسك منها حبة ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأغنياء يدخلون الجنة بشدة استأذنه عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أن يخرج عن جميع ما يملكه فأذن له فنزل جبريل عليه السلام وقال مره بأن يطعم المسكين ويكسو العاري ويقري الضيف الحديث فإذن النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج دواؤها بدائها ومرجوها بمخوفها ونفعها بضرها فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقياً داءها ومستخرجاً دواءها ومن لا يثق بها فالبعد البعد والفرار الفرار عن مظان الأخطار فلا تعدل بالسلامة شيئاً في حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه لطريقه
فإن قلت فما معنى النعم التوفيقية الراجحة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد فاعلم أن التوفيق لا يستغني عنه أحد وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره وهذا يشمل الخير والشر وما هو سعادة وما هو شقاوة ولكن جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة من جملة قضاء الله تعالى وقدره كما أن الإلحاد عبارة عن الميل فخصص بمن مال إلى الباطل عن الحق وكذا الارتداد ولا خفاء بالحاجة إلى التوفيق ولذلك قيل
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته(4/107)
ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحاً فمن أين ينفعه مجرد الإرادة فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ولذلك قال تعالى {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وقال تَعَالَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زكى منكم أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى أي بهدايته فقيل وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أنا (1) وللهداية ثلاث منازل {الأولى} معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى {وهديناه النجدين} وقد أنعم الله تعالى به على كافة عباده بعضه بالعقل وبعضه على لسان الرسل ولذلك قال تعالى {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} فأسباب الهدى هي الكتاب والرسل وبصائر العقول وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا الحسد والكبر وحب الدنيا والأسباب التي تعمي القلوب وإن كانت لا تعمى الأبصار قال تعالى {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ومن جملة المعميات الإلف والعادة وحب استصحابهما وعنه العبارة بقوله تعالى {إنا وجدنا آباءنا على أمة} الآية وعن الكبر والحسد العبارة بقوله تعالى {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} وقوله تعالى {أبشرا منا واحداً نتبعه} فهذه المعميات هي التي منعت الاهتداء والهداية الثانية وراء هذه الهداية العامة وهي التي يمد الله تعالى بها العبد حالاً بعد حال وهي ثمرة المجاهدة حيث قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وهو المراد بقوله تعالى {والذين اهتدوا زادهم هدى} والهداية الثالثة وراء الثانية وهو النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدي بها إلا ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف وإمكان تعلم العلوم وهو الهوى المطلق وما عداه حجاب له ومقدمات وهو الذي شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه وإن كان الكل من جهته تعالى فقال تعالى {قل إنّ هدى الله هو الهدى} وهو المسمى حياة في قوله تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} والمعنى بقوله تعالى {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وأما الرشد فنعني به العناية الإلهية التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فتقوبه على ما فيه صلاحه وتفتره عما فيه فساده ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} فالرشد عبارة عن هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها فالصبي إذا بلغ خبيراً بحفظ المال وطرق التجارة والاستنماء ولكنه مع ذلك يبذر ولا يريد الاستنماء لا يسمى رشيداً لا لعدم هدايته بل لقصور هدايته عن تحريك داعيته فكم من شخص يقدم على ما يعلم أنه يضره فقد أعطي الهداية وميز بها عن الجاهل الذي لا يدري أنه يضره ولكن ما أعطى الرشد فالرشد بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية إلى وجوه الأعمال وهي نعمة عظيمة وأما التسديد فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه ليشتد في صوب الصواب في أسرع وقت فإن الهداية بمجردها لا تكفي بل لا بد من هداية محركة للداعية وهي الرشد والرشد لا يكفي بل لا بد من تيسر الحركات بمساعدة الأعضاء والآلات حتى يتم المراد مما انبعثت الداعية إليه فالهداية محض التعريف والرشد هو تنبيه الداعية لتستقيظ وتتحرك والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد وأما التأييد فكأنه جامع للكل وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج وهو المراد بقوله عز وجل {إذ أيدتك بروح القدس} وتقرب منه العصمة وهى
_________
(1) حديث ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله متفق عليه من حديث أبى هريرة لن يدخل أحدكم عمله الجنة قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة وفى رواية لمسلم ما من أحد يدخله عمله الجنة الحديث واتفقا عليه من حديث عائشة وانفرد به مسلم من حديث جابر وقد تقدم(4/108)
عبارة عن وجود إلهي يسبح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر يصير كمانع من باطنه غير محسوس وإياه عنى بقوله تعالى {ولقد همّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} فهذه هي مجامع النعم ولن تثبت إلا بما يخوله الله من الفهم الصافي الثاقب والسمع الواعي والقلب البصير المراعي المتواضع والمعلم الناصح والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وظلم الأعداء ويستدعي كل واحد من هذه الأسباب الستة عشر أسباباً وتستدعي تلك الأسباب أسباباً إلى أن تنتهي بالآخرة إلى دليل المتحيرين وملجأ المضطرين وذلك رب الأرباب ومسبب الأسباب وإذا كانت تلك الأسباب طويلة لا يحتمل مثل هذا الكتاب استقصاءها فلنذكر منها أنموذجاً ليعلم به معنى قوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وبالله التوفيق
بيان وجه الأنموذج في كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر
والإحصاء
اعلم أنّا جمعنا النعم في ستة عشر ضرباً وجعلنا صحة البدن نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب التي بها تتم نعمة الأكل فلا يخفى أن الأكل فعل وكل فعل من هذا النوع فهو حركة وكل حركة لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها ولا بد لها من قدرة على الحركة ولا بد من إرادة للحركة ولا بد من علم بالمراد وإدراك له ولا بد للأكل من مأكول ولا بد للمأكول من أصل منه يحصل ولا بد له من صانع يصلحه فلنذكر أسباب الإدراك ثم أسباب الإرادات ثم أسباب القدرة ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح لا على سبيل الاستقصاء
الطرف الأول في نعم الله تعالى في خلق أسباب الإدراك
اعلم أن الله تعالى خلق النبات وهو أكمل وجوداً من الحجر والمدر والحديد والنحاس وسائر الجواهر التي لا تنمى ولا تغذى فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي في الأرض وهي له آلات فبها يجتذب الغذاء وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة ثم تغلظ أصولها ثم تتشعب ولا تزال تستدق وتتشعب إلى عروق شعرية تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر إلا أن النبات مع هذا الكال ناقص فإنه إذا أعوزه غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من وضع آخر فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك فمن نعمة الله تعالى عليك أن خلق لك آلات الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في خلق الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك فأولها حاسة اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه وهذا أول حس يخلق للحيوان ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس لأنه إذا لم يحس أصلاً فليس بحيوان وأنقص درجات الحس أن يحس بما لا يلاصقه ويماسه فإن الإحساس مما يبعد منه إحساس أتم لا محالة وهذا الحس موجود لكل حيوان حتى الدودة التي في الطين فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب لا كالنبات فإن النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس بالقطع إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت(4/109)
ناقصاً كالدودة لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك بل ما يمس فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم إلا أنك تدرك به الرائحة ولا تدري أنها جاءت من أي ناحية فتحتاج إلى أن تطوف كثيراً من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذي شممت ريحه وربما لم تعثر فتكون في غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب وتبصر عدواً لا حجاب بينك وبينه وأما ما بينك وبينه حجاب فلا تبصره وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئاً حاضراً وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك كالشجرة يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذب وربما يكون ذلك سبب جفافها ثم كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق في مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حساً مشتركاً تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه ولولاه لطال الأمر عليك فإنك إذا أكلت شيئاً أصفر مثلاً فوجدته مراً مخالفاً لك فتركته فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر مضر ما لم تذقه ثانياً لولا الحس المشترك إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة فكيف تمتنع والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة فلا بد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعاً حتى إذا أردت الصفرة حكم أنه مر فيمتنع عن تناوله ثانياً وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات إذ للشاة هذه الحواس كلها فلو لم يكن لك إلا هذا لكنت ناقصاً فإن البهيمة يحتال عليها فتؤخذ فلا تدري كيف تدفع الحيلة عن نفسها وكيف تتخلص إذا قيدت وقد تلقي نفسها في بئر ولا تدري أن ذلك يهلكها ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه في الحال ويضرها في ثاني الحال فتمرض وتموت إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر فأما إدراك العواقب فلا فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى وهي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها في الحال والمآل وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع بعقلك في الأكل الذي هو سبب صحتك وهو أحسن فوائد العقل وأقل الحكم فيه بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله ومعرفة الحكمة في عالمه وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس الخمس في حقك فتكون الحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار الموكلين بنواحي المملكة وقد وكلت كل واحدة منها بأمر تختص به فواحدة منها بأخبار الألوان والأخرى بأخبار الأصوات والأخرى بأخبار الروائح والأخرى بأخبار الطعوم والأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة وغيرها وهذه البرد والجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة ويسلمونها إلى الحس المشترك والحس المشترك قاعد في مقدمة الدماغ مثل صاحب القصص والكتب على باب الملك يجمع القصص والكتب الواردة من نواحي العالم فيأخذها وهي مختومة ويسلمها إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها فأما معرفة حقائق ما فيها فلا ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم الإنهاءات إليه مختومة فيفتشها الملك ويطلع منها على أسرار المملكة ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود وهي الأعضاء مرة في الطلب ومرة في الهرب ومرة في إتمام التدبيرات التي تعن له(4/110)
فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات ولا تظنن أنا استوفيناها فإن الحواس الظاهرة هي بعض الإدراكات والبصر واحد من جملة الحواس والعين آلة واحدة له وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية وبعض الأغشية كأنها نسج العنكوب وبعضها كالمشيمة وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض وبعضها كأنه الجمد ولكل واحدة من هذه الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وعرض وتدوير وتركيب ولو اختلت طبقة واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر وعجز عنه الأطباء والكحالون كلهم فهذا في حس واحد فقس به حاسة السمع وسائر الحواس بل لا يمكن أن تستوفي حكم الله تعالى وأنواع نعمه في جسم البصر وطبقاته في مجلدات كثيرة مع أن جملته لا تزيد على جوزة صغيرة فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه فهذه مرامز إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات
الطرف الثاني في أصناف النعم في خلق الإرادات
اعلم أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الغذاء من بعد ولم يخلق لك ميل في الطبع وشوق إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البشر معطلاً فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له وقد سقطت شهوته فلا يتناوله فيبقى البصر والإدراك معطلاً في حقه فاضطررت إلى أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك تسمى كراهة لتطلب بالشهوة وتهرب بالكراهة فخلق الله تعالى فيك شهوة الطعام وسلطها عليك ووكلها بك كالمتقاصى الذي يضطرك إلى التناول حتى تتناول وتغتذي فتبقى بالغذاء وهذا مما يشاركك فيه الحيوانات دون النبات ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا كالزرع فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب في أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى وكما خلقت لك هذه الشهوة حتى تأكل فيبقى به بدنك خلق لك شهوة الجماع حتى تجامع فيبقى به نسلك ولو قصصنا عليك عجائب صنع الله تعالى في خلق الرحم وخلق دم الحيض وتأليف الجنين من المني ودم الحيض وكيفية خلق الأنثيين والعروق السالكة إليها من الفقار الذي هو مستقر النطفة وكيفية انصباب ماء المرأة من الترائب بواسطة العروق وكيفية انقسام مقعر الرحم إلى قوالب تقع النطفة في بعضها فتتشكل بشكل الذكور وتقع في بعضها فتتشكل بشكل الإناث وكيفية إدارتها في أطوار خلقها مضغة وعلقة ثم عظماً ولحماً ودماً وكيفية قسمة أجزائها إلى رأس ويد ورجل وبطن وظهر وسائر الأعضاء لقضيت من أنواع نعم الله تعالى عليك في مبدأ خلقك كل العجب فضلاً عما تراه الآن ولكنا لسنا نريد أن نتعرض إلا لنعم الله تعالى في الأكل وحده كي لا يطول الكلام فإذن شهوة الطعام أحد ضروب الإرادات وذلك لا يكفيك فإنه تأتيك المهلكات من الجوانب فلو لم يخلق فيك الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك لبقيت عرضة للآفات ولأخذ منك كل ما حصلته من الغذاء فإن كل واحد يشتهي ما في يديك فتحتاج إلى داعية في دفعه ومقاتلته وهي داعية الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلى إلا ما يضر وينفع في الحال وإما في المآل فلا تكفي فيه هذه الإرادة فخلق الله تعالى لك إرادة أخرى مسخرة تحت إشارة العقل المعرف للعواقب كما خلق الشهوة والغضب مسخرة تحت إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بها انتفاعك بالعقل إذ كان مجرد المعرفة بأن هذه الشهوة مثلاً تضرك لا يغنيك في الاحتراز عنها ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب المعرفة وهذه(4/111)
الإرادة أفردت بها عن البهائم إكراماً لبني آدم كما أفردت بمعرفة العواقب وقد سمينا هذه الإرادة باعثاً دينياً وفصلناه في كتاب الصبر تفصيلاً أوفى من هذا
الطرف الثالث في نعم الله تعالى في خلق القدرة وآلات الحركة
اعلم أن الحس لا يفيد إلا الإدراك والإرادة لا معنى لها إلا الميل إلى الطلب والهرب وهذا لا كفاية فيه ما لم تكن فيك آلة الطلب والهرب فكم من مريض مشتاق إلى شيء بعيد عنه مدرك له ولكنه لا يمكنه أن يمشي إليه لفقد رجله أو لا يمكنه أن يتناوله لفقد يده أو لفلج وخدر فيهما فلا بد من آلات للحركة وقدرة في تلك الآلات على الحركة لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلبا وبمقتضى الكراهية هرباً فلذلك خلق الله تعالى لك الأعضاء التي تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف أسرارها فمنها ما هو للطلب والهرب كالرجل للإنسان والجناح للطير والقوائم للدواب ومنها ما هو للدفع كالأسلحة للإنسان والقرون للحيوان وفي هذا تختلف الحيوانات اختلافاً كثيراً فمنها ما يكثر أعداؤه ويبعد غذاؤه فيحتاج إلى سرعة الحركة فخلق له الجناح ليطير بسرعة ومنها ما خلق له أربع قوائم ومنها ما له رجلان ومنها ما يدب وذكر ذلك يطول فلنذكر الأعضاء التي بها يتم الأكل فقط ليقاس عليها غيرها فنقول رؤيتك الطعام من بعد وحركتك إليه لا تكفي ما لم تتمكن من أن تأخذه فافتقرت إلى آلة باطشة فأنعم الله تعالى عليك بخلق اليدين وهم طويلتان ممتدتان إلى الأشياء ومشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات فتمتد وتنثنى إليك فلا تكون كخشبة منصوبة ثم جعل رأس اليد عريضاً بخلق الكف ثم قسم رأس الكف بخمسة أقسام هي الأصابع وجعلها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور على الأربعة الباقية ولو كانت مجتمعة أو متراكمة لم يحصل به تمام غرضك فوضعها وضعاً إن بسطتها كانت لك مجرفة وإن ضمتها كانت لك مغرفة وإن جمعتها كانت لك آلة للضرب وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة في القبض ثم خلق لها أظفارا وأسند إليها رءؤس الأصابع حتى لا تتفتت وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع فتأخذها برءوس أظفارك ثم هب أنك أخذت الطعام باليدين فمن أين يكفيك هذا ما لم يصل إلى المعدة وهي في الباطن فلا بد وأن يكون من الظاهر دهليز إليها حتى يدخل الطعام منه فجعل الفم منفذاً إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة سوى كونه منفذاً للطعام إلى المعدة ثم إن وضعت الطعام في الفم وهو قطعة واحدة فلا يتيسر ابتلاعه فتحتاج إلى طاحونة تطحن بها الطعام فخلق لك اللحيين من عظمتين وركب فيهما الأسنان وطبق الأضراس العليا على السفلى لتطحن بهما الطعام طحناً ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر وتارة إلى القطع ثم يحتاج إلى طحن بعد ذلك فقسم الأسنان إلى عريضة طواحين كالأضراس وإلى حادة قواطع كالرباعيات وإلى ما يصلح للكسر كالأنياب ثم جعل مفصل اللحيين متخلخلاً بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر حتى يدور على الفك الأعلى دوران الرخى ولولا ذلك لما تيسر إلا ضرب أحدهما على الآخر مثل تصفيق اليدين مثلاً وبذلك لا يتم الطحن فجعل اللحي الأسفل متحركاً حركة دورية واللحي الأعلى ثابتاً لا يتحرك فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى فإن كل رحى صنعه الخلق فيثبت منه الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذا الرحى الذي صنعه الله تعالى إذ يدور منه الأسفل على الأعلى فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأتم برهانه وأوسع امتنانه ثم هب أنك وضعت الطعام في فضاء الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان أو كيف تستجره الأسنان إلى نفسها وكيف يتصرف باليد في داخل الفم فانظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى(4/112)
هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق والحكم التي لسنا نطنب بذكرها ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عيناً يفيض اللعاب منها وينصب بقدر الحاجة حتى يتعجن به الطعام فانظر كيف سخرها لهذا الأمر فإنك ترى الطعام من بعد فيثور الحنكان للخدمة وينصب اللعاب حتى تتحلب أشداقك والطعام بعد بعيد عنك ثم هذا الطعام المطحون المتعجن من يوصله إلى المعدة وهو في الفم ولا تقدر على أن تدفعه باليد ولا يد في المعدة حتى تمتد فتجذب الطعام فانظر كيف هيأ الله تعالى المريء والحنجرة وجعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثم تنضغط حتى يتقلب الطعام بضغطه فيهوي إلى المعدة في دهلين المريء فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح لأن يصير لحماً وعظماً ودماً على هذه الهيئة بل لا بد وأن يطبخ طبخاً تاماً حتى تتشابه أجزاؤه فخلق الله تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب فلا يزال لابثاً فيها حتى يتم الهضم والنضج بالحرارة التي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة إذ من جانبها الأيمن الكبد ومن الأيسر الطحال ومن قدام الترائب ومن خلف لحم الصلب فتتعدى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء من الجوانب حتى ينطبخ الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق وعند ذلك يشبه ماء الشعير فى تشابه أجزائه ووقته وهو بعد لا يصلح للتغذية فخلق الله تعالى بينها وبين الكبد مجاري من العروق وجعل لها فوهات كثيرة حتى يصب الطعام فيها فينتهي إلى الكبد والكبد معجون من طينة الدم حتى كأنه دم وفيه عروق كثيرة شعرية منتشرة في أجزاء الكبد فينصب الطعام الرقيق النافذ فيها وينتشر في أجزائها حتى تستولي عليه قوة الكبد فتصبغه بلون الدم فيستقر فيها ريثما يحصل له نضج آخر ويحصل له هيئة الدم الصافي الصالح لغذاء الأعضاء إلا أن حرارة الكبد هي التي تنضج هذا الدم فيتولد من هذا الدم فضلتان كما يتولد في جميع ما يطبخ إحداهما شبيهة بالدردي والعكر وهو الخلط السوداوي والأخرى شبيهة بالرغوة وهي الصفراء ولو لم تفصل عنها الفضلتان فسد مزاج الأعضاء فخلق الله تعالى المرارة والطحال وجعل لكل واحد منهما عنقاً ممدوداً إلى الكبد داخلاً في تجويفه فتجذب المرارة الفضلة الصفراوية ويجذب الطحال العكر السوداوي فيبقى الدم صافياً ليس فيه إلا زيادة رقة ورطوبة لما فيه من المائية ولولاها لما انتشر في تلك العروق الشعرية ولا خرج منها متصاعداً إلا الأعضاء فخلق الله سبحانه الكليتين وأخرج من كل واحدة منهما عنقاً طويلاً إلى الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلاً في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلاً في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدقيقة التي في الكبد إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ ولم يخرج من العروق فإذا انفصلت منه المائية فقد صار الدم صافياً من الفضلات الثلاث نقياً من كل ما يفسد الغذاء ثم إن الله تعالى أطلع من الكبد عروقاً ثم قسمها بعد الطلوع أقساماً وشعب كل قسم بشعب وانتشر ذلك في البدن كله من الفرق إلى القدم ظاهراً وباطناً فيجري الدم الصافي فيها ويصل إلى سائر الأعضاء حتى تصير العروق المنقسمة شعرية كعروق الأوراق والأشجار بحيث لا تدرك بالأبصار فيصل منها الغذاء بالرشح إلى سائر الأعضاء ولو حلت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصفراوية فسد الدم وحصل منه الأمراض الصفراوية كاليرقان والبثور والحمرة وإن حلت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السوداوي حدثت الأمراض السوداوية كالبهق والجذام والم اليخوليا وغيرها وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء وغيره ثم انظر إلى حكمة الفاطر الحكيم كيف رتب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة أما المرارة فإنها تجذب بأحد عنقيها وتقذف(4/113)
بالعنق الآخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة مزلقة ويحدث في الأمعاء لذع يحركها للدفع فتنضغط حتى يندفع الثفل وينزلق وتكون صفرته لذلك وأما الطحال فإنه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة وقبض ثم يرسل منها كل يوم شيئاً إلى فم المعدة فيحرك الشهوة بحموضته وينبهها ويثيرها ويخرج الباقي مع الثفل وأما الكلية فإنها تغتذي بما في تلك المائية من دم وترسل الباقي إلى المثانة ولنقتصر على هذا القدر من بيان نعم الله تعالى في الأسباب التي أعدت للأكل ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب والدماغ واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسية إلى صاحبه وكيفية انشعاب العروق الضوارب من القلب إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الحس وكيفية انشعاب العروق السواكن من الكبد إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الغذاء ثم كيفية تركب الأعضاء وعدد عظامها وعضلاتها وعروقها وأوتارها ورباطاتها وغضاريفها ورطوباتها لطال الكلام وكل ذلك محتاج إليه للأكل ولأمور أخر سواه بل في الآدمي آلاف من العضلات والعروق والأعصاب مختلفة بالصغر والكبر والدقة والغلظ وكثرة الانقسام وقلته ولا شيء منها إلا وفيه حكمة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع إلى عشر وزيادة وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن لهلكت يا مسكين فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أو لا لتقوى بعدها على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل والحمار أيضاً يعلم أنه يجوع فيأكل ويتعب فينام ويشتهي فيجامع ويستنهض فينهض ويرمح فإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط فقس على الإجمال ما أهملناه من جملة ما عرفناه حذراً من التطويل وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى أقل من قطرة من بحر إلا أن من علم شيئاً من هذا أدرك شمة من معاني قوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء وقوام منافعها وإدراكاتها وقواها ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة ومستقره القلب ويسري في جميع البدن بواسطة العروق الضوارب فلا ينتهي إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله في تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة وغيرها كالسراج الذي يدار في أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه ولكنه جعل السراج سبباً له بحكمته وهذا البخار اللطيف هو الذي تسميه الأطباء الروح ومحله القلب ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة في سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت وكما أن السراج إذا انقطع زيته انطفأ فسراج الروح أيضا ينطفىء مهما انقطع غذاؤه وكما أن الفتيلة قد تحترق فتصير رماداً بحيث لا تقبل الزيت فينطفىء السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترق بفرط حرارة القلب فينطفىء مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذي يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به وكما أن السراج تارة ينطفىء بسبب من داخل كما ذكرناه وتارة بسبب من خارج كريح عاصف فكذلك الروح تارة تنطفىء بسبب من داخل وتارة بسبب من خارج وهو القتل وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء إنسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة في علم الله مرتبة ويكون كل ذلك بقدر فكذلك انطفاء الروح وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب فكذلك انطفاء الروح وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم(4/114)
البدن كله وفارقته أنواره التي كان يستفيدها من الروح وهي أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما يجمعها معنى لفظ الحياة فهذا أيضاً رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ليعلم أنه {لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} عز وجل فتعساً لمن كفر بالله تعساً وسحقاً لمن كفر نعمته سحقاً
فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال {قل الروح من أمر ربي} فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن إنما وصفنا من جملتها جسماً لطيفاً تسميه الأطباء روحاً وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه ولا رخصة في وصفة إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى {قل الروح من أمر ربي} والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق وأما الأوهام والخبالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات وتتزلزل في ذكر مبادىء وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقها فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك النور في عالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال وقد خلق الله تعالى الخلق أطواراً فكما يدرك الصبي المحسوسات ولا يدرك المعقولات لأن ذلك طور لم يبلغه بعد فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه بعد وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية فيها يلحظ جنات الحق بنور الإيمان واليقين وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولجناب الحق صدر وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية ولذلك قيل من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل المعنى المسمى روحاً عند الطبيب بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك بالإضافة إلى الملك فمن عرف الروح الطبي فظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك فظن أنه رأى الملك ولا يشك في أن خطأه فاحش وهذا الخطأ أفحش منه جداً ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف وبها تدرك مصالح الدنيا عقولاً قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئاً ولكن ذكر نسبته وفعله ولم يذكر ذاته أما نسبته ففي قوله تعالى {من أمر ربي} وأما فعله فقد ذكر في قوله تعالى ياأيها النفس(4/115)
{المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} ولنرجع الآن إلى الغرض فإن المقصود ذكر نعم الله تعالى في الأكل فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى في آلات الأكل
الطرف الرابع في نعم الله تعالى في الأصول التي يحصل منها الأطعمة وتصير صالحة لأن يصلحها الآدمي بعد ذلك بصنعته
اعلم أن الأطعمة كثيرة ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى وأسباب متوالية لا تتناهى وذكر ذلك في كل طعام مما يطول فإن الأطعمة إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل ولنأخذ من جملتها حبة من البر ولندع سائر الأغذية فنقول إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعاً فما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها وتزيد وتتضاعف حتى تفي بتمام حاجتك فخلق الله تعالى في حبة الحنطة من القوى ما يغتذى به كما خلق فيك فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة ولا يخالفك في الاغتذاء لأنه يغتذي بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق كما تغتذى أنت وتجتذب ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه ولكن نشير إلى غذائه فنقول كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص فكذلك الحبة لا تغتذي بكل شيء بل تحتاج إلى شيء مخصوص بدليل أنك لو تركتها في البيت لم تزد لأنه ليس يحيط بها إلا هواء ومجرد الهواء لا يصلح لغذائها ولو تركنها في الماء لم تزد ولو تركنها في أرض لا ماء فيها لم تزد بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً وإليه الإشارة بقوله تعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً} الآية ثم لا يكفي الماء والتراب إذ لو تركت في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض رجوة متخلخلة يتغلغل الهواء إليها ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى ينفذ فيها وإليه الإشارة بقوله تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح} وإنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان في برد مفرط وشتاء شات فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة فانظر إلى ماذا يحتاج كل واحد إذ يحتاج الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي فانظر كيف خلق الله البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار الأرض وهي سحب ثقال حوامل بالماء ثم انظر كيف يرسله مدراراً على الأراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة وانظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجاً فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد وهلك الزرع والمواشي ونعم الله في الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن إحصاؤها وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان فانظر كيف سخر الشمس وكيف خلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إلى البرد والحر عند الحاجة إلى الحر فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها أكثر من أن تحصى ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة فتفتقر إلى رطوبة تنضجها فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه ويصبغها بتقدير الفاطر الحكيم ولذلك لو كانت الأشجار في ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر(4/116)
الكواكب عليها لكانت فاسدة ناقصة حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا ظللتها شجرة كبيرة وتعرف ترطيب القمر بأن تكشف رأسك له بالليل فتغلب على رأسك الرطوبة التي يعبر عنها بالزكام فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضاً ولا نطول فيما لا مطمع في استقصائه بل نقول كل كوكب في السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين والقمر للترطيب فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثاً وباطلاً ولم يصح قوله تعالى {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وقوله عز وجل وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وكما أنه ليس في أعضاء بدنك عضو إلا لفائدة فليس في أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة والعالم كله كشخص واحد وآحاد أجسامه كالأعضاء له وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك وشرح ذلك يطول ولا ينبغي أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله سبحانه في أمور جعلت أسباباً لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ورد فيه من النهي عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم // حديث النهي عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند صحيح من حديث ابن عباس من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد وللطبرانى من حديث ابن مسعود وثوبان إذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإسنادهما ضعيف وقد تقدم فى العلم ولمسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى قال قلت يا رسول لله أمورا كنا نصنعها فى الجاهلية كنا نأتى الكهان قال فلا تأتوا الكهان الحديث
بل المنهي عنه في النجوم أمران أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها وهذا كفر والثاني تصديق المنجمين في تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التي لا يشترك كافة الخلق في دركها لأنهم يقولون ذلك عن جهل فإن علم أحكام النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء عليهم السلام ثم اندرس ذلك العلم فلم يبق إلا ما هو مختلط لا يتميز فيه الصواب عن الخطأ فاعتقاد كون الكواكب أسباباً لآثار تحصل بخلق الله تعالى في الأرض وفي النبات وفي الحيوان ليس قادحاً في الدين بل هو حق ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل قادح في الدين ولذلك إذا كان معك ثوب غسلته وتريد تجفيفه فقال لك غيرك أخرج الثوب وابسطه فإن الشمس قد طلعت وحمي النهار والهواء لا يلزمك تكذيبه ولا يلزمك الإنكار عليه بحوالته حمي الهواء على طلوع الشمس وإذا سألت عن تغيير وجه الإنسان فقال قرعتني الشمس في الطريق فاسود وجهي لم يلزمك تكذيبه بذلك وقس بهذا سائر الآثار إلا أن الآثار بعضها معلوم وبعضها مجهول فالمجهول لا يجوز دعوى العلم فيه والمعلوم بعضه معلوم للناس كافة كحصول الضياء والحرارة بطلوع الشمس وبعضه لبعض الناس كحصول الزكام بشروق القمر فإذن الكواكب ما خلقت عبثاً بل فيها حكم كثيرة لا تحصى ولهذا نظر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السماء وقرأ قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال صلى الله عليه وسلم ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته
حديث قرأ قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته أى ترك تأملها أخرجه الثعلبى من حديث ابن عباس بلفظ ولم يتفكر فيها وفيه أبو جناب يحيى بن أبى حبة ضعيف
ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب وذلك مما تعرفه البهائم أيضاً فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذي مسح بها سبلته فلله تعالى في ملكوت السموات والآفاق والأنفس والحيوانات عجائب يطلب معرفتها المحبون لله تعالى فإن من أحب عالماً فلا يزال مشغولاً بطلب تصانيفه ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه حباً له فكذلك الأمر في عجائب صنع الله تعالى فإن العالم(4/117)
كله من تصنيفه بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده فإن تعجبت من تصنيف فلا تتعجب من المصنف بل من الذي سخر المصنف لتصنيفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه كما إذا رأيت لعب المشعوذ ترقص وتتحرك حركات موزونة متناسبة فلا تعجب من اللعب فإنها خرق محركة لا متحركة ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة خفية عن الأبصار فإذن المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها ولا تتم الأفلاك إلا بحركانها ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها وكذلك يتمادى ذلك إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيهاً بما ذكرناه على ما أهملناه ولنقتصر على هذا من ذكر أسباب غذاء النبات
الطرف الخامس في نعم الله تعالى في الأسباب الموصلة للأطعمة إليك
اعلم أن هذه الأطعمة كلها لا توجد في كل مكان بل لها شروط مخصوصة لأجلها توجد في بعض الأماكن دون بعض والناس منتشرون على وجه الأرض وقد تبعد عنهم الأطعمة ويحول بينهم وبينها البحار والبراري فانظر كيف سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم حرص حب المال وشهوة الربح مع أنهم لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطريق أو يموتوا في بعض البلاد فيأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا فانظر كيف سلط الله الجهل والغفلة عليهم حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح ويركبوا الأخطار ويغرروا بالأرواح في ركوب البحر فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك وانظر كيف علمهم الله تعالى صناعة السفن وكيفية الركوب فيها وانظر كيف خلق الحيوانات وسخرها للركوب والحمل في البراري وانظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى الفرس كيف أمدت بسرعة الحركة وإلى الحمار كيف جعل صبوراً على التعب وإلى الجمال كيف تقطع البراري وتطوي المراحل تحت الأعباء الثقيلة على الجوع والعطش وانظر كيف سيرهم الله تعالى بواسطة السفن والحيوانات في البر والبحر ليحملوا إليك الأطعمة وسائر الحوائج وتأمل ما يحتاج إليه الحيوانات من أسبابها وأدواتها وعلفها وما تحتاج إليه السفن فقد خلق الله تعالى جميع ذلك إلى حد الحاجة وفوق الحاجة وإحصاء ذلك غير ممكن ويتمادى ذلك إلى أمور خارجة عن الحصر نرى تركها طلباً للإيجاز
الطرف السادس في إصلاح الأطعمة
اعلم أن الذي ينبت في الأرض من النبات وما يخلق من الحيوانات لا يمكن أن يقضم ويؤكل وهو كذلك بل لا بد في كل واحد من إصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء البعض وإبقاء البعض إلى أمور أخر لا تحصى واستقصاء ذلك في كل طعام يطول فلنعين رغيفاً واحداً ولننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد إلقاء البذر في الأرض فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض ثم الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه ثم بعد ذلك التعهد بسقي الماء مدة ثم تنقية الأرض من الحشيش ثم الحصاد ثم الفرك والتنقية ثم الطحن ثم العجين ثم الخير فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره وعدد الأشخاص القائمين بها وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار وحداد وغيرهما وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس وانظر كيف خلق الله تعالى(4/118)
الجبال والأحجار والمعادن وكيف جعل الأرض قطعاً متجاورات مختلفة فإن فتشت علمت أن رغيفاً واحداً لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين مالم يعمل عليه أكثر من ألف صانع فابتدىء من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال من جهة الملائكة حتى تنتهى النوبة إلى عمل الإنسان فإذا استدار طلبه قريب من سبعة آلاف صانع كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات حتى إن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمساً وعشرين مرة ويتعاطى في كل مرة منها عملاً فلو لم يجمع الله تعالى البلاد ولم يسخر العباد وافتقرت إلى عمل المنجل الذي تحصد به البر مثلاً بعد نباته لنفذ عمرك وعجزت عنه أفلا ترى كيف هدى الله عبده الذي خلقه من نطفة قذرة لأن يعمل هذه الأعمال العجيبة والصنائع الغريبة فانظر إلى المقراض مثلاً وهما جلمان متطابقان ينطبق أحدهما على الآخر فيتناولان الشيء معاً ويقطعانه بسرعة ولو لم يكشف الله تعالى طريق اتخاذه بفضله وكرمه لمن قبلنا وافتقرنا إلى استنباط الطريق فيه بفكرنا ثم إلى استخراج الحديد من الحجر وإلى تحصيل الآلات التي بها يعمل المقراض وعمر الواحد منا عمر نوح وأوتي أكمل العقول لقصر عمره عن استنباط الطريق في إصلاح هذه الآلة وحدها فضلاً عن غيرها فسبحان من الحق ذوي الأبصار بالعميان وسبحان من منع النبيين مع هذا البيان فانظر الآن لو خلا بلدك عن الطحان مثلاً أو عن الحداد أو عن الحجام الذي هو أخس العمال أو عن الحائك أو عن واحد من جملة الصناع ماذا يصيبك من الأذى وكيف تضطرب عليك أمورك كلها فسبحان من سخر بعض العباد لبعض حتى نفذت به مشيئته وتمت به حكمته ولنوجز القول في هذه الطبقة أيضاً فإن الغرض التنبيه على النعم دون الاستقصاء
الطرف السابع في إصلاح المصلحين
اعلم أن هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم ببعض بل كانوا كالوحوش لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد فانظر كيف ألف الله تعالى بين قلوبهم وسلط الأنس والمحبة عليهم {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع مما يطول إحصاؤه ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها ففي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة وذلك مما يؤدي إلى التقاتل والتنافر فانظر كيف سلط الله تعالى السلاطين وأمدهم بالقوة والعدة والأسباب وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعاً وكرهاً وكيف هدى السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء البلد كأنها أجزاء شخص واحد تتعاون على غرض واحد ينتفع البعض منها بالبعض فرتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق واضطروا الخلق إلى قانون العدل وألزموهم التساعد والتعاون حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب والخباز وسائر أهل البلد وكلهم ينتفعون بالحداد وصار الحجام ينتفع بالحراث والحراث بالحجام وينتفع كل واحد بكل واحد بسبب ترتيبهم واجتماعهم وانضباطهم تحت ترتيب السلطان وجمعه كما يتعاون جميع أعضاء البدن وينتفع بعضها ببعض وانظر كيف بعث الأنبياء عليهم السلام حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق وقوانين السياسة في ضبطهم وكشفوا من أحكام الإمامة والسلطنة وأحكام الفقه(4/119)
ما اهتدوا به إلى إصلاح الدنيا فضلاً عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين وانظر كيف أصلح الله تعالى الأنبياء بالملائكة وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذى لاواسطه بينه وبين الله تعالى فالخباز يخبز العجين والطحان يصلح الحب بالطحن والحراث يصلحه بالحصاد والحداد يصلح آلات الحراثة والنجار يصلح آلات الحداد وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة والسلطان يصلح الصناع والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم والعلماء يصلحون السلاطين والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام ومطلع كل حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف وكل ذلك نعم من رب الأرباب ومسبب الأسباب ولولا فضله وكرمه إذ قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} لما اهتدينا إلى هذه النبذة اليسيرة من نعم الله تعالى ولولا عزله إيانا عن أن نطمح بعين الطمع إلى الإحاطة بكنه نعمه لتشوفنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء ولكنه تعالى عزلنا بحكم القهر والقدرة فقال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فإن تكلمنا فبإذنه انبسطنا وإن سكنا فبقهره انقبضنا إذ لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى لأنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل الموت نسمع بسمع القلوب نداء الملك الجبار {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} فالحمد لله الذي ميزنا عن الكفار وأسمعنا هذا النداء قبل انقضاء الأعمار
الطرف الثامن في بيان نعمة الله تعالى في خلق الملائكة عليهم السلام
ليس يخفى عليك ما سبق من نعمة الله في خلق الملائكة بإصلاح الأنبياء عليهم السلام وهدايتهم وتبليغ الوحي إليهم ولا تظنن أنهم مقتصرون في أفعالهم على ذلك القدر بل طبقات الملائكة مع كثرتها وترتيب مراتبها تنحصر بالجملة في ثلاث طبقات الملائكة الأرضية والسماوية وحملة العرش فانظر كيف وكلهم الله تعالى بك فيما يرجع إلى الأكل والغذاء الذي ذكرناه دون ما يجاوز ذلك من الهداية والإرشاد وغيرهما واعلم أن كل جزء من أجزاء بدنك بل من أجزاء النبات لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة هو أقله إلى عشرة إلى مائة إلى ما وراء ذلك وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء وقد تلف وذلك الغذاء يصير دماً في آخر الأمر ثم يصير لحماً وعظما وإذا صار لحماً وعظماً تم اغتذاؤك والدم واللحم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار فهي لا تتحرك بأنفسها ولا تتغير بأنفسها ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها كما أن البر بنفسه لا يصير طحيناً ثم عجيناً ثم خبزاً مستديراً مخبوزاً إلا بصناع فكذلك الدم بنفسه لا يصير لحماً وعظماً وعروقاً وعصباً إلا بصناع والصناع في الباطن هم الملائكة كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد وقد أسبغ الله تعالى عليك نعمه ظاهرة وباطنة فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة فأقول لا بد من ملك يجذب الغذاء إلى جوار اللحم والعظم فإن الغذاء لا يتحرك بنفسه ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره ولا بد من ثالث يخلع عليه صورة الدم ولا بد من رابع يكسوه صورة اللحم والعروق أو العظم ولا بد من خامس يدفع الفضل الفاضل عن حاجة الغذاء ولا بد من سادس يلصق ما اكتسب صفة العظم بالعظم وما اكتسب صفة اللحم باللحم حتى لا يكون منفصلاً ولا بد من سابع يرعى المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته وبالعريض ما لا يزيل عرضه وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه ويحفظ على كل واحد قدر حاجته فإنه لو جمع مثلاً من الغذاء على أنف الصبي ما يجمع على فخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه وتشوهت صورته وخلقته بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها وإلى الحدقة مع صفائها وإلى الأفخاذ مع غلظها وإلى العظم مع صلابته ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل وإلا بطلت الصورة(4/120)
وربا بعض المواضع وضعف بعض المواضع بل لو لم يراع هذا الملك العادل في القسمة والتقسيط فساق إلى رأس الصبي وسائر بدنه من الغذاء ما ينمو به إلا إحدى الرجلين مثلاً لبقيت تلك الرجل كما كانت في حد الصغر وكبر جميع البدن فكنت ترى شخصاً في ضخامة رجل وله رجل واحدة كأنها رجل صبي فلا ينتفع بنفسه البتة فمراعاة هذه الهندسة في هذه القسمة مفوضة إلى ملك من الملائكة ولا تظنن أن الدم بطبعه يهندس شكل نفسه فإن محيل هذه الأمور على الطبع جاهل لا يدري ما يقول فهذه هي الملائكة الأرضية وقد شغلوا بك وأنت في النوم تستريح وفي الغفلة تتردد وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم وذلك في كل جزء من أجزائك الذي لا يتجزأ حتى يفتقر بعض الأجزاء كالعين والقلب إلى أكثر من مائة ملك تركنا تفصيل ذلك للإيجاز والملائكة الأرضية مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم لا يحيط بكنهه إلا الله تعالى ومدد الملائكة السماوية من حملة العرش والمنعم على جملتهم بالتأييد والهداية والتسديد المهيمن القدوس المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت جبار السموات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام والأخبار الواردة في الملائكة الموكلين بالسموات والأرض وأجزاء النبات والحيوانات حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب (1) أكثر من أن تحصى فلذلك تركنا الاستشهاد به
فإن قلت فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد ولم أفتقر إلى سبعة أملاك والحنطة أيضاً تحتاج إلى من يطحن أولاً ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع الفضلة ثانياً ثم إلى من يصب الماء عليه ثالثاً ثم إلى من يعجن رابعاً ثم إلى من يقطعه كرات مدورة خامساً ثم إلى من يرقها رغفاناً عريضة سادساً ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعاً ولكن قد يتولى جميع ذلك رجل واحد يستقل به فهلا كانت أعمال الملائكة باطناً كأعمال الإنس ظاهراً فاعلم أن خلقة الملائكة تخالف خلقة الإنس وما من واحد منهم إلا وهو وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب البتة فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد وإليه الإشارة بقوله تعالى وما منا إلا وله مقام معلوم فلذلك ليس بينهم تنافس وتقاتل بل مثالهم في تعين مرتبة كل واحد منهم وفعله مثال الحواس الخمس فإن البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمها ولا هما يتنازعان الشم وليس كاليد والرجل فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشاً ضعيفاً فتزاحم به اليد وقد تضرب غيرك برأسك فتزاحم اليد التي هي آلة الضرب ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول عن العدل سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه فإنه ليس وحداني الصفة فلم يكن وحداني الفعل ولذلك نرى الإنسان يطيع الله مرة ويعصيه أخرى لاختلاف دواعيه وصفاته وذلك غير ممكن في طباع الملائكة بل هم مجبولون على الطاعة
_________
(1) حديث الأخبار الواردة في الملائكة الموكلين بالسموات والأرضين وأجزاء النبات والحيوانات حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب ففى الصحيحين من حديث أبى ذر فى قصة الإسراء قال جبريل لخازن السماء الدنيا افتح وفيه أتى السماء الثانية فقال لخازنها افتح الحديث ولهما من حديث أبى هريرة إن لله ملائكة سياحين يبدونى عن أمتى السلام وفى الصحيحين من حديث عائشة فى قصة عرضه نفسه على عبد ياليل فنادانى ملك الجبال إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين الحديث ولهما من حديث أنس إن الله وكل بالرحم ملكا الحديث وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث بريدة الأسلمى ما من نبت ينبت إلا وتحته ملك موكل حتى يحصد الحديث وفيه محمد بن صالح الطبرى وأبو بحر البكراوى واسمه عثمان بن عبد الرحمن وكلاهما ضعيف وللطبراني من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف إن لله ملائكة ينزلون فى كل ليلة يحسون الكلال عن دواب الغزاة إلا دابة فى عنقها جرس وللترمذى وحسنه من حديث ابن عباس قالت اليهود يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد قال ملك من الملائكة موكل بالسحاب ولمسلم من حديث أبى هريرة بينما رجل بفلاة من الأرض سمع صوتا من سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماء فى حرة الحديث(4/121)
ضي الله عنه ضي الله عنه عليه السلام ضي الله عنه ضي الله عنه ضي الله عنه لا مجال للمعصية في حقهم فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون والراكع منهم راكع أبداً والساجد منهم ساجد أبداً والقائم قائم أبداً لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور ولكل واحد مقام معلوم لا يتعداه وطاعتهم لله تعالى من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن تشبه بطاعة أطرافك لك فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف في طاعتك مرة ومعصيتك أخرى بل كأنه منتظر لأمرك ونهيك ينفتح وينطبق متصلاً بإشارتك فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحاً وإطباقاً والملائكة أحياء عالمون بما يعملون فإذن هذه نعمة الله عليك في الملائكة الأرضية والسماوية وحاجتك إليها في غرض الأكل فقط دون ما عداها من الحركات والحاجات كلها فإنا لم نطول بذكرها فهذه طبقة أخرى من طبقات النعم ومجامع الطبقات لا يمكن إحصاؤها فكيف آحاد ما يدخل تحت مجامع الطبقات فإذن قد أسبغ الله تعالى نعمه عليك ظاهرة وباطنة ثم قال وذروا ظاهر الإثم وباطنه فترك باطن الإثم مما لا يعرفه الخلق من الحسد وسوء الظن والبدعة وإضمار الشر للناس إلى غير ذلك من آثام القلوب هو الشكر للنعم الباطنة وترك الإثم الظاهر بالجوارح شكر للنعمة الظاهرة بل أقول كل من عصى الله تعالى ولو فى طريفة واحدة بأن فتح جفنه مثلا حيث يجب غض البصر فقد كفر كل نعمة لله تعالى عليه في السموات والأرض وما بينهما فإن كل ما خلقه الله تعالى حتى الملائكة والسموات والأرض والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد نم به انتفاعه وإن انتفع غيره أيضاً به فإن لله تعالى في كل تطريفة بالجفن نعمتين في نفس الجفن إذ خلق تحت كل جفن عضلات ولها أوتار ورباطات متصلة بأعصاب الدماغ بها يتم انخفاض الجفن الأعلى وارتفاع الجفن الأسفل وعلى كل جفن شعور سود ونعمة الله تعالى في سوادها أنها تجمع ضوء العين إذ البياض يفرق الضوء والسواد يجمعه ونعمة الله تعالى في ترتيبها صفاً واحداً أن يكون مانعاً للهوام من الدبيب إلى باطن العين ومتشبثا للأفذاء التي تتناثر في الهواء وله في كل شعرة منها نعمتان من حيث لين أصلها ومع اللين قوام نصبها وله في اشتباك الأهداب نعمة أعظم من الكل وهو أن غبار الهواء قد يمنع من فتح العين ولو طبق لم يبصر فيجمع الأجفان مقدار ما تتشابك الأهداب فينظر من وراء شباك الشعر فيكون شباك الشعر مانعاً من وصول القذى من خارج وغير مانع من امتداد البصر من داخل ثم إن أصاب الحدقة غبار فقد خلق أطراف الأجفان خادمة منطبقة على الحدقة كالمصقلة للمرآة فيطبقها مرة أو مرتين وقد انصقلت الحدقة من الغبار وخرجت الأقذاء إلى زوايا العين والأجفان والذباب لما لم يكن لحدقته جفن خلق له يدين فتراه على الدوام يمسح بهما حدقتيه ليصقلهما من الغبار وإذ تركنا الاستقصاء لتفاصيل النعم لافتقاره إلى تطويل يزيد على أصل هذا الكتاب ولعلنا نستأنف له كتاباً مقصوداً فيه إن أمهل الزمان وساعد التوفيق نسميه عجائب صنعالله تعالى فلنرجع إلى غرضنا فنقول من نظر إلى غير محرم فقد كفر بفتح العين نعمة الله تعالى في الأجفان ولا تقوم الأجفان إلا بعين ولا العين إلا برأس ولا الرأس إلا بجميع البدن ولا البدن إلا بالغذاء ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسموات ولا السموات إلا بالملائكة فإن الكل كالشيء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض فإذن قد كفر كل نعمة في الوجود من منتهى الثريا إلى منتهى الثرى فلم يبق فلك ولا ملك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد إلا ويلعنه ولذا ورد في الأخبار إن البقعة التي يجتمع فيها الناس إما أن تلعنهم إذا تفرقوا أو تستغفر لهم (1) وكذلك ورد أن العالم يستغفر
_________
(1) حديث أن البقعة التى اجتمع فيها الناس تلعنهم أو تستغفر لهم لم أجد له أصلا(4/122)
عليه السلام عليه السلام عليه السلام ضي الله عنه له كل شيء حتى الحوت فى البحر (1) وأن الملائكة يلعنون العصاة (2) في ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصاؤها وكل ذلك إشارة إلى أن العاصيبتطريفة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها فيتبدل اللعن بالاستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام يا أيوب ما من عبد لي من الآدميين إلا ومعه ملكان فإذا شكرني على نعمائى قال الملكان اللهم زده نعماً على نعم فإنك أهل الحمد والشكر فكن من الشاكرين قريباً فكفى بالشاكرين علو رتبة وعندي أني أشكر شكرهم وملائكتي يدعون لهم والبقاع تحبهم والآثار تبكي عليهم
وكما عرفت أن في كل طرفة عين نعماً كثيرة فاعلم أن في كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب ولو لم يخرج لهلك وبانقباضه يجمع روح الهواء إلى القلب ولو سد متنفسه لاحترق قلبه بانقطاع روح الهواء وبرودته عنه وهلك بل اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وفي كل ساعة قريب من ألف نفس وكل نفس قريب من عشر لحظات فعليك في كل لحظة آلاف آلاف نعمة في كل جزء من أجزاء بدنك بل في كل جزء من أجزاء العالم فانظر هل يتصور إحصاء ذلك أم لا ولما انكشف لموسى عليه السلام حقيقة قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قال إلهي كيف أشكرك ولك في كل شعرة من جسدي نعمتان أن لينت أصلها وأن طمست رأسها وكذا ورد في الأثر أن من لم يعرف نعم الله في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه
وجميع ما ذكرناه يرجع إلى المطعم والمشرب فاعتبر ما سواه من النعم به فإن البصير لا تقع عينه في العالم على شيء ولا يلم خاطره بموجود إلا ويتحقق أن لله فيه نعمة عليه فلنترك الاستقصاء والتفصيل فإنه طمع في غير مطمع
بيان السَّبَبُ الصَّارِفُ لِلْخَلْقِ عَنِ الشُّكْرِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ بِالْخَلْقِ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالْغَفْلَةُ فَإِنَّهُمْ مُنِعُوا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ النِّعَمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ شُكْرُ النِّعْمَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ عَرَفُوا نِعْمَةً ظَنُّوا أَنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَعْنَى الشُّكْرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ النِّعْمَةَ فِي إِتْمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ بِهَا وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الشُّكْرِ بَعْدَ حُصُولِ هَاتَيْنِ الْمَعْرِفَتَيْنِ إِلَّا غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ وَاسْتِيلَاءُ الشيطان
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب وأحد أسبابها أن الناس يجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق ويسلم لهم في جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه من النعم لأنها عامة للخلق مبذولة لهم في جميع أحوالهم فلا يرى كل واحد لنفسه منهم اختصاصاً به فلا يعده نعمة ولا تراهم يشكرون الله على روح الهواء ولو أخذ بمختنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا في بيت حمام فيه هواء حار أو في بئر فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غماً فإن ابتلى واحد منهم بشيء من ذلك ثم نجا ربما قدر ذلك نعمة وشكر الله عليها وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال والنعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها فلا ترى البصير يشكر صحة بصره إلا أن تعمى عينيه فعند ذلك لو أعيد عليه بصره
_________
(1) حديث إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحوت فى البحر تقدم فى العلم
(2) حديث إن الملائكة يلعنون العصاة أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة وإن كان أخاه لأبيه وأمه(4/123)
أحس به وشكره وعده نعمة ولما كانت رحمة الله واسعة عمم الخلق وبذل لهم في جميع الأحوال فلم يعده الجاهل نعمة وهذا الجاهل مثل العبد السوء حقه أن يضرب دائماً حتى إذا ترك ضربه ساعة تقلد به منة فإن ترك ضربه على الدوام غلبه البطر وترك الشكر فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم كما شكا بعضهم فقره إلى بعض أرباب البصائر وأظهر شدة اغتمامه به فقال له أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم فقال لا فقال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم فقال لا فقال أيسرك أن أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً فقال لا فقال أيسرك أنك مجنون ولك عشر آلاف درهم فقال لا فقال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً
وحكي أن بعض القراء اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له تود أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألف دينار قال لا قال فسورة هود قال لا قال فسورة يوسف قال لا فعدد عليه سوراً ثم قال فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو فأصبح وقد سري عنه
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء وبيده كوز ماء يشربه فقال له عظني فقال لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان فهل كنت تعطيه قال نعم فقال لو لم تعط إلا بملكك كله فهل كنت تتركه قال نعم قال فلا تفرح بملك لا يساوي شربة ماء
فهذا تبين أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها وإذا كانت الطباع مائلة إلى اعتداد النعمة الخاصة دون العامة وقد ذكرنا النعم العامة فلنذكر إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة فنقول ما من عبد إلا ولو أمعن النظر في أحواله رأى من الله نعمة أو نعماً كثيرة تخصه لا يشاركه فيها الناس كافة بل يشاركه عدد يسير من الناس وربما لا يشاركه فيها أحد وذلك يعترف به كل عبد في ثلاثة أمور في العقل والخلق والعلم
أما العقل فما من عبد لله تعالى إلا وهو راض عن الله في عقله يعتقد أنه أعقل الناس وقل من يسأل الله العقل وإن من شرف العقل أن يفرح به الخالي عنه كما يفرح به المتصف به فإذا كان اعتقاده أنه أعقل الناس فواجب عليه أن يشكره لأنه إن كان كذلك فالشكر واجب عليه وإن لم يكن ولكنه يعتقد أنه كذلك فهو نعمة في حقه فمن وضع كنزاً تحت الأرض فهو يفرح به ويشكره عليه فإن أخذ الكنز من حيث لا يدري فيبقى فرحه بحسب اعتقاده ويبقى شكره لأنه في حقه كالباقي
وأما الخلق فما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها وأخلاقاً يذمها وإنما يذمها من حيث يرى نفسه بريئاً عنها فإذا لم يشتغل بذم الغير فينبغي أن يشتغل بشكر الله تعالى إذ حسن خلقه وابتلى غيره بالخلق السىء
وأما العلم فما من أحد إلا ويعرف بواطن أمور نفسه وخفايا أفكاره وما هو منفرد به ولو كشف الغطاء حتى اطلع عليه أحد من الخلق لافتضح فكيف لو اطلع الناس كافة فإذن لكل عبد علم بأمر خاص لا يشاركه فيه أحد من عباد الله فلم لا يشكر ستر الله الجميل الذي أرسله على وجه مساويه فأظهر الجميل وستر القبيح وأخفى ذلك عن أعين الناس وخصص علمه به حتى لا يطلع عليه أحد فهذه ثلاثة من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما مطلقاً وأما في بعض الأمور فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلاً فنقول ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو أقاربه أو عزه أو جاهه أو في سائر محابه أموراً(4/124)
لو سلب ذلك منه وأعطي ما خصص به غيره لكان لا يرضى به وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً وحياً لا جماداً وإنساناً لا بهيمة وذكراً لا أنثى وصحيحاً لا مريضاً وسليماً لا معيباً فإن كل هذه خصائص وإن كان فيها عموم أيضاً فإن هذا الأحوال لو بدلت بأضدادها لم يرض بها بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضاً وذلك إما أن يكون بحيث لا يبدله بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر فإذا كان لا يبدل حال نفسه بحال غيره فإذن حاله أحسن من حال غيره وإذا كان لا يعرف شخص يرتضي لنفسه حالة بدلاً عن حال نفسه إما على الجملة وإما في أمر خاص فإذن لله عليه نعم ليست له على أحد من عباده سواه وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده فإنه لا محالة يراهم أقل بالإضافة إلى غيرهم فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير مما هو فوقه فما باله ينظر إلى من فوقه ليزدري نعم الله تعالى على نفسه ولا ينظر إلى من دونه ليستعظم نعم الله عليه وما باله لا يسوي دنياه بدينه أليس إذا لامته نفسه على سيئة يقارفها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة فينظر أبداً في الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه فلم لا يكون نظره في الدنيا كذلك فإذا كان حال أكثر الخلق فى الدين خيرا منه وحاله في الدنيا خير من حال أكثر الخلق فكيف لا يلزمه الشكر وإذا قال صلى الله عليه وسلم من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابراً وشاكراً ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه وفي الدين إلى من هو دونه لم يكتبه الله صابراً ولا شاكراً (1) حديث من أتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله أخرجه البخارى فى التاريخ من حديث رجاء الفنوي بلفظ من آتاه الله حفظ كتابه وظن أن أحداً أوتي أفضل مما أوتى فقد صغر أعظم النعم وقد تقدم فى فضل القرآن ورجاء مختلف فى صحبته وورد من حديث عبد الله بن عمرو وجابر والبراء نحوه وكلها ضعيفة (2) حديث ليس منا من لم يتغنى بالقرآن تقدم فى أداب التلاوة (3) حديث كفى باليقين غنى رواه الطبرانى من حديث عقبة بن عامر ورواه ابن أبى الدنيا فى القناعة موقوفا عليه وقد تقدم // وقال بعض السلف يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة إن عبداً أغنيته عن ثلاثة لقد أتممت عليه نعمتي عن سلطان يأتيه وطبيب يداويه وعما في يد أخيه وعبر الشاعر عن هذا فقال
إذا ما القوت يأتيك ... كذا الصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
_________
(1) حديث من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابرا وشاكرا الحديث أخرجه الترمذى من حديث عبد الله بن عمرو وقال غريب وفيه المثنى بن الصباح ضعيف لا غناء بعده ولا فقر معه أخرجه أبو يمنى والطبرانى من حديث أنس بسند ضعيف بلفظ أن القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه قال الدارقطنى رواه أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد الرقاشى عن الحسن مرسلا وهو أشبه بالصوابفإذن كل من اعتبر حال نفسه وفتش عما خص به وحد الله تعالى على نفسه نعماً كثيرة لا سيما من خص بالسنة والإيمان والعلم والقرآن ثم الفراغ والصحة والأمن وغير ذلك وقيل
من شاء عيشا رحيل يستطيل به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظر إلى من فوقه ورعاً ... ولينظرن إلى من دونه مالا
وقال صلى الله عليه وسلم من يستغن بآيات الله فلا أغناه الله وهذا إشارة إلى نعمة العلم وقال عليه السلام إن القرآن هو الغنى الذي لا غنى بعده ولا فقر معه وقال عليه السلام من أتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله
(2) وقال صلى الله عليه سلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن
(3) وقال عليه السلام كفى باليقين غنى(4/125)
بل أرشق العبارات وأفصح الكلمات كلام أفصح من نطق بالضاد حيث عبر صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى فقال من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها (1) ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع أنها وبال عليهم ولا يشكرون نعمة الله في هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم في الإيمان الذي به وصولهم إلى النعيم المقيم والملك العظيم بل البصير بنبغى أن لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى المغرب من أموال وأتباع وأنصار وقيل له خذها عوضاً عن علمك بل عن عشر عشير علمك لم يأخذه وذلك لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله تعالى في الآخرة بل لو قيل له لك في الآخرة ما ترجوه بكماله فخذ هذه اللذات في الدنيا بدلاً عن التذاذك بالعلم في الدنيا وفرحك به لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع وباقية لا تسرق ولا تعصب ولا ينافس فيها وأنها صافية لا كدورة فيها ولذات الدنيا كلها ناقصة مكدرة مشوشة لا يفي مرجوها بمخوفها ولا لذتها بألمها ولا فرحها بغمها هكذا كانت إلى الآن وهكذا تكون ما بقي من الزمان إذ ما خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع حتى إذا انخدعت وتقيدت بها أبت عليها واستعصت كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق الغني حتى إذا تقيد بها قلبه استعصت عليه واحتجبت عنه فلا يزال معها في تعب قائم وعناء دائم وكل ذلك باغتراره بلذة النظر إليها في لحظة ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع عمره فهكذا وقعت أرباب الدنيا في شباك الدنيا وحبائلها ولا ينبغي أن نقول إن المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها فإن المقبل عليها أيضاً متألم بالصبر عليها وحفظها وتحصيلها ودفع اللصوص عنها وتألم المعرض يفضي إلى لذة في الآخرة وتألم المقبل يفضي إلى الألم في الآخرة فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون فإذن إنما انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة والباطنة والخاصة والعامة
فإن قلت فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر فأقول أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى العامة وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصتها أو شعرت بالبلاء معها فسبيله أن ينظر أبداً إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض الصوفية إذ كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر والمواضع التي تقام فيها الحدود فكان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض ويشكر الله تعالى ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من الجنايات ومن تلك العقوبات ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن ويحضر المقابر فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوماً واحداً أما من عصى الله تعالى فليتدارك وأما من أطاع فليزد في طاعته فإن يوم القيامة يوم التغابن فالمطيع مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبني إذ ضيعت بعض الأوقات فى المباحات وأما العاصي فغبنه ظاهر فإذا شاهد المقابر وعلم أن أحب الأشياء إليهم أن يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي أهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر بل في الإمهال في كل نفس من الأنفاس وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله وهو التزود من الدنيا للآخرة فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى
_________
(1) حديث من أصبح آمناً في سربه الحديث تقدم غير مرة(4/126)
فعساها تشكر وقد كان الربيع بن خيثم مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيد اللمعرفة فكان قد حفر في داره قبراً فكان يضع غلا في عنقه وينام في لحده ثم يقول رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً ثم يقوم ويقول يا ربيع قد أعطيت ما سألت فاعمل قبل أن تسأل الرجوع فلا ترد
ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن تعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت ولم تعد ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول عليكم بملازمة الشكر على النعم فقل نعمة زالت عن القوم فعاذت إليهم وقال بعض السلف النعم وحشية فقيدوها بالشكر وفي الخبر ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال (1) وقال الله سبحانه وتعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا تمام هذا الركن
الركن الثالث من كتاب الصبر والشكر
فيما يشترك فيه الصبر والشكر ويرتبط أحدهما بالآخر
بيان وجه اجتماع الصبر والشكر على شيء واحد
لعلك تقول ما ذكرته في النعم إشارة إلى إن لله تعالى في كل موجود نعمة وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلاً فما معنى الصبر إذن وإن كان البلاء موجوداً فما معنى الشكر على البلاء وقد ادعى مدعون أنا نشكر على البلاء فضلاً عن الشكر على النعمة فكيف يتصور الشكر على البلاء وكيف يشكر على ما يصبر عليه والصبر على البلاء يستدعي ألماً والشكر يستدعي فرحاً وهما يتضادان وما معنى ما ذكرتموه من أن لله تعالى في كل ما أوجده نعمة على عباده فاعلم أن البلاء موجود كما أن النعمة موجودة والقول بإثبات النعمة يوجب القول بإثبات البلاء لأنهما متضادان ففقد البلاء نعمة وفقد النعمة بلاء ولكن قد سبق أن النعمة تنقسم إلى نعمة مطلقة من كل وجه أما في الآخرة فكسعادة العبد بالنزول في جوار الله تعالى وأما في الدنيا فكالإيمان وحسن الخلق وما يعين عليهما وإلى نعمة مقيدة من وجه دون وجه كالمال الذي يصلح الدين من وجه ويفسده من وجه فكذلك البلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد أما المطلق في الآخرة فالبعد من الله تعالى إما مدة وإما أبداً
وأما في الدنيا فالكفر والمعصية وسوء الخلق وهي التي تفضي إلى البلاء المطلق
وأما المقيد فكالفقر والمرض والخوف وسائر أنواع البلاء التي لا تكون بلاء في الدين بل في الدنيا فالشكر المطلق للنعمة المطلقة وأما البلاء المطلق في الدنيا فقد لا يؤمر بالصبر عليه لأن الكفر بلاء ولا معنى للصبر عليه وكذا المعصية بل حق الكافر أن يترك كفره وكذا حق العاصي نعم الكافر قد لا يعرف أنه كافر فيكون كمن به علة وهو لا يتألم بسبب غشية أو غيرها فلا صبر عليها والعاصي يعرف أنه عاصٍ فعليه ترك المعصية بل كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يؤمر بالصبر عليه فلو ترك الإنسان الماء مع طول العطش حتى عظم تألمه فلا يؤمر بالصبر عليه بل يؤمر بإزالة الألم وإنما الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته فإذن يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق بل يجوز أن يكون نعمة من وجه فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الصبر والشكر فإن الغنى مثلاً يجوز أن يكون
_________
(1) حديث ما عظمت نعمة الله على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه الحديث أخرجه ابن عدى وابن حبان فى الضعفاء من حديث معاذ بن جبل بلفظ إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المونة الحديث ورواه ابن حبان فى الضعفاء من حديث ابن عباس وقال أنه موضوع على حجاج الأعور(4/127)
سبباً لهلاك الإنسان حتى يقصد بسبب ما له فيقتل وتقتل أولاده والصحة أيضاً كذلك فما من نعمة من هذه النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تصير بلاء ولكن بالإضافة إليه فكذلك ما من بلاء إلا ويجوز أن يصير نعمة ولكن بالإضافة إلى حالة فرب عبد تكون الخيرة له فِي الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ صَحَّ بَدَنُهُ وَكَثُرَ مَالُهُ لَبَطِرَ وَبَغَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ تَعَالَى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رآه استغنى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه (1) وكذلك الزوجة والولد والقريب وكل ما ذكرناه في الأقسام الستة عشر من النعم سوى الإيمان وحسن الخلق فإنها يتصور أن تكون بلاء في حق بعض الناس فتكون أضدادها إذن نعماً في حقهم إذ سبق أن المعرفة كمال ونعمة فإنها صفة من صفات الله تعالى ولكن قد تكون على العبد في بعض الأمور بلاء ويكون فقدها نعمة مثاله جهل الإنسان بأجله فإنه نعمة عليه إذ لو عرفه ربما تنغص عليه العيش وطال بذلك غمه وكذلك جهله بما يضمره الناس عليه من معارفه وأقاربه نعمة عليه إذ لو رفع الستر واطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام وكذلك جهله بالصفات المذمومة من غيره نعمة عليه إذ لو عرفها أبغضه وآذاه وكان ذلك وبالاً عليه في الدنيا والآخرة بل جهله بالصفات المحمودة في غيره قد يكون نعمة عليه فإنه ربما يكون ولياً لله تعالى وهو يضطر إلى إيذائه وإهانته ولو عرف ذلك وآذى كان إثمه لا محالة أعظم فليس من آذى نبياً أو ولياً وهو يعرف كمن آذى وهو لا يعرف ومنها إبهام الله تعالى أمر القيامة وإبهامه ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وإبهامه بعض الكبائر فكل ذلك نعمة لأن هذا الجهل يوفر دواعيك على الطلب والاجتهاد فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل فكيف في العلم وحيث قلنا إن لله تعالى في كل موجود نعمة فهو حق وذلك مطرد في حق كل أحد ولا يستثنى عنه بالظن إلا الآلام التي يخلقها في بعض الناس وهي أيضاً قد تكون نعمة في حق المتألم بها فإن لم تكن نعمة في حقه كالألم الحاصل من المعصية كقطعه يد نفسه ووشمه بشرته فإنه يتألم به وهو عاص به وألم الكفار في النار فهو أيضاً نعمة ولكن في حق غيرهم من العباد لا في حقهم لأن مصائب قوم عند قوم فوائد ولولا أن الله تعالى خلق العذاب وعذب به طائفة لما عرف المتنعمون قدر نعمه ولو كثر فرحهم بها ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار أما ترى أهل الدنيا ليس يشتد فرحهم بنور الشمس مع شدة حاجتهم إليه من حيث إنها عامة مبذولة ولا يشتد فرحهم بالنظر إلى زينة السماء وهي أحسن من كل بستان لهم في الأرض يجتهدون في عمارته ولكن زينة السماء لما عمت لم يشعروا بها ولم يفرحوا بسببها فإذن قد صح ما ذكرناه من أن اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا وَفِيهِ حكمة ولا خلق شيئاً إلا وفيه نعمة إما على جميع عباده أو على بعضهم فَإِذَنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَلَاءُ نِعْمَةٌ أَيْضًا إِمَّا عَلَى الْمُبْتَلَى أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمُبْتَلَى فَإِذَنْ كُلُّ حَالَةٍ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَلَاءٌ مُطْلَقٌ وَلَا نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا عَلَى الْعَبْدِ وَظِيفَتَانِ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا
فَإِنْ قُلْتَ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ إِذْ لَا صَبْرَ إِلَّا عَلَى غَمٍّ وَلَا شُكْرَ إِلَّا على فرح فاعلم أن الشيء الوحيد قَدْ يُغْتَمُّ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيُفْرَحُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيَكُونُ الصَّبْرُ مِنْ حَيْثُ الِاغْتِمَامُ وَالشُّكْرُ مِنْ حَيْثُ الْفَرَحُ وَفِي كُلِّ فَقْرٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ وَبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَةُ أمور ينبغي أن يفرح الغافل بِهَا وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا أَحَدُهَا أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ وَمَرَضٍ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهَا إِذْ مَقْدُورَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَنَاهَى فَلَوْ ضَعَّفَهَا الله
_________
(1) حديث إن الله ليحمي عبده من الدنيا الحديث أخرجه الترمذى وحسنه والحاكم وصححه وقد تقدم(4/128)
تعالى وَزَادَهَا مَاذَا كَانَ يَرُدُّهُ وَيَحْجِزُهُ فَلْيَشْكُرْ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا الثَّانِي أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ فِي دينه قال رجل لسهل رضي الله تعالى عنه دخل اللص بيتي وأخذ متاعي فقال اشكر الله تعالى لو دخل الشيطان قلبك فأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع ولذلك استعاذ عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه إذ قال اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم إذ لم يكن في ديني وإذ لم يكن أعظم منه وإذ لم أحرم الرضا به وإذ أرجو الثواب عليه وكان لبعض أرباب القلوب صديق فحبسه السلطان فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه فقال له اشكر الله فضربه فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه فقال اشكر الله فجيء بمجوسي فحبس عنده وكان مبطوناً فقيد وجعل حلقة من قيده في رجله وحلقة في رجل المجوسي فأرسل إليه فقال اشكر الله فكان المجوسي يحتاج إلى أن يقوم مرات وهو يحتاج إلى أن يقوم معه ويقف على رأسه حتى يقضي حاجته فكتب إليه بذلك فقال اشكر الله فقال إلى متى هذا وأي بلاء أعظم من هذا فقال لو جعل الزنار الذي في وسطه على وسطك ماذا كنت تصنع فإذن ما من إنسان أصيب ببلاء إلا ولو تأمل حق التأمل في سوء أدبه ظاهراً وباطناً في حق مولاه لكان يرى أنه يستحق أكثر مما أصيب به عاجلا وآجلا ومن استحق عليك أن يضربك مائة سوط فاقتصر على عشرة فهو مستحق للشكر ومن استحق عليك أن يقطع يديك فترك إحداهما فهو مستحق للشكر ولذلك مر بعض الشيوخ في شارع فصب على رأسه طشت من رماد فسجد لله تعالى سجدة الشكر فقيل له ما هذه السجدة فقال كنت أنتظر أن تصب علي النار فالاقتصار على الرماد نعمة وقيل لبعضهم لا تخرج إلى الاستسقاء فقد احتبست الأمطار فقال أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجر
فإن قلت كيف أفرح وأرى جماعة ممن زادت معصيتهم على معصيتي ولم يصابوا بما أصبت به حتى الكفار فاعلم أن الكافر قد خبىء له ما هو أكثر وإنما أمهل حتى يستكثر من الإثم ويطول عليه العقاب كما قال تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً وأما المعاصي فمن أين تعلم أن في العالم من هو أعصى منه ورب خاطر بسوء أدب في حق الله تعالى وفى صفاته أعظم وأطم من شرب الخمر والزنا وسائر المعاصي بالجوارح ولذلك قال تعالى في مثله وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم فمن أين تعلم أن غيرك أعصى منك ثم لعله قد أخرت عقوبته إلى الآخرة وعجلت عقوبتك في الدنيا فلم لا تشكر الله تعالى على ذلك وهذا هو الوجه الثالث في الشكر وهو أنه ما من عقوبة إلا وكان يتصور أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْآخِرَةِ وَمَصَائِبُ الدُّنْيَا يُتَسَلَّى عَنْهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ تَهُونُ الْمُصِيبَةُ فَيَخِفُّ وَقْعُهَا ومصيبة الآخرة تدوم وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلي إذ أسباب التسلي مقطوعة بالكلية في الآخرة عن المعذبين ومن عجلت عقوبته في الدنيا فلا يعاقب ثانياً إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن العبد إذا أذنب ذنباً فأصابته شدة أو بلاء في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً (1) الرَّابِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ وَالْبَلِيَّةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهَا إِلَيْهِ وَقَدْ وَصَلَتْ وَوَقَعَ الْفَرَاغُ وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْضِهَا أَوْ مِنْ جَمِيعِهَا فَهَذِهِ نعمة الخامس أن ثوابها
_________
(1) حديث إن العبد إذا أذنب ذنبا فأصابه شدة وبلاء في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث على من أصاب فى الدنيا ذنبا عوقب به فالله أعدل من أن يلي عقوبته على عبده الحديث لفظ ابن ماجه وقال الترمذي من أصاب حدا فعجل عقوبته فى الدنيا وقال حسن وللشيخين من حديث عبادة بن الصامت ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له الحديث(4/129)
أَكْثَرُ مِنْهَا فَإِنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا طُرُقٌ إِلَى الآخرة من وجهين أحدهما الوجه الذي يكون به الدواء الكريه نعمة في حق المريض ويكون المنع من أسباب اللعب نعمة حق الصبي فإنه لو خلي واللعب كان يمنعه ذلك عن العلم والأدب فكان يخسر جميع عمره فكذلك المالى والأهل والأقارب والأعضاء حتى العين التي هي أعز الأشياء قد تكون سبباً لهلاك الإنسان في بعض الأحوال بل العقل الذي هو أعز الأمور قد يكون سبباً لهلاكه فالملحدة غداً يتمنون لو كانوا مجانين أو صبياناً ولم يتصرفوا بعقولهم في دين الله تعالى فما من شيء من هذه الأسباب يوجد من العبد إلا ويتصور أن يكون له فيه خيرة دينية فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويقدر فيه الخيرة ويشكره عليه فإن حكمة الله واسعة وهو بمصالح العباد أعلم من العباد وغداً يشكره العباد على البلايا إذا رأوا ثواب الله على البلايا كما يشكر الصبي بعد العقل والبلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه إذيدرك ثمرة ما استفاده من التأديب والبلاء من الله تعالى تأديب وعنايته بعباده أتم وأوفر من عناية الآباء بالأولاد فقد روي أن رجلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصني قال لا تتهم الله في شيء قضاه عليك (1) ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فضحك فسئل فقال عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً له وإن قضى له بالضراء رضي وكان خيراً له (2) الوجه الثاني أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عن دار الغرور ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها وأنسه بها حتى تصير كالجنة في حقه فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يسكن إليها ولم يأنس بها وصارت سجناً عليه وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (3) والكافر كل من أعرض عن الله تعالى ولم يرد إلا الحياة الدنيا ورضي بها واطمأن إليها والمؤمن كل منقطع بقلبه عن الدنيا شديد الحنين إلى الخروج منها والكفر بعضه ظاهر وبعضه خفي وبقدر حب الدنيا في القلب يسري فيه الشرك الخفي بل الموحد المطلق هو الذي لا يحب إلا الواحد الحق فإذن في البلاء نعم من هذا الوجه فيجب الفرح به وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجاناً أو يسقيك دواءً نافعاً بشعاً مجاناً فإنك تتألم وتفرح فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح فكل بَلَاءٍ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِثَالُهُ الدَّوَاءُ الَّذِي يؤلم في الحال وينفع في المآل بل من دخل دار ملك للنضارة وعلم أنه يخرج منها لا محالة فرأى وجهاً حسناً لا يخرج معه من الدار كان ذلك وبالاً وبلاءً عليه لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه والدنيا منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم وهم خارجون عنها من باب اللحد فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة فَمَنْ عَرَفَ هَذَا تُصُوِّرَ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى الْبَلَايَا وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ النِّعَمَ فِي الْبَلَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ لِأَنَّ الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة
_________
(1) حديث قال له رجل أوصني قال لا تتهم الله فى شىء قضاه عليك رواه أحمد والطبرانى من حديث عبادة بزيادة فى أوله وفى إسناده ابن لهيعة
(2) حديث نظر إلى السماء فضحك فسئل فقال عجبت لقضاء الله للمؤمن الحديث أخرجه مسلم من حديث صهيب دون نظره إلى السماء وضحكه عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وللنسائى فى اليوم والليلة من حديث سعد بن أبي وقاص عجبت من رضا الله للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر الحديث
(3) حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وقد تقدم(4/130)
وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ أَكْبَرُ مِنَ الْمُصِيبَةِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ عَلَى المصيبة وحكي أن أعرابياً عزى ابن عباس على أبيه فقال
اصبر نكن بك صابرين فإنما ... صبر الرعية بعد صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
فقال ابن عباس ما عزاني أحد أحسن من تعزيته
والأخبار الواردة في الصبر على المصائب كثيرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يرد الله به خيراً يصب منه (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تعالى إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو لده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً وقال عليه السلام ما من عبد أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله تعالى إنا لله وإنه إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها إلا فعل الله ذلك به وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تعالى من سلبته كريمتيه فجزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي وَرُوِيَ أَنْ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذهب مالي وسقم جسمي فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وإذا ابتلاه صبره (2) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك (3) وعن خباب بن الأرت قال أتيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متوسد بردائه في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا يا رسول الله ألا تدعو الله تستنصره لنا فجلس محمراً لونه ثم قال إن من كان قبلكم ليؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض حفيرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه (4) وعن علي كرم الله وجهه قال أيما رجل حبسه السلطان ظلماً فمات فهو شهيد وإن ضربه فمات فهو شهيد وقال عليه السلام من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه تولدون للموت وتعمرون للخراب وتحرصون على ما يفنى وتذرون ما يبقى ألا حبذا المكروهات الثلاث الفقر والمرض والموت وعن أنس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً وثجه عليه ثجاً فإذا دعاه قالت الملائكة صوت معروف وإن دعاه ثانياً فقال يا رب قال الله تعالى لبيك عبدي وسعديك لا تسألني شيئاً إلا أعطيتك أو دفعت عنك ما هو خير وادخرت لك عندي ما هو أفضل منه فإذا كان يوم القيامة جيء بأهل الأعمال فوفوا أعمالهم بالميزان أهل
_________
(1) حديث من يرد الله به خير يصب منه رواه البخارى من حديث أبى هريرة
(2) حديث أن رجلاً قال يا رسول الله ذهب مالي وسقم جسدى فقال لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسده إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وإذا ابتلاه صبره أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب المرض والكفارات من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد فيه لين
(3) حديث إن الرجل ليكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك رواه أبو داود فى رواية ابن داسه وابن العبد من حديث محمد بن خالد السلمى عن أبيه عن جده وليس فى رواية اللؤلؤى ورواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى من هذا الوجه ومحمد بن خالد لم يرو عنه إلا أبو المليح الحسن بن عمر الرقى وكذلك لم يرو عن خالد إلا ابنه محمد وذكر أبو نعيم أن ابن منده سمى جده اللجلاج بن سليم فالله أعلم وعلى هذا فابنه خالد بن اللجلاج العامرى ذاك مشهور روى عنه جماعة ورواه ابن منده وأبو نعيم وابن عبد البر فى الصحابة من رواية عبد الله بن أبي إياس بن أبى فاطمة عن أبيه عن جده ورواه البيهقى من رواية إبراهيم السلمى عن أبيه عن جده فالله أعلم
(4) حديث خباب بن الأرت أتينا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متوسد برداء في ظل الكعبة فشكونا إليه الحديث تقدم(4/131)
الصلاة والصيام والصدقة والحج ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الآجر صباً كما كان يصب عليهم البلاء صباً فيود أهل العافية في الدنيا لو أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لما يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب (1) فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال شكا نبي من الأنبياء عليهم السلام إلى ربه فقال يا رب العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوي عنه الدنيا وتعرض له البلاء ويكون الكافر لا يطيعك ويجترىء عليك وعلى معاصيك تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا فأوحى الله تعالى إليه إن العباد والبلاء لي وكل يسبح بحمدي فيكون المؤمن عليه من الذنوب فأزوي عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقانى فأجز به بحسناته ويكون الكافر له الحسنات فأبسط له في الرزق وأزوي عنه البلاء فأجزيه بحسناته في الدنيا حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته
وروي أنه لما نزل قوله تعالى من يعمل سوءاً يجز به قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كيف الفرح بعد هذه الآية فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست يصيبك الأذى ألست تحزن فهذا مما تجزون به (2) يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك وعن عقبة بن عامر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج ثم قرأ قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء (3) يعني لما تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخير حتى إذا فرحوا بما أوتوا أي بما أعطوا من الخير أخذناهم بغتة
وعن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنهم رأى امرأة كان يعرفها في الجاهلية فكلمها ثم تركها فجعل الرجل يلتفت إليها وهو يمشي فصدمه حائط فأثر في وجهه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا (4) وقال علي كرم الله وجهه ألا أخبركم بأرجى آية في القرآن قالوا بلى فقرأ عليهم {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} فالمصائب في الدنيا بكسب الأوزار فإذا عاقبه الله في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً وإن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه يوم القيامة وعن أنس رضي الله تعالى منه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها ولا قطرت قطرة أحب إلى الله من قطرة دم أهريقت في سبيل الله أو قطرة دمع في سواد الليل وهو ساجد ولا يراه إلا الله وما خطا عبد
_________
(1) حديث أنس إذا أراد الله بعبد خيراً وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً الحديث أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب المرض من رواية بكر بن خنيس عن يزيد الرقاشيعن أنس أخصر منه دون قوله فإذا كان يوم القيامة إلى آخره وبكر بن خنيس والرقاشى ضعيفان ورواه الأصفهانى فى الترغيب والترهيب بتمامه وأدخل بين بكر وبين الرقاشى ضرار بن عمرو وهو أيضا ضعيف
(2) حديث لما نزل قوله تعالى من يعمل سوءاً يجز به قال أبو بكر الصديق كيف الفرح بعد هذه الآية فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض الحديث من رواية من لم يسم عن أبى بكر ورواه الترمذى من وجه آخر بلفظ آخر وضعفه قال وليس له إسناد صحيح وقال الدارقطنى وروى أيضا من حديث عمر ومن حديث الزبير قال وليس فيها شىء يثبت
(3) حديث عقبة بن عامر إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج الحديث رواه أحمد والطبرانى والبيهقى فى الشعب بسند حسن
(4) حديث الحسن البصرى فى الرجل الذى رأى امرأة فجعل يلتفت إليها وهو يمشي فصدمه حائط الحديث وفيه إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه فى الدنيا أخرجه أحمد والطبرانى بإسناد صحيح من رواية الحسن عن عبد الله بن معقل مرفوعا ومتصلا ووصله الطبرانى أيضا من رواية الحسن عن عمار بن ياسر ورواه أيضا من حديث ابن عباس وقد روى الترمذى وابن ماجه المرفوع منه من حديث أنس وحسنه الترمذى(4/132)
خطوتين أحب إلى الله تعالى من خطوة إلى صلاة الفريضة وخطوة إلى صلة الرحم (1)
وعن أبي الدرداء قال توفي ابن لسليمان بن داود عليهما السلام فوجد عليه وجداً شديدا فأتاه ملكان فجثيا بين يديه في زي الخصوم فقال أحدهما بذرت بذراً فلما استحصد مر به هذا فأفسده فقال للآخر ما تقول فقال أخذت الجادة فأتيت على زرع فنظرت يميناً وشمالاً فإذا الطريق عليه فقال سليمان عليه السلام ولم بذرت على الطريق أما علمت أن لا بد للناس من الطريق قال فلم تحزن على ولدك أما علمت أن الموت سبيل الآخرة فتاب سليمان إلى ربه ولم يجزع على ولد بعد ذلك
ودخل عمر بن عبد العزيز على ابن له مريض فقال يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك فقال يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعي إليه ابنة له فاسترجع وقال عورة سترها الله تعالى ومؤنة كفاها الله وأجر قد ساقه الله تعالى ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال قد صنعنا ما أمر الله تعالى قال تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة}
وعن ابن المبارك أنه مات له ابن فعزاه مجوسي يعرفه فقال له ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام فقال ابن المبارك اكتبوا عنه هذه
وقال بعض العلماء إن الله ليبتلي العبد بالبلاء بعد البلاء حتى يمشي على الأرض وماله ذنب
وقال الفضيل إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير
وقال حاتم الأصم إن الله عز وجل يحتج يوم القيامة على الخلق بأربعة أنفس على أربعة أجناس على الأغنياء بسليمان وعلى الفقراء بالمسيح وعلى العبيد بيوسف وعلى المرضى بأيوب صلوات الله عليهم
وروي أن زكريا عليه السلام لما هرب من الكفار من بني إسرائيل واختفى في الشجرة فعرفوا ذلك فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا فأن منه أنة فأوحى الله تعالى إليه يا زكريا لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة فعض زكريا عليه السلام على إصبعه حتى قطع شطرين
وقال أبو مسعود البلخي من أصيب بمصيبة فمزق ثوباً أو ضرب صدراً فكأنما أخذ رمحاً يريد أن يقاتل به ربه عز وجل
وقال لقمان رحمه الله لابنه يا بني إن الذهب يجرب بالنار والعبد الصالح يجرب بالبلاء فإذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط
وقال الأحنف بن قيس أصبحت يوماً أشتكي ضرسي فقلت لعمي ما نمت البارحة من وجع الضرس حتى قلعتها ثلاثاً فقال لقد أكثرت من ضرسك في ليلة واحدة وقد ذهبت عيني هذه منذ ثلاثين سنة ما علم بها أحد وأوحى الله تعالى إلى عزيز عليه السلام إذا نزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي واشك إلى
_________
(1) حديث أنس ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها الحديث أخرجه أبو بكر بن لال فى مكارم الأخلاق من حديث علي بن أبي طالب دون ذكر الجرعتين وفيه محمد بن صدقة وهو الفلكى منكر الحديث وروى ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد جيد ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث أبى أمامة ما قطر فى الأرض قطرة أحب إلى الله عز وجل من دم رجل مسلم في سبيل الله أو قطرة دمع في سواد الليل الحديث وفيه محمد بن صدقة وهو الفلكى المنكر الحديث(4/133)
كما لا أشكوك إلى ملائكتي إذا صعدت مساويك وفضائحك نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه ستره الجميل في الدنيا والآخرة
بيان فضل النعمة على البلاء
لعلك تقول هذه الأخبار تدل على أن البلاء خير في الدنيا من النعم فهل لنا أن نسأل الله البلاء فأقول لا وجه لذلك لما روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة (1) وكان يقول هو والأنبياء عليهم السلام رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة (2) وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها (3)
وقال علي كرم الله وجهه اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم لقد سألت البلاء فاسأله العافية (4)
وروى الصديق رضي الله تعالى عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ إِلَّا الْيَقِينَ (5) وَأَشَارَ بِالْيَقِينِ إِلَى عَافِيَةِ الْقَلْبِ عَنْ مَرَضِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ فَعَافِيَةُ القلب أعلى من عافية البدن
وقال الحسن رحمه الله الخير الذي لا شر فيه العافية مع الشكر فكم من منعم عليه غير شاكر
وقال مطرف بن عبد الله لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر
وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه وعافيتك أحب إلي (6) وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل واستشهاد وهذا لأن البلاء صار نعمة باعتبارين أحدهما بالإضافة إلى ما هو أكثر منه إما في الدنيا أو في الدين والآخر بالإضافة إلى ما يرجى من الثواب فينبغي أن نسأل الله تمام النعمة في الدنيا ودفع ما فوقه من البلاء ونسأله الثواب في الآخرة على الشكر على نعمته فإنه قادر على أن يعطي على الشكر ما لا يعطيه على الصبر
فإن قلت فقد قال لعضهم أود أن أكون جسراً على النار يعبر علي الخلق كلهم فينجون وأكون أنا في النار وقال سمنون رحمه الله تعالى
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
_________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة رواه أحمد من حديث بشر بن أبى أرطاة بلفظ أجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة وإسناده جيد ولأبى داود من حديث عائشة اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة وفيه بقية وهو مدلس ورواه بالعنعنة
(2) حديث كان يقول هو والأنبياء عليهم السلام رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة وقنا عذاب النار أخرجه البخارى ومسلم من حديث أنس كان أكثر دعوة يدعو بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا الحديث ولأبى داود والنسائى من حديث عبد الله بن السائب قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما بين الركنين ربنا آتنا الحديث
(3) حديث كان يستعيذ من شماتة الأعداء تقدم فى الدعوات
(4) حديث قال علي رضي الله عنه اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم لقد سألت الله البلاء فسله العافية رواه الترمذى من حديث معاذ فى أثناء حديث وحسنه ولم يسم عليا وإنما قال سمع رجلا وله وللنسائى فى اليوم والليلة من حديث على كنت ساكنا فمر بى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول الحديث وفيه فإن كان بلاء فصبرنى فضربه برجله وقال اللهم عافه واشفه وقال حسن صحيح
(5) حديث أبي بكر الصديق سلوا الله العافية الحديث أخرجه ابن ماجه والنسائى فى اليوم والليلة بإسناد جيد وقد تقدم
(6) حديث وعافيتك أحب إلى ذكره ابن اسحق فى السيرة فى دعائه يوم خرج إلى الطائف بلفظ وعافيتك أوسع لى وكذا رواه ابن أبى الدنيا فى الدعاء من رواية حسان بن عطية مرسلا ورواه أبو عبد الله بن منده من حديث عبد اللهبن جعفر مسندا وفيه من يجهل(4/134)
فهذا من هؤلاء سؤال للبلاء فاعلم أنه حكي عن سمنون المحب رحمه الله أنه بلي بعد هذا البيت بعلة الحصر فكان بعد ذلك يدور على أبواب المكاتب ويقول للصبيان ادعوا لعمكم الكذاب وأما محبة الإنسان ليكون هو في النار دون سائر الخلق فغير ممكنة ولكن قد تغلب المحبة على القلب حتى يظن المحب بنفسه حباً لمثل ذلك فمن شرب كأس المحبة سكر ومن سكر توسع في الكلام ولو زايله سكره علم أن ما غلب عليه كان حالة لا حقيقة لها فما سمعته من هذا الفن فهو من كلام العشاق الذين أفرط حبهم وكلام العشاق يستلذ سماعه ولا يعول عليه كما حكي أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه فقال ما الذي يمنعك عني ولو أردت أن أقلب لك الكونين مع ملك سليمان ظهراً لبطن لفعلته لأجلك فسمعه سليمان عليه السلام فاستدعاه وعاتبه فقال يا نبي الله كلام العشاق لا يحكى وهو كما قال وقال الشاعر
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
وهو أيضاً محال ومعناه أني أريد ما لا يريد لأن من أراد الوصال ما أراد الهجر فكيف أراد الهجر الذي لم يرده بل لا يصدق هذا الكلام إلا بتأويلين أحدهما أن يكون ذلك في بعض الأحوال حتى يكتسب به رضاه الذي يتوصل به إلى الوصال في الاستقبال فيكون الهجران وسيلة إلى الرضا والرضا وسيلة إلى وصال المحبوب والوسيلة إلى المحبوب محبوبة فيكون مثاله مثال محب المال إذا أسلم درهماً في درهمين فهو بحب الدرهمين يترك الدرهم في الحال الثاني أن يصير رضاه عنده مطلوباً من حيث إنه رضاه فقط ويكون له لذة في استشعاره رضا محبوبه منه تزيد تلك اللذة على لذته في مشاهدته مع كراهته فعند ذلك يتصور أن يريد ما فيه الرضا فلذلك قد انتهى حال بعض المحبين إلى أن صارت لذتهم في البلاء مع استشعارهم رضا الله عنهم أكثر من لذتهم في العافية من غير شعور الرضا فهؤلاء إذا قدروا رضاه في البلاء صار البلاء أحب إليهم من العافية وهذه حالة لا يبعد وقوعها في غلبات الحب ولكنها لا تثبت وإن ثبتت مثلاً فهل هي حالة صحيحة أم حالة اقتضتها حالة أخرى وردت على القلب فمالت به عن الاعتدال هذا فيه نظر وذكر تحقيقه لا يليق بما نحن فيه وقد ظهر بما سبق أن العافية خير من البلاء فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى المَانّ بِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لنا ولجميع المسلمين
بيان الأفضل من الصبر والشكر
اعلم أن الناس اختلفوا في ذلك فقال قائلون الصبر أفضل من الشكر وقال آخرون الشكر أفضل وقال آخرون هما سيان وقال آخرون يختلف ذلك باختلاف الأحوال واستدل كل فريق بكلام شديد الاضطراب بعيد عن التحصيل فلا معنى للتطويل بالنقل بل المبادرة إلى إظهار الحق أولى فنقول في بيان ذلك مقامان
المقام الأول البيان على سبيل التساهل وهو أن ينظر إلى ظاهر الأمر ولا يطلب التفتيش بحقيقته وهو البيان الذي ينبغي أن يخاطب به عوام الخلق لقصور أفهامهم عن درك الحقائق الغامضة وهذا الفن من الكلام هو الذي ينبغي أن يعتمده الوعاظ إذ مقصود كلامهم من مخاطبة العوام إصلاحهم والظئر المشفقة لا ينبغي أن تصلح الصبي الطفل بالطيور السمان وضروب الحلاوات بل باللبن اللطيف وعليها أن تؤخر عنه أطايب الأطعمة إلى أن يصير محتملاً لها بقوته ويفارق الضعف الذي هو عليه في بنيته فنقول هذا المقام في البيان يأبى البحث والتفصيل ومقتضاه النظر إلى الظاهر المفهوم من موارد الشرع وذلك يقتضي تفضيل الصبر فإن الشكر وإن وردت أخبار كثيرة في فضله فإذا أضيف إليه ما ورد فى فضيلة الصبر كانت فضائل الصبر أكثر بل فيه ألفاظ(4/135)
صريحة في التفضيل كقوله صلى الله عليه وسلم من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر (1) وفي الخبر يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أما ترضى أن يجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى كلا أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر عليه فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين (2) وقد قال الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأما قوله الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر (3) حديث الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بالشطر الأول من حديث ابن عباس بسند ضعيف أو الطبراني بالشطر الثاني من حديثه بسند ضعيف أيضا أن امرأة قالت كتب الله الجهاد على الرجال فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة قال طاعة أزواجهن وفي رواية ما جزاء غزوة المرأة قال طاعة الزوج الحديث وفيه القاسم بن فياض وثقه أبو داود وضعفه ابن معين وباقي رجاله ثقات (4) حديث شارب الخمر كعابد الوثن أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ مدمن الخمر ورواه بلفظ شارب الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن عمر وكلاهما ضعيف وقال ابن عدي إن حديث أبي هريرة أخطأ فيه محمد بن سليمان بن الأصبهاني (5) حديث آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث معاذ بن جبل يدخل الأنبياء كلهم قبل داود وسليمان الجنة بأربعين عاما وقال لم يروه إلا شعيب بن خالد وهو كوفي ثقة وروى البزار من حديث أنس أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف وفيه أغلب بن تميم ضعيف (6) حديث يدخل سليمان عبد الأنبياء بأربعين خريفا تقدم حديث معاذ قبله ورواه أبو منصوزر الديلمى في مسند الفردوس من رواية دينار عن أنس بن مالك ودينار الحبشي أحد الكذاببين على أنس والحديث منكر (7) حديث أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه باب واحد الحديث لم أجد له أصلا ولا في الأحاديث الواردة في مصاريع أبواب الجنة تفرقة فروى مسلم من حديث أنس في الشفاعة والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وبصرى وفي الصحيحين في خطبة عتبة بن غزوان ولقد ذكرنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام
وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر لأن الصبر حال الفقير والشكر حال الغني فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه صلاح دينهم
المقام الثاني هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف
_________
(1) حديث من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر تقدم
(2) حديث يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض الحديث لم أجد له أصلا
(3) حديث الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي هريرة وقد تقدم فهو دليل على أن الفضيلة في الصبر إذ ذكر ذلك في معرض المبالغة لرفع درجة الشكر فألحقه بالصبر فكان هذا منتهى درجته ولولا أنه فهم من الشرع علو درجة الصبر لما كان إلحاق الشكر به مبالغة في الشكر وهو كقوله صلى الله عليه وسلم الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل
(4) وكقوله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن
(5) وأبداً المشبه به ينبغي أن يكون أعلى رتبة فكذلك قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمان لا يدل على أن الشكر مثله وهو كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ فإن كل ما ينقسم قسمين يسمى أحدهما نصفاً وإن كان بينهما تفاوت كما يقال الإيمان هو العلم والعمل فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه
(6) وفي خبر آخر يدخل سليمان بعد الأنبياء بأربعين خريفاً
(7) وفي الخبر أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء أمامهم أيوب عليه السلام(4/136)
والإيضاح فنقول فيه كل أمرين مبهمين لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان
والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين لحكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال فنقول قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة علوم وأحوال وأعمال والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهى الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال والأحوال تراد للأعمال والأعمال هي الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد المعارف وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة بل علوم المعاملة دون المعاملة لأنها تراد المعاملة ففائدتها إصلاح العمل وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهي الغاية التي تطلب لذاتها فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها
وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها
ولما كانت مرادة لأجلها كان تعاونها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة فكما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل الخلق حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذن فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده لأن تحصل له علوم المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض فكذلك أحوال القلب فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة المكاشفة موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه
واسم الأول المعصية واسم الثاني الطاعة والمعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته متفاوتة وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها وذلك يختلف باختلاف الأحوال وذلك أنا بالقول المطلق ربما نقول الصلاة النافلة أفضل من كل عبادة نافلة وأن الحج أفضل من الصدقة وأن قيام الليل أفضل من غيره ولكن التحقيق فيه أن الغني الذي معه مال وقد غلبه البخل وحب المال على إمساكه فإخراج الدراهم له أفضل من قيام ليال وصيام أيام لأن الصيام يليق بمن غلبته شهوة البطن فأراد كسرها أو منعه الشبع عن صفاء الفكر من علوم المكاشفة فأراد تصفية القلب بالجوع فأما هذا المدبر إذا لم تكن حاله هذه الحال فليس يستضر بشهوة بطنه ولا هو مشتغل بنوع فكر يمنعه الشبع منه فاشتغاله بالصوم خروج منه عن حاله إلى حال غيره وهو كالمريض الذي يشكو وجع البطن إذا استعمل دواء الصداع لم ينتفع به بل حقه أن ينظر في المهلك الذي استولى عليه والشح المطاع من جملة(4/137)
المهلكات ولا يزيل صيام مائة سنة وقيام ألف ليلة منه ذرة بل لا يزيله إلا إخراج المال فعليه أن يتصدق بما معه وتفصيل هذه مما ذكرناه في ربع المهلكات فليرجع إليه فإذن باعتبار هذه الأحوال يختلف وعند ذلك يعرف البصير أن الجواب المطلق فيه خطأ إذ لو قال لنا قائل الخبز أفضل أم الماء لم يكن فيه جواب حق إلا أن الخبز للجائع أفضل والماء للعطشان أفضل فإن اجتمعا فلينظر إلى الأغلب فإن كان العطش هو الأغلب فالماء أفضل وإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل فإن تساويا فهما متساويان وكذا إذا قيل السكنجبين أفضل أم شراب اللينوفر لم يصح الجواب عنه مطلقاً أصلاً نعم لو قيل لنا السكنجبين أفضل أم عدم الصفراء فنقول عدم الصفراء لأن السكنجبين مراد له وما يراد لغيره فلذلك أفضل منه لا محالة فإذن في بذل المال عمل وهو الإنفاق ويحصل به حال وهو زوال البخل وخروج حب الدنيا من القلب ويتهيأ القلب بسبب خروج حب الدنيا منه لمعرفة الله تعالى وحبه فالأفضل المعرفة ودونها الحال ودونها العمل
فإن قلت فقد حث الشرع على الأعمال وبالغ في ذكر فضلها حتى طلب الصدقات بقوله {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} وقال تعالى {ويأخذ الصدقات} فكيف لا يكون الفعل والإنفاق هو الأفضل فاعلم أن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء مراد لعينه أو على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصل به ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ومرض القلوب مما لا يشعر به غالباً فهو كبرص على وجه من لا مرآة معه فإنه لا يشعر به ولو ذكر له لا يصدق به
والسبيل معه المبالغة في الثناء على غسل الوجه بماء الورد مثلاً إن كان ماء الورد يزيل البرص حتى يستحثه فرط الثناء على المواظبة عليه فيزول مرضه فإنه لو ذكر له أن المقصود زوال البرص عن وجهك ربما ترك العلاج وزعم أن وجهه لا عيب فيه
ولنضرب مثلاً أقرب من هذا من له ولد علمه العلم والقرآن وأراد أن يثبت ذلك في حفظه بحيث لا يزول عنه وعلم أنه لو أمره بالتكرار والدراسة ليبقى له محفوظاً لقال إنه محفوظ ولا حاجة بي إلى تكرار ودراسة لأنه يظن أن ما يحفظه في الحال يبقى كذلك أبداً وكان له عبيد فأمر الولد بتعليم العبيد ووعده على ذلك بالجميل لتتوفر داعيته على كثرة التكرار بالتعليم فربما يظن الصبي المسكين أن المقصود تعليم العبيد القرآن وأنه قد استخدم لتعليمهم فيشكل عليه الأمر فيقول ما بالي قد استخدمت لأجل العبيد وأنا أجل منهم وأعز عند الوالد وأعلم أن أبي لو أراد تعليم العبيد لقدر عليه دون تكليفي به وأعلم أن لا نقصان لأبي بفقد هؤلاء العبيد فضلاً عن عدم علمهم بالقرآن فربما يتكاسل هذا المسكين فيترك تعليمهم اعتماداً على استغناء أبيه وعلى كرمه في العفو عنه فينسى العلم والقرآن ويبقى مدبراً محروماً من حيث لا يدري وقد انخدع بمثل هذا الخيال طائفة وسلكوا طريق الإباحة وقالوا أن الله تعالى غني عن عبادتنا وعن أن يستقرض منا فأي معنى لقوله {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} ولو شاء الله إطعام المساكين لأطعمهم فلا حاجة بنا إلى صرف أموالنا إليهم كما قال تعالى حكاية عن الكفار {وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} وقالوا أيضاً {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} فانظر كيف كانوا صادقين في كلامهم وكيف هلكوا بصدقهم فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق وإذا شاء أسعد بالجهل {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} فهؤلاء لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين والفقراء أو جل الله تعالى ثم قالوا لا حظ لنا في المساكين ولا حظ لله فينا وفي أموالنا سواء أنفقنا أو أمسكنا هلكوا كما هلك الصبي لما ظن أن مقصود الوالد استخدامه لأجل(4/138)
العبيد ولم يشعر بأنه كان المقصود ثبات صفة العلم في نفسه وتأكده في قلبه حتى يكون ذلك سبب سعادته في الدنيا وإنما كان ذلك من الوالد تلطفاً به في استجراره إلى ما فيه سعادته فهذا المثال يبين لك ضلال من ضل من هذا الطريق فإذن هذا المسكين الآخذ لمالك يستوفي بواسطة المال خبث البخل وحب الدنيا من باطنك فإنه مُهلك لك فهو كالحجام يستخرج الدم منك ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك فالحجام خادم لك لا أنت خادم للحجام
ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً بأن يكون له غرض في أن يصنع شيئاً بالدم ولما كانت الصدقات مطهرة للبواطن ومزكية لها عن خبائث الصفات امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذها وانتهى عنها (1) كما نهى عن كسب الحجام وسماها أوساخ أموال الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها (2) والمقصود أن الأعمال مؤثرات في القلب كما سبق في ربع المهلكات والقلب بحسب تأثيرها مستعد لقبول الهداية ونور المعرفة فهذا هو القول الكلي والقانون الأصلي الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة فضائل الأعمال والأحوال والمعارف ولنرجع الآن إلى خصوص ما نحن فيه من الصبر والشكر فنقول في كل واحد منهما معرفة وحال وعمل فلا يجوز أن تقابل المعرفة في أحدهما بالحال أو العمل في الآخر بل يقابل كل واحد منهما بنظيره حتى يظهر التناسب وبعد التناسب يظهر الفضل ومهما قوبلت معرفة الشاكر بمعرفة الصابر ربما رجعا إلى معرفة واحدة إذ معرفة الشاكر أن يرى نعمة العينين مثلاً من الله تعالى
ومعرفة الصابر أن يرى العمى من الله وهما معرفتان متلازمتان متساويتان هذا إن اعتبرنا في البلاء والمصائب
وقد بينا أن الصبر قد يكون على الطاعة وعن المعصية وفيهما يتحد الصبر والشكر لأن الصبر على الطاعة هو عين شكر الطاعة لأن الشكر يرجع إلى صرف نعمة الله تعالى إلى ما هو المقصود منها بالحكمة والصبر يرجع إلى ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ بَاعِثِ الْهَوَى فالصبر والشكر فيه اسمان لمسمى واحد باعتبارين مختلفين فثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى يسمى صبراً بالإضافة إلى باعث الهوى ويسمى شكراً بالإضافة إلى باعث الدين إذ باعث الدين إنما خلق لهذه الحكمة وهو أن يصرع به باعث الشهوة وقد صرفه إلى مقصود الحكمة فهما عبارتان عن معنى واحد فكيف يفضل الشيء على نفسه فإذن مجاري الصبر ثلاثة الطاعة والمعصية والبلاء وقد ظهر حكمهما في الطاعة والمعصية وأما البلاء فهو عبارة عن فقد نعمة والنعمة إما أن تقع ضرورية كالعينين مثلاً وإما أن تقع في محل الحاجة كالزيادة على قدر الكفاية من المال أما العينان فصبر الأعمى عنهما بأن لا يظهر الشكوى ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ولا يترخص بسبب العمى في بعض المعاصي وشكر البصير عليهما من حيث العمل بأمرين أحدهما أن لا يستعين بهما على معصية والآخر أن يستعملهما في الطاعة وكل أحد من الأمرين لا يخلو عن الصبر فإن الأعمى كفي الصبر عن الصور الجميلة لأنه لا يراها والبصير إذا وقع بصره على جميل فصبر كان شاكراً لنعمة العينين وإن أتبع النظر كفر نعمة العينين فقد دخل الصبر في شكره وكذا إذا استعان بالعينين على الطاعة فلا بد أيضاً فيه من صبر على الطاعة ثم قد يشكرها بالنظر إلى عجائب صنع الله تعالى ليتوصل به إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فيكون هذا الشكر أفضل من الصبر ولولا هذا لكانت رتبة شعيب عليه السلام مثلاً وقد كان ضريراً من الأنبياء فوق رتبة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء لأنه صبر على فقد البصر وموسى عليه السلام لم يصبر مثلاً ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم وذلك محال جدا
_________
(1) حديث النهي عن كسب الحجام تقدم
(2) حديث امتنع من الصدقة وسماها أوساخ الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها أخرجه مسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة أن هذه الصدقة لا تحل لنا إنما هي أوساخ القوم وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد وفي رواية له أوساخ الناس(4/139)
لأن كل واحد من هذه الأعضاء آلة في الدين يفوت بفوتها ذلك الركن من الدين وشكرها بإستعمالها فما هي آلة فيه من الدين وذلك لا يكون إلا بصبر وأما ما يقع في محل الحاجة كالزيادة على الكفاية من المال فإنه إذا لم يؤت إلا قدر الضرورة وهو محتاج إلى ما وراءه ففي الصبر عنه مجاهدة وهو جهاد الفقر ووجود الزيادة نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية فإن أضيف الصبر إلى الشكر الذي هو صرف إلى الطاعة فالشكر أفضل لأنه تضمن الصبر أيضاً وفيه فرح بنعمة الله تعالى وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء وترك صرفه إلى التنعم المباح وكان الحاصل يرجع إلى أن شيئين أفضل من شيء واحد وأن الجملة أعلى رتبة من البعض وهذا فيه خلل إذ لاتصح الموازنة بين الجملة وبين أبعاضها وأما إذا كان شكره بأن لا يستعيين به على معصية بل يصرفه إلى التنعم المباح فالصبر ههنا أفضل من الشكر والفقير الصابر أفضل من الغني الممسك ماله الصارف إياه إلى المباحات لا من الغني الصارف ماله إلى الخيرات لأن الفقير قد جاهد نفسه وكسر نهمتها وأحسن الرضا على بلاء الله تعالى وهذه الحالة تستدعي لا محالة قوة والغني أتبع نهمته وأطاع شهوته ولكنه اقتصر على المباح والمباح فيه مندوحة عن الحرام ولكن لا بد من قوة في الصبر عن الحرام أيضاً إلا أن القوة التي عنها يصدر صبر الفقير أعلى وأتم من هذه القوة التي يصدر عنها الاقتصار في التنعم على المباح والشرف لتلك القوة التي يدل العمل عليها فإن الأعمال لا تراد إلا الأحوال القلوب وتلك القوة حالة للقلب تختلف بحسب قوة اليقين والإيمان فما دل على زيادة قوة في الإيمان فهو أفضل لا محالة وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة والأموال الغنى بها والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان الحمد لله ولا يستعين بالنعمة على المعصية لا أن يصرفها إلى الطاعة فإذن الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد رحمه الله حيث سئل عن الصبر والشكر أيهما أفضل فقال ليس مدح الغني بالوجود ولا مدح الفقير بالعدم وإنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذذها والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي ألم صفته وأزعجها أتم حالاً ممن متع صفته ونعمها
والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه وهو لم يرد سواه
ويقال كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك وقال الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده وإتلاف أمواله وزوال عقله أربع عشرة سنة فكان يقول دعوة الجنيد أصابتني ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر
ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر كما سبق ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه وصيت ولا لتقليد منه بل أداء الحق الله تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير الصابر(4/140)
فإن قلت فهذا لا يثقل على النفس والفقير يثقل عليه الفقر لأن هذا يستشعر لذة القدرة وذاك يستشعر ألم الصبر فإن كان متألماً بفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على الإنفاق فاعلم أن الذي تراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالاً ممن ينفقه وهو بخيل به وإنما يقتطعه عن نفسه قهراً
وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة فإيلام النفس ليس مطلوباً لعينه بل لتأديبها وذلك يضاهي ضرب كلب الصيد والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى الضرب وإن كان صابراً على الضرب ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية ولا يحتاج إليهما في النهاية بل النهاية أن يصير ما كان مؤلماً في حقه لذيذاً عنده كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذاً وقد كان مؤلماً له أولا ولكن لما كان الناس كلهم إلا الأقلين في البداية بل قبل البداية بكثير كالصبيان أطلق الجنيد القول بأن الذي يؤلم صفته أفضل وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق فإذن إذا كنت لا تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر فإنه صحيح بالمعنى السابق إلى الأفهام فإذا أردت التحقيق ففصل فإن للصبر درجات أقلها ترك الشكوى مع الكراهية ووراءها الرضا وهو الرضا وهو مقام وراء الصبر ووراءه الشكر على البلاء وهو وراء الرضا إذ الصبر مع التألم والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به وكذلك الشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها ويدخل في جملتها أمور دونها فإن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر والاعتذار من قلة الشكر شكر والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر والعلم بأن الشكر أيضاً نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر وشكر الوسائط شكر إذ قال عليه السلام مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ (1) وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار الزكاة وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر
وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها وهي درجات مختلفة فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص باللفظ العام كما ورد في الأخبار والآثار
وقد روي عن بعضهم أنه قال رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن فسألته عن حاله فقال إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي كذلك كانت تهواني فاتفق أنها زوجت مني فليلة زفافها قلت تعالى حتى نحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فصلينا طول الليل فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة كل ليلة أليس كذلك يا فلانة قالت العجوز هو كما يقول الشيخ فانظر إليهما لو صبرا على بلاء الفرقة أو لو لم يجمع الله بينهما وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه فلا يخفى عليك أن هذا الشكر أفضل فإذن لا وقوف على حقائق المفضلات إلا بتفضيل كما سبق والله أعلم
_________
(1) حديث مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ تقدم في الزكاة(4/141)
كتاب الخوف والرجاء
وهو الكتاب الثالث من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحمن
الحمد لله المرجو لطفه وثوابه المخوف مكره وعقابه الذي عمر قلوب أوليائه بروح رجائه حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول بفنائه والعدول عن دار بلائه التي هي مستقر أعدائه وضرب بسياط التخويف وزجره العنيف وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار ثوابه وكرامته وصدهم عن التعرض لأئمته والتهدف لسخطه ونقمته قوداً لأصناف الخلق بسلاسل القهر والعنف وأزمة الرفق واللطف إلى جنته والصلاة والسلام على محمد سيد أنبيائه وخير خليقته وعلى آله وأصحابه وعترته
أما بعد فإن الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ جَنَاحَانِ بِهِمَا يَطِيرُ الْمُقَرَّبُونَ إِلَى كُلِّ مَقَامٍ مَحْمُودٍ وَمَطِيَّتَانِ بِهِمَا يَقْطَعُ مِنْ طرق الآخرة كل عقبة كسود فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء مجفوفا بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء إِلَّا أَزِمَّةُ الرَّجَاءِ وَلَا يَصُدُّ عَنْ نَارِ الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذن من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسبيل التوصيل إلى الجمع بينها مع تضادهما وتعاندهما ونحن نجمع ذكرهما في كتاب واحد يشمل على شطرين الشطر الأول في الرجاء والشطر الثانى في الخوف
الشطر الأول في الرجاء
أما الشطر الأول فيشتمل على
بيان حقيقة الرجاء
وبيان فضيلة الرجاء وبيان دواء الرجاء والطرق الذي يجتلب به الرجاء بيان حقيقة الرجاء
اعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين وإنما يسمى الوصف مقاماً إذا ثبت وأقام وإنما يسمى حالاً إذا كان عارضاً سريع الزوال وكما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة كصفرة الذهب وإلى سريعة الزوال كصفرة الوجل وإلى ما هو بينهما كصفرة المريض فكذلك صفات القلب تنقسم هذه الأقسام فالذي هو غير ثابت يسمى حالاً لأنه يحول على القرب وهذا جار في كل وصف من أوصاف القلب وغرضنا الآن حقيقة الرجاء فالرجاء أيضاً يتم من حال وعلم وعمل فالعلم سبب يثمر الحال والحال يقتضي العمل وكان الرجاء اسماً من جملة الثلاثة وبيانه أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً وإن كان من خطر بقلبك موجوداً في الحال سمي وجداً وذوقاً وإدراكاً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمى انتظار وتوقعا فإن كان المنظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سمي خوفاً وإشفاقاً وإن كان محبوباً حصل من انتظاره وتعلق القلب به وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح سمى ذلك الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك(4/142)
المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انظارا مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتقاء فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه أما ما يقطع به فلا إذا لا يقال أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب لأن ذلك مقطوع به نعم يقال أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه وقد عَلِمَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ والقلب كالأرض والإيمان كالبدر فِيهِ وَالطَّاعَاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى تَقْلِيبِ الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا وَمَجْرَى حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَسِيَاقَةِ الْمَاءِ إِلَيْهَا وَالْقَلْبَ المستهتر في الدنيا الْمُسْتَغْرِقَ بِهَا كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يَنْمُو فِيهَا الْبَذْرُ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْحَصَادِ وَلَا يحصد أحد إِلَّا مَا زَرَعَ وَلَا يَنْمُو زَرْعٌ إِلَّا من بذر السبخة التي لا ينمو إيمان مع خبث القلب وسوء أخلافه كَمَا لَا يَنْمُو بَذْرٌ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ رَجَاءُ الْعَبْدِ الْمَغْفِرَةَ بِرَجَاءِ صَاحِبِ الزَّرْعِ فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ أَرْضًا طَيِّبَةً وَأَلْقَى فِيهَا بَذْرًا جَيِّدًا غَيْرَ عَفِنٍ وَلَا مُسَوِّسٍ ثُمَّ أَمَدَّهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ سَوْقُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ ثُمَّ نَقَّى الشَّوْكَ عَنِ الْأَرْضِ وَالْحَشِيشَ وَكُلَّ مَا يَمْنَعُ نَبَاتَ الْبَذْرِ أَوْ يُفْسِدُهُ ثُمَّ جَلَسَ مُنْتَظِرًا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعَ الصَّوَاعِقِ وَالْآفَاتِ الْمُفْسِدَةِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الزَّرْعُ وَيَبْلُغَ غَايَتَهُ سُمِّيَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً وَإِنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ سَبِخَةٍ مُرْتَفِعَةٍ لَا يَنْصَبُّ إِلَيْهَا الْمَاءُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِتَعَهُّدِ الْبَذْرِ أَصْلًا ثُمَّ انْتَظَرَ الْحَصَادَ مِنْهُ سُمِّيَ انْتِظَارُهُ حُمْقًا وَغُرُورًا لَا رَجَاءً وَإِنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ طيبة ولكن لَا مَاءَ لَهَا وَأَخَذَ يَنْتَظِرُ مِيَاهَ الْأَمْطَارِ حَيْثُ لَا تَغْلِبُ الْأَمْطَارُ وَلَا تَمْتَنِعُ أَيْضًا سُمِّيَ انْتِظَارُهُ تَمَنِّيًا لَا رَجَاءً فَإِذَنِ اسْمُ الرجاء إنما يصدق على انتظاره مَحْبُوبٍ تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا لَيْسَ يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ وَهُوَ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِصَرْفِ الْقَوَاطِعِ وَالْمُفْسِدَاتِ فَالْعَبْدُ إِذَا بَثَّ بَذْرَ الْإِيمَانِ وَسَقَاهُ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَطَهَّرَ الْقَلْبَ عَنْ شَوْكِ الأخلاق الردئية وَانْتَظَرَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى تَثْبِيتَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى المغفرة وكان انتظاره رجاء حقيقا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ القيام بمقتضى أسباب الإيمان في إنمام أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ إِلَى الْمَوْتِ وَإِنْ قَطَعَ عَنْ بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات وترك الْقَلْبَ مَشْحُونًا بِرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَانْهَمَكَ فِي طَلَبِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الجنة وقال تعالى فخلف من بعدهم أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَقَالَ تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لنا وذم الله تعالى صاحب البستان إذا دخل جنته وقال ما أظن تبيده هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رددت إلى ربدى لأجدن خيراً منها منقلباً فإذا الْعَبْدُ الْمُجْتَهِدُ فِي الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي حَقِيقٌ بِأَنْ يَنْتَظِرَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَمَا تَمَامُ النِّعْمَةِ إِلَّا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْعَاصِي فَإِذَا تَابَ وَتَدَارَكَ جَمِيعَ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ تَقْصِيرٍ فَحَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ قَبُولَ التوبة وأما قبل التوبة إذا كان كارهاً للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهي التوبة ويشتاق إليها فحقيق بأن يرجو منا لله التوفيق للتوبة لأن كراهيته للمعصية وحؤصه على التوبة يجري مجرى السبب الذي قد يفضي إلى التوبة وإما الرَّجَاءُ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْأَسْبَابِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله معناه أولئك يستحون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود(4/143)
الرجاء لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء فَأَمَّا مِنْ يَنْهَمِكُ فِيمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَذُمُّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْزِمُ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ فَرَجَاؤُهُ الْمَغْفِرَةَ حُمْقٌ كَرَجَاءِ مَنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَتَعَهَّدَهُ بِسَقْيٍ وَلَا تَنْقِيَةٍ
قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ عِنْدِي التمادي في الذنوب مع رَجَاءِ الْعَفْوِ مِنْ غَيْرِ نَدَامَةٍ وَتَوَقُّعُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ طَاعَةٍ وَانْتِظَارُ زَرْعِ الْجَنَّةِ بِبَذْرِ النَّارِ وَطَلَبُ دَارِ الْمُطِيعِينَ بِالْمَعَاصِي وَانْتِظَارُ الْجَزَاءِ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَالتَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْإِفْرَاطِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى اليبس
فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان فإن من حسن بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها فلا يفتر عن تعهدها أصلاً إلى وقت الحصاد وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس واليأس يمنع من التعهد فمن عرف أن الأرض سبخة وأن الماء معوز وأن البذر لا ينبت فيترك لا محالة تفقد الأرض والتعب في تعهدها والرجاء محمود لأنه باعث واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل والخوف ليس بضد للرجاء بل هو رفيق له كما سيأتي بيانه بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة فَإِذَنْ حَالُ الرَّجَاءِ يُورِثُ طُولَ الْمُجَاهَدَةِ بِالْأَعْمَالِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ كَيْفَمَا تَقَلَّبَتِ الْأَحْوَالُ وَمِنْ آثَارِهِ التَّلَذُّذُ بِدَوَامِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى والتنعم بمناجاته وَالتَّلَطُّفُ فِي التَّمَلُّقِ لَهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لابد وَأَنْ تَظْهَرَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَرْجُو مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ شَخْصًا مِنَ الْأَشْخَاصِ فَكَيْفَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فَلْيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْحِرْمَانِ عَنْ مَقَامِ الرَّجَاءِ وَالنُّزُولِ فِي حَضِيضِ الغرور والتمني فهذا هو البيان لحال الرجاء ولما أثمره من العلم ولما استثمر منه من العمل ويدل على إثماره لهذه الأعمال حديث زيد الخيل إذ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جئت لأسألك عن علامة الله فيمن لا يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال كيف أصبحت قال أصحبت أحب الخير وأهله وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني منه شيىء حزنت عليه وحننت إليه
فقال هذه علامة الله فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها ثم لا يبالي في أي أوديتها هلكت فقد ذكر صلى الله عليه وسلم علامة من أريد به الخير فمن ارتجى أن يكون مراداً بالخير من غير هذه العلامات فهو مغرور // حديث قال زيد الخيل جئت لأسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد الحديث أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وفيه أنه قال أنت زيد الخير وكذا قال ابن أبي حاتم سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير يروى عنه حديث وذكره في حديث يروى فقال زيد الخير فقال يا رسول الله الحديث سمعت أبي يقول ذلك
بيان فضيلة الرجاء والترغيب فيه
اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له والحب يغلب الرجاء واعتبر ذلك بملكين يخدم أحداهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لثوابه ولذلك ورد في الرجاء وحسن الظن رغائب لا سيما في وقت الموت قال تعالى لا تقنطوا من رحمة الله فحرم أصل اليأس وفي أخبار يعقوب عليه السلام إن الله تعالى أوحى إليه
أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف لأنك قلت أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له
وقال صلى الله عليه وسلم(4/144)
لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله تعالى (1) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء (2)
ودخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال كيف تجدك فقال أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي
فقال صلى الله عليه وسلم ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وأمنه مما يخاف (3) وقال علي رضي الله عنه لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك
وقال سفيان من أذنب ذنباً فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجاء غفرانه غفر الله له ذنبه قال لأن الله عز وجل عير قوماً فقال وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وقال تعالى وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تعالى يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره فإن لقنه الله حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس قال فيقول الله تعالى قد غفرته لك (4) وفي الخبر الصحيح أن رجلاً كان يداين الناس فيسامح الغني ويتجاوز عن المعسر فلقي الله ولم يعمل خيراً قط فقال الله عز وجل من أحق بذلك منا (5) فعفا عنه لحسن ظنه ورجائه أن يعفو عنه مع إفلاسه عن الطاعات وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يرجون تجارة لن تبور ولما قال صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تلدمون صدروكم وتجأرون إلى ربكم فهبط جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول لك لم تقنط عبادي فخرج عليهم ورجاهم وشوقهم (6)
وفي الخبر إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي فقال يا رب كيف أحببك إلى خلقك اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل (7) ورئى أبان بن أبي عياش في النوم وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال أوقفني الله تعالى بين يديه فقال ما الذي حملك على ذلك فقلت أردت أن أحببك إلى خلقك فقال قد غفرت لك
ورئى يحيى بن أكثم بعد موته في النوم فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني الله بين يديه وقال يا شيخ السوء فعلت وفعلت وقال فأخذني من الرعب ما يعلم الله ثم قلت يا رب ما هكذا حدثت عنك فقال وما حدثت عني فقلت حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام أنك قلت أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وكنت أظن بك أن لا تعذبني فقال الله عز وجل صدق جبريل وصدق نبيي وصدق أنس وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عبد الرزاق وصدقت قال فألبست ومشى بين
_________
(1) حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله أخرجه مسلم من حديث جابر
(2) حديث أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء أخرجه ابن حيان من حديث وائلة بن الأسقع وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة دون قوله فليظن بي ما شاء
(3) حديث دخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال كيف تجدك الحديث رواه الترمذي وقال غريب والنسائي في الكبرى وابن ماجه من حديث أنس وقال النووي إسناده جيد
(4) حديث إن الله يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد جيد وقد تقدم في الأمر بالمعروف
(5) حديث أن رجلاً كان يداين الناس فيسامح الغني ويتجاوز عن المعسر الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود حوسب رجل ممن كان قبلكم فلو يوجد له من الخير شيى إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال الله عز وجل نحن أحق بذلك تجاوزوا عنه واتفقا عليه من حديث حذيفة وأبي هريرة بنحوه
(6) حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً الحديث {وفيه} فهبط جبريل الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة فأوله متفق عليه من حديث أنس ورواه بزيادة ولخرجتم إلى الصعدات أخرجه أحمد والحاكم وقد تقدم
(7) حديث أن الله تعالى أوحى إلى عبده داود عليه السلام أحبني وأحب من يحبني الحديث لم أجد له أصلا وكأنه من الإسرائيليات كالذي قبله(4/145)
يدي الولدان إلى الجنة فقلت يا لها من فرحة
وفي الخبر أن رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم قال فيقل له الله تعالى يوم القيامة اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها (1) وقال صلى الله عليه وسلم إن رجلاً يدخل النار فيمكث فيها ألف سنة ينادي يا حنان يا منان فيقول الله تعالى لجبريل اذهب فائتني بعبدي قال فيجيء به فيوقفه على ربه فيقول الله تعالى كيف وجدت مكانك فيقول شر مكان قال فيقول رذوه إلى مكانه قال فيمشي ويلتفت إلى ورائه فيقول الله عز وجل إلى أي شيء تلتفت فيقول لقد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها فيقول الله تعالى اذهبوا به إلى الجنة (2) فدل هذا على أن رجاءه كان سبب نجاته نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب
اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مهلكة في حقه وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد وهم سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفاً ناظراً إلى مواقع العلل معالجاً لكل علة بما يضادها لا بما يزيد فيها فإن المطلوب هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها وخير الأمور أوساطها فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط وهذا الزمان زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف أيضاً تكاد أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب فأما ذكر أسباب الرجاء فيهلكهم ويرديهم بالكلية ولكنها لما كانت أخف على القلوب وألذ عند النفوس ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد فساداً وازداد المنهمكون في طغيانهم تمادياً
قال علي كرم الله وجهه إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم من مكر الله
ونحن نذكر اساب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف اقتداءً بكتاب اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعاً لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيى من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان
وحال الرجاء يغلب بشيئين أحدهما الاعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار
أما الاعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام
_________
(1) حديث أن رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم الحديث رواه البيهقي في الشعب عن زيد بن أسلم فذكره مقطوعا
(2) حديث إن رجلاً يدخل النار فينكث فيها ألف سنة ينادي يا حنان يا منان الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله والبيهقي في الشعب وضعفه من حديث أنس(4/146)
الوجود كآلات الغذاء وما هو محتاج إليه كالأصابع والأظفار وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين واختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود وإنما كان يفوت به مزية جمال فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيء له أسباب السعادة في الدنيا حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبداً مثلاً أولا يحشر أصلاً فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة وإنما الذي يتمنى الموت نادر ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة وواقعة هاجمة غريبة فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة فسنة الله لا تجد لها تبديلاً فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد وهو غفور رحيم لطيف بعباده متعطف عليهم فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوي به أسباب الرجاء ومن الاعتبار أيضاً النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ووجه الرحمة للعباد بها حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء
فقيل له وما فيها من الرجاء فقال الدنيا كلها قليل ورزق الإنسان منها قليل والدين قليل عن رزقه فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه
الفن الثاني استقراء الآيات والأخبار فما ورد في الرجاء خارج عن الحصر أما الآيات فقد قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وفي قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم (1) وقال تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض وأخبر تعالى أن النار أعدها لأعدائه وإنما خوف بها أولياءه فقال لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده وقال تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وقال تعالى فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وقال عز وجل وإن ربك لذوا مغفرة للناس على ظلمهم ويقال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية وإن ربك لذو مغفرة للناس ظلمهم (2)
وفي تفسير قوله تعالى {ولسوف يعطيك ربك فترضى} قال لا يرضى محمد وواحد من أمته في النار وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وأما الأخبار فقد روى أبو موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة عجل الله عقابها في الدنيا الزلازل والفتن فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب فقيل هذا فداؤك من النار (3)
_________
(1) حديث قرأ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد وقال حسن غريب
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له أما ترضى وقد أنزل عليك {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} لم أجده بهذا اللفظ وروى ابن أبي حاتم والثعلبي في تفسيرهما من رواية علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش الحديث
(3) حديث أبي موسى أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها عجل الله عقابها في الدنيا الزلازل والفتن الحديث أخرجه أبو داود دون قوله فإذا كان يوم القيامة الخ فرواها ابن ماجه من حديث أنس بسند ضعيف وفي صحيحه من حديث أبي موسى كما سيأتي ذكره في الحديث الذي يليه(4/147)
وفي لفظ آخر يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول هذا فدائي من النار فيلقى فيها (1) وقال صلى الله عليه وسلم الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار (2) وروي في تفسير قوله تعالى {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم إني أجعل حساب أمتك إليك
قال لا يارب أنت أرحم بهم مني فقال إذن لا نخزيك فيهم (3)
وروي عن أنس إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سأل ربه في ذنوب أمته فقال يا رب اجعل حسابهم إلي لئلا يطلع على مساويهم غيري فأوحى الله تعالى إليه هم أمتك وهم عبادي وأنا أرحم بهم منك ولا أجعل حسابهم إلى غيري لئلا تنظر إلى مساويهم أنت ولا غيرك (4)
وقال صلى الله عليه وسلم حياتي خير لكم وموتي خيرك لكم أما حياتي فأسن لكم السنن وأشرع لكم الشرائع وأما موتي فإن أعمالكم تعرض علي فما رأيت منها حسناً حمدت الله عليه وما رأيت منها سيئاً استغفرت الله تعالى لكم (5) وقال صلى الله عليه وسلم يوماً يا كريم العفو فقال جبريل عليه السلام أتدري ما تفسير يا كريم العفو هو إن عفا عن السيئات برحمته بدلها حسنات بكرمه (6)
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال هل تدري ما تمام النعمة قال لا قال دخول الجنة (7)
قال العلماء قد أتم الله علينا نعمته برضاه الإسلام لنا إذ قال تعالى {وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وفي الخبر إذا أذنب العبد ذنباً فاستغفر الله يقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له (8) وفي الخبر لو أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني (9) وفي الخبر لو لقيني عبد بقراب الأرض ذنوباً لقيته بقراب الأرض مغفرة (10) وفي الحديث أن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة (11) وفي لفظ آخر فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب
_________
(1) حديث يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي موسى إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداؤك من النار وفي رواية له لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهودياً أو نصرانيا
(2) حديث الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار أخرجه أحمد من رواية أبي صالح الأشعري عن أبي أمامة وأبو صالح لا يعرف ولا يعرف اسمه
(3) حديث إن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم إني أجعل حساب أمتك إليك فقال لا يارب أنت خير لهم مني الحديث في تفسير قوله تعالى {يوم لا يخزي الله النبي} أخرجه ابن ابي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله
(4) حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه في ذبوب أمته فقال يا رب اجعل حسابهم إلى الحديث لم أقف له على أصل
(5) حديث حياتي خير لكم وموتي خير لكم الحديث أخرجه البزار من حديث عبد الله بن مسعود ورجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه كثيرون ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف
(6) حديث قال صلى الله عليه وسلم يوماً يا كريم العفو فقال جبريل أتدري ما تفسير يا كريم العفو الحديث لم أجده عن النبي صلى الله عليه وسلم والموجود أن هذا كان بين إبراهيم الخليل وبين جبريل هكذا رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة من قول عتبة بن الوليد ورواه البيهقي في الشعب من رواية عتبة بن الوليد قال حدثني بعض الزهاد فذكره
(7) حديث سمع رجلاً يقول اللهم إني أسألك تمام النعمة الحديث تقدم
(8) حديث إذا أذنب العبد فاستغفر يقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ إن عبدا أصاب ذنبا فقال أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي الحديث وفي رواية أذنب عبد ذنبا فقال الحديث
(9) حديث لو أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء الحديث أخرجه الترمذي من حديث أنس يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك وقال حسن
(10) حديث لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوبا لقيته بقرابها مغفرة أخرجه مسلم من حديث أبي ذر ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة وللترمذي من حديث أنس الذي قبله يا ابن آدم لو لقيتني الحديث
(11) حديث إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه الحديث قال وفي لفظ آخر فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمير عليه ألق هذه السيئة حتى ألقى من حسناته واحدة من تضيف العشر الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة بسند فيه لين باللفظ الأول ورواه أيضا أطول منه وفيه إن صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال وليس فيه أنه يأمر صاحب الشمال بإلقاء السيئة حتى يلقي من حسناته واحدة لم أجد لذلك أصلا(4/148)
الشمال وهو أمير عليه ألق هذه السيئة حتى ألقى من حسناته واحدة تضعيف العشر وأرفع له تسع حسنات فتلقي عنه السيئة وروى أنس في حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه فقال أعرابي وإن تاب عنه قال محي عنه قال فإن عاد قال النبي صلى الله عليه وسلم يكتب عليه قال الأعرابي فإن تاب قال محي من صحيفته قال إلى متى قال إلى أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل إن الله لا يمل من المغفرة حتى يمل العبد من الاستغفار فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين قبل أن يعملها فإن عملها كتبت عشر حسنات ثم يضاعفها الله سبحانه وتعالى إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإذا عملها كتبت خطيئة واحدة ووراءها حسن عفو الله عز وجل (1)
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلي إلا الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع أين أنا إذا مت فتبسم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ نعم معي إذا حفظت قلبك من اثنتين الغل والحسد ولسانك من اثنتين الغيبة والكذب وعينيك من اثنتين النظر إلى ما حرم الله وأن تزدري بهما مسلماً دخلت معي الجنة على راحتي هاتين (2) وفي الحديث الطويل لأنس أن الأعرابي قال يا رسول الله من يلي حساب الخلق فقال الله تبارك وتعالى قال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي فقال صلى الله عليه وسلم مم ضحكت يا أعرابي فقال إن الكريم إذا قدر عفا وإذا حاسب سامح فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق الأعربي ألا لا كريم أكرم من الله تعالى هو أكرم الأكرمين {ثم قال} فقه الأعرابي (3) وفيه أيضاً إن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بوليٍّ من أولياء الله تعالى قال الأعرابي ومن أولياء الله تعالى قال المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى أما سمعت قول الله عز وجل {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} وفي بعض الأخبار المؤمن أفضل من الكعبة (4)
_________
(1) حديث أنس إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه فقال أعرابي فإن تاب عنه قال محي عنه قال فإن عاد الحديث وفيه إن الله لا يمل من التوبة حتى يمل العبد من الإستغفار الحديث أخرجه البيهقي في الشعب بلفظ فقال يا رسول الله إني أذنبت ذنبا قال استغفر ربك قال فاستغفر ثم أعود قال فإذا عدت فاستغفر ربك ثلاث مرات أو أربعا قال فاستغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المسجور المحسور وفيه أبو بدر يسار بن الحكم المصري منكر الحديث وروى أيضا من حديث عقبة بن عامر أحدنا يذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر ويتوب قال يغفر له ويتاب عليه قال فيعود الحديث وفيه لا يمل الله حتى تملوا وليس في الحديثين قوله في آخره فإذا هم العبد بحسنة الخ وهو في الصحيحين بنحوه من حديث ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فيما يرويه عن ربه فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة زاد مسلم في رواية أو محاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك ولهما نحوه من حديث أبي هريرة
(2) حديث جاء رجل فقال يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلي إلا الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع الحديث تقدم
(3) حديث أنس الطويل قال أعرابي يا رسول الله من يلي حساب الخلق قال الله تبارك وتعالى فقال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي الحديث لم أجد له أصلا
(4) حديث المؤمن أفضل من الكعبة أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم حرمة منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا وشيخه نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان وقد تقدم(4/149)
والمؤمن طيب طاهر (1) والمؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة (2) وفي الخبر خلق الله تعالى جهنم من فضل رحمته سوطاً يسوق به عباده إلى الجنة (3)
وفي خبر آخر يقول الله عز وجل إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم (4) وفي حديث أبي سعيد الخدري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خلق الله تعالى شيئاً إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه (5) وفي الخبر المشهور إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي (6) وعن معاذ بن جبل وأنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله دخل الجنة (7)
ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تسمه النار (8) ومن لقي الله لا يشرك به شيئاً حرمت عليه النار (9)
ولا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان (10) وفي خبر آخر لو علم الكافر سعة رحمة الله ما آيس من جنته أحد (11) ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى إن زلزلة الساعة شيء عظيم {قال} أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقال لآدم عليه الصلاة والسلام قم فابعث بعث النار من ذريتك فيقول كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة قال فأبلس القوم وجعلوا يبكون وتعطلوا يومهم عن الاشتغال والعمل فخرج عليهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ما لكم لا تعملون فقالوا ومن يشتغل بعمل بعد ما حدثتنا بهذا فقال كم أنتم في الأمم أين تأويل وثاريث ومنسك ويأجوج ومأجوج أمم لا يحصيها إلا الله تعالى إنما أنتم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود وكالرقمة في ذراع الدابة (12) فانظر كيف كان الخوف يسوق الخلق بسياط الخوف ويقودهم بأزمة
_________
(1) حديث المؤمن طيب طاهر لم أجده بهذا اللفظ وفي الصحيحين من حديث حذيفة المؤمن لا ينجس
(2) حديث المؤمن أكرم على الله من الملائكة أخرجه ابن ماجه من رواية أبي المهزم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة بلفظ المؤمن أكرم على الله من بعض الملائكة وأبو المهزم تركه شعبة وضعفه ابن معين ورواه ابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ المصنف
(3) حديث خلق الله من فضل رحمته سوطاً يسوق به عباده إلى الجنة لم أجده هكذا ويغنى عنه ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عجب ربنا من قوم يجاء بهم إلى الجنة في السلاسل
(4) حديث قال الله إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم لم أقف له على أصل
(5) حديث أبي سعيد ما خلق الله شيئاً إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب وفيه عبد الرحمن بن كردم جهله أبو حاتم وقال صاحب الميزان ليس بواه ولا بمجهول
(6) حديث إن الله كتب على نفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
(7) حديث معاذ وأنس من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أخرجه الطبراني في الدعاء بلفظ من مات يشهد وتقدم من حديث معاذ وهو في اليوم والليلة للنسائي بلفظ من مات يشهد وقد تقدم من حديث معاذ ومن حديث أنس أيضا وتقدم في الأذكار
(8) حديث من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تمسه النار أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث معاذ بلفظ دخل الجنة
(9) حديث من لقي الله لا يشرك به شيئاً حرمت عليه النار أخرجه الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ ما من عبد يشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار وزاد البخاري صادقا من قلبه وفي رواية له من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ورواه أحمد من حديث معاذ بلفظ جعله الله في الجنة وللنسائي من حديث أبي عمرة الأنصاري في أثناء حديث فقال أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أني رسول الله لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجب عن النار يوم القيامة
(10) حديث لا يدخلها من في قلبه وزن ذرة من إيمان أخرجه أحمد من حديث سهل بن بيضاء من شهد أن لا إله إلا الله حرمه الله على النار وفيه انقطاع وله من حديث عثمان بن عفان إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه إلا حرم على النار قال عمر بن الخطاب هي كلمة الإخلاص وإسناده صحيح ولكن هذا ونحوه شاذ مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من دخول جماعة من الموحدين النار وإخراجهم بالشفاعة نعم لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان كما هو متفق عليه من حديث أبي سعيد وفيه فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه وقال مسلم من خير {بدل} من إيمان
(11) حديث لو علم الكافر سعة رحمة الله ما أيس من جنته أحد متفق عليه من حديث أبي هريرة
(12) حديث لما تلا {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال أتدرون أي يوم هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث عمران بن حصين وقال حسن صحيح قلت هو من رواية الحسن البصري عن عمران ولم يسمع منه وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي سعيد(4/150)
الرجاء إلى الله تعالى إذ ساقهم بسياط الخوف أولاً فلما خرج ذلك بهم عن حد الاعتدال إلى إفراط اليأس داواهم بدواء الرجاء وردهم إلى الاعتدال والقصد والآخر لم يكن مناقضاً للأول ولكن ذكر في الأول ما رآه سبباً للشفاء واقتصر عليه فلما احتاجوا إلى المعالجة بالرجاء
ذكر تمام الأمر فعلى الواعظ أن يقتدي بسيد الوعاظ فيتلطف في استعمال أخبار الخوف والرجاء بحسب الحاجة بعد ملاحظة العلل الباطنة وإن لم يراع ذلك كان ما يفسد بوعظه أكثر مما يصلح وفي الخبر لو لم تذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم (1) وفي لفظ آخر لذهب بكم وجاء بخلق يذنبون فيغفر لهم إنه هو الغفور الرحيم وفي الخبر لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب قيل وما هو قال العجب (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها (3) وفي الخبر ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب أحد حتى إن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه (4) وفي الخبر إن لله تعالى مائة رحمة ادخر منها عنده تسعاً وتسعين رحمة وأظهر منها في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق فتحن الوالدة على ولدها وتعطف البهيمة على ولدها فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى التسع والتسعين ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات والأرض قال فلا يهلك على الله يومئذ إلا هالك (5) وفي الخبر ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ (6) وقال عليه أفضل الصلاة والسلام اعملوا وابشروا واعلموا أن أحداً لن ينجيه عمله (7) وقال صلى الله عليه وسلم إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها للمطيعين المتقين بل هي للمتلوثين المخلطين (8) وقال صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة (9) وقال صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى أحب أن يعلم أهل الكتابين أن في ديننا سماحة (10) ويدل على معناه استجابة الله تعالى للمؤمنين في قولهم {ولا تحمل عليناً إصراً} وقال تعالى {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} وروى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لما نزل قوله تعالى {فاصفح الصفح الجميل} قال يا جبريل وما الصفح الجميل قال عليه السلام إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه فقال يا جبريل فالله تعالى أكرم من أن يعاتب من عفا عنه فبكى جبريل وبكى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الله تعالى
_________
(1) حديث لو لم تذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم وفي لفظ لذهب بكم الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب واللفظ الثاني من حديث أبي هريرة قريبا منه
(2) حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب قيل ما هو قال العجب أخرجه البزار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أنس وتقدم في ذم الكبر والعجب
(3) حديث والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها متفق عليه من حديث عمر بنحوه
(4) حديث ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت قط على قلب أحد الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف
(5) حديث إن الله تعالى مائة رحمة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(6) حديث ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
(7) حديث اعملوا وابشروا واعلموا أن أحداً لن ينجيه عمله تقدم أيضا
(8) حديث إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة لكل نبي دعوة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي ورواه مسلم من حديث أنس وللترمذي من حديثه وصححه وابن ماجه من حديث جابر شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ولإبن ماجه من حديث أبي موسى ولأحمد من حديث ابن عمر خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أترونها للمتقين الحديث وفيه من لم يسم
(9) حديث بعثت بالحنيفية السمحة السهلة أخرجه أحمد من حديث أبي أمامة بسند ضعيف دون قوله السهلة وله وللطبراني من حديث ابن عباس أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة وفيه محمد بن إسحاق رواه بالعنعنة
(10) حديث أحب أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة رواه أبو عبيد في غريب الحديث وأحمد(4/151)
إليهما ميكائيل عليه السلام وقال إن ربكما يقرئكما السلام ويقول كيف أعاتب من عفوت عنه هذا ما لا يشبه كرمي (1) والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن تحصى
وأما الآثار فقد قال علي كرم الله وجهه من أذنب ذنباً فستره الله عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة ومن أذنب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده في الآخرة وقال الثوري ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني اعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما
وقال بعض السلف المؤمن إذا عصى الله تعالى ستره عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه
وكتب محمد بن صعب إلى أسود بن سالم بخطه إن العبد إذا كان مسرفا فاعلى نفسه فرفع يديه يدعو ويقول يا رب حجبت الملائكة صوته وكذا الثانية والثالثة حتى إذا قال الرابعة يا ربي قاله الله تعالى حتى متى تحجبون عني صوت عبدي قد علم عبدي أنه ليس له رب يغفر له الذنوب غيري أشهدكم إني قد غفرت له وقال إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه خلا لي الطواف ليلة وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبداً فهتف بي هاتف من البيت يا إبراهيم أنت تسألني العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون مني ذلك فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر وكان الحسن يقول لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السماوات ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب وقال الجنيد رحمه الله تعالى إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين
ولقي مالك بن دينار أبانا فقال له إلى كم تحدث الناس بالرخص فقال يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح
وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه وكان من خيار التابعين وهو ممن تكلم بعد الموت قال لما مات أخي سجي بثوبه وألقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعداً وقال إني لقيت ربي عز وجل فحياني بروح وريحان وربي غير غضبان وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون فلا تفتروا وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم
قال ثم طرح نفسه فكأنها كانت حصاة وقعت في طشت فحملناه ودفناه
وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى فكان أحدهما يسرف على نفسه وكان الآخر عابداً وكان يعظه ويزجره فكان يقول دعني وربي أبعثت علي رقيباً حتى رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال لا يغفر الله لك
قال فيقول الله تعالى يوم القيامة أيستطيع أحد أن يحظر رحمتي على عبادي اذهب أنت فقد غفرت لك ثم يقول للعابد وأنت فقد أوجبت لك النار
قال فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته (2)
وروي أيضاً أن لصاً كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة فمر عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد من عباد بني إسرائيل من الحواريين فقال اللص في نفسه هذا نبي الله يمر وإلى جنبه جواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثا قال فنزل فجعل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيماً للحواري ويقول في نفسه مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد
قال وأحس الحواري به فقال في نفسه هذا يمشي إلى جانبي فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام
_________
(1) حديث محمد بن الحنفية عن علي لما نزل قوله تعالى {فاصفح الصفح الجميل} قال يا جبريل ما الصفح الجميل قال إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه الحديث أخرجه ابن مردويه في تفسيره موقوفا على على مختصرا قال الرضا بغير عتاب ولم يذكر بقية الحديث وفي إسناده نظر
(2) حديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله عز وجل فكان أحدهما يسرف على نفسه وكان الآخر عابداً الحديث رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد جيد(4/152)
قل لهما ليستأنفا العمل فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما أما الحوارى فقد أحبطت حسناته لعجبه بنفسه وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه فأخبرهما بذلك وضم اللص إليه في سياحته وجعله من حواريه
وروى عن مسروق أن نبياً من الأنبياء كان ساجدا فوطىء عنقه بعض العصاة حتى ألزق الحصى بجبهته قال فرفع النبي عليه الصلاة والسلام رأسه مغضبا فقال اذهب فلن يغفر الله لك فأوحى الله تعالى إليه تتألى على في عبادي إني قد غفرت له
ويقرب من هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل عليه قوله تعالى ليس لك من الأمر شيء الآية فترك الدعاء عليهم وهدى الله تعالى عامة أولئك للإسلام (1)
وروى في الأثر أن رجلين كانا من العابدين متساويين في العبادة قال فإذا أدخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه فيقول يا رب ما كان هذا في الدنيا بأكثر مني عبادة فرفعته علي في عليين فيقول الله سبحانه إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى وأنت كنت تسألني النجاة من النار فأعطيت كل عبد سؤله وهذا يدل على أن العبادة على الرجاء أفضل لأن المحبة أغلب على الراجي منها على الخائف فكم من فرقف في الملوك بين من يخدم اتقاء لعقابه وبين من يخدم إرتجاه لإنعامه وإكرامه
ولذلك أمر الله تعالى بحسن الظن ولذلك قال صلى الله عليه وسلم سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما (2) وقال إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء (3)
وقال بكر بن سليم الصواف دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها فقلنا يا أبا عبد الله كيف تجدك قال لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب ثم ما برحنا حتى أغمضناه
وقال يحيى بن معاذ في مناجاته يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إليك مع الأعمال لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف
وقيل إن مجوسيا استضاف إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال إن أسلمت أضفتك فمر المجوسي
_________
(1) حديث ابن عباس كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل قوله تعالى {ليس لك من الأمر شيء} فترك الدعاء عليهم الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عمر أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله عز وجل ليس لك من الأمر شيء إلى قوله فإنهم ظالمون ورواه الترمذي وسماهم أبا سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وزاد فتاب عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم وقال حسن غريب وفي رواية له أربعة نفر لم يسمهم وقال فهداهم الله للإسلام وقال حسن غريب صحيح
(2) حديث سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما لم أجده بهذا اللفظ وللترمذي من حديث ابن مسعود سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسئل وقال هكذا روى حماد بن واقد وليس بالحافظ
(3) حديث إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله لا يتعاظمه شيء أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم وليعظم الرغبة فإن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء أعطاه والبخاري من حديث أبي هريرة في أثناء حديث فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ورواه الترمذي من حديث معاذ وعبادة بن الصامت(4/153)
فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيير دينه ونحن من سبعين سنة نطعمه على كفره فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك فمر إبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده وأضافه فقال له المجوسي ما السبب فيما بدا لك فذكر له فقال له المجوسي أهكذا يعاملني ثم قال أعرض على الإسلام فأسلم
ورأى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي في المنام وكان يقول بوعيد الأبد فقال له كيف حالك فقال وجدنا الأمر أهون مما توهمنا
ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف فقال له يا أستاذ بما نلت هذا فقال بحسن ظني بربي
وحكى أن أبا العباس بن سريج رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة قد قامت وإذا الجبار سبحانه يقول أين العلماء قال فجاءوا ثم قال ماذا عملتم فيما علمتم قال فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا قال فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد جوابا غيره فقلت أما أنا فليس في صحيفتي الشرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه فقال اذهبوا به فقد غفرت لكم ومات بعد ذلك بثلاث ليال
وقيل كان رجل شريب جمع قوما من ندمائه ودفع إلى غلامه أربعة دراهم وأمره أن يشتري شيئا من الفواكه للمجلس فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير شيئا ويقول من دفع إليه أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات قال فدفع الغلام إليه الدراهم فقال منصور ما الذي تريد أن أدعو لك فقال لي سيد أريد أن أتخلص منه فدعا منصور وقال الأخرى
قال أن يخلف الله على دراهمي فدعا ثم قال الآخرى قال أن يتوب الله على سيدي فدعا ثم قال الأخرى فقال أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم فدعا منصور فرجع الغلام فقال له سيده لم أبطأت فقص عليه القصة قال وبما دعا فقال سألت لنفسي العتق فقال له اذهب فانت حر قال وأيش الثاني قال أن يخلف الله على الدراهم قال لك أربعة آلاف درهم وايش الثالث قال أن يتوب الله عليك قال تبت إلى الله تعالى قال وأيش الرابع قال أن يغفر الله لي ولك وللقوم قال هذا الواحد ليس إلى فلما بات تلك الليلة رأى في المنام كأن قائلاً يقول له أنت فعلت ما كان إليك أفترى أني لا أفعل ما إلى قد غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار وللقوم الحاضرين أجمعين
وروى عن عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي قال رأيت ثلاثة من الرجال وإمرأة يحملون جنازة قال فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة وصلينا عليها ودفنا الميت فقلت للمرأة من كان هذا الميت منك قالت ابني قلت ولم يكن لكم جيران قالت بلى ولكن صغروا أمره قلت وأيش كان هذا قالت مخنثا قال فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي وأعطيتها دراهم وحنطة وثيابا قال فرأيت تلك الليلة كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب بيض فجعل يتشكرني فقلت من أنت فقال المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي بإحتقار الناس إياي
وقال إبراهيم الأطروش كنا قعودا ببغداد مع معروف الكرخي على دجلة إذ مر أحداث في زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون فقالوا لمعروف أما تراهم يعصون الله مجاهرين ادع الله عليهم فرفع يديه وقال إلهى كما فرحتم في الدنيا ففرحهم في الآخرة فقال القوم إنما سألناك أن تدعو عليهم فقال إذا(4/154)
فرحهم في الآخرة تاب عليهم وكان بعض السلف يقول في دعائه يا رب وأي أهل دهر لم يعصوك ثم كانت نعمتك عليهم سابغة ورزقك عليهم دارا سبحانك ما أحلمك وعزتك إنك لتعصى ثم تسبغ النعمة وتدر الرزق حتى كأنك يا ربنا لا تغضب
فهذه هي الأسباب التي بها يجلب روح الرجاء إلى قلوب الخائفين والآيسين فأما الحمقى المغرورون فلا ينبغي أن يسمعوا شيئا من ذلك بل يسمعون ما سنورده في أسباب الخوف فإن أكثر الناس لا يصلح إلى على الخوف كالعبد السوء والصبى العرم لا يستقيم إلا بالسوط والعصا وإظهار الخشونة في الكلام
وأما ضد ذلك فيسد عليهم باب الصلاح في الدين والدنيا الشطر الثاني من الكتاب في الخوف
وفيه
بيان حقيقة الخوف
وبيان درجاته وبيان أقسام المخاوف وبيان فضيلة الخوف وبيان الأفضل من الخرف والرجاء وبيان دواء الخوف وبيان معنى سوء الخاتمة وبيان أحوال الخائفين من الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين رحمة الله عليهم ونسأل الله حسن التوفيق بَيَانُ حَقِيقَةِ الْخَوْفِ
اعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْقَلْبِ وَاحْتِرَاقِهِ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ في الإستقبال وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء ومن أنس بالله وملك الحق قلبه وصار ابن وقته مشاهدا لجمال الحق على الدوام لم يبق له التفات إلى المستقبل فلم يكن له خوف ولا رجاء بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمانان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد
وقال أيضا إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضلة لرجاء ولا لخوف وبالجملة فالمحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في الشهود وإنما دوام الشهود غاية المقامات ولكنا الآن إنما نتكلم في أوائل المقامات فنقول حال الخوف ينتظم أيضا من علم وحال وعمل
أما العلم فهو العلم بالسبب المفضى إلى المكروه وذلك كمن جنى على ملك ثم وقع في يده فيخاف القتل مثلا ويجوز العفو والإفلات ولكن يكون تألم قلبه بالخوف بحسب قوة عليه بالأسباب المفضية إلى قتله وهو تفاحش جنايته وكون الملك في نفسه حقودا غضوبا منتقما وكونه محفوفا بمن يحثه على الإنتقام خاليا عمن يتشفع إليهم في حقه وكان هذا الخائف عاطلا عن كل وسيلة وحسنة تمحو أثر جنايته عند الملك فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوة الخوف وشدة تألم القلب وبحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف بل عن صفة المخوف كالذي وقع في مخالب سبع فإنه يخاف السبع لصفة ذات السبع وهي حرصه وسطوته على الإفتراس غالبا وإن كان إفتراسه بالإختيار وقد يكون من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو جوار حريق فإن الماء يخاف لأنه بطبعه مجبول على السيلان والإعراق وكذا النار على الإحراق فالعلم بأسباب المكروه هو السَّبَبُ الْبَاعِثُ الْمُثِيرُ لِإِحْرَاقِ الْقَلْبِ وَتَأَلُّمِهِ وَذَلِكَ الإحراق هو الخوف فكذلك الخوف مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً يَكُونُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْعَالَمِينَ لَمْ يُبَالِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ وَتَارَةً يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْعَبْدِ بِمُقَارَفَةِ الْمَعَاصِي وَتَارَةً يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا وَبِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِغْنَائِهِ وَأَنَّهُ لَا يسئل عما يفعل وهم يسئلون(4/155)
فتكون قُوَّةُ خَوْفِهِ فَأَخْوَفُ النَّاسِ لِرَبِّهِ أَعْرَفُهُمْ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَخْوَفُكُمُ لِلَّهِ (1) وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ثُمَّ إِذَا كَمُلَتِ الْمَعْرِفَةُ أَوْرَثَتْ جَلَالَ الْخَوْفِ وَاحْتِرَاقَ الْقَلْبِ ثُمَّ يَفِيضُ أَثَرُ الْحُرْقَةِ مِنَ القلب على البدن وعلى الجوارج وعلى الصفات
أما في البدن فبالنحول والصفار والغشية والزعقة والبكاء وقد تنشق به المرارة فيفضى إلى الموت أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل أو يقوى فيورث القنوط واليأس
وَأَمَّا فِي الْجَوَارِحِ فَبِكَفِّهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَتَقْيِيدِهَا بالطاعات تلافيا لما فرط وإستعدادا للمستقبل ولذلك قيل ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه وقال أبو القاسم الحكيم من خاف شيئاً هرب منه ومن خاف الله هرب إليه
وقيل لذي النون متى يكون العبد خائفا قال إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمى مخافة طول السقام
وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَبِأَنْ يَقْمَعَ الشَّهَوَاتِ وَيُكَدِّرَ اللَّذَّاتِ فَتَصِيرَ الْمَعَاصِي الْمَحْبُوبَةُ عِنْدَهُ مَكْرُوهَةً كَمَا يَصِيرُ الْعَسَلُ مَكْرُوهًا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ فِيهِ سُمًّا فَتَحْتَرِقُ الشَّهَوَاتُ بِالْخَوْفِ وَتَتَأَدَّبُ الْجَوَارِحُ وَيَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ الذُّبُولُ وَالْخُشُوعُ والذلة والإستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد بل يصير مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيره وَلَا يَكُونُ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُرَاقَبَةُ وَالْمُحَاسَبَةُ والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات مؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف الذي هو تألم القلب وإحتراقه وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته وأفعاله وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات ويسمى الكف الحاصل عن المحظورات ورعا فإن زادت قوته كف عما يتطرق إليه إمكان التحريم فيكف أيضا عما لا يتيقن تحريمه ويسمى ذلك تقوى إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس وهو الصدق في التقوى فإذا انضم إليه التجرد للخدمة فصار لا يبنى مالا يسكنه ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنها تفارقه ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفسا من أنفاسه فهو الصدق وصاحبه جدير بأن يسمى صديقا ويدخل في الصدق التقوى ويدخل في التقوى الورع ويدخل في الورع العفة فإنها عبارة عن الإمتناع عن مقتضى الشهوات خاصة فإذن الخوف يؤثر في الجوارح بالكف والإقدام ويتجدد له بسبب الكف اسم العفة وهو كف عن مقتضى الشهوة وأعلى منه الورع فإنه أعم لأنه كف عن كل محظور وأعلى منه التقوى فإنه اسم للكف عن المحظور والشبهة جميعا ووراءه اسم الصديق والمقرب وتجرى الرتبة الآخرة مما قبلها مجرى الأخص من الأعم فإذا ذكرت الأخص فقد ذكرت الكل كما أنك تقول الإنسان إما عربي وإما عجمي والعربي إما قرشي أو غيره والقرشي إما هاشمي أو غيره والهاشمي إما علوي أو غيره والعلوي إما حسنى أو حسيني فإذا ذكرت أنه حسنى مثلا فقد وصفته بالجميع وإن وصفته بأنه علوي وصفته بما هو فوقه مما هو أعم منه فكذلك إذا قلت صديق فقد قلت إنه تقي وورع وعفيف فلا ينبغي أن تظن أن كثرة هذه الأسامي تدل على معان كثيرة متباينة فيختلط عليك كما اختلط
_________
(1) حديث أنا أخوفكم لله أخرجه البخاري من حديث أنس والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وللشيخين من حديث عائشة والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية(4/156)
على من طلب المعاني من الألفاظ ولم يتبع الألفاظ المعاني فهذه إشارة إلى مجامع معاني الخوف وما يكتنفه من جانب العلو كالمعرفة الموجبة له ومن جانب السفل كالأعمال الصادرة منه كفا وإقداما
بيان درجات الخوف وإختلافه في القوة والضعف
اعلم أن الخوف محمود وربما يظن أن كل ما هو خوف محمود فكل ما كان أقوى وأكثر كان أحمد وهو غلط بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة وكذلك الخوف له قصور وله إفراط وله إعتدال
والمحمود هو الإعتدال والوسط فأما القاصر منه فهو الذي يجرى مجرى رقة النساء يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء وتفيض الدموع وكذلك عند مشاهدة سبب هائل فإذا غاب ذلك السبب عن الحس ورجع القلب إلى الغفلة فهذا خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألما مبرحا فلا يسوقها إلى المقصد ولا يصلح لرياضتها وهكذا خوف الناس كلهم إلا العارفين والعلماء ولست أعني بالعلماء المترسمين برسوم العلماء والمتسمين بأسمائهم فإنهم أبعد الناس عن الخوف بل أعني العلماء بالله وبأيامه وأفعاله وذلك مما قد عز وجوده الآن ولذلك قال الفضيل بن عياض إذا قيل لك هل تخاف الله فاسكت فإنك إن قلت لا كفرت وإن قلت نعم كذبت وأشار به إلى أن الخوف هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا
وأما المفرط فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الإعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط وهو مذموم أيضا لأنه يمنع من العمل وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة وزوال العقل فالمراد من الخوف ما هو المراد من السوط وهو الحمل على العمل ولولاه لما كان الخوف كما لا لأنه بالحقيقة نقصان لأن منشأه الجهل والعجز
أما الجهل فإنه ليس يدري عاقبة أمره ولو عرف لم يكن خائفا لأن المخوف هو الذي يتردد فيه
وأما العجز فهو أنه متعرض لمحذور لا يقدر على دفعه فإذن هو محمود بالإضافة إلى نقص الآدمي وإنما المحمود في نفسه وذاته هو العلم والقدرة وكل ما يجوز أن يوصف الله تعالى به وما لا يجوز وصف الله تعالى به فليس بكمال في ذاته وإنما يصير محمودا بالإضافة إلى نقص هو أعظم منه كما يكون إحتمال ألم الدواء محمودا لأنه أهون من ألم المرض والموت فما يخرج إلى القنوط فهو مذموم وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة وزوال العقل وقد يخرج إلى الموت وكل ذلك مذموم وهو كالضرب الذي يقتل الصبي والسوط الذي يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الرجاء وأكثر منها ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضى إلى القنوط أو أحد هذه الأمور فكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضى إلى المراد المقصود منه وما يقصر عنه أو يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع والتقوى والمجاهدة والعبادة والفكر والذكر وسائر الأسباب الموصلة إلى الله تعالى وكل ذلك يستدعى الحياة مع صحة البدن وسلامة العقل فكل ما يقدح في هذه الأسباب فهو مذموم
فإن قلت من خاف فمات من خوفه فهو شهيد فكيف يكون حاله مذموما فاعلم أن معنى كونه شهيدا أن له رتبة بسبب موته من الخوف كان لا ينالها لو مات في ذلك الوقت لا بسبب الخوف فهو بالإضافة إليه فضيلة فأما بالإضافة إلى تقدير بقائه وطول عمره في طاعة الله وسلوك سبله فليس بفضيلة بل للسالك إلى الله تعالى بطريق(4/157)
الفكر والمجاهدة والترقي في درجات المعارف في كل لحظة رتبة شهيد وشهداء ولولا هذا لكانت رتبة صبي يقتل أو مجنون يفترسه سبع أعلى من رتبة نبي أو ولي يموت حتف أنفه وهو محال فلا ينبغي أن يظن هذا بل أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى فكل ما أبطل العمر أو العقل أو الصحة التي يتعطل العمر بتعطيلها فهو خسران ونقصان بالإضافة إلى أمور وإن كان بعض أقسامها فضيلة بالإضافة إلى أمور أخر كما كانت الشهادة فضيلة بالإضافة إلى ما دونها لا بالإضافة إلى درجة المتقين والصديقين فإذن الخوف إن لم يؤثر في العمل فوجوده كعدمه مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابة وإن أثر فله درجات بحسب ظهور أثره فإن لم يحمل إلا على العفة وهي الكف عن مقتضى الشهوات فله درجة فإذا أثمر الورع فهو أعلى وأقصى درجاته أن يثمر درجات الصديقين وهو أن يسلب الظاهر والباطن عما سوى الله تعالى حتى لا يبقى لغير الله تعالى فيه متسع فهذا أقصى ما يحمد منه وذلك مع بقاء الصحة والعقل فإن جاوز هذا إلى إزالة العقل والصحة فهو مرض يجب علاجه إن قدر عليه ولو كان محمودا لما وجب علاجه بأسباب الرجاء وبغيره حتى يزول ولذلك كان سهل رحمه الله يقول للمريدين الملازمين للجوع أياما كثيرة احفظوا عقولكم فإنه لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل
بيان أقسام الخوف بالإضافة إلى ما يخاف منه
اعلم أن الخوف لا يتحقق إلا بإنتظار مكروه والمكروه أما أن يكون مكروها في ذاته كالنار وإما أن يكون مكروها لأنه يفضى إلى المكروه كما تكره المعاصي لأدائها إلى مكروه في الآخرة وكما يكره المريض الفواكه المضرة لأدائها إلى الموت فلا بد لكل خائف من أن يتمثل في نفسه مكروها من أحد القسمين ويقوى إنتظاره في قلبه حتى يحرق قلبه بسبب استشعاره ذلك المكروه ومقام الخائفين يختلف فيما يغلب على قلوبهم من المكروهات المحذورة فالذين يغلب على قلوبهم ما ليس مكروها لذاته بل لغيره كالذين يغلب عليهم خوف الموت قبل التوبة أو خوف نقض التوبة ونكث العهد أو خوف ضعف القوة عن الوفاء بتمام حقوق الله تعالى أو خوف زوال رقة القلب وتبدلها بالقساوة
أو خوف الميل عن الإستقامة أو خوف إستيلاء العادة في اتباع الشهوات المألوفة أو خوف أن يكله الله تعالى إلى حسناته التي أتكل عليها وتعزز بها في عباد الله أو خوف البطر بكثرة نعم الله عليه أو خوف الإشتغال عن الله بغير الله أو خوف الإستدراج بتواتبر النعم أو خوف إنكشاف غوائل طاعاته حيث يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب أو خوف تبعات الناس عنده في الغيبة والخيانة والغش وإضمار السوء أو خوف ما لا يدرى أنه يحدث في بقية عمره أو خوف تعجيل العقوبة في الدنيا والإفتضاح قبل الموت أو خوف الإغترار بزخارف الدنيا أو خوف إطلاع الله على سريرته في حال غفلته عنه
أو خوف الختم له عند الموت بخاتمة السوء أو خوف السابقة التي سبقت له في الأزل
فهذه كلها مخاوف ولكل واحد خصوص فائدة وهو سلوك سبيل الحذر عما يفضى إلى المخوف فمن يخاف استيلاء العادة عليه فيواظب على الفطام عن العادة والذي يخاف من اطلاع الله تعالى على سريرته يشتغل بتطهير قلبه عن الوساوس وهكذا إلى بقية الأقسام
وأغلب هذه المخاوف على اليقين خوف الخاتمة فإن الأمر فيه مخطر وأعلى الأقسام وأدلها على كمال المعرفة خوف السابقة لأن الخاتمة تتبع السابقة وفرع يتفرع عنها بعد تخلل أسباب كثيرة فالخاتمة تظهر ما سبق به القضاء في أم الكتاب والخائف من الخاتمة بالإضافة إلى الخائف من السابقة كرجلين وقع الملك في حقهما بتوقيع يحتمل أن يكون فيه حز الرقبة ويحتمل أن يكون في تسليم الوزارة إليه ولم يصل التوقيع إليهما بعد فيرتبط قلب أحدهما بحالة وصول التوقيع ونشره وأنه(4/158)
عماذا يظهر ويرتبط قلب الآخر بحالة توقيع الملك وكيفيته وأنه ما الذي خطر له في حال التوقيع من رحمة أوغضب وهذا التفات إلى السبب فهو أعلى من الالتفات إلى ما هو فرع فكذلك الإلتفات إلى القضاء الأزلي الذي جرى بتوقيعه القلم أعلى من الالتفات إلى ما يظهر في الأبد وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان على المنبر فقبض كفيه اليمنى ثم قال هذا كتاب الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص ثم قبض كفه اليسرى وقال هذا كتاب الله كتب فيه أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتى يقال كأنهم مونهم بل هم هم ثم يستنقذهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة وليعملن أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم يستخرجهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة السعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله والأعمال بالخواتيم (1) وهذا كانقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته وإلى من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة فهذا أعلى رتبة ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين وأما الآخر فهو في عرضة الغرور والأمن
إن واظب على الطاعات فالخوف من المعصية خوف الصالحين والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ولم يخف معصيته ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ويسر له سبيلها ومهد له أسبابها فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية وتجري عليه أسبابها ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات ومهد له سبيل القربات فالعاصي قد قضي عليه بالمعصية شاء أم أبى وكذا المطيع فالذي يرفع محمد صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدر وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضرورياً والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة وآتاه الأسباب والقدرة فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضرورياً فليت شعري ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه وكيف يحال ذلك على العبد وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد حزم عند كل عاقل ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم يستجرىء على ذكره ذو بصيرة فقد جاء في الخبر إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري (2) فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى وإن كان لا يقف بك على سببه فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر ولا يكشف ذلك إلا لأهله
والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته وكبره وهيبته ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي فإن قتلك لم يرق قلبه ولا يتألم بقتلك وإن خلاك لم يخلك شفقة عليك وإبقاء على روحك بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حياً كنت أو ميتاً بل إهلاك ألف مثلك وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة إذ لا يقدح
_________
(1) حديث هذا كتاب من الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله ابن عمر بن العاص وقال حسن صحيح غريب
(2) حديث أن الله تعالى أوحى إلى داود يا داود خفني كما يخاف السبع الضاري لم أجد له أصلا ولعل المصنف قصد بإيراده أنه من الإسرائيليات فإنه عبر عنه بقول جاء في الخبر وكثيرا ما يعبر بذلك عن الإسرائيليات التي هي غير مرفوعة(4/159)
ذلك في عالم سبعيته وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ولله المثل الأعلى ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة أنه صادق في قوله هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ويكفيك من موجبات الهيبة والخوف المعرفة بالاستغناء وعدم المبالاة الطبقة الثانية من الخائفين أن يتمثل في أنفسهم ما هو المكروه وذلك مثل سكرات الموت وشدته أو سؤال منكر ونكير أو عذاب القبر أو هول المطلع أو هيبة الموقف بين يدي الله تعالى والحياء من كشف الستر والسؤال عن النقير والقطمير أو الخوف من الصراط وحدته وكيفية العبور عليه أو الخوف من النار وأغلالها وأهوالها أو الخوف من الحرمان عن الجنة دار النعيم والملك المقيم وعن نقصان الدرجات أو الخوف من الحجاب عن الله تعالى وكل هذه الأسباب مكروهة في نفسها فهي لا محالة مخوفة تختلف أحوال الخائفين فيها
وأعلاها رتبة هو خوف الفراق والحجاب عن الله تعالى وهو خوف العارفين وما قبل ذلك هو خوف العاملين والصالحين والزاهدين وكافة العالمين ومن لم تكمل معرفته ولم تنفتح بصيرته لم يشعر بلذة الوصال ولا بألم البعد والفراق وإذا ذكر له أن العارف لا يخاف النار وإنما يخاف الحجاب وجد ذلك في باطنه منكراً وتعجب منه في نفسه وربما أنكر لذة النظر إلى وجه الله الكريم لولا منع الشرع إياه من إنكاره فيكون اعترافه به باللسان عن ضرورة التقليد وإلا فباطنه لا يصدق به لأنه لا يعرف إلا لذة البطن والفرج والعين بالنظر إلى الألوان والوجوه الحسان وبالجملة كل لذة تشاركه فيها البهائم فأما لذة العارفين فلا يدركها غيرهم وتفصيل ذلك وشرحه حرام مع من ليس أهلاً له ومن كان أهلا له استبصر بنفسه واستغنى عن أن يشرحه له غيره فإلى هذه الأقسام يرجع خوف الخائفين نسأل الله تعالى حسن التوفيق بكرمه
بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه
اعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار وتارة بالآيات والأخبار
أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه فكل ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر غايته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولاتحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقعمع الشهوة بشىء كما تقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف كما سبق وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى
وأما بطريق الاقتباس من الآيات والأخبار فما وَرَدَ فِي فَضِيلَةِ الْخَوْفِ خَارِجٌ عَنِ الْحَصْرِ وَنَاهِيكَ دَلَالَةً عَلَى فَضِيلَتِهِ جَمْعُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَائِفِينَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ وَالرِّضْوَانَ وَهِيَ مَجَامِعُ مقامات أهل الجنان وقال الله تعالى وهدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وصفهم بالعلم لخشيتهم
وقال عز وجل {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خشي ربه} وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْخَوْفَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ ولذلك جاء في خبر موسى عليه أفضل الصلاة والسلام وأما الخائفون(4/160)
فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى وذلك لأنهم العلماء والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى كان يقول أسألك الرفيق الأعلى (1)
فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى ولا يخفى ما ورد في فضائلهما حتى إن العاقب صارت موسومة بالتقوى مخصوصة بها كما صار الحمد مخصوصاً بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقال الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين
وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يناله التقوى منكم} وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف كما سبق ولذلك قال تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى فقال تعالى {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} وقال عز وجل {وخافونِ إن كنتم مؤمنين} فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه في الإيمان
فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضيلة التقوى وإذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم مند خلقتكم إلى يومكم هذا فانصتوا إلي اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني قد جعلت نسباً وجعلتم نسباً فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب (2) حديث رأس الحكمة مخافة الله رواه أبو بكر بن لال الفقيه في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب وضعفه من حديث ابن مسعود ورواه في دلائل النبوة من حديث عقبة بن عامر ولا يصح أيضاً
وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي // حديث إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي قاله لابن مسعود لم أقف له على أصل
وقال الفضيل من خاف الله دله الخوف على كل خير
وقال الشبلي رحمه الله ما خفت الله يوماً إلا رأيت له باباً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط
وقال يحيى بن معاذ ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان خوف العقاب ورجاء العفو كثعلب بين أسدين
وفي خبر موسى عليه الصلاة والسلام وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعين فإني أستحي منهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب
والورع والتقوى أسام اشتقت من معان شرطها الخوف فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه الأسامي وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى وقد جعله الله تعالى مخصوصاً بالخائفين فقال {سيذكر من يخشى}
_________
(1) حديث لما خير في مرض موته كان يقول أسألك الرفيق الأعلى متفق عليه من حديث عائشة قالت كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وهو صحيح إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير فلما نزل به ورأسه في حجري غشى عليه ثم أفاق فأشخص ببصره إلى سقف البيت ثم قال اللهم الرفيق الأعلى فعلمت أنه لا يختارنا وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح الحديث
(2) حديث إذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمعه أقصاهم كما يسمعه أدناهم فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت إليكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فانصتوا إلي اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني جعلت نسبا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك بسند ضعيف والثعلبي في التفسير مقتصرا على آخره إني جعلت نسبا الحديث من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه وسلم رأس الحكمة مخافة الله(4/161)
وقال تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عز وجل وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإن خافتي في الدنيا أمنته يوم القيامة (1) حديث من خاف الله خافه كل شيء الحديث رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين بإسناد ضعيف معضل وقد تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم أتمكم عقلاً أشدكم خوفاً لله تعالى وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظراً (2)
وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة
وقال ذو النون رحمه الله تعالى من خاف الله تعالى ذاب قلبه واشتد حبه وصح له لبه
وقال ذو النون أيضاً ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء فإذا غلب الرجاء تشوش القلب وكان أبو الحسين الضرير يقول علامة السعادة خوف الشقاوة لأن الخوف زمام بين الله تعالى وبين عبده فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين
وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غداً فقال أشدهم خوفاً اليوم
وقال سهل رحمه الله لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال
وقيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير فقال والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف
وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله ما فارق الخوف قلباً إلا خرب
وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال لا بل الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه // حديث عائشة قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال لا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت بل منقطع بين عائشة وبين عبد الرحمن بن سعد بن وهب قال الترمذي وروي عن الرحمن بن حازم عن أبي هريرة
والتشديدات الواردة في الأمن من مكر الله وعذابه لا تنحصر وكل ذلك ثناء على الخوف لأن مذمة الشيء ثناء على ضده الذي ينفيه وضد الخوف الأمن كما أن ضد الرجاء اليأس وكما دلت مذمة القنوط على فضيلة الرجاء فكذلك تدل مذمة الأمن على فضيلة الخوف المضاد له بل نقول كل ما ورد في فضل الرجاء فهو دليل على فضل الخوف لأنهما متلازمان فإن كل من رجا محبوبا فلابد وأن يخاف فوته فإن كان لا يخاف فوته فهو إذاً لا يحبه فلا يكون بانتظاره راجياً فالخوف والرجاء متلازمان يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر نعم يجوز أن يغلب أحدهما على الآخر وهما مجتمعان ويجوز أن يشتغل القلب بأحدهما ولا يلتفت إلى الآخر في الحال لغفلته عنه وهذا لأن من شرط الرجاء الخوف تعلقهما بما هو مشكوك فيه إذ المعلوم لا يرجى ولا يخاف فإذن المحبوب الذي يجوز وجوده يجوز عدمه لا محالة فتقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء وتقدير عدمه يوجع القلب وهو الخوف والتقدير أن يتقابلان لا محالة إذا كان ذلك الأمر المنتظر مشكوكاً فيه نعم أحد طرفي الشك قد يترجح على الآخر بحضور بعض الأسباب ويسمى ذلك ظناً فيكون ذلك سبب غلبة أحدهما على الآخر فإذا غلب على الظن وجود المحبوب قوي الرجاء وخفي الخوف بالإضافة إليه وكذا بالعكس وعلى كل حال فهما متلازمان ولذلك قال تعالى {ويدعوننا رغباً ورهباً} وقال عز وجل {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} ولذلك عبر العرب عن الخوف
_________
(1) حديث لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة ورواه ابن المبارك في الزهد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية الحسن مرسلا
وقال صلى الله عليه وسلم من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء
(2) حديث أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفا الحديث لم أقف له على أصل ولم يصح في فضل العقل شيء(4/162)
بالرجاء فقال تعالى {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} أي لا تخافون وكثيراً ما ورد في القرآن الرجاء بمعنى الخوف وذلك لتلازمهما إذ عادة العرب التعبير عن الشيء بما يلازمه بل أقول كل ما ورد في فضل البكاء من خشية الله فهو إظهار لفضيلة الخشية فإن البكاء ثمرة الخشية فقد قال تعالى {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً} وقال تعالى {يبكون ويزيدهم خشوعاً} وقال عز وجل {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى ثم تصيب شيئاً من حر وجهه إلا حرمه الله على النار (1) حديث إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي فيه من حديث العباس بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه وسلم لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع (2) حديث قال عقبة بن عامر ما النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك الحديث تقدم
وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله أيدخل أحد من أمتك الجنة بغير حساب قال نعم من ذكر ذنوبه فبكى (3) حديث ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دمعة من خشية الله الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال حسن غريب وقد تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذروف الدمع مع خشيتك قبل أن تصير الدموع دماً والأضراس جمرا (4) حديث سبعة يظلهم الله في ظله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليتباك
وكان محمد بن المنكدر رحمه الله إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه ويقول
بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله ما تغرغرت عين بمائها إلا لم يرهق وجه صاحبها قتر ولا ذلة يوم القيامة
_________
(1) حديث ما من مؤمن يخرج من عينه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه وسلم إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها
(2) حديث لا يلج النار عبد بكى من خشية الله الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة
وقال عقبة بن عامر من النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
(3) حديث عائشة قلت أيدخل الجنة أحد من أمتك بغير حساب قال نعم من ذكر ذنوبه فبكى لم أقف له على أصل
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله تعالى أو قطرة دم أهريقت في سبيل الله سبحانه وتعالى
(4) حديث اللهم ارزقني عينين هطالتين يشفيان القلب بذروف الدمع الحديث أخرجه الطبراني في الكبير في الدعاء وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر بإسناد حسن ورواه الحسين المروزي في زياداته على الزهد والرقائق لابن المبارك من رواية سالم بن عبد الله مرسلا دون ذكر الله وذكر الدارقطني في العلل أن من قال فيه عن أبيه وهم وإنما هو عن سالم بن عبد الله مرسلا قال وسالم هذا يشبه أن يكون سالم بن عبد الله المحاربي وليس بابن عمر انتهى وما ذكره من أنه سالم المحاربي هو الذي يدل عليه كلام البخاري في التاريخ ومسلم في الكنى وابن أبي حاتم عن أبيه وأبي أحمد الحاكم فإن الراوي له عن سالم عبد الله أبو سلمة وإنما ذكروا له رواية عن سالم المحاربي والله أعلم نعم حكى ابن عساكر في تاريخه الخلاف في أن الذي يروي عن سالم المحاربي أو سالم بن عبد الله بن عمر
وقال صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه(4/163)
فإن سالت دموعه أطفأ الله بأول قطرة منها بحاراً من النيران ولو أن رجلاً بكى في أمة ما عذبت تلك الأمة
وقال أبو سليمان البكاء من الخوف والرجاء والطرب من الشوق
وقال كعب الأحبار رضي الله عنه
والذي نفسي بيده لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بجبل من ذهب
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار
وروي عن حنظلة قال كنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوعظنا موعظة رقت لها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فدنت مني المرأة وجرى بيننا من حديث الدنيا فنسيت ما كنا عليه عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذنا في الدنيا ثم تذكرت ما كنا فيه فقلت في نفسي
قد نافقت حيث تحول عني ما كنت فيه من الخوف والرقة فخرجت وجعلت أنادي
نافق حنظلة فاستقبلني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال
كلا لم ينافق حنظلة فدخلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أقول
نافق حنظلة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا لم ينافق حنظلة فقلت يا رسول الله كنا عندك فوعظتنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فأخذنا في حديث الدنيا ونسيت ما كنا عندك عليه
فقال صلى الله عليه وسلم يا حنظلة لو أنكم كنتم أبداً على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة في الطريق وعلى فراشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة // حديث حنظلة كنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوعظنا الحديث وفيه نافق حنظلة الحديث وفيه ولكن يا حنظلة ساعة وساعة أخرجه مسلم مختصرا
فإذن كل ما ورد في فضل الرجاء والبكاء وفضل التقوى والورع وفضل العلم ومذمة الأمن فهو دلالة على فضل الخوف لأن جملة ذلك متعلقة به إما تعلق السبب أو تعلق المسبب
بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما
اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليها فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما وقول القائل
الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد يضاهي قول القائل الخبز أفضل أم الماء وجوابه أن يقال الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل وإن استويا فهما متساويان وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه والخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب ففضلهما بحسب الداء الموجود فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل ويجوز أن يقال مطلقاً الخوف أفضل على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجبين إذ يعالج بالخبز مرض الجوع وبالسكنجبين مرض الصفراء ومرض الجوع أغلب وأكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل لأن المعاصي والاغترار على الخلق أغلب وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأنه مستقى من بحر الرحمة ومستقى الخوف من بحر الغضب ومن لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب وليس وراء المحبة مقام
وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء(4/164)
وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل فنقول أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء وذلك لأجل غلبة المعاصي
فأما التقي الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه ولذلك قيل لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا
وروي أن علياً كرم الله وجهه قال لبعض ولده يا بني خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاءً ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ولذلك قال عمر رضي الله عنه لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع الغلبة والاستيلاء ولكن على سبيل التقاوم والتساوي فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثني من الذين أمروا بدخول النار كان ذلك دليلاً على اغتراره
فإن قلت مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالزرع والبذر ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ولم يكن خوفه مساوياً لرجائه فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ والأمثلة يكثر زلله وذلك وإن أوردناه مثالاً فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها وصحة البذر وصحة الهواء وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ولم يختبرها وهي في بلاد ليس يدري أتكثر الصواعق فيها أم لا فمثل هذا الزارع وإن أدى كنه مجهوده وجاء بكل مقدوره فلا يغلب رجاؤه على خوفه والبذر في مسألتنا هو الإيمان وشروطه صحته دقيقة والأرض القلب وخفايا خبثه وصفائه من الشرك الخفي والنفاق والرياء وخفايا الأخلاق فيه غامضة والآفات هي الشهوات وزخارف الدنيا والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان وإن سلم في الحال وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة إذ قد تعرض من الأسباب ما لا يطاق مخالفته ولم يجرب مثله والصواعق هي أهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده وذلك مما لم يجرب مثله ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة وذلك لم يجرب فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جباناً في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة كما سيحكى في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين وإن كان قوي القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه فأما أن يغلب رجاؤه فلا ولقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئاً إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين (1)
فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق والشرك الخفي وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه وإخفاء عيبه عنه وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر // حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبرا وفي رواية الأقدر فواق ناقة الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وللبزار وللطبراني في الأوسط سبعين سنة وإسناده حسن وللشيخين في أثناء حديث لابن مسعود أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع الحديث ليس فيه تقدير زمن للعمل بخمسين سنة ولا ذكر شبر {ولا} فواق ناقة
وفي رواية إلا قدر فواق
_________
(1) حديث أن حذيفة كان خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين أخرجه مسلم من حديث حذيفة في أصحابي اثنا عشر منافقا تمامه لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط الحديث(4/165)
ناقة فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار وقدر فواق الناقة لا يحتمل عملاً بالجوارح إنما هو بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء فكيف يؤمن ذلك فإذن أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاءه وغلبة الرجاء في غالب الناس تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى عليهم فقال تعالى يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وقال عز وجل ويدعوننا رغباً ورهباً وأين مثل عمر رضي الله عنه فالخلق الموجودة في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سبباً للتكاسل عن العمل وداعياً إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط
وقد قال يحيى بن معاذ من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة الادكار
وقال مكحول الدمشقي من عبد الله بالخوف فهو حروري ومن عبده بالرجاء فهو مرجىء ومن عبده بالمحبة فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد
فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محبا لله تعالى ليكون محبا للقاء الله تعالى فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه والقدوم بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن والعقار والرفقاء والأصحاب فهذا رجل محابه كلها في الدنيا فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا إذن سجنه لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه فموته قوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من(4/166)
الأنكال والسلاسل والأغلال وضروب الخزي والنكال فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ومال ووطن فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد (1)
والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه // حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه أخرجه مسلم من حديث جابر وقد تقدم
وقال تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه
وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام أن حببني إلى عبادي فقال بماذا قال بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي فإذن غاية السعادة أن يموت محباً لله تعالى وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله فقال الآن أفلت فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له إنه مات البارحة
بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف
اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى باليوم والآخر والجنة والنار وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر فإن الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء والنار قد حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف ولذلك قال علي كرم الله وجهه
من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر فيه على الدوام ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء ولا بعدهما مقام سوى الصبر وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهراً وباطناً ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس ومن ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي فنقول الخوف يحصل بطريقتين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها فإذا نظر الصبي إلى أبيه
_________
(1) حديث اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك الحديث أخرجه الترمذي من حديث معاذ وتقدم في الأذكار والدعوات(4/167)
وهو ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته
وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين أحدهما الخوف من عذابه والثاني الخوف منه فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى ويحذركم الله نفسه وقوله عز وجل اتقوا الله حق تقاته وأما الأول فهو خوف عموم الخلق وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة وتزول أيضاً بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو المخوف أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه
قال ذو النون رحمه الله تعالى خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي وهذه خشية العلماء حيث قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء ولعموم المؤمنين أيضاً حظ من هذه الخشية ولكن هو بمجرد التقليد أيضا هي خوف الصبي من الحية تقليداً لأبيه وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحية فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليداً له كما احترز من أخذها تقليداً لأبيه والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات واجتناب المعاصي مدة طويلة على الاستمرار فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعاً في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام خفني كما تخاف السبع الضاري
ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبه فلا يحتاج إلى حيلة سواء فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ويحكم ما يريد ولا يخاف قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة بل صفته ما ترجمه قوله تعالى هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي
وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصى شاء أم أبى فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعاً بها بالضرورة فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضي عليه في الأزل وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال احتج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما فحج آدم موسى عليه السلام قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض
فقال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاماً
قال آدم فهل وجدت فيها {وعصى آدم ربه فغوى} قال نعم
قال أفتلومني على(4/168)
أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة قال صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى (1)
فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف فإن كان عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه وقد يهجم عليه فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه سمي اتفاقاً وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقاً والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع لأن السبع مسخر إن سلط عليه الجوع افترس وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته فلست أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل واحد أهلاً يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له فخلق الجنة وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا وخلق النار وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة فهذه مخاوف العارفين بسر القدر فمن قعد به الْقُصُورِ عَنِ الِارْتِفَاعِ إِلَى مَقَامِ الِاسْتِبْصَارِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ بِسَمَاعِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فَيُطَالِعَ أحوال الخائفين العارفين وَأَقْوَالَهُمْ وَيَنْسُبَ عُقُولَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ إِلَى مَنَاصِبِ الرَّاجِينَ الْمَغْرُورِينَ فَلَا يَتَمَارَى فِي أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ أَوْلَى لِأَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ
وَأَمَّا الْآمِنُونَ فهم الفراعنة والجهال والأغنياء
أَمَّا رَسُولُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (2)
وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا (3) حديث أنه كان يصلي على طفل سمع في دعائه يقول اللهم قِه عذاب القبر وعذاب النار أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على صبي أو صبية وقال لو كان أحد نجا من ضمة القبر لنجا هذا الصبي واختلف في إسناده فرواه في الكبير من حديث أبي أيوب أن صبيا دفن فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي
وفي رواية ثانية أنه سمع قائلاً يقول هَنِيئًا لَكَ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ فَغَضِبَ وَقَالَ مَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَاللَّهِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُصْنَعُ بِي إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم (4) حديث لما توفي عثمان بن مظعون قالت أم سلمة هنيئاً لك الجنة الحديث أخرجه البخاري من حديث أم العلاء الأنصارية وهي القائلة رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله قال وما يدريك الحديث وورد أن التي قالت ذلك أم خارجة بن زيد ولم أجد فيه ذكر أم سلمة
وقال محمد بن خولة الحنفية والله لا أزكي أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وهو متفق عليه بألفاظ أخر
(2) حديث كان سيد الأولين والآخرين أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أنا سيد ولد آدم ولا فخر الحديث
(3) حديث كان أشد الناس خوفا تقدم قبل هذا بخمسة وعشرين حديثا قوله والله إني لأخشاكم لله وقوله والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية
حتى روي أنه كان يصلي على طفل ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول اللهم قِه عذاب القبر وعذاب النار
(4) حديث أنه سمع قائلة تقول لِطِفْلٍ مَاتَ هَنِيئًا لَكَ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجنة فغضب وقال ما يدريك الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت توفى صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة الحديث وليس فيه فغضب وقد تقدم
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى جِنَازَةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ لَمَّا قَالَتْ أم سلمة هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ فَكَانَتْ تَقُولُ أم سلمة بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بعد عثمان(4/169)
ولا أبي الذي ولدني قال فثارت الشيعة عليه فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ اسْتُشْهِدَ فَقَالَتْ أُمُّهُ هَنِيئًا لَكَ عصفور من عصافير الجنة هَاجَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ وَيَمْنَعُ مَا لَا يضره (1) حديث دخل عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ عَلِيلٌ فَسَمِعَ امْرَأَةً تقول هنيئا له الجنة الحديث تقدم أيضا
وَكَيْفَ لَا يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا (2) حديث أنه وجبريل صلى الله عليهما وسلم بكيا خوفاً من الله عز وجل فأوحى الله إليهما لم تبكيان الحديث أخرجه ابن شاهين في شرح السنة من حديث عمر ورويناه في مجلس عن أماني أبي سعيد النقاش بسند ضعيف
وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله قد أمنتكما ابتلاءً وامتحاناً لهما ومكراً بهما حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما
_________
(1) حديث إن رجلا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ اسْتُشْهِدَ فَقَالَتْ أُمُّهُ هَنِيئًا لك يا بني الجنة رواه البيهقي في الشعب إلا أنه قال فقالت أمه هنيئاً لك الشهادة وهو عند الترمذي إلا أنه قال إن رجلاً قال له أبشر بالجنة وقد تقدم في ذم المال والبخل مع اختلاف
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ دَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ عَلِيلٌ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذِهِ الْمُتَأَلِّيَةُ على الله تعالى فقال المريض هي أمي يا رسول الله فقال وَمَا يُدْرِيكِ لَعَلَّ فُلَانًا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه
(2) حديث شيبتني هود وأخواتها الحديث أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث ابن عباس وهو في الشمائل من حديث أبي جحيفة وقد تقدم في كتاب السماع
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ لَعَلَّ ذَلِكَ لِمَا فِي سُورَةِ هود من الإبعاد كقوله تعالى ألا بعد لعاد قوم هود ألا بعداً لثمود ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود مَعَ عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لو شاء الله ما أشركوا إذا لو شاء لآتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة إما خافضة قوما كانوا مرفوعين في الدنيا وإما رافعة قوما كانوا مخفوضين في الدنيا
وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت وفي عم يتساءلون يوم ينظر المرء ما قدمت يداه الآية وقوله تعالى لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لكان كافيا إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها وأشد منه قوله تعالى فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وقوله تعالى ليسأل الصادقين عن صدقهم وقوله تعالى سنفرغ لكم أيه الثقلان وقوله عز وجل أفأمنوا مكر الله الآية
وقوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد وقوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا الآيتين
وقوله تعالى وإن منكم إلا واردها الآية وقوله اعملوا ما شئتم الآية وقوله من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية
قوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآيتين
وقوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل الآية
وكذلك قوله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلى آخر السورة فهذه أربعة شروط للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون حتى روى أن النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفا من الله تعالى فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما فقالا ومن يأمن مكرك(4/170)
كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال حسبي الله وكانت هذه من الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء حتى قال ألك حاجة فقال أما إليك فلا فكان ذلك وفاءً بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال وإبراهيم الذي وفى أي بموجب قوله حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة إذاً لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له لا تخف إنك أنت الأعلى ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك // حديث قال يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم الحديث فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه دع عنك مناشدتك ربك فإنه وافٍ لك بما وعدك فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِأَسْرَارِ الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك {وقال} إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم الآية فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطاً يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان فضلاً عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلكك فقد أهلك أمثالك ممن لا يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ويمرض من ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ثم يخبر عنه ويقول ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال تعالى وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم الآية فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه ولو كان الأمر آنفاً لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه واستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح فمن يسرت له أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعاً وبظاهره وباطنه على الله مقبلاً كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقاً به ولكن خطر الخاتمة وعسر الثبات يزيد نيران الخوف إشعالاً ولا يمكنها من الانطفاء وَكَيْفَ يُؤْمَنُ تَغَيُّرُ الْحَالِ وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ وَإِنَّ الْقَلْبَ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ فِي غَلَيَانِهَا وَقَدْ قَالَ مقلب القلوب عز وجل إن عذاب ربهم غير مأمون فَأَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ أَمِنَهُ وَهُوَ يُنَادِي بِالتَّحْذِيرِ من الأمن ولو أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف
فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب
قال بعض العارفين لو حالت بيني وبين من عرفته بالتوحيد خمسين(4/171)
سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب
وقال بعضهم لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار
وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عن الموت إلا سلبه
وكان سهل يقول خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال وقلوبهم وجلة
ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع فقيل له يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك فقال أو على ذنوبي أبكي لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا
وحكي عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزاً وسكراً وانثره على صبيان أهل البلد وقل هذا عرس المنفلت وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الوفاة
فقال وبم اعلم ذلك فذكر له علامة فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز وفرقه
وكان سهل يقول المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر
وكان أبو زيد يقول إذا توجهت إلى المسجد فكأن في وسطي زناراً أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فينقطع عني الزنار فهذا لي في كل يوم خمس مرات
وروي عن المسيح عليه الصلاة والسلام أنه قال يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي ونحن معاشر الأنبياء نخاف الكفر
وروي في أخبار الأنبياء أن نبياً شكى إلى الله تعالى الجوع والقمل والعري سنين وكان لباسه الصوف
فأوحى الله تعالى إليه عبدي أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال بلى قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر
فإن كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة فكيف لا يخافه الضعفاء
ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت مثل البدعة والنفاق والكبر وجملة من الصفات المذمومة ولذلك اشتد خوف الصحابة من النفاق حتى قال الحسن لو أعلم أني برئ من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل الإيمان بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلماً منافقاً وله علامات كثيرة قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وإن كانت فيه خصلة منهم ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر (1)
وفي لفظ آخر وإذا عاهد غدر
وقد فسر الصحابة والتابعون النفاق بتفاسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق إذ قال الحسن إن من النفاق اختلاف السر والعلانية واختلاف اللسان والقلب واختلاف المدخل والمخرج ومن الذي يخلو عن هذا المعاني
_________
(1) حديث أربع من كن فيه فهو منافق الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم في قواعد العقائد(4/172)
بل صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسى كونها منكر الكلية بل جرى ذلك على قرب عهد بزمان النبوة فكيف الظن بزماننا حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيصير بها منافقاً إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات (1) حديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر الحديث أخرجه البخاري من حديث أنس وأحمد والبزار من حديث أبي سعيد وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن فرص وصحح إسناده وتقدم في التوبة
وقال بعضهم علامة النفاق أن تكره من الناس ما تأتي مثله وأن تحب على شيء من الجور وأن تبغض على شيء من الحق
وقيل من النفاق أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه ذلك
وقال رجل لابن عمر رحمه الله إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم فيما يقولون فإذا خرجنا تكلمنا فيهم فقال كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسو الله صلى الله عليه وسلم (2)
وروي أنه سمع رجلاً يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا أكنت تتكلم بما تكلمت به قال لا
قال كنا نعد هذا نفاقاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (3) حديث إن نفرا قعدوا عند باب حذيفة ينتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج سكتوا الحديث لم أجد له أصلا
وهذا حذيفة كان قد خص بعلم المنافقين وأسباب النفاق وكان يقول إنه يأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للأيمان فيه مغرز إبرة فقد عرفت بهذا أن خوف العارفين من سوء الخاتمة وأن سببه أمور تتقدمه منها البدع
ومنها المعاصي ومنها النفاق ومتى يخلو العبد عن شيء من جملة ذلك وإن ظن أنه خلا عنه فهو النفاق إذ قيل من أمن النفاق فهو منافق
وقال بعضهم لبعض العارفين إني أخاف على نفسي النفاق فقال لو كنت منافقاً لما خفت النفاق فلا يزال العارف بين الالتفات إلى السابقة والخاتمة خائفاً منهما ولذلك قال صلى الله عليه وسلم العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فوالذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار (4)
والله المستعان
بيان معنى سوء الخاتمة
فإن قلت إن أكثر هؤلاء يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة فما معنى الخاتمة فاعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين
إحداهما أعظم من الأخرى فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على
_________
(1) حديث حذيفة إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيصير بها منافقاً الحديث أخرجه أحمد من حديث حذيفة وقد تقدم في قواعد العقائد وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقولون إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الكبائر
(2) حديث قال رجل لابن عمر إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم بما يقولون الحديث رواه أحمد والطبراني وقد تقدم في قواعد العقائد
(3) حديث سمع ابن عمر رجلاً يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا الحديث تقدم هناك ولم أجد فيه ذكر الحجاج
وأشد من ذلك ما روي أن نفراً قعدوا على باب حذيفة بنتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج عليهم سكتوا حياءً منه فقال تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا فقال كنا نعد هذا نفاقاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
(4) حديث العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من رواية الحسن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في ذم الدنيا ذكره ابن المبارك في كتاب الزهد بلاغا وذكره صاحب الفردوس من حديث جابر ولم يخرجه ولده في مسند الفردوس(4/173)
القلب من عقدة الجحود حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحال فيكون استغراق قلبه به منكساً رأسه إلى الدنيا وصارفاً وجهه إليها
ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب
ومهما حصل الحجاب نزل العذاب إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى فتقول له النار جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر لأن المرء يموت على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك وعند ذلك تعظم الحسرة إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو بعد آلاف سنين
فإن قلت فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة ويمهل طول هذه المدة فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة (1)
وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون باباً من الجحيم (2)
كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة
وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر (3)
والتعذيب بعده (4)
ثم المناقشة في الحساب (5)
والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة (6)
ثم بعد ذلك خطر الصراط (7) حديث هو الزبانية أخرجه الطبراني من حديث أنس الزبانية يوم القيامة أسرع إلى فسقة حملة القرآن منها الى عبدة الأوثان والنيران قال صاحب الميزان حديث منكر وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم معضلا في خزنة جهنم ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب //
إلى آخر ما وردت به الأخبار فلا يزال الشقي متردداً في جميع أحواله بين أصناف العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته ولا تظنن أن محل الإيمان لا يأكله التراب بل التراب يأكل جميع الجوارح ويبددها إلى أن يبلغ الكتاب أجله فتجتمع الأجزاء المتفرقة وتعاد إليها الروح التي هي محل الإيمان وقد كانت من وقت الموت إلى الإعاذة إما في حواصل طيور خضر معلقة تحت العرش إن كانت سعيدة وإما على حالة تضاد هذه الحال إن كانت والعياذ بالله شقية
_________
(1) حديث القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال غريب وتقدم في الأذكار
(2) حديث إنه يفتح إلى قبر المعذب سبعون باباً من الجحيم لم أجد له أصلا
(3) حديث سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر تقدم في قواعد العقائد
(4) حديث عذاب القبر تقدم فيه
(5) حديث المناقشة في الحساب تقدم فيه
(6) حديث الافتضاح على ملأ الأشهاد في القيامة رواه أحمد والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد جيد من انتقى من ولده ليفضحه في الدنيا فضحه الله على رءوس الأشهاد وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم والطبراني والعقيلي في الضعفاء من حديث الفضيل بن عياض فضوح الدنيا أهون من فوضح الآخرة وهو حديث طويل منكر
(7) حديث خطر الصراط تقدم في قواعد العقائد
وهول الزبانية(4/174)
فإن قلت فما السبب الذي يفضي إلى سوء الخاتمة فاعلم أن أسباب هذه الأمور لا يمكن إحصاؤها على التفصيل ولكن يمكن الإشارة إلى مجامعها أما الختم على الشك والجحود فينحصر سببه في شيئين
أحدهما يتصور مع تمام الورع والزهد وتمام الصلاح في الأعمال كالمبتدع الزاهد فإن عاقبته مخطرة جداً وإن كانت أعماله صالحة ولست أعني مذهباً فأقول إنه بدعة فإن بيان ذلك يطول القول فيه بل أعني بالبدعة أن يعتقد الرجل في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق فيعتقده على خلاف ما هو عليه إما برأيه ومعقوله ونظره الذي به يجادل الخصم وعليه يعول وبه يغتر وإما أخذاً بالتقليد ممن هذا حاله فإذا قرب الموت وظهرت له ناصية ملك الموت واضطرب القلب بما فيه ربما ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده جهلاً إذ حال الموت حال كشف الغطاء ومبادىء سكراته منه فقد ينكشف به بعض الأمور فمهما بطل عنده ما كان اعتقده وقد كان قاطعاً به متيقنا له عند نفسه لم يظن بنفسه أنه أخطأ في هذا الاعتقاد خاصة لالتجائه فيه إلى رأيه الفاسد وعقله الناقص بل ظن أن كل ما اعتقده لا أصل له إذ لم يكن عنده فرق في إيمانه بالله ورسوله وسائر اعتقاداته الصحيحة وبين اعتقاده الفاسد فيكون انكشاف بعض اعتقاداته عن الجهل سبباً لبطلان بقية اعتقاداته أو لشكه فيها فإن اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل أن يثبت ويعود إلى أصل الإيمان فقد ختم له بالسوء وخرجت روحه على الشرك والعياذ بالله منه فهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبقوله عز وجل قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وكما أنه ينكشف في النوم ما سيكون في المستقبل وذلك بسبب خفة أشغال الدنيا عن القلب فكذلك ينكشف في سكرات الموت بعض الأمور إذ شواغل الدنيا وشهوات البدن هي المانعة للقلب من أن ينظر إلى الملكوت فيطالع ما في اللوح المحفوظ لتنكشف له الأمور على ما هي عليه فيكون مثل هذه الحال سبباً للكشف ويكون الكشف سبب الشك في بقية الاعتقادات وكل من اعتقد في الله تعالى وفي صفاته وأفعاله شيئاً على خلاف ما هو به إما تقليداً وإما نظراً بالرأي والمعقون فهو في هذا الخطر والزهد والصلاح لا يكفي لدفع هذا الخطر بل لا ينجي منه إلا الاعتقاد الحق والبله بمعزل عن هذا الخطر أعني الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إيماناً مجملاً راسخاً كالأعراب والسوادية وسائر العوام الذين لم يخوضوا في البحث والنظر ولم يشرعوا في الكلام استقلالاً ولا صغوا إلى أصناف المتكلمين في تقليد أقاويلهم المختلفة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة البله (1)
ولذلك منع السلف من البحث والنظر والخوض في الكلام والتفتيش عن هذه الأمور وأمروا الخلق أن يقتصروا على أن يؤمنوا بما أنزل الله عز وجل جميعاً وبكل ما جاء من الظواهر مع اعتقاد نفي التشبيه ومنعوهم عن الخوض في التأويل لأن الخطر في البحث عن الصفات عظيم وعقباته كئودة ومسالكه وعرة والعقول عن درك جلال الله تعالى قاصرة وهداية الله تعالى بنور اليقين عن القلوب بما جبلت عليه من حب الدنيا محجوبة وما ذكره الباحثون ببضاعة عقولهم مضطرب ومتعارض والقلوب لما ألقى إليها في مبدأ النشأة آلفة وبه متعلقة والتعصبات الثائرة بين الخلق مسامير مؤكدة للعقائد الموروثة أو المأخوذة بحسن الظن من المعلمين في أول الأمر ثم الطباع بحب الدنيا مشغوفة وعليها مقبلة وشهوات الدنيا بمخنقها آخذة وعن تمام الفكر صارفة فإذا فتح باب الكلام في الله وفي صفاته بالرأي والمعقول مع تفاوت الناس في قرائحهم واختلافهم في طبائعهم وحرص كل جاهل منهم على
_________
(1) حديث أكثر أهل الجنة البله أخرجه البزار من حديث أنس وقد تقدم(4/175)
أن يدعي الكمال أو الإحاطة بكنه الحق انطلقت ألسنتهم بما يقع لكل واحد منهم وتعلق ذلك بقلوب المصغين إليهم وتأكد ذلك بطول الألف فيهم فانسد بالكلية طريق الخلاص عليهم فكانت سلامة الخلق في أن يشتغلوا بالأعمال الصالحة ولا يتعرضوا لما هو خارج عن حد طاقتهم ولكن الآن قد استرخى العنان وفشا الهذيان ونزل كل جاهل على ما وافق طبعه بظن وحسبان وهو يعتقد أن ذلك علم واستيقان وأنه صفو الإيمان ويظن أن ما وقع به من حدس وتخمين علم اليقين وعين اليقين ولتعلمن نبأه بعد حين وينبغي أن ينشد في هؤلاء عند كشف الغطاء
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
واعلم يقيناً أن كل من فارق الإيمان الساذج بالله ورسوله وكتبه وخاض في البحث فقد تعرض لهذا الخطر ومثاله مثال من انكسرت سفينته وهو في ملتطم الأمواج يرميه موج إلى موج فربما يتفق أن يلقيه إلى الساحل وذلك بعيد والهلاك عليه أغلب
وكل نازل على عقيدة تلقفها من الباحثين ببضاعة عقولهم إما مع الأدلة التي حرروها في تعصباتهم أو دون الأدلة فإن كان شاكاً فيه فهو فاسد الدين وإن كان واثقاً فهو آمن من مكر الله مغتر بعقله الناقص وكل خائض في البحث فلا ينفك عن هاتين الحالتين إلا إذا جاوز حدود المعقول إلى نور المكاشفة الذي هو مشرق في عالم الولاية والنبوة وذلك هو الكبريت الأحمر وإني يتيسر وإنما يسلم عن هذا الخطر البله من العوام أو الذين شغلهم خوف النار بطاعة الله فلم يخوضوا في هذا الفضول فهذا أحد الأسباب المخطرة في سوء الخاتمة
وأما السبب الثاني فهو ضعف الإيمان في الأصل ثم استيلاء حب الدنيا على القلب
ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا فيصير بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس والعدول عن طريق الشيطان فيورث ذلك الانهماك في إتباع الشهوات حتى يظلم القلب ويقسو ويسود وتتراكم ظلمة النفوس على القلب فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى يصير طبعاً وريناً فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك الحب أعني حب الله ضعفاً لما يبدو من استشعار فراق الدنيا وهي المحبوب الغالب على القلب فيتألم القلب باستشعار فراق الدنيا ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهة ذلك
من حيث إنه من الله فيخشى أن يثور في باطنه بغض الله تعالى بدل الحب كما أن الذي يحب ولده حباً ضعيفاً إذا أخذ ولده أمواله التي هي أحب إليه من ولده وأحرقها انقلب ذلك الحب الضعيف بغضاً فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء وهلك هلاكا مؤبدا والسبب الذين يفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا وإن كان يحب الدنيا أيضاً فهو أبعد عن هذا الخطر وحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال وقد عم أصناف الخلق وذلك كله لقلة المعرفة بالله تعالى إذ لا يحبه إلا من عرفه ولهذا قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره فإذن كل من فارقته روحه في حالة خطرة الإنكار على الله تعالى بباله وظهر بغض فعل الله بقلبه في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه فيكون موته قدوماً على ما أبغضه وفراقاً(4/176)
لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهراً فلا يخفى ما يستحقه من الخزي والنكال وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعاً في لقائه فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلاً عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام
وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضاً سببان
أحدهما كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة
وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عند الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من الشهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوباً عن الله تعالى فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر والذي لم يقارف ذنباً أصلاً فهو بعيد جداً عن هذا الخطر والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جداً ونعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضاً مرجح وكذلك تخالف أيضاً منامات الصالحين منامات الفساق فتكون غلبة الإلف سبب لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقياً بحيث يرجى له الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بان يكون قد ورد على الحس منه
أما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلاً آخر وأما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحاً ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وأما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس وكذلك عند سكرات الموت فعلى هذا والعلم عند الله من كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل إصبعه التي لها عادة الكستبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض(4/177)
ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت
وقال بعض العارفين من السلف العرش جوهرة تتلألأ نوراً فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولاً كلياً وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والموظبة عليه مما يؤثر فيه ويكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه قال حكيت لشيخي أبي القاسم السكرماني مناما لي وقلت رأيت قلت لي كذا فقلت لم ذاك قال فهجرني شهراً ولم يكلمني وقال لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم وهو كما قال إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه فهذا هو القدر الذي نسمح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة وما وراء ذلك فهو داخل في علم المكاشفة وقد ظهر لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجي جميع العمر في طاعة الله من غير معصية فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جداً ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكني أعجب مما نجا كيف نجا ولذلك قال حامد اللفاف إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا
وكان الثوري يوماً يبكي فقيل له علام تبكي فقال بكينا على الذنوب زماناً
فالآن نبكي على الإسلام
وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطراباً من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاماً من أمواج البحر وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب (1)
ولا يتسع
_________
(1) حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة الحديث تقدم(4/178)
فواق الناقة لأعمال توجب الشقاوة بل هي الخواطر التي تضطرب وتخطر خطور البرق الخاطف
وقال سهل رأيت كأني أدخلت الجنة فرأيت ثلثمائة نبي فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا قالوا سوء الخاتمة ولأجل هذا الخطر العظيم كانت الشهادة مغبوطاً عليها وكان موت الفجأة مكروهاً أما الموت فجأة فلأنه ربما يتفق عند غلبة خاطر سوء واستيلائه على القلب لا يخلو عن أمثاله إلا أن يدفع بالكراهة أو بنور المعرفة
وأما الشهادة فلأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله تعالى وخرج حب الدنيا والأهل والمال والولد وجميع الشهوات عن القلب إذ لا يهجم على صف القتال موطناً نفسه على الموت إلا حباً لله وطلباً لمرضاته وبائعاً دنياه بآخرته وراضياً بالبيع الذي بايعه الله به إذ قال تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم بأن لهم الجنة والبائع راغب عن المبيع لا محالة ومخرج حبه عن القلب ومجرد حب العوض المطلوب في قلبه ومثل هذه الحالة قد يغلب على القلب في بعض الأحوال ولكن لا يتفق زهوق الروح فيها فصف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحالة هذا فيمن ليس يقصد الغلبة والغنيمة وحسن الصيت بالشجاعة فإن من هذا حاله وأن قتل في المعركة فهو بعيد عن مثل هذه الرتبة كما دلت عليه الأخبار // حديث المقتول في الحرب إذا كان قصده الغلبة والغنيمة وحسن الصيت فهو بعيد عن رتبة الشهادة متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري أن رجلاً قال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وفي رواية الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء وفي رواية غضبا
وإذ بان لك معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها فواظب على ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا واحرس عن فعل المعاصي جوارحك وعن الفكر فيها قلبك واحترز عن مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك فإن ذلك أيضاً يؤثر في قلبك ويصرف إليه فكرك وخواطرك وإياك أن تسوف وتقول سأستعد لها إذا جاءت الخاتمة فإن كان نفس من أنفاسك خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيه روحك فراقب قلبك في كل تطريفة وإياك أن تهمله لحظة فلعل تلك اللحظة خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيها روحك هذا ما دمت في يقظتك وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر الباطن وأن يغلبك النوم إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة الأثر
واعلم قطعاً أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان قبل النوم غالباً عليه وأنه لا يغلب في النوم إلا ما كان غالباً قبل النوم ولا ينبعث عن نومك إلا ما غلب على قلبك في نومك والموت والبعث شبيه النوم واليقظة فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه فكذلك لا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ولا يحشر إلا على ما مات عليه وتحقق قطعاً ويقيناً أن الموت والبعث حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك وآمن بهذا تصديقاً باعتقاد القلب إن لم تكن أهلاً لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة وراقب أنفاسك ولحظاتك وإياك أن تغفل عن الله طرفة عين فإنك إذا فعلت ذلك كله كنت مع ذلك في خطر عظيم فكيف إذا لم تفعل
والناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما لم تقنع من الدنيا بقدر ضرورتك وضرورتك مطعم وملبس ومسكن والباقي كله فضول والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك ويسد رمقك فينبغي أن يكون تناولك تناول مضطر كاره له ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك(4/179)
إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضرورتان في الجبلة وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك
واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك وإذ لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر في ثلاثة أمور
من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة واحد فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن وأما جنسه فأن لا يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق فإن قدرت على هذه الثلاثة وسقطت عنك مئونة الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكل إلا من حله فإن الحلال يعز ولا يفي بجميع الشهوات وأما ملبسك فيكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة يدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من الحرام والشبهة وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكنف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده
بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء سقفاً والأرض مستقراً فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد فإن طلبت مسكناً خاصاً طال عليك وانصرف إليه أكثر عمرك وعمرك هو بضاعتك ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلاً بينك وبين الأبصار ومن السقف سوى كونه دافعاً للأمطار فأخذت ترفع الحيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك
واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير فإذا دفعته يوماً بيوم في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية في تخويفك فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة عن قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك في أحوالهم لم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشياً عليه وبعضهم يخر ميتاً إلى الأرض ولا غرو وإن كان ذلك لا يؤثر في قلبك فإن قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون
الشطر الثاني
في الخوف
بيان أحوال الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام في الخوف
روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه فيقول ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفاً من عذاب الله (1)
وقرأ صلى الله عليه وسلم آية في سورة الواقعة فصعق (2)
وقال تعالى وخر موسى صعقاً ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة جبريل
_________
(1) حديث عائشة كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة تغير وجهه الحديث متفق عليه من حديث عائشة
(2) حديث قرأ في سورة الحاقة فصعق المعروف فيما يروى من هذه القصة أنه قرئ عنده إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً فصعق كما رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب مرسلا وهكذا ذكره المصنف على الصواب في تاب السماع كما تقدم(4/180)
عليه السلام بالأبطح فصعق (1)
وروي أنه عليه السلام كان إذا دخل في الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل (2)
وقال صلى الله عليه وسلم ما جاءني جبريل قط إلا وهو يرعد فرقاً من الجبار (3) حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالي لا أرى ميكائيل يضحك فقال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية ثابت عن أنس بإسناد جيد ورواه ابن شاهين في السنة من حديث ثابت مرسلا وورد ذلك أيضا في حق إسرافيل رواه البيهقي في الشعب وفي حق جبريل رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين
ويقال إن لله تعالى ملائكة لم يضحك أحد منهم منذ خلقت النار مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم بها
وقال ابن عمر رضي الله عنهما خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال يا ابن عمر مالك لا تأكل فقلت يا رسول الله لا أشتهيه فقال لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة لم أذق طعاماً ولم أجده ولو سألت ربي لأعطاني ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين في قلوبهم قال فوالله ما برحنا ولا قمنا حتى نزلت {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} قال فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله لم يأمركم بكنز المال ولا بإتباع الشهوات من كنز دنانير يريد بها حياة فانية فإن الحياة بيد الله ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد // حديث ابن عمر خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى دخل على حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل الحديث أخرجه ابن مردويه في التفسير والبيهقي في الزهد من رواية رجل لم يسم عن ابن عمر قال البيهقي هذا إسناد مجهول والجراح بن منهال ضعيف
وقال أبو الدرداء كان يسمع أزير قلب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة في مسيرة ميل خوفاً من ربه
وقال مجاهد بكى داود عليه السلام أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه وحتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم أم ظمآن فتسقى أم عار فتكسى فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله تعالى عليه التوبة والمغفرة فقال يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته في كفه مكتوبة فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته قال وكان يؤتى بالقدح ثلثاه فإذا
_________
(1) حديث إنه رأى صورة جبريل بالأبطح فصعق أخرجه البزار من حديث ابن عباس بسند جيد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته فقال ادع ربك فدعا ربه فطلع عليه من قبل المشرق فجعل يرتفع ويسير فلما رآه صعق ورواه ابن المبارك من رواية لحسن مرسلا بلفظ فغشي عليه وفي الصحيحين عن عائشة رأى جبريل في صورته مرتين ولهما عن ابن مسعود رأى جبريل له ستمائة جناح
(2) حديث كان إذا دخل في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل رواه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث عبد الله بن الشخير وتقدم في كتاب السماع
(3) حديث ما جاءني جبريل قط إلا وهو ترتعد فرائصه من الجبار لم أجد هذا اللفظ وروى أبو الشيخ في كتاب العظمة من ابن عباس قال أتى جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار تبارك وتعالى ترتعد فرائصه فرقا من عذاب الله الحديث وفيه زميل بن سماك الحنفي يحتاج إلى معرفته
وقيل لما ظهر على إبليس ما ظهر طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما ما لكما تبكيان كل هذا البكاء فقالا يا رب ما نأمن مكرك فقال الله تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري
وعن محمد بن المنكدر قال لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها فلما خلق بنو آدم عادت
وعن أنس أنه عليه السلام سأل جبريل مالي لا أرى ميكائيل يضحك فقال جبريل ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار(4/181)
تناولته أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه
ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل وكان يقول في مناجاته إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني فبؤساً للقانطين من رحمتك
وقال الفضيل بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه ذات يوم فوثب صارخاً واضعاً يده على رأسه حتى لحق بالجبال فاجتمعت إليه السباع فقال ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا البكاء ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء
وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتغال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
وقال عبد العزيز بن عمر لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال إلهي بح صوتي في صفاء أصوات الصديقين
وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه فقال يا رب أما ترحم بكائي فأوحى الله تعالى إليه يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك فال إلهي وسيدي كيف أنسى ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه وسكن هبوب الريح وأظلني الطير على رأسي وأنست الوحوش إلى محرابي إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك فأوحى الله تعالى إليه يا داود ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية يا داود آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي عصاني فطردته عن جواري عرياناً ذليلاً يا داود اسمع مني والحق أقول أطعتنا فأطعناك وسألتنا فأعطيناك وعصيتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك
وقال يحيى بن أبي كثير بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعاً لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها إلا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت قال فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذارى من خدورهن وتجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته محيطون به وسليمان عليه السلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع الناس ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل يا داود عجلت بطلب الجزاء على ربك قال فيخر داود مغشياً عليه فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ثم أمر منادياً ينادي ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة والنار فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقول يا من قتله ذكر النار يا من قتله خوف الله ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول يا إله داود أغضبان أنت على داود ولا يزال يناجي ربه فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد فيأكل من(4/182)
ذلك القرص ما شاء الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم
وقال يزيد الرقاشي خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفاً فمات منهم ثلاثون ألفاً وما رجع إلا في عشرة آلاف قال وكان له جاريتان اتخذهما حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت
وقال ابن عمر رضي الله عنهما دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن ثمان حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا له يا يحيى هلم بنا لنعلب فقال إني لم أخلق للعب قال فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه نهاراً ويصبح فيه ليلاً حتى أتت عليه خمس عشرة سنة فخرج ولزم أطواد الأرض وغير ان الشعاب فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول عزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير ويشرب من ذلك الماء ففعل وكفر عن يمينه فمدح بالبر فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر ويبكي زكريا عليه السلام لبكائه حتى يغمى عليه فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين فقالت له أمه يا بني لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين فأذن لهما فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتها على خدية فكان إذا قام يصلي بكى فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما فإذا رأى دموع تسبل على ذراعي أمه قال اللهم هذه دموعي وهذه أمي وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين قال له زكريا يوما
يا بني إنما سالت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي بك فقال يحيى يا أبت أن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء
فقال زكريا عليه السلام يا بني فابك
وقال المسيح عليه السلام معاشر الحواريين خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة ويباعدان من الدنيا
بحق أقول لكم إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب في طلب الفردوس قليل
وقيل كان الخليل صلوات الله عليه وسلامه إذا ذكر خطيئته يغشى عليه ويسمع اضطراب قلبه ميلا في ميل فيأتيه جبريل فيقول له ربك يقرئك السلام ويقول هل رأيت خليلا يخاف خليله فيقول يا جبريل إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي فهذه أحوال الأنبياء عليه السلام فدونك والتأمل فيها فإنهم أعرف خلق الله بالله وصفاته صلوات الله عليهم أجمعين وعلى كل عباد الله المقربين وحسبنا الله ونعم الوكيل
بيان أحوال الصحابة والتابعين والسلف والصالحين في شدة الخوف
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لطائر ليتني مثلك يا طائر ولم أخلق بشرا
وقال أبو ذر رضي الله عنه وددت لو أني شجرة تعضد وكذلك قال طلحة
وقال عثمان رضي الله عنه وددت إني إذا مت لم أبعث
وقالت عائشة رضي الله عنها وددت أني كنت نسيا منسيا
وروى أن عمر رضي الله عنه كان يسقط من الخوف إذا سمع آية من القرآن مغشيا عليه فكان يعاد أياما
وأخذ يوما تبنة من الأرض فقال يا ليتني كنت هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئاً مذكورا يا ليتني كنت نسياً منسيا(4/183)
يا ليتني لم تلدني أمي
وكان في وجه عمر رضي الله عنه خطان أسودان من الدموع وقال رضي الله عنه من خاف الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون
ولما قرأ عمر رضي الله عنه {إذا الشمس كورت} وانتهى إلى قوله تعالى {وإذا الصحف نشرت} خر مغشيا عليه
ومر يوما بدار إنسان وهو يصلي ويقرأ سورة {والطور} فوقف يستمع فلما بلغ قوله تعالى إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع نزل عن حماره واستند إلى حائط ومكث زمانا ورجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه
وقال علي كرم الله وجهه وقد سلم من صلاة الفجر وقد علاه كآبة وهو يقلب يده لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم والله فكأن بالقوم باتوا غافلين ثم قام فما رؤي بعد ذلك ضاحكا حتى ضربه ابن ملجم
وقال عمران بن حصين وددت أن أكون رمادا تنسفني الرياح في يوم عاصف
وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي
وكان علي بن الحسين رضي الله عنه إذا توضأ اصفر لونه فيقولون له أهله ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم
قال موسى بن مسعود كنا إذا جلسنا إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه
وقرأ مضر القارئ يوما هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقالآية فبكى عبد الواحد بن زيد حتى غشي عليه فلما أفاق قال وعزتك لأعصيتك جهدي أبدا فأعني بتوفيقك على طاعتك
وكان المسور بن مخرمة لا يقوى أن يسمع شيئا من القرآن لشدة خوفه ولقد كان يقرأ عنده الحرف والآية فيصيح الصحية فما يعقل أياما حتى أتى عليه رجل من خثعم فقرأ عليه {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا} فقال أنا من المجرمين ولست من المتقين أعد على القول أيها القارئ فأعادها عليه فشهق شهقة فلحق بالآخرة
وقرئ عند يحيى البكاء {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} فصاح صيحة مكث منها مريضا أربعة أشهر يعاد من أطراف البصرة
وقال مالك بن دينار بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرة متعبدة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول يا رب كم شهوة ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها يا رب أما كان لك أدب وعقوبة إلا النار وتبكى فما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر قال مالك فلما رأيت ذلك وضعت يدي على رأسي صارخا أقول ثكلت مالكا أمه
وروي أن الفضيل رؤي يوم عرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلي المحترقة حتى إذا كادت الشمس تغرب قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء وقال واسوأتاه منك وإن غفرت ثم انقلب مع الناس
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الخائفين فقال قلوبهم بالخوف فرحة وأعينهم باكية يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا والقبر أمامنا والقيامة موعدنا وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله ربنا موقفنا(4/184)
ومر الحسن بشاب وهو مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس فقال له الحسن يا فتى هل مررت بالصراط قال لا
قال فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار قال لا
قال فما هذا الضحك قال فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكا
وكان حماد بن عبد ربه إذا جلس جلس مستوفرا على قدميه فيقال له اطمأننت فيقول تلك جلسة الآمن وأنا غير آمن إذ عصيت الله تعالى
وقال عمر بن عبد العزيز إنما جعل الله هذه الغفلة في قلوب العباد رحمة كيلا يموتوا من خشية الله تعالى
وقال مالك بن دينار قد هممت إذا أنا مت آمرهم أن يقيدوني ويغلوني ثم ينطلقوا بي إلى ربي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده
وقال حاتم الأصم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة وقد لقي آدم عليه السلام فيهما ما لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر منزلة عند الله من المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه
وقال السري إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مرات مخافة أن يكون قد أسود وجهي
وقال أبو حفص منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إلى نظر السخط وأعمالي تدل على ذلك
وخرج ابن المبارك يوما على أصحابه فقال إني اجترأت البارحة على الله سألته الجنة
وقالت أم محمد بن كعب القرظي لابنها يا بني إني أعرفك صغيرا طيبا وكبيرا طيبا وكأنك أحدثت حدثا موبقا لما أراك تصنع في ليلك ونهارك فقال يا أماه ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع علي وأنا على بعض ذنوبي فمقتني وقال وعزتي وجلالي لا غفرت لك
وقال الفضيل إني لا أغبط نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا ولا عبدا صالحا أليس هؤلاء يعاينون يوم القيامة إنما أغبط من لم يخلق
وروي أن فتى من الأنصار دخلته خشية النار فكان يبكي حتى حبسه ذلك في البيت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه واعتنقه فخر ميتا فقال صلى الله عليه وسلم جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار فتت كبده (1)
وروي عن ابن أبي ميسرة أنه كان إذا أوى إلى فراشه يقول يا ليت أمي لم تلدني فقالت له أمه يا ميسرة إن الله تعالى قد أحسن إليك هداك إلى الإسلام قال أجل ولكن الله قد بين لنا أنا واردو النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها
وقيل لفرقد السبخي أخبرنا بأعجب شيء بلغك عن إسرائيل فقال بلغني أنه دخل بيت المقدس خمسمائة عذارء لباسهن الصوف والمسوح فتذاكرن ثواب الله وعقابه فمتن جميعا في يوم واحد
وكان عطاء السلمي من الخائفين ولم يكن يسأل الله الجنة أبدا إنما كان يسأل الله العفو وقيل له في مرضه ألا تشتهي شيئا فقال إن خوف جهنم لم يدع في قلبي موضعا للشهوة أنه ما رفع رأسه إلى السماء ولا ضحك
_________
(1) حديث أن فتى من الأنصار دخلته خشية من النار حتى حبسه خوفه في البيت الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الخائفين من حديث حذيفة والبيهقي في الشعب من حديث سهل بن سعد بإسنادين فيهما نظر(4/185)
أربعين سنة
وأنه رفع رأسه يوما ففزع فسقط فانفتق في بطنه فتق وكان يمس جسده في بعض الليلة مخافة أن يكون قد مسخ
وكان إذا أصابتهم ريح أو برق أو غلاء طعام قال هذا من أجلي يصيبهم لو مات عطاء لاستراح الناس
وقال عطاء خرجنا مع عتبة الغلام وفينا كهول وشبان يصلون صلاة الفجر بطهور العشاء قد تورمت أقدامهم من طول القيام وغارت أعينهم في رءوسهم ولصقت جلودهم على عظامهم وبقيت العروق كأنها الأوتار يصبحون كأن جلودهم قشور البطيخ وكأنهم قد خرجوا من القبور يخبرون كيف أكرم الله المطيعين وكيف أهان العاصين فبينما هم يمشون إذ مر أحد بمكان فخر مغشيا عليه فجلس أصحابه حوله يبكون في يوم شديد البرد وجبينه يرشح عرقا فجاءوا بماء فمسحوا وجهه فأفاق وسألوه عن أمره فقال إني ذكرت أني كنت عصيت الله في ذلك المكان
وقال صالح المري قرأت على رجل من المتعبدين {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} فصعق ثم أفاق فقال زدني يا صالح فإني أجد غما فقرأت {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فخر ميتا
وروى أن زرارة بن أبي أوفى صلى بالناس الغداة فلما قرأ {فإذا نقر في الناقور} خر مغشيا عليه فحمل ميتا
ودخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال عظني يا يزيد فقال يا أمير المؤمنين اعلم أنك لست أول خليفة يموت فبكى ثم قال زدني قال يا أمير المومنين ليس بينك وبين آدم أب إلا ميت فبكى ثم قال زدني يا يزيد فقال يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين الجنة والنار منزل فخر مغشيا عليه
وقال ميمون بن مهران لما نزلت هذه الآية {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} صاح سلمان الفارسي ووضع يده على رأسه وخرج هاربا ثلاثة أيام لا يقدرون عليه (1)
ورأى داود الطائي امرأة تبكي على رأس قبر ولدها وهي تقول يا ابناه ليت شعري أي خديك بدأ به الدود أولا فصعق داود وسقط مكانه
وقيل مرض سفيان الثوري فعرض دليله على طبيب ذمي فقال هذا رجل قطع الخوف كبده ثم جاء وجس عروقه ثم قال ما علمت أن في الملة الحنيفية مثله
وقال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه سألت الله عز وجل إن يفتح علي بابا من الخوف ففتح فخفت على عقلي فقلت يا رب على قدر ما أطيق فسكن قلبي
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه وكأنه أشار إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا (2)
وقال العنبري اجتمع أصحاب الحديث على باب الفضيل بن عياض فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي ولحيته ترجف فقال عليكم بالقرآن عليكم بالصلاة ويحكم ليس هذا زمان حديث إنما هذا زمان بكاء وتضرع واستكانة ودعاء كدعاء الغريق إنما هذا زمان احفظ لسانك وأخف مكانك وعالج قلبك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر
_________
(1) حديث ميمون بن مهران لما نزلت هذه الآية {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} صاح سلمان الفارسي لم أقف له على أصل
(2) حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً تقدم في قواعد العقائد(4/186)
ورؤي الفضيل يوما وهو يمشي فقيل له إلى أين قال لا أدري وكان يمشي والها من الخوف
وقال ذر بن عمر لأبيه عمر بن ذر ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت سمعت البكاء من كل جانب فقال يا بني ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة
وحكى أن قوما وقفوا بعابد وهو يبكي فقالوا ما الذي يبكيك يرحمك الله قال فرحة يجدها الخائفون في قلوبهم قالوا وما هي قال روعة النداء بالعرض على الله عز وجل
وكان الخواص يبكي ويقول في مناجاته قد كبرت وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني
وقال صالح المري قدم علينا ابن السماك مرة فقال أرني شيئا من بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فإذا رجل يعمل خوصا فقرأت عليه {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون} فشهق الرجل شهقة وخر مغشيا عليه فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فدخلنا عليه فقرأت هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشيا عليه فذهبنا واستأذنا على ثالث فقال ادخلوا إن لم تشغلونا عن ربنا فقرأت {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} فشهق شهقة فبدا الدم من منخريه وجعل يتشحط في دمه حتى يبس فتركناه على حاله وخرجنا فأدرته على ستة أنفس كل نخرج من عنده ونتركه مغشيا عليه ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا امرأة من داخل الخص تقول ادخلوا فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاه فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا فقلت بصوت عال ألا إن للخلق غدا مقاما فقال الشيخ بين يدي من ويحك ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره يصيح بصوت له ضعيف أوه أوه حتى انقطع ذلك الصوت فقالت امرأته اخرجوا فإنكم لا تنتفعون به الساعة فلما كان بعد ذلك سالت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله تعالى
وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي فرضنا فلم كان بعد ثلاث عقل
وكان يزيد بن الأسود يرى أنه من الأبدال وكان قد حلف أن لا يضحك أبدا ولا ينام مضطجعا ولا يأكل سمنا أبدا فما رؤي ضاحكا ولا مضطجعا ولا أكل سمنا حتى مات رحمه الله
وقال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط فقال
كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت
وقال رجل يا أبا سعيد كيف أصبحت قال بخير قال كيف حالك فتبسم الحسن وقال تسألني عن حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة على أي حال يكون قال الرجل على حال شديدة
قال الحسن حالي أشد من حالهم
ودخلت مولاة لعمر بن عبد العزيز عليه فسلمت عليه ثم قامت إلى مسجد في بيته فصلت فيه ركعتين وغلبتها عيناها فرقدت فاستبكت في منامها ثم انتبهت فقالت يا أمير المؤمنين إني والله رأيت عجبا قال وما ذلك قالت رأيت النار وهي تزفر على أهلها ثم جئ بالصراط ووضع على متنها فقال هيه قالت فجئ بعبد الملك بن مروان فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسير حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت ثم جئ بالوليد بن عبد الملك فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت ثم جئ بسليمان بن عبد الملك فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى كذلك فقال عمر هيه قالت ثم جئ بك والله يا أمير المؤمنين فصاح عمر رحمه الله عليه صيحة خر مغشيا عليه(4/187)
فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه يا أمير المؤمنين إني رأيتك والله قد نجوت إني رأيتك والله قد نجوت قال وهي تنادي وهو يصيح ويفحص برجليه
ويحكى أن أويسا القرني رحمه الله كان يحضر عند القاص فيبكي من كلامه فإذا ذكر النار صرخ أويس ثم يقوم منطلقا فيتبعه الناس فيقولون مجنون مجنون
وقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْكُنُ رَوْعُهُ حَتَّى يَتْرُكَ جِسْرَ جهنم وراءه
وكان طاوس يفرش له الفرش فيضطجع ويتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم الخائفين
وقال الحسن البصري رحمه الله يخرج من النار رجل بعد ألف عام يا ليتني كنت ذلك الرجل وإنما قال ذلك لخوفه من الخلود وسوء الخاتمة
وروي أنه ما ضحك أربعين سنة قال وكنت إذا رأيته قاعدا كأنه أسير قد قدم لتضرب عنقه وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه
وعوتب في شدة حزنه وخوفه فقال ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع في على بعض ما يكره فمقتني فقال اذهب فلا غفرت لك فأنا أعمل في غير معتمل
وعن ابن السماك قال وعظت يوما في مجلس فقام شاب من القوم فقال يا أبا العباس لقد وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي أن لا نسمع غيرها
قلت وما هي رحمك الله قال قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلو دين إما في الجنة أو في النار
ثم غاب عني ففقدته في المجلس الآخر فلم أره فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد فأتيته أعوده فقلت يا أخي ما الذي أرى بك فقال يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلو دين إما في الجنة أو في النار
قال ثم مات رحمه الله فرأيته في المنام فقلت يا أخي ما فعل الله بك قال غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة
قلت بماذا قال بالكلمة
فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا وصدتنا عَنْ مُلَاحَظَةِ أَحْوَالِنَا غَفْلَتُنَا وَقَسْوَتُنَا فَلَا قُرْبُ الرَّحِيلِ يُنَبِّهُنَا وَلَا كَثْرَةُ الذُّنُوبِ تُحَرِّكُنَا وَلَا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا الْمَالَ فِي الدُّنْيَا زَرَعْنَا وَغَرَسْنَا وَاتَّجَرْنَا وَرَكِبْنَا الْبِحَارَ وَالْبَرَارِيَ وخاطرنا
وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وشهرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا فنقول اللهم ارزقنا ثم إذا طمعت أَعْيُنُنَا نَحْوَ الْمُلْكِ الدَّائِمِ الْمُقِيمِ قَنَعْنَا بِأَنْ نَقُولَ بِأَلْسِنَتِنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَالَّذِي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} {ولا يغرنكم بالله الغرور} يا أيها الإنسان ما عزك بربك الكريم ثُمَّ كَلُّ ذَلِكَ لَا يُنَبِّهُنَا وَلَا يُخْرِجُنَا عَنْ أَوْدِيَةِ غُرُورِنَا وَأَمَانِينَا فَمَا هَذِهِ إِلَّا مِحْنَةٌ هَائِلَةٌ إِنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْنَا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوفيق والرشد بمنه وفضله(4/188)
ولنقتصر من حكاية أحوال الخائفين على ما أوردناه فإن القليل من هذا يصادف القلب القابل فيكفي والكثير منه وإن أفيض على القلب الغافل فلا يغني
ولقد صدق الراهب الذي حكى عنه عيسى بن مالك الخولاني وكان من خيار العباد أنه رآه على باب بيت المقدس واقفا كهيئة المحزون من شدة الوله ما يكاد يرقأ دمعه من كثرة البكاء فقال عيسى لما رأيته هالني منظره فقلت أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك فقال يا أخي بماذا أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فتفترسه السباع أو يسهو فتنهشه الهوام فهو مذعور القلب وجل فهو في المخالفة ليله وإن أمن المغترون وفي الحزن نهاره وإن فرح الباطلون ثم ولى وتركني فقلت لو زدتني شيئا عسى أن ينفعني فقال الظمآن يجزيه من الماء أيسره وقد صدق فإن القلب الصافي يحركه أدنى مخافة والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ وما ذكره من تقديره أنه احتوشته السباع والهوام فلا ينبغي أن يظن أنه تقدير بل هو تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة باطنك لرأيته مشحوناً بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها فإذا انكشف الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة الآن قد انكشفت لك صورها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلاً عن ظاهر بشرتك والسلام
كتاب الفقر والزهد وهو الكتاب رابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تسبح له الرمال وتسجد له الظلال وتتدكدك من هيبته الجبال خلق الإنسان من الطين اللازب والصلصال وزين صورته بأحسن تقويم وأتم اعتدال وعصم قلبه بنور الهداية عن ورطات الضلال وأذن له في قرع باب الخدمة بالغدو والآصال ثم كحل بصيرة المخلص في خدمته بنور العبرة حتى لاحظ بضيائه حضرة الجلال فلاح له من بالبهجة والبهاء والكمال ما استقبح دون مبادئ إشراقه كل حسن وجمال واستثقل كل ما صرفه عن مشاهدته وملازمته غاية الاستثقال وتمثل له ظاهر الدنيا في صورة امرأة جملية تميس وتحتال وانكشف له باطنها عن جور شوهاء عجنت من طينة الخزي وضربت في قالب النكال وهي متلفلفة بجلبابها لتخفي قبائح أسرارها بلطائف السحر والاحتيال وقد نصبت حبائلها في مدارج الرجال فهي تقتنصهم بضروب المكر والاغتيال ثم لا تجتزئ معهم بالخلف في مواعيد الوصال بل تقيدهم مع قطع الوصال بالسلاسل والأغلال وتبليهم بأنواع البلايا والأنكال فلما انكشف للعارفين منا قبائح الأسرار والأفعال زهدوا فيها زهد المبغض لها فتركوها وتركوا التفاخر والتكاثر بالأموال وأقبلوا بكنه همهم على حضرة الجلال واثقين منها بوصال ليس دونه انفصال ومشاهدة أبدية لا يعتريها فناء ولا زوال والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله خير آل(4/189)
أما بعد فإن الدنيا عدوة لله عز وجل بغرورها ضل من ضل وبمكرها زل من زل فحبها رأس الخطايا والسيئات وبغضها أم الطاعات رأس القربات
وقد استقصينا ما يتعلق بوصفها وذم الحب لها في كتاب ذم الدنيا من ربع المهلكات ونحن الآن نذكر فضل البغض لها والزهد فيها فإنه رأس المنجيات فلا مطمع في النجاة إلا بالانقطاع عن الدنيا والبعد منها لكن مقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة ونحن الآن نذكر حقيقة الفقر والزهد ودرجاتهما وأقسامهما وشروطهما وأحكامهما ونذكر الفقر في شطر من الكتاب والزهد في شطر آخر منه ونبدأ بذكر الفقر فنقول
الشطر الأول من الكتاب في الفقر
وفيه بيان حقيقة الفقر وبين فضيلة الفقر مطلقاً وبيان خصوص فضيلة الفقراء وبيان فضيلة الفقير على الغنى وبيان أدب الفقير في فقره وبيان أدبه في قبوله العطاء وبيان تحريم السؤال بغير ضرورة وبيان مقدار الغنى المحرم للسؤال وبيان أحوال السائلين والله الموفق بلطفه وكرمه
بيان حقيقة الفقر واختلاف أحوال الفقير وأساميه
اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقراً
وإن كان المحتاج إليه موجوداً مقدوراً عليه لم يكن المحتاج فقيراً وإذا فهمت هذا لم تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني الحال ودوام وجود مستفاد من فضل الله تعالى وجوده فإن كان في الوجود موجود ليس وجوده مستفاد له من غير فهو الغني المطلق ولا يتصور أن يكون مثل هذا الموجود إلا واحداً فليس في الوجود إلا غني واحد وكل من عداه فإنهم محتاجون إليه ليمدوا وجودهم بالدوام وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى {والله الغني وأنتم الفقراء} هذا معنى الفقر مطلقا ولكنا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر لأن حاجاته لا حصر لها
ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي نريد الآن بيانه فقط فنقول كل فاقد للمال فإنا نسميه فقيراً بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجاً إليه في حقه ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عن الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم لنتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها
الحالة الأولى وهي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به وهرب من أخذه مبغضاً له ومحترزاً من شره وشغله وهو الزهد واسم صاحبه الزاهد
الثانية أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه لو أتاه وصاحب هذه الحالة يسمى راضياً
الثالثة أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه بل إن أتاه صفواً عفواً أخذه وفرح به وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به وصاحب هذه الحالة نسميه قانعاً إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة
الرابعة أن يكون تركه الطلب لعجزه وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلاً إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه أو هو مشغول بالطلب وصاحب هذه الحالة نسميه بالحريص(4/190)
الخامسة أن يكون ما فقده من المال مضطراً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب ويسمى صاحب هذه الحالة مضطراً كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة وإما قوية وقلما تنفك هذه الحالة عن الرغبة فهذه خمسة أحوال أعلاها الزهد والاضطرار إن انضم إليه الزهد وتصور ذلك فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد وهي أن يستوي عنده وجود المال وفقده فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذ وإن فقده فكذلك بل حاله كما كان حال عائشة رضي الله تعالى عنها إذا أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها فقالت خادمتها ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت فمن هذا حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يده غيره وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعاً وليفهم من هذا الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى كل من كثر ماله من العباد فإن من كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده وإنما هو هو غني عن دخول المال في يده لا عن بقائه فهو إذن فقير من وجه وأما هذا الشخص فهو غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضاً فإنه ليس يتأذن به ليحتاج إلى إخراجه وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه
وليس فاقد له ليحتاج إلى الدخول في يديه فغناه إلى العموم أميل فهو إلى الغنى الذي هو وصف الله تعالى أقرب وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنياً بل مستغنياً ليبقى الغني اسماً لمن له الغنى المطلق عن كل شيء
وأما هذا العبد فإن استغنى عن المال وجوداً أو عدماً فلم يستغن عن أشياء أخر سواء ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه والذي زين الله به قلبه فإن القلب المقيد بحب المال رقيق والمستغني عنه حر والله تعالى هو الذي من هذا الرق فهو محتاج إلى داوم هذا العتق والقلوب متعلقة بين الرق والحربة في أوقات متقاربة لأنها بين إصبعين من أصابع الرحمن فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقاً عليه مع هذا الكمال إلا مجازاً
واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار الزهد في حقه نقصاناً إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجاباً فإنه أقرب إليك من حبل الوريد وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجاباً بينك وبينه فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك نفسك وشهواتك شغل بغيره وأنت لا تزال مشغولاً بنفسك وبشهوات نفسك فكذلك لا تزال محجوباً عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله تعالى والمشغول ببغض نفسه أيضاً مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضاً وحباً فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان(4/191)
كرم الله وجهه الله جل ذكره في حالة واحدة فلا يجتمع أيضاً بغض وحب في حالة واحدة فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتتبدل بالشهود فالكمال مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة علفها وتسييرها ولكن أحدهما مستقبل الكعبة والآخر مستدبر لها فهما سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها وليس محموداً بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها فلا ينبغي أن تظن أن بغض الدنيا مقصود في عينه بل الدنيا عائق عن الله تعالى ولا وصول إليه إلا بدفع العائق ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله من زهد في الدنيا واقتصر عليه فقد استعجل الراحة بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة فبين أن سلوك طريق الآخرة وراء الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج فإذن قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال وإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولاً بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا ببغض الماء الكثير بل تقول أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد فهكذا ينبغي أن يكون المال لأن الخبز والماء واحد في الحاجة وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حياً كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى
قال أحمد بن أبي الحواري قلت لأبي سليمان الداراني قال مالك بن دينار للمغيرة اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية قد زاده في الدنيا ما غلبه من أخذها فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان
فإن قلت فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار فأقول كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجتهم ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب والروايا يدبرونه مع أنفسهم بل تركوه في الأنهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أبو بغضه وقد حملت خزائن الأرض إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعاً وما هربوا منها (1)
إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر وما نقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن خاف
_________
(1) حديث إن خزائن الأرض حملت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى أبي بكر وعمر فأخذوها ووضعوها في مواضعها هذا معروف وقد تقدم في أداب المعيشة من عند البخاري تعليقا مجزوما به من حديث أنس أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين وكان أكثر مال أتى به فخرج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إله فقلما كان يرى أحد إلا أعطاه ووصله عمر بن محمد البحيري في صحيحه من هذا الوجه وفي الصحيحين من حديث عمرو ابن عوف قدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدومه الحديث ولهما من حديث جابر لو جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا فلم يقدم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أبو بكر منادياً فنادى من كان له عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة أو دين فليأتنا فقلت أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدني فحثا لي ثلاثا(4/192)
أن لو أخذه أن يخدعه المال ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات وهذا حال الضعفاء فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقهم كمال وهذا حكم جميع الخلق لأن كلهم ضعفاء إلا الأنبياء والأولياء وإما أن ينقل عن قوي بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفارنزولا إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الأخذ لهلكوا كما يفر الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء فقد عرفت إذن أن المراتب ست وأعلاها رتبة المستغني ثم الزاهد ثم الراضي ثم القانع ثم الحريص وأما المضطر فيتصور في حقه أيضاً الزهد والرضا والقناعة ودرجة تختلف بحسب اختلاف هذه الأحوال واسم الفقير يطلق على هذه الخمسة أما تسمية المستغني فقيراً فلا وجه لها بهذا المعنى بل إن سمي فقيراً فبمعنى آخر وهو معرفته بكونه محتاجاً إلى الله تعالى في جميع أموره عامة وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها فإنه أحق باسم العبد من الغافلين وإن كان اسم العبد عاماً للخلق فكذلك اسم الفقير عام ومن عرف نفسه بالفقر إلى الله تعالى فهو أحق باسم الفقير فاسم الفقير مشترك بين هذين المعنيين وإذا عرفت هذا الاشتراك فهمت أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من الفقر (1) وقوله عليه السلام كاد الفقر أن يكون كفراً (2) لا يناقض قوله أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً (3) إذ فقر المضطر هو الذي استعاذ منه والفقر الذي هو الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله تعالى هو الذي سأله في دعائه صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء
بيان فضيلة الفقر مطلقاً
أما من الآيات فيدل عليه قوله تعالى {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} الآية وقال تعالى {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض} ساق الكلام في معرض المدح ثم قدم وصفهم بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقر
وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه أي الناس خير فقالوا موسر من المال يعطي حق الله من نفسه وماله فقال نعم الرجل هذا وليس به قالوا فمن خير الناس يا رسول الله قال فقير يعطي جهده (4) وقال صلى الله عليه وسلم لبلال الق الله فقيراً ولا تلقه غنياً (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحب الفقير المتعفف أبا العيال (6) وفي الخبر المشهور يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهَا بِخَمْسِمِائَةِ عام (7) وفي حديث آخر
_________
(1) حديث أعوذ بك من الفقر تقدم فى الأذكار والدعوات
(2) حديث كاد الفقر أن يكون كفرا تقدم فى ذم الحسد
(3) حديث اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً رواه الترمذى من حديث أنس وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد وقد تقدم
(4) حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه أي الناس خير فقالوا موسر من المال يعطي حق الله من نفسه وماله فقال نعم الرجل هذا وليس به قالوا فمن خير الناس قال فقير يعطي جهده أخرجه أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس بسند ضعيف مقتصرا على المرفوع منه دون سؤاله لأصحابه وسؤالهم له
(5) حديث قال لبلال الق الله فقيراً ولا تلقه غنيا أخرجه الحاكم فى كتاب علامات أهل التحقيق من حديث بلال ورواه الطبرانى من حديث أبي سعيد بلفظ مت فقيرا ولا تمت غنيا وكلاهما ضعيف
(6) حديث إن يحب الفقير المتعفف أبا العيال أخرجه ابن ماجه من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
(7) حديث يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام أخرجه الترمذى من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح وقد تقدم(4/193)
بأربعين خريفاً (1) أي أربعين سنة فيكون المراد به تقدير تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص والتقدير بخمسمائة عام تقدير تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب وما ذكرناه من اختلاف درجات الفقر يعرفك بالضرورة تفاوتاً بين الفقراء في درجاتهم وكأن الفقير الحريص على درجة من خمسوعشرين درجة من الفقير الزاهد إذ هذه نسبة الأربعين إلى خمسمائة ولا تظنن أن تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري على لسانه جزافاً وبالاتفاق بل لا يستنطق صلى الله عليه وسلم إلا بحقيقة الحق فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءامن النبوة (2) فإنه تقدير تحقيق لا محالة لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين فأما بالتحقيق فلا إذ يعلم أن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره وهو يختص بأنواع من الخواص أحدها أن يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله وصفاته والملائكة والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل مخالفاً له بكثرة المعلومات وبزيادة اليقين والتحقيق والكشف
والثاني أن له في نفسه صفة بها تتم له الأفعال الخارقة للعادات كما أن لنا صفة بها تتم الحركات المقرونة بإرادتنا وباختيارنا وهي القدرة وإن كانت القدرة والمقدور جميعاً من فعل الله تعالى
والثالث أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم كما أن للبصر صفة بها يفارق الأعمى حتى يدرك بها المبصرات
والرابع أن له صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب إما في اليقظة أو في المنام إذ بها يطالع اللوح المحفوظ فيرى ما فيه من الغيب فهذه كمالات وصفات يعلم ثبوتها للأنبياء وبعلم انقسام كل واحد منها إلى أقسام وربما يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى خمسين وإلى ستين ويمكننا أيضاً أن نتكلف تقسيمها إلى ستة وأربعين بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءاً واحداً من جملتها ولكن تعيين طريق واحد من طرق التقسيمات الممكنة لا يمكن إلا بظن وتخمين فلا ندري تحقيقاً أنه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا وإنما المعلوم مجامع الصفات التي بها تتم النبوة وأصل انقسامها وذلك لا يرشدنا إلى معرفة علة التقدير فكذلك نعلم أن الفقراء لهم درجات كما سبق فأما لم كان هذا الفقير الحريص مثلاً على نصف سدس درجة الفقير الزاهد حتى لم يبق له التقدم بأكثر من أربعين سنة إلى الجنة واقتضى ذلك التقدم بخمسمائة عام فليس في قوة البشر غير الأنبياء الوقوف على ذلك إلا بنوع من التخمين ولا وثوق به والغرض التنبيه على منهاج التقدير في أمثال هذه الأمور فإن الضعيف الإيمان قد يظن أن ذلك يجري من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق وحاشا منصب النبوة عن ذلك ولنرجع إلى نقل الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعاً في الجنة ضعفاؤها (3) وقال صلى الله عليه وسلم إن لي حرفتين اثنتين فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني الفقر والجهاد (4) وروي أن جبريل عليه السلام نزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا محمد إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أنحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا (5)
_________
(1) حديث دخولهم قبلهم بأربعين خريفا أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو إلا أنه قال فقراء المهاجرين والترمذى من حديث جابر وأنس
(2) حديث الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة أخرجه البخارى من حديث أبى سعيد ورواه هو ومسلم من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وأنس بلفظ رؤيا المؤمن جزء الحديث وقد تقدم
(3) حديث خير الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعاً فى الجنة ضعفاؤها لم أجد له أصلا
(4) حديث إن لي حرفتين اثنتين الحديث وفيه الفقر والجهاد لم أجد له أصلا
(5) حديث أن جبريل نزل فقال إن الله يقرأ عليك السلام ويقول أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا الحديث وفيه إن الدنيا دار من لا دار له الحديث هذا ملفق من حديثين فروى الترمذى من حديث أبى أمامة عرض على ربى ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما الحديث وقال حسن
ولأحمد من حديث عائشة الدنيا دار من لا دار له الحديث وقد تقدم فى ذم الدنيا(4/194)
وتكون معك أينما كنت فأطرق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال يا جبريل إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له فقال له جبريل يا محمد ثبتك الله بالقول الثابت
وروي أن المسيح صلى الله عليه وسلم مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة فأيقظه وقال يا نائم قم فاذكر الله تعالى فقال ما تريد مني إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له قم إذن يا حبيبي
ومر موسى صلى الله عليه وسلم برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب وهو متزر بعباءة فقال يا رب عبدك هذا في الدنيا ضائع فأوحى الله تعالى إليه يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها
وعن أبي رافع أنه قال ورد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه فأرسلى إلى رجل من يهود خيبر وقال قل له يقول لك محمدا سلفنى أو بعني دقيقاً إلى هلال رجب قال فأتيته فقال لا والله إلا برهن فأخبرت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فقال أما والله إني لأمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض ولو باعني أو أسلفني لأديت إليه اذهب بدرعي هذا إليه فارهنه فلما خرجت نزلت هذه الآية {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا} (1) الآية وهذه الآية تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس (2) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جِسْمِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا (3)
وقال كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى عليه السلام يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين
وقال عطاء الخراساني مر نبي من الأنبياء بساحل فإذا هو برجل يصطاد حيتاناً فقال بسم الله وألقى الشبكة فلم يخرج فيها شيء ثم مر بآخر فقال باسم الشيطان وألقى شبكته فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا رب ما هذا وقد علمت أن كل ذلك بيدك فقال الله تعالى للملائكة اكشفوا لعبدي عن منزلتيهما فلما رأى ما أعد الله تعالى لهذا من الكرامة ولذاك من الهوان قال رضيت يا رب
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء وفي لفظ آخر فقلت أين الأغنياء حبسهم الجد وفي حديث آخر فرأيت أكثر أهل النار النساء فقلت ما شأنهن فقيل شغلهن الأحمران الذهب والزعفران (4) وقال صلى الله عليه وسلم تحفة المؤمن في الدنيا الفقر (5) وفي الخبر آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه (6) وفي حديث آخر رأيته يدخل الجنة زحفا (7)
_________
(1) حديث أبي رافع ورد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من يهود خيبر الحديث فى نزول قوله تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا به أزواجا منهم} أخرجه الطبرانى بسند ضعيف
(2) حديث الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس رواه الطبرانى من حديث شداد بن أوس بسند ضعيف والمعروف أنه من كلام عبد الرحمن بن زياد بن أنعم رواه ابن عدى فى الكامل هكذا
(3) حديث من أصبح منكم معافى فى جسمه الحديث أخرجه الترمذى وقد تقدم
(4) حديث اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء الحديث تقدم فى آداب النكاح مع الزيادة التى فى آخره
(5) حديث تحفة المؤمن في الدنيا الفقر رواه محمد بن خفيف الشيرازى فى شرف الفقر وأبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث معاذ بن جبل بسند لا بأس به ورواه أبو منصور أيضا فيه من حديث ابن عمر بسند ضعيف جدا
(6) حديث آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان الحديث تقدم وهو فى الأوسط للطبرانى بإسناد فرد وفيه نكارة
(7) حديث رأيته يعنى عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة زحفا تقدم وهو ضعيف(4/195)
وقال المسيح صلى الله عليه وسلم بشدة يدخل الغني الجنة
وفي خبر آخر عن أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه قيل وما اقتناه قال لم يترك له أهلاً ولا مالاً (1)
وفي الخبر إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته (2)
وقال موسى عليه السلام يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك فقال كل فقير فقير فيمكن أن يكون الثاني للتوكيد ويمكن أن يراد به الشديد الضر
وقال المسيح صلوات الله عليه وسلامه إني لأحب المسكنة وأبغض النعماء وكان أحب الأسامي إليه صلوات الله عليه أن يقال له يا مسكين ولما قالت سادات العرب وأغنياؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا يوماً ولهم يوماً يجيئون إليك ولا نجيء ونجيء إليك ولا يجيئون بعنون بذلك الفقراء مثل بلال وسلمان وصهيب وأبي ذر وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وأبي هريرة وأصحاب الصفة من الفقراء رضي الله عنهم أجمعين أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وذلك لأنهم شكوا إليه التأذي برائحتهم وكان لباس القوم الصوف في شدة الحر فإذا عرقوا فاحت الروائح من ثيابهم فاشتد ذلك على الأغنياء منهم الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وعباس بن مرداس السلمي وغيرهم فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجمعهم وإياهم مجلس واحد فنزل عليه قَوْلُهُ تَعَالَى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عيناك عنهم يعني الفقراء تريد زينة الحياة الدنيا يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عن ذكرنا يعني الأغنياء إلى قوله تعالى وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (3) الآية
وَاسْتَأْذَنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أو يذكر فتنفعه الذكرى يعني ابن مَكْتُومٍ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (4) يعني هذا الشريف
وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا فيقول وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فمن أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك والناس يومئذ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده ويدخله الجنة // حديث يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا فيقول وعزتي وجلالي ما زويت عنك الدنيا لهرناك على الحديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بإسناد ضعيف يقول الله عز وجل يوم القيامة أدنوا منى أحبائي فتقول الملائكة ومن أحباؤك فيقول فقراء المسلمين فيدنون منه فيقول أما إني لم أزو الدنيا عنكم لهوان كان بكم علي ولاكن أردت بذلك أن أضعف لكم كرامتي اليوم فتمنوا على ماشئتم اليوم الحديث دون آخر الحديث وأما أول الحديث فرواه أبو نعيم في الحلية وسيأتي في الحديث الذي بعده
_________
(1) حديث إذا أحب الله عبداً ابتلاه الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي عتبة الخولاني
(2) حديث إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من رواية مكحول عن أبي الدرداء ولم يسمع منه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام فذكره بزيادة في أوله ورواه أبو نعيم في الحلية من قول كعب الأحبار غير مرفوع بإسناد ضعيف
(3) حديث قال سادات العرب وأغنياؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا يوماً ولهم يوما الحديث في نزول قَوْلُهُ تَعَالَى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربهم الآية تقدم من حديث خباب وليس فيه أنه كان لباسهم الصوف ويفوح ريحهم إذا عرفوا وهذه الزيادة من حديث سلمان
(4) حديث استئذان ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ونزول قوله تعالى عبس وتولى أخرجه الترمذي من حديث عائشة وقال غريب قلت ورجاله رجال الصحيح(4/196)
وقال عليه السلام أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة قالوا يا رسول الله وما دولتهم قال إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا من أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إِلَى الْجَنَّةِ (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم ونظرت في أسفلها فإذا فيه من الأغنياء والنساء قليل فقلت يا رب ما شأنهم قال أما النساء فأضربهن الأحمران الذهب والحرير وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف ثم جاءني بعد ذلك وهو يبكي فقلت ما خلفك عني قال يا رسول الله والله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أني لا أراك فقلت ولم قال كنت أحاسب بمالي (2) فانظر إلى هذا وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة (3) وهو من الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من قال بالمال هكذا وهكذا (4) ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فقير فلم ير له شيئاً فقال لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم (5)
وقال صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بملوك أهل الجنة قالوا بلى يا رسول الله قال كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ على الله لأبره (6)
وقال عمران بن حصين كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع الباب وقال السلام عليكم أأدخل فقالت ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي قالت ومن معك يا رسول الله قال عمران فقالت فاطمة والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة قال اصنعي بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال شدي على رأسك ثم أذنت له فدخل فقال
_________
(1) حديث أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث الحسين بن علي بسند ضعيف اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة نادى مناد سيروا إلى الفقراء فيعتذر إليهم كما يعتذر أحدكم إلى أخيه في الدنيا
(2) حديث دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت إلى أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف نحوه وقصه بلال في الصحيح من طريق آخر
(3) حديث أن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث سعيد بن زيد قال الترمذي حسن صحيح
(4) حديث إلا من قال بالمال هكذا وهكذا متفق عليه من حديث أبي ذر في أثناء حديث تقدم
(5) حديث دخل على رجل فقير ولم ير له شيئاً فقال لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم لم أجده
(6) حديث ألا أخبركم عن ملوك الجنة الحديث متفق عليه من حديث حارثة بن وهب مختصرا ولم يقل ملوك وقد تقدم ولابن ماجه بسند جيد من حديث معاذ ألا أخبركم عن ملوك الجنة الحديث دون قوله أغبر أشعث(4/197)
السلام عليكم يا ابنتاه كيف أصبحت قالت أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع فبكى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لا تجزعي يا ابنتاه فو الله ما ذقت طعاماً منذ ثلاث وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها أبشري فو الله إنك لسيدة نساء أهل الجنة قالت فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قال آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب ثم قال لها اقنعي بابن عمك فو الله لقد زوجتك سيداً في الدنيا سيداً في الآخرة (1)
وروي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء (2)
وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه ذو الدرهمين أشد حبساً أو قال أشد حساباً من ذي الدرهم
وأرسل عمر رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار فجاء حزيناً كئيباً فقالت امرأته أحدث أمر قال أشد من ذلك ثم قال أريني درعك الخلق فشقه وجعله صرراً وفرقه ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة ثم قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج (3)
وقال أبو هريرة ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد
وقيل جاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له تخط لو كنت غنياً لما قربتك وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء وقال المؤمل ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله
وقال بعض الحكماء مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً
وقال ابن عباس ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر
وقال يحيى بن معاذ حبك الفقراء مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ وَإِيثَارُكَ مُجَالَسَتَهُمْ مِنْ عَلَامَةِ الصَّالِحِينَ وَفِرَارُكَ مِنْ صُحْبَتِهِمْ مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِينَ
وفي الأخبار عن الكتب السالفة أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام احذر أن أمقتك فتسقط
_________
(1) حديث عمران ابن حصين كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة الحديث تقدم
(2) حديث إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي بإسناد فيه جهالة وهو منكر
(3) حديث سعيد بن عامر يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام الحديث وفي أوله قصة أن عمر بعث إلى سعيد بألف دينار فجاء كئيبا حزينا وفرقها وقد روى أحمد في الزهد القصة إلا أنه قال تسعين عاما وفي إسناده يزيد بن أبي زياد تكلم فيه وفي رواية له بأربعين سنة وأما دخولهم قبلهم بخمسمائة عام فهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه وقد تقدم(4/198)
من عينى فأصب الدنيا عليك صباً
ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف درهم في يوم واحد يوجهها إليها معاوية وابن عامر وغيرهما وإن درعها لمرقوع وتقول لها الجارية لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه وكانت صائمة فقالت لو ذكرتيني لفعلت وكان قد أوصاها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعي درعك حتى ترقعيه (1)
وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها فألح عليه الرجل فقال له إبراهيم أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا أفعل ذلك أبداً رضي الله عنه
بيان فضيلة خصوص الفقراء من الراضين والقانعين والصادقين
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا (3) فالأول القانع وهذا الراضي ويكاد يشعر هذا بمفهومه أن الحريض لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً كما سيأتي تحقيقه فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر
وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم هم جلساء الله تعالى يوم القيامة (4)
وروي عن علي كرم الله وجهه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْفَقِيرُ الْقَانِعُ برزقه الراضي عن اللَّهُ تَعَالَى (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا (6) وقال ما من أحد غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا (7) وأوحى الله تعالى إلى إسماعيل عليه السلام اطلبني عند المنكسرة قلوبهم قال ومن هم قال الفقراء الصادقون وقال صلى الله عليه وسلم لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً (8) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يوم القيامة أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة ومن هم يا ربنا فيقول فقراء المسلمين القانعون بعطائى الراضوان بقدرى
_________
(1) حديث قال لعائشة إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء الحديث أخرجه الترمذي وقال غريب والحاكم وصححه نحوا من حديثها وقد تقدم
(2) حديث طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به رواه مسلم وقد تقدم
(3) حديث يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم الحديث رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة وهو ضعيف جدا فيه أحمد بن الحسن بن أبان المصري متهم بالكذب ووضع الحديث
(4) حديث إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الجنة حب المساكين الحديث رواه الدارقطني في غرائب مالك وأبو بكر ابن بلال في مكارم الأخلاق وابن عدي في الكامل وابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر
(5) حديث أحب العباد إلى الله الفقير القانع برزقه الراضي عن الله لم أجده بهذا اللفظ وتقدم عند ابن ماجة حديث إن الله يحب الفقير المتعفف
(6) حديث اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وهو متفق عليه بلفظ قوتا وقد تقدم
(7) حديث ما من أحد غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا أخرجه ابن ماجة من حديث أنس وقد تقدم
(8) حديث لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً لم أجده بهذا اللفظ(4/199)
أدخلوهم الجنة فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس في الحساب يترددون (1) فهذا في القانع والراضي
وأما الزاهد فسنذكر فضله في الشطر الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى
وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه إن الطمع فقر واليأس غنى وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم
وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه ما من أحد إلا وفي عقله نقص وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص
وقيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك
وقيل كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله فلما أكل نام فقال لبعض غلمانه إذا قام فجئني به فلما قام جاء به إليه فقال إبراهيم أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع قال نعم قال فشبعت قال نعم قال ثم نمت طيباً قال نعم فقال إبراهيم في نفسه فما أصنع أنا بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر
ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً فقال له يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا فقال ألا أدلك على من رضي بشر من هذا قال بلى قال من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة
وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد
وقال الحسن رحمه الله لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه ثم قرأ {وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}
وكان أبو ذر رضي الله عنه يوما جالسا في الناس فأتته امرأته فقالت له أتجلس بين هؤلاء والله ما في البيت هفة ولا سفة فقال يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئوداً لا ينجو منها إلا كل مخف فرجعت وهي راضية
وقال ذو النون رحمه الله أقرب الناس إلى الكفر ذو فاقة لا صبر له
وقيل لبعض الحكماء ما مالك فقال التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس
وروي أن الله عز وجل قال في بعض الكتب السالفة المنزلة يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت فإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا محسن إليك وقد قيل في القناعة
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإن العز في الياس
واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم ... إن الغني من استغنى عن الناس
_________
(1) حديث يقول الله يوم القيامة أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة ومن هم يا ربنا فيقول فقراء المسلمين الحديث رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس(4/200)
وقد قيل في هذا المعنى أيضاً
يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه ... مقدراً أي باب منه يغلقه
مفكراً كيف تأتيه منيته ... أغادياً أم بها يسري فتطرقه
جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له ... يا جامع المال أياماً تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا يوم تنفقه
أرفه ببال فتى يغدو على ثقة ... أن الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون مايدنسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يبق في ظلها هم يؤرقه
بيان فضيلة الفقر على الغنى
اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر وقال ابن عطاء الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصبر وبيَّنا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر ومهدنا سبيل طلب الفضيلة في الأعمال والأحوال وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل
فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين {أحدهما} فقير صابر ليس بحريص على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال والثاني فقير حريص مع غني حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقير الحريص أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع وقد يشهد له ما روي في الخبر أن الفقراء شكوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد الفقراء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (1)
وقد استشهد ابن عطاء أيضاً لما سئل عن ذلك فقال الغني أفضل لأنه وصف الحق أما دليله الأول ففيه نظر لأن الخبر قد ورد مفصلاً تفصيلاً يدل على خلاف ذلك وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء فقد روى زيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال بعث الفقراء رسولا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رسول الفقراء إليك فقال {مرحباً} بك وبمن جئت من عندهم قوم أحبهم قال قالوا يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عني
_________
(1) حديث شكى الفقراء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات الحديث وفي آخر فقال {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} متفق عليه من حديث أبي هريرة نحوه(4/201)
الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء أما خصلة واحدة فإن في الجنة غرفاً ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير والثانية يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام والثالثة إذا قال الغنى سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها فرجع إليهم فأخبرهم بما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا رضينا رضينا (1) فهذا يدل على أن قوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أي مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم وأما قوله إن الغني وصف الحق فقد أجابه بعض الشيوخ فقال أترى أن الله تعالى غني بالأسباب والأعراض فانقطع ولم ينطق وأجاب آخرون فقالوا إن التكبر من صفات الحق فينبغي أن يكون أفضل من التواضع ثم قالوا بل هذا يدل على أن الفقر أفضل لأن صفات العبودية فضل للعبد كالخوف والرجاء وصفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا منهما قصمته (2)
وقال سهل حب العز والبقاء شرك في الربوبية ومنازعة فيها لأنهما من صفات الرب تعالى فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغنى والفقر وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها إذ كما يناقض قول من فضل الغني بأنه صفة الحق بالتكبر فكذلك يناقض قول من ذم الغني لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه وصف الرب تعالى والجهل والغفلة وصف العبد وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده إذ به يظهر فضله والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى ولا الفقر مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه وكم من غني لم يشغله الغني عن الله عز وجل مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن المقصد وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن والفقر قد يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى في القلب والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه أو في وصاله وربما يكون شغله في الفراق أكثر وربما يكون شغله في الوصال أكثر والدنيا معشوقة الغافلين المحروم منها مشغول بطلبها والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها فإذن إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة ووجود قدر الحاجة أفضل من فقده إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر فالفقير عن الخطر أبعد إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن العصمة أن لا يقدر ولذلك قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأعصار الكثيرة إلا نادرا
_________
(1) حديث زيد بن أسلم عن أنس بعث الفقراء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا إن الأغنياء ذهبوا بالجنة يحجون ولا نقدر عليه الحديث وفيه بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء الحديث لم أجده هكذا بهذا السياق والمعروف في هذا المعنى ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر اشتكى فقراء المهاجرين إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فضل الله به عليهم أغنياءهم فقال يا معشر الفقراء ألا أبشركم إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم خمسمائة عام وإسناده ضعيف
(2) حديث قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري تقدم في العلم وغيره(4/202)
ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر زجر الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح عليه السلام لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم
وقال بعض العلماء تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان
وفي الخبر إن لكل أمة عجلاً وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم (1) وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضاً واستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة إن كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ للدنيا إليك عني (2) إذ كانت تتمثل له بزينتها
وكان علي كرم الله وجهه يقول يا صفراء غري غيري ويا بيضاء غري غيري وذلك لاستشعاره في نفسه ظهور مبادىء الاغترار بها لولا أن رأى برهان ربه وذلك هو الغنى المطلق إذ قال صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس (3) وإذا كان ذلك بعيداً فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات لأنهم لا ينفكون في القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار راحة في بذلها وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن حبه ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافي القلب عن الدنيا وزهرتها والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمناً بالله انصرف لا محالة إلى الله إذ لا يتصور قلب فارغ وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان فالمتردد بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوبه عن الدنيا وأنسه بها فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط فإن تساويا فيه تساوت درجتهما إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه فإن وجد لقلبه إليه التفاتاً فليعلم أنه كان مغروراً فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كنت مستكنة فيه فتحقق إذن أنه كان مغروراً وأن العشق كان مستكناً في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالاً أو بعيداً فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور ولا يكون تأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيرها في قلب مشغول ولذلك قال بعض السلف مثل من تعبد وهو في طلب الدنيا مثل من يطفىء النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك
_________
(1) حديث لكل أمة عجل وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم رواه أبو منصور الديلمي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي من حديث حذيفة بإسناد في جهالة
(2) حديث كان يقول للدنيا إليك عني الحديث رواه الحاكم مع اختلاف وقد تقدم
(3) حديث ليس الغنى عن كثرة العرض الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم(4/203)
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غني ألف عام
وعن الضحاك قال من دخل السوق فرأى شيئاً يشتهيه فصبر واحتسب كان خيراً له من ألف دينار ينفقها كلها في سبيل الله تعالى
وقال رجل لبشر بن الحارث رحمه الله ادع الله لي فقد أضر بي العيال فقال إذا قال لك عيالك ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله لى في ذلك الوقت فإن دعاءك أفضل من دعائي وكان يقول مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه اللهم إني أسألك الذل عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف
وإذا كان مثل الصديق رضي الله عنه في كماله يحذر من الدنيا ووجودها فكيف يشك في أن فقد المال أصلح من وجوده هذا مع أن أحسن أحوال الغني أن يأخذ حلالاً وينفق طيباً ومع ذلك فيطول حسابه في عرصات القيامة ويطول انتظاره ومن نوقش الحساب فقد عذب ولهذا تأخر عبد الرحمن بن عوف عن الجنة إذ كان مشغولاً بالحساب كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه ما أحب أن لي حانوتاً على باب المسجد ولا تخطئني فيه صلاة وذكر وأربح كل يوم خمسين ديناراً وأتصدق بها في سبيل الله تعالى قيل وما تكره قال سوء الحساب ولذلك قال سفيان رحمه الله اختار الفقراء ثلاثة أشياء واختار الأغنياء ثلاثة أشياء اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب وخفة الحساب واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وشدة الحساب وما ذكره ابن عطاء من إن الغني وصف الحق فهو بذلك أفضل فهو صحيح ولكن إذا كان العبد غنياً عن وجود المال وعدمه جميعاً بأن يستوي عنده كلاهما فأما إذا كان غنياً بوجوده ومفتقراً إلى بقائه فلا يضاهي غناه غنى الله تعالى لأن الله تعالى غني بذاته لا بما يتصور زواله والمال يتصور زواله بأن يسرق وما ذكر من الرد عليه بأن الله ليس غنياً بالأعراض والأسباب صحيح في ذم غني يريد بقاء المال وما ذكر من أن صفات الحق لا تليق بالعبد غير صحيح بل العلم من صفاته وهو أفضل شيء للعبد بل منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى وقد سمعت بعض المشايخ يقول إن سألك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافاً له أي يكون له من كل واحد نصيب وأما التكبر فلا يليق بالعبد فإن التكبر على من لا يستحق التكبر عليه ليس من صفات الله تعالى وأما التكبر على من يستحقه كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل والمطيع على العاصي فيليق به نعم قد يراد بالتكبر الزهو والصلف والإيذاء وليس ذلك من وصف الله تعالى وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شيء وأنه يعلم أنه كذلك والعبد مأمور بأنه بأنه يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه ولكن بالاستحقاق كما هو حقه لا بالباطل والتلبيس فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر والمطيع أكبر من العاصي والعالم أكبر من الجاهل والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات وأقرب إلى الله تعالى منها فلو رأى نفسه بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكانت صفة التكبر حاصلة له ولائقة به وفضيلة في حقه إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته فإن ذلك موقوف على الخاتمة وليس يدري الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق فلجهله بذلك وجب أن لا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر إذ ربما يختم للكافر بالإيمان وقد يختم له بالكفر فلم يكن ذلك لائقاً به لقصور علمه عن معرفة العاقبة ولما تصور أن يعلم الشيء على ما هو به كان العلم كمالاً في حقه لأنه(4/204)
في صفات الله تعالى ولما كانت معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصاناً في حقه إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى فلا جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء فإذن لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى فهو فضيلة أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلاً فهذا بيان نسبة حال الفقير القانع إلى حال الغني الشاكر
المقام الثاني في نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغني الحريص
ولنفرض هذا في شخص واحد هو طالب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجده فله حالة الفقد وحالة الوجود فأي حالتيه أفضل فنقول ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه في المعيشة وكان قصده أن يسلك سبيل الدين ويستعين به عليه فحال الوجود أفضل لأن الفقر يشغله بالطلب وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل والمكفي هو القادر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا {وقال} كاد الفقر أن يكون كفراً أي الفقر مع الاضطرار فيما لا بد منه وإن كان المجلوب فوق الحاجة أو كان المطلوب قدر الحاجة ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل الدين فحالة الفقر أفضل وأصلح لأنهما استويا في الحرص وحب المال واستويا في أن كل واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين واستويا في أن كل واحد منهما ليس يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى ولكن افترقا في أن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد حبه في قلبه ويطمئن إلى الدنيا والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يبغي الخلاص منه ومهما استوت الأمور كلها وخرج من الدنيا رجلان أحدهما أشد ركوناً إلى الدنيا فحاله أشد لا محالة إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش من الآخرة بقدر تأكد أنسه بالدنيا وقد قال صلى الله عليه وسلم (1) حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه تقدم // وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد فينبغي أن تحب من لا يفارقك وهو الله تعالى ولا تحب ما يفارقك وهو الدنيا فإنك إذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه وفراقك لما تحبه وكل من فارق محبوباً فيكون أذاه في فراقه بقدر حبه وقدر أنسه وأنس الواجد للدنيا القادر عليها أكثر من أنس الفاقد لها وإن كان حريصاً عليها فإذن قد انكشف بهذا التحقيق أن الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا في موضعين أحدهما غني مثل غنى عائشة رضي الله عنها يستوي عنده الوجود والعدم فيكون الوجود مزيداً له إذ يستفيد به أدعية الفقراء والمساكين وجمع همهم والثاني الفقر عن مقدار الضرورة فإن ذلك يكاد أن يكون كفراً ولا خير فيه بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقي حياته ثم يستعين بقوته وحياته على الكفر والمعاصي ولو مات جزعا لكانت معاصيه أقل فالأصلح له أن يموت جوعاً ولا يجد ما يضطر إليه أيضا فهذا تفصيل القول في الغنى والفقر
ويبقى النظر في فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه وفي غنى دونه في الحرص على حفظ المال ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده كتفجع الفقير بفقهره فهذا في محل النظر والأظهر أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما لفقد المال وقربهما بقدر ضعف تفجعهما بفقده والعلم عند الله تعالى فيه
_________
(1) إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحبب فإنك مفارقه(4/205)
بيان آدَابُ الْفَقِيرِ فِي فَقْرِهِ
اعْلَمْ أَنَّ لِلْفَقِيرِ آدَابًا فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَمُخَالَطَتِهِ وَأَفْعَالِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَهَا
فَأَمَّا أَدَبُ بَاطِنِهِ فَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ كَرَاهِيَةٌ لِمَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْفَقْرِ أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَارِهًا فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فعله وإن كان كارهاً للفقر كالمحجوم يكون كارها للحجامة لتألمه بها ولا يكون كارهاً فعل الحجام ولا كارهاً للحجام بل ربما يتقلد منه منة فهذا أقل درجاته وهو واجب ونقيضه حرام ومحبط ثواب الفقر وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به لعلمه بغوائل الغنى ويكون متوكلاً في باطنه على الله تعالى واثقاً به في قدر ضرورته أنه يأتيه لا محالة ويكون كارهاً للزيادة على الكفاف وقد قال علي كرم الله وجهه إن لله تعالى عقوبات بالفقر ومثوبات بالفقر من علامات الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن عليه خلقه ويطيع به ربه ولا يشكو حاله ويشكر الله تعالى على فقره ومن علاماته إذا كان عقوبة أن يسوء عليه خلقه ويعصي ربه بترك طاعته ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء وهذا يدل أن كل فقير فليس بمحمود بل المحمود الذي لا يتسخط ويرضى أو يفرح بالفقر ويرضى لعلمه بثمرته إذ قيل ما أعطى عبد شيئاً من الدنيا إلا قيل له خذه على ثلاثة أثلاث شغل وهم وطول حساب
وَأَمَّا أَدَبُ ظَاهِرِهِ فَأَنْ يُظْهِرَ التَّعَفُّفَ وَالتَّجَمُّلَ وَلَا يُظْهِرَ الشَّكْوَى وَالْفَقْرَ بَلْ يَسْتُرَ فَقْرَهُ ويستر أنه يستره فَفِي الْحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ أَبَا الْعِيَالِ وَقَالَ تَعَالَى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أغنياء من التعفف وقال سفيان أفضل الأعمال التجمل عند المحنة وقال بعضهم ستر الفقر من كنوز البر
وأما في الأعمال فَأَدَبُهُ أَنْ لَا يَتَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ بل يتكبر عليه قَالَ علي كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ ثِقَةً بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذِهِ رُتْبَةٌ وَأَقَلُّ مِنْهَا أَنْ لَا يُخَالِطَ الْأَغْنِيَاءَ وَلَا يَرْغَبَ في مجالستهم لأن ذلك من مبادىء الطمع
قال الثوري رحمه الله إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لص
وقال بعض العارفين إذا خالط الفقير الأغنياء انحلت عروته فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته فإذا سكن إليهم ضل
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِ الْحَقِّ مدامنة لِلْأَغْنِيَاءِ وَطَمَعًا فِي الْعَطَاءِ
وَأَمَّا أَدَبُهُ فِي أفعاله لَا يَفْتُرَ بِسَبَبِ الْفَقْرِ عَنْ عِبَادَةٍ وَلَا يَمْنَعَ بَذْلَ قَلِيلِ مَا يَفْضُلُ عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جُهْدُ الْمُقِلِّ وَفَضْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَمْوَالٍ كثيرة تبذل عن ظهر غني روى زيد بن أسلم قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم قيل وكيف ذلك يا رسول الله قال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها وأخرج رجل درهماً من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف (1) وينبغي أن لا يدخر مالاً بل يأخذ قدر الحاجة ويخرج الباقي وفي الادخار ثلاث درجات إحداها أن لا يدخر إلا ليومه وليلته وهي درجة الصديقين والثانية أن يدخر لأربعين يوماً فإن ما زاد عليه داخل في طول الأمل وقد فهم العلماء ذلك من ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام
_________
(1) حديث زيد بن أسلم درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف قيل وكيف يا رسول الله قال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف الحديث أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة متصلا وقد تقدم في الزكاة ولا أصل له من رواية زيد بن أسلم مرسلا(4/206)
ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوماً
وهذه درجة المتقين والثالثة أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب وهي رتبة الصالحين ومن زاد في الادخار على هذا فهو واقع في غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية فغنى الصالح الضعيف في طمأنينة قلبه في قوت سنته وغنى الخصوص في أربعين يوماً وغنى خصوص الخصوص في يوم وليلة وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم نساءه على مثل هذه الأقسام فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل وبعضهن قوت أربعين يوماً وليلة وهو قسم عائشة وحفصة
بيان آدَابُ الْفَقِيرِ فِي قَبُولِ الْعَطَاءِ إِذَا جَاءَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ
يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحِظَ الْفَقِيرُ فِيمَا جَاءَهُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ نَفْسُ الْمَالِ
وَغَرَضُ الْمُعْطِي وَغَرَضُهُ فِي الْأَخْذِ
أَمَّا نَفْسُ الْمَالِ فَيَنْبَغِي أن يكون حلالاً خالياً عن الشبهات كلها فَإِنْ كَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ فَلْيَحْتَرِزْ مِنْ أَخْذِهِ وقد ذكرنا في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة وما يجب اجتنابه وما يستحب
وَأَمَّا غَرَضُ الْمُعْطِي فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ تَطْيِيبَ قَلْبِهِ وَطَلَبَ مَحَبَّتِهِ وَهُوَ الهدية أو الثواب وهو الصدقة والزكاة والذكر والرياء والسمعة إما على التجرد وإما ممزوجاً ببقية الأغراض
أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْهَدِيَّةُ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِهَا فَإِنَّ قَبُولَهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا مِنَّةٌ فَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنَّةٌ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهَا مِمَّا تَعْظُمُ فيه المنة فليرد البعض دون البعض فقد أهدي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمن وأقط وكبش فقبل السمن والأقط ورد الكبش (2) وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من بعض الناس ويرد على بعض (3)
وقال لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي (4) وفعل هذا جماعة من التابعين
وجاءت إلى فتح الموصلي صرة فيها خمسين درهماً فقال حدثنا عطاء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال من أتاه رزق من غير مسألة فرده فأنما يرده على الله (5) ثم فتح الصرة فأخذ منها درهماً ورد سائرها
وكان الحسن يروي هذا الحديث أيضاً ولكن حمل إليه رجل كيساً ورزمة من رقيق ثياب خراسان فرد ذلك وقال من جلس مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليس له خلاق
وهذا يدل على أن أمر العالم والواعظ أشد في قبول العطاء وقد كان الحسن يقبل من أصحابه
وكان إبراهيم التيمي يسأل من أصحابه الدرهم والدرهمين ونحوه ويعرض عليه غيرهم المئين فلا يأخذها وكان بعضهم إذا أعطاه صديقه شيئاً يقول اتركه عندك وانظر إن كنت بعد قبوله في قلبك أفضل مني قبل القبول فأخبرنى
_________
(1) حديث أن قبول الهدية سنة تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية
(2) حديث أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمن وأقط وكبش فقبل السمن والأقط ورد الكبش
أخرجه أحمد في أثناء حديث ليعلى بن مرة وأهدت إليه كبشين وشيئا من سمن وأقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذ الأقط والسمن وأحد الكبشين ورد عليها الآخر وإسناده جيد وقال وكيع مرة عن يعلى بن مرة عن أبيه
(3) حديث كان يقبل من بعض الناس ويرد على بعض رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وأيم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون مهاجريا الحديث فيه محمد بن إسحق ورواه بالعنعنة
(4) حديث لقد هممت أن لا أتهب إلا من قريشي أو ثقفي أو أنصاري او دوسي أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال روى من غير وجه عن أبي هريرة قلت ورجاله ثقات
(5) حديث عطاء مرسلا من أتاه رزق من غير وسيلة فرده فإنما يرد على الله عز وجل لم أجده مرسلا هكذا ولأحمد وأبي يعلى والطبراني بإسناد جيد من حديث خالد بن عدي الجهني من بلغه معروف من أخيه من غير مسئلة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه ولأحمد وأبي داود الطيالسي من حديث أبي هريرة من آتاه الله من هذا المال شيئا من غير أن يسأله فليقبله وفي الصحيحين من حديث عمر ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه الحديث(4/207)
حتى آخذه وإلا فلا وأمارة هذا أن يشق عليه الرد لو رده ويفرح بالقبول ويرى المنة على نفسه في قبول صديقه هديته فإن علم أنه يمازجه منة فأخذه مباح ولكنه مكروه عند الفقراء الصادقين
وقال بشر ما سألت أحداً قط شيئاً إلا سرياً السقطي لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عوناً له على ما يحب
وجاء خراساني إلى الجنيد رحمه الله بمال وسأله أن يأكله فقال أفرقه على الفقراء فقال ما أريد هذا قال ومتى أعيش حتى آكل هذا قال ما أريد أن تنفقه في الخل والبقل بل في الحلاوات والطيبات فقبل ذلك منه فقال الخراساني ما أجد في بغداد أمن علي منك فقال الجنيد ولا ينبغي أن يقبل إلا من مثلك
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلثَّوَابِ الْمُجَرَّدِ وَذَلِكَ صَدَقَةٌ أَوْ زَكَاةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلزَّكَاةِ فَإِنِ اشْتَبَهَ عليه فهو محل شبهة وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب أسرار الزكاة
وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً وَكَانَ يُعْطِيهِ لِدِينِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى بَاطِنِهِ فَإِنْ كَانَ مُقَارِفًا لِمَعْصِيَةٍ فِي السر يعلم أن المعطي لو علم ذلك لَنَفَرَ طَبْعُهُ وَلَمَا تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ فَهَذَا حَرَامٌ أَخْذُهُ كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ عَالِمٌ أَوْ عَلَوِيٌّ وَلَمْ يَكُنْ فَإِنَّ أَخْذَهُ حَرَامٌ مَحْضٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ
الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ السُّمْعَةَ وَالرِّيَاءَ وَالشُّهْرَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ الْفَاسِدَ وَلَا يقبله إذ يكون معيناً له على غرضه الفاسد
وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخاراً به لأخذت وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال إنما أرد صلتهم إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم
وَأَمَّا غَرَضُهُ فِي الْأَخْذِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَقَدْ سَلِمَ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالْآفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي المعطي فالأفضل له الأخذ قال النبي صلى الله عليه وسلم ما المعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً (1) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَتَاهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا اسْتِشْرَافٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (2) وفي لفظ آخر فلا يرده
وقال بعض العلماء من أعطي ولم يأخذ سأل ولم يعطَ
وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئاً فرده مرة فقال له السري يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ فقال له أحمد أعد علي ما قلت فأعاده فقال أحمد ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر فاحسبه لي عندك فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي وقد قال بعض العلماء يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع أو دخول في شبهة أو غيره فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا أَتَاهُ زَائِدًا عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالُهُ الِاشْتِغَالَ بِنَفْسِهِ أَوِ التَّكَفُّلَ بِأُمُورِ الْفُقَرَاءِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لِمَا فِي طَبْعِهِ مِنَ الرِّفْقِ وَالسَّخَاءِ فَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِنَفْسِهِ فَلَا وَجْهَ لِأَخْذِهِ وإمساكه إن كان طالباً طريق الآخرة فإن ذلك محض إتباع الهوى وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داعٍ إليه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم له مقامان أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في السر أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر وهذا مقام الصديقين وهو شاق على النفس لا يطيقه إلا من اطمأنت نفسه بالرياضة والثاني أن يترك ولا يأخذ ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج منه أو يأخذ ويوصل إلى من هو أحوج منه فيفعل كليهما في السر أو كليهما في العلانية وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار
_________
(1) حديث ما المعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجا رواه الطبراني من حديث ابن عمر وقد تقدم في الزكاة
(2) حديث مَنْ أَتَاهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا اسْتِشْرَافٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ ساقه الله إليه(4/208)
الأخذ أو إخفاؤه في كتاب أسرار الزكاة مع جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه
وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان لاستغنائه عنه إذ كان عنده قوت شهر ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره فإن في ذلك آفات وأخطارا والزرع يكون حذراً من مظان الآفات إذ لم يأمن مكيدهالشيطان على نفسه
وقال بعض المجاورين بمكة كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله فسمعت فقيراً قد فرغ من طوافه وهو يقول بصوت خفي أنا جائع كما ترى عريان كما ترى فما ترى فيما ترى يا من يرى ولا يُرى فنظرت فإذا عليه خلقان لا تكاد تواريه فقلت في نفسي لا أجد لدراهمي موضعاً أحسن من هذا فحملتها إليه فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم وقال أربعة ثمن مئزرين ودرهم أنفقه ثلاثة فلا حاجة بي إلى الباقي فرده قال فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إلي فأخذ بيدي فأطافني معه أسبوعاً كل شوط منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر ولم يظهر ذلك للناس فقال هذا كله قد أعطانيه فرهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق لأن هذه أثقال وفتنة وذلك للعباد فيه رحمة ونعمة والمقصود من هذا أن الزيادة عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ إِنَّمَا تَأْتِيكَ ابْتِلَاءً وَفِتْنَةً لِيَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْكَ مَاذَا تَعْمَلُ فِيهِ وَقَدْرُ الْحَاجَةِ يَأْتِيكَ رِفْقًا بِكَ فَلَا تَغْفُلْ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّفْقِ وَالِابْتِلَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حق لابن آدم إلا في ثلاث طعام يقيم صلبه وثوب يواري عورته وبيت يكنه فما زاد فهو حساب (1) فإذن أنت في أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب وفيما زاد عليه إن لم تعص الله متعرض للحساب وإن عصيت الله فأنت متعرض للعقاب
ومن الاختبار أيضاً أن تعزم على ترك لذة من اللذات تقرباً إلى الله تعالى وكسراً لصلة النفس فتأتيك عفواً صفواً لتمتحن بها قوة عقلك فالأولى الامتناع عنها فإن النفس إذا رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها ولا يمكن قهرها فرد ذلك مهم وهو الزهد فإن أخذته وصرفته إلى محتاج فهو غاية الزهد ولا يقدر عليه إلا الصديقون وأما إذا كانت حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء وبادر به إلى الصرف إليهم ولا تدخره فإن إمساكه ولو ليلة واحدة فيه فتنة واختبار فربما يحلو في قلبك فتمسكه فيكون فتنة عليك وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة إلى التوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب وذلك هو الهلاك ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة فإن رزقه الله من حلال قضاه وإن مات قبل القضاء قضاه الله تعالى عنه وأرضى غرماءه وذلك بشرط أن يكون مكشوف الحال عند من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده ليقدم على إقراضه على بصيرة ودين مثل هذا الرجل واجب أن يقضى من مال بيت المال ومن الزكاة وقد قال تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله قيل معناه ليبع أحد ثوبيه
وقيل معناه فليستقرض بجاهه فذلك مما آتاه الله
وقال بعضهم إن لله تعالى عباداً ينفقون على قدر بضائعهم ولله عباد ينفقون على قدر حسن الظن بالله تعالى
ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف الأقوياء والأسخياء والأغنياء فقيل من هؤلاء فقال أما الأقوياء فهم أهل
_________
(1) حديث لا حق لابن آدم إلا في ثلاث طعام يقيم صلبه وثوب يواري عورته وبيت يكنه فما زاد فهو حساب أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن عفان وقال وجلف الخبز والماء بدل قوله طعام يقيم صلبه وقال صحيح(4/209)
التوكل على الله تعالى وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى فإذن مهما وجدت هذه الشروط فيه وفي المال وفي المعطي فليأخذه وينبغي أن يرى ما يأخذه من الله لا من المعطي لأن المعطي واسطة قد سخر للعطاء وهو مضطر إليه بما سلط عليه من الدواعي والإوادات والاعتقادات وقد حكي أن بعض الناس دعا شقيقاً في خمسين من أصحابه فوضع الرجل مائدة حسنة فلما قعد قال لأصحابه إن هذا الرجل يقول من لم يرن صنعت هذا الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام فقاموا كلهم وخرجوا إلا شاباً منهم كان دونهم في الدرجة فقال صاحب المنزل لشقيق ما قصدت بهذا قال أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم
وقال موسى عليه السلام يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوماً ويعشيني هذا ليلة فأوحى الله تعالى إليه هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطالين من عبادي ليؤجروا فيهم
فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث أنه مسخر مأجور من الله تعالى نسأل الله حسن التوفيق لما يرضاه
بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر فيه
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ مَنَاهٍ كَثِيرَةٌ فِي السؤال وتشديدات وورد فيه أيضاً ما يدل على الرخصة إذ قال صلى الله عليه وسلم للسائل حق ولو جاء على فرس (1) وفي الحديث ردوا السائل ولو بظلف محرق (2) ولو كان السؤال حراماً مطلقاً لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الضَّرُورَةِ فإن كان عنها فهو حرام وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة
الأول إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة
الثاني أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسئول
الثالث أنه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة
ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله صلى الله عليه وسلم مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها (3) فانظر كيف سماها فاحشة ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح
_________
(1) حديث للسائل حق وإن جاء على فرس رواه أبو داود من حديث الحسين بن علي ومن حديث علي
(2) حديث ردوا السائل ولو بظلف محرق رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي واللفظ له من حديث أم مجيد وقال ابن عبد البر حديث مضطرب
(3) حديث مسئلة الناس من الفواحش وما أحل الله من الفواحش غيرها(4/210)
لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة وهو لا يجد غيره
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَ عَنْ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ (1) وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ يَتَقَعْقَعُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ خُدُوشًا وَكُدُوحًا فِي وَجْهِهِ (2) وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ صَرِيحَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّشْدِيدِ
وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال لهم كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئاً (3) وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ كَثِيرًا بالتعفف عن السؤال ويقول من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا وقال صلى الله عليه وسلم استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير قالوا ومنك يا رسول الله قال ومني وَسَمِعَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَائِلًا يَسْأَلُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ لِوَاحِدٍ مَنْ قَوْمِهِ عَشِّ الرَّجُلَ فَعَشَّاهُ ثُمَّ سَمِعَهُ ثَانِيًا يَسْأَلُ فَقَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ عَشِّ الرَّجُلَ قَالَ قَدْ عَشَّيْتُهُ فَنَظَرَ عمر فَإِذَا تَحْتَ يَدِهِ مِخْلَاةٌ مَمْلُوءَةٌ خُبْزًا فَقَالَ لَسْتَ سَائِلًا وَلَكِنَّكَ تَاجِرٌ ثُمَّ أَخَذَ الْمِخْلَاةَ وَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لَا تَعُدْ
وَلَوْلَا أن سُؤَالُهُ كَانَ حَرَامًا لَمَا ضَرَبَهُ وَلَا أَخَذَ مخلاته ولعل الفقيه الضعيف المنة الضيق الحوصلة يستبعد هذا من فعل عمر ويقول أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير وأما أخذه ماله فهو مصادرة والشرع لم يرد بالعقوبة بأخذ المال فكيف استجازه وهو استبعاد مصدره القصور في الفقه فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده أفترى أنه لم يعلم أن المصادرة بالمال غير جائزة أو علم ذلك ولكن أقدم عليه غضباً في معصية الله وحاشاه أو أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله وهيهات فإن ذلك أيضاً معصية بل الفقه الذي لَاحَ لَهُ فِيهِ أَنَّهُ رَآهُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ السُّؤَالِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ وَقَدْ كَانَ كاذباً فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التَّلْبِيسِ وَعَسُرَ تَمْيِيزُ ذَلِكَ وَرَدُّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ إِذْ لَا يُعْرَفُ أَصْحَابُهُ بِأَعْيَانِهِمْ فَبَقِيَ مَالًا لَا مَالِكَ لَهُ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَصَالِحِ وإبل الصدقة وعلفها من المصالح ويتنزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذباً كأخذ العلوي بقوله إني علوي وهو كاذب
فإنه لا يملك ما يأخذه كأخذ الصوفي الصالح الذي يعطي لصلاحه وهو في الباطن مقارف لمعصية لو عرفها المعطي لما أعطاه وقد ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه فاستدل بفعل عمر رضي الله عنه على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء وقد قررناه في مواضع ولا تستدل بغفلتك عن هذا الفقه على بطلان فعل عمر
فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة فاعلم أن الشيء إما أن يكون مضطراً إليه أو محتاجاً إليه حاجة
_________
(1) حديث مَنْ سَأَلَ عَنْ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جمر جهنم الحديث رواه أبو داود وابن حبان من حديث سهل ابن الحنظلية مقتصرا على ما ذكر منه وتقدم في الزكاة ولمسلم من حديث أبي هريرة من يسأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا الحديث وللبزار والطبراني من حديث مسعود بن عمر ولا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه وفي إسناده لين وللشيخين من حديث ابن عمر ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم وإسناده جيد
(2) حديث من سأل وله ما يغنيه كانت مسئلته خدوشا وكدوما في وجهه رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود وتقدم في الزكاة
(3) حديث بايع قوماً على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي(4/211)
مهمة أو حاجة خفيفة أو مستغنى عنه فهذه أربعة أحوال
أما المضطر إليه فهو سؤال الْجَائِعِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا وَسُؤَالُ الْعَارِي وَبَدَنُهُ مَكْشُوفٌ لَيْسَ مَعَهُ ما يواريه وهو مباح مهما وجدت بقية الشروط في المسئول بكونه مباحا والمسئول منه بكونه راضياً في الباطن وفي السائل بكونه عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ وهو بطال لَهُ السُّؤَالُ إِلَّا إِذَا اسْتَغْرَقَ طَلَبُ الْعِلْمِ أوقاته وكل من له خط فهو قادر على الكسب بالوراقة
وأما المستغني فهو الذي يطلب شيئاً وعنده مثله وأمثاله فسؤاله حرام قطعاً وهذان طرفان واضحان
وَأَمَّا الْمُحْتَاجُ حَاجَةً مُهِمَّةً فَكَالْمَرِيضِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله ولكن لا يخلو عن خوف وَكَمَنَ لَهُ جُبَّةٌ لَا قَمِيصَ تَحْتَهَا فِي الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذياً لا ينتهي إلى حد الضرورة وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة فهذا أيضاً ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضاً حاجة محققة ولكن الصبر عنه أولى وهو بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروهاً مهما صدق في السؤال وقال ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذىً أطيقه ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى
وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤال قميصاً ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز وكمن يسأل الكراء لفرس في الطريق وهو واجد كراء الحمار أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة فهذا ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسؤل فهو حرام لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات وإن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة
فإن قلت فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول أنا مستغن بما أملكه ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس فيخرج به عن حد الشكوى وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك فإن الذل لازم للمنة لا محالة
وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصاً بالسؤال بعينه بل يلقي الكلام عرضاً بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل كرها خوفاً من الملامة ويكون الأحب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة
وأما إذا كان يسأل شخصاً معيناً فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضاً يبقى له سبيلاً إلى التغافل إن أراد فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذٍ به وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي
فإن قلت فإذا أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة فأقول ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأمة وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة إذ لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء وخوف الملام وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء ولا يجوز أن يقال هو في الظاهر قد رضي به وقد قال صلى الله عليه وسلم(4/212)
إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر (1) فإن هذه ضرورة القضاء في فصل الخصومات إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن وقرائن الأحوال فاضطروا إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب ولكن الضرورة دعت إليه وهذا سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى والحاكم فيه أحكم الحاكمين والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك وإن أفتوك وأفتوك فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة ومفتي القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة كما أن بفتوى الفقيه النجاة من سطوة سلطان الدنيا فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى عن عهدته فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى
فإن قلت فهذا أمر باطن يعسر الإطلاع عليه فكيف السبيل إلى الخلاص منها فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضياً فأقول لهذا ترك المتقون السؤال رأساً فما كانوا يأخذون من أحد شيئاً أصلاً فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلاً إلا من السري رحمة الله عليهما وقال لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده فأنا أعينه على ما يحب وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا لأن الأذى إنما يحل بضرورة وهو أن يكون السائل مشرفاً على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة فكان الامتناع طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقاً ببصيرته في الإطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطي بعضاً ويرد بعضاً كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الكبش والسمن والأقط وكان هذا يأتيهم من غير سؤال فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة ولكن قد تكون رغبته طمعاً في جاه أو طلباً للرياء والسمعة فكانوا يحترزون من ذلك فأما السؤال فقد امتنعوا عنه رأساً إلا في موضعين أحدهما الضرورة فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة سليمان وموسى والخضر عليهم السلام
ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم
والثاني السؤال من الأصدقاء والإخوان فقد كانوا يأخذون مالهم بغير سؤال واستئذان لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان وقد كانوا وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسئول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لا لابتدأك دون السؤال فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن وحالة لا يشك في الكراهة ويعلم ذلك بقرينة الأحوال فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية سحت ويتردد بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وَلْيَتْرُكْ حَزَازَ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الْإِثْمُ وَلْيَدَعْ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ وَإِدْرَاكُ ذَلِكَ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ سَهْلٌ عَلَى مَنْ قَوِيَتْ فِطْنَتُهُ وَضَعُفَ حِرْصُهُ وَشَهْوَتُهُ فَإِنْ قَوِيَ الْحِرْصُ وَضَعُفَتِ الْفَطِنَةُ تَرَاءَى لَهُ مَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ فَلَا يَتَفَطَّنُ لِلْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَبِهَذِهِ الدَّقَائِقِ يطلع على سر قوله
_________
(1) حديث إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر لم أجد له أصلا وكذا قال المزى لما سئل عنه(4/213)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَطْيَبَ مَا أكل الرجل من كسبه (1) وقد أوتي جوامع الكلم لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس وإن أعطى بغير سؤال فإنما يعطي بدينه ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف لا يعطي بدينه فيكون ما يأخذه حراماً وإن أعطي بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل وأين من يقتصر في السؤال على حد الضرورة فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك فإذن بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده فإنه على ما يشاء قدير
بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال
اعلم أن قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ منه أو ليستكثر صريح في التحريم ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير وليس إلينا وضع المقادير بل يستدرك ذلك بالتوقيف وقد ورد في الحديث استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره قالوا وما هو قال غداء يوم وعشاء ليلة (2) وفي حديث آخر من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافاً (3) وورد في لفظ آخر أربعون درهماً ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحداً والتقدير ممتنع وغاية الممكن فيه تقريب ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين فنقول قال رسول صلى الله عليه وسلم لا حق لابن آدم إلا في ثلاث طعام يقيم صلبه وثوب يواري به عورته وبيت يكنه فما زاد فهو حساب فلنجعل هذه الثلاث أصلاً في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات فأما الأجناس فهي هذه الثلاث ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضاً
وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين وهو ثوب واحد وقميص ومنديل وسراويل ومداس وأما الثاني من كل جنس فهو مستغن عنه وليقس على هذا أثاث البيت جميعاً ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه الخزف فإن ذلك مستغنى عنه فيقتصر من العدد على واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما لم يكن في غاية البعد عن العادة
وأما الطعام فقدره في اليوم مد وهو ما قدره الشرع ونوعه ما يقتات ولو كان من الشعير
والأدم على الدوام فضلة وقطعة بالكلية إضرار ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة
وأما المسكن فأقله ما يجزئ من حيث المقدار وذلك من غير زينة فأما السؤال للزينة والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال من طعام يوم وليلة وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه
فأما سؤاله للمستقبل فهذا له ثلاث درجات إحداها ما يحتاج إليه في غد والثانية ما يحتاج إليه في أربعين يوماً أو خمسين يوماً والثالثة ما يحتاج إليه في السنة ولنقطع بأن من معه ما يكفيه له ولعياله إن كان له عيال
_________
(1) حديث إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ تقدم
(2) حديث استغنوا بغنى الله قالوا وما هو قال غداء يوم وعشاء ليلة تقدم في الزكاة من حديث سهل ابن الحنظلية قالوا ما يغنيه قال ما يغديه أويعشيه ولأحمد من حديث علي بإسناد حسن قالوا وما ظهر غنى قال عشاء ليلته وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فذكره صاحب الفردوس من حديث أبي هريرة
(3) حديث من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافاً وفي لفظ آخر أربعون درهماً تقدما في الزكاة(4/214)
لسنة فسؤاله حرام فإن ذلك غاية الغنى وعليه ينزل التقدير بخمسين درهماً في الحديث فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة إذا اقتصد أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة فإن كان قادراً على السؤال ولا تفوته فرصته فلا يحل له السؤال لأنه مستغن في الحال وربما لا يعيش إلى الغد فيكون قد سأل مالا يحتاج فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة وعليه ينزل الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر
وإن كان يفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال لأن أمل البقاء سنة غير بعيد فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطراً عاجزاً عما يعينه فإن كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفاً وكان ما لأجله السؤال خارجاً عن محل الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الاضطرار وخوف الفوت وتراخي المدة التي فيها يحتاج إلى السؤال وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو مَنُوطٌ بِاجْتِهَادِ الْعَبْدِ وَنَظَرِهِ لِنَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْتَفْتِي فِيهِ قَلْبَهُ وَيَعْمَلُ بِهِ إن سالكاً طريق الآخرة وكل من كان يقينه أقوى وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم وقناعته بقوت الوقت أظهر فدرجته عند الله تعالى أعلى فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين والإصغاء إلى تخويف الشيطان وقد قال تعالى فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين وقال عز وجل الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والسؤال من الفحشاء التي أبيحت بالضرورة وحال من يسأل لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالاً موروثاً وادخره لحاجة وراء السنة وكلاهما مباحان في الفتوى الظاهرة ولكنهما صادران عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بفضل الله وهذه الخصلة من أمهات المهلكات نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان أحوال السائلين
كان بشر رحمه الله يقول الفقراء ثلاثة فقير لا
يسأل وإن أعطي لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين
وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ فهذا مع المقربين في جنات الفردوس
وفقير يسأل عند الحاجة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين
فإذن قد اتفق كلهم على ذم السؤال وعلى أنه مع الفاقة يحط المرتبة والدرجة
قال شقيق البلخي لإبراهيم بن أدهم حين قدم عليه من خراسان كيف تركت الفقراء من أصحابك قال تركتهم إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا وظن أنه لما وصفهم بترك السؤال قد أثنى عليهم غاية الثناء فقال شقيق هكذا تركت كلاب بلخ عندنا فقال له إبراهيم فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق فقال الفقراء عندنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا فقبل رأسه وقال صدقت يا أستاذ
فإذن درجات أرباب الأحوال في الرضا والصبر والشكر والسؤال كثيرة فلا بد لسالك طريق الآخرة من معرفتها ومعرفة انقسامها واختلاف درجاتها فإنه إذا لم يعلم لم يقدر على الرقي من حضيضها إلى قلاعها ومن أسفل سافلين إلى أعلى أعليين وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم رد إلى أسفل سافلين ثم أمر أن يترقى إلى أعلى عليين ومن لا يميز بين السفل والعلو لا يقدر على الرقي قطعاً وإنما الشك فيمن عرف ذلك فإنه ربما لا يقدر عليه وأرباب الأحوال قد تغلبهم حالة تقتضي أن يكون السؤال مزيداً لهم في درجاتهم ولكن بالإضافة إلى حالهم فإن مثل هذه الأعمال بالنيات وذلك كما روي أن بعضهم رأى أبا إسحاق النوري رحمه الله يمد يده ويسأل الناس في بعض المواضع قال فاستعظمت ذلك واستقبحته له فأتيت الجنيد رحمه الله فأخبرته بذلك فقال لا يعظم هذا(4/215)
عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم
وكأنه أشار به إلى قوله صلى الله عليه وسلم يد المعطى هي العليا (1) فقال بعضهم يد المعطى هي يد الآخذ للمال لأنه يعطى الثواب والقدر له لا لما يأخذه ثم قال الجنيد هات الميزان فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة ثم قال احملها إليه فقلت في نفسي إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره فكيف خلط به مجهولاً وهو رجل حكيم واستحييت أن أسأله فذهبت بالصرة إلى النوري فقال هات الميزان فوزن مائة درهم وقال ردها عليه وقل له أنا لا أقبل منك أنت شيئاً وأخذ ما زاد على المائة قال فزاد تعجبي فسألته فقال الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن المائة لنفسه طلباً لثواب الآخرة وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عز وجل فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله لنفسه قال فرددتها إلى الجنيد فبكى وقال أخذ ماله ورد مالنا الله المستعان فانظر الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد منهم قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان ولكن بتشاهد القلوب وتناجي الأسرار وذلك نتيجة أكل الحلال وخلو القلب عن حب الدنيا والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة فمن أنكر ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل كمن ينكر مثلاً كون الدواء مسهلاً قبل شربه
ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه فأخذ ينكر كون الدواء مسهلاً وهذا وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خالياً عن حط وافٍ من الجهل بل البصير أحد رجلين إما رجل سالك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد وصل إلى عين اليقين وإما رجل لم يسلك الطريق أو سلك ولم يصل ولكنه آمن بذلك وصدق به فهو صاحب علم اليقين وإن لم يكن واصلاً إلى عين اليقين
ولعلم اليقين أيضاً رتبة وإن كان دون عين اليقين ومن خلا عن علم اليقين وعين اليقين فهو خارج عن زمرة المؤمنين ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين هم قتلى القلوب الضعيفة وأتباع الشياطين
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب
الشطر الثاني من الكتاب في الزهد
وفيه بيان حقيقة الزهد
وبيان فضيلة الزهد وبيان درجات الزهد وأقسامه وبيان تفصيل الزهد في المطعم والملبس والمسكن والأثاث وضروب المعيشة وبيان علامة الزهد
بيان حقيقة الزهد
اعلم أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال إذ به يظهر الحال الباطن وإلا فليس القول مراداً لعينه وإن لم يكن صادراً عن حال سمي إسلاماً ولم يسم إيمانا والعلم هو السبب في حال يجري مجرى المثمر والعمل يجري من الحال مجرى الثمرة فلنذكر الحال مع كلا طرفيه من العلم والعمل أما الحال فنعني بها ما يسمى زهداً وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه وإنما عدل إلى غيره لرغبته
_________
(1) حديث يد المعطى هي العليا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة(4/216)
في غيره فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهداً وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحباً فإذن يستدعي حال الزهد مرغوباً عنه ومرغوباً فيه هو خير من المرغوب عنه وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضاً مرغوباً فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً إذ تارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهداً وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشتري عنده خير من المبيع فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهداً فيه وبالإضافة إلى العوض عنه رغبة فيه وحباً ولذلك قال الله تعالى وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين معناه باعوه فقد يطلق الشراء بمعنى البيع ووصف أخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف فباعوه طمعاً في العوض فإذن كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضاً زاهد ولكن في الآخرة ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن يزهد في الدنيا كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة وإن كان هو للميل في وضع اللسان
ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى حتى الفراديس ولا يحب إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق والذي يرغب عن كل حظ ينال في الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور والقصور والأنهار والفواكه فهو أيضاً زاهد ولكنه دون الأول والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي يترك المال دون الجاه أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة فلا يستحق اسم الزاهد مطلقاً ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي في التائبين وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة فإن التوبة عبارة عن ترك المحظورات والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض كما لا يبعد ذلك في المحظورات والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمى زاهداً وإن كان قد زهد في المحظور وانصرف عنه ولكن العادة تخصص هذا الاسم بترك المباحات فإذن الزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا عدولاً إلى الآخرة أو عن غير الله تعالى عدولاً إلى الله تعالى وهي الدرجة العليا وكما يشترط في المرغوب فيه أن يكون خيراً عنده فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدوراً عليه فإن ترك ما لا يقدر عليه محال وبالترك يتبين زوال الرغبة ولذلك قيل لابن المبارك يا زاهد فقال الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها وأما أنا ففيماذا زهدت
وأما العلم الذي هو مثمر لهذه الحال فهو العلم بكون المتروك حقيراً بالإضافة إلى المأخوذ كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه وما لم يتحقق هذا العلم لم يتصور أن تزول الرغبة عن المبيع فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى أي لذاتها خير في أنفسها وأبقى كما تكون الجواهر خيراً وأبقى من الثلج مثلاً
ولا بعسر على مالك الثلج بيعه بالجواهر واللآلئ فهكذا مثال الدنيا والآخرة فالدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع والمعاملة حتى إن من قوي يقينه يبيع نفسه وماله كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ثم بين أن صفقتهم رابحة فقال تعالى فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أن الآخرة(4/217)
خير وأبقى وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه وإما لاستيلاء الشهوة في الحال عليه وكونه مقهوراً في يد الشيطان وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان في التسويف يوماً بعد يوم إلى أن يختطفه الموت ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى قل متاع الدنيا قليل وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عز وجل وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير فنبه على أن العلم بنفاسة الجوهر هو المرغب عن عوضه ولما لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن المحبوب في أحب منه قال رجل في دعائه اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل هكذا ولكن قل أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك (1) وهذا لأن الله تعالى يراها حقيرة كما هي وكل مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقيرة والعبد يراها حقيرة في نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له ولا يتصور أن يرى بائع الفرس وإن رغب عنه فرسه كما يرى حشرات الأرض مثلاً لأنه مستغن عن الحشرات أصلاً وليس مستغنياً عن الفرس والله تعالى غني بذاته عن كل ما سواه فيرى الكل في درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله ويراه متفاوتاً بالإضافة إلى غيره والزاهد هو الذي يرى تفاوته بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره وأما العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك واحد لأنه بيع ومعاملة واستبدال للذي هو خير بالذي هو أدنى فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ويخرج من العين واليد ما أخرجه من القلب ويوظف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات وإلا كان كمن سلم المبيع ولم يأخذ الثمن فإذا وفى بشرط الجانبين في الآخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع به فإن الذي بايعه بهذا البيع وفي بالعهد فمن سلم حاضراً في غائب وسلم الحاضر وأخذ يسعى في طلب الغائب سلم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد وما دام ممسكاً للدنيا لا يصح زهده أصلاً ولذلك لم يصف الله تعالى أخوة يوسف بالزهد في بنيامين وإن كانوا قد قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا وعزموا على إبعاده كما عزموا على يوسف حتى تشفع فيه أحدهم فترك ولا وصفهم أيضاً بالزهد في يوسف عند العزم على إخراجه بل عند التسليم والبيع فعلامة الرغبة والإمساك وعلامة الزهد والإخراج فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط ولست زاهداً مطلقاً وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصور منك الزهد لأن ما لا يقدر عليه لا يقوى على تركه وربما يستهويك الشيطان بغروره ويخيل إليك أن الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهدا فيها فلا ينبغي أن تتدلى بحبل غروره دون أن تستوثق وتستظهر بموثق غليظ من الله فإنك إذا لم تجرب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها فكم من ظان بنفسه كراهة المعاصي عند تعذرها فلما تيسرت له أسبابها من غير مكدر ولا خوف من الخلق وقع فيها وإذا كان هذا غرور النفس في المحظورات فإياك أن تثق بوعدها في المباحات والموثق الغليظ الذي تأخذه عليها أن تجربها مرة بعد مرة في حال القدرة فإذا وفت بما وعدت على الدوام مع انتقاء الصوارف والأعذار ظاهراً وباطناً فلا بأس أن تثق بها وثوقاً ما ولكن تكون من تغيرها أيضاً على حذر فإنها سريعة النقض للعهد قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما ترك فقط وذلك عند القدرة قال ابن أبي ليلى لابن شبرمة ألا ترى إلى ابن الحائك هذا
_________
(1) حديث قال رجل اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال له لا تقل هكذا ولكن قل أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك ذكره صاحب الفردوس مختصرا اللهم أرني الدنيا كما تريها صالح عبادك من حديث أبي القصير ولم يخرجه ولده(4/218)
لا نفتي في مسألة إلا رد علينا يعني أبا حنيفة فقال ابن شبرمة لا أدري أهو ابن الحائك أم ما هو لكن اعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منا فطلبناها وكذلك قال جميع المسلمين عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم (1)
قال ابن مسعود رحمه الله قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت منهم يعني من القليل قال وما عرفت أن فينا من يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والفتوة وعلى سبيل استمالة القلوب وعلى سبيل الطمع فذلك كله من محاسن العادات ولكن لا مدخل لشيء منه في العبادات وإنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة فأما كل نوع من الترك فإنه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة فذلك قد يكون مروءة وفتوة وسخاء وحسن خلق ولكن لا يكون زهداً إذ حسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العاجلة وهي ألذ وأهنأ من المال وكما أن ترك المال على سبيل السلم طمعاً في العوض ليس من الزهد فكذلك تركه طمعاً في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء واستثقالاً له لما في حفظ المال من المشقة والعناء
والحاجة إلى التذلل للسلاطين والأغنياء ليس من الزهد أصلاً بل هو استعجال حظ آخر للنفس بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفاً من أن يأنس بها فيكون آنساً بغير الله ومحباً لما سوى الله ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره
أو تركها طمعاً في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في أشربة الجنة وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعاً في الحور العين وترك التفرج في البساتين طمعاً في بساتين الجنة وأشجارها وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعاً في زينة الجنة وترك المطاعم اللذيذة طمعاً في فواكه الجنة وخوفاً من أن يقال له أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا فآثر في جميع ذلك ما وعد به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفوا وصفوا لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلاً
بيان فضيلة الزهد
قال الله تعالى فخرج على قومه في زينته إلى قوله
تعالى وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن فنسب الزهد إلى العلماء ووصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صبروا وجاء في التفسير على الزهد في الدنيا وقال عز وجل إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لنبلوهم أيهم أحسن عملاً قيل معناه أيهم أزهد فيها فوصف الزهد بأنه من أحسن الأعمال وَقَالَ تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة من نصيب وقال تَعَالَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فيه ورزق ربك خير وأبقى وقال تعالى الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فوصف الكفار بذلك فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا
_________
(1) حديث قال المسلمون إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم الآية لم أقف له على أصل(4/219)
وأما الأخبار فما ورد منها في ذم الدنيا كثير وقد أوردنا بعضها في كتاب ذم الدنيا مع ربع المهلكات إذ حب الدنيا من المهلكات ونحن الآن نقتصر على فضيلة بغض الدنيا فإنه من المنجيات وهو المعني بالزهد وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة (1) وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم العبد وقد أعطي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة (2) وقال تعالى {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} ولذلك قيل من زهد في الدنيا أربعين يوماً أجرى الله ينابيع الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وعن بعض الصحابة أنه قال قلنا يا رسول الله أي الناس خير قال كل مؤمن محموم القلب صدوق اللسان قلنا يا رسول الله وما محموم القلب قال التقي النقي الذي لا غل فيه ولا غش ولا بغي ولا حسد قلنا يا رسول الله فمن على أثره قال الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة (3) ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا
وقال صلى الله عليه وسلم إن أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا (4) فجعل الزهد سبباً للمحبة فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات ومفهومه أيضاً أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى وفي خبر من طريق أهل البيت الزهد والورع يجولان في القلوب كل ليلة فإن صادفا قلباً فيه الإيمان والحياء أقاما فيه وإلا ارتحلا (5) ولما قال حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مؤمن حقاً قال وما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها وكأني بالجنة والنار وكأني بعرش ربي بارزاً فقال صلى الله عليه وسلم اعرفت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان (6) فانظر كيف بدأ في إظهار حقيقة الإيمان بعزوف النفس عن الدنيا وقرنه باليقين وكيف زكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال عبد نور الله قلبه بالإيمان
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الشرح في قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وقيل له ما هذا الشرح قال إن النور إذا دخل في القلب انشرح له الصدر وانفسح قيل يا رسول الله وهل لذلك من علامة قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله (7) وقد تقدم فانظر كيف جعل الزهد شرطاً للإسلام وهو التجافي عن دار الغرور وقال صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء قالوا إنا لنستحي منه تعالى فقال ليس كذلك تبنون مالا تسكنون وتجمعون مالا تأكلون (8) فبين أن ذلك يناقض الحياء من الله تعالى ولما قدم عليه بعض الوفود قالوا إنا مؤمنون قال وما علامة إيمانكم فذكروا
_________
(1) حديث من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره الحديث أخرجه ابن ماجة من حديث زيد بن ثابت بسند جيد والترمذي من حديث أنس بسند ضعيف نحوه
(2) حديث إذا رأيتم العبد قد أوتي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة رواه ابن ماجة من حديث أبي خلاد بسند فيه ضعف
(3) حديث قلنا يا رسول الله وما محموم القلب قال التقي النقي الحديث رواه ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو دون قوله يارسمول الله فمن على أثره وقد تقدم ورواه بهذه الزيادة بإسناد المذكور الخرائط في مكارم الأخلاق
(4) حديث إن أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا رواه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد بسند ضعيف نحوه وقد تقدم
(5) حديث الزهد والورع يجولان في القلب كل ليلة فإن صادفا قلباً فيه الإيمان والحياء أقاما فيه وإلا ارتحلا لم أجد له أصلا
(6) حديث لما قال له حارثة أنا مؤمن حقا فقال وما حقيقة إيمانك الحديث أخرجه البزار من حديث أنس والطبراني من حديث الحارث بن مالك وكلا الحديثين ضعيف
(7) حديث سئل عن قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه الحديث أخرجه الحاكم
(8) حديث استحيوا من الله حق الحياء الحديث رواه الطبراني من حديث أمم الوليد بنت عمر بن الخطاب بإسناد ضعيف(4/220)
الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمواقع القضاء وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء فقال صلى الله عليه وسلم إن كنتم كذلك فلا تجمعوا مالا تأكلون ولا تبنوا مالا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون (1) حديث جابر من جاء بلا إله إلا الله لا يخلط معها شيئا وجبت له الجنة لم أره من حديث جابر وقد رواه الترمذي الحكيم في النوادر من حديث زيد بن أرقم بإسناد ضعيف (2) حديث السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن الحديث ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي الدرداء ولم يخرجه ولده في مسنده (3) حديث السخي قريب من الله الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقد تقدم وَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّخَاءُ ثَمَرَةُ الزُّهْدِ
وَالثَّنَاءُ عَلَى الثَّمَرَةِ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُثْمِرِ لا محالة
وروي عن ابن المسيب عن أبي ذر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال من زهد في الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه فأنطق بها لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام (4) وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي الحوامل وكانت من أحب أموالهم إليهم وأنفسها عندهم لأنها تجمع الظهر واللحم واللبن والوبر ولعظمها في قلوبهم قال الله تعالى {وإذا العشار عطلت} قال فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغض بصره فقيل له يا رسول الله هذه أنفس أموالنا لم لا تنظر إليها فقال قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا قوله تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا به} الآية (5) وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ألا تستطعم لله فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع فقال يا عائشة والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهباً لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض لأولي العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصير عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل والله مالي بد من طاعته وإني والله لأصبرن كما صبروا بجهدي ولا قوة إلا بالله (6) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة رضي الله عنها
_________
(1) حديث لما قدم عليه بعض الوفود قالواإنا مؤمنون قال وما علامة إيمانكم الحديث رواه الخطيب وابن عساكر في تاريخهما بإسناد ضعيف من حديث جابر فجعل الزهد تكملة لإيمانهم
وقال جابر رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من جاء بلا إله إلا الله لا يخلط بها غيرها وجبت له الجنة فقام إليه علي كرم الله وجهه فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله مالا يخلط بها غيرها صفه لنا فسره لنا فقال حب الدنيا طلباً لها وإتباعاً لها وقوم يقولون قول الأنبياء ويعملون عمل الجبابرة فمن جاء بلا إله إلا الله ليس فيها شيء من هذا وجبت له الجنة
(2) وفي الخبر السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك
(3) وقال أيضاً السخي قريب من الله قريب من الناس قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بعيد من الناس قريب من النار
(4) حديث أبي ذر من زهد الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه الحديث لم أره من حديث أبي ذر ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا من حديث صفوان بن سليم مرسلا ولابن عدي في الكامل من حديث أبي موسى الأشعري من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وقال حديث منكر وقال الذهبي باطل ورواه أبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية مختصرا من حديث أبي أيوب من أخلص لله وكلها ضعيفة
(5) حديث مر في أصحابه بعشار من النوق حفل الحديث وفيه ثم تلا قوله تعالى {ولا تمدن عينيك} الآية لم أجد له أصلا
(6) حديث مسروق عن عائشة قلت يا رسول الله ألا تستطعم ربك فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع الحديث وفيه يا عائشة إن الله لم يرض لأولي العزم من الرسل إلا الصبر الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي من رواية عباد بن عباد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق مختصرا يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا الصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال تعالى فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ومجالد مختلف في الاحتجاج به(4/221)
البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر فقال عمر يا حفصة ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته فقالت بلى قال ناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة وناشدتك الله هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر وهو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قربتم إليه يوماً طعاماً على مائدة فيها ارتفاع فشق ذلك عليه حتى تغير لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال منعتموني قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها باثنتين كما كنتم تثنونها وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوباً يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بني ظفر كساءين إزاراً ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره وقد عقد طرفيه إلى عنقه فصلى كذلك فما زال يقول حتى أبكاها وبكى عمر رضي الله عنه وانتحب حتى ظننا أن نفسه ستخرج (1)
وفي بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنه قال كان لي صاحبان سلكا طريقاً فإن سلكت غير طريقهما سلك بي طريق غير طريقهما وإني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما عيشهما الرغيد
وعن أبي سعيد الخدري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم (2)
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين كانت خضرة البقل ترى في بطنه من الهزال فهذا ما كان قد اختاره أنبياء الله ورسله وهم أعرف خلق الله بالله وبطريق الفوز في الآخرة
وَفِي حَدِيثِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضة ولا ينفقونها
_________
(1) حديث أن عمر لما فتحت عليه الفتوحات قالت له حفصة إلبس لين الثياب إذا قدمت عليك الوفود الحديث بطوله وفيه ناشدتك الله هل تعلمين كذا يذكرها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبكاها وبكى إلخ
لم أجده هكذا مجموعا في حديث وهو مفرق في عدة أحاديث فروى البزار من حديث عمران بن حصين قال ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله غداء وعشاء من خبز حتى لقي ربه وفيه عمرو بن عبد الله القدري متروك الحديث والترمذي من حديث عائشة قالت ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت قلت لم قالت أذكر الحال التي فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا عليها والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم
وقال حديث حسن وللشيخين من حديثها ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعا حتى قبض
وللبخاري من حديث أنس كان لا يأكل على خوان الحديث وتقدم في آداب الأكل وللترمذي في الشمائل من حديث حفصة أنها لما سئلت ما كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم مسح نثنيه ثنتين فينام عليه الحديث
ولابن سعد في الطبقات من حديث عائشة أنها كانت تفرش للنبي صلى الله عليه وسلم عباءة باثنتين الحديث وتقدما في آداب المعيشة وللبزار من حديث أبي الدرداء قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينخل له الدقيق ولم لم يكن له إلا قميص واحد وقال لا نعلم يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد قال يونس بن بكير قد حدث عن سعيد بن ميسرة البكرى بأحاديث لم يتابع عليها واحتملت على ما فيها قلت فيه سعيد بن ميسرة فقد كذبه يحيى القطان وضعفه البخاري وابن حبان وابن عدي وغيرهم ولابن ماجة من حديث عبادة بن الصامت صلى في شملة قد عقد عليها الغطريفى في جزئه المشهور فعقدها في عنقه ما عليه غيرها وإسناده ضعيف وتقدم في آداب الميشة
(2) حديث أبي سعيد الخدري كان الأنبياء يبتلى أحدهم بالفقر فلا يجد إلا العباء الحديث بإسناد صحيح في أثناء حديث أوله دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك دون قوله وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل(4/222)
في سبيل الله قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبًّا لِلدُّنْيَا تَبًّا لِلدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ كَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأَيُّ شَيْءٍ نَدَّخِرُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً أو زوجة صالحة تعينه على أمر آخرته (1)
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث هماً لا يفارق قلبه أبداً وفقراً لا يستغنى أبداً وحرصاً لا يشبع أبداً (2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته (3) حديث ابن عباس خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وجبريل معه فصعد على الصفا الحديث في نزول إسرافيل وقوله إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتا وذهبا وفضة الحديث تقدم مختصرا (4) حديث إذا أراد الله بعبد خيراً زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة وبصره بعيوب نفسه رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس دون قوله ورغبه في الآخرة وزاد فقهه في الدين وإسناده ضعيف //
_________
(1) حديث عمر لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضة الآية قال تبا للدينار والدرهم الحديث وفيه فأي شيء ندخر أخرجه الترمذي وابن ماجه وتقدم في النكاح دون قوله تبا للدينار والدرهم والزيادة رواها الطبراني في الأوسط وهو من حديث ثوبان وإنما قال المصنف إنه حديث عمر لأن عمر هو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي المال يتخذ كما في رواية ابن ماجه وكما رواه البزار من حديث ابن عباس
(2) حديث حذيفة من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث الحديث لم أجده من حديث حذيفة أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند حسن من أشر في قلبه حب الدنيا التاط منها بثلاث شقاء لا ينفد عناء وحرص لا بلغ عناه وأمل لايبلغ منها وفي آخر زيادة
(3) حديث لا يستكمل عبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف وحتى يكون قلته أحب إليه من كثرته لم أجد له إسنادا وذكره صاحب الفردوس من رواية على بن أبي طلحة مرسلا لا يستكمل عبد الإيمان حتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن يعرف في ذات الله أحب إليه من أن يعرف في غير ذات الله ولم يخرجه ولده في مسند الفردوس وعلي بن أبي طلحة أخرج له مسلم
وروى عن ابن عباس لكن روايته عنه مرسلة فالحديث إذن مفصل
وقال المسيح صلى الله عليه وسلم الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وقيل له يا نبي الله لو أمرتنا أن نبني بيتا نعبد الله فيه قال اذهبوا فابنوا بيتا على الماء فقالوا كيف يستقيم بنيان على الماء قال وكيف تستقيم عبادة مع حب الدنيا
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم إن ربي عز وجل عرض على أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثنيعليك
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمشي وجبريل معه فصعد على الصفا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل والذي بعثك الحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق فلم يكن أسرع من أن سمع هدة من السماء أفظعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله القيامة أن تقوم قال لا ولكن هذا إسرافيل عليه السلام قد نزل إليك حين سمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال إن الله عز وجل سمع ما ذكرت فبعثني بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فعلت وإن شئت نبيا ملكا وإن شئت نبيا عبدا
فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله فقال نبيا عبدا ثلاثا
(4) وقال صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة وبصره بعيوب نفسه(4/223)
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا في أيدي الناس يحبك الناس (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَرَادَ أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا (2) وقال صلى الله عليه وسلم من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن خاف من النار لها عن الشهوات ومن ترقب الموت ترك اللذات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات (3)
ويروى عن نبينا وعن المسيح عليهما السلام أربع لا يدركن إلا بتعب الصمت وهو أول العبادة والتواضع وكثرة الذكر وقلة الشيء (4) وإيراد جميع الأخبار الواردة في مدح بغض الدنيا وذم حبها لا يمكن فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لصرف الناس عن الدنيا إلى الآخرة وإليه يرجع أكثر كلامهم مع الخلق وفيما أوردناه كفاية والله المستعان
وأما الآثار فقد جاء في الأثر لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن العباد سخط الله عز وجل ما لم يسألوا ما نقص من دنياهم
وفي لفظ آخر ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا لا إله إلا الله قال الله تعالى كذبتم لستم بها صادقين
وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال تابعنا الأعمال كلها فلم نر في أمر الآخرة أبلغ من زهد في الدنيا
وقال بعض الصحابة لصدر من التابعين أنتم أكثر أعمالاً واجتهاداً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكانوا خيراً منكم قيل ولم ذلك قال كانوا أزهد في الدنيا منكم
وقال عمر رضي الله عنه الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد
وقال بلال بن سعد كفى به ذنباً أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها
وقال رجل لسفيان أشتهي أن أرى عالماً زاهداً فقال ويحك تلك ضالة لا توجد
وقال وهب بن منبه إن للجنة ثمانية أبواب فإذا صار أهل الجنة إليها جعل البوابون يقولون وعزة ربنا لا يدخلها أحد قبل الزاهدين في الدنيا العاشقين للجنة
وقال يوسف بن أسباط رحمه الله إني لأشتهي من الله ثلاث خصال أن أموت حين أموت وليس في ملكي درهم ولا يكون علي دين ولا علي عظمي لحم فأعطى ذلك كله
وروي أن بعض الخلفاء أرسل إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها وأرسل إلى الفضيل بعشرة آلاف فلم يقبلها فقال له بنوه قد قبل الفقهاء وأنت ترد على حالتك هذه فبكى الفضيل وقال أتدرون ما مثلي ومثلكم كمثل قوم كانت لهم بقرة يحرثون عليها فلما هرمت ذبحوها لأجل أن ينتفعوا بجلدها كذلك أنتم أردتم ذبحي على كبر سني موتوا يا أهلي جوعاً خير لكم من أن تذبحوا فضيلاً
وقال عبيد بن عميرة كان المسيح ابن مريم عليه السلام يلبس الشعر ويأكل الشجر وليس له ولد يموت ولا بيت يخرب ولا يدخر لغد أينما أدركه المساء نام
وقالت امرأة أبي حازم لأبي هذا الشتاء قد هجم علينا ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب
_________
(1) حديث ازهد في الدنيا يحبك الله الحديث تقدم
(2) حديث من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا لم أجد له أصلا
(3) حديث من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات الحديث رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث علي بن أبي طالب
(4) حديث أربع لا يدركن إلا بتعب الصمت وهو أول العبادة الحديث رواه الطبراني والحاكم من حديث أنس وقد تقدم(4/224)
فقال لها أبو حازم من هذا كله بد ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار
وقيل للحسن لم لا تغسل ثيابك قال الأمر أعجل من ذلك
وقال إبراهيم ابن أدهم قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل
وقال ابن مسعود رضي الله عنه ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً
وقال بعض السلف نعمة الله علينا فيما صرف عنا أكثر من نعمته فيما صرف إلينا وكأنه التفت إلى معنى قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه (1) فإذا فهم هذا علم أن النعمة في المنع المؤدي إلى الصحة أكبر منها في الإعطاء المؤدي إلى السقم
وكان الثوري يقول الدنيا دار التواء لا دار استواء ودار ترح لا دار فرح من عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن على شقاء
وقال سهل لا يخلص العمل لمتعبد حتى يفرغ من أربعة أشياء الجوع والعري والفقر والذل
وقال الحسن البصري أدركت أقواماً وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يأسفون على شيء منها أدبر ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطوله ثوب ولم ينصب له قدر ولم يجعل بينه وبين الأرض شيئاً ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا في شكرها وسألوا الله أن يقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها لهم فلم يزالوا على ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة رحمة الله عليهم ورضوانه
بيان درجات الزهد وأقسامه بالإضافة إلى نفسه وإلى المرغوب عنه وإلى
المرغوب فيه
اعلم أن الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث الدرجة الأولى وهي السفلى منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها وهذا يسمى المتزهد وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كيسه والزاهد أولاً يذيب كيسه ثم يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه والمتزهد على خطر فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليل أو كثير
الدرجة الثانية الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهماً لأجل درهمين فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه وهذا أيضاً نقصان الدرجة الثالثة وهي العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده إذ لا يرى أنه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء
_________
(1) حديث إن الله يحيي عبده المؤمن من الدنيا الحديث تقدم(4/225)
فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى ونعيم الآخرة أخس من خزفة بالإضافة إلى جوهرة فهذا هو الكمال في الزهد
وسببه كمال المعرفة ومثل هذا الزاهد آمن من خطر الالتفات إلى الدنيا كما أن تارك الخزفة بالجوهرة أمن من طلب الإقالة في البيع
قال أبو يزيد رحمه الله تعالى لأبي موسى عبد الرحيم في أي شيء تتكلم قال في الزهد قال في أي شيء قال في الدنيا فنفض يده وقال ظننت أنه يتكلم في شيء والدنيا لا شيء إيش يزهد فيها
ومثل من ترك الدنيا للآخرة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب المعمورة بالمشاهدات والمكاشفات مثل من منعه من باب الملك كلب على بابه فألقى إليه لقمة من خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته أفترى أنه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى كلبه في مقابلة ما قد ناله فالشيطان كلب على باب الله تعالى يمنع الناس من الدخول مع أن الباب مفتوح والحجاب مرفوع والدنيا كلقمة خبز إن أكلت فلذتها في حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع ثم يبقى ثقلها في المعدة ثم تنتهي إلى النتن والقذر ثم يحتاج بعد ذلك إلى إخراج ذلك الثقل فمن تركها لينال عز الملك كيف يلتفت إليها ونسبة الدنيا كلها أعني ما يسلم لكل شخص منها وإن عمر مائة سنة بالإضافة إلى نعيم الآخرة أقل من لقمة بالإضافة إلى ملك الدنيا إذ لا نسبة للمتناهي إلى مالا نهاية له والدنيا متناهية على القرب ولو كانت تتمادى ألف ألف سنة صافية عن كل كدر لكان لا نسبة لها إلى نعيم الأبد فكيف ومدة العمر قصيرة ولذات الدنيا مكدرة غير صافية فأي نسبة لها إلى نعيم الأبد فإذن لا يلتفت الزاهد إلى زهده إلا إذا التفت إلى ما زهد فيه ولا يلتفت إلى ما زهد فيه إلا لأنه يراه شيئاً معتداً به ولا يراه شيئاً معتداً به إلا لقصور معرفته فسبب نقصان الزهد نقصان المعرفة فهذا تفاوت درجات الزهد وكل درجة من هذه أيضاً لها درجات إذ تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضاً باختلاف قدر المشقة في الصبر وكذلك درجة المعجب بزهده بقدر التفاته إلى زهده
وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه فهو أيضاً على ثلاث درجات الدرجة السفلى أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدي العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار إذ فيها إن الرجل ليوقف في الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشاً على عرقه لصدرت رواء (1) فهذا هو زهد الخائفين وكأنهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإن الخلاص من الألم يحصل بمجرد العدم
الدرجة الثانية أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة في جنته من الحور والقصور وغيرها وهذا زهد الراجين فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له الدرجة الثالثة وهي العليا أن لا يكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها بل هو مستغرق الهم بالله تعالى وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى لأن من طلب غير الله فقد عبده وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه وطلب غير الله من الشرك الخفي وهذا زهد
_________
(1) حديث إن الرجل ليوقف في الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشاً على عرفه لصدرت رواء أخرجه أحمد من حديث ابن عباس التقى مؤمنان على باب الجنة مؤمن غني ومؤمن فقير الحديث وفيه أني حبست بعدك محبسا فظيعا كريها ما وصلت إليك حتى سال مني العرق ما لو ورده ألف بعير أكلة حمض لصدرت عنه رواء وفيه دريد غير منسوب يحتاج إلى معرفتهقال أحمد حديثه مثله(4/226)
المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق
وأما انقسامه بالإضافة إلى المرغوب عنه فقد كثرت فيه الأقاويل ولعل المذكور فيه يزيد على مائة قول فلا نشتغل بنقل الأقاويل ولكن نشير إلى كلام محيط بالتفاصيل حتى يتضح أن أكثر ما ذكر فيه قاصر عن الإحاطة بالكل فنقول المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمل للجمل
أما الإجمال في الدرجة الأولى فهو كل ما سوى الله فينبغي أن يزهد فيه حتى يزهد في نفسه أيضاً والإجمال في الدرجة الثانية أن يزهد فى كل صفة للنفس فيها متعة وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغيرها
وفي الدرجة الثالثة أن يزهد في المال والجاه وأسبابهما إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس
وفي الدرجة الرابعة أن يزهد في العلم والقدرة والدينار والدرهم والجاه إذا الأموال وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة وأعني به كل علم وقدرة مقصودها ملك القلوب إذ معنى الجاه هو ملك القلوب والقدرة عليها كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فيكاد يخرج ما فيه الزهد عَنِ الْحَصْرِ
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آية واحدة سبعة منها فقال زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ثُمَّ رَدَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِلَى خَمْسَةٍ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد ثم رده تعالى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى اثْنَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى وإنما الحياة الدنيا لعب ولهو ثُمَّ رَدَّ الْكُلَّ إِلَى وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الجنة هي المأوى فَالْهَوَى لَفْظٌ يَجْمَعُ جَمِيعَ حُظُوظِ النَّفْسِ فِي الدنيا فينبغي أن يكون الزهد فيه
وإذا فهمت طريق الإجمال والتفصيل عرفت أن البعض من هذه لا يخالف البعض وإنما يفارقه في الشرح مرة والإجمال أخرى
فالحاصل أَنَّ الزُّهْدَ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّغْبَةِ عَنْ حُظُوظِ النفس كلها ومهما رغب عن حظوظ النفس رغب عن البقاء في الدنيا فقصر أمله لا محالة لأنه إنما يريد البقاء ليتمتع ويريد التمتع الدائم بإرادة البقاء فإن من أراد شيئاً أراد دوامه ولا معنى لحب الحياة إلا حب دوام ما هو موجود أو ممكن في هذه الحياة فإذا رغب عنها لم يردها ولذلك لما كتب عليهم القتال قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجلٍ قريب فقال تعالى قل متاع الدنيا قليل أي لستم تريدون البقاء إلا لمتاع الدنيا فظهر عند ذلك الزاهدون وانكشف حال المنافقين
أما الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص وانتظروا إحدى الحسنيين وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة ويبادرون إليه مبادرة الظمآن إلى الماء البارد حرصاً على نصرة دين الله(4/227)
أو نيل رتبة الشهادة وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة حتى إن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما احتضر للموت على فراشه كان يقول كم غررت بروحي وهجمت على الصفوف طمعاً في الشهادة وأنا الآن أموات موت العجائز فلما مات عد على جسده ثمانمائة ثقب من آثار الجراحات هكذا كان حال الصادقين في الإيمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين
وأما المنافقون ففروا من الزحف خوفاً من الموت فقيل لهم إن الموت الذين تفرون منه فإنه ملاقيكم فإيثارهم البقاء على الشهادة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير فأولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
وأما المخلصون فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فلما رأوا أنهم تركوا تمتع عشرين سنة مثلاً أو ثلاثين سنة بتمتع الأبد استبشروا ببيعهم الذي بايعوا به فهذا بيان المزهود فيه
وإذا فهمت هذا علمت أن ما ذكره المتكلمون في حد الزهد لم يشيروا به إلا إلى بعض أقسامه فذكر كل واحد منهم ما رآه غالباً على نفسه أو على من كان يخاطبه فقال بشر رحمه الله تعالى الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس وهذا إشارة إلى الزهد في الجاه خاصة
وقال قاسم الجوعي الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف فبقدر ما تملك من بطنك كذلك تملك من الزهد وهذا إشارة إلى الزهد في شهوة واحدة ولعمري هي أغلب الشهوات على الأكثر وهي المهيجة لأكثر الشهوات وقال الفضيل الزهد في الدنيا هو القناعة وهذا إشارة إلى المال خاصة وقال الثوري الزهد هو قصر الأمل وهو جامع لجميع الشهوات فإن من يميل إلى الشهوات يحدث نفسه بالبقاء فيطول أمله ومن قصر أمله فكأنه رغب عن الشهوات كلها وقال أويس إذا خرج الزاهد يطلب ذهب الزهد عنه وما قصد بهذا حد الزهد ولكن جعل التوكل شرطاً في الزهد
وقال أويس أيضاً الزهد هو ترك الطلب للمضمون وهو إشارة إلى الرزق وقال أهل الحديث حب الدنيا هو العمل بالرأي والمعقول والزهد إنما هو أتباع العلم ولزوم السنة وهذا إن أريد به الرأي الفاسد والمعقول الذي يطلب به الجاه في الدنيا فهو صحيح ولكنه إشارة إلى بعض أسباب الجاه خاصة أو إلى بعض ما هو من فضول الشهوات فإن من العلوم ما لا فائدة فيه في الآخرة وقد طولوها حتى ينقضي عمر الإنسان في الاشتغال بواحد منها فشرط الزاهد أن يكون الفضول أول مرغوب عنه عنده وقال الحسن الزاهد الذى إذا رأى أحداً قال هذا أفضل مني فذهب إلى أن الزهد هو التواضع وهذا إشارة إلى نفي الجاه والعجب وهو بعض أقسام الزهد وقال بعضهم الزهد هو طلب الحلال وأين هذا ممن يقول الزهد هو ترك الطلب كما قال أويس ولا شك في أنه أراد به ترك طلب الحلال وقد كان يوسف بن أسباط يقول من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من الحلال فقد أخذ بأصل الزهد
وفي الزهد أقاويل وراء ما نقلناه فلم نر في نقلها فائدة فإن من طلب كشف حقائق الأمور من أقاويل الناس رآها مختلفة فلا يستفيد إلا الحيرة وأما من انكشف له الحق في نفسه وأدركه بمشاهدة من قلبه لا بتلقف من سمعه فقد وثق بالحق واطلع على قصور من قصر لقصور بصيرته وعلى اقتصار من اقتصر من اقتصر مع كمال المعرفة لاقتصار حاجته وهؤلاء كلهم اقتصروا لا لقصور في البصيرة لكنهم ذكروا ما ذكروه عند الحاجة فلا جرم ذكروه بقدر الحاجة والحاجات تختلف فلا جرم الكلمات تختلف وقد يكون سبب الاقتصار الإخبار عن الحالة الراهنة التي هي مقام العبد في نفسه والأحوال تختلف فلا جرم الأقوال المخبرة عنها تختلف وأما الحق في نفسه(4/228)
فلا يكون إلا واحداً ولا يتصور أن يختلف وإنما الجامع من هذه الأقاويل الكامل في نفسه وإن لم يكن فيه تفصيل ما قاله أبو سليمان الداراني إذ قال سمعنا في الزهد كلاماً كثيراً والزهد عندنا ترك كل شيء يشغلك عن الله عز وجل وقد فصل مرة وقال من تزوج أو سافر في طلب المعيشة أو كتب الحديث فقد ركن إلى الدنيا فجعل جميع ذلك ضداً للزهد وقد قرأ أبو سفيان قوله تَعَالَى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بقلبٍ سَلِيمٍ فقال هو القلب الذي ليس فيه غير الله تعالى وقال إنما زهدوا في الدنيا لتفرغ قلوبهم من همومها للآخرة فهذا بيان انقسام الزهد بالإضافة إلى أصناف المزهود فيه فأما بالإضافة إلى أحكامه فينقسم إلى فرض ونفل وسلامة كما قاله إبراهيم بن أدهم فالفرض هو الزهد في الحرام
والنفل هو الزهد في الحلال
والسلامة هو الزهد في الشبهات
وقد ذكرنا تفاصيل درجات الورع في كتاب الحلال والحرام وذلك من الزهد إذ قيل لمالك بن أنس ما الزهد قال التقوى وأما بالإضافة إلى خفايا ما يتركه فلا نهاية للزهد فيه إذ لا نهاية لما تتمتع به النفس في الخطرات واللحظات وسائر الحالات لا سيما خفايا الرياء فإن ذلك لا يطلع عليه إلا سماسرة العلماء بل الأحوال الظاهرة أيضاً درجات الزهد فيها لا تتناهى فممن أقصى درجاته زهد عيسى عليه السلام إذ توسد حجراً في نومه فقال له الشيطان أما كنت تركت الدنيا فما الذي بدا لك قال وما الذي تجدد قال توسدك الحجر أي تنعمت برفع رأسك عن الأرض في النوم فرمى الحجر وقال خذه مع ما تركته لك
وروي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى ثقب جلده تركاً للتنعم بلين اللباس واستراحة حس اللمس فسألته أمه أن يلبس مكان المسح جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه يا يحيى آثرت على الدنيا فبكى ونزع الصوف وعاد إلى ما كان عليه
وقال أحمد رحمه الله تعالى الزهد زهد أويس بلغ من العري أن جلس في قوصرة
وجلس عيسى عليه السلام في ظل حائط إنسان فأقامه صاحب الحائط فقال ما أقمتني أنت إنما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعم بظل الحائط فإذن درجات الزهدد ظاهراً وباطناً لا حصر لها وأقل درجاته الزهد في كل شبهة ومحظور
وقال قوم الزهد هو الزهد الحلال لافى الشبهة والمحظور فليس ذلك من درجاته في شيء ثم رأوا أنه لم يبق حلال في أموال الدنيا فلا يتصور الزهد الآن
فإن قلت مهما كان الصحيح هو أن الزهد ترك ما سوى الله فكيف يتصور ذلك مع الأكل والشرب واللبس ومخالطة الناس ومكالمتهم وكل ذلك اشتغال بما سوى الله تعالى فاعلم أن معنى الانصراف عن الدنيا إلى الله تعالى هو الإقبال بكل القلب عليه ذكراً وفكراً ولا يتصور ذلك إلا مع البقاء ولا بقاء إلا بضروريات النفس فمهما اقتصرت من الدنيا على دفع المهلكات عن البدن وكان غرضك الاستعانة بالبدن على العبادة لم تكن مشتغلاً بغير الله فإن ما لا يتوصل إلى الشيء إلا به فهو منه فالمشتغل بعلف الناقة وبسقيها في طريق الحج ليس معرضاً عن الحج ولكن ينبغي أن يكون بدنك في طريق الله مثل ناقتك في طريق الحج ولا غرض لك في تنعم ناقتك باللذات بل غرضك مقصور على دفع المهلكات عنها حتى تسير بك إلى مقصدك فكذلك ينبغي أن تكون في صيانة بدنك عن الجوع والعطش المهلك بالأكل والشرب وعن الحر والبرد المهلك باللباس والمسكن فتقصر على قدر الضرورة ولا تقصد التلذذ بل التقوى على طاعة الله تعالى فذلك لا يناقض الزهد بل هو شرط الزهد وإن قلت فلا بد وأن أتلذذ بالأكل عند الجوع فاعلم أن ذلك لا يضرك إذا لم يكن قصدك التلذذ فإن شارب الماء البارد قد يستلذ الشرب ويرجع حاصله إلى زوال ألم العطش ومن يقضي حاجته قد يستريح بذلك(4/229)
ولكن لا يكون ذلك مقصوداً عنده ومطلوباً بالقصد فلا يكون القلب منصرفاً إليه فالإنسان قد يستريح في قيام الليل بتنسم الأسحار وصوت الأطيار ولكن إذا لم يقصد طلب موضع لهذه الاستراحة فما يصيبه من ذلك بغير قصد لا يضره ولقد كان في الخائفين من طلب موضعاً لا يصيبه فيه نسيم الأسحار خيفة من الاستراحة به وأنس القلب معه فيكون فيه أنس بالدنيا ونقصان في الأنس بالله بقدر وقوع الأنس بغير الله ولذلك كان داود الطائي له جب مكشوف فيه ماؤه فكان لا يرفعه من الشمس ويشرب الماء الحار ويقول من وجد لذة الماء البارد شق عليه مفارقة الدنيا فهذه مخاوف المحتاطين والحزم في جميع ذلك الاحتياط فإنه وإن كان شاقاً فمدته قريبة والاحتماء مدة يسيرة للتنعم على التأبيد لا يثقل على أهل المعرفة القاهرين لأنفسهم بسياسة الشرع المعتصمين بعروة اليقين في معرفة المضادة التي بين الدنيا والدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين
بيان تفضيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة
اعلم أن ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهم فالفضول كالخيل المسومة مثلاً إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفه بركوبها وهو قادر على المشي والمهم كالأكل والشرب ولسنا نقدر على تفصيل أصناف الفضول فإن ذلك لا ينحصر وإنما ينحصر المهم الضروري والمهم أيضا يتطرق إليه فضول في مقداره وجنسه وأوقاته فلا بد من بيان وجه الزهد فيه والمهمات ستة أمور المطعم والملبس والمسكن وأثاثه والمنكح والمال والجاه يطلب لأغراض
وهذه الستة من جملتها وقد ذكرنا معنى الجاه وسبب حب الخلق وكيفية الاحتراز منه في كتاب الرياء من ربع المهلكات ونحن الآن نقتصر على بيان هذه المهمات الستة
الأول المطعم ولا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض فلا بد من قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك طعام يومه فلا يقنع به وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله أما طوله فلا يقصر إلا بقصر الأمل وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة الجوع وخوف المرض ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه وهذه هي الدرجة العليا الدرجة الثانية أن يدخر لشهر أو أربعين يوماً الدرجة الثالثة أن يدخر لسنة فقط وهذه رتبة ضعفاء الزهاد ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهداً محال لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جداً فلا يتم منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدي الناس كداود الطائي فإنه ورث عشرين ديناراً فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار وأقل درجاته في اليوم والليلة نصف رطل وأوسطه رطل وأعلاه مد واحد وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في الكفارة وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن والاشتغال به ومن لم يقدر على الاقتصار على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما يقوت ولو الخبز من النخالة وأوسطه خبز الشعير والذرة وأعلاه خبز البر غير منخول فإذا ميز من النخالة وصار حواري فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلاً عن أوائله
وأما الأدم فأقله الملح أو البقل والخل وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أي دهن كان وأعلاه اللحم أي لحم كان وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين فإن صار دائماً أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهداً في البطن أصلاً وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائماً وأوسطه(4/230)
أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل ويأكل ليلة ولا يشرب وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيام أو أسبوعاً وما زاد عليه وقد ذكرنا طريق تقليل الطعام وكسر شرهه في ربع المهلكات ولينظر إلى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تأتي علينا أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار قيل لها فبم كنتم تعيشون قالت بالأسودين التمر والماء (1) وهذا ترك اللحم والمرقة والأدم
وقال الحسن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركب الحمار ويلبس الصوف وينتعل المخصوف ويلعق أصابعه ويأكل على الأرض
ويقول إنما أنا عبد آكل كما تأكل العبيد وأجلس كما تجلس العبيد (2)
وقال المسيح عليه السلام بحق أقول لكم إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم على المزابل مع الكلاب كثير
وقال الفضيل ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من خبز البر (3)
وكان المسيح صلى الله عليه وسلم يقول يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البري وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره
وقد ذكرنا سيرة الأنبياء والسلف في المطعم والمشرب في ربع المهلكات فلا نعيده
ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أهل قباء أتوه بشربة من لبن مشوبة بعسل فوضع القدح من يده وقال أما إني لست أحرمه ولكن أتركه تواضعاً لله تعالى (4)
وأتي عمر رضي الله عنه بشربة من ماء بارد وعسل في يوم صائف فقال اعزلوا عني حسابها
وقد قال يحيى ابن معاذ الرازي الزاهد الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث أدرك الدنيا سجنه والقبر مضجعه والخلوة مجلسه والاعتبار فكرته والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع إدامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى
المهم الثاني الملبس
وأقل درجته ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة وهو كساء يتغطى به وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حد الزهد
وشرط الزاهد أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود في البيت فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع ألوان الزهد من حيث المقدار
أما الجنس فأقله المسوح
_________
(1) حديث عائشة كانت تأتي أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة كان يأتي على آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته دخان الحديث
وفي رواية له ما يوقد فيه بنار
ولأحمد كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوته نار
وفي رواية له ثلاثة أهله
(2) حديث الحسن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركب الحمار الحديث تقدم دون قوله إنما أنا عبد فإنه ليس من حديث الحسن إنما هو من حديث عائشة وقد تقدم
(3) حديث ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من خبز البر تقدم
(4) حديث لما أتى أهل قباء أتوه بشربة من لبن بعسل فوضع القدح من يده الحديث تقدم(4/231)
الخشنة وأوسطه الصوف الخشن وأعلاه القطن الغليظ
وأما من حيث الوقت فأقصاه ما يستر سنة وأقله ما يبقى يوماً حتى رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر وإن كان يتسارع الجفاف إليه وأوسطه ما يتماسك عليه شهرا ومما يقاربه فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل وهو مضاد للزهد وإلا إذا كان المطلوب خشونته ثم قد يتبع ذلك قوته ودوامه فمن وجد زيادة من ذلك فينبغي أن يتصدق به فإن أمسكه لم يكن زاهداً بل كان محباً للدنيا ولينظر فيه إلى أحوال الأنبياء والصحابة كيف تركوا الملابس قال أبو بردة أخرجت لنا عائشة رضي الله تعالى عنها كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً فقالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تعالى يحب المتبذل الذي لا يبالى مما لبس (2) وقال عمرو بن الأسود العنسي لا ألبس مشهوراً أبداً ولا أنام بليل أبداً على دثار أبداً ولا أركب على مأثور أبداً ولا أملأ جوفي من طعام أبداً فقال عمر من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى عمرو بن الأسود (3)
وفي الخبر ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيباً (4) واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً بأربعة دراهم (5)
وكانت قيمة ثوبيه عشرة (6) وكان إزاره أربعة أذرع ونصفا (7) واشترى سراويل بثلاثة دراهم (8)
وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف (9) وكانت تسمى حلة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليين من هذه الغلاظ
وفي الخبر كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قميص زيات (10)
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً واحداً ثوباً سيراء من سندس قيمته مائتا درهم (11) فكان أصحابه يلمسونه ويقولون
_________
(1) حديث أخرجت عائشة كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً فقالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين رواه الشيخان وقد تقدم في آداب المعيشة
(2) حديث إن الله يحب المتبذل لا يبالي ما لبس لم أجد له أصلا
(3) حديث عمر من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدى عمرو بن الأسود رواه أحمد بإسناد جيد
(4) حديث ما من عبد لبس ثوب شهرة الحديث رواه ابن ماجه من حديث أبي ذر بإسناد جيد دون قوله وإن كان عنده حبيباً
(5) حديث اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً بأربعة دراهم
أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة قال دخلت يوما السوق مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم الحديث وإسناده ضعيف
(6) حديث كان قيمة ثوبية عشرة دراهم لم أجده
(7) حديث كان إزاره أربعة أذرع ونصفا
أخرجه أبو الشيخ في كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية عروة بن الزبير مرسلا كان رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وعرضه ذراعان ونصف الحديث وفيه ابن لهيعة
وفي طبقات ابن سعد من حديث أبي هريرة كان له إزار من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر وفيه محمد بن عمر الواقدي
(8) حديث اشترى سراويل بثلاثة دراهم المعروف أنه اشتراه بأربعة دراهم تقدم عند أبي يعلى وشراؤه السراويل عند أصحاب السنن من حديث سويد بن قيس إلا أنه لم يذكر فيه مقدار ثمنه قال الترمذي حسن صحيح
(9) حديث كان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت تسمى حلة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليين من هذه الغلاظ تقدم في آداب وأخلاق النبوة لبسه للشملة والبرد والحبرة
وأما لبسه الحلة ففي الصحيحين من حديث البراء رأيته في حلة حمراء ولأبي داود من حديث ابن عباس حين خرج إلى الحرورية وعليه أحسن ما يكون من حلل اليمن
وقال رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما ييكون من الحلل وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قبض في ثوبين أحدها أزار غليظ مما يصنع باليمن وتقدم في آداب المعيشة ولأبي داود والترمذي والنسائي من حديث أبي رمثة وعليه يردان أخضران سكت عليه أبو داود واستغربه الترمذي والبزار من حديث قدامة الكلابي وعليه حلة حيرة وفيه عريف بن إبراهيم لا يعرف قاله الذهبي
(10) حديث كان قميصه كأنه قميص زيات أخرجه الترمذي من حديث أنس بسند ضعيف كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته حتى كأن ثوبه ثوب زيات
(11) حديث لبس يوما واحدا ثوبا سيراء من سندس قيمته مائتا درهم إهداء له المقوقس ثم نزعه الحديث(4/232)
يا رسول الله أنزل عليك هذا من الجنة تعجباً وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية فأراد أن يكرمه بلبسه ثم نزعه وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به ثم حرم لبس الحرير والديباج
وكأنه إنما لبسه أولاً تأكيداً للتحريم كما لبس خاتماً من ذهب يوماً ثم نزعه (1) فحرم لبسه على الرجال وكما قال لعائشة في شأن بريرة اشترطي لأهلها الولاء (2) فلما اشترطته صعد عليه السلام المنبر فحرمه وكما أباح المتعة ثلاثاً ثم حرمها لتأكيد أمر النكاح (3) وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها علم فلما سلم قال شغلى النظر إلى هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته (4) يعنى كساءه فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم وكان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير جديد فصلى فيه فلما سلم قال أعيدوا الشراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإني نظرت إليه في الصلاة ولبس خاتماً من ذهب ونظر إليه على المنبر نظرة فرمي به فقال شغلى هذا عنكم نظرة إليه ونظرة إليكم (5) وكان صلى الله عليه وسلم قد احتذى مرة نعلين جديدين فأعجبه حسنهما فخر ساجداً وقال أعجبني حسنهما فتواضعت لربي خشية أن يمقتني ثم خرج بهما فدفعهما إلى أول مسكين رآه (6)
وعن سنان بن سعد قال حيكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من صوف أنمار وجعلت حاشيتها سوداء فلما لبسها قال انظروا ما أحسنها ما ألينها قال فقام إليه أعرابي فقال يا رسول الله هبها لي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً لم يبخل به قال فدفعها إليه وأمر أن يحاك له واحدة أخرى فمات صلى الله عليه وسلم وهي في المحاكة (7)
وعن جابر قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله تعالى عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل فلما نظر إليها بكى وقال يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لنعيم الأبد فأنزل الله عليه {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (8) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمه الله تعالى ويبكون سراً من خوف عذابه مؤنتهم على الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان أجسامهم في الأرض وأفئدتهم عند العرش (9) فهذه كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملابس وقد أوصى أمته عامة باتباعه إذ قال من أحبني فليستن بسنتي (10) وقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (11) وقال تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها خاصة وقال إن أردت اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعي ثوباً حتى ترقعيه (12) وعد على قميص عمر رضي الله عنه اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم
_________
(1) حديث لبس يوما خاتما من ذهب ثم نزعه متفق عليه وقد تقدم
(2) حديث قال لعائشة في شأن بريرة اشترطي لأهلها الحديث متفق عليه من حديثها
(3) حديث أباح المتعة ثلاثاً ثم حرمها أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع
(4) حديث صلى في خميصة لها علم الحديث متفق عليه وقد تقدم في الصلاة
(5) حديث لبس خاتما فنظر إليه على المنبر فرمى به وقال شغلني هذا عنكم الحديث تقدم
(6) حديث احتذى نعلين جديدين فأعجبه حسنهما الحديث تقدم
(7) حديث سنان بن سعد حيكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة صوف من صوف أنمار الحديث رواه أبو داود الطيالسي والطبراني من حديث سهل بن سعد دون قوله وأمر أن يحاك له أخرى فهي عند الطبراني فقط وفيه زمعة بن صالح ضعيف ويقع في كثير من نسخ الإحياء سيار بن سعد وهو غلط
(8) حديث جابر دخل على فاطمة وهي تطحن بالرحى الحديث أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق بإسناد ضعيف
(9) حديث إن من خيار أمتي فيما آتاني العلي الأعلى قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم ويبكون سراً من خوف عذابه الحديث تقدم وهو عند الحاكم والبيهقي في الشعب وضعفه
(10) حديث من أحبني فليستن بسنتي تقدم في النكاح
(11) حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية
(12) حديث قال لعائشة إن أردت اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء أخرجه الترمذي وقال غريب والحاكم وصححه من حديث عائشة وقد تقدم(4/233)
واشترى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثوباً بثلاثة دراهم ولبسه وهو في الخلافة وقطع كميه من الرسغين وقال الحمد لله الذي كساني هذا من رياشه
وقال الثوري وغيره البس من الثياب مالا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند الجهال وكان يقول إن الفقير ليمر بي وأنا أصلي فأدعه يجوز ويمر بي واحد من أبناء الدنيا وعليه هذه البزة فأمقته ولا أدعه يجوز وقال بعضهم قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانق وقال ابن شبرمة خير ثيابي ما خدمني وشرها ما خدمته
وقال بعض السلف البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر إليك
وقال أبو سليمان الداراني الثياب ثلاثة ثوب لله وهو ما يستر العورة وثوب للنفس وهو ما يطلب لينه وثوب للناس وهو ما يطلب جوهره وحسنه
وقال بعضهم من رق ثوبه رق دينه
وكان جمهور العلماء من التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين درهماً وكان الخواص لا يلبس أكثر من قطعتين قميص ومتزر تحته وربما يعطف ذيل قميصه على رأسه وقال بعض السلف أول النسك الزي وفي الخبر البذاذة من الإيمان وفي الخبر من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعاً لله تعالى وابتغاء لوجهه كان حقاً على الله أن يدخر له من عبقري الجنة في تخات الياقوت وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه قل لأوليائي لا يلبسوا ملابس أعدائي ولا يدخلوا مداخل أعدائى فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي
ونظر رافع بن خديج إلى بشر بن مروان على منبر الكوفة وهو يعظ فقال انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب الفساق وكان عليه ثياب رقاق وجاء عبد الله بن عامر بن ربيعة إلى أبي ذر في بزته فجعل يتكلم في الزهد فوضع أبي ذر راحته على فيه وجعل يضرط به فغضب ابن عامر فشكاه إلى عمر فقال أنت صنعت بنفسك تتكلم في الزهد بين يديه بهذه البزة وقال علي كرم الله وجهه إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني ولا يزري بالفقير فقره ولما عوتب في خشونة لباسه قال هو أقرب إلى التواضع وأجدر أن يقتدي به المسلم
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التنعم وقال إن لله تعالى عباداً ليسوا بالمتنعمين (1) ورؤي فضالة بن عبيد وهو والي مصر أشعث حافياً فقيل له أنت الأمير وتفعل هذا فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء وأمرنا أن نحتفي أحياناً (2)
وقال علي لعمر رضي الله عنهما إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارفع القميص ونكس الإزار واخصف النعل وكل دون الشبع
وقال عمر اخشوشنوا وإياكم وزي العجم كسرى وقيصر وقال علي كرم الله وجهه من تزيا بزي قوم فهو منهم
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون في الكلام (3) وقال صلى الله عليه وسلم أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً (4) وقال أبو سليمان الداراني قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلبس الشعر من أمتي إلا مراء أو أحمق (5) وقال الأوزاعي لباس الصوف في السفر سنة وفي الحضر بدعة ودخل محمد بن واسع
_________
(1) حديث نهى عن التنعم وقال إن لله عبادا ليسوا بالمتنعمين أخرجه أحمد من حديث معاذ وقد تقدم
(2) حديث فضالة بن عبيد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء وأمرنا أن نحتفي أحيانا
أخرجه أبو داود بإسناد جيد
(3) حديث إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الحديث رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام الحديث وآخره أولئك شرار أمتي وقد تقدم
(4) حديث أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه الحديث رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث أبي سعيد ورواه أيضا النسائي من حديث أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي كلا الحديثين محفوظ
(5) حديث أبي سليمان لا يلبس الشعر من أمتي إلا مراء أو أحمق لم أجد له إسنادا(4/234)
على قتيبة بن مسلم وعليه جبة صوف فقال له قتيبة ما دعاك إلى مدرعة الصوف فسكت فقال أكلمك ولا تجيبني فقال أكره أن أقول زهداً فأزكي نفسي أو فقراً فأشكو ربي
وقال أبو سليمان لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً أوحى إليه أن وار عورتك من الأرض وكان لا يتخذ من كل شيء إلا واحداً سوى السراويل فإنه كان يتخذ سراويلين فإذا غسل أحدهما لبس الآخر حتى لا يأتي عليه حال إلا وعورته مستورة وقيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه مالك لا تلبس الجيد من الثياب فقال وما للعبد والثوب الحسن فإذا عتق فله والله ثياب لا تبلى أبداً ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان له جبة شعر وكساء يلبسهما من الليل إذا قام يصلي
وقال الحسن لفرقد السبخي تحسب أن لك فضلاً على الناس بكسائك بلغني أن أكثر أصحاب النار أصحاب الأكسية نفاقاً وقال يحيى بن معين أرأيت أبا معاوية الأسود وهو يلتقط الخرق من المزابل ويغسلها ويلفقها ويلبسها فقلت إنك تكسى خيراً من هذا فقال ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة فجعل يحيى ابن معين يحدث بها ويبكي
المهم الثالث المسكن وللزهد فيه أيضاً ثلاث درجات أعلاها أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه فيقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصفة
وأوسطها أن يطلب موضعاً خاصاً لنفسه مثل كوخ مبني من سعف أو خص ما يشبهه وأدناها أن يطلب حجرة مبنية إما بشراء أو إجارة فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم يكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكلية حدد للزهد في المسكن فاختلاف جنس البناء بأن يكون من الجص أو القصب أو بالطين أو بالآجر واختلاف قدره بالسعة والضيق واختلاف طوله بالإضافة إلى الأوقات بأن يكون مملوكاً أو مستأجراً أو مستعاراً والزهد مدخل في جميع ذلك
وبالجملة كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الضرورة
وقدر الضرورة من الدنيا آلة الدين ووسيلته وما جاوز ذلك فهو مضاد للدين والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه فهو الفضول والفضول كله من الدنيا وطالب الفضول والساعي له بعيد من الزهد جداً وقد قيل أول شيء ظهر من طول الأمل بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التدريز والتشييد يعنى يالتدريز كف دروز الثياب فإنها كانت تشل شلاً والتشييد هو البنيان بالجص والآجر وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد (1) وقد جاء في الخبر يأتي على الناس زمان يوشون ثيابهم كما توشى البرود اليمانية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن يهدم علية كان قد علا بها (2)
ومر عليه السلام بجنبذة معلاة فقال لمن هذه قالوا لفلان فلما جاءه الرجل أعرض عنه فلم يكن يقبل عليه كما كان فسأل الرجل أصحابه عن تغيير وجهه صلى الله عليه وسلم فأخبر فذهب فهدمها فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموضع فلم يرها فأخبر بأنه هدمها فدعا له بخير (3)
_________
(1) حديث كانت الثياب تشل شلا وكانوا يبنون بالسعف والجريد
أما شل الثياب من غير كف فروى الطبراني والحاكم أن عمر قطع ما فضل عن الأصابع من غير كف وقال
هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما البناء ففي الصحيحين من حديث أنس في قصة بناء مسجد المدينة فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة الحديث ولهما من حديث أبي سعيد كان المسجد على عريش فوكف المسجد
(2) حديث أمر العباس أن يهدم علية له كان قد علاها
رواه الطبراني من رواية أبي العالية أن العباس بنى غرفة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اهدمها الحديث وهو منقطع
(3) حديث مر بجنبذة معلاة فقال لمن هذه فقالوا لفلان فلما جاءه الرجل أعرض عنه الحديث أخرجه أبو داود من حديث أنس بإسناد جيد بلفظ فرأى قبة مشرفة الحديث والجنبذة القبة(4/235)
وقال الحسن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد شراً أهلك ماله في الماء والطين (2) وقال عبد الله بن عمر مر عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نعالج خصاً فقال ما هذا قلنا خص لنا قد وهى فقال أرى الأمر أعجل من ذلك (3) واتخذ نوح عليه السلام بيتاً من قصب فقيل له لو بنيت فقال هذا كثير لمن يموت وقال الحسن دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له لو أصلحته فقال كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله وقال النبي صلى الله عليه وسلم من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة (4) وفي الخبر كل نفقة في الأرض يؤجر عليها إلا ما أنفقه في الماء والطين (5) وفي قوله تَعَالَى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً إنه الرياسة والتطاول في البنيان
وقال صلى الله عليه وسلم كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكن من حر أو برد (6) وقال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا إليه ضيق منزله اتسع في السماء (7) أي في الجنة ونظر عمر رضي الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر فكبر وقال ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون يعني قول فرعون فأوقد لي يا هامان على الطين يعني به الآجر ويقال إن فرعون هو أول من بني له بالجص والآجر وأول من عمله هامان ثم تبعهما الجبابرة وهذا هو الزخرف ورأى بعض السلف جامعاً في بعض الأمصار فقال أدركت هذا المسجد مبنياً من الجريد والسعف ثم رأيته من رهص ثم رأيته الآن مبنياً باللبن فكان أصحاب السعف خيراً من أصحاب الرهص وكان أصحاب الرهص خير من أصحاب اللبن وكان من السلف من يبني داره مراراً في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله وزهده في إحكام البنيان وكان منهم من إذا حج أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه فإذا رجع أعاده وكانت بيوتهم من الحشيش والجلود وهي عادة العرب الآن ببلاد اليمن وكان ارتفاع بناء السقف قامة وبسطة
قال الحسن كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت بيدي إلى السقف
وقال عمرو بن دينار إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك إلى أين يا أفسق الفاسقين وقد نهى سفيان عن النظر إلى بناء مشيد وقال لولا نظر الناس لما شيدوا فالنظر إليه معين عليه
وقال الفضيل إني لم أعجب ممن بنى وترك ولكن أعجب ممن نظر إليه ولم يعتبر
وقال ابن مسعود رضي الله عنه يأتي قوم يرفعون الطين ويضعون الدين ويستعملون البرازين يصلون إلى قبلتكم ويموتون على غير دينكم
_________
(1) حديث الحسن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة الحديث رواه ابن حبان في الثقات وأبو نعيم في الحلية هكذا مرسلا
والطبراني في الأوسط من حديث عائشة من سأل عني أو سره أن ينظر إلى فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة الحديث وإسناده ضعيف
(2) حديث إذا أراد الله بعبد شراً أهلك ماله في الماء والطين رواه أبو داود من حديث عائشة بإسناد جيد خضر له في الطين واللبن حتى يبنى
(3) حديث عبد الله بن عمر مر عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نعالج خصاً لنا قد وهى الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه
(4) من بنى فوق ما يكفيه كلف يوم القيامة أن يحمله رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد فيه لين وانقطاع
(5) حديث كل نفقة العبد يؤجر عليهم إلا ما أنفقه في الماء والطين رواه ابن ماجة من حديث خباب بن الأرت بإسناد جيد بلفظ إلا في التراب أو قال في البناء
(6) حديث كل بناء وبال على صاحبه إلا ما أكن من حر أو برد رواه أبو داود من حديث أنس بإسناد جيد بلفظ إلا مالا يعني مالا بد منه
(7) حديث قال الرجل الذي شكى إليه ضيق منزله اتسع في السماء قال المصنف أي في الجنة
رواه أبو داود في المراسيل من رواية اليسع بن المغيرة قال شكى خالد بن الوليد فذكره وقد وصله الطبراني فقال عن اليسع بن المغيرة عن أبيه عن خالد الوليد إلا أنه قال ارفع إلى السماء واسأل الله السعة وفي إسناده لين(4/236)
المهم الرابع أثاث البيت وللزهد فيه أيضاً درجات أعلاها حال عيسى المسيح صلوات الله عليه وسلامه وعلى كل عبد مصطفى إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز فرأى إنساناً يمشط لحيته بأصابعه فرمى بالمشط ورأى آخر يشرب من النهر بكفيه فرمى بالكوز وهذا حكم كل أثاث فإنه إنما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال في الدنيا والآخرة ومالا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقل الدرجات وهو الخزف في كل ما يكفي فيه الخزف ولا يبالي بأن يكون مكسور الطرف إذا كان المقصود يحصل به وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه ولكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصد كالذي معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها وكان السلف يستحبون استعمال آلة واحدة في أشياء للتخفيف وأعلاها أن يكون له بعدد كل حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس فإن زاد في العدد أو في نفاسة الجنس خرج عن جميع أبواب الزهد وركن إلى طلب الفضول ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقد قالت عائشة رضي الله عنها كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف (1)
وقال الفضيل ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عباءة مثنية ووسادة من أدم حشوها ليف (2)
وروي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نائم على سرير مرمول بشريط فجلس فرأى أثر الشريط في جنبه عليه السلام فدمعت عينا عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي أبكاك يا ابن الخطاب قال ذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيه ورسوله نائم على سرير مرمول بالشريط فقال صلى الله عليه وسلم أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال بلى يا رسول الله قال فذلك كذلك (3) ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعاً ولا غير ذلك من الأثاث فقال إن لنا بيتا نوجه إليه صالح متاعنا فقال إنه لا بد لك من متاع ما دمت ههنا فقال إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه ولما قدم عمير بن سعيد أمير حمص على عمر رضي الله عنهما قال له ما معك من الدنيا فقال معي عصاي أتوكأ عليها وأقتل بها حية إن لقيتها ومعي جرابي أحمل فيه طعامي ومعي قصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثوبي
ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي وطهوري للصلاة فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي فقال عمر صدقت رحمك الله وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فدخل على فاطمة رضي الله عنها فرأى على باب منزلها ستر وفي يديها قلبين من فضة فرجع فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي فأخبرته برجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أبو رافع فقال من أجل التستر والسوارين فأرسلت بهما بلالاً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت قد تصدقت بهما فضعهما حيث ترى فقال اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصفة فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدق بهما عليهم فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فقال بأبي أنت قد أحسنت (4) ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عائشة سترا فهتكه
_________
(1) حديث عائشة كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف
رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه
(2) حديث ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عباءة مثنية ووسادة من أدم حشوها ليف
رواه الترمذي في الشمائل من حديث حفصة بقصة العباءة وقد تقدم ومن حديث عائشة بقصة الوسادة وقد تقدم قبله بعض طرقه
(3) حديث دخل عمر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نائم على سرير مرمول بشريط النخل فجلس فرأى أثر الشريط في جنبه الحديث متفق عليه من حديثه وقد تقدم
(4) حديث قدم من سفره فدخل على فاطمة فرأى على منزلها سترا وفي يديها قلبين من فضة فرجع الحديث لم أره مجموعا ولأبي داود وابن ماجه من حديث سفينة بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وسلم جاء فوضع يديه على عضادتي الباب فرأى القرام قد ضرب في ناحية البيت فرجع فقالت فاطمة لعلي انظر فأرجعه
الحديث رواه النسائي من حديث ثوبان بإسناد جيد قال جاءت ابنة هبيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ من ذهب الحديث وفيه أنه وجد في يد فاطمة سلسلة من ذهب وفيه يقول الناس فاطمة بنت محمد في يدها سلسلة من نار وأنه خرج ولم يقعد فأمرت بالسلسلة فبيعت فاشترت بثمنها عبد فأعتقته فلما سمع قال الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار(4/237)
{وقال} كلما رأيته ذكرت الدنيا أرسلي به إلى آل فلان (1) وفرشت له عائشة ذات ليلة فراشاً جديداً وقد كان صلى الله عليه وسلم ينام على عباءة مثنية فما زال يتقلب ليلته فلما أصبح قال لها أعيدي العباءة الخلقة ونحي هذا الفراش عني قد أسهرني الليلة (2) وكذلك أتته دنانير خمسة أو ستة ليلاً فبيتها فسهر ليلته حتى أخرجها من آخر الليل
قالت عائشة رضي الله عنها فنام حينئذ حتى سمعت غطيطه ثم قال ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده (3) وقال الحسن أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوباً قط كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه
المهم الخامس المنكح وقد قال قائلون لا معنى للزهد في أصل النكاح ولا في كثرته وإليه ذهب سهل ابن عبد الله وقال قد حبب إلى سيد الزاهدين النساء فكيف نزهد فيهن ووافقه على هذا القول ابن عيينة وقال كان أزهد الصحابة عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرية
والصحيح ما قاله أبو سليمان الداراني رحمه الله إذ قال كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشئوم والمرأة قد تكون شاغلاً عن الله
وكشف الحق فيه أنه قد تكون العزوبة أفضل في بعض الأحوال كما سبق في كتاب النكاح فيكون ترك النكاح من الزهد وحيث يكون النكاح أفضل لدفع الشهوة الغالبة فهو واجب فكيف يكون تركه من الزهد وإن لم يكن عليه آفة في تركه ولا فعله ولكن ترك النكاح احترازاً عن ميل القلب إليهن والأنس بهن بحيث يشتغل عن ذكر الله فترك ذلك من الزهد فإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك ذلك احترازاً من لذة النظر والمضاجعة والمواقعة فليس هذا من الزهد أصلاً فإن الولد مقصود لبقاء نسله وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من القربات واللذة التي تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضره إذا لم تكن هي المقصد والمطلب وهذا كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازاً من لذة الأكل والشرب وليس ذلك من الزهد في شيء لأن في ترك ذلك فوات بدنه فكذلك في ترك النكاح انقطاع نسله فلا يجوز أن يترك النكاح زهداً في لذته من غير خوف آفة أخرى وهذا ما عناه سهل لا محالة ولأجله نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإذا ثبت هذا فمن حاله حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يشغله كثرة النسوة ولا اشتغال القلب بإصلاحهن والإنفاق عليهن (4) فلا معنى لزهده فيهن حذراً من مجرد لذة الوقاع والنظر ولكن أنى يتصور ذلك لغير الأنبياء والأولياء فأكثر الناس يشغلهم
_________
(1) حديث رأى على باب عائشة ستراً فهتكه الحديث
أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي في الكبرى من حديثها
(2) حديث فرشت له عائشة ذات ليلة فراشا جديدا وفيه كان ينام على عباءة مثنية الحديث رواه ابن حبان في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من حديثها قالت دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه صوف فدخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما هذا الحديث وفيه أنه أمرها برده ثلاث مرات فردته وفيه مجالد بن سعيد مختلف فيه والمعروف حديث حفصة المتقدم ذكره من الشمائل
(3) حديث أتته دنانير خمسة أو ستة عشاء فبيتها فسهر ليله الحديث وفيه ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده أخرجه أحمد من حديث عائشة بإسناد حسن أنه قال في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما فعلت بالذهب فجاء ما بين الخمسة إلى الثمانية إلى التسعة فجعل يقلبها بيده ويقول ما ظن محمد الحديث وزاد أنفقها وفي رواية سبعة أو تسعة دنانير وله من حديث أم سلمة بإسناد صحيح دخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو شاهم الوجه قالت فحسبت ذلك من وجع فقلت يا نبي الله ما لك شاهم الوجه فقال من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس أمسينا وهي في خصم الفراش وفي رواية أمسينا ولم ننفقها
(4) حديث كان لا يشغله كثرة النسوة ولا اشتغال القلب بإصلاحهن والإنفاق عليهن تقدم في النكاح(4/238)
كثرة النسوان فينبغي أن يترك الأصل إن كان يشغله وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح واحدة غير جميلة وليراع قلبه في ذلك
قال أبو سليمان الزهد في النساء أن يختار المرأة الدون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والشريفة
وقال الجنيد رحمه الله أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بثلاث وإلا تغير حاله التكسب وطلب الحديث والتزوج وقال أحب للصوفي أن لا يكتب ولا يقرأ لأنه أجمع لهمه فإذا ظهر أن لذة النكاح كلذة الأكل فما شغل عن الله فهو محذور فيهما جميعاً
المهم السادس ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه أما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة في قلب خادمه لأنه إن لم يكن له عنده محل وقدر لم يقم بخدمته وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه وهذا له أول قريب ولكن يتمادى به إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضر أو لخلاص من ظلم فأما النفع فيغني عنه المال فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن عنده المستأجر قدر وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة وأما دفع الضر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو محل له عند للسلطان وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك بل حق الزاهد أن لا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلاً فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار فكيف بين المسلمين فأما التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة إذ من طلب الجاه أيضاً لم يخل عن أذى في بعض الأحوال فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه فإذن طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلاواليسير منه داع إلى الكثير وضراوته أشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره
وأما المال فهو ضروري في المعيشة أعني القليل منه فإن كان كسوباً فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغي أن يترك الكسب كان بعضهم إذا اكتسب حبتين رفع سفطه وقام هذا شرط الزهد فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم جميعاً وإن كانت له ضيعة ولم يكن له قوة يقين في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفي ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية سنته ولكن يكون من ضعفاء الزهاد فإن شرط التوكل في الزهد كما شرطه أويس القرني رحمه الله فلا يكون هذا من الزهاد وقولنا إنه خرج من حد الزهاد نعني به أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات المحمودة لا يناله وإلا فاسم الزهد قد لا يفارقه بالإضافة إلى ما زهد فيه من الفضول والكثرة وأمر المنفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل وقد قال أبو سليمان لا ينبغي أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء معناه أن التضييق المشروط على الزاهد يخصه ولا يلزمه كل ذلك في عياله نعم لا ينبغي أن يجيبهم أيضاً فيما يخرج عن حد الاعتدال وليتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انصرف من بيت فاطمة رضوان الله عليها بسبب ستر وقلبين لأن ذلك من الزينة لا من الحاجة فإذاً ما يضطر الإنسان إليه من جاه ومال ليس بمحذور بل الزائد على الحاجة سم قائل والمقتصر على الضرورة دواء(4/239)
نافع وما بينهما درجات متشابهة فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سماً قاتلاً فهو مضر وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعاً لكنه قليل الضرر والسم محظور شربه والدواء فرض تناوله وما بينهما مشتبه أمره فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرق الناجية لا محالة
والمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين والشرط من جملة المشروط
ويدل عليه ما روي أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئاً فلم يقرضه فرجع مهموما فأوحى الله تعالى إليه لو سألت خليلك لأعطاك فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئاً فأوحى الله تعالى إليه ليس الحاجة من الدنيا فإذن قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال في الآخرة وهو في الدنيا أيضاً كذلك يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلون وربما يكونون أعداء له وقد يستعينون به على المعصية فيكون هو معيناً لهم عليها ولذلك شبه جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز لا يزال ينسج على نفسه حياً ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصاً فيموت ويهلك بسبب عمله الذي عمله بنفسه فكذلك كل من اتبع شهوات الدنيا فإنما يحكم على قلبه بسلاسل تقيده بما يشتهيه حتى تتظاهر عليه السلاسل فيقيده المال والجاه والأهل والولد وشماتة الأعداء ومراءاة الأصدقاء وسائر حظوظ الدنيا فلو خطر له أنه قد أخطأ فيه فقصد الخروج من الدنيا لم يقدر عليه ورأى قلبه مقيداً بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها ولو ترك محبوباً من محابه باختياره كاد أن يكون قاتلاً لنفسه وساعياً في هلاكه إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين جميعها دفعة واحدة
فتبقى السلاسل في قلبه معلقة بالدنيا التي فاتته وخلفها فهي تجاذبه إلى الدنيا ومخالب ملك الموت قد علقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة فيكون أهون أحواله عند الموت أن يكون كشخص ينشر بالمنشار ويفصل أحد جانبيه عن الآخر بالمجاذبة من الجانبين والذي ينشر بالمنشار إنما ينزل المؤلم ببدنه ويؤلم قلبه بذلك بطرق السراية من حيث أثره فما ظنك بألم يتمكن أولاً من صميم القلب مخصوصاً به لا بطريق السراية إليه من غيره فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرة فوت النزول في أعلى عليين وجوار رب العالمين فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله تعالى وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم إذ النار غير مسلطة إلا على محجوب
قال الله تعلى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فرتب العذاب بالنار على ألم الحجاب وألم الحجاب كاف من غير علاوة النار فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه فنسأل الله تعالى أن يقرر في أسماعنا ما نفث في روع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قيل له أحبب من أحببت فإنك مفارقه (1) وفي معنى ما ذكرناه من المثال قول الشاعر
كدود كدود القز ينسج دائماً ... ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه
ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلك نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك دود القز نفسه رفضوا الدنيا بالكلية حتى قال الحسن رأيت سبعين بدرياً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم
وفي لفظ آخر كانوا بالبلاء أشد فرحا منكم بالغصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا خياركم قالوا
_________
(1) حديث نفث في روعه أحبب من أحببت فإنك مفارقه تقدم(4/240)
ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب وكان أحدهم يعرض لهم المال الحلال فلا يأخذه ويقول أخاف أن يفسد على قلبي فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده والذين أمات حب الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم إذ قال تعالى ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون وقال عز وجل وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتبع هواه وكان أمره فرطاً
وقال تعالى فأعرض عمن تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فأحال ذلك كله على الغفلة وعدم العلم ولذلك قال رجل لعيسى عليه السلام احملني معك في سياحتك فقال أخرج مالك والحقني
فقال لا أستطيع فقال عيسى عليه السلام بعجب يدخل الغني الجنة أو قال بشدة وقال بعضهم ما من يوم ذر شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر ويقول الآخر اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً ويقول اللذان بالمغرب أحدهما لدوا للموت وابنوا للخراب
ويقول الآخر كلوا وتمتعوا لطول الحساب
بيان علامات الزهد
اعلم أَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ تَارِكَ الْمَالِ زَاهِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
فَإِنَّ تَرْكَ الْمَالِ وَإِظْهَارَ الْخُشُونَةِ سهل على من أحب المدح بالزهد فكم من الرهابين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين ويحتجون لنفوسهم بأتباع العلم وأنهم على السنة وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم
هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم فهم مائلون إلى الدنيا متبعون الهوى
فهذا كله كلام الخواص رحمه الله فإذن معرفة الزهد أمر مشكل بل حال الزهد على الزاهد مشكل
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات العلامة الْأُولَى أَنْ لَا يَفْرَحَ بِمَوْجُودٍ وَلَا يَحْزَنَ على مفقود كما قال تعالى لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده العلامة الثانية أن يستوي عنده ذامه ومادحه فالأول علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه العلامة الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ أُنْسُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْغَالِبُ على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الدنيا وإما محبة الله وهما في القلب كالماء والهواء في القدح فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره ولذلك قيل لبعضهم إلى ماذا أفضى بهم الزهد فقال إلى الأنس بالله فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان
وقد قال أهل المعرفة إذا تعلق الإيمان بظاهر القلب أحب الدنيا والآخرة جميعاً وعمل لهما وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها ولهدا ورد في دعاء آدم عليه السلام(4/241)
اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي
وقال أبو سليمان من شغل بنفسه شغل عن الناس وهذا مقام العاملين ومن شغل بربه شغل عن نفسه وهذا مقام العارفين
والزاهد لا بد وأن يكون في أحد هذين المقامين ومقامه الأول أن يشغل نفسه بنفسه وعند ذلك يستوي عنده المدح والذم والوجود والعدم ولا يستدل بإمساكه قليلاً من المال على فقد زهده أصلاً
قال ابن أبي الحواري قلت لأبي سليمان أكان داود الطائي زاهداً قال نعم قلت قد بلغني أنه ورث عن أبيه عشرين ديناراً فأنفقها في عشرين سنة فكيف كان زاهداً وهو يمسك الدنانير فقال أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد وأراد بالحقيقة الغاية فإن الزهد ليس له غاية لكثرة صفات النفس
ولا يتم الزهد إلا بالزهد في جميعها فكل من ترك من الدنيا شيئاً مع القدرة عليه خوفاً على قلبه وعلى دينه فله مدخل في الزهد بقدر ما تركه وآخره أن يترك كل ما سوى الله حتى لا يتوسد حجراً كما فعله المسيح عليه السلام فنسأل الله تعالى أن يرزقنا من مباديه نصيباً وإن قل فإن أمثالنا لا يستجرىء على الطمع في غاياته وإن كان قطع الرجاء عن فضل الله غير مأذون فيه وإذا لاحظنا عجائب نعم الله تعالى علينا علمنا أن الله تعالى لا يتعاظمه شيء فلا بعد في أن نعظم السؤال اعتماداً على الجود المجاوز لكل كمال
فإذن علامة الزهد استواء الفقر والغنى والعز والذل والمدح والذم وذلك لغلبة الأنس بالله
ويتفرع عن هذه العلامات علامات أخرى لا محالة مثل أن يترك الدنيا ولا يبالي من أخذها
وقيل علامته أن يترك الدنيا كما هي فلا يقول أبني رباطاً أو أعمر مسجداً
وقال يحيى بن معاذ علامة الزهد السخاء بالموجود
وقال ابن خفيف علامته وجود الراحة في الخروج من الملك وقال أيضاً الزهد هو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف
وقال أبو سليمان الصوف علم من أعلام الزهد فلا ينبغي أن يلبس صوفاً بثلاثة دراهم وفي قلبه رغبة خمسة دراهم
وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله علامة الزهد قصر الأمل وقال سري لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه
وقال النصراباذي الزاهد غريب في الدنيا والعارف غريب في الآخرة
وقال يحيى بن معاذ علامة الزهد ثلاث عمل بلا علاقة وقول بلا طمع وعز بلا رياسة وقال أيضاً الزاهد لله يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر
وقال له رجل متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مع الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح وقال أيضاً الدنيا كالعروس ومن يطلبها ما شطتها والزاهد فيها يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها والعارف يشتغل بالله تعالى ولا يلتفت إليها
وقال السري مارست كل شيء من أمر الزهد فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس فإني لم أبلغه ولم أطقه(4/242)
وقال الفضيل رحمه الله جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا
فهذا ما أردنا أن نذكره من حقيقة الزهد وأحكامه وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى
كتاب التوحيد والتوكل وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب
إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مدبر الملك والملكوت المنفرد بالعزة والجبروت
الرافع السماء بغير عماد المقدر فيها أرزاق العباد الذي صرف أعين ذوي القلوب والألباب عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب ورفع همهم عن الالتفات إلى ما عداه والاعتمام على مدبر سواه فلم يعبدوا إلا إياه علماً بأنه الواحد الفرد الصمد الإله وتحقيقاً بأن جميع أصناف الخلق عباد أمثالهم لا يبتغي عندهم الرزق وأنه ما من ذرة إلا إلى الله خلقها وما من دابة إلا على الله رزقها فلما تحققوا أنه لرزق عباده ضامن وبه كفيل توكلوا عليه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
والصلاة على محمد قامع الأباطيل الهادي إلى سواء السبيل وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فإن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين بل هو من معالي درجات المقربين وهو في نفسه غامض من حيث العلم ثم هو شاق من حيث العمل ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد والتثاقل عنها بالكلية طعن في ألسنة وقدح في الشرع والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيير في وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر ولا يقوى على كشف هذا الغطاء مع شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنطقوا
ونحن الآن نبدأ بذكر فضيلة التوكل على سبيل التقدمة ثم نردفه بالتوحيد في الشطر الأول من الكتاب ونذكر حال التوكل وعمله في الشطر الثاني
بيان فضيلة التوكل أما من الآيات فقد قال تعالى وعلى الله فتوكلوا
إن كنتم مؤمنين وقال عز وجل وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال سبحانه وتعالى إن الله يحب المتوكلين وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه فمن الله تعالى حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه فقد فاز الفوز العظيم فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب وقال تعالى أليس الله بكاف عبده فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل هو المكذب لهذه الآية
فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق كقوله تَعَالَى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وقال عز وجل ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي عزيز لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنا به والتجأ إلى(4/243)
ذمامه وحماه وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره
وقال تعالى إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر
حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه
وقال تعالى إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه وقال عز وجل ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون وقال عز وجل يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملأوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيأتهم فقيل لي أرضيت قلت نعم قيل ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب قيل من هم يا رسول الله قال الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة وقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم اجعله منهم فقام آخر فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة (1) وقال صلى الله عليه وسلم لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطاناً (2) وقال صلى الله عليه وسلم من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها (3) وقال صلى الله عليه وسلم من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يديه (4) وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا إلى الصلاة ويقول بهذا أمرني ربي عز وجل قال عز وجل {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (5) الآية وقال صلى الله عليه وسلم لم يتوكل من استرقى واكتوى (6)
وروي أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليهما السلام وقد رمي إلى النار بالمنجنيق ألك حاجة قال أما إليك فلا وفاءً بقوله حسبي الله ونعم الوكيل إذ قال ذلك حين أخذ ليرمى فأنزل الله تعالى {وإبراهيم الذي وفى}
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له مخرجاً
وأما الآثار فقد قال سعيد بن جبير لدغتني عقرب فأقسمت علي أمي لتسترقين فناولت الراقي يدي التي لم تلدغ
_________
(1) حديث ابن مسعود أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملأوا السهل والجبل الحديث رواه ابن منيع بإسناد حسن واتفق عليه الشيخان من حديث ابن عباس
(2) حديث لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه من حديث عمر وقد تقدم
(3) حديث من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة الحديث أخرجه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا ومني طريقة البيهقي في الشعب من رواية عن عمران بن حصين ولم يسمع منه وفيه إبراهيم بن الأشعث تكلم فيه أبو حاتم
(4) حديث من سره أن يكون أغنى الناس فليسكن بما عند الله أوثق منه بما في يده رواه الحاكم والبيهقي في الزهد من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف
(5) حديث كان إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا إلى الصلاة ويقول بهذا أمرني ربي قال تعالى {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} رواه الطبراني في الأوسط من حديث محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام قال كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة ثم قرأ هذه الآية
ومحمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام إنما ذكروا له روايته عن أبيه عن جده فيبعد سماعه من جد أبيه
(6) حديث لم يتوكل من استرقى واكتوى أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي في الكبير والطبراني واللفظ له إلا أنه قال أو من حديث المغيرة بن شعبة وقال الترمذي من اكتوت أو استرقى فقد برىء من التوكل وقال النسائي ما توكل من اكتوى أو استرقى(4/244)
وقرأ الخواص قوله تعالى {وتوكل على الحي الذي لا يموت} إلى آخر فقال ما ينبغي للعبد بعدد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى
وقيل لبعض العلماء في منامه من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته وقال بعض العلماء لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتب الله لك
وقال يحيى بن معاذ في وجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد
وقال إبراهيم بن أدهم سألت بعض الرهبان من أين تأكل فقال لي ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني
وقال هرم بن حيان لأويس القرني أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام قال هرم كيف المعيشة قال أويس أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة
وقال بعضهم متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلا ونسأل الله تعالى حسن الأدب
الشطر الأول
في التوحيد
بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل
اعلم أن التوكل من باب الإيمان وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل وعمل هو الثمرة وحال هو المراد باسم التوكل
فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيماناً في أصل اللسان إذ الإيمان هو التصديق وكل تصديق بالقلب فهو علم وإذا قوي سمي يقيناً ولكن أبواب اليقين كثيرة ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد الذي يترجمه قولك لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك {له الملك} والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك {وله الحمد} فمن قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ على كل شيء قدير تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل أعني أن يصير معنى هذا القول وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه فأما التوحيد فهو الأصل والقول فيه يطول وهو من علم المكاشفة ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال ولا يتم علم المعاملة إلا بها فإذن لا نتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له فنقول
للتوحيد أربع مراتب وينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر
ولنمثل ذلك تقريباً إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين وله لب وللب دهن هو لب اللب فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه {لا إله إلا الله} وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين
والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام
والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار
والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان
والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفي عليه ولم تضعف(4/245)
بالمعاصي عقدته ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها أيضاً إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاماً والعارف به يسمى متكلماً وهو في مقابلة المبتدع ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته
والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه
ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة
والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد فالأول كالقشرة العليا من الجوز والثاني كالقشرة السفلى والثالث كاللب والرابع كالدهن المستخرج من اللب
وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر وإن اتخذ حطباً أطفأ النار وأكثر الدخان وإن ترك في البيت ضيق المكان فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت والقشرة السفلى هي القلب والبدن
وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عند الادخار وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه وإشراق نور الحق فيه إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} وبقوله عز وجل {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه فكذلك توحيد الفعل مقصد عال للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق
فإن قلت كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحد وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات
وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب فقد قال العارفون إفشاء سر الربوبية كفر ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد وكم من شخص يشاهد إنساناً ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه وتفصيل روحه وجسده وأعضائه والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق وكأنه في عين الجمع والملتفت إلى الكثرة في تفرقه فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة فهو باعتبار واحد من(4/246)
الاعتبارات واحد وباعتبارات أخر سواه كثير وبعضها أشد كثرة من بعض ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه وتؤمن به إيمان تصديق فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب وإن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم تكن نبياً كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك
وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر والدوام نادر عزيز وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال فيماذا أنت فقال أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل وقد كان من المتوكلين فقال الحسين قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد فطالبه بالمقام الرابع فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال
فإن قلت فلا بد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه فأقول أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه وليس التوكل أيضاً مبنياً عليه بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث
وأما الأول وهو النفاق فواضح وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام وقد ذكرنا في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد القدر المهم منه
وأما الثالث فهو الذي يبني عليه التوكل فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحاً أتم من المشاهدة بالبصر وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى قلبك شائبة الشرك بسببين أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات
والثاني الالتفاف إلى الجمادات أما الالتفاف إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه وعلى الغيم في نزول المطر وعلى البرد في اجتماع الغيم وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور ولذلك قال تعالى {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} قيل معناه أنهم يقولون لولا استواء الريح لما نجونا
ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح هو الهواء والهواء لا يتحرك بنفسه مالم يحركه محرك وكذلك محركه وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه عز وجل فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحزرقبته كتب الملك توقيعاً بالعفو عنه وتخليته فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به يكتب التوقيع يقول
لولا القلم لما تخلصت فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم وهو غاية الجهل ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه ولم يشكر إلا الكاتب بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة والشمس والقمر والنجوم والمطر والغيم والأرض وكل حيوان وجماد مسخرات في قبضة القدرة كتسخير القلم في يد الكاتب بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن الملك(4/247)
الموقع هو الكاتب التوقيع والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب لقوله تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى} فإذا انكشف لك أن جميع ما في السموات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائباً وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك فأتاك في المهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول كيف ترى الكل عن الله وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه وهو قادر عليك إن شاء حزن رقبتك وإن شاء عفا عنك فكيف لا تخافه وكيف لا ترجوه وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه ويقول له أيضاً نعم إن كنت لا ترى القلم لأنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له وعند هذا زل أقدام الأكثرون إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخراً مضطراً كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخراً وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلظ النملة مثلاً لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلاً عن صاحب اليد فغلطت وظنت أن القلم هو المسود للبياض وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام قصرت بصيرته عن ملاحظة جبار السموات والأرض ومشاهدة كونه قاهراً وراء الكل فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزلون ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز بالأصوات فإن الحمار شريك فيه ولا قدر لما يشارك فيه البهائم وإنما أريد به سمعاً يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربي ولا عجمي
فإن قلت فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وأنها كيف نطقت وبماذا نطقت وكيف سبحت وقدست وكيف شهدت على نفسها بالعجز فاعلم أن لكل ذرة في السموات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر} الآية ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت وإفشاء السر لؤم بل صدور الأحرار قبور الأسرار وهل رأيت قط أميناً على أسرار ملك قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً (1) بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون
ولما نهى عن إفشاء سر القدر (2) ولما قال إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا (3) ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار (4) فإذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان أحدهما استحالة إفشاء السر والثاني خروج كلماتها عن الحصر والنهاية ولكنا في المثال الذي كنا فيه وهي حركة القلم
_________
(1) حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا الحديث تقدم غير مرة
(2) حديث النهى عن إفشاء سر القدر رواه أبو عدي وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر القدر سر الله فلا تفشوا لله عز وجل سره لفظ أبي نعيم وقال ابن عدي لا تكلموا في القدر فإنه سر الله الحديث وهو ضعيف وقد تقدم
(3) حديث إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا الحديث أخرجه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وتقدم في العلم
(4) حديث أنه خص حذيفة ببعض الأسرار تقدم(4/248)
نحكى من مناجاتها قدراً يسيراً يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن حروفاً وأصواتاً ولكن هي ضرورة التفهيم فنقول قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر ما بال وجهك كان أبيض مشرقاً والآن قد ظهر عليه السواد فلم سودت وجهك وما السبب فيه فقال الكاغد ما انصفتني في هذه المقالة فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعاً في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلما وعدوا فقال صدقت فسأل الحبر عن ذلك فقال ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعاً ساكناً عازماً على أن لا أبرح منها فاعتدى علي القلم بطمعه الفاسد واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبدني كما ترى على ساحة بيضاء فالسؤال عليه لا علي فقال صدقت ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه فقال سل اليد والأصابع فإني كنت قصباً نابتاً على شط الأنهار متنزهاً بين خضرة الأشجار فجاءتني اليد بسكين فنحت عني قشري ومزقت عني ثيابي واقتلعتني من أصلي وفصلت بين أنابيبي ثم برتني وشقت رأسي ثم غمستني في سواد الخبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك فتنح عني وسل من قهرني فقال صدقت ثم سأل اليد عن ظلمها وعدولها على القلم واستخدامها له فقالت اليد ما أنا إلا لحم وعظم ودم وهل رأيت لحماً يظلم أو جسماً يتحرك بنفسه وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة فهي التي ترددني وتجول بي في نواحي الأرض أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيئا منها مكانه ولا يتحرك بنفسه إذ لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم فأنا أيضاً من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجي من ركبني فقال صدقت ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها فقالت دع عنك لومي ومعاتبتي فكم من لائم ملوم وكم من ملوم لا ذنب له وكيف خفي عليك أمري وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك وما كنت أحركها ولا أستسخرها بل كنت نائمة ساكنة نوماً ظن الظانون بي أني ميتة أو معدومة لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني فكانت لي قوة على مساعدته ولم تكن لي قوة على مخالفته وهذا الموكل يسمى الإرادة ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورأبي فقال صدقت ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها إلى التحريك وأرهقتها إليه إرهاقا لم تجد عنه مخلصاً ولا مناصاً فقالت الإرادة لا تعجل علي فلعل لنا عذراً وأنت تلوم فإني ما انتهضت بنفسي ولكني انهضت وما أن انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل ولم أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له وألزمت طاعته لكني أدري أني في دعة وسكون مالم يرد على هذا الولود القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وقفا وألزمت طاعته إلزاماً بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة لعمري ما دام هو في التردد مع نفسه والتحير في حكمه فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك(4/249)
فإني كما قال القائل
متى ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم
فقال صدقت وأقبل على العلم والعقل والقلب مطالباً لهم ومعاتباً إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لإشخاص القدرة فقال العقل أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت وقال القلب أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت وقال العلم أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انخططت بنفسي فكم كان هذا اللوح قبل خالياً عني فسل القلم عني لأن الخط لا يكون إلا بالقلم فعند ذلك تتعتع السائل ولم يقنعه جواب وقال قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلي ولا يزال يحيلني من طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره ولكني كنت أطيب نفساً بكثرة الترداد لما كنت أسمع كلاماً مقبولاً لا في الفؤاد وعذراً ظاهراً في دفع السؤال فأما قولك إني خط ونقش وإنما خطى قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلماً إلا من القصب ولا لوحاً إلا من الحديد أو الخشب ولا خطاً إلا بالحبر ولا سراجاً إلا من النار وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئاً أسمع جعجعة ولا أرى طحناً فقال له القلم إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه فما هذا بعشك فأدرج عنه فكل ميسر لما خلق له وإن كنت راغباً في استتمام الطريق إلى المقصد فألق سمعك وأنت شهيد
واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة عالم الملك والشهادة أولها ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة والثاني عالم الملكوت وهو ورائي فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة ولا أدري كيف تسلم فيها والثالث هو عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزلة القدرة والإرادة والعلم وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت لأن عالم الملك أسهل منه طريقاً وعالم الملكوت أوعر منه منهجاً وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء فلا هي في حد اضطراب الماء ولا هي في حد سكون الأرض وثبرتها وكل من يمشي على الأرض يمشى في عالم الملك والشهادة فإن جاوزت قوته إلى أن يقوى على ركوب السفينة كان كمن يمشي في عالم الجبروت فإن انتهى إلى أن يمشي على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع فإن كنت لا تقدر على المشي على الماء فانصرف فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة ولم يبق بين يديك إلا الماء الصافي وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشي به على الماء أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء (1) لما قيل له إنه كان يمشي على الماء فقال السالك السائل قد تحيرت في أمري واستشعر قلبي خوفاً مما وصفته من خطر الطريق ولست أدري أطيق قطع هذه المهامة التي وصفتها أم لا فهل لذلك من علامة قال نعم افتح بصرك واجمع ضوء عينيك وحدقهنحوي فإن ظهر لك القلم الذي به أكتب في لوح القلب فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق فإن كل من جاوز عالم الجبروت وقرع باباً من أبواب الملكوت كوشف بالقلم أما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره كوشف بالقلم إذ أنزل عليه اقرأ وربك
_________
(1) حديث قيل له أن عيسى يمشي على الماء قال لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء تقدم(4/250)
الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فقال السالك لقد فتحت بصري وحدقته فو الله ما أرى قصباً ولا خشباً ولا أعلم قلماً إلا كذلك فقال العلم لقد أبعدت النجعة أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام ولا كلامه سائر الكلام ولا خطه سائر الخطوط وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت فلبس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان بخلاف غيره ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي ولا قلمه من قصب ولا لوحه من خشب ولا كلامه بصوت وحرف ولا خطه رقم ورسم ولا حبره زاج وعفص فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه مذبذباً بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه فإن كنت قد فهمت من قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته الصورة الظاهرة المدركة بالبصر فكن مشبهاً مطلقاً كما يقال كن يهودياً صرفاً وإلا فلا تلعب بالتوراة وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر لا بالأبصار فكن منزهاً صرفا ومقدسا فحلا واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى واستمع بسر قلبك لما يوحى فلعلك تجد على النار هدى ولعلك من سرادقات العرش تنادي بما نودي به موسى إني أنا ربك فلما سمع السالك من العلم ذلك استشعر قصور نفسه وأنه مخنث بين التشبيه والتنزيه فاشتعل قلبه ناراً من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسه نار فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نوراً على نور فقال له العلم اغتنم الآن هذه الفرصة وافتح بصرك لعلك تجد على النار هدى ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي فإذا هو كما وصفه العلم في التنزيه ما هو من خشب ولا قصب ولا له رأس ولا ذنب وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم وكأن له في كل قلب رأساً ولا رأس له فقضى منه العجب وقال نعم الرفيق العلم فجزاه الله تعالى عني خيراً إذ الآن ظهر لي صديق أنبائه عن أوصاف القلم فإني أراه قلماً لا كالأقلام فعند هذا ودع العلم وشكره وقال قد طال مقامي عندك ومرادتي لك وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأسأله عن شأنه فسافر إليه وقال له ما بالك أيها القلم تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدر وصرفها إلى المقدورات فقال أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة وسمعت من جواب القلم إذ سألته فأحالك على اليد قال لم أنس ذلك
قال فجوابي مثله جوابه قال كيف وأنت لا تشبهه قال القلم أما سمعت أن الله تعالى خلق آدم على صورته قال نعم
قال فسل عن شأني الملقب بيمين الملك فإني في قبضته وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر فلا فرق بين القلم الإلهي وقلم الآدمي في معنى التسخير وإنما الفرق في ظاهر الصورة
فقال فمن يمين الملك فقال القلم أما سمعت قوله تعالى والسموات مطويات بيمينه قال نعم قال والأقلام أيضاً في قبضة يمينه هو الذي يرددها فسافر السالك من عنده إلى اليمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه بل لا تحوي مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه والجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان ويد لا كالأيدي وإصبع لا كالأصابع فرأى القلم محركاً في قبضته فظهر له عذر القلم فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم فقال جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما(4/251)
محركها القدرة لا محالة فسافر السالك إلى عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين فقالت إنما أنا صفة فاسأل القادر إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات وعند هذا كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فغشيته هيبة الحضرة فخر صعقاً يضطرب في غشيته فلما أفاق قال سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك فأقول اشرح لي صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك فنودي من وراء الحجاب إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه وما قاله لك فقله فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) فقال إلهي إن لم يكن للسان جراءة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك فنودي إياك أن تتخطى رقاب الصديقين فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أما سمعته يقول العجز عن درك الإدراك إدراك فيكفيك نصيباً من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا فعند ذلك رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها اقبلوا عذري فإني كنت غريباً حديث العهد بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته مرددون في قبضته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلما ذكر ذلك في عالم الشهادة استبعد منه ذلك وقيل له كيف يكون هو الأول والاخر وهما وصفان متناقضان وكيف يكون هو الظاهر والباطن فالأول ليس بآخر والظاهر ليس بباطن فقال هو الأول بالإضافة إلى الموجودات إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحداً بعد واحد وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة فيكون ذلك آخر السفر فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت فهذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل أعني من انكشف له أن الفاعل واحد
فإن قلت قد انتهى هذا التوحيد إلى أنه يبتنى على الإيمان بعالم الملكوت فمن لم يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه فأقول أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت وهم الذين حصروا العلوم في الحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا ندرك بالحواس الخمس فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس فإن قال وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس ولا أعلم شيئاً سواه فيقال إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس فإنهم قالوا ما نراه لا نثق به فلعلنا نراه في المنام فإن قال وأنا من جملتهم فإني شاكٍ أيضاً في
_________
(1) حديث سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك تقدم(4/252)
المحسوسات فيقال هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه فيترك أياماً قلائل وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء هذا حكم الجاحد
وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضاً توحيداً إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين فيقال له على حد عقله
إله العالم واحد والمدبر واحد إذ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة
فإن قلت فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه فأقول نعم فإن الاعتقاد إذا قوي عَمِلَ عَمَلَ الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالباً ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده
وأما لذى شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقيناً وإن كان يزداد وضوحاً كما أن الذي يرى إنساناً في وقت الإسفار لا يزداد يقيناً عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحاً في تفصيل خلقته وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام تجاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف {بل} قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا قاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله هذا إلهكم وإله موسى ونسوا أنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير
وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافاً وتضاداً أصلاً
فإن قلت ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء فكيف يكون مسخراً فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست المشيئة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية وإذا لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب فهذا ضرورات ترتب بعضها على بعض
وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف(4/253)
القدرة إلى المقدور بعدها ولا وجود الحركة بعد بعث المشيئة المقدرة فهو مضطر في الجميع
فإن قلت فهذا جبر محض والجبر يناقض الاختيار وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون مجبوراً مختاراً فأقول لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور فهو إذن مجبور على الاختيار فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحاً وجيزاً يليق بما ذكر متطفلاً وتابعاً فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا علم المعاملة ولكني أقول لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه إذ يقال الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدة ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاث عبارات فنسمي خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فعلاً طبيعياً ونسمي تنفسه فعلاً إرادياً ونسمي كتابته فعلاً اختيارياً والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انخرق الهواء لا محالة وقد يكون الخرق بعد التخطي ضرورياً والتنفس في معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل البدن فمهما كان الثقل موجوداً وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه وكذلك الإرادة ليست إليه ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطراراً ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطراراً فعل إرادي ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضرورياً
وأما الثالث وهو الاختيار فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق وهو الذي يقال فيه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وتارة لا يشاء فيظن من هذا أن الأمر إليه وهذا للجهل بمعنى الاختيار فلنكشف عنه وبيانه أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تحير وتردد وإلى ما قد يتردد العقل فيه فالذي نقطع به من غير تردد أن من يقصد عينك مثلاً بإبرة أو بدنك بسيف فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم
والقدرة بالإرادة وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد بدفع السيف ولكن من غير روية وفكرة ويكون ذلك بالإرادة ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدري أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية فكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك فإذا حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحقق ذلك بالذي يقطع به من غير روية فكر فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختياراً مشتقاً من الخير أي هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في ححقه إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير روية بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف وعن هذا قيل إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلاً لم يمكنه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحسن بكون الفعل موافقاً وقتله نفسه ليس موافقاً له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد لأن(4/254)
تردده بين شر الشرين فإن ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شراً لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شراً وكان حكمه جزماً لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه كالذي يتبع بالسيف للقتل فإنه يرمي بنفسه من السطح مثلاً وإن مهلكاً ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه فإن كان يتبع بضرب خفيف فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية البتة لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس والقدرة مسخرة للداعية والحركة مسخرة للقدرة والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور فأما أن يكون منه فكلا ولا فإذن معنى كونه مجبوراً أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه ومعنى كونه مختاراً أنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً بعد حكم العقل بكون الفعل خيراً محضاً موافقاً وحدث الحكم أيضاً جبراً فإذا هو مجبور على الاختيار ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض وفعل الله تعالى اختيارا محض وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة لأنه لما كان فنا ثالثا وائتموه فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسباً وليس مناقضاً للجبر ولا للاختيار بل هو جامع بينهما عند من فهمه وفعل الله تعالى يسمى اختياراً بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد فإن ذلك في حقه محال وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز وذكر ذلك لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه
فإن قلت فهل تقول إن العلم ولد الإرادة والإرادة ولدت القدرة والقدرة ولدت الحركة وأن كل متأخر حدث من المتقدم فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على معنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم فإنهم وقفوا على كنه معناه والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق وبيان ذلك يطول ولكن بعض المقدورات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد حياة ولا حياة إلا بعد محل الحياة وكما لا يجوز أن يقال الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم وكذلك جميع أفعال الله تعالى ولولا ذلك لكان التقديم والتأخير عبثاً يضاهي فعل المجانين تعالى الله عن قول الجاهلين علواً كبيراً وإلى هذا أشار قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ وقوله تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه والمشروط قبل الشرط محال والمحال لا يوصف بكونه مقدوراً فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهيم ذلك عسير ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالاً يقرب مبادئ الحق من الأفهام الضعيفة وذلك بأن(4/255)
نقدر إنساناً محدثاً قد انغمس في الماء إلى رقبته فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له فقدر القدرة الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظاراً للشرط وهو غسل الوجه فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه لأنه حدث عقيبه إذ يقول كان الماء ملاقياً ولم يكن رافعاً والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه فإذن غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة بالإرادة والإرادة بالعلم وكل ذلك خطأ بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء الملاقي لها لا بغسل الوجه والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدّرات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد واستيفاء ذلك في عمر نوح محال كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله وما أخف مؤنته على اللسان وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم
فإن قلت فكيف الجمع بين التوحيد والشرع ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلاً وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلاً ومفعول بين فاعلين غير مفهوم فأقول نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملاً مردداً بينهما لم يتناقض كما يقال قتل الأمير فلاناً ويقال قتله الجلاد ولكن الأمير قاتل بمعنى والجلاد قاتل بمعنى آخر فكذلك العبد فاعل بمعنى والله عز وجل فاعل بمعنى آخر فمعنى كون الله تعالى فاعلا أنه المخترع الموجد ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم فارتبطت القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلاً له كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً لأن القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين فلذلك سمي فعلاً لهما فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه فقال الله تعالى في الموت قل يتوفاكم ملك الموت ثم قال عز وجل الله يتوفى الأنفس حين موتها وقال تعالى أفرأيتم ما تحرثون أضاف إلينا ثم قَالَ تَعَالَى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وقال عز وجل فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ثم قال تعالى فنفخنا فيها من روحنا وكان النافخ جبريل عليه السلام وكما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قيل في التفسير معناه إذا قرأه عليك جبريل وقال تعالى قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه والتعذيب هو عين(4/256)
القتل بل صرح وقال تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وقال تَعَالَى وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهراً ولكن معناه وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً إذ هما معنيان مختلفان
وقال الله تعالى الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم {ثم قال} الرحمن علم القرآن {وقال} علمه البيان {وقال} ثم إن علينا بيانه {وقال} أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف ملك الأرحام إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسداً فيقول يا رب أذكر أم أنثى أسوي أم معوج فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك (1) وفي لفظ آخر ويصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة
وقد قال بعض السلف إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد وأنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحاً يلج في جسم ولذلك سمي روحاً وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون النقل تخمين مجرد وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسموات ثم قال أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد {وقال} شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فبين أنه الدليل على نفسه وذلك ليس متناقضاً بل طرق الاستدلال مختلفة
فكم من طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات وكم من طالب عرف كل الموجودات بالله تعالى كما قال بعضهم عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي وهو معنى قوله تعالى أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين ففي الخبر أن ملكي الموت والحياة تناظرا فقال ملك الموت أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة أنا أحيي الموتى فأوحى الله تعالى إليهما كونا على عملكما وما سخرتكما له من الصنع وأنا المميت والمحيي لا يميت ولا يحيي سواي (2) فإذن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة خذها لو لم تأتها لأتتك (3) أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها وكذلك لما قال التائب أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد فقال صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله (4) فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز والمستعير في كلامه وللتجوز وجه كما أن للح 4 قيقة وجهاً واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلاً بحركته وظن أنه تحقيق وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس
_________
(1) حديث وصف ملك الأرحام إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده ثم يصورها جسدا الحديث رواه البزار وابن عدي من حديث عائشة أن الله تبارك وتعالى حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول يا رب ماذا الحديث وفي آخره فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم وفي سنده جهالة وقال ابن عدي أنه منكر وأصله متفق عليه من حديث ابن مسعود بنحوه
(2) حديث إن ملك الموت والحياة تناظرا فقال ملك الموت أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة أنا أحيي الأموات فأوحى الله إليهما أن كونا على عملكما الحديث لم أجد له أصلا
(3) حديث قال للذي ناوله التمرة خذها لو لم تأتها لأتتك أخرجه ابن حبان في كتاب روضة العقلاء من رواية هذيل ابن شرحبيل ووصله الطبراني عن هذيل عن ابن عمر ورجاله رجال الصحيح
(4) حديث إنه قال للذي قال أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد عرف الحق لأهله تقدم في الزكاة(4/257)
وقالوا إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع فلا فاعل إلا الله فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز
أي تتجوز به عما وضعه اللغوي له ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصداً أو اتفاقاً صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل (1) أي كل ما لا قوام له بنفسه وإنما قوامه بغيره فهو باعتبار نفسه باطل وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه فإذن لا حق بالحقيقة إلى الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته فهو الحق وما سواه باطل ولذلك قال سهل يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون فلما كنت اليوم صرت تقول أنا وأنا كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان
فإن قلت فقد ظهر الآن أن الكل جبر فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا وكيف غضبه على فعل نفسه فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول بإعادته فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حال التوكل ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل وهذا الإيمان أيضاً باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقاداً قاطعاً لا يستريب فيه
وهو أن يصدق تصديقاً يقينياً لا ضعف فيه ولا ريب إن الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة مالا منتهى لوصفها ثم زاد مثل عدد جميعهم علماً وحكمة وعقلاً ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولا أن ينقص منها جناح بعوضة ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكله عدل محض لا جور فيه وحق صرف لا ظلم فيه بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي بالقدر الذي ينبغي وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر النعمة وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل فكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران وفداء
_________
(1) حديث أصدق بيت قالته العرب بيت لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ قاله الشاعر وفي رواية لمسلم أشعر كلمة تكلمت بها العرب(4/258)
أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً وكما أن قطع اليد إذا تآكلت إبقاء على الروح عدل لأنه فداء كامل بناقص فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة فكل ذلك عدل لا جور فيه وحق لا لعب فيه وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق واسع الأطراف مضطرب الأمواج قريب في السعة من بحر التوحيد فيه غرق طوائف من القاصرين ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا العالمون ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره المكاشفون والحاصل أن الخير والشر مقضي به وقد كان ما قضى به واجب الحصول بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر معلوم منتظر وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل
الشطر الثاني من الكتاب في أحوال التوكل وأعماله
وفيه
بيان حال التوكل
وبيان ما قاله الشيوخ في حد التوكل وبيان التوكل في الكسب للمنفرد والمعيل وبيان التوكل بقدر الادخار وبيان التوكل في دفع المضار وبيان التوكل في إزالة الضرر بالتداوي وغيره والله الموفق برحمته
بيان حال التوكل
قد ذكرنا أن مقام التوكل ينتظم من علم وحال وعمل وذكرنا العلم
فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه وإنما العلم أصله والعمل ثمرته وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حده كما جرت عادة أهل التصوف به ولا فائدة في النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه ونقول التوكل مشتق من الوكالة يقال وكَّل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه ويسمى الموكول إليه وكيلاً ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلاً فنقول من ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس فوكل للخصومة من يكشف ذلك التلبيس لم يكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور منتهى الهداية ومنتهى القوة ومنتهى الفصاحة ومنتهى الشفقة أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً وأما القدرة والقوة فليستجرئ على التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به وأما الفصاحة فهي أيضاً من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس وأما منتهى الشفقة فيكون باعثاً له على بذل كل ما يقدر(4/259)
عليه في حقه من المجهود فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك فإن كان شاكاً في الأربعة أو في واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتاً لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى اليقين الذي لا ضعف فيه كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعية وكذلك سائرا الخصال يتصور أن يحصل القطع به وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار بأنه أفصح الناس لساناً وأقدرهم بيانا وأقدرهم على نصرة الحق بل على تصوير الحق بالباطل والباطل بالحق فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى فإن ثبت في نفسك كشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله كما سبق واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العناية والعطف والرحمة بجملة العباد والآحاد وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقدرة فإن الحول عبارة عن الحركة والقوة عبارة عن القدرة فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين إما ضعف اليقين بإحدى هذه الخصال الأربعة وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه فإن القلب قد ينزعج تبعاً للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين فإن من يتناول عسلاً فشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقناً بكونه ميتاً وأنه جماد في الحال وأن سنة الله تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه وإن كان قادراً عليه كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية ولا يقلب السنور أسداً وإن كان قادراً عليه ومع أنه لا يشك في هذا اليقين ينفر طبعه عن مضاجعة الميت في فراش أو المبيت معه في البيت ولا ينفر عن سائر الجمادات وذلك جبن في القلب وهو نوع ضعيف فلما يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل وقد يقوى فيصير مرضاً حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه فإذن لا يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعاً إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته فالسكون في القلب شيء واليقين شيء آخر فكم من يقين لا طمأنينتة معه كما قال تعالى لإبراهيم عليه السلام {أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فالتمس أن يكون مشاهداً إحياء الميت بعينه ليثبت في خياله فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة وذلك لا يكون في البداية أصلاً وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده وكذا النصراني ولا يقين لهم أصلاً وإنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو سبب اليقين إلا أنهم معرضون عنه فإذن الجبن والجراءة غرائز ولا ينفع اليقين معها فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة أحد الأسباب وإذا اجتمعت هذه الأسباب حصلت الثقة بالله تعالى وقد قيل مكتوب في التوراة ملعون من ثقته إنسان مثله وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(4/260)
من استعز بالعبيد أذله الله تعالى // حدديث من اعتز بالعبيد أذلة الله أخرجه العقيلى في الضعفاء وأبو نعيم في الحلية من حديث عمر أورده العقيلي في ترجمة عبد الله بن عبد الله الأموي وقال لا يتابع على حديثه وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال يخالف في روايته وإذا انكشف لك معنى التوكل وعلمت الحالة التي سميت توكلاً فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات
الدرجة الأولى ما ذكرناه وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل الثانية وهي أقوى أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى أحد سواها ولا يعتمد إلا إياها فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها ولم يخلها وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه يا أماه وأول خاطر يخطر في قلبه أمه فإنها مفزعة فإنه قد وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له ويظن أنه طبع من حيث إن الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلقين لفظه ولا على إحضاره مفصلاً في ذهنه ولكن كل ذلك وراء الإدراك فمن كان باله إلى الله عز وجل ونظره إليه واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلاً حقاً فإن الطفل متوكل على أمه والفرق بين هذا وبين الأول أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن توكله إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته بل إلى المتوكل عليه فقط فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب وليس فانياً عن توكله لأن له التفاتاً إلى توكله وشعوراً به وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده وإلى هذه الدرجة أشار سهل حيث سئل عن التوكل ما أدناه قال ترك الأماني قيل وأوسطه قال ترك الاختيار وهو إشارة إلى الدرجة الثانية وسئل عن أعلاه فلم يذكره وقال لا يعرفه إلا من بلغ أوسطه الثالثة وهي أعلاها أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتاً تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل الميت وهو الذي قوي يقينه بأنه مجري للحركة والقدرة والإرادة والعلم وسائر الصفات وأن كلاً يحدث جبراً فيكون بائناً عن الانتظار لما يجري عليه ويفارق الصبي فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها بل هو مثل صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسئل فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال والدعاء وبغير الاستحقاق والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال منه وإنما يقتضي ترك السؤال من غيره فقط
فإن قلت فهذه الأحوال هل يتصور وجودها فاعلم أن ذلك ليس بمحال ولكنه عزيز نادر والمقام الثاني والثالث أعزها والأول أقرب إلى الإمكان ثم إذا وجد الثالث والثاني فداومه أبعد منه بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه إلا كصفرة الوجل فإن انبساط القلب إلى ملاحظة الحول والقوة والأسباب طبع وانقباضه عارض كما إن انبساط الدم إلى جميع الأطراف طبع وانقباضه عارض والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر البشرة إلى الباطن حتى تنمحي عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق من ستر البشرة فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم وانقباضه يوجب الصفرة وذلك لا يدوم وكذا انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر الأسباب الظاهرة لا يدوم وأما المقام الثاني فيشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوما ويومين والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ولا يبعد أن يزول(4/261)
فإن قلت فهل يبقى مع العبد تدبير وتعلق بالأسباب في هذه الأحوال فاعلم إن المقام الثالث ينفي التدبير رأساً ما دامت الحالة باقية بل يكون صاحبها كالمبهوت والمقام الثاني ينفي كل تدبير إلا من حيث الفزع إلى الله بالدعاء والابتهال كتدبير الطفل في التعلق بأمه فقط والمقام الأول لا ينفي أصل التدبير والاختيار ولكن ينفي بعض التدبيرات كالمتوكل على وكيله في الخصومة فإنه يترك تدبيره من جهة غير الوكيل ولكن لا يترك التدبير الذي أشار إليه وكيله به أو التدبير الذي عرفه من عادته وسننه دون صريح إشارته فأما الذي يعرفه بإشارته بأن يقول له لست أتكلم إلا في حضورك فيشتغل لا محالة بالتدبير للحضور ولا يكون هذا مناقضاً توكله عليه إذ ليس هو فزعاً منه إلى حول نفسه وقوته في إظهار الحجة ولا إلى حول غيره بل من تمام توكله عليه أن يفعل ما رسمه له إذ لو لم يكن متوكلاً عليه ولا معتمدا عليه في قوله لما حضر فقوله وأما المعلوم من عادته واطراد سننه فهو أن يعلم من عادته أن لا يحاج الخصم إلا من السجل فتمام توكله إن كان متوكلاً عليه أن يكون معولاً على سنته وعادته ووافياً بمقتضاها وهو أن يحمل السجل مع نفسه إليه عند مخاصمته فإذن لا يستغني عن التدبير في الحضور وعن التدبير في إحضار السجل ولو ترك شيئاً من ذلك كان نقصاً في توكله فكيف يكون فعله نقصاً فيه نعم بعد أن حضر وفاءً بإشارته وأحضر السجل وفاءً بسنته وعادته وقعد ناظراً إلى محاجته فقد ينتهي إلى المقام الثاني والثالث في حضوره حتى يبقى كالبهوت المنتظر لا يفزع إلى حوله وقوته إذ لم يبق له حول ولا قوة وقد كان فزعه إلى حوله وقوته في الحضور وإحضار السجل بإشارة الوكيل وسنته وقد انتهى نهايته فلم يبق إلا طمأنينة النفس والثقة بالوكيل والانتظار لما يجري وإذا تأملت هذا اندفع عنك كل إشكال في التوكل وفهمت أنه ليس من شرط التوكل ترك كل تدبير وعمل وأن كل تدبير وعمل لا يجوز أيضاً مع التوكل بل هو على الانقسام وسيأتي تفصيله في الأعمال فإذا فزع المتوكل إلى حوله وقوته في الحضور والإحضار لا يناقض التوكل لأنه يعلم أنه لولا الوكيل لكان حضوره وإحضاره باطلاً وتعباً محضاً بلا جدوى فإذن لا يصير مفيداً من حيث إنه حوله وقوته بل من حيث إن الوكيل جعله معتمداً لمحاجته وعرفه ذلك بإشارته وسنته فإذن لا حول ولا قوة إلا بالوكيل إلا أن هذه الكلمة لا يكمل معناها في حق الوكيل لأنه ليس خالقاً حوله وقوته بل هو جاعل لهما مفيدين في أنفسهما ولم يكونا مفيدين لولا فعله وإنما يصدق ذلك في حق الوكيل وهو الله تعالى إذ هو خالق الحول والقوة كما سبق في التوحيد وهو الذي جعلهما مفيدين إذ جعلهما شرطاً لما سيخلقه من بعدهما من الفوائد والمقاصد فإذن لا حول ولا قوة إلا بالله حقاً وصدقاً فمن شاهد هذا كله كان له الثواب العظيم الذي وردت به الأخبار فيمن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله (1) وذلك قد يستبعد فيقال كيف يعطى هذا الثواب كله بهذه الكلمة مع سهولتها على اللسان وسهولة اعتقاد القلب بمفهوم لفظها وهيهات فإنما ذلك جزاء على هذه المشاهدة التي ذكرناها في التوحيد ونسبة هذه الكلمة وثوابها إلى كلمة {لا إله إلا الله} وثوابها كنسبة معنى إحداهما إلى الأخرى إذ في هذه الكلمة إضافة إلى شيئين إلى الله تعالى فقط وهما الحول والقوة وأما كلمة لا إله إلا الله فهو نسبة الكل إليه فانظر إلى التفاوت بين الكل وبين شيئين لتعرف به ثواب {لا إله إلا الله} بالإضافة إلى هذا وكما ذكرنا من قبل أن للتوحيد قشرين ولبين فكذلك لهذه الكلمة ولسائر الكلمات وأكثر الخلق قيدوا بالقشرين وما طرقوا إلى اللبين وإلى اللبين الإشارة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ لَا إله إلا الله
_________
(1) أحاديث ثواب قول لا حول ولا قوة إلا بالله تقدمت فى الدعوات(4/262)
صادقاً من قلبه مخلصاً وجبت له الجنة (1) وحيث أطلق من غير الصدق والإخلاص أراد بالمطلق هذا المقيد كما أضاف المغفرة إلى الإيمان والعمل الصالح في بعض المواضع وأضافها إلى مجرد الإيمان في بعض المواضع والمراد به المقيد بالعمل الصالح فالملك لا ينال بالحديث وحركة اللسان حديث وعقد القلب أيضاً حديث ولكنه حديث نفس وإنما الصدق والإخلاص وراءهما ولا ينصب سرير الملك إلا للمقربين وهم المخلصون نعم لمن يقرب منهم في الرتبة من أصحاب اليمين أيضاً درجات عند الله تعالى وإن كانت لا تنتهي إلا بالملك أما ترى أن الله سبحانه لما ذكر في سورة الواقعة المقربين السابقين تعرض لسرير الملك فقال {على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين} ولما انتهى إلى أصحاب اليمين ما زاد في ذكر الماء والظل والفواكه والأشجار والحور العين وكل ذلك من لذات المنظور والمشروب والمأكول والمنكوح ويتصور ذلك للبهائم على الدوام وأين لذات البهائم من لذة الملك والنزول في أعلى عليين في جوار رب العالمين ولو كان لهذه اللذات قدر لما وسعت على البهائم ولما رفعت عليها درجة الملائكة أفترى أن أحوال البهائم وهي مسيبة في الرياض متنعمة بالماء والأشجار وأصناف المأكولات متمتعة بالنزوان والسفاد أعلى وألذ وأشرف وأجدر بأن تكون عند ذوي الكمال مغبوطة من أحوال الملائكة في سرورهم بالقرب من جوار رب العالمين في أعلى عليين هيهات هيهات ما أبعد عن التحصيل من إذا خير بين أن يكون حماراً أو يكون في درجة جبريل عليه السلام فيختار درجة الحمار على درجة جبريل عليه السلام وليس يخفى أن شبه كل شيء منجذب إليه وأن النفس التي نزوعها إلى صنعة الأساكفة أكثر من نزوعها إلى صنعة الكتابة فهو بالأساكفة أشبه في جوهره منه بالكتاب وكذلك من نزوع نفسه إلى نيل لذات البهائم أكثر من نزوعها إلى نيل لذات الملائكة فهو بالبهائم أشبه منه بالملائكة لا محالة وهؤلاء هم الذين يقال فيهم {أولئك كالأنعام بل هم أضل} وإنما كانوا أضل لأن الأنعام ليس في قوتها طلب درجة الملائكة فتركها الطلب للعجز وأما الإنسان ففي قوته ذلك والقادر على نيل الكمال أحرى بالذم وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن طلب الكمال وإذا كان هذا كلاماً معترضاً فلنرجع إلى المقصود فقد بينا معنى قول {لا إله إلا الله} ومعنى قول لا حول ولا قوة إلا بالله وإن من ليس قائلاً بهما عن مشاهدة فلا يتصور منه حال التوكل
فإن قلت ليس في قولك لا حول ولا قوة إلا بالله إلا نسبة شيئين إلى الله فلو قال قائل السماء والأرض خلق الله فهل يكون ثوابه مثل ثوابه فأقول لا لأن الثواب على قدر درجة المثاب عليه ولا مساواة بين الدرجتين ولا ينظر إلى عظم السماء والأرض وصغر الحول والقوة إن جاز وصفهما بالصغر تجوزا فليست الأمور بعظم الأشخاص بل كل عامي يفهم أن الأرض والسماء ليستا من جهة الآدميين بل هما من خلق الله تعالى فأما الحول والقوة فقد أشكل أمرهما على المعتزلة والفلاسفة وطوائف كثيرة ممن يدعي أنه يدقق النظر في الرأي والمعقول حتى يشق الشعر بحدة نظره فهي مهلكة مخطرة ومزلة عظيمة هلك فيها الغافلون إذ أثبتوا لأنفسهم أمراً وهو شرك في التوحيد وإثبات خالق سوى الله تعالى فمن جاوز هذه العقبة بتوفيق الله تعالى إياه فقد علت رتبته وعظمت درجته فهو الذي يصدق قول لا حول ولا قوة إلا بالله وقد ذكرنا أنه ليس في التوحيد إلا عقبتان إحداهما النظر
_________
(1) حديث من قال لا إله إلا الله صادقا مخلصا من قلبه وجبت له الجنة رواه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وأبو يعلى من حديث أبي هريرة وقد تقدم(4/263)
إلى السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والغيم والمطر وسائر الجمادات والثانية النظر إلى اختيار الحيوانات وهي أعظم العقبتين وأخطرهما وبقطعهما كمال سر التوحيد فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعني ثواب المشاهدة التي هذه الكلمة ترجمتها فإذا رجع حال التوكل إلى التبري من الحول والقوة والتوكل على الواحد الحق وسيتضح عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى
بيان ما قاله الشيوخ في أحوال التوكل
ليتبين أن شيئاً منها لا يخرج عما ذكرنا ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال فقد قال أبو موسى الديلي قلت لأبي يزيد ما التوكل فقال ما تقول أنت قلت إن أصحابنا يقولون لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك فقال أبو يزيد نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ثم وقع بك تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل وهو المقام الثالث وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذي هو من أصول التوكل وهو العلم بالحكمة وأن ما فعله الله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل النار وأهل الجنة بالإضافة إلى أصل العدل والحكمة وهذا أغمض أنواع العلم ووراءه سر القدر وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات وليس ترك الاحتراز عن الحيات شرطاً في المقام الأول من التوكل فقد احترز أبو بكر رضي الله عنه في الغار إذ سد منافذ الحيات (1) إلا أن يقال فعل ذلك برجله ولم يتغير بسببه سره أو يقال إنما فعل ذلك شفقة في حق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا في حق نفسه وإنما يزول التوكل بتحرك سره وتغيره لأمر يرجع إلى نفسه وللنظر في هذا مجال ولكن سيأتي بيان أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل فإن حركة السر من الحيات هو الخوف وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته في الاحتراز بل على خالق الحول والقوة والتدبير
وسئل ذو النون المصري عن التوكل فقال خلع الأرباب وقطع الأسباب فخلع الأرباب إشارة إلى علم التوحيد وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال وليس فيه تعرض صريح للحال وإن كان اللفظ يتضمنه فقيل له زدنا فقال إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية وهذا إشارة إلى التبري من الحول والقوة فقط
وسئل حمدون القصار عن التوكل فقال إن كان لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك لها وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة القدرة وأن في المقدورات أسباباً خفية سوى هذه الأسباب الظاهرة
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال التعلق بالله تعالى في كل حال فقال السائل زدني فقال ترك كل سبب يوصل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك فالأول عام للمقامات الثلاث والثاني إشارة إلى المقام الثالث خاصة وهو مثل توكل إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال له جبريل عليه السلام ألك حاجة فقال أما إلبك فلا إذ كان سؤاله سبباً يفضي إلى سبب وهو حفظ جبريل له فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن أراد سخر جبريل لذلك فيكون هو المتولي لذلك وهذا حال مبهوت غائب عن نفسه بالله تعالى فلم ير معه غيره
_________
(1) حديث إن أبا بكر سد منافذ الحيات فى الغار شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم تقدم(4/264)
وهو حال عزيز في نفسه ودوامه إن وجد أبعد منه وأعز
وقال أبو سعيد الخراز التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب ولعله يشير إلى المقام الثاني فسكونه بلا اضطراب إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به واضطراب بلا سكون إشارة إلى فزعه إليه وابتهاله وتضرعه بين يديه كاضطراب الطفل بيديه إلى أمه وسكون قلبه إلى تمام شفقتها
وقال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده والمسلم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه وهذا إشارة إلى تفاوت درجات نظره بالإضافة إلى المنظور إليه فإن العلم هو الأصل والوعد يتبعه والحكم يتبع الوعد ولا يبعد أن يكون الغالب على قلب المتوكل ملاحظة شيء من ذلك وللشيوخ في التوكل أقاويل سوى ما ذكرناه فلا نطول بها فإن الكشف أنفع من الرواية والنقل فهذا ما يتعلق بحال التوكل والله الموفق برحمته ولطفه
بيان أعمال المتوكلين
اعلم أن العلم يورث الحال والحال يثمر الأعمال وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم وهذا ظن الجهال فإن ذلك حرام في الشرع والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين بل نكشف الغطاء عنه ونقول إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده وسعي العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادخار أو لدفع ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع أو لإزالة ضار قد نزل به كالتداوي من المرض فمقصود حركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة وهو جلب النافع أو حفظه أو دفع الضار أو قطعه فلنذكر شروط التوكل ودرجاته في كل واحد منها مقروناً بشواهد الشرع الفن الأول في جلب النافع فنقول فيه الأسباب التي بها يجلب النافع على ثلاث درجات مقطوع به ومظنون ظناً يوثق به وموهوم وهماً لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه الدرجة الأولى المقطوع به وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف كما أن الطعام إذا كان موضوعاً بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل وشرط التوكل ترك السعي ومد اليد إليه سعي وحركة وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء فإنك إن انتظرت أن يخلق الله تعالى فيك شبعا دون الخبز أو يخلق في الخبز حركة إليك أو يسخر ملكاً ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه أليس التوكل في هذا المقام بالعمل بل بالحال والعلم أما العلم فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة وأنه هو الذي يطعمك ويسقيك وأما الحال فهو أن يكون سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام وكيف تعتمد على صحة يدك وربما تجف في الحال وتفلج وكيف تعول على قدرتك وربما يطرأ عليك في الحال ما يزيل عقلك ويبطل قوة حركتك وكيف تعول على حضور الطعام وربما يسلط الله تعالى(4/265)
من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن مكانك وتفرق بينك وبين طعامك وإذا احتمل أمثال ذلك ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله تعالى فبذلك فلتفرح وعليه فلتعول فإذا كان هذا حاله وعلمه فليمد اليد فإنه متوكل الدرجة الثانية الأسباب التي ليست متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها وكان احتمال حصولها دونها بعيداً كالذي يفارق الأمصار والقوافل ويسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً ويكون سفره من غير استصحاب زاد فهذا ليس شرطاً في التوكل بل استصحاب الزاد في البوادي سنة الأولين ولا يزول التوكل به بعد أن يكون الاعتماد على فضل الله تعالى لا على الزاد كما سبق ولكن فعل ذلك جائز وهو من أعلى مقامات التوكل ولذلك كان يفعله الخواص
فإن قلت فهذا سعي في الهلاك وإلقاء النفس في التهلكة فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراماً بشرطين أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على الصبر عن الطعام أسبوعاً وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق قلب وتشوش خاطر وتعذر في ذكر الله تعالى والثاني أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء الخسيسة فبعد هذين الشرطين لا يخلو في غالب الأمر في البوادي في كل أسبوع عن أن يلقاه آدمي أو ينتهي إلى حلة أو قرية أو إلى حشيش يجتزئ به فيحيا به مجاهداً نفسه والمجاهدة عماد التوكل وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين والدليل عليه أن الخواص كان لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ويقول هذا لا يقدح في التوكل وسببه أنه علم أن البوادي لا يكون الماء فيها على وجه الأرض وما جرت سنة الله تعالى بصعود الماء من البئر بغير دلو ولا حبل ولا يغلب وجود الحبل والدلو في البوادي كما يغلب وجود الحشيش والماء يحتاج إليه لوضوئه كل يوم مرات ولعطشه في كل يوم أو يومين مرة فإن المسافر مع حرارة الحركة لا يصبر عن الماء وإن صبر عن الطعام وكذلك يكون له ثوب واحد وربما يتخرق فتنكشف عورته ولا يوجد المقراض والإبرة في البوادي غالباً عند كل صلاة ولا يقوم مقامهما في الخياطة والقطع شيء مما يوجد في البوادي فكل ما في معنى الأربعة أيضاً يلتحق بالدرجة الثانية لأنه مظنون ظناً ليس مقطوعاً به لأنه يحتمل أن لا يتخرق الثوب أو يعطيه إنسان ثوباً أو يجد على رأس البئر من يسقيه ولا يحتمل أن يتحرك الطعام ممضوغاً إلى فيه فبين الدرجتين فرقان ولكن الثاني في معنى الأول ولهذا نقول لو انحاز إلى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلاً فهو آثم به ساع في هلاك نفسه كما روي أن زاهداً من الزهاد فارق الأمصار وأقام في سفح جبل سبعاً وقال لا أسأل أحداً شيئاً حتى فائتني ربي برزقي فقعد سبعة فكاد يموت ولم يأته رزق فقال يا رب إن أحييتني فائتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك فأوحى الله جل ذكره إليه وعزتي لا أرزقنك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس فدخل المصر وقعد فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب وأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا أما علمت أني أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من أن أرزقه بيد قدرتي فإذن التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل كما ضربناه مثلاً في الوكيل بالخصومة من قبل ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة وإلى خفية فمعنى التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى السبب(4/266)
فإن قلت ما قولك في القعود في البلد بغير كسب أهو حرام أو مباح أو مندوب فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكاً نفسه فهذا كيف كان لم يكن مهلكاً نفسه حتى يكون فعله حراماً بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه والصبر ممكن إلى أن يتفق ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له ولكن ليس فعله حراماً إلا أن يشرف على الموت فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس ولا متطلع إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزقه بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكل وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم برزقه فإن الرزق يأتيه لا محالة وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء وهو أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب وكان عاصياً ولقال له يا جاهل كيف أخلقك ولا أرزقك ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما اختلف الناس في كل شيء إلا في الرزق والأجل فإنهم أجمعوا على أن لا رزاق ولا مميت إلا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطاناً ولزالت بدعائكم الجبال (1) وقال عيسى عليه السلام انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله تعالى يرزقها يوماً بيوم فإن قلتم نحن أكبر بطوناً فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الحق للرزق وقال أبو يعقوب السوسي المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم وغيرهم مشغولون مكدودون وقال بعضهم العبيد كلهم في رزق الله تعالى ولكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار وبعضهم بامتهان كالصناع وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها وهو الذي فيه الناس كلهم أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتساباً مباحاً لمال مباح فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل وهذا مثل الأسباب التي نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطير والكي بالإضافة إلى إزالة الضار فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المتوكلين بذلك ولم يصفهم بأنهم لا يكتسبون ولا يسكنون الأمصار ولا يأخذون من أحد شيئاً بل وصفهم بأنهم يتعاطون هذه الأسباب وأمثال هذه الأسباب التي يوثق بها في المسببات مما يكثر فلا يمكن إحصاؤها وقال سهل في التوكل إنه ترك التدبير وقال إن الله خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه وإنما حجابهم بتدبيرهم ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهي التي تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية فإذن قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل وإلى ما لا يخرج وأن الذي يخرج ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون وأن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه وهو الاتكال على مسبب الأسباب فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل وأما المظنونات
_________
(1) حديث لو توكلتم على الله حق توكله الحديث وزاد فى آخره ولزالت بدعائكم الجبال وقد تقدما قريبا دون هذه الزيادة فرواها الإمام محمد بن نصر فى كتاب تعظيم قدر الصلاة من حديث معاذ بن جبل بإسناد فيه لين لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ورواه البيهقى فى الزهد من رواية وهيب المكى مرسلا دون قوله لمشيتم على البحور وقال هذا منقطع(4/267)
فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعاً والمتوكلون في ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات الأول مقام الخواص ونظرائه وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فرقه أو تيسير حشيش له أو قوت أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك فإن الذي يحمل الزاد قد يفقد الزاد أو يضل بعيره ويموت جوعاً فذلك ممكن مع الزاد كما أنه يمكن مع فقده المقام الثاني أن يقعد في بيته أو في مسجد ولكنه في القرى والأمصار وهذا أضعف من الأول لكنه أيضاً متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة معول على فضل الله تعالى في تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية ولكنه بالقعود في الأمصار متعرض لأسباب الرزق فإن ذلك من الأسباب الجاية إلا أن ذلك لا يبطل توكله إذا كان نظره إلى الذي يسخر له سكان البلد لإيصال رزقه إليه لا إلى سكان البلد إذ يتصور أن يغفل جميعهم عنه ويضيعوه لولا فضل الله تعالى بتعريفهم وتحريك دواعيهم المقام الثالث أن يخرج ويكتسب اكتساباً على الوجه الذي ذكرناه في الباب الثالث والرابع من كتاب آداب الكسب وهذا السعي لا يخرجه أيضاً عن مقامات التوكل إذا لم يكن طمأنينة نفسه إلى كفايته وقوته وجاهه وبضاعته فإن ذلك ربما يهلكه الله تعالى جميعه في لحظة بل يكون نظره إلى الكفيل الحق بحفظ جميع ذلك وتيسير أسبابه له بل يرى كسبه وبضاعته وكفايته بالإضافة إلى قدرة الله تعالى كما يرى القلم في يد الملك الموقع فلا يكون نظره إلى القلم بل إلى قلب الملك أنه بماذا يتحرك وإلى ماذا يميل وبم يحكم ثم إن كان هذا المكتسب مكتسباً لعياله أو ليفرق على المساكين فهو ببدنه مكتسب وبقلبه عنه منقطع فحال هذا أشرف من حال القاعد في بيته والدليل على أن الكسب لا ينافي حال التوكل إذا روعيت فيه الشروط وانضاف إليه الحال والمعرفة كما سبق أن الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة أصبح آخذاً الأثواب تحت حضنه والذراع بيده ودخل السوق ينادي حتى كرهه المسلمون وقالوا كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة فقال لا تشغلوني عن عيالي فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت أهلبيت من المسلمين فلما رضوا بذلك رأى مساعدتهم وتطييب قلوبهم واستغراق الوقت بمصالح المسلمين أولى ويستحيل أن يقال لم يكن الصديق في مقام التوكل فمن أولى بهذا المقام منه فدل على أنه كان متوكلاً لا باعتبار ترك الكسب والسعي بل باعتبار قطع الالتفات إلى قوته وكفايته والعلم بأن الله هو ميسر الاكتساب ومدبر الأسباب وبشروط كان يراعيها في طريق الكسب من الاكتفاء بقدر الحاجة من غير استكثار وتفاخر وادخار ومن غير أن يكون درهمه أحب إليه من درهم غيره فمن دخل السوق ودرهمه أحب إليه من درهم غيره فهو حريص على الدنيا ومحب لها ولا يصح التوكل إلا مع الزهد في الدنيا نعم يصح الزهد دون التوكل فإن التوكل مقام وراء الزهد وقال أبو جعفر الحداد وهو شيخ الجنيد رحمة الله عليها وكان من المتوكلين أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت السوق كنت أكتسب في كل يوم ديناراً ولا أبيت منه دانقاً ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام بل أخرجه كله قبل الليل وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرته وكان يقول أستحي أن أتكلم في مقامه وهو حاضر عندي واعلم أن الجلوس في رباطات الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف ولكن يقوى بالحال والعلم كتوكل المكتسب وإن لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل(4/268)
إليهم فهذا أقوى في توكلهم لكنه بعد اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقاً فهو كدخول السوق ولا يكون داخل السوق متوكلاً إلا بشروط كثيرة كما سبق
فإن قلت فما الأفضل أن يقعد في بيته أو يخرج ويكتسب فاعلم أنه إن كان يتفرغ بترك الكسب لفكر وذكر وإخلاص واستغراق وقت بالعبادة وكان الكسب يشوش عليه ذلك وهو مع هذا لا تستشرف نفسه إلى الناس في انتظار من يدخل عليه فيحمل إليه شيئاً بل يكون قوي القلب في الصبر والاتكال على الله تعالى فالمقصود له أولى وإن كان يضطرب قلبه في البيت ويستشرف إلى الناس فالكسب أولى لأن استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب وتركه أهم من ترك الكسب وما كان المتوكلون يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم كان أحمد بن حنبل قد أمر أبا بكر المروزي أن يعطي بعض الفقراء شيئاً فضلاً عما كان استأجره عليه فرده فلما ولى قال له أحمد الحقه وأعطه فإنه يقبل فلحقه وأعطاه فأخذه فسأل أحمد عن ذلك فقال كان قد استشرفت نفسه فرد فلما خرج انقطع طمعه وأيس فأخذه وكان الخواص رحمه الله إذا نظر إلى عبد في العطاء أو خاف اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه شيئاً
وقال الخواص بعد أن سئل عن أعجب ما رآه في أسفاره رأيت الخضر ورضي بصحبتي ولكني فارقته خيفة أن تسكن نفسي إليه فيكون نقصاً في توكلي فإذن المكتسب إذا راعى آداب الكسب وشروط نيته كما سبق في كتاب الكسب وهو أن لا يقصد به الاستكثار ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلاً
فإن قلت فما علامة عدم اتكاله على البضاعة والكفاية فأقول علامته أنه إن سرقت بضاعته أو خسرت تجارته أو تعوق أمر من أموره كان راضياً به ولم تبطل طمأنينته ولم يضطرب قلبه بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحدا فإن من لم يسكن إلى شيء لم يضطرب لفقده ومن اضطرب لفقد شيء فقد سكن إليه وكان بشر يعمل المغازل فتركها وذلك لأن البعادي كاتبه قال بلغني أنك استعنت على رزقك بالمغازل أرأيت إن أخذ الله سمعك وبصرك الرزق على من فوقع ذلك في قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها وقيل تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها وقيل فعل ذلك لما مات عياله كما كان لسفيان خمسون ديناراً يتجر فيها فلما مات عياله فرقها
فإن قلت فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن إليها وهو يعلم أن الكسب بغير بضاعة لا يمكن فأقول بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة وأن الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل به إلا ما فيه صلاحه فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سبباً لفساد دينه وقد لطف الله تعالى به وغايته أن يموت جوعاً فينبغي أن يعتقد أن الموت جوعاً خير له في الآخرة مهما قضى الله تعالى عليه بذلك من غير تقصير من جهته فإذا اعتقد جميع ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها ففي الخبر إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه فيصبح كئيباً حزيناً يتطير بجاره وابن عمه من سبقني من دهاني وما هي إلا رحمة رحمه الله بها (1) ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيرا فإنى قلبه فأخرج آلة المغازلة من يده وتركها وقيل تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها وقيل فعل ذلك لما مات عياله كما كان لسقيان خمسون ديناراً يتجر فيها فلما مات عياله فرقها
فإن قلت فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن غليها وهو يعلم أن الكسب بغير بضاعة لا يمكن فأقول بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة وأن الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل به إلا ما فيه صلاحه فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سبباً لفساد دينه وقد لطف الله تعالى به وغايته أن يموت جوعاً فينبغي أن يعتقد أن الموت جوعاً خير له في الآخرة مهما قضى الله تعالى عليه بذلك من غير تقصير من جهته فإذا اعتقد جميع ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها ففي الخبر إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه فيصبح كثيبا حزينا بجاره وابن عمه من سبقني من دهاني وما هي إلا رحمة رحمه الله بها (2) ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيرا فإنى
_________
(1) حديث إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه الحديث أخرجه أبو نعيم فى الحلية من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا نحوه إلا أنه قال إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا الحديث بنحوه
(2) حديث غن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه الحديث أخرجه ابو نعيم فى الحلية من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا نحوه إلا أنه قال إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا الحديث بنحوه(4/269)
لا أدري أيهما خير لي ومن لم يتكامل يقينه بهذه الأمور لم يتصور منه التوكل ولذلك قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري لي من كل مقام نصيب إلا من هذا التوكل المبارك فإني ما شممت منه رائحة هذا كلامه مع علو قدره ولم ينكر كونه من المقامات الممكنة ولكنه قال ما أدركته ولعله أراد إدراك أقصاه وما لم يكمل الإيمان بأن لا فاعل إلا الله ولا رازق سواه وأن كل ما يقدره على العبد من فقر وغنى وموت وحياة فهو خير له مما يتمناه العبد لم يكمل حال التوكل فبناء التوكل على قوة الإيمان بهذه الأمور كما سبق وكذا سائر مقامات الدين من الأقوال والأعمال تنبني على أصولها من الإيمان وبالجملة التوكل مقام مفهوم ولكن يستدعي قوة القلب وقوة اليقين ولذلك قال سهل من طعن على التكسب فقد طعن على السنة ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد
فإن قلت فهل من دواء ينتفع به في صرف القلب عن الركون إلى الأسباب الظاهرة وحسن الظن بالله تعالى في تيسير الأسباب الخفية فأقول نعم هو أن تعرف أن سوء الظن تلقين الشيطان وحسن الظن تلقين الله تعالى قال الله تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً فإن الإنسان بطبعه مشغوف بسماع تخويف الشيطان ولذلك قيل الشفيق بسوء الظن مولع وإذا انضم إليه الجبن وضعف القلب ومشاهدة المتكلين على الأسباب الظاهرة والباعثين عليها غلب سوء الظن وبطل التوكل بالكلية بل رؤية الرزق من الأسباب الخفية أيضاً تبطل التوكل فقد حكي عن عابد أنه عكف في مسجد ولم يكن له معلوم فقال له الإمام لو اكتسبت لكان أفضل لك فلم يجبه حتى أعاد عليه ثلاثاً فقال في الرابعة يهودي في جوار المسجد قد ضمن لي كل يوم رغيفين فقال إن كان صادقاً في ضمانه فعكوفك في المسجد خير لك فقال يا هذا لو لم تكن إماماً تقف بين يدي الله وبين العباد مع هذا النقص في التوحيد كان خيراً لك إذ فضلت وعد يهودي على ضمان الله تعالى بالرزق وقال إمام المسجد لبعض المصلين من أين تأكل فقال يا شيخ اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك
وينفع حسن الظن بمجيء الرزق من فضل الله تعالى بواسطة الأسباب الخفية أن تسمع الحكايات التي فيها عجائب صنع الله تعالى في وصول الرزق إلى صاحبه وفيها عجائب قهر الله تعالى في إهلاك أموال التجار والأغنياء وقتلهم جوعاً كما روي عن حذيفة المرعشي وقد كان خدم إبراهيم بن أدهم فقيل له ما أعجب ما رأيت منه فقال بقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً ثم دخلنا الكوفة فأوينا إلى مسجد خراب فنظر إلي إبراهيم وقال يا حذيفة أرى بك الجوع فقلت هو ما رأى الشيخ فقال علي بدواة وقرطاس فجئت به إليه فكتب بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال والمشار إليه بكل معنى وكتب شعراً
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا ضائع أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من دخول النار
ثم دفع إلي الرقعة فقال اخرج ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك فخرجت فأول من لقيني كان رجلاً على بغلة فناولته الرقعة فأخذها فلما وقف عليها بكى وقال ما فعل صاحب هذه الرقعة فقلت هو في المسجد الفلاني فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار ثم لقيت رجلاً آخر فسألته عن راكب البغلة(4/270)
فقال هذا نصراني فجئت إلى إبراهيم وأخبرته بالقصة فقال لا تمسها فإنه يجيىء الساعة فلما كان بعد ساعة دخل النصراني وأكب على رأس إبراهيم يقبله وأسلم
وقال أبو يعقوب الأقطع البصرى جعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً فحدثتني نفسي بالخروج فخرجت إلى الوادي لعلي أجد شيئاً يسكن ضعفي فرأيت سلجمة مطروحة فأخذتها فوجدت في قلبي منها وحشة وكأن قائلاً يقول لي جعت عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة متغيرة فرميت بها ودخلت المسجد وقعدت فإذا أنا برجل أعجمي قد أقبل حتى جلس بين يدي ووضع قمطرة وقال هذه لك فقلت كيف خصصتني بها قال اعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة أيام وأشرفت السفينة على الغرق فنذرت إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على على أول من يقع عليه بصري من المجاورين وأنت أول من لقيته فقلت افتحها ففتحتها فإذا فيها سميد مصري ولوز مقشور وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت رد الباقي إلى أصحابك هدية مني إليكم وقد قبلتها ثم قلت في نفسي رزقك يسير إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي
وقال ممشاد الدينوري كان علي دين فاشتغل قلبي بسببه فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من الدين خذ عليك الأخذ وعلينا العطاء فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصاباً ولا غيرهما
وحكي عن بنان الحمال قال كنت في طريق مكة أجيء من مصر ومعي زاد فجاءتني امرأة وقالت لي يابنات أنت حمال تحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك قال فرميت بزادي ثم أتى علي ثلاث لم آكل فوجدت خلخالاً في الطريق فقلت في نفسي أحمله حتى يجئ صاحبه فربما يعطيني شيئاً فأرده عليه فإذا أنا بتلك المرأة فقالت لي أنت تاجر تقول عسى يجيئ صاحبه فآخذ منه شيئاً ثم رمت لي شيئاً من الدراهم وقالت أنفقها فاكتفيت بها إلى قريب مكة
وحكي أن بناناً احتاج إلى جارية تخدمه فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها وقالوا هو ذا يجيئ النفير فنشتري ما يوافق فلما ورد النفير اجتمع رأيهم على واحدة وقالوا إنها تصلح له فقالوا لصاحبها بكم هذه فقال إنها ليست للبيع فألحوا عليه فقال إنها لبنان الحمال أهدتها إليه امرأة من سمرقند فحملت إلى بنان وذكرت له القصة
وقيل كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص فقال إن أكلته مت فركل الله عز وجل به ملكاً وقال إن أكله فارزقه وإن لم يأكله فلا تعطه غيره فلم يزل القرص معه إلى أن مات ولم يأكله وبقي القرص عنده
وقال أبو سعيد الخراز دخلت البادية بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت ثم فكرت في نفسي أني سكنت واتكلت على غيره وآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها فحفرت لنفسي في الرمل حفرة واريت جسدي فيها إلى صدري فسمعت صوتاً في نصف الليل عالياً يا أهل المرحلة إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فألحقوه فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية
وروي أن رجلاً لازم باب عمر رضي الله عنه فإذا هو بقائل يقول يا هذا هاجرت إلى عمر أو إلى الله تعالى اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر فذهب الرجل وغاب حتى افتقده عمر فإذا هو قد اعتزل واشتغل بالعبادة فجاءه عمر فقال له إني قد اشتقت إليك فما الذي شغلك عني فقال إني قرأت القرآن فأغناني(4/271)
عن عمر وآل عمر فقال عمر
رحمك الله فماالذي وجدت فيه فقال وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون فقلت رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض فبكى عمر وقال صدقت فكان عمر بعد ذلك يأتيه ويجلس إليه
وقال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث فقلت لا والله لا أستغيث فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر تعالى حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه أحد فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر فهممت أن أصيح فقلت في نفسي إلى من أصيح هو أقرب منهما وسكنت فبينا أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك فتعلقت به فأخرجني فإذا هو سبع فمر وهتف بي هاتف يا أبا حمزة أليس هذا أحسن نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا أقول
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى ... وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمري فأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لى بالغيب حتى كأنما ... تبشرني بالغيب أنك في الكف
أراك وبي من هيبتي لك وحشة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
وأمثال هذه الوقائع مما يكثر وإذا قوي الإيمان به وانضم إليه القدرة على الجوع قدر أسبوع من غير ضيق صدر وقوي الإيمان بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير له عند الله عز وجل ولذلك حبسه عنه تم التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات وإلا فلا يتم أصلاً
بيان توكل المعيل
اعلم أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد لأن المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين أحدهما قدرته على الجوع أسبوعاً من غير استشراف وضيق نفس والآخر أبواب من الإيمان ذكرناها من جملتها أن يطيب نفساً بالموت إن لم يأته رزقه علماً بأن رزقه الموت والجوع وهو إن كان نقصاً في الدنيا فهو زيادة في الآخرة فيرى أنه سيق إليه خير الرزقين له وهو رزق الآخرة وأن هذا هو المرض الذي به يموت ويكون راضياً بذلك وأنه كذا قضي وقدر له فبهذا يتم التوكل المنفرد ولا يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادراً وكذا سائر أبواب الإيمان فإذن لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب وهو المقام الثالث كتوكل أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ خرج للكسب فأما دخول البوادي وترك العيال توكلاً في حقهم أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلاً في حقهم فهذا حرام وقد يفضي إلى هلاكهم ويكون هو مؤاخذاً بهم بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقاً وغنيمة في الآخرة فله أن يتوكل في حقهم ونفسه أيضاً عيال عنده ولا يجوز له أن يضيعها إلا أن تساعده على الصبر على الجوع مدة فإن كان لا يطيقه ويضطرب عليه قلبه وتتشوش عليه عبادته لم يجز له التوكل ولذلك روي أن أبا تراب النخشبي نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام فقال له لا يصلح لك التصوف الزم السوق أي لا تصوف إلا مع التوكل(4/272)
ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام أكثر من ثلاثة أيام وقال أبو علي الروذباري إذا قال الفقير بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالعمل والكسب فإن بدنه عياله وتوكله فيما يضر ببدنه كتوكله في عياله وإنما يفارقهم في شيءواحد وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع وليس له ذلك في عياله وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعاً عن الأسباب بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادراً وملازمة البلاد والأمصار أو ملازمة البوادي التي لا تخلو عن حشيش وما يجري مجراه فهذه كلها أسباب البقاء ولكن مع نوع من الأذى إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر والتوكل في الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي وكل ذلك ذلك من الأسباب إلا أن الناس عدلوا إلى أسباب أظهر منها فلم يعدوا تلك أسباباً وذلك لضعف إيمانهم وشدة حرصهم وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة واستيلاء الجبن على قلوبهم بإساءة الظن وطول الأمل ومن نظر في ملكوت السموات والأرض انكشف له تحقيقاً أن الله تعالى دبر الملك والملكوت تدبيراً لا يجاوز العبد رزقه وإن ترك الاضطراب فإن العاجز عن الاضطراب لم يجاوزه رزقه أما ترى الجنين في بطن أمه لما أن كان عاجزاً عن الاضطراب كيف وصل سرته بالأم حتى تنتهي إليه فضلات غذاء الأم بواسطة السرة ولم يكن ذلك بحيلة الجنين ثم لما انفصل سلط الحب والشفقة على الأم لتتكفل به شاءت أم أبت اضطراراً من الله تعالى إليه بما أشعل في قلبها من نار الحب ثم لما لم يكن له سن يمضغ به الطعام جعل رزقه من اللبن الذي لا يحتاج إلى المضغ ولأنه لرخاوة مزاجه كان لا يحتمل الغذاء الكثيف فأدر له اللبن اللطيف في ثدي الأم عند انفصاله على حسب حاجته أفكان هذا بحيلة الطفل أو بحيلة الأم إذا صار بحيث يوافقه الغذاء الكثيف أنبت له أسناناً قواطع وطواحين لأجل المضغ فإذا كبر واستقل يسر له أسباب التعلم وسلوك سبيل الآخرة فجنبه بعد البلوغ جهل محض لأنه ما نقصت أسباب معيشته ببلوغه بل زادت فإنه لم يكن قادراً على الاكتساب فالآن قد قدر فزادت قدرته نعم كان المشفق عليه شخصاً واحداً وهي الأم أو الأب وكانت شفقته مفرطة جداً فكان يطعمه ويسقيه في اليوم مرتين وكان إطعامه بتسليط الله تعالى الحب والشفقة على قلبه فكذلك قد سلط الله الشفقة والمودة والرحمة والرقة على قلوب المسلمين بل أهل البلد كافة حتى إن كل واحد منهم إذا أحس بمحتاج تألم قلبه ورق عليه وانبعثت له داعية إلى إزالة حاجته فقد كان المشفق عليه واحداً والآن المشفق عليه ألف وزيادة وقد كانوا لا يشفقون عليه لأنهم رأوه في كفالة الأم والأب وهو مشفق خاص فما رأوه محتاجاً ولو رأوه يتيماً لسلط الله داعية الرحمة على واحد من المسلمين أو على جماعة حتى يأخذونه ويكفلونه فما رؤي إلى الآن في سني الخصب يتيم قد مات جوعاً مع أنه عاجز عن الاضطراب وليس له كافل خاص والله تعالى كافله بواسطة الشفقة التي خلقها في قلوب عباده فلماذا ينبغي أن يشتغل قلبه برزقه بعد البلوغ ولم يشتغل في الصبا وقد كان المشفق واحداً والمشفق الآن ألف نعم كانت شفقة الأم أقوى وأحظى ولكنها واحدة وشفقة آحاد الناس وإن ضعفت فيخرج من مجموعها ما يفيد الغرض فكم من يتيم قد يسر الله تعالى له حالاً هو أحسن من حال من له أب وأم فينجبر ضعف شفقة الآحاد بكثرة المشفقين وبترك التنعم والاقتصار على قدر الضرورة ولقد أحسن الشاعر حيث يقول
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزقٍ ... ويرزق في غشاوته الجنين(4/273)
فإن قلت الناس يكفلون اليتيم لأنهم يرونه عاجزاً بصباه وأما هذا فبالغ قادر على الكسب فلا يلتفتون إليه ويقولون هو مثلنا فليجتهد لنفسه فأقول إن كان هذا القادر بطالاً فقد صدقوا فعليه الكسب ولا معنى للتوكل في حقه فإن التوكل من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى فما للبطال والتوكل وإن كان مشتغلاً بالله ملازماً لمسجد أو بيت وهو مواظب على العلم والعبادة فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ولا يكلفونه ذلك بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملون إليه فوق كفايته وإنما عليه أن لا يغلق الباب ولا يهرب إلى جبل من بين الناس وما رؤي إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً ولا يرى قط بل لو أراد أن يطعم جماعة من الناس بقوله لقدر عليه فإن من كان لله تعالى كان الله عز وجل له ومن اشتغل بالله عز وجل ألقى الله حبه في قلوب الناس وسخر له القلوب كما سخر قلب الأم لولدها فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهل الملك والملكوت
فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب نعم ما دبره تدبيراً يصل إلى المشتغل به الحلو والطيور السمان والثياب الرقيقة والخيول النفيسة على الدوام لا محالة وقد يقع ذلك أيضاً في بعض الأحوال لكن دبره تدبيراً يصل إلى كل مشتغل بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش يتناوله لا محالة والغالب أنه يصل أكثر منه بل يصل ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام ولبس الثياب الناعمة وتناول الأغذية اللطيفة وليس ذلك من طريق الآخرة وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب وهو في الغالب أيضاً ليس يحصل مع الاضطراب وإنما يحصل نادرا وفي النادر أيضا قد يحصل بغير اضطراب فأثر الاضطراب ضعف عند من انفتحت بصيرته فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيراً لا يجاوز عبداً من عباده رزقه وإن سكن إلا نادراً ندوراً عظيماً يتصور مثله في حق المضطرب فإذا انكشفت هذه الأمور وكان معه قوة في القلب وشجاعة في النفس أثمر ما قاله الحسن البصري رحمه الله إذ قال وددت أن أهل البصرة في عيالي وأن حبة بدينار
وقال وهيب بن الورد لو كانت السماء نحاساً والأرض رصاصاً واهتممت برزقي لظننت أني مشرك
فإذا فهمت هذه الأمور فهمت أن التوكل مقام مفهوم في نفسه ويمكن الوصول إليه لمن قهر نفسه وعلمت أن من أنكر أصل التوكل وإمكانه أنكره عن جهل فإياك أن تجمع بين الإفلاسين الإفلاس عن وجود المقام ذوقاً والإفلاس عن الإيمان به علماً فإذن عليك بالقناعة بالنزر القليل والرضا بالقوت فإنه يأتيك لا محالة وإن فررت منه وعند ذلك على الله أن يبعث إليك رزقك على يدي من لا تحتسب فإن اشتغلت بالتقوى والتوكل شاهدت بالتجربة مصداق قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب الآية إلا أنه لم يتكفل له أن يرزقه لحم الطير ولذائذ الأطعمة فما ضمن إلا الرزق الذي تدوم به حياته وهذا المضمون مبذول لكل من اشتغل بالضامن واطمأن إلى ضمانه فإن الذي أحاط به تدبير الله من الأسباب الخفية للرزق أعظم مما ظهر للخلق بل مداخل الرزق لا تحصى ومجاريه لا يهتدى إليها وذلك لأن ظهوره على الأرض وسببه في السماء
قال الله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون وأسرار السماء لا يطلع عليها ولهذا دخل جماعة على الجنيد فقال ماذا تطلبون قالوا نطلب الرزق فقال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه
قالوا نسأل الله
قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه فقالوا ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون
فقال التوكل على التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة
وقال أحمد بن عيسى(4/274)
الخراز كنت في البادية فنالني جوع شديد فغلبتني نفسي أن أسأل الله تعالى طعاماً فقلت ليس هذا من أفعال المتوكلين فطالبتني أن أسأل الله صبرا فلما هممت بذلك سمعت هاتفاً يهتف بي ويقول
ويزعم أنه منا قريب ... وأنا لا نضيع من أتانا
ويسألنا على الإقتار جهداً ... كأنا لا نراه ولا يرانا
فقد فهمت أن من انكسرت نفسه وقوي قلبه ولم يضعف بالجبن باطنه وقوي إيمانه بتدبير الله تعالى كان مطمئن النفس أبداً واثقاً بالله عز وجل فإن أسوأ حاله أن يموت ولا بد أن يأتيه الموت كما يأتي من ليس مطمئناً فإذن تمام التوكل بقناعة من جانب ووفاء بالمضمون من جانب والذي ضمن رزق القانعين بهذه الأسباب التي دبرها صادق فاقنع وجرب تشاهد صدق الوعد تحقيقاً بما يرد عليك من الأرزاق العجيبة التي لم تكن في ظنك وحسابك ولا تكن في توكلك منتظراً للأسباب بل لمسبب الأسباب كما لا تكون منتظراً لقلم الكاتب بل لقلب الكاتب فإنه أصل حركة القلم والمحرك الأول واحد فلا ينبغي أن يكون النظر إلا إليه وهذا شرط توكل من يخوض البوادي بلا زاد أو يقعد في الأمصار وهو خامل
وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب ولا يحتسب على الدوام بل يأتيه أضعافه فتركه التوكل واهتمامه بالرزق غاية الضعف والقصور فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب فالاهتمام بالرزق قبيح بذوى الدين وهو بالعلماء أقبح لأن شرطهم القناعة والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل من كسبه فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن فإن الكسب يمنع عن السير بالفكر الباطن فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى لأنه تفرغ لله عز وجل وإعانة للمعطي على نيل الثواب ومن نظر إلى مجاري سنة الله تعالى علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب ولذلك سأل بعض الأكاسرة حكيماً عن الأحمق المرزوق والعاقل المحروم فقال أراد الصالح أن يدل على نفسه إذ لو رزق كل عاقل وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه فلما رأوا خلافه علموا أن الرازق غيرهم ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم قال الشاعر
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم
بيان أحوال المتوكلين في التعلق بالأسباب بضرب مثال
اعلم أن مثال الخلق مع الله تعالى مثل طائفة من السؤال وقفوا في ميدان على باب قصر الملك وهم محتاجون إلى الطعام فأخرج إليهم غلماناً كثيرة ومعهم أرغفة من الخبز وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين رغيفين وبعضهم رغيفاً رغيفاً ويجتهدوا في أن لا يغفلوا عن واحد منهم وأمر منادياً حتى نادى فيهم أن اسكنوا ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا إليكم بل ينبغي أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه فإن الغلمان مسخرون وهم مأمورون بأن يوصلوا إليكم طعامكم فمن تعلق بالغلمان وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا فتح باب الميدان وخرج اتبعته بغلام يكون موكلاً به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم عندي ولكن أخفيه ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد أتاه من يد الغلام وهو ساكن فإني أختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر ومن ثبت في مكانه ولكنه أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه ولا خلعة له ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئاً فبات الليلة جائعاً غير متسخط للغلمان(4/275)
ولا قائلاً ليته أوصل إلي رغيفاً فإني غداً أستوزره وأفوض ملكي إليه فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام قسم غلبت عليهم بطونهم فلم يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة وقالوا من اليوم إلى غد فرج ونحن الآن جائعون فبادروا إلى الغلمان فآذوهم وأخذوا الرغيفين فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد المذكور فندموا ولم ينفعهم الندم وقسم تركوا التعلق بالغلمان خوف العقوبة ولكن أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة وما فازوا بالخلعة وقسم قالوا إنا نجلس بمرأى من الغلمان حتى لا يخطئونا ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفاً واحداً ونقنع به فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة وقسم رابع اختفوا في زوايا الميدان وانحرفوا عن مرأى أعين الغلمان وقالوا إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد وإن أخطأونا قاسينا شدة الجوع الليلة فلعلنا نقوى على ترك التسخط فننال رتبة الوزارة ودرجة القرب عند الملك فما نفعهم ذلك إذ اتبعهم الغلمان في كل زاوية وأعطوا كل واحد رغيفاً واحداً وجرى مثل ذلك أياماً حتى اتفق على الندور أن اختفى ثلاثة في زاوية ولم تقع عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش فباتوا في جوع شديد فقال اثنان منهم ليتنا تعرضنا للغلمان وأخذنا طعامنا فلسنا نطيق الصبر وسكت الثالث إلى الصباح فنال درجة القرب والوزارة فهذا مثال الخلق والميدان هو الحياة في الدنيا وباب الميدان الموت والميعاد المجهول يوم القيامة والوعد بالوزارة هو الوعد بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعاً راضياً من غير تأخير ذلك إلى ميعاد القيامة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون والمتعلق بالغلمان هو المعتدي في الأسباب والغلمان المسخرون هم الأسباب والجالس في ظاهر الميدان بمرأى الغلمان هم المقيمون في الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون والمختفون في الزوايا هم السائحون في البوادي على هيئة التوكل والأسباب تتبعهم والرزق يأتيهم إلا على سبيل الندور فإن مات واحد منهم جائعاً راضياً فله الشهادة والقرب من الله تعالى وقد انقسم الخلق إلى هذه الأقسام الأربعة ولعل من كل مائة تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة الباقية في الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم واشتهارهم وساح في البوادي ثلاثة وتسخط منهم اثنان وفاز بالقرب واحد ولعله كان كذلك في الأعصار السالفة وأما الآن فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف
الفن الثاني في التعرض لأسباب الادخار فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب فله في الادخار ثلاثة أحوال الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت فيأكل إن كان جائعاً ويلبس إن كان عارياً ويشتري مسكناً مختصراً إن كان محتاجاً ويفرق الباقي في الحال ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به من يستحقه ويحتاج إليه فيدخره على هذه النية فهذا هو الوفي بموجب التوكل تحقيقاً وهي الدرجة العليا الحالة الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكل أن يدخر لسنة فما فوقها فهذا ليس من المتوكلين أصلاً وقد قيل لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة الفأرة والنملة وابن آدم الحالة الثالثة أن يدخر لأربعين يوماً فما دونها فهذا هل يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين اختلفوا فيه فذهب سهل إلى أنه يخرج عن حد التوكل
وذهب الخواص إلى أنه لا يخرج بأربعين يوماً ويخرج بما يزيد على الأربعين
وقال أبو طالب المكي لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضاً وهذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض التوكل فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له وكل ثواب موعود على رتبة فإنه يتوزع على تلك الرتبة وتلك الرتبة لها بداية(4/276)
ونهاية ويسمى أصحاب النهايات السابقين وأصحاب البدايات أصحاب اليمين ثم أصحاب اليمين أيضاً على درجات وكذلك السابقون وأعالي درجات أصحاب اليمين تلاصق أسافل درجات السابقين فلا معنى للتقدير في مثل هذا بل التحقيق أن التوكل بترك الادخار لا يتم إلا بقصر الأمل وأما عدم آمال البقاء فيبعد اشتراطه ولو في نفس فإن ذلك كالممتنع وجوده أما الناس فمتفاوتون في طول الأمل وقصره وأقل درجات الأمل يوم وليلة فما دونه من الساعات وأقصاه ما يتصور أن يكون عمر الإنسان وبينهما درجات لا حصر لها فمن لم يؤمل أكثر من شهر أقرب إلى المقصود ممن يؤمل سنة وتقييده بأربعين لأجل ميعاد موسى عليه السلام بعيد فإن تلك الواقعة ما قصد بها بيان مقدار مارخص الأمل فيه ولكن استحقاق موسى لنيل الموعود كان لا يتم إلا بعد أربعين يوماً لسر جرت به وبأمثاله سنة الله تعالى في تدريج الأمور كما قال عليه السلام إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً (1) لآن استحقاق تلك الطينة التخمر كان موقوفاً على مدة مبلغها ما ذكر فإذن ما وراء السنة لا يدخر له إلا بحكم ضعف القلب والركون إلى ظاهر الأسباب فهو خارج عن مقام التوكل غير واثق بإحاطة التدبير من الوكيل الحق بخفايا الأسباب فإن أسباب الدخل في الارتفاعات والزكوات تتكرر بتكرر السنين غالباً ومن ادخر لأقل من سنة فله درجة بحسب قصر أمله ومن كان أمله شهرين لم تكن درجته كدرجة من أمل شهراً ولا درجة من أمل ثلاثة أشهر بل هو بينهما في الرتبة ولا يمنع من الادخار إلا قصر الأمل فالأفضل أن لا يدخر أصلاً وإن ضعف قلبه فكلما قل ادخاره كان فضله أكثر وقد روي في الفقير الذي أمر صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه وأسامة أن يغسلاه فغسلاه وكفناه ببردته فلما دفنه قال لأصحابه إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ولولا خصلة كانت فيه لبعث ووجهه كالشمس الضاحية قلنا وما هي يا رسول الله قال كان صواماً قواماً كثير الذكر لله تعالى غير أنه كان إذا جاء الشتاء ادخر حلة الصيف لصيفه وإذا جاء الصيف ادخر حلة الشتاء لشتائه ثم قال صلى الله عليه وسلم بل أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر (2) الحديث وليس الكوز والشفرة وما يحتاج إليه على الدوام معنى ذلك فإن ادخاره لا ينقص الدرجة وأما ثوب الشتاء فلا يحتاج إليه في الصيف وهذا في حق من لا ينزعج قلبه بترك الادخار ولا تستشرف نفسه إلى أيدي الخلق بل لا يلتفت قلبه إلا إلى الوكيل الحق فإن كان يستشعر في نفسه اضطراباً يشغل قلبه عن العبادة والذكر والفكر فالادخار له أولى بل لو أمسك ضيعة يكون دخلها وافياً بقدر كفايته وكان لا يتفرغ قلبه إلا به فذلك له أولى لأن المقصود إصلاح القلب ليتجرد لذكر الله ورب شخص يشغله وجود المال ورب شخص يشغله عدمه والمحذور ما يشغل عن الله عز وجل وإلا فالدنيا في عينها غير محذورة لا وجودها ولا عدمها ولذلك بعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أصناف الخلق وفيهم التجار والمحترفون وأهل الحرف والصناعات فلم يأمر التجار بترك تجارته ولا المحترف بترك حرفته ولا أمر التارك لهما بالاشتغال بهما بل دعا الكل إلى الله تعالى وأرشدهم إلى أن فوزهم ونجاتهم في انصراف قلوبهم عن الدنيا إلى الله تعالى وعمدة الاشتغال بالله عز وجل القلب فصواب الضعيف ادخار قدر حاجته كما أن صواب القوي ترك الادخار
_________
(1) حديث خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا رواه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث ابن مسعود وسلمان الفارسي بإسناد ضعيف جدا وهو باطل
(2) حديث أنه قال في حق الفقير الذى أمر عليا أو أسامة فغسله وكفنه ببردته إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر الحديث وفي آخره من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر لم أجد له أصلا وتقدم آخر الحديث قبل هذا(4/277)
وهذا كله حكم المنفرد فأما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبراً لضعفهم وتسكيناً لقلوبهم وادخار أكثر من ذلك مبطل للتوكل لأن الأسباب تتكرر عند تكرر السنين فادخاره ما يزيد عليه سببه ضعف قلبه وذلك يناقض قوة التوكل فالمتوكل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله تعالى واثق بتدبيره دون وجود الأسباب الظاهرة وقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعياله قوت سنة (1) ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر له شيئاً لغد (2) ونهى بلالاً عن الادخار في كسرة خبز ادخرها ليفطر عليها فقال صلى الله عليه وسلم أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً (3) وقال صلى الله عليه وسلم إذا سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ (4) إقتداء بسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم وقد كان قصر أمله بحيث كان إذا بال تيمم مع قرب الماء ويقول ما يدريني لعلي لا أبلغه (5) وكان صلى الله عليه وسلم لو أخر لم ينقص ذلك من توكله إذ كان لا يثق بما ادخره ولكنه عليه السلام ترك ذلك تعليماً للأقوياء من أمته فإن أقوياء أمته ضعفاء بالإضافة إلى قوته وادخر عليه السلام لعياله سنة لا لضعف قلب فيه وفي عياله ولكن ليسن ذلك للضعفاء من أمته بل أخبر إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه (6) تطييباً لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات فما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين كلهم عليه اختلاف أصنافهم ودرجاتهم وإذا فهمت هذا علمت أن الادخار قد يضر بعض الناس وقد لا يضر ويدل على ما روى أبو أمامة الباهلي أن بعض أصحاب الصفة توفي فما وجد له كفن فقال صلى الله عليه وسلم فتشوا ثوبه فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره فقال صلى الله عليه وسلم كيتان (7) وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالاً ولا يقول ذلك في حقه وهذا يحتمل وجهين لأن حاله يحتمل حالين أحدهما أنه أراد كيتين من النار كما قال تعالى تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم وذلك إذا كان حاله إظهار الزهد والفقر والتوكل مع الإفلاس عنه فهو نوع تلبيس والثاني أن لا يكون ذلك عن تلبيس فيكون المعنى به النقصان عن درجة كماله كما ينقص من جمال الوجه أثر كيتين في الوجه وذلك لا يكون عن تلبيس فإن كل ما يخلفه الرجل فهو نقصان عن درجته في الآخرة إذ لا يؤتى أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص بقدره من الآخرة وأما بيان أن الادخار مع فراغ القلب عن المدخر ليس من ضرورته بطلان التوكل فيشهد له ما روي عن بشر قال الحسين المغازلي من أصحابه كنت عنده ضحوة من النهار فدخل عليه رجل كهل أسمر خفيف العارضين فقام إليه بشر قال وما رأيته قام لأحد غيره قال ودفع إلي كفاً من دراهم وقال اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام الطيب وما قال لي قط
_________
(1) حديث ادخر لعياله قوت سنة متفق عليه وتقدم في الزكاة
(2) حديث نهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئا لغد تقدم نهيه لأم أيمن وغيرها
(3) حديث نهى بلالا عن الادخار وقال أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً رواه البزار من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وبلال دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صبر من تمر فقال ذلك وروى أبو يعلى والطبرانى في الأوسط حديث أبي هريرة وكلها ضعيفة
وأما ما ذكره المصنف من أنه ادخر كسرة خبز فلم أره
(4) حديث قال لبلال إذا سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ رواه الطبراني والحاكم من حديث أبي سعيد وهو ثقة
(5) حديث أنه صلى الله عليه وسلم بال وتيمم مع قرب الماء ويقول ما يدريني لعلي لا أبلغه أخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل من حديث ابن عباس بسند ضعيف
(6) حديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه الحديث أخرجه أحمد والطبرانى والبيهقي من حديث أم عمر وقد تقدم
(7) حديث أبي أمامة توفى بعض أصحاب الصفة فوجدوا دينارين في داخلة إزاره فقال صلى الله عليه وسلم كيتان رواه أحمد من رواية شهر بن حوشب عنه(4/278)
مثل ذلك قال فجئت بالطعام فوضعته فأكل معه وما رأيته أكل مع غيره قال فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير فأخذه الرجل وجمعه في ثوبه وحمله معه وانصرف فعجبت من ذلك وكرهته له فقال لي بشر لعلك أنكرت فعله قلت نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن فقال ذاك أخونا فتح الموصلي زارنا اليوم من الموصل فإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار
الفن الثالث في مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأساً أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو في مجاري السيل من الوادي أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر فكل ذلك منهي عنه وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها ومظنونة وإلى موهومة فترك الموهوم منها من شرط التوكل وهي التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكى والرقية فإن الكي والرقية قد تقدم به على المحذور دفعاً لما يتوقع وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة والجبة تلبس دفعاً للبرد المتوقع وكذلك كل مافي معناها من الأسباب نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلاً عند الخروج إلى السفر في الشتاء تهييجاً لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل عليها فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة ولترك الأسباب الدافعة وإن كانت مقطوعة وجه إذا ناله الضرر من إنسان فإنه إذا أمكنه الصبر وأمكنه الدفع والتشفي فشرط التوكل الاحتمال والصبر قال الله تعالى {فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون} وقال تعالى {ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} وقال عز وجل {ودع أذاهم وتوكل على الله} وقال سبحانه تعالى فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل وقال تعالى {نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} وهذا في أذى الناس وأما الصبر على أذى الحيات والسباع والعقارب فترك دفعها ليس من التوكل في شيء إذ لا فائدة فيه ولا يراد السعي ولا يترك السعي لعينه بل لإعانته على الدين وترتب الأسباب ههنا كترتبها في الكسب وجلب المنافع فلا نطول بالإعادة وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا ينقص التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير لأن هذه أسباب عرفت سنة الله تعالى إما قطعاً وإما ظناً ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما أن أهمل البعير وقال توكلت على الله اعقلها وتوكل (1) وقال تعالى {خذوا حذركم} وقال في كيفية صلاة الخوف {وليأخذوا أسلحتهم} وقال سبحانه {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} وقال تعالى لموسى عليه السلام {فأسر بعبادي ليلاً} والتحصن بالليل اختفاءً عن أعين الأعداء ونوع تسبب واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار اختفاء عن أعين الأعداء دفعاً للضرر (2) وأخذ السلاح في الصلاة فليس دافعاً قطعاً كقتل الحية والعقرب فإنه دافع قطعاً ولكن أخذ السلاح سبب مظنون وقد بينا أن المظنون كالمقطوع وإنما الموهوم هو الذي يقتضي التوكل تركه
فإن قلت فقد حكي عن جماعة أن منهم من وضع الأسد يده على كتفه ولم يتحرك فأقول وقد حكي عن جماعة أنهم ركبوا الأسد وسخروه فلا ينبغي أن يغرك ذلك المقام فإنه وإن كان صحيحاً في نفسه فلا يصلح للاقتداء
_________
(1) حديث اعقلها وتوكل أخرجه الترمذى من حديث أنس قال يحيى القطان منكر ورواه ابن خزيمة في التوكل والطبراني من حديث عمرو بن أمية الضمرى بإسناد جيد قيدها
(2) حديث اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعين الأعداء دفعاً للضرر تقدم في قصة اختفائه في الغار عند إرادة الهجرة(4/279)
بطريق التعلم من الغير بل ذلك مقام رفيع في الكرامات وليس ذلك شرطاً في التوكل وفيه أسرار لا يقف عليها من لم ينته إليها
فإن قلت وهل من علامة أعلم بها أني قد وصلت إليها فأقول الواصل لا يحتاج إلى طلب العلامات ولكن من العلامات على ذلك المقام السابقة عليه أن يسخر لك كلب هو معك في إهابك يسمى الغضب فلا يزال يعضك ويعض غيرك فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج وأشلى لم يستشل إلا بإشارتك وكان مسخراً لك فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد الذي هو ملك السباع وكلب دارك أولى أن يكون مسخراً لك من كلب البوادي وكلب إهابك أولى بأن يتسخر من كلب دارك فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن فلا تطمع في استسخار الكلب الظاهر
فإن قلت فإذا أخذ المتوكل سلاحه حذراً من العدو وأغلق بابه حذراً من اللص وعقل بعيره حذراً من أن ينطلق فبأي اعتبار يكون متوكلاً فأقول يكون متوكلاً بالعلم والحال فأما العلم فهو أن يعلم أن اللص إن اندفع لم يندفع بكفايته في إغلاق الباب بل لم يندفع إلا بدفع الله تعالى إياه فكم من باب يغلق ولا ينفع وكم من بعير يعقل ويموت أو يفلت وكم من آخذ سلاحه يقتل أو يغلب فلا تتكل على هذه الأسباب أصلاً بل على مسبب الأسباب كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل على نفسه وسجله بل يتكل على كفاية الوكيل وقوته وأما الحال فهو أن يكون راضياً بما يقضي الله تعالى به في بيته ونفسه ويقول اللهم إن سلطت علي ما في البيت من يأخذه فهو في سبيلك وأنا راض بحكمك فإني لا أدري أن ما أعطيتني هبة فلا تسترجعها أو عارية ووديعة فتستردها ولا أدري أنه رزقي أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيري وكيفما قضيت فأنا راض به وما أغلقت الباب تحصنا من قضاؤك وتسخطاً له بل جرياً على مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب فإذا كان هذا حاله وذلك الذي ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير وأخذ السلاح وإغلاق الباب ثم إذا عاد فوجد متاعه في البيت فينبغي أن يكون ذلك عنده نعمة جديدة من الله تعالى وإن لم يجده بل وجده مسروقا نظر إلى قلبه فإن وجده راضياً أو فرحاً بذلك عالماً أنه ما أخذ الله تعالى ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة فقد صح مقامه في التوكل وظهر له صدقه وإن تألم قلبه به ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقاً في دعوى التوكل لأن التوكل مقام بعد الزهد ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات من الدنيا ولا يفرح بما يأتي بل يكون على العكس منه فكيف يصح له التوكل نعم قد يصح له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس وإن لم يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه وأظهر الشكوى بلسانه واستقصى الطلب ببدنه فقد كانت السرقة مزيداً له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات وكذبه في جميع الدعاوي فبعد هذا ينبغي أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل غرورها فإنها خداعة أمارة بالسوء مدعية للخير
فإن قلت فكيف يكون للمتوكل مال حتى يؤخذ فأقول المتوكل لا يخلوا بيته من متاع كقصعة يأكل فيها وكوز يشرب منه وإناء يتوضأ منه وجراب يحفظ به زاده وعصا يدفع بها عدوه وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه ليجد محتاجاً فيصرفه إليه فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلاً لتوكله وليس من شرط التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه والجراب الذي فيه زاده وإنما ذلك في(4/280)
المأكول وفي كل مال زائد على قدر الضرورة لأن سنة الله جارية بوصول الخير إلى الفقراء المتوكلين في زوايا المساجد وما جرت السنة بتفرقة الكيزان والأمتعة في كل يوم ولا في كل أسبوع والخروج عن سنة الله عز وجل ليس شرطاً في التوكل ولذلك كان الخواص يأخذ في السفر الحبل والركوة والمقراض والإبرة دون الزاد لكن سنة الله تعالى جارية بالفرق بين الأمرين
فإن قلت فكيف يتصور أن لا يحزن إذا أخذ متاعه الذي هو محتاج إليه ولا يتأسف عليه فإن كان لا يشتهيه فلم أمسكه وأغلق الباب عليه وإن كان أمسكه لأنه يشتهيه لحاجته إليه فكيف لا يتأذى قلبه ولا يحزن وقد حيل بينه وبين ما يشتهيه فأقول إنما كان يحفظه ليستعين به على دينه إذ كان يظن أن الخيرة له في أن يكون له ذلك المتاع ولولا أن الخيرة له فيه لما رزقه الله تعالى ولما أعطاه إياه فاستدل على ذلك بتيسير الله عز وجل وحسن الظن بالله تعالى مع ظنه أن ذلك معين له على أسباب دينه ولم يكن ذلك عنده مقطوعاً به إذ يحتمل أن تكون خيرته في أن يبتلى بفقده ذلك حتى ينصب في تحصيل غرضه ويكون ثوابه في النصب والتعب أكثر فلما أخذه الله تعالى منه بتسليط اللص تغير ظنه لأنه في جميع الأحوال واثق بالله حسن الظن به فيقول لولا أن الله عز وجل علم أن الخيرة كانت لي في وجودها إلى الآن والخيرة لي الآن في عدمها لما أخذها مني فبمثل هذا الظن يتصور أن يندفع عنه الحزن إذ به يخرج عن أن يكون فرحه بأسباب من حيث إنها أسباب بل من حيث إنه يسرها مسبب الأسباب عناية وتلطفاً وهو كالمريض بين يدي الطبيب الشفيق يرضى بما يفعله فإن قدم إليه الغذاء فرح وقال لولا أنه يعرف أن الغذاء ينفعني وقد قويت على احتماله لما قربه إلي وإن أخر عنه الغذاء بعد ذلك أيضاً فرح وقال لولا أن الغذاء يضرني ويسوقني إلى الموت لما حال بيني وبينه وكل من لا يعتقد لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الوالد المشفق الحاذق لعلم الطب فلا يصح منه التوكل أصلاً ومن عرف الله تعالى وعرف أفعاله وعرف سنته في إصلاح عباده لم يكن فرحه بالأسباب فإنه لا يدري أي الأسباب خير له كما قال عمر رضي الله عنه لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً فإني لا أدري أيهما خير لي فكذلك ينبغي أن لا يبالي المتوكل يسرق متاعه أو لا يسرق فإنه لا يدري أيهما خير له في الدنيا أو في الآخرة فكم من متاع في الدنيا يكون سبب هلاك الإنسان وكم من غني يبتلى بواقعة لأجل غناه يقول ياليتنى كنت فقيراً
بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم
للمتوكل آداب في متاع بيته إذا خرج عنه {الأول} أن يغلق الباب ولا يستقصي في أسباب الحفظ كالتماسك من الجيران الحفظ مع الغلق وكجمعه أغلاقاً كثيرة فقد كان مالك بن دينار لا يغلق بابه ولكن يشده بشريط ويقول لولا الكلاب ما شددته أيضاً الثاني أن لا يترك في البيت متاعاً يحرض عليه السراق فيكون هو سبب معصيتهم أو إمساكه يكون سبب هيجان رغبتهم ولذلك لما أهدى المغيرة إلى مالك بن دينار ركوة قال خذها لا حاجة لي إليها قال لم قال يوسوس إلي العدو أن اللص يأخذها فكأنه احترز من أن يعصي السارق ومن شغل قلبه بوسواس الشيطان بسرقتها ولذلك قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية هذا قد زهد في الدنيا فما عليه من أخذها الثالث أن ما يضطر إلى تركه في البيت ينبغي أن ينوي عند خروجه الرضا بما يقضي الله فيه من تسليط سارق عليه ويقول ما يأخذه السارق فهو منه في حل أو في سبيل الله تعالى وإن كان فقيراً فهو عليه صدقة وإن لم يشترط الفقر فهو أولى فيكون له نيتان لو أخذه غني أو فقير {إحداهما} أن يكون(4/281)
ماله مانعاً من المعصية فإنه ربما يستغني به فيتوانى عن السرقة بعده وقد زال عصيانه بأكل الحرام لما أن جعله في حل والثانية أن لا يظلم مسلماً آخر فيكون ماله فداءً لمال مسلم آخر ومهما ينوي حراسة مال غيره بمال نفسه أو ينوي دفع المعصية عن السارق أو تخفيفها عليه فقد نصح للمسلمين وامتثل قوله صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً (1) ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم وعفوه عنه إعدام للظلم ومنع له وليتحقق أن هذه النية لا تضره بوجه من الوجوه إذ ليس فيها ما يسلط السارق ويغير القصاء الأزلي ولكن يتحقق بالزهد نيته فإن أخذ ماله كان له بكل درهم سبعمائة درهم لأنه نواه وقصده وإن لم يؤخذ حصل له الأجر أيضاً كما روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها أن له أجر غلام ولد له من ذلك الجماع وعاش فقتل في سبيل الله تعالى وإن لم يولد له (2) لأنه ليس أمر الولد إلا الوقاع فأما الخلق والحياة والرزق والبقاء فليس إليه فلو خلق لكان ثوابه على فعله وفعله لم ينعدم فكذلك أمر السرقة الرابع أنه إذا وجد المال مسروقاً فينبغي أن لا يحزن بل يفرح إن أمكنه ويقول لولا أن الخيرة كانت فيه لما سلبه الله تعالى ثم إن لم يكن قد جعله في سبيل الله عز وجل فلا يبالغ في طلبه وفي إساءة الظن بالمسلمين وإن كان قد جعله في سبيل الله فيترك طلبه فإنه قد قدمه ذخيرة لنفسه إلى الآخرة فإن أعيد عليه فالأولى أن لا يقبله بعد أن كان قد جعله في سبيل الله عز وجل وإن قبله فهو في ملكه في ظاهر العلم لأن الملك لا يزول بمجرد تلك النية ولكنه غير محبوب عند المتوكلين
وقد روي أن ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا ثم قال في سبيل الله تعالى فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن ناقتك في مكان كذا فلبس نعله وقام ثم قال أستغفر الله وجلس فقيل له ألا تذهب فتأخذها فقال إني كنت قلت في سبيل الله
وقال بعض الشيوخ رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال غفر لي وأدخلني الجنة وعرض علي منازلي فيها فرأيتها قال وهو مع ذلك كئيب حزين فقلت قد غفر لك ودخلت الجنة وأنت حزين فتنفس الصعداء ثم قال نعم إني لا أزال حزيناً إلى يوم القيامة قلت ولم قال إني لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما رأيت مثلها فيما رأيت ففرحت بها فلما هممت بدخولها نادى منادي من فوقها اصرفوه عنها فليست هذه له إنما هي لمن أمضى السبيل فقلت وما إمضاء السبيل فقيل لي كنت تقول للشيء إنه في سبيل الله ثم ترجع فيه فلو كنت أمضيت السبيل لأمضينا لك
وحكي عن بعض العباد بمكة أنه كان نائماً إلى جنب رجل معه هميانه فانتبه الرجل ففقد هميانه فاتهمه به فقال له كم كان في هميانك فذكر له فحمله من البيت ووزنه من عنده ثم بعد ذلك أعلمه أصحابه أنهم كانوا أخذوا الهميان مزحاً معه فجاء هو وأصحابه معه وردوا الذهب فأبى وقال خذه حلالاً طيباً فما كنت لأعود في مال أخرجته في سبيل الله عز وجل فلم يقبل فألحوا عليه فدعا ابنه وجعل يصره صرراً ويبعث به إلى الفقراء حتى لم يبق منه شيء
فهكذا كانت أخلاق السلف وكذلك من أخذ رغيفاً ليعطيه فقيراً فغاب عنه كان يكره رده إلى البيت بعد إخراجه فيعطيه فقيراً آخر وكذلك يفعل في الدراهم والدنانير وسائر الصدقات الخامس وهو أقل الدرجات
_________
(1) حديث انصر أخاك ظالماً أو مظلوما متفق عليه من حديث أنس وقد تقدم
(2) حديث من ترك العزل وأقر النطفة قرارها كان له أجر غلام(4/282)
أن لا يدعو على السارق الذي ظلمه بالأخذ فإن فعل بطل توكله ودل ذلك على كراهته وتأسفه على ما فات وبطل زهده ولو بالغ بطل أجره أيضاً فيما أصيب به ففي الخبر من دعا على ظالمه فقد انتصر (1) وحكي أن الربيع بن خثيم سرق فرس له وكان قيمته عشرين ألفاً وكان قائماً يصلي فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه فجاءه قوم يعزونه فقال أما إني قد كنت رأيته وهو يحله قيل وما منعك أن تزجره قال كنت فيما هو أحب إلي من ذلك يعني الصلاة فجعلوا يدعون عليه فقال لا تفعلوا وقولوا خيراً فإني قد جعلتها صدقة عليه
وقيل لبعضهم في شيء قد كان سرق له ألا تدعو على ظالمك قال ما أحب أن أكون عوناً للشيطان عليه
قيل أرأيت لو رد عليك قال لا آخذه ولا أنظر إليه لأني كنت قد أحللته له
وقيل لآخر ادع الله على ظالمك فقال ماظلمنى أحد ثم قال إنما ظلم نفسه ألا يكفيه المسكين ظلم نفسه حتى أزيده شراً
وأكثر بعضهم شتم الحجاج عند بعض السلف في ظلمه فقال لا تغرق في شتمه فإن الله تعالى ينتصف للحجاج فمن انتهك عرضه كما ينتصف منه لمن أخذ ماله ودمه
وفي الخبر إن العبد كيظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتص له من المظلوم (2) السادس أن يغتم لأجل السارق وعصيانه وتعرضه لعذاب الله تعالى ويشكر الله تعالى إذ جعله مظلوماً ولم يجعله ظالماً وجعل ذلك نقصاً في دنياه لا نقصاً في دينه فقد شكا بعض الناس إلى عالم أنه قطع عليه الطريق وأخذ ماله فقال إن لم يكن لك غم أنه قد صار في المسلمين من يستحل هذا أكثر من غمك بمالك فما نصحت للمسلمين
وسرق من علي بن الفضيل دنانير وهو يطوف بالبيت فرآه أبوه وهو يبكي ويحزن فقال أعلى الدنانير تبكي فقال لا والله ولكن على المسكين أن يسئل يوم القيامة ولا تكون له حجة
وقيل لبعضهم ادع على من ظلمك فقال إني مشغول بالحزن عليه عن الدعاء عليه فهذه أخلاق السلف رضي الله عنهم أجمعين
الفن الرابع في السعي في إزالة الضرر كمداواة المرض وأمثاله اعلم أن الأسباب المزيلة للمرض أيضاً تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء المسهل وسائر أبواب الطب أعني معالجة البرودة بالحرارة والحرارة بالبرودة وهي الأسباب الظاهرة في الطب وإلى موهوم كالكي والرقية أما المقطوع فليس من التوكل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت وأما الموهوم فشرط التوكل تركه إذ به وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتوكلين وأقواها الكي ويليه الرقية والطيرة آخر درجاتها والاعتماد عليها والاتكال إليها غاية التعمق في ملاحظة الأسباب وأما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع بل قد يكون أفضل من فعله في بعض الأحوال وفي بعض الأشخاص فهي على درجة بين الدرجتين ويدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث من دعا على من ظلمه فقد انتصر تقدم
(2) حديث إن العبد ليظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه ثم يبقى للظالم عليه مطالبة الحديث تقدم(4/283)
وقوله وأمره به أما قوله فقد قال صلى الله عليه وسلم ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام (1) يعني الموت وقال عليه السلام تداووا عباد الله فإن الله خلق الداء والدواء (2) وسئل عن الدواء والرقي هل ترد من قدر الله شيئاً قال هي من قدر الله (3) وفي الخبر المشهور ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا مر أمتك بالحجامة (4) وفي الحديث أنه أمر بها وقال احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم (5) فذكر أن تبيغ الدم سبب الموت وأنه قاتل بإذن الله تعالى وبين أن إخراج الدم خلاص منه إذ لا فرق بين إخراج الدم المهلك من الإهاب وبين إخراج العقرب من تحت الثياب وإخراج الحية من البيت وليس من شرط التوكل ترك ذلك بل هو كصب الماء على النار لإطافئها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت وليس من التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلاً وفي خبر مقطوع من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء سنة (6) وأما أمره صلى الله عليه وسلم فقد أمر غير واحد من الصحابة بالتداوى وبالحمية (7) وقطع لسعد بن معاذ عرقا (8) أى فصده وكوى سعد بن زرارة (9) وقال لعلي رضي الله تعالى عنه وكان رمد العين لا تأكل من هذا يعني الرطب وكل من هذا فإنه أوفق لك (10) يعني سلقاً قد طبخ بدقيق شعير وقال لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين تأكل تمراً وأنت أرمد فقال إني آكل من الجانب الآخر فتبسم (11) وأما فعله عليه الصلاة والسلام فقد روي في حديث من طريق أهل البيت أنه كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنة (12) قيل السنا المكى
_________
(1) حديث ما من داء إلا له دواء عرفه من عرفه جهله من جهله إلا السام رواه أحمد والطبرانى من حديث ابن مسعود دون قوله إلا السام وهو عند ابن ماجه مختصرا دون قوله عرفه إلى آخره واسناد حسن وللترمذي وصححه من حديث أسامة بن شريك إلا الهرم وللطبرانى في الأوسط والبزار من حديث أبي سعيد الخدري والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس وسندهما ضعيف والبخارى من حديث أبي هريرة ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ولمسلم من حديث جابر لكل داء دواء
(2) حديث تداووا عباد الله رواه الترمذي وصححه وابن ماجه واللفظ له من حديث أسامة ابن شريك
(3) حديث سئل عن الدواء والرقي هل يرد من قدر الله فقال هي من قدر الله أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث أبي خزامة وقيل عن أبي خزامة عن أبيه قال الترمذى وهذا أصح
(4) حديث ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا مر أمتك بالحجامة رواه الترمذى من حديث ابن مسعود وقال حسن غريب ورواه ابن ماجه من حديث أنس بسند ضعيف
(5) حديث احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين الحديث أخرجه البزار من حديث ابن عباس بسند حسن موقوفا ورفعه الترمذى بلفظ إن خير ما تحتجمون فيه سبع عشرة الحديث دون ذكر التبيغ وقال حسن غريب وقال البزار إن طريقه المتقدمة أحسن من هذا الطريق ولابن ماجه من حديث أنس بسند ضعيف من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر الحديث
(6) حديث من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء سنة رواه الطبرانى من حديث معقل بن يسار وابن حيان في الضعفاء من حديث أنس وإسنادهما واحد اختلف على راوية في الصحابي وكلاهما فيه زين العمى وهو ضعيف
(7) حديث أمره بالتداوى لغير واحد من الصحابة أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث أسامة بن شريك أنه قال للأعراب حين سألوه تداووا الحديث وسيأتى في قصة على وصهيب في الحمية بعده
(8) حديث قطع عرقا لسعد ابن معاذ أخرجه مسلم من حديث جابر قال رمى سعد في أكحله فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص الحديث
(9) حديث أنه كوى أسعد بن زرارة رواه الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف ومن حديث أبي أسامة بن سهل بن حنيف دون ذكر سهل
(10) حديث قال لعلى وكان رمدا لا تأكل من هذا الحديث رواه أبو داود والترمذى وقال حسن غريب وابن ماجه من حديث أم المنذر
(11) صلى الله عليه وسلم حديث قال لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين تأكل تمرا وأنت رمد الحديث تقدم في آفات اللسان
(12) حديث من طريق أهل البيت أنه كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنة أخرجه ابن عدي من حديث عائشة وقال إنه منكر وفيه سيف بن محمد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين(4/284)
وتداوى صلى الله عليه وسلم غير مرة من العقرب وغيرها (1) حديث كان إذى نزل الوحي صدع رأسه فيغلفه بالحناء أخرجه البزار وابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة وقد اختلف في إسناده على الأحوص بن حكيم كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سلمى قال الترمذي غريب وفي خبر: أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء وقد جعل على قرحة خرجت به ترابا جعل على قرحة خرجت بيده ترابا حديث جعل على قرحة خرجة بيده ترابا رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت فرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بيده ووضع سفيان عيينه الراوي سبابته بالأرض ثم رفعها وقال بسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقيمنا // وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر وقد صنف في ذلك كتاب وسمي طب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر بعض العلماء في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام اعتل بعلة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علته فقالوا له لو تداويت بكذا لبرئت فقال لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء فطالت علته فقالوا له إن دواء هذه العلة معروف مجرب وإنا نتداوى به فنبرأ فقال لا أتداوى وأقامت علته فأوحى الله تعا رضي الله عنها لى إليه وعزتي وجلالي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك فقال لهم داووني بما ذكرتم فداووه فبرأ فأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري وروي في خبر آخر أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام شكا علة يجدها فأوحى الله تعالى إليه كل البيض وشكا نبي آخر الضعف فأوحى الله تعالى إليه كل اللحم باللبن فإن فيهما القوة قيل هو الضعف عن الجماع وقد روي أن قوماً شكوا إلى نبيهم قبح أولادهم فأوحى الله تعالى إليه مرهم أن يطعموا نساءهم الحبلى السفرجل فإنه يحسن الولد ويفعل ذلك في الشهر الثالث والرابإذ فيه يصور الله تعالى الولد وقد كانوا يطعمون الحبلى السفرجل والنفساء الرطب فبهذا تبين أن مسبب الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهاراً للحكمة والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب فكما أن الخبز دواء الجوع والماء دواء العطش فالسكنجبين دواء الصفراء والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد أمرين {أحدهما} أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جلي واضح يدركه كافة الناس ومعالجة الصفراء بالسكنحبين يدركه بعض الخواص فمن أدرك ذلك بالتجربة التحق في حقه بالأول والثاني آن الدواء يسهل والسكنجبين يسكن الصفراء بشروط أخر في الباطن وأسباب في المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال وأما زوال العطش فلا يستدعي سوى الماء شروطاً كثيرة وقد يتفق من العوارض ما يوجب داء العطش مع كثرة شرب الماء ولكنه نادر واختلال الأسباب أبداً ينحصر في هذين الشيئين وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب وكل ذلك بتدبير مسبب الأسباب وتسخيره وترتيبه بحكم حكمته وكمال قدرته فلا يضر المتوكل استعماله مع النظر إلى مسبب الأسباب دون الطبيب والدواء فقد روي عن موسى صلى صلى الله عليه وسلم انه قال يارب ممن الداء والدواء فقال تعالى مني قال: فما يصنع الأطباء قال يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس
_________
(1) حديث أنه تداوى غير مرة من العقرب وغيرها رواه الطبراني بإسناد حسن من حديث جبلة بن الأزرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لدغته عقرب فغشى عليه فرقاه الناس الحديث له في الأوسط من رواية سعيد بن ميسرة وهو ضعيف عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكي تقمح كفا من شونيز ويشرب عليه ماء وعسلا ولأبي يعلى والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بعد ماسم وفيه جابر الجعفي ضعفه الجمهور وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء(4/285)
عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي فإذن معنى التوكل مع التداوي التوكل بالعلم والحال كما سبق في فنون الأعمال الدافعة للضرر الجالبة للنفع فأما ترك التداوي رأساً فليس شرطاً فيه
فإن قلت فالكي أيضاً من الأسباب الظاهرة النفع فأقول ليس كذلك إذ الأسباب الظاهرة مثل الفصد والحجامة وشرب المسهل وسقي المبردات للمحرور وأما الكي فلو كان مثلها في الظهور لما خلت البلاد الكثيرة عنه وقلما يعتاد الكي في أكثر البلاد وإنما ذلك عادة بعض الأتراك والأعراب فهذا من الأسباب الموهومة كالرقي إلا أنه يتميز عنها بأمر وهو أنه إحراق النار في الحال مع الاستغناء عنه فإنه ما من وجع يعالج بالكي إلا وله دواء يغني عنه ليس فيه إحراق فالإحراق بالنار جرح مخرب للبنية محذور السراية مع الاستغناء عنه بخلاف الفصد والحجامة فإن سرايتهما بعيدة ولا يسد مسدها غيرهما ولذلك نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكي دون الرقي (1)
وكل واحد منهما بعيد عن التوكل وروي أن عمران بن الحصين اعتل فأشاروا عليه بالكي فامتنع فلم يزالوا به وعزم عليه الأمر حتى اكتوى فكان يقول كنت أرى نوراً وأسمع صوتاً وتسلم علي الملائكة فلما اكتويت انقطع ذلك عني وكان يقول اكتوينا كيات فوالله ما أفلحت ولا أنجحت ثم تاب من ذلك وأناب إلى الله تعالى فرد الله تعالى عليه ما كان يجد من أمر الملائكة وقال لمطرف بن عبد الله: ألم تر إلى الملائكة التي كان أكرمني الله بها قد ردها الله تعالى علي بعد أن كان أخبره بفقدها: فإذن الكي وما يجري مجراه هو الذي لا يليق بالمتوكل لأنه يحتاج في استنباطه إلى تدبير ثم هو مذموم ويدل ذلك على شدة ملاحظة الأسباب وعلى التعمق فيها والله أعلم
بيان أن ترك التداوي قد يحمد في بعض الأحوال ويدل على قوة التوكلوان ذلك
لا يناقض فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر فربما يظن أن ذلك نقصان لأنه لو كان كمالاً لتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله
وقد رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قيل له لو دعونا لك طبيباً فقال الطبيب قد نظر إلي وقال: إني فعال لما أريد
وقيل لأبي الدرداء في مرضه ما تشتكي قال ذنوبي قيل فما تشتهي قال مغفرة ربي قالوا ألا ندعو لك طبيباً قال الطبيب أمرضني وقيل لأبي ذر وقد رمدت عيناه لو داويتهما قال إني عنهما مشغول فقيل لو سألت الله تعالى أن يعافيك فقال أسأله فيما هو أهم علي منهما
وكان الربيع بن خثيم أصابه فالج فقيل له لو تداويت فقال قد هممت ثم ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً وكان فيهم الأطباء فهلك المداوي والمداوى ولم تغن الرقي شيئاً
وكان أحمد بن حنبل يقول أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره وإن كان به علل فلا يخبر المتطبب بها أيضاً إذا سأله
_________
(1) حَدِيثِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن الكي دون الرقى رواه البخاري من حديث ابن عباس وأنهى أمتي عن الكي وفي الصحيحين من حديث عائشة رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من كل ذي حمة(4/286)
وقيل لسهل متى يصح للعبد التوكل قال إذا دخل عليه الضرر في جسمه والنقص في ماله فلم يلتفت إليه شغلاً بحاله وينظر إلى قيام الله تعالى عليه
فإذا منهم من ترك التداوي وراءه ومنهم من كرهه ولا يتضح وجه الجمع بين فعل رسولالله صلى الله عليه وسلم وأفعالهم إلا بحصر الصوارف عن التداوي
فنقول إن لترك التداوي أسباباً السبب الأول أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه ويكون ذلك معلوماً عنده تارة برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن وتارة بكشف محقق ويشبه أن يكون ترك الصديق رضي الله عنه التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث إنما هن أختاك وإنما كان لها أخت واحدة ولكن كانت امرأته حاملاً فولدت أنثى فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضاً بانتهاء أجله وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به السبب الثاني أن يكون المريض مشغولاً بحاله وبخوف عاقبته وإطلاع الله تعالى عليه فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرغ قلبه للتداوي شغلاً بحاله وعليه يدل كلام أبي ذر إذ قال إني عنهما مشغول وكلام أبي الدرداء إذ قال إنما أشتكي ذنوبي فكان تألم قلبه خوفاً من ذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض ويكون هذا كالمصاب بموت عزيز من أعزته أو كالخائف الذي يحمل إلى ملك من الملوك ليقتل إذا قيل له ألا تأكل وأنت جائع فيقول أنا مشغول عن ألم الجوع فلا يكون ذلك إنكاراً لكون الأكل نافعاً من الجوع ولا طعنا فيمن اكل ويقرب من هذ اشتغال سهل حيث قيل له ما القوت فقال هو ذكر الحي القيوم فقيل إنما سألناك عن القوام فقال: القوام هو العلم قيل سألناك عن الغذاء قال الغذاء هو الذكر قيل سألناك عن طعمة الجسد قال مالك وللجسد دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً: إذا دخل عليه علة فرده إلى صانعه أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها السبب الثالث أن تكون العلة مزمنة والدواء الذي يؤمر به بالإضافة إلى علته موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية فيتركه المتوكل وإليه يشير قول الربيع بن خثيم إذ قال ذكرت عاداً وثمود وفيهم الأطباء فهلك المداوي والمداوى أي أن الدواء غير موثوق به وهذا قد يكون كذلك في نفسه وقد يكون عند المريض كذلك لقلة ممارسته للطب وقلة تجربته له فلا يغلب على ظنه كونه نافعاً ولا شك في أن الطبيب المجرب أشد اعتقادا لي الأدوية من غيره فتكون الثقة والظن بحسب الاعتقاد والاعتقاد بحسب التجربة وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم لأنه يبقى الدواء عنده شيئاً موهوماً لا أصل له وذلك صحيح في بعض الأدوية عند من عرف صناعة الطب غير صحيح في البعض ولكن غير الطبيب قد ينظر إلى الكل نظراً واحداً فيرى التداوي تعمقا في الأسباب كالكي والرقي فيتركه السبب الرابع أن يقصد العبد بترك التداوي استبقاء المرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره فقد قال عليه السلام نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على قدر إيمانه فإن كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء وإن كان في إيمانه ضعف حفف عنه البلاء (1) حديث نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل الحديث رواه أحمد وأبو يعلي والحاكم وصححه على شرط مسلم نحوه مع اختلاف وقد تقدم مختصرا ورواه الحاكم ايضا من حديث سعد بن أبي وقاص وقال صحيح على شرط الشيخين
_________
(1) وفي الخبر إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار(4/287)
فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز لا يزبد ومنهم دون ذلك ومنهم من يخرج اسود محترقا حديث إن الله تعالى يجرب عبد بالبلاء كما يجرب أحكم ذهبه الحديث رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف (1) وقال صلى الله عليه وسلم تحبون أن تكونوا كالحمر الضالة لا تمرضون ولا تسقمون (2) حديث تحبون أن تكونوا كالحمر الضالة لا تمرضون ولا تسقمون أخرجه ابن ابي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم وابن عبد البر في الصحابة والبيهقي في الشعب من حديث ابي فاطمة وهو صدر حديث ان الرجل تكون له المنزلة عند الله الحديث وقد تقدم قال ابن مسعود رضي الله عنه تجد المؤمن أصح شيء قلباً وأمرضه جسماً وتجد المنافق أصح شئ جسماً وأمرضه قلباً فلما عظم الثناء على المرض والبلاء أحب قوم المرض واغتنموه لينالوا ثواب الصبر عليه فكان منهم من له علة يخفيها ولا يذكرها للطبيب ويقاسي العلة ويرضى بحكم الله تعالى ويعلم أن الحق أغلب على قلبه من أن يشغله المرض عنه وإنما يمنع المرض جوارحه وعلموا أن صلاتهم قعوداً مثلاً مع الصبر على قضاء الله تعالى أفضل من الصلاة قياماً مع العافية والصحة ففي الخبر إن الله تعالى يقول لملائكته: اكتبوا لعبدي الصالح ما كان يعمله فإنه في وثاقي ان أطلقته أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خير من دمه وإن توفيته توفيته إلى رحمتي (3) حديث إن الله يقول للملائكة: اكتبو لعبدي صالح ما كان يعمل فانه في وثاقي الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر وقد تقدم وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس (4) حديث لا تزال الحمى والمليلة بالعبد حتى يمشي على الأرض كالبردة ما عليه خطيئة أخرجه أبو يعلي وابن عدي من حديث ابي هريرة والطبراني من حديث ابي الدرداء نحوه وقال الصداع بدل الحمى وللطبراني في الأوسط من حديث انس مثل المريض اذا صح وبرأ من مرضه كمثل البردة تقع من السماء تقع في صفائها ولونها وأسانيده ضعيفة (5) (6) حديث إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب احدكم ذهبه الحديث رواه الطبراني من حديث ابي امامة بسند ضعيف
_________
(1) وفي حديث من طريق أهل البيت إن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فان رضي اصطفاه حديث من طريق أهل البيت إن الله إذا أحب عبدا
(2)
(3)
(4) حديث أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس تقدم ولم أجده مرفوعا فقيل: معناه ما دخل عليه من الأمراض والمصائب وإليه الإشارة بقوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} وكان سهل يقول ترك التداوي وإن ضعف عن الطاعات وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات وكانت به علة عظيمة فلم يكن يتداوى منها وكان يداوي الناس منها وكان إذا رأى العبد يصلي من قعود ولا يستطيع أعمال البر من الأمراض فيتداوى للقيام إلى الصلاة والنهوض إلى الطاعات يعجب من ذلك ويقول صلاته من قعود مع الرضا بحاله أفضل من التداوي للقوة والصلاة قائماً وسئل عن شرب الدواء فقال كل من دخل في شيء من الدواء فانما هو سعة من الله تعالى لأهل الضعف ومن لم يدخل في شيء فهو أفضل لأنه إن أخذ شيئاً من الدواء ولو كان هو الماء البارد يسئل عنه لم أخذه ومن لم يأخذ فلا سؤال عليه وكان مذهبه ومذهب البصريين تضعيف النفس بالجوع وكسر الشهوات لعلمهم بأن ذرة من أعمال القلوب مثل الصبر والرضا والتوكل أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمه غالباً مدهشاً وقال سهل رحمه الله علل الأجسام رحمة الله وعلل القلوب عقوبة السبب الخامس أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرا فيترك التداوي خوفاً من أن يسرع زوال المرض فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تزال الحمى والمليلة بالعبد حتى يمشي على الأرض كالبردة ما عليه ذنب ولا خطيئة
(5) وفي الخبر حمى يوم كفارة سنة
(6) حديث حمى يوم كفارة سنة رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وقال ليلة بدل يوم فقيل لأنها تهد قوة سنة وقيل للإنسان ثلثمائة وستون مفصلاً فتدخل الحمى جميعها ويجد من كل واحد ألماً فيكون كل(4/288)
ألم كفارة يوم ولما ذكر صلى الله عليه وسلم كفارة الذنوب بالحمى سأل زيد بن ثابت ربه عز وجل أن لا يزال محموماً فلم تكن الحمى تفارقه حتى مات رحمه الله وسأل ذلك طائفة من الأنصار فكانت الحمى لا تزايلهم (1) ولما قال صلى الله عليه وسلم من أذهب الله كريمتيه لم يرض له ثوابا دون الجنة حديث من أذهب الله كريمتيه لم يرضى له ثواباً دون الجنة تقدم المرفوع منه دون قوله قال فلقد كان من الأنصار من يتمنى العمى وقال عيسى عليه السلام لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لما يرجو في ذلك من كفارة خطاياه وروي أن موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال: يا رب ارحمه فقال تعالى: كيف أرحمه فيما به أرحمه أي به أكفر ذنوبه وأزيد في درجاته السبب السادس أن يستشعر العبد في نفسه مبادىء البطر والطغيان بطول مدة الصحة فيترك التداوي خوفاً من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان أو طول الأمل والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات فإن الصحة عبارة عن قوة الصفات وبها ينبعث الهوى وتتحرك الشهوات وتدعو إلى المعاصي وأقلها أن تدعو إلى التنعم في المباحات وهو تضييع الأوقات وإهمال للربح العظيم في مخالفة النفس وملازمة الطاعات وإذا أراد الله بعبد خيراً لم يخله عن التنبه بالأمراض والمصائب ولذلك قيل لا يخلو المؤمن من علة أو قلة أو زلة
وقد روى وقد روي أن الله تعالى يقول: الفقر سجني والمرض قيدي أحبس به من أحب من خلقي فإذا كان في المرض حبس عن الطغيان وركوب المعاصي فأي خير يزيد عليه ولم ينبغ أن يشتغل بعلاجه من يخاف ذلك على نفسه فالعافية في ترك المعاصي فقد قال بعض العارفين لإنسان كيف كنت بعدي قال في عافية قال إن كنت لم تعص الله عز وجل فأنت في عافية وإن كنت قد عصيته فأي داء أدوأ من المعصية ما عوفي من عصى الله وقال علي كرم الله وجهه لما رأى زينة النبط بالعراق في يوم عيد ما هذا الذي أظهروه قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يوم عيد لهم فقال: كل يوم لا يعصى الله عز وجل فيه فهو لنا عيد وقال تعالى من بعد ما أراكم ما تحبون قيل العوافي إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وكذلك إذا استغنى بالعافية قال بعضهم: إنما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى لطول العافية لأنه لبث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس ولم يحم له جسم ولم يضرب عليه عرق فادعى الربوبية لعنه الله ولو أخذته الشقيقة يوماً لشغلته عن الفضول فضلاً عن دعوى الربوبية وقال صلى الله عليه وسلم أكثروا من ذكر هاذم اللذات حديث اكثروا ذكر هاذم اللذات أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وقد تقدم // وقيل: الحمى رائد الموت فهو مذكر له ودافع للتسويف
وقال تعالى أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون قيل يفتنون بأمراض يختبرون بها ويقال إن العبد إذا مرض مرضتين ثم لم يتب قال له ملك الموت: يا غافل جاءك مني رسول بعد رسول فلم تجب
_________
(1) حديث لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة الذنوب بالحمى سأل زيد بن ثابت أن لا يزال محموماً الحديث وسأل ذلك طائفة من الأنصار: أخرجه أحمد وأبو يعلي من حديث أبي سعيد الخدري باسناد جيد ان رجلا من المسلمين قال يارسول الله ارايت هذه الأمراض تصيبنا مالنا فيها قال كفارات قال أبي: وان قلت قال فان شوكة فما فوقها قال فدعا أبي أن لا يفارقه الوعك حتى يموت الحديث وللطبراني في الأوسط من حديث أبي بن كعب أنه قال يارسول الله ما جزاء الحمى قال تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق فقال: اللهم اني أسألك حمى لا تمنعني خروجا في سبيلك ولا خروجا إلى بيتك ولا لمسجد نبيك الحديث والاسناد مجهول قاله علي بن المديني(4/289)
وقد كان السلف لذلك يستوحشون إذا خرج عام ولم يصابوا فيه بنقص في نفس أو مال وقالوا لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوماً أن يروع روعة أو يصاب ببلية حتى روي أن عمار بن ياسر تزوج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه امرأة فحكي من وصفها حتى هم أن يتزوجها فقيل وإنها ما مرضت قط فقال لا حاجة لي فيها (1) حديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراض والأوجاع كالصداع وغير فقال رجل وما الصداع ما أعرفه فقال إليك عنى الحديث رواه أبو داود من حديث عارم البرام أخي الحضر بنوه وفي إسناده من لم يسم لأنه ورد في الخبر الحمى حظ كل مؤمن من النار حديث الحمى حظ كل مؤمن من النار رواه البزار من حديث عائشة وأحمد ومن حديث عائشة وأحمد من حديث أبي أمامة والطبراني في الأوسط من حديث أنس وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن مسعود وحديث أنس ضعيف وباقيها حسان وفي حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما قيل يا رسول الله هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم قال نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين مرة حديث أنس وعائشة حديث أنس وعائشة قيل يا رسل الله هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم فقال نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين مرة لم أقف له على إسناده // وفي لفظ آخر الذي يذكر ذنوبه فتحزنه ولا شك في أن ذكر الموت على المريض أغلب فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها إذ رأوا لأنفسهم مزيداً فيها لا من حيث رأوا التداوي نقصاناً وكيف يكون نقصاناً وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم
بيان الرد على من قال: ترك التداوي أفضل بكل حال
فلو قال قائل: إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسن لغيره وإلا فهو حال الضعفاء ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء فيقال: ينبغي أن يكون من شروط التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبغ الدم
فإن قيل: إن ذلك أيضاً شرط فليكن من شرطه أن تلدغه العقرب أو الحية فلا ينحيها عن نفسه إذ الدم يلدغ الباطن والعقرب تلدغ الظاهر فأي فرق بينهما فإن قال: وذلك أيضاً شرط التوكل فيقال: ينبغي أن لا يزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز ولدغ البرد بالجبة وهذا لا قائل به
ولا فرق بين هذه الدرجات فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى وأجرى بها سنته ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في قصة الطاعون فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة وقالت طائفة أخرى: بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله تعالى ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه فقال نرجع ولا ندخل على الوباء فقال له المخالفون في رأيه أنفر من قدر الله تعالى قال عمر نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ثم ضرب لهم مثلاً فقال أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط وادياً له شعبتان: إحداهما مخصبة: والأخرى مجدبة أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى فقالوا: نعم ثم طلب عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن رأيه وكان غائباً فلما أصبحوا جاء
_________
(1) حديث عرضت عليه أمرأة فذكر من وصفها حتى هم أن يتزوجها فقيل فإنها ما مرضت قط قال لا حاجة لي فيها أخرجه أحمد من حديث أنس بنحوه بإسناد جيد وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراض والأوجاع كالصداع وغيره فقال رجل وما الصداع ما أعرفه فقال صلى الله عليه وسلم إليك عني من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا وهذا(4/290)
عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: الله أكبر فقال عبد الرحمن: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يقول} اذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه (1) حديث تشبيه الفرار من الطاعون بالفار من الزحف رواه أحمد من حديث عائشة بإسناد جيد ومن حديث جابر بإسناد ضعيف وقد تقدم لأن فيه كسراً لقلوب بقية المسلمين وسعياً في إهلاكهم فهذه أمور دقيقة فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر ما سمعه وغلط العباد والزهاد في مثل هذا كثير وإنما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك فإن قلت: ففي ترك التداوي فضل كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي لينال الفضل فنقول: فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها أو خاف على نفسه طغيان العافية وغلبة الشهوات أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة أو احتاج إلى نيل ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين أو قصرت بصيرته عن الإطلاع على ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوماً كالرقي أو كان شغله بحاله يمنعه عن التداوي وكان التداوي يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع فإلى هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان مقامه أعلى من هذه المقامات كلها إذ كان حاله يقتضي أن تكون (2) حديث تشبيه الفرار من الطاعون بالفار من الزحف رواه أحمد من حديث عائشة بإسناد جيد ومن حديث جابر باسناد ضعيف وقد تقدم
_________
(1) حديث عبد الرحمن بن عوف إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه الحديث وفي أوله قصة خروج عمرو بالناس إلى الجابيه وأنه بلنهم أن بالشام وباء الحديث رواه البخاري ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وحمد الله تعالى إذ وافق رأيه ورجع من الجابية بالناس فإذن كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل وهو من أعلى المقامات إن كان أمثال هذا من شروط التوكل
فإن قلت: فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء وسبب الوباء في الطب الهواء وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر والهواء هو المضر وترك التوكل في أمثال هذا مباح وهذا لا يدل على المقصود ولكن الذي ينقدح فيه والعلم عند الله تعالى أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن فالخروج من البلد لا يخلص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقي والطيرة وغيرهما ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضاً للتوكل ولم يكن منهياً عنه ولكن صار منهياً عنه لأنه انضاف إليه أمر آخر وهو أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً وخلاصهم منتظر كما أن خلاص الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضا والمؤمنون كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى اليه سائر أعضائه فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد فانه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم نعم لو لم يبق بالبلد إلا مطعونون وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة ولا ينهى عن الدخول لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين وبهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحف
(2) حديث عبد الرحمن بن عوف اذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه الحديث وفي أوله قصة خروج عمر بالناس إلى الجابية وأنه بلغهم أن بالشام وباء الحديث رواه البخاري(4/291)
مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب كما أن الرغبة في المال نقص والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالاً فهي أيضاً نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده وكان لايمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلها فكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثلهذه المشاهدة وإنما لم يترك استعمال الدواء جرياً على سنة الله تعالى وترخيصاً لأمته فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال فإن ذلك يعظم ضرره نعم التداوي لا يضر الامن حيث رؤية الدواء نافعاً دون خالق الدواء وهذا قد نهي عنه ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي وذلك منهي عنه والمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعاً بنفسه بل من حيث إنه جعله الله تعالى سبباً للنفع كما لا يرى الماء مروريا ولا الخبز مشبعاً فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب فإنه إن اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات وأن واحداً من الفعل والترك ليس شرطاً في التوكل إلا ترك الموهومات كالكي والرقي فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين
بيان أحوال المتوكلين في إظهار المرض وكتمانه
اعلم أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر وهو من أعلى المقامات: لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله عز وجل فكتمانه أسلم عن الآفات
ومع هذا فالإظهار لا بأس به إذا صحت فيه النية والمقصد ومقاصد الإظهار ثلاثة: الأول: أن يكون غرضه التداوي فيحتاج إلى ذكره للطبيب فيذكره لا في معرض الشكاية بل في معرض الحكاية لما ظهر عليه من قدرة الله تعالى فقد كان بشر يصف لعبد الرحمن المطبب أوجاعه وكان أحمد بن حنبل يخبر بأمراض يجدها ويقول: إنما أصف قدرة الله تعالى في
الثاني: أن يصف لغير الطبيب وكان ممن يقتدى به وكان مكيناً في المعرفة فأراد من ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى أن المرض نعمة فيشكر عليها فيتحدث به كما يتحدث بالنعم قال الحسن البصري: إذا حمد المريض الله تعالى وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى
الثالث: أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى وذلك يحسن ممن تليق به القوة والشجاعة ويستبعد منه العجز كما روي أنه قيل لعلي في مرضه رضي الله عنه كيف أنت قال: بشر فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك وظنوا أنه شكاية فقال: أتجلد على الله فأحب أن يظهر عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة وتأدب فيه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم إياه حيث مرض علي كرم الله وجهه فسمعه // حديث: أنه عرضت عليه خزائن الأرض فأبى ان يقبلها ولفظه: عرضت عليه مفاتيح خزائن السماء وكنوز الأرض فردها(4/292)
عليه السلام وهو يقول: اللهم صبرني على البلاء فقال له صلى الله عليه وسلم لقد سألت الله تعالى البلاء فسل الله العافية (1) حديث إذا مرض العبد أوحى الله إلى الملكين انظر ما يقول لعواده الحديث تقدم وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية خوف الزيادة في الكلام فكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ فيخرج إليهم منهم: فضيل ووهيب وبشر وكان فضيل يقول: أشتهي أن أمرض بلا عواد وقال: لا أكره العلة إلا لأجل العواد رضي الله عنه وعنهم أجمعين كمل كتاب التوحيد والتوكل بعون الله وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى: كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا
والله سبحانه وتعالى الموفق
كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا وهو الكتاب السادس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزه أوليائه عن الالتفات إلى زخرف الدنيا ونضرته وصفي أسراهم من ملاحظة غير حضرته ثم استخلصها للعكوف على بساط عزته ثم تجلى لهم بأسمائه وصفاته حتى أشرقت بأنوار معرفته ثم (2) حديث إذا مرض العبد أوحى الله إلى الملكين انظرا ما يقول لعواده الحديث تقدم
_________
(1) حديث مرض على فسمعه رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يقول اللهم صبرني على البلاء فقال لقد سألت الله البلاء فسل الله العافية تقدم مع إختلاف
فبهذه النيات يرخص في ذكر المرض وإنما يشترط ذلك لأن ذكره شكاية والشكوى من الله تعالى حرام كما ذكرته في تحريم السؤال على الفقراء إلا بضرورة ويصير الإظهار شكاية بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله تعالى فإن خلا عن قرينة السخط وعن النيات التي ذكرناها فلا يوصف بالتحريم ولكن يحكم فيه بأن الأولى تركه لإنه ربما يوهم الشكاية ولأنه ربما يكون فيه تصنع ومزيد في الوصف على الموجود من العلة ومن ترك التداوي توكلاً فلا وجه في حقه للإظهار لأن الاستراحة إلى الدواء أفضل من الاستراحة إلى الإفشاء وقد قال بعضهم: من بث لم يصبر وقيل في معنى قوله فصبرجميل لا شكوى فيه وقيل ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك قال مر الزمان وطول الأحزان فأوحى الله تعالى إليه تفرغت لشكواي إلى عبادي فقال يا رب أتوب إليك: وروي عن طاوس ومجاهد أنهما قالا: يكتب على المريض أنينه في مرضه وكانوا يكرهون أنين المرض لأنه إظهار معنى يقتضي الشكوى حتى قيل ما أصاب إبليس لعنه الله من أيوب عليه السلام إلا أنينه في مرضه فجعل الأنين حظه منه وفي الخبر اذا مرض العبد أوحى الله تعالى إلى الملكين انظرا ما يقول لعواده فإن حمد الله وأثنى بخير دعوا له وأن شكا وذكر شرا قالا كذلك تكون
(2) حديث مرض علي فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: اللهم صبرني على البلاء فقال لقد سألت الله البلاء فسل الله العافية تقدم مع اختلاف(4/293)
كشف لهم عن سبحات وجهه حتى احترقت بنار محبته ثم احتجب عنها بكنه جلاله حتى تاهت في بيداء كبريائه وعظمته فكلما اهتزت لملاحظة كنه الجلال غشيها من الدهش ما اغبر في وجه العقل وبصيرته وكلما همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبراً أيها الآيس عن نيل الحق بجهله وعجلته فبقيت بين الرد والقبول والصد والوصول غرقى في بحر معرفته ومحترقة بنار محبته والصلاة على محمد خاتم الأنبياء بكمال نبوته وعلى آله وأصحابه سادة الخلق وأئمته وقادة الحق وأزمته وسلم كثيراً
أما بعد: فإن المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضا وأخواتها ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها وأما محبة الله تعالى فقد عز الإيمان بها حتى أنكر بعض العلماء إمكانها وقال: لا معنى لها إلا المواظبة على طاعة الله تعالى وأما حقيقة المحبة فمحال إلا مع الجنس والمثال ولما أنكروا المحبة أنكروا الأنس والشوق ولذة المناجاة وسائر لوازم الحب وتوابعه ولا بد من كشف الغطاء عن هذا الأمر
ونحن نذكر في هذا الكتاب: بيان شواهد الشرع في المحبة ثم بيان حقيقتها وأسبابها ثم بيان أن لا مستحق للمحبة إلا الله تعالى ثم بيان أن أعظم اللذات لذة النظر إلى وجه الله تعالى ثم بيان سبب زيادة لذة النظر في الآخرة على المعرفة في الدنيا ثم بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى ثم بيان السبب في تفاوت الناس في الحب ثم بيان السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى ثم بيان معنى الشوق ثم بيان محبة الله تعالى للعبد ثم القول في علامات محبة العبد لله تعالى ثم بيان معنى الأنس بالله تعالى ثم بيان معنى الانبساط في الأنس ثم القول في معنى الرضا وبيان فضيلته ثم بيان حقيقته ثم بيان أن الدعاء وكراهة المعاصي لا تناقضه وكذا الفرار من المعاصي ثم بيان حكايات وكلمات للمحبين متفرقة فهذه جميع بيانات هذا الكتاب
بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى
اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض وكيف يفرض مالا وجود له وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب وثمرته فلا بد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل يحبهم ويحبونه وقوله تعالى والذين آمنوا أشد حباً لله وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله ما الإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما (1) حديث لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما متفق عليه من حديث أنس بلفظ لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى أكون أحب إليه من أهلاه وماله وذكر بزيادة (2) حديث لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله ونفسه والناس أجمعين وفي رواية ومن نفسه متفق عليه من حديث أنس واللفظ لمسلم دون قوله ومن نفسه وقال البخاري من والده وولده وله من حديث عبد الله بن هشام: قال عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي فقال: الآن يا عمر
_________
(1) حديث أبو رزين العقيلي أنه قال يا رسول الله مالإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما أخرجه أحمد بزيادة في أوله وفي حديث آخر لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
(2) وفي حديث آخر لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين(4/294)
نفسه كيف وقد قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم الآية وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار وقد أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمحبة فقال أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي (1) حديث أحبوا الله لما غدوكم به من نعمه الحديث أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وقال حسن غريب ويروى أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك فقال صلى الله عليه وسلم استعد للفقر فقال إني أحب الله تعالى فقال استعد للبلاء (2) حديث أن رجلاً قال يا رسول الله إني أحبك فقال استعد للفقر الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن منفل بلف فأعد للفقر تجفاف دون أخر الحديث وقال حسن غريب وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق له فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون (3) حديث عمر قال نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية باسناد حسن
وفي الخبر المشهور إن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه فقال يا ملك الموت الآن فاقبض (4) حديث ان ابراهيم قال لملك الموت اذا جاءه ليقبض روحه هل رأبت خلالا يقبض خليله الحديث لم أجد له أصلا (5) حديث قال أعرابي يا رسول الله متى الساعة قال ما أعددت لها الحديث متفق عليه من حديث أنس ومن حديث أبي موسى وابن مسعود بنحوه وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قال ما أعددت لها فقال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرء مع من أحب قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر وقال الحسن: من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها والمؤمن لا يلهو حتى يغفل فإذا تفكر حزن وقال أبو سليمان الداراني: إن من خلق الله خلقاً ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا
ويروى أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال: حق على الله أن يؤمن الخائف ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيرا فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا: الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن وجوههم المرائي من النور فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا: نحب الله عز وجل فقال أنتم المقربون أنتم المقربون وقال عبد الواحد بن زيد: مررت برجل قائم في الثلج فقلت أما تجد البرد فقال من شغله حب الله لم يجد البرد
وعن سري السقطي: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها عليهم السلام فيقال يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله تعالى فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا
_________
(1)
(2)
(3)
(4)
(5) حديث اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك الحديث تقدم وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه فإذا علم أن الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه
وقد قال نبينا صلى صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد(4/295)
وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة وقال يحي ابن معاذ عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه وحبه يدهش العقول فكيف وده ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه وفي بعض الكتب عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً وقال يحي بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب وقال يحي بن معاذ إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني في الأحوال وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار مالا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به
بيان حقيقة المحبة وأسبابها وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى
اعلم أن المطلب من هذا الفصل لا ينكشف إلا بمعرفة حقيقة المحبة في نفسها ثم معرفة شروطها وأسبابها ثم النظر بعد ذلك في تحقيق معناها في حق الله تعالى: فأول ما ينبغي أن يتحقق أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد بل هو من خاصية الحي المدرك ثم المدركات في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه وإلى ما لا يؤثر فيه بإيلام وإلذاذ فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة لا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً فإذن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه ومعنى كونه مبغوضاً أن في الطبع نفرة عنه فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتاً فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد من معرفته
الأصل الثاني أن الحب لما كان تابعاً للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب انقسام المدركات والحواس فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عند الطبع السليم فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة ولذة الشم في الروائح الطيبة ولذة الذوق في الطعوم ولذة اللمس في اللين والنعومة
ولما كانت هذه المدركات بالحواس ملذة كانت محبوبة أي كان للطبع السليم ميل إليها حتى قال رسول صلى الله عليه وسلم حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة فسمى الطيب محبوباً ومعلوم انه لا حظ للعين والسمع فيه بل للشم فقط وسمى النساء محبوبات ولاحظ فبهن إلا للبصر واللمس دون // حديث حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء أخرجه النسائي من حديث أنس دون قوله ثلاث وقد تقدم(4/296)
الشم والذوق والسمع وسمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم أنه ليس تحظى بها الحواس الخمس بل حس سادس مظنته القلب لا يدركه ألا من كان له قلب ولذات الحواس الخمس تشارك فيها البهائم الإنسان فإن كان الحب مقصوراً على مدركات الحواس الخمس حتى يقال إن الله تعالى لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب فإذن قد بطلت خاصية الإنسان وما تميز به من الحس السادس الذي يعبر عنه إما بالعقل أو بالنور أو بالقلب أو بما شئت من العبارات فلا مشاحة فيه وهيهات فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكاً من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة كما سيأتي تفصيله فلا ينكر إذن حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجاوز إدراك الحواس أصلاً
الأصل الثالث أن الإنسان لا يخفى أنه يحب نفسه ولا يخفى أنه قد يحب غيره لأجل نفسه وهل يتصور أن يحب غيره لذاته لا لأجل نفسه هذا مما قد يشكل على الضعفاء حتى يظنون أنه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته ما لم يرجع منه حظ إلى المحب سوى إدراك ذاته والحق أن ذلك متصور وموجود فلنبين أسباب المحبة وأقسامها وبيانه أن المحبوب الأول عند كل حي نفسه وذاته ومعنى حبه لنفسه أن في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده ونفرة عن عدمه وهلاكه لأن المحبوب بالطبع هو الملائم للمحب وأي شيء أتم ملاءمة من نفسه ودوام وجوده وأي شيء أعظم مضادة ومنافرة له من عدمه وهلاكه فلذلك يحب الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل لا لمجرد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرد الحذر من سكرات الموت بل لو اختطف من غير ألم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارهاً لذلك ولا يحب الموت والعدم المحض إلا لمقاساة ألم في الحياة ومهما كان مبتلى ببلاء فمحبوبه زوال البلاء فإن أحب العدم لم يحبه لأته عدم بل لأن فيه زوال البلاء فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب وكما أن دوام الوجود محبوب فكمال الوجود أيضاً محبوب لان الناقص فاقد للكمال والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود وهو هلاك بالنسبة إليه والهلاك والعدم ممقوت في الصفات وكمال الوجود كما أنه ممقوت في أصل الذات ووجود صفات الكمال محبوب كما أن دوام أصل الوجود محبوب وهذه غريزة في الطباع بحكم سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلاً
فإذن المحبوب الأول للإنسان ذاته ثم سلامة أعضاءه ثم ماله وولده وعشيرته وأصدقائه فالأعضاء محبوبة وسلامتها مطلوبة لأن كمال الوجود ودوام الوجود موقوف عليها والمال محبوب لأنه أيضاً آلة في دوام الوجود وكماله وكذا سائر الأسباب فالإنسان يحب هذه الأشياء لا لأعيانها بل لارتباط حظه في دوام الوجود وكماله بها حتى إنه ليحب ولده وإن كان لا يناله منه حظ بل يتحمل المشاق لأجله لأنه يخلفه في الوجود بعد عدمه فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبداً نعم لو خير بين قتله وقتل ولده وكان طبعه باقياً على اعتداله آثر بقاء نفسه على بقاء ولده لأن بقاء ولده يشبه بقاءه من وجه وليس هو بقاء المحقق وكذلك حبه لأقاربه وعشيرته يرجع إلى حبه لكمال نفسه فإنه يرى نفسه كثيراً بهم قوياً بسببهم متجملاً بكمالهم فإن العشيرة والمال والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للإنسان وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا محالة فإذن المحبوب الأول عند كل حي ذاته وكمال ذاته ودوام(4/297)
ذلك كله والمكروه عنده ضد ذلك فهذا هو أول الأسباب
السبب الثاني: الإحسان فإن الإنسان عبد الإحسان وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم لا تجعل لفاجر علي يداً فيحبه قلبي (1) حديث: كان يعجبه الخضرة والماء الجاري أخرجه أبو نعيم في الطب النبوي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن ينظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإسناده ضعيف (2) حديث إن الله جميل يحب الجمال رواه مسلم في أثناء حديث لابن مسعود
الأصل الرابع في بيان معنى الحسن والجمال اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون وكون البياض مشرباً بالحمرة وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان فإن الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار وأكثر التفاتهم
_________
(1) حديث اللهم لا تجعل لكافر علي يداً فيحبه قلبي رواه أبو منصور الديلمي مسند الفردوس: من حديث معاذ بن جبل بسند ضعيف منقطع وقد تقدم إشارة إلى أن حب القلب للمحسن اضطراراً لا يستطاع دفعه وهو جبلة وفطرة لا سبيل إلى تغييرها وبهذا السبب قد يحب الإنسان الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبينه ولا علاقة وهذا إذا حقق رجع إلى السبب الأول فإن المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر الأسباب الموصلة إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود إلا أن الفرق أن أعضاء الإنسان محبوبة لأن بها كمال وجوده وهي عين الكمال المطلوب فأما المحسن فليس هو عين الكمال المطلوب ولكن قد يكون سبباً له كالطبيب يكون سبباً في دوام صحة الأعضاء ففرق بين حب الصحة وبين حب الطبيب الذي هو سبب الصحة إذ الصحة مطلوبة لذاتها والطبيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب الصحة وكذلك العلم محبوب والأستاذ محبوب ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة لكن الطعام محبوب لذاته والدنانير محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام فإذن يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة وإلا فكل واحد يرجع إلى محبة الإنسان نفسه فكل من احب المحسن لإحسانه فما احب ذاته تحقيقا بل احب إحسانه وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقا ولو نقص نقص الحب ولو زاد زاد ويتطرق اليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه
السبب الثالث: أن يحب الشيء لذاته لا لحظ ينال منه وراء ذاته بل تكون ذاته عين حظه وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامه وذلك كحب الجمال والحسن فان كل جمال محبوب عند مدرك الجمال وذلك لعين الجمال لان إدراك الجمال فيه عين اللذة واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة فان قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها وإدراك نفس الجمال أيضا لذيذ فيجوز أن يكون محبوبا لذاته وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الخضرة والماء الجاري
(2) والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل حتى أن الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر فهذه الأسباب ملذة وكل لذيذ محبوب وكل حسن وجمال فلا يخلو إدراكه عن لذة ولا أحد ينكر كون الجمال محبوبا بالطبع فان ثبت أن الله جميل كان لا محالة محبوبا عند من انكشف له جماله وجلاله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله جميل يحب الجمال(4/298)
إلى صور الأشخاص فيظن أن ما ليس مبصراً ولا متخيلاً ولا متشكلاً ولا ملوناً مقدر فلا يتصور حسنه وإذا لم يتصور حسنه لم يكن في إدراكه لذة فلم يكن محبوباً وهذا خطأ ظاهر فإن الحسن ليس مقصوراً على مدركات البصر ولا على تناسب الخلقة وامتزاج البياض بالحمرة فإنا نقول هذا خط حسن وهذا صوت حسن وهذا فرس حسن بل نقول هذا ثوب حسن وهذا إناء حسن فأي معنى لحسن الصوت والخط وسائر الأشياء إن لم يكن الحسن إلا في الصورة ومعلوم أن العين تستلذ بالنظر إلى الخط الحسن والأذن تستلذ استماع النغمات الحسنة الطيبة وما من شيء من المدركات إلا وهو منقسم إلى حسن وقبيح فما معنى الحسن الذي تشترك فيه هذه الأشياءفلا بد من البحث عنه وهذا البحث يطول ولا يليق بعلم المعاملة الإطناب فيه فنصرح بالحق ونقول: كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال وإن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل ولون وحسن عدو وتيسر كر وفر عليه والخط الحسن كل ما جمع كل ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها ولكل شيء كمال يليق به وقد يليق بغير ضد فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس ولا يحسن الخط بما يحسن به الصوت ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب وكذلك سائر الأشياء
فإن قلت: فهذه الأشياء وإن لم تدرك جميعها بحس البصر مثل الأصوات والطعوم فإنها لا تنفك عن إدراك الحواس لها فهي محسوسات وليس ينكر الحسن والجمال للمحسوسات ولا ينكر حصول اللذة بإدراك حسنها وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس فاعلم أن الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه سيرة حسنة وهذه أخلاق جميلة وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته وآية ذلك وأن الأمر كذلك أن الطباع مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع أنهم لم يشاهدوا بل حب أرباب المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم حتى أن الرجل قد يجاوز به حبه لصاحب مذهبه حد العشق فيحمله ذلك على أن تنفق جميع ماله في نصرة مذهبه والذب عنه ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه فكم من دم أريق في نصرة أرباب المذاهب وليت شعري من يحب الشافعي مثلاً فلم يحبه ولم يشاهد قط صورته ولو شاهده ربما لم يستحسن صورته فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة فإن صورته الظاهرة قد انقلبت تراباً مع التراب وإنما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والإحاطة بمدارك الدين وانتهاضه لإفادة علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم وهذه أمور جميلة لا يدرك جمالها إلا بنور البصيرة فأما الحواس فقاصرة عنها وكذلك من يحب أبا بكر الصديق رضي الله عنه ويفضله على غيره أو يحب علياً رضي الله عنه ويفضله ويتعصب له فلا يحبهم إلا لاستحسان صورهم الباطنة من العلم والدين والتقوى والشجاعة والكرم وغيره فمعلوم أن من يحب الصديق رضي الله تعالى عنه مثلاً ليس يحب عظمه ولحمه وجلده وأطرافه وشكله إذ كل ذلك زال وتبدل وانعدم ولكن بقي ما كان الصديق به صديقاً وهي الصفات المحمودة التي هي مصادر السير الجميلة فكان(4/299)
الحب باقياً ببقاء تلك الصفات مع زوال جميع الصور وتلك الصفات ترجع جملتها إلى العلم والقدرة إذا علم حقائق الأمور وقدر على حمل نفسه عليها بقهر شهواته فجميع خلال الخير يتشعب على هذين الوصفين وهما غير مدركين بالحس ومحلهما من جملة البدن جزء لا يتجزأ فهو المحبوب بالحقيقة وليس للجزء الذي لا يتجزأ صورة وشكل ولون يظهر للبصر حتى يكون محبوباً لأجله فإذن الجمال موجود في السير ولو صدرت السيرة الجميلة من غير علم وبصيرة لم يوجب ذلك حباً فالمحبوب مصدر السير الجميلة وهي الأخلاق الحميدة والفضائل الشريفة وترجع جملتها إلى كمال العلم والقدرة وهو محبوب بالطبع وغير مدرك بالحواس حتى إن الصبي المخلى وطبعه إذ أردنا أن نحبب إليه غائباً أو حاضراً حياً أو ميتاً لم يكن لنا سبيل إلا بالإطناب في وصفه بالشجاعة والكرم والعلم وسائر الحضال الحميدة فمهما اعتقد ذلك لم يتمالك في نفسه ولم يقدر أن لا يحبه فهل فل غلب الصحابة به رضي الله تعالى عنهم وبغض ابي جهل وبعض إبليس لعنه الله إلا بالإطناب في وصف المحاسن والمقابح التي لا تدرك بالحواس بل لما وصف الناس حاتماً بالسخاء ووصفوا خالداً بالشجاعة أحبتهم القلوب حباً ضرورياً وليس ذلك عن نظر إلى صورة محسوسة ولا عن حظ يناله المحب منهم بل إذا حكي من سيرة بعض الملوك في بعض أقطار الأرض العدل والإحسان وإفاضة الخير غلب حبه على القلوب مع اليأس من انتشار إحسانه إلى المحبين لبعد المزار ونأي الديار فإذن ليس حب الإنسان مقصوراً على من أحسن إليه بل المحسن في نفسه محبوب وإن كان لا ينتهي قط إحسانه إلى المحب لأن كل جمال وحسن فهو محبوب والصورة ظاهرة وباطنة والحسن والجمال يشملهما وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة فمن حرم البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يلتذ بها ولا يحبها ولا يميل إليها ومن كانت الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة فشتان بين من يحب نقشاً مصوراً على الحائط لجمال صورته الظاهرة وبين من يحب نبياً من الأنبياء لجمال صورته الباطنة
السبب الخامس: المناسبة الخفية بين المحب والمحبوب إذ رب شخصين تتأكد المحبة بينهما لا بسبب جمال أو حظ ولكن بمجرد تناسب الأرواح كمال قال صلى الله عليه وسلم فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (1) حديث فما تعارف منها ائتلف أخرجه مسلم من حديث ابي هريرة وقد تقدم في آداب الصحبة
بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده
وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى وحب الرسول
_________
(1) حديث فما تعارف منها ائتلف أخرجه مسلم من أبي هريرة وقد تقدم في آداب الصحبة وقد حققنا ذلك في كتاب آداب الصحبة عند ذكر الحب في الله فليطلب منه لأنه أيضاً من عجائب أسباب الحب فإذن ترجع أقسام الحب إلى خمسة أسباب: وهو حب الإنسان وجود نفسه وكماله وبقائه وحبه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه وحبه من كان محسناً في نفسه إلى الناس وإن لم يكن محسناً إليه وحبه لكل ما هو جميل في ذاته سواء كان من الصور الظاهرة أو الباطنة وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن فلو اجتمعت هذه الأسباب في شخص واحد تضاعف الحب لا محالة كما لو كان للإنسان ولد جميل الصورة حسن الخلق كامل العلم حسن التدبير محسن إلى الخلق ومحسن إلى الوالد كان محبوباً لا محالة غاية الحب وتكون قوة الحب بعد اجتماع هذه الخصال بحسب قوة هذه الخلال في نفسها فإن كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات فلقبين الآن أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى(4/300)
صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ومحب المحبوب محبوب وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه وإيضاحه بأن نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بحملتها ولا يوجد في غيره إلا آحادها وأنها حقيقة في حق الله تعالى ووجودها في حق غيره وهم وتخيل وهو مجاز محض لا حقيقة له ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذي بصيرة ضد ما تخيله ضعفاء العقول والقلوب من استحالة حب الله تعالى تحقيقاً وبان أن التحقيق يقتضي أن لا نحب أحداً غير الله تعالى
فأما السبب الأول وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله فهذه جبلة كل حي ولا يتصور أن ينفك عنها وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى فإن من عرف نفسه وعرف ربه عرف قطعاً أنه لا وجود له من ذاته وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله فهو المخترع الموجد له وهو المبقي له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه ذو خلق الهداية إلى استعمال الأسباب وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم لوجوده والمديم له إن عرفه خالقاً موجداً ومخترعاً مبقياً وقيوماً بنفسه ومقوماً لغيره فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه والمحبة ثمرة المعرفة فتنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله تعالى من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإن الكل من آثار قدرته ووجود الكل تابع لوجوده كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها وموجود بها وهو خطأ محض إذا انكشف لأرباب القلوب انكشافاً أظهر من مشاهدة الأبصار أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعاً عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضاً حاصل من قدرة الله تعالى ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق فإذن إن كان حب الإنسان نفسه ضرورياً فحبه لمن به قوامه أولاً ودوامه ثانياً في أصله وصفاته وظاهره وباطنه وجواهره وأعراضه أيضاً ضروري إن عرف ذلك كذلك ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته وهو عالم الشهادة الذي يشاركه البهائم في التنعم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة فينظر فيه بقدر قربه في الصفات من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم
وأما السبب الثاني وهو حبه من أحسن عليه فواساه بماله ولاطفه بكلامه وأمده بمعونته وانتدب لنصرته(4/301)
وقمع أعداءه وقام بدفع شر الأشرار عنه وانتهض وسيلة إلى جميع حظوظه وأغراضه في نفسه وأولاده وأقاربه فإنه محبوب لا محالة عنده وهذا بعينه يقتضي أن لا يحب إلا الله تعالى فإنه لو عرف حق المعرفة لعلم أن المحسن إليه هو الله تعالى فقط فأما أنواع إحسانه إلى كل عبيده فلست أعدها إذ ليس يحيط بها حصر حاصر كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقد أشرنا إلى طرف منه في كتاب الشكر ولكنا نقتصر الآن على بيان أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز وإنما المحسن هو الله تعالى ولنفرض ذلك فيمن أنعم عليك بجميع خزائنه ومكنك منها لتتصرف فيها كيف تشاء فإنك تظن أن هذا الإحسان منه وهو غلط فإنه إنما تم إحسانه به وبماله وبقدرته على المال وبداعيته الباعثة له على صرف المال إليك فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق قدرته وخلق إرادته وداعيته ومن الذي حببك إليه وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في الإحسان إليك ولولا كل ذلك لما أعطاك حبة من ماله ومهما سلط الله عليه الدواعي وقرر في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في أن يسلم إليك ماله كان مقهوراً مضطراً في التسليم لا يستطيع مخالفته فالمحسن هو الذي اضطره لك وسخره وسلط عليه الدواعي الباعثة المرهقة إلى الفعل وأما يده فواسطة يصل بها إحسان الله إليك وصاحب اليد مضطر في ذلك اضطراراً مجرى الماء في جريان الماء فيه فإن اعتقدته محسناً أو شكرته من حيث هو بنفسه محسن لا من حيث هو واسطة كنت جاهلاً بحقيقة الأمر فإنه لا يتصور الإحسان من الإنسان إلا إلى نفسه أما الإحسان إلى غيره فمحال من المخلوقين لأنه لا يبذل ماله إلا لغرض له البذل إما آجل وهو الثواب وإما عاجل وهو المنة والاستسخار أو الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء والكرم أو جذب قلوب الخلق إلى الطاعة والمحبة وكما أن الإنسان لا يلقي ماله في البحر إذ لا غرض له فيه فلا يلقيه في يد إنسان إلا لغرض له فيه وذلك الغرض هو مطلوبه ومقصده وأما أنت فلست مقصوداً بل يدك آلة له في القبض حتى يحصل غرضه من الذكر والثناء أو الشكر أو الثواب بسبب قبضك المال فقد استسخرك في القبض للتوصل إلى غرض نفسه فهو إذن محسن إلى نفسه ومعتاض عما بذله من ماله عوضاً هو أرجح عنده من ماله ولولا رجحان ذلك الحظ عنده لما نزل عن ماله لأجلك أصلاً البتة فإذن هو غير مستحق للشكر والحب من وجهين
أحدهما أنه مضطر بتسليط الله الدواعي عليه فلا قدرة له على المخالفة فهو جار مجرى خازن الأمير فإنه لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير إلى من خلع عليه لأنه من جهة الأمير مضطر إلى الطاعة والامتثال لما يرسمه ولا يقدر على مخالفته ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك فكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله حتى سلط الله الدواعي عليه وألقى في نفسه أن حظه ديناً ودنيا في بذله فبذله لذلك والثاني أنه معتاض عما بذله حظاً هو أوفى عنده وأحب مما بذله فكما لا يعد البائع محسناً لأنه بذل بعوض هو أحب عنده مما بذله فكذلك الواهب اعتاض الثواب أو الحمد والثناء أو عوضاً آخر وليس من شرط العوض أن يكون عيناً متمولاً بل الحظوظ كلها أعواض تستحقر الأموال والأعيان بالإضافة إليها فالإحسان في الجود والجود هو بذل المال من غير عوض وحظ يرجع إلى الباذل وذلك محال من غير الله سبحانه فهو الذي أنعم على العالمين إحساناً إليهم ولأجلهم لا لحظ وغرض يرجع إليه فإنه يتعالى عن الأغراض فلفظ الجود والإحسان في حق غيره كذب أو مجاز ومعناه في حق غيره محال وممتنع امتناع الجمع بين السواد والبياض فهو المنفرد بالجود والإحسان والطول والامتنان فإن كان في الطبع حب المحسن فينبغي أن لا يحب العارف إلا الله تعالى إذ الإحسان(4/302)
من غيره محال فهو المستحق لهذه المحبة وحده وأما غيره فيستحق المحبة على الإنسان بشرط الجهل بمعنى الإحسان وحقيقته
وأما السبب الثالث وهو حبك المحسن في نفسه وإلى لم يصل إليك إحسانه وهذا أيضاً موجود في الطباع
فإنه إذا بلغك خبر ملك عابد عادل عالم رفيق بالناس متلطف بهم متواضع لهم وهو في قطر من أقطار الأرض بعيد عنك وبلغك خبر ملك آخر ظالم متكبر فاسق متهتك شرير وهو أيضاً بعيد عنك فإنك تجد في قلبك تفرقة بينهما إذ تجد في القلب ميلاً إلى الأول وهو الحب ونفرة عن الثاني وهو البغض مع أنك آيس من خير الأول وآمن من شر الثاني لانقطاع طمعك عن التوغل إلى بلادهما فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن فقط لا من حيث إنه محسن إليك وهذا أيضاً يقتضي حب الله تعالى بل يقتضي أن لا يحب غيره أصلاً إلا من حيث يتعلق منه بسبب فإن الله هو المحسن إلى الكافة والمتفضل على جميع أصناف الخلائق أولاً بإيجادهم وثانياً بتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم وثالثاً بترفيههم وتنعيمهم بخلق الأسباب التي هي في مظان حاجاتهم وإن لم تكن في مظان الضرورة ورابعاً بتجميلهم بالمزايا والزوائد التي هي في مظنة زينتهم وهي خارجة عن ضروراتهم وحاجاتهم
ومثال الضروري من الأعضاء الرأس والقلب والكبد ومثال المحتاج إليه العين واليد والرجل ومثال الزينة استقواس الحاجبين وحمرة الشفتين وتلون العينين إلى غير ذلك مما لو فات لم تنخرم به حاجة ولا ضرورة
ومثال الضروري من النعم الخارجة عن بدن الإنسان الماء والغذاء ومثال الحاجة الدواء واللحم والفواكه ومثال المزايا والزوائد خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار ولذائذ الفواكه والأطعمة التي لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة
وهذه الأقسام الثلاثة موجودة لكل حيوان بل لكل نبات بل لكل صنف من أصناف الخلق من ذروة العرش إلى منتهى الفرش فإذن هو المحسن فكيف يكون غيره محسناً وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته فإنه خالق الحسن وخالق المحسن وخالق الإحسان وخالق أسباب الإحسان فالحب بهذه العلة لغيره أيضاً جهل محض ومن عرف ذلك لم يحب بهذه العلة إلا الله تعالى
وأما السبب الرابع وهو حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال فقد بينا أن ذلك مجبول في الطباع وأن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة والأول يدركه الصبيان والبهائم والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال فإن كان مدركاً بالقلب فهو محبوب القلب ومثال هذا في المشاهدة حب الأنبياء والعلماء وذوي المكارم السنية والأخلاق المرضية فإن ذلك منضور مع تشوش صورة الوجه وسائر الأعضاء وهو المراد بحسن الصورة الباطنة والحس لا يدرك نعم يدرك بحسن آثاره الصادرة منه الدالة عليه حتى إذا دل القلب عليه مال القلب إليه فأحبه فمن يحب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الصديق رضي الله تعالى عنه أو الشافعي رحمة الله عليه فلا يحبهم إلا لحسن ما ظهر له منهم وليس ذلك لحسن صورهم ولا لحسن أفعالهم بل دل حسن أفعالهم على حسن الصفات التي هي مصدر الأفعال إذ الأفعال آثار صادرة عنها ودالة عليها فمن رأى حسن تصنيف المصنف وحسن شعر الشاعر بل(4/303)
حسن نقش النقاش وبناء البناء انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة التي يرجع حاصلها عند البحث إلى العلم والقدرة ثم كلما كان المعلوم أشرف وأتم جمالا وعظمة كان العلم أشرف وأجمل وكذا المقدور كلما كان أعظم رتبة وأجل منزلة كانت القدرة عليه أجل رتبة وأشرف قدراً وأجل المعلومات هو الله تعالى فلا جرم أحسن العلوم وأشرفها معرفة الله تعالى وكذلك ما يقاربه ويختص به فشرفه على قدر تعلقه به
فإذن جمال صفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى ثلاثة أمور أحدها علمهم بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه والثاني قدرتهم على إصلاح أنفسهم وإصلاح عباد الله بالإرشاد والسياسة والثالث تنزههم عن الرذائل والخبائث والشهوات الغالبة الصارفة عن سنن الخير الجاذبة إلى طريق الشر وبمثل هذا يحب الأنبياء والعلماء والخلفاء والملوك الذين هم أهل العدل والكرم فأنسب هذه الصفات إلى صفات الله تعالى
أما العلم فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وقد خاطب الخلق كلهم فقال عز وجل وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة أو بعوضة لم يطلعوا على عشر عشير ذلك ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والقدر اليسير الذي علمه الخلائق كلهم فبتعليمه علموه كما قال تعالى خلق الإنسان علمه البيان فإن كان جمال العلم وشرفه أمراً محبوباً وكان هو في نفسه زينة وكمالا للموصوف به فلا ينبغي أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى
فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم وإن كان الأجهل لا يخلو عن علم ما تتقاضاه معيشته والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم لأن الأعلم لا يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور في الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية
وأما صفة القدرة فهي أيضاً كمال والعجز نقص فكل كمال وبهاء وعظمة واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ حتى إن الإنسان ليسمع في الحكاية شجاعة علي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما من الشجعان وقدرتهما واستيلاؤهما على الأقران فيضاف في قلبه اهتزازاً وفرحاً وارتياحا ضروريا بمجرد لنة السماع فضلاً عن المشاهدة ويورث ذلك حباً في القلب ضرورياً للمتصف به فإنه نوع كمال فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكاً وأقواهم بطشاً وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ما منتهى قدرته وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا ضراً ولا نفعاً بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم وبدنه من المرض ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته فضلاً عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها فلا قدرة له على ذرة منها وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك ولو سلط بعوضاً على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه فليس للعبد(4/304)
قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين إذ قال إنا مكنا له في الأرض فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم وجميع الولايات التي يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة ثم تلك الغبرة أيضاً من فضل الله تعالى وتمكينه فيستحيل أن يحب عبداً من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته ولا يحب الله تعالى لذلك ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فهو الجبار القاهر والعليم القادر السموات مطويات بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته وناصية جميع المخلوقات في قبضة قدرته إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقها ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلاً
وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث فهو أحد موجبات الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك والقدوس ذي الجلال والإكرام
وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص بل كونه عاجزاً مخلوقاً مسخراً مضطراً هو عين العيب والنقص فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبداً مسخراً لغيره قائماً بغيره وذلك محال في حق غيره فهو المنفرد بالكمال المنزه عن النقص المقدس عن العيوب وشرح وجوه التقدس والتنزه في حقه عن النقائص يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره فهذا الوصف أيضاً إن كان كمالاً وجمالاً محبوباً فلا تتم حقيقته إلا له وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقاً بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصاناً كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار وللإنسان كمالاً بالإضافة إلى الفرس وأصل النقص شامل للكل وإنما يتفاوتون في درجات النقصان
فإذن الجميل محبوب والجميل المطلق هو الواحد الذي لا ند له الفرد الذي لا ضد له الصمد الذي لا منازع له الغني الذي لا حاجة له القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه العالم الذي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات والأرض القاهر الذي لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة الأزلي الذي لا أول لوجوده الأبدي الذي لا آخر لبقائه الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به جبار السموات والأرض خالق الجماد والحيوان والنبات المنفرد بالعزة والجبروت والمتوحد بالملك والملكوت ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال الذي تتحير في معرفة جلاله العقول وتخرس في وصفه الألسنة الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) وقال سيد الصديقين رضي الله تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك سبحان من لم يجعل للخلق طريقاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فليت شعري من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقاً ويجعله مجازاً أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال
_________
(1) حديث لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك تقدم(4/305)
والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ينكر كون الله تعالى موصوفاً بها أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوباً بالطبع عند من أدركه فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون
فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان لأن الإحسان يزيد وينقص ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام إن أود الأوداء إلى من عبدني بغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها وفي الزبور من أظلم ممن عبدنى لجنة أونار لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً أن أطاع ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا نخاف النار ونرجو الجنة فقال لهم مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم ومر بقوم آخرين كذلك فقالوا نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله فقال أنتم أولياء الله حقاً معكم أمرت أن أقيم وقال أبو حازم إني لأستحي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل
وفي الخبر لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجراً لم يعمل ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل (1)
وأما السبب الخامس للحب فهو المناسبة والمشاكلة لأن شبه الشيء منجذب إليه والشكل إلى الشكل أميل
ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير ويألف الطير نوعه وينفر من غير نوعه وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه بالفلاح وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار كما استقصيناه في باب الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه
وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي الصبى في معنى الصبا وقد يكون خفياً حتى لا يطلع عليه كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال أو طمع في مال أو غيره كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فالتعارف هو التناسب والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضاً يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال بل إلى معان باطنة يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر بل يترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك
فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية حتى قيل تخلقوا بأخلاق الله وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل إلى غير ذلك من مكارم الشريعة فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان بل بالصفات
وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي فهى التى يومىء إليها قوله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق وأوضح من ذلك قوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ولذلك أسجد له ملائكته ويشير إليه قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجراً لم يعمل لم أجد له أصلا(4/306)
إن الله خلق آدم على صورته (1) حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون علواً كبيراً وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام مرضت فلم تعدني فقال يا رب وكيف ذلك قال مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته وجدتني عنده (2) وهذه المناسبة لاتظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به (3) وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم أنا الحق وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا هو الإله وقال آخرون منهم تذرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون اتحد به وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الانحاد والحلول واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر فهم الأقلون ولعل أبا الحسن النوري عن هذا المقام كان ينظر إذا غلبه الوجد في قول القائل
لازلت أنزل من ودادك منزلاً ... تتحير الألباب عند نزوله
فلم يزل يعدو في وجده على أجمة قد قطع قصبها وبقي أصوله حتى تشققت قدماه وتورمتا مات من ذلك وهذا هوأعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجوداً فهذه هي المعلومة من أسباب الحب وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقا لا مجانا وفي أعلى الدرجات لا في أدناها فكان المعقول المقبول عند ذوي البصائر حب الله تعالى فقط كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط ثم كل من يحب من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور أن يحب غير لمشاركته إياه في السبب والشركة نقصان في الحب وغض من كماله ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التي هي نهاية الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجوداً ولا يتصور أن يكون ذلك إمكاناً فلا جرم لا يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته فهو المستحق إذاً لأصل المحبة ولكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً
بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن لا يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة
اعلم أن اللذات تابعة للإدراكات والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز ولكل قوة وغريزة لذة ولذتها في نيلها المقتضي طبعها الذي خلقت له فإن هذه الفرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع فغريزة الغضب خلقت للنشفى والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها وغريزة شهوة الطعام مثلاً خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم لذتها في نيل هذا الغذاء الذي هو مقتضى طبعها وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي لقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وقد تسمى العقل وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى
_________
(1) حديث إن الله خلق آدم على صورته تقدم
(2) حديث قوله تعالى مرضت فلم تعدني فقال وكيف ذاك قال مرض فلان الحديث تقدم
(3) حديث قوله تعالى لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم(4/307)
نور الإيمان واليقين ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعاني لأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة كإدراكه خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية ولنسم تلك الغريزة عقلاً بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة فقد اشتهر اسم العقل بهذا ولهذا ذمه بعض الصوفية وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك معرفة الله تعالى أعز الصفات فلا ينبغي أن تذم وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها فمقتضى طبعها المعرفة والعلم وهي لذتها كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى إن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به فإن العلم من أخص صفات الربوبية وهي منتهى الكمال ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به ثم ليست لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق ولا لذة العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض بل لذة العلم بقدر شرف العلم وشرف العلم بقدر شرف المعلوم حتى إن الذي يعلم بواطن أحوال الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه فإن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من علمه بباطن حال فلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس فإن كان خبيراً بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولى على الوزير كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن أسرار الوزير وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم
فهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها وشرفها بحسب شرف المعلوم فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها
وليت شعري هل في الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الإطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار وبهذا تبين أن العلم لذيذ وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس فإن اللذات مختلفة بالنوع أولاً كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع ولذة المعرفة للذة الرياسة
وهي مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق المغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال وإنما تعرف أقوى(4/308)
اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل فيعلم به أن لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الاكل
فهذا معيا صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول
اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا الأذن ولا للمس ولا للذوق والمعاني الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة فلو خير الرجل بين لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة وإن كان على الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياماً كثيرة فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من الطعومات الطيبة نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبا والعته فلذة معرفة الله تعالى ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وغاية العبارة عنه أن يقال فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرة أعين وأنه أعد لهم مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولاخطر على قلب بشر وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته وكونه مشوباً بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها وكونه مقطوعاً بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله ومطالعة صفاته وأفعاله ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين فإنها خالية من المزاحمات والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكبرها وإنما عرضها من حيث التقدير السموات والأرض وإذا خرج النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع من حياضها وهو آمن من انقطاعها إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي وإنما الموت بغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها فأما أن يعدمها فلا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الآية
ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد وفي الخبر إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة وإن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء (1)
فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم
_________
(1) حديث ان الشهيد يتمنى أن يرد في الآخرة إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى الحديث متفق عليه من حديث أنس وقد تقدم وليس فيه وان الشهداء يتمنون أن يكونوا علماء الحديث(4/309)
وسعة معارفهم وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة ولكن يؤثرون الرياسة فأما معنى كون معرفة الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأسرار ملكه أعظم لذة من الرياسة فهذا يختص بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له لأن القلب معدن هذه القوة كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان ولا رجحانه على لذة شم البنفسج عند العنين لأنه فقد الصفة التي بها تدرك هذه اللذة ولكن من سلم من آفة العنة وسلم حاسة شمه أدرك التفاوت بين اللذتين وعند هذا لا يبقى إلا أن يقال من ذاق عرف
ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوى حرصهم على طلبها فإنها أيضاً معارف وعلوم وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشئ اليسير فإنه يصادف في قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق والحكاية فيه قليلة الجدوى
فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها
ولهذا قال أبو سليمان الداراني إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله ولذلك قال بعض إخوان معروق الكرخي له أخبرني يا أبا محفوظ أي شئ هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق فسكت فقال ذكر الموت فقال وأي شئ الموت فقال ذكر القبر والبرزخ فقال وأى شئ القبر فقال خوف النار ورجاء الجنة فقال وأي شئ هذا إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا
وفي أخبار عيسى عليه السلام إذا رأيت الفتى مشغوفاً بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه
ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق فقال تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان قلت فأنت قال علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه
وعن علي بن الموفق قال رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفح وجوه الناس فيدخل بعضاً ويرد بعضاً قال ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف فقلت لرضوان من هذا قال معروف الكرخي عبد الله لا خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنته بل حباً له فأباحه النظر إليه إلى يوم القيامة
وذكر أن الآخرين بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل ولذلك قال أبو سليمان من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو عذا مشغول بربه
وقال الثوري لرابعة ما حقيقة إيمانك قالت ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه وقالت في معنى المحبة نظماً
أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا(4/310)
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا ولعلها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة وبحبه لما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها وهو أعلى الحبين وأقواهما ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قال حاكياً عن ربه تعالى أعددت لعبادي الصالحين مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر (1) وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية ولذلك قال بعضهم إني أقول يا رب يا الله فأجد ذلك على قلبي أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب وهل رأيت جليساً ينادي جليسه وقال إذا بلغ لارجل في هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة أي يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنوناً أو كفراً
فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفى لهم منها وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها وصار القلب مستغرقاً بنعيمها فلو ألقي في النار لم يحس بها لاستغراقه ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية وليت شعر من لم يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة النظر إلى وجه الله تعالى وماله صورة ولا شكل وأي معنى لو عد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة كما قال بعضهم
كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
ولذلك قال بعضهم
وهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته
وما أرادوا بهذا إلا إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح فإن الجنة معدن تمتع الحواس فأما القلب فلذته في لقاء الله فقط
ومثال أطوار الخلق في لذتهم ما نذكره وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء ثم يظهر بعده لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب فيستحقر معها لذة اللعب ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول إليها ثم تظهر لذة الرياسة والعلو والتكاثر وهي آخر لذات الدنيا وأعلاها وأقواها كما قال تعالى اعلمواأنما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وتكاثر الآية
ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله فيستحقر معها جميع ما قبلها فكل متأخر فهو أقوى وهذا هو الأخير إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز وحب النساء والزينة في سن البلوغ وحب الرياسة بعد العشرين وحب العلوم بقرب الأربعين وهي الغاية العليا وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى والعارفون يقولون إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون
_________
(1) حديث قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة(4/311)
بيان السبب في زيادة النظر في لذة الآخرة على المعرفة في الدنيا
اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة والمتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات وإلى مالا يدخل في الخيال كذات الله تعالى وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها
ومن رأى إنساناً ثم غض بصره وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف فإن صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافاً ووضوحاً وهو كشخص يرى في وقت الإسفار قبل انتشار ضوء النهار ثم رؤى عند تمام الضوء فإنه لا تفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف
فإذن الخيال أول الإدراك والرؤية هو الاستكمال لإدراك الخيال وهو غاية الكشف وسمي ذلك رؤية لأنه غاية الكشف لا لأنه في العين بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المكشوف في الجبهة أو الصدر مثلاً استحق أن يسمى رؤية وإذا فهمت هذا في المتخيلات فاعلم أن المعلومات التي لا تتشكل أيضاً في الخيال لمعرفتها وإدراكها درجتان إحداهما {أولى} والثانية استكمال لها
وبين الأولى والثانية من التفاوت في مزيد الكشف والإيضاح ما بين المتخيل والمرئي فيسمى الثاني أيضاً بالإضافة إلى الأول مشاهدة ولقاء ورؤية وهذه التسمية حق لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف وكما أن سنة الله تعالى جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجاباً بين البصر والمرئي ولا بد من ارتفاع الحجب لحصول الرؤية وما لم ترتفع كان الإدراك الحاصل مجرد التخيل فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجة عن الخيال بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن روية الأبصار
والقول في سبب كونها حجاباً يطول ولا يليق بهذا العلم
ولذلك قال تعالى لموسى عليه السلام لن تراني وقال تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج (1) فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا غير منفكة عنها بالكلية وإن كانت متفاوتة فمنها ما تراكم عليه الخبث والصدأ فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها فلا تقبل الإصلاح والتصقيل وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك ومنها ما لم ينته إلى حد الرين والطبع ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل فيعرض على النار عرضاً يقمع منه الخبث الذي هو متدنس به ويكون العرض على النار بقدر الحاجة إلى التزكية وأقلها لحظة خفيفة وأقصاها في حق المؤمنين كما وردت به الأخبار سبعة آلاف سنة (2) ولن ترتحل نفس عن
_________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج في الصحيح هذا الذى صححه المصنف هو قول عائشة ففي الصحيحين أنها قالت من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ولمسلم من حديث أبى ذر سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نورانى أراه وذهب ابن عباس وأكثر العلماء إلى إثبات رؤيته له وعائشة لم ترو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبى ذر قال فيه أحمد مازلت له منكرا وقال ابن خزيمة في القلب من صحة إسناده شىء مع أن في رواية لأحمد في حديث أبي ذر رأيته نورا انى أراه ورجال إسنادها رجال الصحيح
(2) حديث ان أقصى المكث في النار في حق المؤمنين سبعة آلاف سنة أخرجه الترمذى الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبى هريرة إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتى الحديث وفيه وأطولهم مكثا فيها مثل الدنيا من يوم خلقت إلى يوم القيامة وذلك سبعة آلاف سنة وإسناده ضعيف(4/312)
هذا العالم إلا ويصحبها غبرة وكدورة ما وإن قلت ولذلك قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظالمين فيها جثياً فكل نفس مستيقنة للورود على النار وغير مستيقنة للصدور عنها فإذا أكمل الله تطهيرها وتزكيتها وبلغ الكتاب أجله ووقع الفراغ عن جملة ما وعد به الشرع من الحساب والعرض وغيره ووافى استحقاق الجنة وذلك وقت مبهم لم يطلع الله عليه أحداً من خلقه فإنه واقع بعد القيامة ووقت القيامة مجهول فعند ذلك يشتغل بصفائه ونقائه عن الكدورات حيث لا يرهق وجهه غبرة ولا قترة لأن فيه يتجلى الحق سبحانه وتعالى فيتجلى له تجلياً يكون انكشاف تجليه بالإضافة إلى ما علمه كانكشاف تجلي المرآة بالإضافة إلى ما تخيله
وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية فإذن الرؤية حق بشرط أن لا يفهم من الرؤية استكمال الخيال في متخيل متصور مخصوص بجهة ومكان فإن ذلك مما يتعالى عنه رب الأرباب علواً كبيراً بل كما عرفته في الدنيا معرفة حقيقية تامة من غير تخيل وتصور وتقدير شكل وصورة فتراه في الآخرة كذلك
بل أقول المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينها هي التي تستكمل فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح كما ضربناه من المثال في استكمال الخيال بالرؤية
فإذا لم يكن في معرفة الله تعالى إثبات صورة وجهه فلا يكون في استكمال تلك المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف أيضاً جهة وصورة لأنها هي بعينها لا تفترق منها إلا في زيادة الكشف كما أن الصورة المرئية هي المتخيلة بعينها إلا في زيادة الكشف وإليه الإشارة بقوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا إذ تمام النور لا يؤثر إلا في زيادة الكشف ولهذا لا يفوز بدرجة النطر والرؤية إلا العارفون في الدنيا لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة شجرة والحب زرعاً ومن لا نواة في أرضه كيف يحصل له نخل ومن لم يزرع الحب فكيف يحصد الزرع فكذلك من لم يعرف الله تعالى في الدنيا فكيف يراه في الآخرة ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي أيضاً على درجات متفاوتة فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذر إذ تختلف لا محالة بكثرتها وقلتها وحسنها وقوتها وضعفها ولذلك قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة (1) فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر ممن هو دونه يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر بل لا يجد إلا عشر عشيره إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشيره ولما فضل من الناس بسر وقر في صدره فضل لا محالة بتدل انفرد به وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعاً فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والإطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب وسائر الخلق مشغولون به
ولذلك لما قيل لرابعة ما تقولين في الجنة فقال الجار ثم الدار
فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة بل إلى رب الجنة
وكل من لم يعرف الله في الدنيا فلا يراه
_________
(1) حديث إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة أخرجه ابن عدى من حديث جابر وقال باطل بهذا الإسناد وفي الميزان للذهبى أن الدارقطنى رواه عن المحاملى عن على بن عبدة وقال الدارقطنى ان على بن عبدة كان يضع الحديث ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وابن الجوزى في الموضوعات من حديث جابر وأبى بردة وعائشة(4/313)
في الآخرة وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهي فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره بل ربما يتأذى به
فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر معرفته فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان
فإن قلت فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهي قليلة وإن كان أضعافها لأن لذة المعرفة في الدنيا ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها فاعلم أن هذا الاستحقار للذة المعرفة صدر من الخلو عن المعرفة فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها وإن انطوى على معرفة ضفيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا فكيف يدرك لذتها فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلاً إلى لذة اللقاء والمشاهدة كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته ولا لذة استنشاق روائح الأطعمة الشهية إلى ذوقها ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع
وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال فنقول لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب أحدهما كمال جمال المعشوق ونقصانه فإن اللذة في النظر إلى الأجمل أكمل لا محالة
والثاني كمال قوة الحب والشهوة والعشق فليس التذاذ من اشتد عشقه كالتذاذ ضعفت شهوته وحبه
والثالث كمال الإدراك فليس التذاذ برؤية المعشوق في ظلمة أو من وراء ستر رقيق أو من بعده كالتذاذه بإدراكه على قرب من غير ستر وعند كمال الضوء ولا إدراك لذة المضاجعة مع ثوب حائل كإدراكها مع التجرد
والرابع اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب فليس التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم أو المشغول قلبه بمهم من المهمات
فقدر عاشقاً ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة معشوقه فلو طرأت على الفجأة حالة انهتك بها الستر وأشرق بها الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجمت عليه الشهوة القوية والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليها نسبة يعتد بها فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة
فالستر الرقيق مثال البدن والاشتغال به والعقارب والزنابير مثال الشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاتها إلى أسفل السافلين وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرياسة والتفاته إلى اللعب بالعصفور والعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه المشوشات ولا يتصور أن يخلو عنها البتة
نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم فلا جرم يلوح من جمال المعرفة ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته ولكن يكون ذلك(4/314)
كالبرق الخاطف وقلما يدوم بل يعرض من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينغصه وهذه ضرورة دائمة في هذه الحياة الفانية فلا تزال هذه اللذة منغصة إلى الموت وإنما الحياة الطيبة بعد الموت وإنما العيش عيش الآخرة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وكل من انتهى إلى هذه الرتبة فإنه يحب لقاء الله تعالى فيحب الموت ولا يكره إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال في المعرفة فإن المعرفة كالبذر وبحر المعرفة لا ساحل له فالإحاطة بكنه جلال الله محال فكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله وبأسرار مملكته وقويت كثر النعيم في الآخرة وعظم كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا ولا يزرع إلا في صعيد القلب ولا حصاد إلا في الآخرة
ولهذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله (1) لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والمواظبة على المجاهدة والانقطاع عن علائق الدنيا والتجرد للطلب ويستدعي ذلك زماناً لا محالة فمن أحب الموت أحبه لأنه رأى نفسه واقفاً في المعرفة بالغاً إلى منتهى ما يسر له ومن كره الموت كرهه لأنه كان يؤمل مزيد معرفة تحصل له بطول العمر ورأى نفسه مقصراً عما تحتمله قوته لو عمر فهذا سبب كراهة الموت وحبه عند أهل المعرفة
وأما سائر الخلق فنظرهم مقصور على شهوات الدنيا إن اتسعت أحبوا البقاء وإن ضاقت تمنوا الموت
وكل ذلك حرمان وخسران مصدره الجهل والغفلة
فالجهل والغفلة مغرس كل شقاوة
والعلم والمعرفة أساس كل سعادة فقد عرفت بما ذكرناه معنى المحبة ومعنى العشق فإنه المحبة المفرطة القوية ومعنى لذة المعرفة ومعنى الرؤية ومعنى لذة الرؤية ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند ذوي العقول والكمال وإن لم تكن كذلك عند ذوي النقصان كما لم تكن الرياسة ألذ من المطعومات عند الصبيان
فإن قلت فهذه الرؤيا محلها القلب أو العين في الآخرة فاعلم أن الناس قد اختلفوا في ذلك وأرباب البصائر لا يلتفتون إلى هذا الخلاف ولا ينظرون فيه بل العاقل يأكل البقل ولا يسأل عن المبقلة ومن يشتهي رؤية معشوقه يشغله عشقه عن أن يلتفت إلى أن رؤيته تخلق في عينه أو جبهته بل يقصد الرؤيا ولذتها سواء كان ذلك بالعين أو غيرها فإن العين محل وظرف لا نظر إليه ولا حكم له والحق فيه أن القدرة الأزلية واسعة فلا يجوز أن نحكم عليها بالقصور عن أحد الأمرين هذا في حكم الجواز فأما الواقع في الآخرة من الجائزين فلا يدرك إلا بالسمع (2) والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجري على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة والله تعالى أعلم
بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى
اعلم أن أسعد الخلق حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من
_________
(1) حديث أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله أخرجه إبراهيم الحربي في كتاب ذكر الموت من رواية ابن لهيعة عن ابن الهاد عن المطلب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال السعادة كل السعادة طول العمر في طاعة الله ووالد المطلب عبد الله بن حوطب مختلف في صحبته ولأحمد من حديث جابر إن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة والترمذى من حديث أبى بكرة أن رجلاً قال يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قال هذا حديث حسن صحيح وقد تقدم
(2) حديث رؤية الله في الآخرة حقيقة متفق عليه من حديث أبى هريرة أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر الحديث(4/315)
غير منغص ومكدر ومن غير رقيب ومزاحم ومن غير خوف انقطاع إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة وأما قوة الحب واستيلاؤه حتى ينتهي إلى الاستهتار الذي يسمى عشقاً فذلك ينفك عنه الأكثرون وإنما يحصل ذلك بسبين أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب فإن القلب مثل الإناء لا يتسع للخل مثلاً ما لم يخرج منه الماء ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وكمال الحب في أن يحب الله عز وجل بكل قلبه
وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه
وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم وبقوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بل هو معنى قولك لا إله إلا الله أى لا معبود ولا محبوب سواه فكل محبوب فإنه معبود فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به
وكل محب فهو مقيد بما يحبه ولذلك قال الله تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال صلى الله عليه وسلم أبغض إله عبد في الأرض الهوى ولذلك قال عليه السلام من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط ومن هذا حاله فالدنيا سجنه لأنها مانعة له من مشاهدة محبوبه وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب فما حال من ليس له إلا محبوب واحد وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه فخلى من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنتزهات حتى إن المتفرح بطيب أصوات الطيور وروح نسم الأسحار ملتفت إلى نعيم الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله تعالى بسببه فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئا إلا وينقص بقدره من الآخرة بالضرورة كما أنه لا يقرب الإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة من المغرب بقدره ولا يطيب قلب امرأته إلا ويضيق به قلب ضرتها فالدنيا والآخرة ضرتان وهما كالمشرق والمغرب وقد انكشف ذلك لذوي القلوب انكشافاً أوضح من الإبصار بالعين وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرجاء فما ذكرناها من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة وهو تخلية القلب عن غير الله وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار ثم يتشعب منه الخوف والرجاء ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا وفي المال والجاه وكل حظوظ الدنيا حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه فكل ذلك مقدمات تطهير القلب وهو أحد ركني المحبة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام الطهور شطر الإيمان (1) كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة السبب الثاني لقوة المحبة قوة معرفة الله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب وذلك بعد تطهير القلب من جميع شواغل الدنيا وعلائقها يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها من الحشيش وهو الشطر الثاني ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلاً حيث قال {ضرب الله مثلاً كلمة}
_________
(1) حديث الطهور شطر الإيمان أخرجه مسلم حديث أبى مالك من الأشعرى وقد تقدم(4/316)
{طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} وإليها الإشارة بقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب} أي المعرفة {والعمل الصالح يرفعه} فالعمل الصالح كالجمال لهذه المعرفة وكالخادم وإنما العمل الصالح كله في تطهير القلب أولاً من الدنيا ثم إدامة طهارته فلا يراد العمل إلا لهذه المعرفة وأما العلم بكيفية العمل فيراد للعمل فالعلم هو الأول وهو الآخر وإنما الأول علم المعاملة وغرضه العمل وغرض المعاملة صفاء القلب وطهارته ليتضح فيه جلية الحق ويتزين بعلم المعرفة وهو علم المكاشفة ومهما حصلت هذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة كما أن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه ومال إليه ومهما أحبه حصلت اللذة فاللذة تبع المحبة بالضرورة والمحبة تبع المعرفة بالضرورة ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله تعالى وفي صفاته وفي ملكوت سمواته وسائر مخلوقاته والواصلون إلى هذه الرتبة ينقسمون إلى الأقوياء ويكون أول معرفتهم بالله تعالى ثم به يعرفون غيره وإلى الضعفاء ويكون أول معرفتهم بالأفعال ثم يترقون منها إلى الفاعل وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وبقوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ومنه نظر بعضهم حيث قيل له بم عرفت ربك قال عرفت ربي ولولا ربي لما عرفت ربي وإلى الثاني الاشارة بقوله تعالى {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} الآية وبقوله عز وجل أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وبقوله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وبقوله تعالى الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين وهو الأوسع على السالكين وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبر والتفكر والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر فإن قلت كلا الطريقين مشكل فأوضح لنا منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل به إلى المحبة فاعلم أن الطريق الأعلى هو الاستشهاد بالحق سبحانه على سائر الخلق فهو غامض والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق فلا فائدة في إيراده في الكتب وأما الطريق الأسهل الأدنى فأكثره غير خارج عن حد الأفهام وإنما قصرت الأفهام عنه لإعراضها عن التدبر واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس والمانع من ذكر هذا اتساعه وكثرته وانشعاب أبوابه الخارجة عن الحصر والنهاية إذ مامن ذرة من أعلى السموات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته وذلك مما لا يتناهى {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} فالخوض فيه انغماس في بحار علوم المكاشفة ولا يمكن أن يتطفل به على علوم المعاملة ولكن يمكن الرمز إلى مثال واحد على الإيجاز ليقع التنبيه لجنسه فنقول أسهل الطريقين النظر إلى الأفعال فلنتكلم فيها ولنترك الأعلى ثم الأفعال الإلهية كثيرة فنطلب أقلها وأحقرها وأصغرها ولننظر في عجائبها فأقل المخلوقات هو الأرض وما عليها أعني بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات فإنك إن نظرت فيها من حيث الجسم والعظم في الشخص فالشمس على ما ترى من صغر حجمها هي مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى(4/317)
فلكها الذي هي مركوزة فيه فإنه لا نسبة لها إليه وهي في السماء الرابعة وهي صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها من السموات السبع ثم السموات السبع في الكرسي كخلقة في فلاة والكرسي في العرش كذلك فهذا نظر إلى ظاهر الأشخاص من حيث المقادير وما أحقر الأرض كلها بالإضافة إليها بل ما أصغر الأرض بالإضافة إلى البحار فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض (1) ومصداق هذا عرف بالمشاهدة والتجربة وعلم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب الذي هو جزء من الأرض وإلى سائر الحيوانات وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض ودع عنك جميع ذلك فأصغر ما نعرفه من الحيوانات البعوض والنحل وما يجري مجراه فانظر في البعوض على قدر صغر قدره وتأمله بعقل حاضر وفكر صاف فانظر كيف خلقه الله تعالى على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات إذ خلق له خرطوماً مثل خرطومه وخلق له على شكله الصغير سائر الأعضاء كما خلقه للفيل بزيادة جناحين وانظر كيف قسم أعضاءه الظاهرة فأنبت جناحه وأخرج يده ورجله وشق سمعه وبصره ودبر في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته ما دبره في سائر الحيوانات وركب فيها من القوى الغاذية والجاذبة الدافعة والماسكة والهاضمة ما ركب في سائر الحيوانات هذا في شكله وصفاته ثم انظر إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه وعرفه أن غذاءه دم الإنسان ثم انظر كيف أنبت له آلة الطيران إلى الإنسان وكيف خلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس وكيف هداه إلى مسام بشرة الإنسان حتى يضع خرطومه في واحد منها ثم كيف قواه حتى يغرز فيه الخرطوم وكيف علمه المص والتجرع للدم وكيف خلق الخرطوم مع دقته مجوفاً حتى يجري فيه الدم الرقيق وينتهي إلى باطنه وينتشر في سائر أجزائه ويغذيه ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب واستعداد آلته وخلق له السمع الذي يسمع به خفيف حركة اليد وهي بعد بعيدة منه فيترك المص ويهرب ثم إذا سكنت اليد يعود ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه
وانظر إلى أن حدقة كل حيوان صغير لما لم تحتمل حدقته الأجفان لصغره وكانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار خلق للبعوض والذباب يدين فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه
وأما الإنسان والحيوان الكبير فخلق لحدقتيه الأجفان حتى ينطبق أحدهما على الآخر وأطرافهما حادة فيجمع الغبار الذي يلحق الحدقة ويرميه إلى أطراف الأهداب وخلق الأهداب السود لتجمع ضوء العين وتعين على الإبصار وتحسن صورة العين وتشبكها عند هيجان الغبار فينظر من وراء شباك الأهداب واشتباكها يمنع دخول الغبار ولا يمنع الإبصار
وأما البعوض فخلق لها حدقتين مصقلتين من غير أجفان وعلمها كيفية التصقيل باليدين ولأجل ضعف أبصارها تراها تتهافت على السراج لأن بصره ضعيف فهي تطلب ضوء النهار فإذا رأى المسكين ضوء السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم وأن السراج كوة من البيت المظلم إلى الموضع المضيء فلا يزال يطلب الضوء ويرمي بنفسه إليه فإذا جاوزه ورأى الظلام ظن أنه لم يصب الكوة ولم يقصدها على السداد فيعود إليه مرة أخرى إلى أن يحترق ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها بل صورة الآدمي في الإكباب على الشهوات الدنيا صورة الفراش في التهافت على النار إذتلوح للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك
_________
(1) حديث الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض لم أجد له أصلا(4/318)
هلاكاً مؤبداً فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال والآدمي يبقى في النار أبد الآباد أو مدة مديدة ولذلك كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إني ممسك بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش (1) فهذه لمعة عجيبة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى
ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره فانظر إلى النحل وعجائبها وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياءً وجعل الآخر شفاءً ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاسات والأقذار وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصاً وهو أميرها ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة لقضيت منها عجباً آخر العجب إن كنت بصيراً في نفسك وفارغاً من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس فلا تبني بيتاً مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستديرة وما يقرب منها فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة وشكل النحل مستدير مستطيل فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس وهذه خاصية هذه الشكل فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفاً به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه
فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علماً في جنب علم الله تعالى فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين وبزيادة المعرفة تزداد المحبة فإن كنت طالباً سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر يسير ولكن تنال بذلك اليسير ملكاً عظيماً لا آخر له
بيان السبب في تفاوت الناس في الحب
اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات
_________
(1) حديث إني ممسك بحجزكم عن النار وأنتم تهافتون فيها تهافت الفراش متفق عليه من حديث أبى هريرة مثلى ومثل أمتى كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه لفظ مسلم واقتصر البخارى على أوله ولمسلم من حديث جابر وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تفلتون من يدى(4/319)
والأسماء التي قرعت سمعهم فتلقنوها وحفظوها وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسداً بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين والمتخيلون هم الضالون والعارفون بالحقائق هم المقربون
وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم} الآية
فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالاً فنقول أصحاب الشافعي مثلاً يشتركون في حب الشافعي رحمه الله الفقهاء منهم والعوام لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله ولكن العامي يعرف علمه مجملاً والفقيه يعرفه مفصلاً فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه فإن رأى تصنيفا آخر أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه لأنه تضاعفت معرفته بعلمه وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حباً وكذا سائر الصناعات والفضائل
والعامي قد يسمع أن فلاناً مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدرى ما في التصنيف فيكون له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل والبصير إذا فتش عن التصانيف واطلع على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه والعامي يعلم ذلك ويعتقده وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه حتى يرى في البعوض مثلاً من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه فيزداد له حباً وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله إطلاعاً استدل بذلك على عظمة الله الصانع وجلاله وازداد به معرفة وله حباً
وبحر هذه المعرفة أعنى معرفة عجائب صنع الله تعالى بحر لا ساحل له فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب فإن من يحب الله مثلاً لكونه محسناً إليه منعماً عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته إذ تتغير بتغير الإحسان فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء
وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه
فهذا وأمثاله هو سبب تفاوت الناس في المحبة
والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة
ولذلك قال تعالى {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً}
بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله سبحانه
اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول وترى الأمر بالضد من ذلك فلا بد من بيان السبب فيه
وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها لمعنى لا تفهمه إلا بمثال وهو أنا إذا رأينا إنساناً يكتب أو يخيط مثلاً كان كونه حياً عندنا من أظهر الموجودات فحياته وعلمه وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة إذصفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه وكل ذلك لا نعرفه وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته
أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيواناً فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته فإن هذه الصفات(4/320)
لا تحس بشيء من الحواس الخمس ثم لا يمكن أن نعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفته فما عليه إلا دليل واحد وهو مع ذلك جلي واضح ووجود الله تعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأوصافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس ثم مدركاتنا بالعقل والبصيرة وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته
والموجودات المدركة لا حصر لها فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس لها يشهد إلا شاهد واحد وهو ما أحسسنا به من حركة يده فكيف لا يظهر عندنا ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها يشهد بذلك أولاً تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ومنابت شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة فإنه نعلم أنها لم تأتلف بأنفسها كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها ولكن لما لم يبق في الوجود شيء مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه
فإن ما تقصر عن فهمه عقولنا فله سببان أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه وذلك لا يخفى مثاله والآخر ما يتناهى وضوحه وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار لا لخفاء النهار واستتاره ولكن لشدة ظهوره فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرقت فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سبباً لامتناع إبصاره فلا يرى شيئاً إلا إذا امتزج الضوء بالظلام وضعف ظهوره
فكذلك عقولنا ضعيفة وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض فصار ظهوره سبب خفائه فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره ولا يتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور فإن الأشياء تستبان بأضدادها وماعم وجوده حتى أنه لا ضد له عسر إدراكه فلو اختلفت الأشياء فدل بعضها دون بعض أدركت التفرقة على قرب ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر
ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أنه لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها وهي السواد والبياض وغيرهما فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد وفي الأبيض إلا البياض فأما الضوء فلا ندركه وحده ولكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالين فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء واتصفت بصفة فارقتها عند الغروب فعرفنا وجود النور بعدمه وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور هذا مع أن النور أظهر المحسوسات إذ به تدرك سائر المحسوسات فما هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده فالله تعالى هو أظهر الأمور وبه ظهرت الأشياء كلها ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدت السموات والأرض وبطل الملك(4/321)
والملكوت ولأدرك بذلك التفرقة بين الحالين ولو كان بعض الأشياء موجوداً به وبعضها موجوداً بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه فلا جرم أورثت شدة الظهور خفاء فهذا هو السبب في قصور الأفهام
وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى ولا يعرف غيره يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله أثر من الآثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزاً له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ورأى فيها الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث أثره لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف
وكل العالم تصنيف الله تعالى فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله وعرفه من حيث إنه فعل الله وأحبه من حيث إنه فعل الله لم يكن ناظراً إلا في الله ولا عارفاً إلا بالله ولا محباً إلا له وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبدا لله فهذا الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد وإنه فني عن نفسه وإليه الإشارة بقول من قال كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم
فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبا عند فقد العقل ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً وهو مستغرق الهم بشهواته وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيواناً غريباً أو نباتاً غريباً أو فعلاً من أفعال الله تعالى خارقاً للعادة عجيباً انطلق لسانه بالمعرفة طبعاً فقال سبحان الله وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة وكلها شواهد قاطعة لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها ولو فرض أكمه بلغ عاقلاً ثم انقشعت غشاوة عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة لخيف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة العجائب لخالقها
فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات هو الذي سد على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة فالناس في طلبهم معرفة الله كالمدهوش الذي يضرب به المثل إذا كان راكباً لحماره وهو يطلب حماره والجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة
فهذا سر هذا الأمر فليحقق ولذلك قيل
فقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا
لكن بطنت بما أظهرت محتجباً ... فكيف يعرف من بالعرف قد سترا
بيان معنى الشوق إلى الله تعالى
اعلم أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ونحن نثبت وجود الشوق إلى الله تعالى وكون العارف مضطراً إليه بطريق الاعتبار والنظر بأنوار البصائر وبطريق الأخبار والآثار
أما الاعتبار فيكفي في إثباته ما سبق في إثبات الحب فكل محبوب يشتاق إليه في غيبته(4/322)
لا محالة فأما الحاصل الحاضر فلا يشتاق إليه فإن الشوق طلب وتشوف إلى أمر والموجود لا يطلب ولكن بيانه أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه فأما ما لا يدرك أصلاً فلا يشتاق إليه فإن من لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه ولا يتصور أن يشتاق إليه وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه وكمال الإدراك بالرؤية فمن كان في مشاهدة محبوبه مداوماً للنظر إليه لا يتصور أن يكون له شوق ولكن الشوق إنما يتعلق بما أدرك من وجه ولم يدرك من وجه وهو من وجهين لا ينكشف إلا بمثال من المشاهدات
فنقول مثلاً من غاب عنه معشوقه وبقي في قلبه خياله فيشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية فلو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يتصور أن يشتاق إليه ولو رآه لم يتصور أن يشتاق في وقت الرؤية فمعنى شوقه تشوق نفسه إلى استكمال خياله فكذلك قد يراه في ظلمة بحيث لا ينكشف له حقيقة صورته فيشتاق إلى استكمال رؤيته وتمام الانكشاف في صورته بإشراق الضوء عليه والثاني أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره مثلاً ولا سائر محاسنه فيشتاق لرؤيته وإن لم يرها قط ولم يثبت في نفسه خيال صادر عن الرؤية ولكنه يعلم أن له عضواً وأعضاء جميلة ولم يدرك تفصيل جمالها بالرؤية فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط
والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين فإن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يكون متضحاً غاية الاتضاح بل يكون مشوباً بشوائب التخيلات فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات وهي مكدرات للمعارف ومنغصات وكذلك ينضاف إليها شواغل الدنيا فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلي ولا يكون ذلك إلا في الآخرة وذلك بالضرورة يوجب الشوق فإنه منتهى محبوب العارفين
فهذا أحد نوعي الشوق وهو استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحاً ما الثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة والعارف يعلم وجودها وكونها معلومة لله تعالى ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر فلا يزال متشوقاً إلى أن يحصل له أصل المعرفة فيما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلاً لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة
والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يسكن في الدنيا
وقد كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال قلت ذات يوم يارب إن أعطيت أحداً من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضر بي القلق قال فرأيت في النوم أنه أوقفني بين يديه وقال يا إبراهيم أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه فقلت يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول فقال قل اللهم رضني بقضائك وصبرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك فإن هذا الشوق يسكن في الآخرة
وأما الشوق الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما هو معلوم لله تعالى وهو محال لأن ذلك لا نهاية له
ولا يزال العبد عالماً بأنه بقي من الجمال والجلال ما لم يتضح له فلا يسكن قط شوقه لا سيما من يرى فوق درجته درجات كثيرة إلا أنه تشوق إلى استكمال الوصال مع حصول أصل الوصال فهو يجد لذلك شوقاً لذيذاً لا يظهر فيه ألم ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر متوالية إلى غير نهاية فلا يزال النعيم واللذة متزايداً أبد الآباد(4/323)
وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلة عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل وهذا بشرط أن يمكن حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا أصلاً فإن كان ذلك غير مبذول فيكون النعيم واقفاً على حد لا يتضاعف ولكن يكون مستمراً على الدوام
وقوله سبحانه وتعالى {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} محتمل لهذا المعنى وهو أن ينعم عليه بإتمام النور مهما تزود من الدنيا أصل النور ويحتمل أن يكون المراد به إتمام النور في غير ما استنار في الدنيا استنارة محتاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق فيكون هو المراد بتمامه وقوله تعالى {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} يدل على أن الأنوار لابد وأن يتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقاً فأما أن يتجدد نور فلا والحكم في هذا برجم الظنون مخطر ولم ينكشف لنا فيه بعد ما يوثق به فنسأل الله تعالى أن يزيدنا علماً ورشداً ويرينا الحق حقاً
فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه
وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى فمما اشتهر من دعاء رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كان يقول اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك (1) وقال أبو الدرداء لكعب أخبرني عن أخص آية يعني في التوراة فقال يقول الله تعالى طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً قال ومكتوت إلى جانبها من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني فقال أبو الدرداء أشهد إني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا
وفي أخبار داود عليه السلام إن الله تعالى قال يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني وجليس لمن جالسني ومؤنس لمن أنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن أطاعني ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتى ومصاحبتي ومجالستي وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجي ومحمد صفي وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي
وروي عن بعض السلف أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك قال يارب وما علامتهم قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي أول ما أعطيهم ثلاث أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم
والثانية لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللنها لهم
والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه
وفي أخبار داود عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألنى الشوق إلى
_________
(1) حديث أنه كان يقول في دعائه اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت الحديث أخرجه أحمد والحاكم وتقدم في الدعوات(4/324)
قال يا رب من المشتاقون إليك قال إن المشتاقين إلى الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقاً ينظرون إلي وإنى لأحمل قلوبهم بيدى فأضعها على سمائي ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا اجتمعوا سجدوا لي فأقول إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكني دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي كما تضيء الشمس لأهل الأرض يا داود إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي فاتخذتهم لنفسي محدثي وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقاً قال داود يا رب أرني أهل محبتك فقال يا داود ائت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفساً فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم
فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه فقال داود إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض فقال داود إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة قال فجرت الدموع على خدودهم فقال شيخهم سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا وقال الآخر سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك وقال الآخر سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيد أفنجترىء على الدعاء وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا
وقال الآخر نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا علينا بجودك
وقال الآخر من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترىء على الكلام من هو مشتغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك
وقال الآخر كلت ألسنتنا عن دعائك لعظم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك
وقال الآخر أنت هديت قلوبنا لذكرك فرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك
وقال الآخر قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك
وقال الآخر كيف يجترىء العبد على سيده إذ أمرتنا بالدعاء بجودك فهب لنا نوراً نهتدي به في الظلمات من أطباق السموات
وقال آخر ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا
وقال الآخر نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا
وقال الآخر لا حاجة لنا في شيء من خلقك فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك
وقال الآخر أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة
وقال الآخر قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سرباً فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالى
فقال داود يارب بم نالوا هذا منك قال بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله إلى من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر(4/325)
بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها وإن عطش أرويته وأذيقه طعم ذكري فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه لا يفتر عن الاشتغال بي يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته لأنه موضع نظري من بين خلقي لا يرى غيري ولا أرى غيره فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكرى أباهي به ملائكتي وأهل سمواتي يزداد خوفاً وعبادة وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا
وفي أخبار داود أيضاً قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي
وفي أخبار داود أيضاً إن الله تعالى أوحى إليه تزعم أنك تحبني فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب
يا داود خالص حبيبي مخالصة وخالط أهل الدنيا مخالطة ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به وأما ما أشكل عليك فقلدنيه حقاً على أني أسارع إلى سياستك وتقويمك وأكن قائدك ودليلك أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد وإني قد حلفت على نفسي أني لا أثيب إلا عبداً قد عرفت من طلبته وإرادته إلفاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني
فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك فإني قد حلفت على نفسي أنه لا يطمئن عبد لي إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها أضف الأشياء إلي لا تضاد عملك فتكون متعنياً ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حداً فليس لها غاية ومتى طلبت مني الزيادة أعطك ولا تجد للزيادة مني حدا ثم أعلم بنى إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر قلبك ولا تنظر بعينك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم عنى فأمر جوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضاً يمشون عليها
يا دواد لأن تخرج مريداً من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيداً ومن كتبته عندي جهيداً لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين
يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك لا تؤتين منها فأحجب عنك محنتي لا تؤيس عبادي من رحمتي اقطع شهوتك لي فإنما أبحت الشهوات لضعفة خلقي ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات فإنها تنقص حلاوة مناجاتي وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول أدنى ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها
يا داود لا تجعل بينى وبينك عالماً يحجبك بسكره عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم وإياك والتجربة في الإفطار فإن محبتي للصوم إدمانه
يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك امنعها الشهوات أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة إنما أداريك مداراة لتقوى على ثوابي إذا مننت عليك به وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي
أوحى الله تعالى إلى داود يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي
يا داود هذه إرادتي في المدبرين عنى فكيف إرادتي في المقبلين علي(4/326)
يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على إثبات المحبة والشوق والأنس وإنما تحقيق معناها ينكشف بما سبق
بيان محبة الله للعبد ومعناها
اعلم أن شواهد القرآن متظاهرة على أن الله تعالى يحب عبده فلا بد من معرفة مع معنى ذلك ولنقدم الشواهد على محبته فقد قال الله تعالى {يحبهم ويحبونه} وقال تعالى {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} وقال تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ولذلك رد سبحانه على من ادعى أنه حبيب الله فقال {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} وقد روى أنس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إذا أحب الله تعالى عبداً لم يضره ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ثم تلا إن الله يحب التوابين (1) ومعناه أنه إذا أحبه تاب عليه قبل الموت فلم تضره الذنوب الماضية وإن كثرت كما لا يضر الكفر الماضي بعد الإسلام وقد اشترط الله تعالى للمحبة غفران الذنب فقال {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب (2) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وضعه اللَّهُ وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ (3) وقال عليه السلام قال الله تعالى لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (4) الحديث وقال زيد بن أسلم إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول اعمل ما شئت فقد غفرت لك وما ورد من ألفاظ المحبة خارج عن الحصر
وقد ذكرنا أن محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست بمجاز إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس والجمال موافق أيضاً وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر وتارة يدرك بالبصيرة والحب يتبع كل واحد منهما فلا يختص بالبصر
فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلاً بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله لم تنطلق عليهما بمعنى واحد أصلاً حتى إن اسم الوجود الذي هو أعم الأسماء اشتراكاً لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد بل كل ما سوى الله تعالى فوجوده مستفاد من وجود الله تعالى فالوجود التابع لا يكون مساوياً للوجود المتبوع
وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظيره اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابهة فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلاً فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر وليس كذلك اسم الوجود لله ولا لخلقه وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة
_________
(1) حديث أنس إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده في مسنده وروى ابن ماجه الشطر الثانى من حديث ابن مسعود وتقدم في التوبة
(2) حديث ان الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب الحديث أخرجه الحاكم وصحح إسناده والبيهقى في الشعب من حديث ابن مسعود
(3) حديث مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وضعه الله ومن أكثر من ذكر الله أحبه الله أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد بإسناد حسن دون قوله ومن أكثر إلى آخره ورواه أبو يعلى وأحمد بهذه الزيادة وفيه ابن لهيعة
(4) حديث قال الله تعالى لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه الحديث أخرجه البخارى من حديث أبى هريرة وقد تقدم(4/327)
والقدرة وغيرها فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامى أولا للخلق فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل والمحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى موافق ملائم وهذا إنما يتصور في نفس ناقصة فاتها ما يوافقها فتستفيد بنيله كمالاً فتلتذ بنيله وهذا محال على الله تعالى فإن كل كمال وجمال وبهاء وجلال ممكن في حق الإلهية فهو حاضر وحاصل وواجب الحصول أبداً وأزلاً ولا يتصور تجدده ولا زواله فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث إنه غيره بل نظره إلى ذاته وأفعاله فقط وليس في الوجود إلا ذاته وأفعاله ولذلك قال الشيخ أبو سعيد الميهني رحمه الله تعالى لما قرىء عليه قوله تعالى يحبهم ويحبونه فقال بحق يحبهم فإنه ليس يحب إلا نفسه على معنى أنه الكل وأن ليس في الوجود غيره فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته فهو إذن لا يحب إلا نفسه وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك به في الأزل فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له كما قال تعالى لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فيكون تقربه بالنوافل سبباً لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه فكل ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو معنى حبه
ولا يفهم هذا إلا بمثال وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في حضور بساطه لميل الملك إليه إما لينصره بقوته أو ليستريح بمشاهدته أو ليستشيره في رأيه أو ليهيىء أسباب طعامه وشرابه فيقال إن الملك يحبه ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له
وقد يقرب عبداً ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفاً من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريباً من حضرة الملك وافر الحظ من قربه مع أن الملك لا غرض له فيه أصلاً فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه يقال قد أحبه وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال قد توصل وحبب نفسه إلى الملك
فحب الله للعبد إنما يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول
وإنما يصح تمثيله بالمعنى الثاني بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه عند تجدد القرب فإن الحبيب هو القريب من الله تعالى والقرب من الله في البعد من صفات البهائم والسباع والشياطين والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية فهو قرب بالصفة لا بالمكان ومن لم يكن قريباً فصار قريباً فقد تغير فربما يظن بهذا أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعاً إذ صار قريباً بعد أن لم يكن وهو محال في حق الله تعالى إذ التغير عليه محال بل لا يزال في نعوت الكمال والجلال على ما كان عليه في أزل الآزال
ولا ينكشف هذا إلا بمثال في القرب بين الأشخاص فإن الشخصين قد يتقاربان بتحركهما جميعاً وقد يكون أحدهما ثابتاً فيتحرك الآخر فيحصل القرب بتغير في أحدهما من غير تغير في الآخر بل القرب في الصفات أيضاً كذلك فإن التلميذ يطلب القرب من درجة أستاذه في كمال العلم وجماله والأستاذ واقف في كمال علمه غير متحرك بالنزول إلى درجة تلميذه والتلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى ارتفاع العلم فلا يزال دائباً(4/328)
في التغير والترقي إلى أن يقرب من أستاذه والأستاذ ثابت غير متغير فكذلك ينبغي أن يفهم ترقي العبد في درجات القرب فكلما صار أكمل صفة وأتم علماً وإحاطة بحقائق الأمور وأثبت قوة في قهر الشيطان وقمع الشهوات وأظهر نزاهة عن الرذائل صار أقرب من درجة الكمال ومنتهى الكمال لله وقرب كل واحد من الله تعالى بقدر كماله
نعم قد يقدر التلميذ على القرب من الأستاذ وعلى مساواته وعلى مجاوزته وذلك في حق الله محال فإنه لا نهاية لكماله وسلوك العبد في درجات الكمال متناه ولا ينتهي إلا إلى حد محدود فلا مطمع له في المساواة ثم درجات القرب تتفاوت تفاوتاً لا نهاية له أيضاً لأجل انتفاء النهاية عن ذلك الكمال
فإذن محبة الله للعبد تقريبه من نفسه بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه بقلبه
وأما محبة العبد لله فهو ميله إلى درك هذا الكمال الذي هو مفلس عنه فاقد له فلا جرم يشتاق إلى ما فاته وإذا أدرك منه شيئاً يلتذ به والشوق والمحبة بهذا المعنى محال على الله تعالى
فإن قلت محبة الله للعبد أمر ملتبس فبم يعرف العبد أنه حبيب الله فأقول يستدل عليه بعلاماته
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عبداً ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه قيل وما اقتناه قال لم يترك له أهلاً ولا مالا (1) فعلامة محبة الله للعبد أن يوحشه من غيره ويحول بينه وبين غيره قيل لعيسى عليه السلام لم لا تشتري حماراً فتركبه فقال أنا أعز على الله تعالى من أن يشغلني عن نفسه بحمار
وفي الخبر إذاأحب الله تعالى عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه (2) وقال بعض العلماء إذا رأيتك تحبه ورأيته يبتليك فاعلم أنه يريد أن يصافيك وقال بعض المريدين لأستاذه قد طولعت بشيء من المحبة فقال يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواء فآثرت عليه إياه قال لا قال فلا تطمع في المحبة فإنه لا يعطيها عبداً حتى يبلوه
وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أحب الله تعالى عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه // حديث إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه الحديث أخرجه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أم سلمة بإسناد حسن بلفظ إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه حديث إذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بزيادة فيه بإسناد ضعيف فأخص علاماته حبه لله تعالى
وأما الفعل الدال على كونه محبوباً فهو أن يتولى الله تعالى أمره ظاهره وباطنه سره وجهره فيكون هو المشير عليه والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه والمستعمل لجوارحه والمسدد لظاهره وباطنه والجاعل همومه هماً واحد واحداً والمبغض للدنيا في قلبه والموحش له من غيره والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته
فهذا وأمثاله هو علامة حب الله للعبد
فلنذكر الآن علامة محبة العبد لله تعالى فإنها أيضاً من علامات حب الله تعالى للعبد
القول في علامات محبة العبد لله تعالى
اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان
_________
(1) حديث إذا أحب الله عبداً ابتلاه الحديث أخرجه الطبرانى من حديث أبى عتبة الخولانى وقد تقدم
(2) حديث إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه الحديث ذكره صاحب الفردوس من حديث على من أبى طالب ولم يخرجه ولده في مسنده(4/329)
وخدع النفس مهما ادعت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ولم يطالبها بالبراهين والأدلة
والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح
وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار ودلالة الثمار على الأشجار وهي كثيرة فمنها حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت فينبغي أن يكون محباً للموت غير فار منه فإن المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة
قال صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (1) وقال حذيفة عند الموت حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم
وقال بعض السلف ما من خصلة أحب إلى الله أن تكون في العبد بعد حب لقاء الله من كثرة السجود فقدم حب لقاء الله على السجود
وقد فرط الله سبحانه لحقيقة الصدق في الحب القتل في سبيل الله حيث قالوا إنا نحب الله فجعل القتل في سبيل الله وطلب الشهادة علامته فقال تعالى إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً وقال عز وجل يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وفي وصية أبي بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما الحق ثقيل وهو مع ثقله مرىء والباطل خفيف وهو مع خفته وبىء فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وهو مدركك وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه
ويروى عن إسحق بن سعد بن أبي وقاص قال حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد ألا ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال يارب إني أقسمت عليك إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ويبقر بطني فإذا لقيتك غداً قلت يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك فأقول فيك يارب وفي رسولك فتقول صدقت قال سعد فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط (2) قال سعيد بن المسيب أرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله
وقد كان الثوري وبشر الحافي يقولان لا يكره الموت إلا مريب لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء حبيبه
وقال البويطي لبعض الزهاد أتحب الموت فكأنه توقف فقال لو كنت صادقاً لأحببته وتلا قوله تعالى فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فقال الرجل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنينأحدكم الموت (3) فقال إنما قاله لضر نزل به لأن الرضا بقضاء الله تعالى أفضل من طلب الفرار منه
فإن قلت من لا يحب الموت فهل يتصور أن يكون محباً لله فأقول كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فراق الأهل والمال والولد وهذا ينافي كمال حب الله تعالى لأن الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة فإن الناس متفاوتون في الحب ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك وقالوا أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى فقال والله لقد أنكحته إياها
_________
(1) حديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه متفق عليه من حديث أبى هريرة وعائشة
(2) حديث اسحق بن سعد ابن أبي وقاص قال حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد ألا ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال يارب انى أقسم عليك إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقاتلنى ويجدع أنفى وأذنى الحديث أخرجه الطبرانى ومن طريقه أبو نعيم في الحلية واسناده جيد
(3) حديث لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به الحديث متفق عليه من حديث أنس وقد تقدم(4/330)
وإني لأعلم أنه خير منها فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله فقالوا وكيف وهي أختك وهو مولاك فقال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم (1) فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه فيحبه ويحب أيضاً غيره فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها
وأما السبب الثاني للكراهة فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله فذلك لا يدل على ضعف الحب وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيء له داره ويعد له أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلاً وعلامته لدءوب في العمل واستغراق الهم في الاستعداد
ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه فيلزم مشاق العمل ويجتنب اتباع الهوى ويعرض عن دعة الكسل ولا يزال مواظباً على طاعة الله ومتقرباً إليه بالنوافل وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال يحبون من هاجر إليهم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومن بقي مستقراً على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه بل يترك المحب هوى نفسه كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
بل الحب إذا غلب قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب كما روي أن زليخا لما آمنت وتزوج بها يوسف عليه السلام انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى فكان يدعوها إلى فراشه نهارا فتدافعه إلى الليل فإذا دعاها ليلاً سوفت به إلى النهار وقالت: يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه وما أريد به بدلا حتى قال لها إن الله جل ذكره أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين فقالت: أما إذا كان الله تعالى أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر الله تعالى فعندها سكنت إليه فإذن من أحب الله لا يعصيه ولذلك قال ابن المبارك فيه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وفي هذا المعنى قيل أيضا:
وأترك ما أهوى ... لما قد هويته ... فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي
وقال سهل رحمه الله تعالى: علامة الحب إيثاره على نفسك وليس كل من عمل بطاعة الله عز وجل صار حبيباً وإنما الحبيب من اجتنب المناهي: وهو كما قال لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له كما قال تعالى يحبهم ويحبونه وإذا أحبه الله تولاه ونصره على أعدائه وإنما عدوه نفسه وشهواته فلا يخذله الله ولا يكله إلى هواه وشهواته
_________
(1) حديث أبى حذيفة بن عتبة أنه لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك وفيه فقال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم لم أره من حديث حذيفة وروى أبو نعيم في الحلية المرفوع منه من حديث عمر أن سالما يحب الله حقا من قلبه وفي رواية له أن سالما شديد الحب لله عز وجل لو لم يخف الله عز وجل ما عصاه وفيه عبد الله بن لهيعة(4/331)
ولذلك قال تعالى والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً
فإن قلت: فالعصيان هل يضاد أصل المحبة فأقول: إنه يضاد كمالها ولا يضاد أصلها فكم من إنسان يحب نفسه وهو مريض ويحب الصحة ويأكل ما يضره مع العلم بأنه يضره وذلك لا يدل على عدم حبه لنفسه ولكن المعرفة قد تضعف والشهوة قد تغلب فيعجز عن القيام بحق المحبة ويدل عليه ما روي أن نعيمان كان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل قليل فيحده في معصية يرتكبها إلى أن أتي به يوماً فحده فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله 1 فلم يخرجه بالمعصية عن المحبة نعم تخرجه المعصية عن كمال الحب وقد قال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب أحب الله تعالى حباً متوسطاً فإذا دخل سويداء القلب أحبه الحب البالغ وترك المعاصي وبالجملة في دعوى المحبة خطر ولذلك قال الفضيل: إذا قيل لك أتحب الله تعالى فاسكت فإنك إن قلت لا كفرت وإن قلت نعم فليس وصفك وصف المحبين فاحذر المقت ولقد قال بعض العلماء: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة ولم يتحقق بشيء من ذلك
ومنها أن يكون مستهتراً بذكر الله تعالى لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه فمن أحب شيئاً أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به فعلامة حب الله: حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب كل من ينسب إليه فإن من يحب إنساناً يحب كلب محلته فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتنف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه وذلك ليس شركة في الحب فإن من أحب رسول المحبوب لأنه رسوله وكلامه لأنه كلامه فلم يجاوز حبه إلى غيره بل هو دليل على كمال حبه ومن غلب حب الله على قلبه أحب جميع خلق الله لأنهم خلقه فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين وقد ذكرنا تحقيق هذا في كتاب الأخوة والصحبة ولذلك قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لله تعالى وقال سفيان // حديث أحبوا الله: من أحب من يحب الله تعالى فإنما أحب الله ومن أكرم من يكرم الله تعالى فإنما يكرم الله
وحكي عن بعض المريدين قال: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة فأدمنت قراءة القرآن ليلاً ونهاراً ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة قال: فسمعت قائلاً يقول في المنام إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي أما تدبرت ما فيه من لطيف عتابي قال: فانتبهت وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي
وقال ابن مسعود: لا ينبغي أن يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله عز وجل وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله
وقال سهل رحمه الله تعالى عليه علامة حب الله حب القرآن وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة وعلامة حب السنة حب الآخرة وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة
ومنها أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد ويغتنم هدء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته قيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت(4/332)
فقال من الأنس بالله وفي أخبار داود عليه السلام لا تستأنس إلى أحد من خلقي فإني إنما أقطع عني رجلين رجل استبطأ ثوابي فانقطع ورجلاً نسيني فرضي بحاله وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشاً من الله تعالى ساقطاً عن درجة محبته وفي قصة برخ وهو العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام إن برخاً نعم العبد هو لي إلا أن فيه عيبا قال يارب وما عيبه فقال يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه ومن أحبني لم يسكن إلى شيء وروي أن عابداً عبد الله تعالى في غيضة دهراً طويلاً فنظر إلى طائر وقد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان قل لفلان العابد استأنست بمخلوق لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً
فإذن علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه وقال قتادة في قوله تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب قال هشت إليه واستأنست به وقال الصديق رضي الله تعالى عنه من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر
وقال مطرف بن أبي بكر: الحب لا يسأم من حديث حبيبه وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قد كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب لقاء حبيبه فها أنا ذا موجود لمن طلبني وقال موسى عليه السلام يا رب أين أنت فأقصدك فقال إذا قصدت فقد وصلت وقال يحيى بن معاذ من أحب الله أبغض نفسه وقال أيضاً من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق والعبادة على خدمة الخلق ومنها أن لا يتأسف على مما يفوته ما سوى الله عز وجل ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته فيكثر رجوعه عند الغفلات بالاستعطاف والاستعتاب والتوبة قال بعض العارفين إن لله عباداً أحبوه واطمأنوا إليه فذهب عنهم التأسف على الفائت فلم يتشاغلوا بحظ أنفسهم إذ كان ملك مليكهم تاماً وما شاء كان فما كان لهم فهو واصل إليهم وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم وحق المحب إذا رجع من غفلته في لحظته أن يقبل على محبوبه ويشتغل بالعتاب ويسأله ويقول رب بأي ذنب قطعت برك عني وأبعدتني عن حضرتك وشغلتني بنفسي وبمتابعة الشيطان فيستخرج ذلك منه صفاء ذكر ورقة قلب يكفر عنه ما سبق من الغفلة وتكون هفوته سبباً لتجدد ذكره وصفاء قلبه ومهما لم ير المحب إلا المحبوب ولم ير شيئاً إلا منه لم يتأسف ولم يشك واستقبل الكل بالرضا وعلم أن المحبوب لم يقدر له إلا ما فيه خيرته ويذكر قوله وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم
ومنها أن يتنعم بالطاعة ولا يستثقلها ويسقط عنه تعبها كما قال بعضهم كابدت الليل عشرين سنة ثم تنعمت به(4/333)
عشرين سنة
وقال الجنيد علامة المحب دوام النشاط والدعوب بشهوة تفتر بدنه ولا تفتر قلبه وقال بعضهم العمل على المحبة لا يدخله الفتور
وقال بعض العلماء والله ما اشتفى محب لله من طاعته ولو حل بعظيم الوسائل
فكل هذا وأمثاله موجود في المشاهدات فإن العاشق لا يستثقل السعي في هوى معشوقه ويستلذ خدمته بقلبه وإن كان شاقاً على بدنه ومهما عجز بدنه كان أحب الأشياء إليه أن تعاوده القدرة وأن يفارقه العجز حتى يشغل به فهكذا يكون حب الله تعالى فإن كل حب صار غالباً قهر لا محالة ماهو دونه فمن كان محبوبه أحب إليه من الكسل ترك الكسل في خدمته وإن كان أحب إليه من المال ترك المال في حبه
وقيل لبعض المحبين وقد كان بذل نفسه وماله حتى لم يبق له شيء ما كان سبب حالك هذه في المحبة فقال سمعت يوماً محباً وقد خلا بمحبوبه وهو يقول أنا والله أحبك بقلبي كله وأنت معرض عني بوجهك كله فقال له المحبوب إن كنت تحبني فأيش تنفق علي قال يا سيدي أملكك ما أملك ثم أنفق عليك روحي حتى تهلك فقلت هذا خلق لخلق وعبد لعبد فكيف بعبيد لمعبود فكل هذا بسببه
ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً بهم شديداً على جميع أعداء الله وعلى كل من يقارف شيئاً مما يكرهه كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم ولا تأخذه لومة لائم ولا يصرفه عن الغضب لله صارف وبه وصف الله أولياءه إذ قال الذين يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بالشيء ويأوون إلى ذكري كما يأوي النسر إلى وكره ويغضبون لمحارمه كما يغضب النمر إذا حرد فإنه لا يبالي قل الناس أو كثروا فانظر إلى هذا المثال فإن الصبي إذا كلف بالشيء لم يفارقه أصلاً وإن أخذ منه لم يكن له شغل إلا البكاء والصياح حتى يرد إليه فإن نام أخذه معه في ثيابه فإذا انتبه عاد وتمسك به ومهما فارقه بكى ومهما وجده ضحك ومن نازعه فيه أبغضه ومن أعطاه أحبه وأما النمر فإنه لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أنه يهلك نفسه فهذه علامات المحبة فمن تمت فيه هذه العلامات فقد تمت محبته وخلص حبه فصفا في الآخرة شرابه وعذب مشربه ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه إذ يمزج شرابه بقدر من شراب المقربين كما قال تعالى في الأبرار إن الأبرار لفي نعيم {ثم قال} يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يشرب بها المقربون فإذا طاب شراب الأبرار لشوب الشراب الصرف الذي هو للمقربين
والشراب عبارة عن جملة نعيم الجنان كما أن الكتاب عبر به عن جميع الأعمال فقال إن كتاب الأبرار لفي عليين {ثم قال} يشهده المقربون فكان أمارة علو كتابهم أنه ارتفع إلى حيث يشهده المقربون وكما أن الأبرار يجدون المزيد في حالهم ومعرفتهم بقربهم من المقربين ومشاهدتهم لهم فكذلك يكون حالهم في الآخرة ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة كما بدأنا أول خلق نعيده وكما قال تعالى جزاء وفاقاً أي وافق الجزاء أعمالهم فقوبل الخالص بالصرف من الشراب وقوبل المشوب بالمشوب
وشوب كل شراب على قدر ما سبق من الشوب في حبه وأعماله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بها وكفى بنا حاسبين فمن كان حبه في الدنيا رجاءه لنعيم الجنة والحور العين والقصور مكن من الجنة ليتبوأ منها حيث يشاء فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنسوان فهناك تنتهي لذته في الآخرة لأنه إنما يعطى كل إنسان في المحبة ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه
ومن كان مقصده رب الدار ومالك الملك ولم يغلب عليه إلا حبه بالإخلاص والصدق أنزل في مقعد(4/334)
صدق عند مليك مقتدر فالأبرار يرتعون في البساتين ويتنعمون في الجنان مع الحورالعين والولدان والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة أقوام آخرون وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوى الألباب (1) حديث شيبتنى هود أخرجه الترمذى وقد تقدم غير مرة (2) حديث من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون لا أعلم هذا إلا في منام لعبد العزيز بن أبي رواد قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله أوصنى فقال ذلك بزيادة في آخره رواه البيهقى في الزهد (3) حديث إنه ليغان على قلبي متفق عليه من حديث الأغر وقد تقدم // وإنما كان استغفاره من القدم الأول فإنه كان بعداً بالإضافة إلى القدم الثاني ويكون ذلك عقوبة لهم على الفتور في الطريق والالتفات إلى غير المحبوب كما روي أن الله تعالى يقول إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوات الدنيا على طاعتي أن أسلبه لذيذ مناجاتي
فسلب المزيد بسبب الشهوات عقوبة للعموم فأما الخصوص فيحجبهم عن المزيد مجرد الدعوى والعجب والركون إلى ما ظهر من مبادىء اللطف وذلك هو المكر الخفي الذي لا يقدر على الاحتراز منه إلا ذوو الأقدام الراسخة ثم خوف فوت ما لا يدرك بعد فوته سمع إبراهيم بن أدهم قائلاً يقول وهو في سياحة وكان على الجبل
كل شيء منك مغفو ... ر سوى الإعراض عنا
قد وهبنا لك ما فا ... ت فهب لنا ما فات منا
فاضطرب وغشي عليه فلم يفق يوماً وليلة وطرأت عليه أحوال ثم قال سمعت النداء من الجبل يا إبراهيم كن عبداً فكنت عبداً واسترحت
ثم خوف السلو عنه فإن المحب يلازمه الشوق والطلب الحثيث فلا يفتر عن طلب المزيد ولا يتسلى إلا بلطف جديد فإن تسلى عن ذلك كان ذلك سبب وقوفه أو سبب رجعته
والسلو يدخل عليه من حيث لا يشعر كما قد يدخل عليه الحب من حيث لا يشعر فإن هذه التقلبات لها أسباب خفية سماوية ليس في قوة البشر الإطلاع عليها فإذا
_________
(1) حديث أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوى الألباب أخرجه البزار من حديث أنس بسند ضعيف مقتصرا على الشطر الأول وقد تقدم والشطر الثانى من كلام أحمد بن أبي الحواري ولعله أدرج فيه ولما قصرت الأفهام عن درك معنى عليين عظم أمره فقال وما أدراك ما عليون كما قال تعالى القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة
ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم وقد يظن أن الخوف يضاد الحب وليس كذلك بل إدراك العظمة يوجب الهيبة كما أن إدراك الجمال يوجب الحب ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ليست لغيرهم وبعض مخاوفهم أشد من بعض فأولها خوف الإعراض وأشد منه خوف الحجاب وأشد منه خوف الإبعاد وهذا المعنى في سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين
(2) إذ سمع قوله تعالى ألا بعدا الثمود ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من ألف القرب وذاقه وتنعم به فحديث البعد في حق المبعدين يشيب سماعه أهل القرب في القرب ولا يحن إلى القرب من ألف البعد ولا يبكي لخوف البعد من لم يمكن من بساط القرب ثم خوف الوقوف وسلب المزيد فإنا قدمنا أن درجات القرب لا نهاية لها وحق العبد أن يجتهد في كل نفس حتى يزداد فيه قرباً وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون
(3) وكذلك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي في اليوم والليلة حتى أستغفر الله سبعين مرة(4/335)
أراد الله المكر به واستدراجه أخفى عنه ما ورد عليه من السلو فيقف مع الرجاء ويغتر بحسن النظر أو بغلبة الغفلة أو الهوى أو النسيان فكل ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العلم والعقل والذكر والبيان وكما أن من أوصاف الله تعالى ما يظهر فيقتضى هيجان الحب وهي أوصاف اللطف والرحمة والحكمة فمن أوصافه ما يلوح فيورث السلو كأوصاف الجبرية والعزة والاستغناء وذلك من مقدمات المكر والشقاء والحرمان
ثم خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبه إلى حب غيره وذلك هو المقت والسلو عنه مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب مقدمة السلو وضيق الصدر بالبر وانقباضه عن دوام الذكر وملاله لوظائف الأوراد أسباب هذه المعاني ومقدماتها
وظهور هذه الأسباب دليل على النقل عن مقام الحب إلى مقام المقت نعوذ بالله منه وملازمة الخوف لهذه الأمور وشدة الحذر منها بصفاء المراقبة دليل صدق الحب فإن من أحب شيئاً خاف لا محالة فقده فلا يخلو المحب عن خوف إذا كان المحبوب مما يمكن فواته
وقد قال بعض العارفين من عبد الله تعالى بمحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ومن عبده من طريق المحبة والخوف أحبه الله تعالى فقربه ومكنه وعلمه فالمحب لا يخلو عن خوف والخائف لا يخلو عن محبة ولكن الذي غلبت عليه المحبة حتى اتسع فيها ولم يكن له من الخوف إلا يسير يقال هو في مقام المحبة ويعد من المحبين وكان شوب الخوف يسكن قليلاً من سكر الحب فلو غلب الحب واستولت المعرفة لم تثبت لذلك طاقة البشر فإنما الخوف يعدله ويخفف وقعه على القلب
فقد روي في بعض الأخبار أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته ففعل ذلك فهام في الجبال وحار عقله ووله قلبه وبقي شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء فسأل له الصديق ربه تعالى فقال يارب أنقصه من الذرة بعضها فأوحى الله تعالى إليه إنما أعطيناه جزءاً من مائة ألف جزء من المعرفة وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا فلما أجتبنك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد فهذا ما أصابه من ذلك فقال سبحانك يا أحكم الحاكمين أنقصه مما أعطيته فأذهب الله عنه جملة الجزء وبقي معه عشر معشاره وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين وقد قيل في وصف حال العارف
قريب الوجد ذو مرمى بعيد ... عن الأحرار منهم والعبيد
غريب الوصف ذو علم غريب ... كان فؤاده زبر الحديد
لقد عزت معانيه وجلت ... عن الأبصار إلا للشهيد
يرى الأعياد في الأوقات تجري ... له في كل يوم ألف عيد
وللأحباب أفراح بعيد ... ولا يجد السرور له بعيد
وقد كان الجنيد رحمه الله ينشد أبياتاً يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين وإن كان ذلك لا يجوز إظهاره وهي هذه الأبيات
سرت بأناس في الغيوب قلوبهم ... فحلوا بقرب الماجد المتفضل
عراضا بقرب الله في ظل قدسه ... تجول به أرواحهم وتنقل
مواردهم فيها على العز والنهي ... ومصدرهم عنها لما هو أكمل(4/336)
تروح بعز مفرد من صفاته ... وفي حلل التوحيد تمشي وترفل
ومن بعد هذا ما تدق صفاته ... وما كتمه أولى لديه وأعدل
سأكتم من علمي به ما يصونه ... وأبذل منه ما أرى الحق يبذل
وأعطي عباد الله منه حقوقهم ... وأمنع منه ما أرى المنع يفضل
على أن للرحمن سراً يصونه ... إلى أهله في السر والصون أجمل
وأمثال هذه المعارف التي إليها الإشارة لا يجوز أن يشترك الناس فيها ولا يجوز أن يظهرها من انكشف له شيء من ذلك لمن لم ينكشف له بل لو اشترك الناس فيها لخربت الدنيا فالحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين يوماً لخربت الدنيا لزهدهم فيها وبطلت الأسواق والمعايش بل لو أكل العلماء الحلال لاشتغلوا بأنفسهم ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم ولكن لله تعالى فيما هو شر في الظاهر أسرار وحكم كما أن له في الخير أسراراً وحكماً ولا منتهى لحكمته كما لا غاية لقدرته
ومنها كتمان الحب واجتناب الدعوى والتوقى من إظهار الوجد والمحبة تعظيماً للمحبوب وإجلالاً له وهيبة منه وغيرة على سره فإن الحب سر من أسرار الحبيب ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه فيكون ذلك من الافتراء وتعظم العقوبة عليه في العقبى وتتعجل عليه البلوى في الدنيا
نعم قد يكون للمحب سكرة في حبه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله فيظهر عليه حبه فإن وقع ذلك عن غير تمحل أو اكتساب فهو معذور لأنه مقهور وربما تشتعل من الحب نيرانه فلا يطاق سلطانه وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانه
فالقادر على الكتمان يقول
وقالوا قريب قلت
ما أنا صانع ... بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري
فمالي منه غير ذكر بخاطر ... يهيج نار الحب والشوق في صدري
والعاجز عنه يقول
يخفى فيبدي الدمع أسراره ... ويظهر الوجد عليه النفس
ويقول أيضاً
ومن قلبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم
وقد قال بعض العارفين أكثر الناس من الله بعداً أكثرهم إشارة به
كأنه أراد من يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التصنع بذكره عند كل أحد فهو ممقوت عند المحبين والعلماء بالله عز وجل ودخل ذو النون المصري على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة فرآه مبتلى ببلاء فقال لا يحبه من وجد ألم ضره فقال الرجل لكني أقول لا يحبه من لم يتنعم بضره فقال ذو النون ولكنى أقول لا يحبه من شهر نفسه بحبه فقال الرجل أستغفر الله وأتوب إليه
فإن قلت المحبة منتهى المقامات وإظهارها إظهار للخير فلماذا يستنكر فاعلم أن المحبة محمودة وظهورها محمود أيضاً وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار وحق المحب أن ينم على حبه الخفي أفعاله وأحواله دون أقواله وأفعاله
وينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب بل ينبغي أن يكون قصد المحب إطلاع الحبيب فقط فأما إرادته إطلاع غيره فشرك في الحب(4/337)
وقادح فيه كما ورد في الإنجيل إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك ما صنعت يمينك
فالذي يرى الخفيات يجزيك علانية وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير ربك
فإظهار القول والفعل كله مذموم إلا إذا غلب سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا يلام فيه صاحبه
حكي أن رجلاً رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه فأخبر بذلك معروفاً الكرخي رحمه الله فتبسم ثم قال يا أخي له محبون صغار وكبار وعقلاء ومجانين فهذا الذي رأيته من مجانينهم
ومما يكره التظاهر بالحب بسبب أن المحب إن كان عارفاً وعرف أحوال الملائكة في حبهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لاستنكف من نفسه ومن إظهار حبه وعلم قطعاً أنه من أخس المحبين في مملكته وأن حبه أنقص من حب كل محب لله
قال بعض الكاشفين من المحبين عبدت الله تعالى ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح على بذل المجهود واستفراغ الطاقة حتى ظننت أن لي عند الله شيئاً فذكر أشياء من مكاشفات آيات السموات في قصة طويلة قال في آخرها فبلغت صفاً من الملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء فقلت من أنتم فقالوا نحن المحبون لله عز وجل نعبده ههنا منذ ثلثمائة ألف سنة ما خطر على قلوبنا قط سواه ولا ذكرنا غيره قال فاستحييت من أعمالي فوهبتها لمن حق عليه الوعيد تخفيفاً عنه في جهنم
فإذن من عرف نفسه وعرف ربه واستحيا منه حق الحياء خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى
نعم يشهد على حبه حركاته وسكناته وإقدامه وإحجامه وتردداته كما حكي عن الجنيد أنه قال مرض أستاذنا السري رحمه الله فلم نعرف لعلته دواء ولا عرفنا لها سبباً فوصف لنا طبيب حاذق فأخذ قارورة مائه فنظر إليها الطبيب وجعل ينظر إليه ملياً ثم قال لي أراه بول عاشق قال الجنيد فصعقت وغشي علي ووقعت القارورة من يدي ثم رجعت إلى السري فأخبرته فتبسم قال قاتله الله ما أبصره قلت يا أستاذ وتبين المحبة في البول قال نعم
وقد قال السري مرة لو شئت أقول ما أيبس جلدي على عظمي ولا سل جسمي إلا حبه ثم غشي عليه
وتدل الغشية على أنه أفصح في غلبة الوجد ومقدمات الغشية فهذه مجامع علامات الحب وثمراته
ومنها الأنس والرضا كما سيأتي
وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب وما لا يثمره الحب فهو إتباع الهوى وهو من رذائل الأخلاق
نعم قد يحب الله لإحسانه إليه وقد يحبه لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه
والمحبون لا يخرجون عن هذين القسمين ولذلك قال الجنيد الناس في محبة الله تعالى عام وخاص فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك
ولما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم نعم من الناس من يحب هواه
وعدو الله إبليس وهو مع ذلك يلبس على نفسه بحكم الغرور والجهل فيظن أنه محب لله عز وجل وهو الذي فقدت فيه هذه العلامات أو يلبس بها نفاقاً ورياءً وسمعةً وغرضه عاجل حظ الدنيا وهو يظهر من نفسه خلاف ذلك كعلماء السوء وقراء السوء أولئك بغضاء الله في أرضه
وكان سهل إذا تكلم مع إنسان قال يا دوست أي يا حبيب فقيل له قد لا يكون حبيباً فكيف تقول هذا فقال في أذن القائل سراً لا يخلو إما أن يكون مؤمناً أو منافقاً فإن كان مؤمناً فهو حبيب الله عز وجل وإن كان منافقاً فهو حبيب إبليس وقد(4/338)
قال أبو تراب النخشبى في علامات المحبة أبياتاً
لا تخدعن فللحبيب دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام وبر عاجل
ومن الدلائل أي ترى من عزمه ... طوع الحبيب وإن ألح العاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسماً ... والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهماً ... لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل أن يرى متقشفاً ... متحفظاً من كل ما هو قائل
وقال يحيى بن معاذ
ومن الدلائل أن تراه مشمراً ... في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه ... جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً ... نحو الجهاد وكل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى ... من دار ذل والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكياً ... أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن االدلائل أن تراه مسلماً ... كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضياً ... بمليكه في كل حكم نازل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى ... والقلب محزون كقلب الثاكل
بيان معنى الأنس بالله تعالى
قد ذكرنا أن الأنس والخوف والشوق من آثار المحبة إلا أن هذه آثار تختلف على المحب بحسب نظره وما يغلب عليه في وقته فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلا منتهى الجمال واستشعر قصوره عن الإطلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه وتسمى هذه الحالة في الانزعاج شوقاً وهو بالإضافة إلى أمر غائب وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصوراً على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد استبشر القلب بما يلاحظه فيسمى استبشاره أنساً وإن كان نظره إلى صفات العز والاستغناء وعدم المبالاة وخطر إمكان الزوال والبعد تألم القلب بهذا الاستشعار فيسمى تألمه خوفاً
وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات والملاحظات تابعة لأسباب تقتضيها لا يمكن حصرها فالأنس معناه استبشار القلب فرحه بمطالعة الجمال حتى إنه إذا غلب وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال عظم نعيمه ولذته ومن هنا نظر بعضهم حيث قيل له أنت مشتاق فقال لا إنما الشوق إلى غائب فإذا كان الغائب حاضراً فإلى من يشتاق وهذا كلام مستغرق بالفرح بما ناله غير ملتفت إلى ما بقي في الإمكان من مزايا الألطاف
ومن غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة كما حكي أن إبراهيم بن أدهم نزل من الجبل فقيل له من أين أقبلت فقال من الأنس بالله وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله بل كل(4/339)
ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب كما روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهراً لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغثيان لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره فيخرج من القلب عذوبة ما سواه
ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه وقال الله عز وجل لداود عليه السلام كن لي مشتاقاً وبي متأنساً ومن سواي مستوحشاً وقيل لرابعة بم نلت هذه المنزلة قالت بتركي ما لا يعنيني وأنسي بمن لم يزل
وقال عبد الواحد بن زيد مررت براهب فقلت له يا راهب لقد أعجبتك الوحدة فقال يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك الوحدة رأس العبادة فقلت يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة قال الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم قلت يا راهب متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى قال إذا صفا الود وخلصت المعاملة قلت ومتى يصفو الود قال إذا اجتمع الهم فصار هما واحد في الطاعة وقال بعض الحكماء عجباً للخلائق كيف أرادوا بك بدلاً عجباً للقلوب كيف استأنست بسواك عنك
فإن قلت فما علامة الأنس فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر وشاهد في غيبة وغائب في حضور مخالط بالبدن منفرد بالقلب مستغرق بعذوبة الذكر كما قال علي كرم الله وجهه في وصفهم هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه
فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى إنكار الأنس والشوق والحب لظنه أن ذلك يدل على التشبيه وجهله بأن جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات ولذة معرفتها أغلب على ذوي القلوب ومنهم أحمد بن غالب يعرف بغلام الخليل أنكر على الجنيد وعلى أبي الحسن النوري والجماعة حديث الحب والشوق والعشق حتى أنكر بعضهم مقام الرضا وقال ليس إلا الصبر فأما الرضا فغير متصور
وهذا كله كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب فمن لم يصل من الجوز إلا إلى قشره يظن أن الجوز خشب كله ويستحيل عنده خروج الدهن منه لا محالة وهو معذور ولكن عذره غير مقبول وقد قيل
الأنس بالله لا يحويه بطال ... وليس يدركه بالحول محتال
والآنسون رجال كلهم نجب ... وكلهم صفوة لله عمال
بيان معنى الانبساط والإدلال الذي تثمره غلبة الأنس
اعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب فإنه يثمر نوعاً من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر
ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل(4/340)
بعد أن قحطوا سبع سنين وخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفاً فأوحى الله عز وجل إليه كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين ويأمنون مكري ارجع إلى عبد من عبادي يقال له برخ فقل له يخرج حتى أستجيب له فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه فعرفه موسى عليه السلام بنور الله عز وجل فسلم عليه وقال له ما اسمك فقال اسمي برخ قال فأنت طلبتنا منذ حين أخرج فاستسق لنا
فخرج فقال في كلامه ما هذا من فعالك ولا هذا من حلمك وما الذى بدالك أنقصت عليك عيونك أم عاندت الرياح عن طاعتك أم نفد ما عندك أم اشتد غضبك على المذنبين ألست كنت غفاراً قبل خلق الخطائين خلقت الرحمة وأمرت بالعطف أم ترينا أنك ممتنع أم تخشى الفوت فتجعل بالعقوبة قال فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب قال فرجع برخ فاستقبله موسى عليه السلام فقال كيف رأيت حين خاصمت ربى كيف أنصفني فهم موسى عليه السلام به فأوحى الله تعالى إليه إن برخاً يضحكني كل يوم ثلاث مرات
وعن الحسن قال احترقت أخصاص بالبصرة فبقي في وسطها خص لم يحترق وأبو موسى يومئذ أمير البصرة فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص قال فأتي بشيخ فقال يا شيخ ما بال خصك لم يحترق قال إني أقسمت على ربي عز وجل أن لا يحرقه فقال أبو موسى رضي الله عنه إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يكون في أمتي قوم شعثة رءوسهم دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم (1) قال ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة الخواص فجعل يتخطى النار فقال له أمير البصرة انظر لا تحترق بالنار فقال إني أقسمت على ربي عز وجل أن لا يحرقني بالنار قال فاعزم على النار أن تطفأ قال فعزم عليها فطفئت
وكان أبو حفص يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي مدهوش فقال له أبو حفص ما أصابك فقال ضل حماري ولا أملك غيره قال فوقف أبو حفص وقال وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره قال فظهر حماره في الوقت ومر أبو حفص رحمه الله
فهذا وأمثاله يجري لذوي الأنس وليس لغيرهم أن يتشبه بهم
قال الجنيد رحمه الله أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة
وقال مرة لو سمعها العموم لكفروهم وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك
وذلك يحتمل منهم ويليق بهم وإليه أشار القائل
قوم تخالجهم زهو بسيدهم ... والعبد يزهو على مقدار مولاه
تاهوا برؤيته عما سواه له ... يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا
ولا تستبعدون رضاه عن العبد بما يغضب به على غيره مهما اختلف مقامهما ففي القرآن تنبيهات على هذه المعاني لو فطنت وفهمت فجميع قصص القرآن تنبيهات لأولي البصائر والأبصار حتى ينظروا إليها بعين الاعتبار فإنما هي عند ذوي الاعتبار من الأسماء
فأول القصص قصة آدم عليه السلام وإبليس أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة ثم تباينا في الاجتباء والعصمة
أما إبليس فأبلس عن رحمته وقيل إنه من المبعدين
وأما آدم عليه السلام فقيل فيه وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
_________
(1) حديث الحسن عن أبى موسى يكون في أمتى قوم شعثة رءوسهم دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم أخرجه ابن أبى الدنيا في كتاب الأولياء وفيه انقطاع وجهالة(4/341)
وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد وهما في العبودية سيان ولكن في الحال مختلفان فقال وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى وقال فى الآخرة أما من استغنى فأنت له تصدى وكذلك أمره بالقعود مع طائفة فقال عز وجل وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم وأمره بالإعراض عن غيرهم فقال وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى قال فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمبن وقال تَعَالَى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي
فكذلك الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وقوله في التعليل والاعتذار لما قيل له اذهب إلى فرعون {فقال} ولهم على ذنب وقوله إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وقوله إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ونودي عليه إلى يوم القيامة لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم قال الحسن العراء هو القيامة ونهى نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به
وقيل له فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم
وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد وقد قال تعالى ولقد فضلنا بعض النبين على بعض وقد قال منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى عليه السلام من المفضلين ولإدلاله سلم على نفسه فقال والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس
وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه
وانظر كيف احتمل لأخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء قد عددت من أول قوله تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم فيه نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزير في مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل مُحِيَ من ديوان النبوة وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك
وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فعفا عنه
فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام يا رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فوعزتى وجلالي لئن أخذته عصفة من عصفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيباً من رمل ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال إلهي وسيدي أنت أنت وأنا وأنا فكيف أتوب إن لم تتب علي وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودن فأوحى الله تعالى إليه صدقت يا آصف أنت أنت وأنا وأنا أستقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم وهذا كلام مدل به عليه وهارب منه إليه وناظر به إليه(4/342)
وفي الخبر إن الله تعالى أوحى إلى عبد تداركه بعد أن كان أشفى على الهلكة كم من ذنب واجهتني به غفرته لك قد أهلكت في دونه أمة من الأمم
فهذه سنة الله تعالى في عباده بالتفضيل والتقديم والتأخير على ما سبقت به المشيئة الأزلية
وهذه القصص وردت في القرآن لتعرف بها سنة الله في عباده الذين خلوا من قبل فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور وتعرف من الله تعالى إلى خلقه فتارة يتعرف إليهم بالتقديس فيقول قل هو الله أحد الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كفواً أحد وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله فيقول الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ المتكبر وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة فيتلو عليهم سنته في أعدائه وفي أنبيائه فيقول ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
ولايعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة وهي الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه أو معرفة صفاته وأسمائه أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده
ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن فقال من قرأ سورة الإخلاص فقد قرأ ثلث القرآن (1) حديث دعائه لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل متفق عليه دون قوله وعلمه التأويل ورواه أحمد بهذه الزيادة وتقدم في العلم
القول في معنى الرضا بقضاء الله تعالى وحقيقته وما ورد في فضيلته
اعلم أن الرضا ثمرة من ثمار المحبة وهو من أعلى مقامات المقربين وحقيقته غامضة على الأكثرين وما يدخل عليه من التشابه والإبهام غير منكشف إلا لمن علمه الله تعالى التأويل وفهمه وفقهه في الدين فقد أنكر منكرون تصور الرضا بما يخالف الهوى ثم قالوا إن أمكن الرضا بكل شيء لأنه فعل الله فينبغى أن يرضى بالكفر والمعاصى وانخدع بذلك قوم فرأوا الرضا بالفجور والفسوق وترك الاعتراض والإنكار من باب التسليم لقضاء الله تعالى
ولو انكشفت هذه الأسرار لمن اقتصر على سماع ظواهر الشرع لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
فلنبدأ ببيان فضيلة الرضا ثم بحكايات أحوال الراضين
_________
(1) حديث من قرأ سورة الإخلاص فقد قرأ ثلث القرآن أخرجه أحمد من حديث أبى بن كعب بإسناد صحيح ورواه البخارى من حديث أبى سعيد ومسلم من حديث أبى الدرداء نحوه لأن منتهى التقديس أن يكون واحداً في ثلاثة أمور لا يكون حاصلاً منه من هو نظيره وشبهه
ودل عليه قوله لم يلد ولا يكون حاصلاً ممن هو نظيره وشبهه
ودل عليه قوله ولم يولد ولا يكون في درجته وإن لم يكن أصلاً له ولا فرعاً من هو مثله
ودل عليه قوله ولم يكن له كفواً أحد ويجمع جميع ذلك قوله تعالى قل هو الله أحد وجملته تفصيل قول لا إله إلا الله فهذه أسرار القرآن ولا تتناهى أمثال هذه الأسرار في القرآن ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه نوروا القرآن والتمسوا غرائبه ففيه علم الأولين والآخرين وهو كما قال ولا يعرفه إلا من طال في آحاد كلماته فكره وصفا له فهمه حتى تشهد له كل كلمة منه بأنه كلام جبار قاهر مليك قادر وأنه خارج عن حد استطاعة البشر
وأكثر أسرار القرآن معبأة في طي القصص والأخبار فكن حريصاً على استنباطها ليكشف لك فيه من العجائب ما تستحقر معه العلوم المزخرفة الخارجة عنه
فهذا ما أردنا ذكره من معنى الأنس والانبساط الذي هو ثمرته وبيان تفاوت عباد الله فيه والله سبحانه وتعالى أعلم(4/343)
ثم نذكر حقيقة الرضا وكيفية تصوره فيما يخالف الهوى ثم نذكر ما يظن أنه من تمام الرضا وليس منه كترك الدعاء والسكوت على المعاصي
بيان فضيلة الرضا
أما من الآيات فقوله تعالى {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وقد قال تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ومنتهى الإحسان رضا الله عن عبده وهو ثواب رضا العبد عن الله تعالى
وقال تعالى {ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر} فقد رفع الله الرضا فوق جنات عدن كما رفع ذكره فوق الصلاة حيث قال {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فكما أن مشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة بل هو غاية مطلب سكان الجنان
وفي الحديث إن الله تعالى يتجلى للمؤمنين فيقول سلوني فيقولون رضاك (1) فسؤالهم الرضا بعد النظر نهاية التفضيل
وأما رضا العبد فسنذكر حقيقته وأما رضوان الله تعالى عن العبد فهو بمعنى آخر يقرب مما ذكرناه في حب الله للعبد ولا يجوز أن يكشف عن حقيقته إذ تقصر أفهام الخلق عن دركه ومن يقوى عليه فيستقل بإدراكه من نفسه
وعلى الجملة فلا رتبة فوق النظر إليه فإنما سألوه الرضا لأنه سبب دوام النظر فكأنهم رأوه غاية الغايات وأقصى الأماني لما ظفروا بنعيم النظر فلما أمروا بالسؤال لم يسألوا إلا دوامه وعلموا أن الرضا هو سبب دوام رفع الحجاب
وقال الله تعالى {ولدينا مزيد} قال بعض المفسرين يأتي أهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف من عند رب العالمين أحداها هدية من عند الله تعالى ليس عندهم في الجنان مثلها فذلك قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لهم من قرة عين والثانية السلام عليهم من ربهم فيزيد ذلك على الهدية فضلاً وهو قوله تعالى {سلام قولاً من رب رحيم} والثالثة يقول الله تعالى إني عنكم راض فيكون ذلك أفضل من الهدية والتسليم فذلك قوله تعالى {ورضوان من الله أكبر} أي من النعيم الذي هم فيه فهذا فضل رضا الله تعالى وهو ثمرة رضا العبد
وأما من الأخبار فقد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل طائفة من أصحابه ما أنتم فقالوا مؤمنون فقال ما علامة إيمانكم فقالوا نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء فقال مؤمنون ورب الكعبة (2) وفي خبر آخر أنه قال حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء (3) وفي الخبر طوبى لمن هدي للإسلام وكان رزقه كفافاً ورضي بِهِ (4) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رضي من الله تعالى بالقليل من الرزق رضي الله تعالى منه بالقليل من العمل (5) وقال أيضاً إذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه وقال أيضاً إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى
_________
(1) حديث إن الله يتجلى للمؤمنين فيقول سلوني فيقولون رضاك أخرجه البزار والطبرانى في الأوسط من حديث أنس في حديث طويل بسند فيه لين وفيه فيتجلى لهم يقول أنا الذى صدقتكم وعدى وأتممت عليكم نعمتى وهذا محل إكرامى فسلونى فيسألونه الرضا الحديث ورواه أبو يعلى بلفظ ثم يقول ماذا تريدون فيقولون رضاك الحديث ورجاله رجال الصحيح
(2) حديث سأل طائفة من أصحابه ما أنتم فقالوا مؤمنون فقال ما علامة إيمانكم الحديث تقدم
(3) حديث أنه قال في حديث آخر حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونو أنبياء تقدم أيضا
(4) حديث طوبى لمن هدي للإسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به أخرجه الترمذى من حديث فضالهبن عبيد بلفظ وقنع وقال صحيح وقد تقدم
(5) حديث من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي منه بالقليل من العمل رويناه في أمالى المحاملى بإسناد ضعيف من حديث علي بن أبي طالب ومن طريق المحاملى رواه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس(4/344)
الجنان يسرحون فيها ويتنعمون فيها كيف شاءوا فتقول لهم الملائكة هل رأيتم الحساب فيقولون ما رأينا حساباً فتقول لهم هل جزتم الصراط فيقولون ما رأينا صراطاً فتقول لهم هل رأيتم جهنم فيقولون ما رأينا شيئاً فتقول الملائكة من أمة من أنتم فيقولون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتقول ناشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون خصلتان كانتا فينا فبلغنا هذه المنزلة بفضل رحمة الله فيقولون وماهما فيقولون كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا فتقول الملائكة يحق لكم هذا (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا (2)
وفي أخبار موسى عليه السلام إن بني إسرائيل قالوا له سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا فقال موسى عليه السلام
إلهي قد سمعت ما قالوا فقال يا موسى قل لهم يرضون عنى حتى أرضى عنهم
ويشهد لهذا ما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال من أحب أن يعلم ماله عند الله عز وجل فلينظر ما لله عز وجل عنده فإن الله تبارك وتعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه (3) حديث قال الله أنا الله لا إله إلا أنا من لم يصبر على بلائي الحديث أخرجه الطبرانى في الكبير وابن حبان في الضعفاء من حديث أبى هند الدارى مقتصرا على قوله من لم يرض بقضائى ويصبر على بلائى فليلتمس ربا سواى وإسناده ضعيف (4) وفي الخبر المشهور يقول الله تعالى خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه وويل لمن خلقته للشر وأجريت الشر على يديه وويل ثم ويل لمن قال لم وكيف (5)
وفي الأخبار السالفة أن نبياً من الأنبياء شكا إلى الله عز وجل الجوع والفقر والقمل عشر سنين فما أجيب إلى ما أراد ثم أوحى الله تعالى إليه كم تشكو هكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات
_________
(1) حديث إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها رواه ابن حبان في الضعفاء وأبو عبد الرحمن السلمى من حديث أنس مع اختلاف وفيه حميد بن على القيسى ساقطها لك والحديث منكر مخالف للقرآن وللأحاديث الصحيحة في الورود وغيره
(2) حديث أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا تقدم
(3) حديث من أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده الحديث أخرجه الحاكم من حديث جابر وصححه بلفظ منزلته ومنزلة الله
وفي أخبار داود عليه السلام ما لأوليائي والهم بالدنيا إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم يا داود إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون
وروي أن موسى عليه السلام قال يارب دلني على أمر فيه رضاك حتى أعمله فأوحى الله تعالى إليه إن رضاي في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره قال يارب دلني عليه قال فإن رضاي في رضاك بقضائي
وفي مناجاة موسى عليه السلام أي رب أي خلقك أحب إليك قال من إذا أخذت منه المحبوب سالمنى قال
فبأي خلقك أنت عليه ساخط قال من يستخيرني في الأمر فإذا قضيت له سخط قضائي
وقد روي ما هو أشد من ذلك وهو أن الله تعالى قال أنا الله لا إله إلا أنا من لم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي
(4) ومثله في الشدة قوله تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله تعالى قدرت المقادير ودبرت التدبير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضا مني حتى يلقاني ومن سخط فله السخط مني حتى يلقاني حديث قال الله تعالى قدرت المقادير ودبرت التدبير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضا الحديث لم أجده بهذا اللفظ وللطبرانى في الأوسط من حديث أبى أمامة خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين الحديث وإسناده ضعيف
(5) حديث يقول الله خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه الحديث أخرجه ابن شاهين في شرح السنة عن أبى أمامة بإسناد ضعيف(4/345)
والأرض وهكذا سبق لك مني وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك أم تريد أن أبدل ما قدرته عليك فيكون ما تحب فوق ما أحب ويكون ما تريد فوق ما أريد وعزتي وجلالي لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان النبوة
وروي أن آدم عليه السلام كان بعض أولاده الصغار يصعدون على بدنه وينزلون يجعل أحدهم رجله على أضلاعه كهيئة الدرج فيصعد إلى رأسه من ينزل على أضلاعه كذلك وهو مطرق إلى الأرض لا ينطق ولا يرفع رأسه فقال له بعض ولده يا أبت أما ترى ما يصنع هذا بك لو نهيته عن هذا فقال يا بني إني رأيت ما لم تروا وعلمت ما لم تعلموا إني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان ومن دار النعيم إلى دار الشقاء
فأخاف أن أتحرك أخرى فيصيبنى مالا أعلم
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ولا قال في شيء كان ليته لم يكن ولا في شيء لم يكن ليته كان وكان إذا خاصمني مخاصم من أهله يقول دعوه لو قضي شيء لكان (1)
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود إنك تريد وأريد وإنما يكون ما أريد فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد
وأما الآثار فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما
أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله تعالى على كل حال
وقال عمر بن عبد العزيز ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر وقيل له ما تشتهي فقال ما يقضي الله
وقال ميمون بن مهران من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء
وقال الفضيل إن لم تصبر على تقدير الله لم تصبر على تقدير نفسك وقال عبد العزيز بن أبي رواد ليس الشأن في أكل خبز الشعير والخل ولا في لبس الصوف والشعر ولكن الشأن في الرضا عن الله عز وجل وقال عبد الله بن مسعود لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشئ كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان
ونظر رجل إلى قرحة في رجل محمد بن واسع فقال إني لأرحمك من هذه القرحة فقال إني لأشكرها منذ خرجت إذ لم تخرج في عيني
وروي في الإسرائيليات أن عابداً عبد الله دهراً طويلاً فأري في المنام فلانة الراعية رفيقتك في الجنة فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها فكان يبيت قائماً وتبيت نائمة ويظل صائما وتظل مفطرة
فقال أما لك عمل غير ما رأيت فقالت ماهو والله إلا ما رأيت لا أعرف غيره فلم يزل يقول تذكري حتى قالت خصيلة واحدة هي في إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة وإن كنت في الشمس لم أتمن أن أكون في الظل فوضع العابد يده على رأسه وقال أهذه خصيلة هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العباد
وعن بعض السلف أن الله تعالى إذا قضى في السماء قضاء أحب من أهل الأرض أن يرضوا بقضائه
وقال أبو الدرداء ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر وقال عمر رضي الله عنه
ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدة أو رخاء
وقال الثوري يوماً عند رابعة اللهم ارض عني فقالت أما تستحي من الله أن تسأله الرضا وأنت عنه غير راض فقال أستغفر الله فقال جعفر بن سليمان الضبعي فمتى يكون العبد راضياً عن الله
_________
(1) حديث أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته الحديث متفق عليه وقد تقدم(4/346)
تعالى قالت إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة
وكان الفضيل يقول إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي عن الله تعالى وقال أحمد بن أبي الحواري قال أبو سليمان الداراني إن الله عز وجل من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت وكيف ذاك قال أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه قلت نعم قال فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه
وقال سهل حظ العبيد من اليقين على قدر حظهم من الرضا وحظهم من الرضا على قدر عيشهم مع الله عز وجل وقد قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين وجعل الغم والحزن في الشك والسخط (1)
بيان حقيقة الرضا وتصوره فيما يخالف الهوى
اعلم أن من قال ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصور فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ويكون ذلك من وجهين
{أحدهما} أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها
ومثاله الرجل المحارب فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه
بل الذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم به فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به
وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لولا عشقه ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه
هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم فإن الحب أيضاً يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحث يدهش ويغشى عليه فلا يحس مما يجري عليه
فقد روي أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها أما تجدين الوجع فقالت إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه
وكان سهل رحمه الله تعالى به علة يعالج غيره منها ولا يعالج نفسه فقيل له في ذلك فقال يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع
وأما الوجه الثاني فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه مريداً له أعني بعقله وإن كان كارهاً بطبعه كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة فإنه يدرك ألم ذلك إلا انه راض به وراغب فيه ومتقلد من الفصاد به منة بفعله فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم
وكذلك كل من يسافر في طلب الربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضياً بها
ومهما أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه هذا إن كان
_________
(1) حديث إن الله بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا الحديث أخرجه الطبرانى من حديث ابن مسعود إلا أنه قال بقسطه وقد تقدم(4/347)
يلاحظ الثواب والإحسان الذي يجازى به عليه ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه ورضاء لا لمعنى آخر وراءه فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوباً عنده ومطلوباً وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم ولا معنى له إلا ملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث بدايته من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة
وإن نظر إلى المدرك للجمال فهي العين الخسيسة التي تغلط فيما ترى كبيراً فترى الصغير كبيراً والكبير صغيراً والبعيد قريباً والقبيح جميلاً فإذا تصور استيلاء هذا الحب فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط ولا يدور بها الموت بل تبقى بعد الموت حية عند الله فرحة برزق الله تعالى مستفيدة بالموت مزيد تنبيه واستكشاف فهذا أمر واضح من حيث النظر بعين الاعتبار ويشهد لذلك الوجود وحكايات أحوال المحبين وأقوالهم
فقد قال شقيق البلخي من يرى ثواب الشدة لا يشتهي المخرج منها وقال الجنيد سألت سرياً السقطي هل يجد المحب ألم البلاء قال لا قلت وإن ضرب بالسيف قال نعم وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة ضربة على ضربة
وقال بعضهم أحببت كل شيء يحبه حتى لو أحب النار أحببت دخول النار وقال بشر بن الحارث مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس فتبعته فقلت له لم ضربت فقال لأني عاشق فقلت له ولم سكت قال لأن معشوقي كان بحذائي ينظر إلي فقلت فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال فزعق زعقة خر ميتا
وقال يحي بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثمانمائة سنة لا ترجع إليهم فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله إذا لاحظت جلاله هابت وإذا لاحظت جماله تاهت وقال بشر قصدت عبادان في بدايتي فإذا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع والنمل يأكل لحمه فرفعت رأسه فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام فلما أفاق قال من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا حباً قال بشر فما رأيت بعد ذلك نقمة بين عبد وبين ربه فأنكرتها
وقال أبو عمرو محمد بن الأشعث إن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك وهو قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك
وقال سعيد بن يحيى رأيت بالبصرة في خان عطاء بن مسلم شاباً وفي يده مدية وهو ينادي بأعلى صوته والناس حوله وهو يقول
يوم الفراق من القيامة أطول ... والموت من ألم التفرق أجمل
قالوا الرحيل فقلت لست براحل ... لكن مهجتي التي تترحل
ثم بقر بالمدية بطنه وخر ميتاً فسألت عنه وعن أمره فقيل لي إنه كان يهوى فتى لبعض الملوك حجب عنه يوماً واحداً
ويروى أن يونس عليه السلام قال لجبريل دلني على أعبد أهل الأرض فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره فسمعه وهو يقول إلهي متعتني بهما ما شئت أنت وسلبتني ما شئت أنت وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول
ويروى عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه اشتكى له ابن فاشتد(4/348)
وجده عليه حتى قال بعض القوم لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث فمات الغلام فخرج ابن عمر في جنازته وما رجل أشد سروراً أبداً منه فقيل له في ذلك فقال ابن عمر إنما كان حزني رحمة له فلما وقع أمر الله رضينا به
وقال مسروق كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك فالديك يوقظهم للصلاة والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم والكلب يحرسهم قال فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له وكان الرجل صالحاً فقال عسى أن يكون خيراً ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله فحزنوا عليه فقال الرجل عسى أن يكون خيراً ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال عسى أن يكون خيراً ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم قال وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدره الله تعالى
فإذن من عرف خفي لطف الله تعالى رضي بفعله على كل حال
ويروى أن عيسى عليه السلام مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام وهو يقول الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به كثيراً من خلقه فقال له عيسى يا هذا أي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك فقال يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته فقال له صدقت هات يدك فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأفضلهم هيئة وقد أذهب الله عنه ما كان به فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه
وقطع عروة بن الزبير رجله من ركبته من أكلة خرجت بها ثم قال الحمد لله الذي أخذ مني واحدة وليت لئن كنت أخذت لقد أبقيت ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ثم لم يدع ورده تلك الليلة
وكان ابن مسعود يقول الفقر والغنى مطيبتان ما أبالي أيتهما ركبت إن كان الفقر فإن فيه الصبر وإن كان الغنى فإن فيه البذل
وقال أبو سليمان الداراني قلت قد نلت من كل مقام حالاً إلا الرضا فمالى منه إلا مشام الريح وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار كنت بذلك راضياً
وقيل لعارف آخر هل نلت غاية الرضا عنه فقال أما الغاية فلا ولكن مقام الرضا قد نلته لو جعلني جسراً على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم تحلة لقسمه وبدلاً من خليقته لأحببت ذلك من حكمه ورضيت به من قسمه
وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه حتى منعه الإحساس بألم النار فإن بقي إحساس فيغمره ما يحصل من لذته في استشعاره حصول رضا محبوبه بإلقائه إياه في النار
واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه وإن كان بعيداً من أحوالنا الضعيفة ولكن لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم أحوال الأقوياء ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه الأولياء
وقال الروذباري قلت لأبي عبد الله بن الجلاء الدمشقي قول فلان وددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق أطاعوه ما معناه فقال يا هذا إن كان هذا من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف وإن كان هذا من طريق الإشفاق والنصح للخلق فأعرف قال ثم غشي عليه
وقد كان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء فجعل يبكي لما يراه من حاله فقال لم تبكي قال لأني أراك على هذه الحالة العظيمة قال لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي ثم قال أحدثك شيئاً لعل الله أن ينفعك به واكتم علي حتى أموت إن الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة فمن يشاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضياً به قال ودخلنا على سوبد بن متعبه نعوده فرأيناه ثوباً ملقى فما ظننا أن تحته شيئاً حتى كشف فقالت له امرأته أهلي(4/349)
فداؤك ما نطعمك
ما نسقيك فقال طالت الضجعة ودبرت الحراقيف وأصبحت نضواً لا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا فذكر أياماً وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة وقد كان كف بصره جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له فيدعو لهذا ولهذا وكان مجاب الدعوة قاله عبد الله بن السائب فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني وقال أنت قارئ أهل مكة قلت نعم فذكر قصة قال في آخرها فقلت له يا عم أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك فتبسم وقال يا بني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري وضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام لم يعرف له خبر فقيل له لو سألت الله تعالى أن يرده عليك فقال اعتراضي عليه فيما قضي أشد علي من ذهاب ولدي
وعن بعض العباد أنه قال إني أذنبت ذنباً عظيماً فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب فقيل له وما هو قال قلت مرة لشيء كان ليته لم يكن
وقال بعض السلف لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيءقضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه
وقيل لعبد الواحد بن زيد ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة فقصده فقال له يا حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به قال لا قال أنست به قال لا قال فهل رضيت عنه قال لا قال فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة قال نعم قال لولا أني أستحيي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة ومعناه أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب وإنما أنت تعد في طبقات أصحاب اليمين لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح التى هى مزيد أهل العموم
ودخل جماعة من الناس على الشبلي رحمه الله تعالى في مارستان قد حبس فيه وقد جمع بين يديه حجارة فقال من أنتم فقالوا محبوك فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال ما بالكم ادعيتم محبتي إن صدقتم فاصبروا على بلائي
وللشبلي رحمه الله تعالى
إن المحبة للرحمن أسكرني ... وهل رأيت محباً غير سكران
وقال بعض عباد أهل الشام كلكم يلقى الله عز وجل مصدقاً ولعله قد كذبه وذلك أن أحدكم لو كان له إصبع من ذهب ظل يشير بها ولو كان بها شلل ظل يواريها يعني بذلك أن الذهب مذموم عند الله والناس يتفاخرون به والبلاء زينة أهل الآخرة وهم يستنكفون منه
وقيل إنه وقع الحريق في السوق فقيل للسري احترق السوق وما احترق دكانك فقال الحمد لله ثم قال كيف قلت الحمد لله على سلامتي دون المسلمين فتاب من التجارة وترك الحانوت بقية عمره توبة واستغفاراً من قوله الحمد لله
فإذا تأملت هذه الحكايات عرفت قطعاً أن الرضا بما يخالف الهوى ليس مستحيلاً بل هو مقام عظيم من مقامات أهل الدين
ومهما كان ذلك ممكناً في حب الخلق وحظوظهم كان ممكناً في حق حب الله تعالى وحظوظ الآخرة قطعاً
وإمكانه من وجهين {أحدهما} الرضا بالألم لما يتوقع من الثواب الموجود كالرضا بالفصد والحجامة وشرب الدواء انتظاراً للشفاء
والثاني الرضا به لا لحظ وراءه بل لكونه مراد المحبوب ورضا له فقد يغلب الحب بحيث ينغمر مراد المحب في مراد المحبوب فيكون ألذ الأشياء عنده سرور قلب محبوبه ورضاه ونفوذ إرادته ولو في هلاك روحه كما قيل
فما لجرح إذا أرضاكم ألم ...
وهذا ممكن مع الإحساس بالألم وقد يستولي الحب بحيث يدهش عن إدراك الألم فالقياس والتجربة والمشاهدة(4/350)
دالة على وجوده فلا ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه لأنه إنما فقده لفقد سببه وهو فرط حبه ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه
وقد روى عن عمرو بن الحارث الرافعي قال كنت في مجلس بالرقة عند صديق لي وكان معنا فتى يتعشق جارية مغنية وكانت معنا في المجلس فضربت بالقضيب وغنت
علامة ذل الهوى ... على العاشقين البكا
ولا سيما عاشق ... إذا لم يجد مشتكى
فقال لها الفتى أحسنت والله يا سيدتي أفتأذنين لي أن أموت فقالت مت راشداً قال فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه فحركناه فإذا هو ميت
وقال الجنيد رأيت رجلاً متعلقاً بكم صبي وهو يتضرع إليه ويظهر له المحبة فالتفت إليه الصبي وقال له إلى متى ذا النفاق الذي تظهر لي فقال قد علم الله أني صادق فيما أورده حتى لو قلت لي مت لمت فقال إن كنت صادقاً فمت قال فتنحى الرجل وغمض عينيه فوجد ميتاً وقال سمنون المحب كان في جيراننا رجل وله جارية يحبها غاية الحب فاعتلت الجارية فجلس الرجل ليصلح لها حيسا فبينا هو يحرك القدر إذ قالت الجارية آه قال فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى سقطت أصابعه فقالت الجارية ما هذا قال هذا مكان قولك آه
وحكى عن محمد ابن عبد الله البغدادي قال رأيت بالبصرة شاباً على سطح مرتفع وقد أشرف على الناس وهو يقول
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
ثم رمى بنفسه إلى الأرض فحملوه ميتاً
فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق والتصديق به في حب الخالق أولى لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر وجمال الحضرة الربانية أو في من كل جمال بل كل جمال في العالم فهو حسنة من حسنات ذلك الجمال
نعم الذي فقد البصر ينكر جمال الصور والذي فقد السمع ينكر لذة الألحان والنغمات الموزونة فالذي فقد القلب لا بد وأن ينكر أيضاً هذه اللذات التي لامظنة لها سوى القلب
بيان أن الدعاء غير مناقض للرضا
ولا يخرج صاحبه عن مقام الرضا وكذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها ومقت أسبابها والسعي في إزالتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يناقضه أيضاً
وقد غلط في ذلك بعض البطالين المغترين وزعم أن المعاصي والفجور والكفر من قضاء الله وقدره عز وجل فيجب الرضا به وهذا جهل بالتأويل وغفلة عن أسرار الشرع فأما الدعاء فقد تعبدنا به وكثرة دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام على ما نقلناه في كتاب الدعوات تدل عليه ولقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى المقامات من الرضا
وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله {ويدعوننا رغبا ورهبا} وأما إنكار المعاصي وكراهتها وعدم الرضا بها فقد تعبد الله به عباده وذمهم على الرضا به فقال {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} وقال تعالى {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم} وفي الخبر المشهور من شهد منكراً فرضي به فكأنه قد فعله وفي الحديث الدال على الشر كفاعله (1) وعن ابن مسعود إن العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر صاحبه وقيل وكيف ذلك قال يبلغه فيرضى به وفي الخبر لو أن عبداً قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب كان
_________
(1) حديث الدال على الشر كفاعله أخرجه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أنس بإسناد ضعيف جدا(4/351)
شريكاً في قتله (1) وقد أمر الله تعالى بالحسد والمنافسة في الخيرات وتوقي الشرور فقال تعالى {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَسَدَ إِلَّا في اثنتين رجل آتاه الله حكمة فهو يبثها في الناس ويعلمها ورجل أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحق (2) وفي لفظ آخر ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار فيقول الرجل لو آتاني الله مثل ما آتى هذا لفعلت مثل ما يفعل
وأما بغض الكفار والفجار والإنكار عليهم ومقتهم فما ورد فيه من شواهد القرآن والأخبار لا يحصى مثل قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وقال تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً وفي الخبر إن الله تعالى أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل منافق وعلى كل منافق أن يبغض كل مؤمن (3) وقال عليه السلام المرء مع من أحب (4) وقال من أحب قوماً ووالاهم حشر معهم يوم القيامة (5) وقال عليه السلام أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (6) وشواهد هذا قد ذكرناها في بيان الحب والبغض في الله تعالى من كتاب آداب الصحبة وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا نعيده
فإن قلت فقد وردت الآيات والأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى (7) فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى فهو محال وهو قادح في التوحيد وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى وكيف السبيل إلى الجمع وهو متناقض على هذا الوجه وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد فاعلم أن هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين عن الوقوف على أسرار العلوم وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت عن المنكر مقاماً من مقامات الرضا وسموه حسن الخلق وهو جهل محض بل نقول الرضا والكراهة يتضادان إذا تواردا على شيء واحد من جهة واحدة على وجه واحد فليس من التضاد في شيء واحد أن يكرهه من وجه ويرضى به من وجه إذ قد يموت عدوك الذي هو أيضاً عدو بعض أعدائك وساع في إهلاكه فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك وترضاه من حيث إنه مات عدوك
وكذلك المعصية لها وجهان وجه إلى الله تعالى من حيث إنه فعله واختياره وإرادته فيرضى به من هذا الوجه تسليما للملك إلى مالك الملك ورضا بما يفعله فيه ووجه إلى العبد من حيث إنه كسبه ووصفه وعلامة كونه ممقوتاً عند الله وبغيضاً عنده حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت فهو من هذا الوجه منكر ومذموم
ولا ينكشف هذا لك إلا بمثال
_________
(1) حديث لو أن رجلا قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر في المغرب كان شريكاً في قتله لم أجد له أصلا بهذا اللفظ ولابن عدى من حديث أبي هريرة من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فأحبها فكأنما حضرها وتقدم في كتاب الأمر بالمعروف
(2) حديث لا حسد إلا في اثنتين الحديث أخرجه البخارى من حديث أبى هريرة ومسلم من حديث ابن مسعود وقد تقدم في العلم
(3) حديث إن الله أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل منافق الحديث لم أجد له أصلا
(4) حديث المرء مع من أحب تقدم
(5) حديث من أحب قوماً ووالاهم حشر معهم أخرجه الطبرانى من حديث أبى قرصافة وابن عدى من حديث جابر من أحب قوما على أعمالهم حشر في زمرتهم زاد ابن عدى يوم القيامة وفي طريقه إسماعيل بن محيى التيمى ضعيف
(6) حديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله رواه أحمد وتقدم في آداب الصحبة
(7) الأخبار الواردة في الرضا بقضاء الله رواها الترمذى من حديث سعد بن أبي وقاص من سعادة ابن آدم وضاه بما قسم الله عز وجل الحديث وقال غريب وتقدم حديث ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وحديث إن الله بقسطه جعل الروح والفرح في الرضا وتقدم في حديث الاستخارة واقدر لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ وحديث من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي منه بالقليل من العمل وحديث أسألك الرضا بالقضاء الحديث وغير ذلك(4/352)
فلنفرض محبوباً من الخلق قال بين يدي محبيه
إني أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني وأنصب فيه معيارا صادقا وميزانا ناطقاً وهو أني أقصد إلى فلان فأوذيه وأضربه ضرباً يضطره ذلك إلى الشتم لي
حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدواً لي فكل من أحبه أعلم أيضاً أنه عدوي وكل من أبغضه أعلم أنه صديقي ومحبي
ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض وحصل البغض الذي هو سبب العداوة
فحق على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول أما تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة فأنا محب له وراض به فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم ولكنه كان مرادك منه فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب للمقت فهو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبرته فأنا راض به ولو لم يحصل لكان ذلك نقصاناً في تدبيرك وتعويقاً في مرادك وأنا كاره لفوات مرادك ولكنه من حيث إنه وصف لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب ولا يقابل بالشتم فأنا كاره له من حيث نسبته إليه ومن حيث هو وصف له لا من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له لأنه مرادك وأنا على موافقتك أيضاً مبغض له لأن شرط المحب أن يكون لحبيب المحبوب حبيباً ولعدوه عدواً
وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك إذ أبعدته عن نفسك وسلطت عليه دواعي البغض ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض وكسبه وفعله وأمقته لذلك فهو ممقوت عندي لمقته إياك وبغضه ومقته لك أيضاً عندي مكروه من حيث أنه وصفه وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرضي
وإنما التناقض أن يقول هو من حيث إنه مرادك مرضي ومن حيث إنه مرادك مكروه وأما إذا كان مكروهاً لا من حيث إنه فعله ومراده بل من حيث إنه وصف غيره وكسبه فهذا لا تناقض فيه ويشهد لذلك كل ما يكره من وجه ويرضى به من وجه ونظائر ذلك لا تحصى
فإذن تسليط الله دواعي الشهوة والمعصية عليه حتى يجره ذلك إلى حب المعصية ويجره الحب إلى فعل المعصية يضاهي ضرب المحبوب للشخص الذي ضربناه مثلاً ليجره الضرب إلى الغضب والغضب إلى الشتم
ومقت الله تعالى لمن عصاه وإن كانت معصيته بتدبيره يشبه بغض المشتوم لمن شتمه وإن كان شتمه إنما يحصل بتدبيره واختياره لأسبابه وفعل الله تعالى ذلك بكل عبد من عبيده أعني تسليط دواعي المعصية عليه يدل على أنه سبقت مشيئته بإبعاده ومقته
فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله ويمقت من مقته الله ويعادي من أبعده الله عن حضرته وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته فإنه بعيد مطرود ملعون عن الحضرة وإن كان بعيداً بإبعاده قهراً ومطروداً بطرده واضطراره
والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون مقيتاً بغيضاً إلى جميع المحبين موافقة للمحبوب بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده
بهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم والمبالغة في مقتهم مع الرضا بقضاء الله تعالى من حيث إنه قضاء الله عز وجل
وهذا كله يستمد من سر القدر الذي لا رخصه فى إفشائه وهو أن الشر والخير كلاهما داخلان في المشيئة والإرادة ولكن الشر مراد مكروه والخير مراد مرضي به
قمن قال ليس الشر من الله فهو جاهل وكذا من قال إنهما جميعاً منه من غير افتراق في الرضا والكراهة فهو أيضاً مقصر
وكشف الغطاء عنه غير مأذون فيه فالأولى السكوت والتأدب بأدب(4/353)
الشرع فقد قال صلى الله عليه وسلم القدر سر الله فلا تفشوه (1) وذلك يتعلق بعلم المكاشفة
وغرضنا الآن بيان الإمكان فيما تعبد به الخلق من الجمع بين الرضا بقضاء الله تعالى ومقت المعاصي مع أنها من قضاء الله تعالى وقد ظهر الغرض من غير حاجة إلى كشف السر فيه
وبهذا يعرف أيضاً أن الدعاء بالمغفرة والعصمة من المعاصي وسائر الأسباب المعينة على الدين غير مناقض للرضا بقضاء الله تعالى فإن الله تعبد العباد بالدعاء ليستخرج الدعاء منهم صفاء الذكر وخشوع القلب ورقة التضرع ويكون ذلك جلاء للقلب ومفتاحاً للكشف وسبباً لتواتر مزايا اللطف
كما أن حمل الكوز وشرب الماء ليس مناقضاً للرضا بقضاء الله تعالى في العطش وشرب الماء طلباً لإزالة العطش مباشرة سبب رتبه مسبب الأسباب فكذلك الدعاء سبب رتبه الله تعالى وأمر به
وقد ذكرنا أن التمسك بالأسباب جرياً على سنة الله تعالى لا يناقض التوكل واستقصيناه في كتاب التوكل فهو أيضاً لا يناقض الرضا لأن الرضا مقام ملاصق للتوكل ويتصل به نعم إظهار البلاء في معرض الشكوى وإنكاره بالقلب على الله تعالى مناقض للرضا وإظهار البلاء على سبيل الشكر والكشف عن قدرة الله تعالى لايناقض
وقد قال بعض السلف من حسن الرضا بقضاء الله تعالى أن لا يقول هذا يوم حار أي في معرض الشكاية وذلك في الصيف فأما الشتاء فهو شكر والشكوى تناقض الرضا بكل حال وذم الأطعمة وعيبها يناقض الرضا بقضاء الله تعالى لأن مذمة الصنعة مذمة للصانع والكل من صنع الله تعالى
وقول القائل الفقر بلاء ومحنة والعيال هم وتعب والاحتراف كد ومشقة كل ذلك قادح في الرضا بل ينبغي أن يسلم التدبير لمدبره والمملكة لمالكها ويقول ما قاله عمر رضي الله عنه لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً فإني لا أدري أيهما خير لي
بيان أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ومذمتها لا يقدح في
الرضا
اعلم أن الضعيف قد يظن أن نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخروج من بلد ظهر به الطاعون (2) يدل على النهي عن الخروج من بلد ظهرت فيه المعاصي لأن كل واحد منهما فرار من قضاء الله تعالى وذلك محال بل العلة في النهي عن مفارقة البلد بعد ظهور الطاعون أنه لو فتح هذا الباب لارتحل عنه الأصحاء وبقي فيه المرضى مهملين لا متعهد لهم فيهلكون هزالاً وضراً ولذلك شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأخبار بالفرار من الزحف (3) ولو كان ذلك للفرار من القضاء لما أذن لمن قارب البلدة في الانصراف وقد ذكرنا حكم ذلك في كتاب التوكل وإذا عرف المعنى ظهر أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ليس فراراً من القضاء بل من القضاء الفرار مما لا بد من الفرار منه
وكذلك مذمة المواضع التي تدعو إلى المعاصي والأسباب التي تدعو إليها لأجل التنفير عن المعصية ليست مذمومة
فما زال السلف الصالح يعتادون ذلك حتى اتفق جماعة على ذم بغداد وإظهارهم ذلك وطلب الفرار منها فقال ابن المبارك قد طفت الشرق والغرب فما رأيت بلداً شراً من بغداد قيل وكيف قال هو بلد تزدري فيه نعمة الله وتستصغر فيه معصية الله
ولما قدم خراسان قيل له كيف رأيت بغداد قال ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان أو تاجراً لهفان أو قارئاً حيران ولا ينبغي أن تظن أن ذلك
_________
(1) حديث القدر سر الله فلا تفشوه أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر وابن عدى في الكامل من حديث عائشة وكلاهما ضعيف
(2) حديث النهي عن الخروج من بلد الطاعون تقدم في آداب السفر
(3) حديث إنه شبه الخروج من بلد الطاعون بالفرار من الزحف تقدم فيه(4/354)
من الغيبة لأنه لم يتعرض لشخص بعينه حتى يستضر ذلك الشخص به وإنما قصد بذلك تحذير الناس وكان يخرج إلى مكة وقد كان مقامه ببغداد يرقب استعداد القافلة ستة عشر يوماً فكان يتصدق بستة عشر دينار لكل يوم دينار كفارة لمقامه
وقد ذم العراق جماعة كعمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار
وقال ابن عمر رضي الله عنهما لمولى له أين تسكن فقال العراق قال فما تصنع به بلغني أن ما من أحد يسكن العراق إلا قيض الله قريناً من البلاء
وذكر كعب الأحبار يوماً العراق فقال فيه تسعة أعشار الشر وفيه الداء العضال
وقد قيل قسم الخير عشرة أجزاء فتسعة أعشاره بالشام وعشره بالعراق وقسم الشر عشرة أجزاء على العكس من ذلك
وقال بعض أصحاب الحديث كنا يوماً عند الفضيل بن عياض فجاءه صوفي متدرع بعباءة فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه ثم قال أين تسكن فقال بغداد فأعرض عنه وقال يأتينا أحدهم في زي الرهبان فإذا سألناه أين تسكن قال في عش الظلمة وكان بشر بن الحارث يقول مثال المتعبد ببغداد مثال المتعبد في الحش
وكان يقول لا تقتدوا بي في المقام بها من أراد أن يخرج فليخرج
وكان أحمد بن حنبل يقول لولا تعلق هؤلاء الصبيان بنا كان الخروج من هذا البلد آثر في نفسي قيل وأين تختار السكنى قال بالثغور
وقال بعضهم وقد سئل عن أهل بغداد زاهدهم زاهد وشريرهم شرير
فهذا يدل على أن من بلي ببلدة تكثر فيها المعاصي ويقل فيها الخير فلا عذر له في المقام بها بل ينبغي أن يهاجر قال الله تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإن منعه عن ذلك عيال أو علاقة فلا ينبغي أن يكون راضياً بحاله مطمئن النفس إليه بل ينبغي أن يكون منزعج القلب منها قائلاً على الدوام ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وذلك لأن الظلم إذا عم نزل البلاء ودمر الجميع وشمل المطيعين قال الله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فإذن ليس في شيء من أسباب نقص الدين البتة رضاً مطلق إلا من حيث إضافتها إلى فعل الله تعالى فأما هي في نفسها فلا وجه للرضا بها بحال
وقد اختلف العلماء في الأفضل من أهل المقامات الثلاث رجل يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورجل يحب البقاء لخدمة المولى ورجل قال لا أختار شيئاً بل أرضى بما اختاره الله تعالى ورفعت هذه المسألة إلى بعض العارفين فقال صاحب الرضا أفضلهم لأنه أقلهم فضولاً
واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم واليوم وددت أني مت فقال له يوسف لم قال لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف لكني لا أكره طول البقاء فقال سفيان لم قال لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً فقيل لوهيب إيش تقول أنت فقال أنا لا أختار شيئاً أحب ذلك إلي أحبه إلى الله سبحانه وتعالى فقبله الثوري بين عينيه وقال روحانية ورب الكعبة
بيان جملة من حكايات المحبين وأقوالهم ومكاشفاتهم
قيل لبعض العارفين إنك محب فقال لست محباً إنما أنا محبوب والمحب متعوب
وقيل له أيضاً الناس يقولون إنك واحد من السبعة فقال أنا كل السبعة وكان يقول إذا رأيتموني فقد رأيتم أربعين بدلاً قيل وكيف وأنت شخص واحد قال لأني رأيت أربعين بدلاً وأخذت من كل بدل خلقاً من أخلاقه
وقيل له بلغنا أنك ترى الخضر عليه السلام فتبسم وقال ليس العجب ممن يرى الخضر ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحتجب عنه وحكي عن الخضر عليه السلام أنه قال ما حدثت نفسي يوماً قط أنه لم يبق ولي لله تعالى إلا عرفته(4/355)
إلا ورأيت في ذلك اليوم ولياً لم أعرفه
وقيل لأبي يزيد البسطامي مرة حدثنا عن مشاهدتك من الله تعالى فصاح ثم قال ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك قيل فحدثنا بأشد مجاهدتك لنفسك في الله تعالى فقال وهذا أيضاً لا يجوز أن أطلعكم عليه
قيل فحدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك فقال نعم دعوت نفسي إلى الله فجمحت علي فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك
ويحكى عن يحيى بن معاذ أنه رأى أبا يزيد في بعض مشاهداته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر مستوفزاً على صدور قدميه رافعاً أخمصيه مع عقبيه عن الأرض ضارباً بذقنه على صدره شاخصاً بعينيه لايطرف قال ثم سجد عند السحر فأطاله ثم قعد فقال اللهم إن قوماً طلبوك فأعطيتهم الشىء على الماء والمشي في الهواء فرضوا بذلك وإني أعوذ بك من ذلك وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم طى الأرض فرضوا بذل وإني أعوذ بك من ذلك وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض فرضوا بذلك وإني أعوذ بك من ذلك حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من كرامات الأولياء ثم التفت فرآني فقال يحيى قلت نعم يا سيدي فقال منذ متى أنت ههنا قلت منذ حين فسكت فقلت يا سيدي حدثني بشيء فقال أحدثك بما يصلح لك أدخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلى وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوف بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش أوقفني بين يديه فقال سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك فقلت يا سيدي ما رأيت شيئاً استحسنته فأسألك إياه فقالأنت عبدي حقاً تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ولأفعلن فذكر أشياء
قال يحيى فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت ياسيدى لم لا سألته المعرفة به وقد قال لك ملك الملوك سلني ما شئت قال فصاح بي صيحة وقال اسكت ويلك عرت عليه مني حتى لا أحب أن يعرفه سواه
وحكي أن أبا تراب التخشبي كان معجباً ببعض المريدين فكان يدنيه ويقوم بمصالحه والمريد مشغول بعبادته ومواجدته فقال له أبو تراب يوماً لو رأيت أبا يزيد فقال إني عنه مشغول فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله لو رأيت أبا يزيد هاج وجد المريد فقال ويحك ما أصنع بأبي يزيد قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد قال أبو تراب فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت ويلك تغتر بالله عز وجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة قال فبهت الفتى من قوله وأنكره فقال وكيف ذلك قال له ويلك أما ترى الله تعالى عندك فيظهر لك على مقدارك وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره فعرف ما قلت فقال احملني إليه فذكر قصة قال في آخرها فوقفنا على تل تنتظره ليخرج إلينا من الغيضة وكان يأوي إلى غيضة فيها سباع قال فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره فقلت للفتى هذا أبو يزيد فانظر إليه فنظر إليه الفتى فصعق فحركناه فإذا هو ميت فتعاونا على دفنه فقلت لأبي يزيد يا سيدي نظره إليك قتله قال لا ولكن كان صاحبكم صادقاً واستكن في قلبه سر لم ينكشف له بوصفه فلما رآنا انكشف له سر قلبه فضاق عن حمله لأنه في مقام الضعفاء المريدين فقتله ذلك
ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا لو سألت الله تعالى دفعهم فسكت ثم قال إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة ولكن لا يفعلون قيل لم قال لأنهم لا يحبون ما لا يحب ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا يستطاع ذكرها حتى قال ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها
وهذه أمور ممكنة في أنفسها فمن لم يحظ بشيء منها فلا ينبغي أن يخلو عن التصديق والإيمان بإمكانها فإن القدرة واسعة والفضل عميم وعجائب الملك والملكوت(4/356)
كثيرة ومقدورات الله تعالى لا نهاية لها وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له
ولذلك كان أبو يزيد يقول إن أعطاك مناجاة موسى وروحانية عيسى وخلة إبراهيم فاطلب ما وراء ذلك فإن عنده فوق ذلك أضعافا مضاعفة فإن سكنت إلى ذلك حجبك به وهذا بلاء مثلهم ومن هو في مثل حالهم لأنهم الأمثل فالأمثل
وقد قال بعض العارفين كوشفت بأربعين حوراء رأيتهن يتساعين في الهواء عليهن ثياب من ذهب وفضة وجوهر يتخشخش ويتثنى معهن فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء فوقهن في الحسن والجمال وقيل لي انظر إليهن قال فسجدت وغمضت عيني في سجودي لئلا أنظر إليهن وقلت أعوذ بك مما سواك لا حاجة لي بهذا فلم أزل أتضرع حتى صرفهن الله عني
فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي أن ينكرها المؤمن لإفلاسه عن مثلها فلو لم يؤمن كل واحد إلا بما يشاهده من نفسه المظلمة وقلبه القاسي لضاق مجال الإيمان عليه بل هذه أحوال تظهر بعد مجاوزة عقبات ونيل مقامات كثيرة أدناها الإخلاص وإخراج حظوظ النفس وملاحظة الخلق عن جميع الأعمال ظاهراً وباطناً ثم مكاتمة ذلك عن الخلق بستر الحال حتى يبقى متحصناً بحصن الخمول فهذه أوائل سلوكهم وأقل مقاماتهم وهي أعز موجود في الأتقياء من الناس
وبعد تصفية القلب عن كورة الالتفات إلى الخلق يفيض عليه نور اليقين وينكشف له مبادي الحق وإنكار ذلك دون التجربة وسلوك الطريق يجري مجرى إنكار من أنكر إمكان انكشاف الصورة في الحديدة إذا شكلت ونقيت وصقلت وصورت بصورة المرأة فنظر المنكر إلى ما في يده من زبرة حديد مظلم قد استولى عليه الصدأ والخبث وهو لا يحكي صورة من الصور فأنكر إمكان انكشاف المرئي فيها عند ظهور جوهرها وإنكار ذلك غاية الجهل والضلال
فهذا حكم كل من أنكر كرامات الأولياء إذ لا مستند له إلا قصوره عن ذلك وقصور من رآه وبئس المستند ذلك في إنكار قدرة الله تعالى بل إنما يشم روائح المكاشفة من سلك شيئاً ولو من مبادي الطريق كما قيل لبشر بأي شيء بلغت هذه المنزلة قال كنت أكاتم الله تعالى حالي
معناه أسأله أن يكتم على ويخفي أمري
وروي أنه رأى الخضر عليه السلام فقال له ادع الله تعالى لي فقال يسر الله عليك طاعته قلت زدني قال وسترها عليك
فقيل معناه سترها عن الخلق وقيل معناه سترها عنك حتى لا تلتفت أنت إليها
وعن بعضهم أنه قال أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي قال فرأيته فما غلب علي همي ولا همتي إلا أن قلت له يا أبا العباس علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة فلم يكن لي فيها قدر ولا يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة فقال قل اللهم أسبل علي كثيف سترك وحط علي سرادقات حجبك واجعلني في مكنون غيبك واحجبني عن قلوب خلقك قال ثم غاب فلم أره ولم أشتق إليه بعد ذلك فما زلت أقول هذه الكلمات في كل يوم فحكي أنه صار بحيث كان يستذل ويمتهن حتى كان أهل الذمة يسخرون منه ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم وكان الصبيان يلعبون به فكانت راحته ركود قلبه واستقامة حاله في ذله وخموله
فهكذا حال أولياء الله تعالى ففي أمثال هؤلاء ينبغي أن يطلبوا والمغرورون إنما يطلبونهم تحت المرقعات والطيالسة وفي المشهورين بين الخلق بالعلم والورع والرياسة وغيرة الله تعالى على أوليائه تأبى إلا إخفاءهم كما قال تعالى أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّ أَشَعْثَ أَغْبَرَ ذى طمرين لايؤبه له لو أقسم على الله لأبره (1)
_________
(1) حديث رب أشعث أغبر ذي طمرين أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وقد تقدم(4/357)
وبالجملة فأبعد القلوب عن مشام هذه المعاني القلوب المتكبرة المعجبة بأنفسها المستبشرة بعملها وعلمها وأقرب القلوب إليها القلوب المنكسرة المستشعرة ذل نفسها استشعاراً إذا ذل واهتضم لم يحس بالذل كما لا يحس العبد بالذل مهما ترفع عليه مولاه فإذا لم يحس بالذل ولم يشعر أيضاً بعدم التفاته إلى الذل بل كان عند نفسه أخس منزلة من أن يرى جميع أنواع الذل ذلاً في حقه بل يرى نفسه دون ذلك حتى صار التواضع بالطبع صفة ذاته فمثل هذا القلب يرجى له أن يستنشق مبادئ هذه الروائح فإن فقدنا مثل هذا القلب وحرمنا مثل هذا الروح فلا ينبغي أن يطرح الإيمان بإمكان ذلك لأهله فمن لا يقدر أن يكون من أولياء الله فليكن محباً لأولياء الله مؤمناً بهم فعسى أن يحشر مع من أحب
ويشهد لهذا ما روي أن عيسى عليه السلام قال لبني إسرائيل أين ينبت الزرع قالوا في التراب فقال بحق أقول لكم لا تنبت الحكمة إلا في قلب مثل التراب
ولقد انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها بإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة حتى روي أن ابن الكريبي وهو أستاذ الجنيد دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات ثم كان يرده ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله في المرة الرابعة فسأله عن ذلك فقال قد رضت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت
وعنه ايضا أنه قال نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فتشتت علي قلبي فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت وجعلت أمشي قليلاً قليلاً فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي
فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى وشغله بنفسه حجاب له فليس بين القلب وبين الله حجاب بعد وتخلل حائل وإنما بعد القلوب شغلها بغيره أو بنفسه وأعظم الحجب شغل النفس
ولذلك حكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد فقال له يوماً أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لاأفطر وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً وأنا أصدق به وأحبه فقال أبو يزيد ولو صمت ثلثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة قال ولم قال لأنك محجوب بنفسك قال فلهذا دواء قال نعم قال قل لي حتى أعمله قال لا تقبله قال فاذكره لي حتى أعمل قال اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً واجمع الصبيان حولك وقل كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك فقال الرجل سبحان الله تقول لي مثل هذا فقال أبو يزيد قولك سبحان الله شرك قال وكيف قال لأنك عظمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك فقال هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره فقال ابتدئ بهذا قبل كل شيء فقال لا أطيقه قال قد قلت لك إنك لا تقبل فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه ومرض بنظر الناس إليه ولا ينجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله فمن لا يطيق الدواء فلا ينبغي أن ينكر إمكان الشفاء في حق من داوى نفسه بعد المرض أو لم يمرض بمثل هذا المرض أصلاً
فأقل درجات الصحة الإيمان بإمكانها فويل لمن حرم هذا القدر القليل أيضاً
وهذه أمور جلية في الشرع واضحة وهي مع ذلك مستبعدة عند من يعد نفسه من علماء الشرع فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(4/358)
لا يستكمل العبد الإيمان حتى تكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن لا يعرف أحب من أن يعرف (1) وقد قال عليه السلام ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله وإذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر أمر الآخرة على الدنيا (2) وقال عليه السلام لا يكمل إيمان عبد حتى يكون فيه ثلاث خصال إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا رضاه لم يدخله رضاء في باطل وإذا قدر لم يتناول ما ليس له (3) وفي حديث آخر ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية (4) فهذه شروط ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولى الإيمان فالعجب ممن يدعي علم الدين ولا يصادف في نفسه ذرة من هذه الشروط ثم يكون نصيبه من علمه وعقله أن يجحد مالا يكون إلا بعد مجاوزة مقامات عظيمة علية وراء الإيمان وفي الأخبار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه إنما اتخذ لخلتي من لا يفتر عن ذكري ولا يكون له هم غيري ولا يؤثر علي شيئاً من خلقي وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعاً وإن قطع بالمناشير لم يجد لمس الحديد ألماً
فمن لم يبلغ إلى أن يغلبه الحب إلى هذا الحد فمن أين يعرف ما وراء الحب من الكرامات والمكاشفات وكل ذلك وراء الحب والحب وراء كمال الإيمان ومقامات الإيمان وتفاوته في الزيادة والنقصان لا حصر له
ولذلك قال عليه السلام للصديق رضي الله تعالى عنه إن الله تعالى قد أعطاك مثل إيمان كل من آمن بي من أمتي وأعطاني مثل إيمان كل من آمن به من ولد آدم (5) وفي حديث آخر إن لله تعالى ثلثمائة خلق من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة فقال أبو بكر يا رسول الله هل فيّ منها خلق فقال كلها فيك يا أبا بكر وحبها إلى الله تعالى السخاء (6) وقال عليه السلام رأيت ميزاناً دلي من السماء فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجحت بهم ووضع أبو بكر في كفة وجيء بأمتي فوضعت في كفة فرجح بهم (7) ومع هذا كله فقد كان استغراق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى بحيث لم يتسع قلبه للخلة مع غيره فقال لو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله تعالى (8) يعني نفسه
_________
(1) حديث لا يستكمل عبد الإيمان حتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف ذكره صاحب الفردوس من حديث على بن أبى طلحة وعلى هذا فهو معضل فعلى بن أبى طلحة إنما سمع من التابعين ولم أجد له أصلا
(2) حديث ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم الحديث أخرجه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أبى هريرة وفيه سالم المرادى ضعفه ابن معين والنسائى ووثقه ابن حبان واسم أبيه عبد الواحد
(3) حديث لا يكمل إيمان العبد حتى يكون فيه ثلاث خصال إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق الحديث أخرجه الطبرانى في الصغير بلفظ ثلاث من أخلاق الإيمان وإسناده ضعيف
(4) حديث ثلاث من أوتيهن فقد أوتى ما أوتي آل داود العدل في الرضا والغضب غريب بهذا اللفظ والمعروف ثلاث منجيات فذكرهن بنحوه وقد تقدم
(5) حديث إنه قال للصديق إن الله قد أعطاك مثل إيمان كل من آمن بي من أمتى الحديث أخرجه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من رواية الحارث الأعور عن على مع تقديم وتأخير والحارث ضعيف
(6) حديث إن لله تعالى ثلثمائة خلق من لقيه مخلق منها مع التوحيد دخل الجنة الحديث أخرجه الطبرانى في الأوسط من حديث أنس مرفوعا عن الله خلقت بضعة عشر وثلثمائة خلق من جاء بخلق منها مع شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة ومن حديث ابن عباس الإسلام ثلثمائة شريعة وثلاثة عشر شريعة وفيه وفي الكبير من رواية المغيرة بن عبد الرحمن بن عبيد عن أبيه عن جده نحوه بلفظ الإيمان وللبزار من حديث عثمان بن عفان إن الله تعالى مائة وسبعة عشر شريعة الحديث وليس فيها كلها تعرض لسؤال أبى بكر وجوابه وكلها ضعيفة
(7) حديث رأيت ميزاناً دلي من السماء فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجحت بهم الحديث أخرجه أحمد من حديث أبى أمامة بسند ضعيف
(8) حديث لو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا الحديث متفق عليه وقد تقدم(4/359)
خاتمة الكتاب بكلمات متفرقة تتعلق بالمحبة ينتفع بها
قال سفيان المحبة إتباع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غيره دوام الذكر وقال غيره إيثار المحبوب وقال بعضهم كراهية البقاء في الدنيا
وهذا كله إشارة إلى ثمرات المحبة فأما نفس المحبة فلم يتعرضوا لها
وقال بعضهم المحبة معنى من المحبوب قاهر للقلوب عن إدراكه وتمتنع الألسن عن عبارته
وقال الجنيد حرم الله تعالى المحبة على صاحب العلاقة
وقال كل محبة تكون بعوض فإذا زال العوض زالت المحبة
وقال ذو النون قل لمن أظهر حب الله احذر أن تذل لغير الله
وقيل للشبلي رحمه الله صف لنا العارف والمحب فقال العارف إن تكلم هلك والمحب إن سكت هلك وقال الشبلي رحمه الله
يا أيها السيد الكريم ... حبك بين الحشا مقيم
يا رافع النوم عن جفوني ... أنت بما مر بي عليم
عجبت لمن يقول ذكرت إلفي ... وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقاً ... فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشرب وما رويت
فليت خياله نصب لعيني ... فإن قصرت في نظري عميت
وقالت رابعة العدوية يوماً من يدلنا على حبيبنا فقالت خادمة لها حبيبنا معنا ولكن الدنيا قطعتنا عنه
وقال ابن الجلاء رحمه الله تعالى أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني إذا اطلعت على سر عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي وتوليته بحفظي وقيل تكلم سمنون يوماً في المحبة فإذا بطائر نزل بين يديه فلم يزل ينقر بمنقاره الأرض حتى سال الدم منه فمات
وقال إبراهيم بن أدهم إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني بذكرك وفرغتني للتفكر في عظمتك وقال السري رحمه الله من أحب الله عاش ومن مال إلى الدنيا طاش والأحمق يغدو ويروح في لاش والعاقل عن عيوبه فتاش
وقيل لرابعة كيف حبك للرسول صلى الله عليه وسلم فقالت والله إني لأحبه حباً شديداً ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين
وسئل عليه السلام عن أفضل الأعمال فقال الرضا عن الله تعالى والحب له
وقال أبو يزيد المحب لايحب الدنيا ولا الآخرة إنما يحب من مولاه مولاه
وقال الشبلي الحب دهش في لذة وحيرة في تعظيم
وقيل المحبة أن تمحو أثرك عنك حتى لا يبقى فيك شيء راجع منك إليك وقيل المحبة قرب القلب من المحبوب بالاستبشار والفرح
وقال الحواص المحبة محو الإرادات واحتراق الصفات والحاجات وسئل سهل عن المحبة فقال عطف الله بقلب عبده لمشاهدته بعد الفهم للمراد منه
وقيل معاملة المحب على أربع منازل على المحبة والهيبة والحياء والتعظيم وأفضلها التعظيم والمحبة لأنهاتين المنزلتين تبقيان مع أهل الجنة في الجنة ويرفع عنهم غيرهما وقال هرم بن حبان المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل عليه وإذا وجد حلاوة الإقبال عليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة وقال عبد الله بن محمد سمعت امرأة من المتعبدات تقول وهي باكية والدموع على خدها جارية والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى وحباً للقائه قال(4/360)
فقلت لها فعلى ثقة أنت من عملك قالت لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به أفتراه يعذبني وأنا أحبه وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي يا داود هذه إرادتي في المدبرين علي فكيف إرادتي في المقبلين علي يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني وأجل ما يكون عبدي إذا رجع إلي وقال أبو خالد الصفار لقي نبي من الأنبياء عابداً فقال له إنكم معاشر العباد تعملون على أمر لسنا معشر الأنبياء نعمل عليه أنتم تعملون على الخوف والرجاء ونحن نعمل على المحبة والشوق
وقال الشبلي رحمه الله أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود ذكري للذاكرين وجنتي للمطيعين وزيارتي للمشتاقين وأنا خاصة للمحبين وأوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام يا آدم من أحب حبيباً صدق قوله من أنس بحبيبه رضي فعله ومن اشتاق إليه جد في مسيره
وكان الخواص رحمه الله يضرب على صدره ويقول واشوقاه لمن يراني ولا أراه
وقال الجنيد رحمه الله بكى يونس عليه السلام حتى عمي وقام حتى انحنى وصلى حتى أقعد وقال وعزتك وجلالك لو كان بيني وبينك بحر من نار لخضته إليك شوقاً مني إليك
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته فقال المعرفة رأس مالي والعقل أصل ديني والحب أساسي والشوق مركبي وذكر الله أنيسي والثقة كنزي والحزن رفيقي والعلم سلاحي والصبر ردائي والرضا غنيمتي والعجز فخري والزهد حرفتي واليقين قوتي والصدق شفيعي والطاعة حبي والجهاد خلقي وقرة عيني في الصلاة (1) وقال ذو النون سبحان من جعل الأرواح جنود مجندة فأرواح العارفين جلالية قدسية فلذلك اشتاقوا إلى الله تعالى وأرواح المؤمنين روحانية فلذلك حنوا إلى الجنة
وأرواح الغافلين هوائية فلذلك مالوا إلى الدنيا وقال بعض المشايخ رأيت في جبل اللكام رجلاً أسمر اللون ضعيف البدن وهو يقفز من حجر إلى حجر ويقول
الشوق والهوى ... صيراني كما ترى
ويقال الشوق نار الله أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات فهذا القدر كاف في شرح المحبة والأنس والشوق والرضا فلنقتصر عليه والله الموفق للصواب
تم كتاب المحبة والشوق والأنس يتلوه كتاب النية والإخلاص والصدق
كتاب النية والإخلاص والصدق وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله حمد الشاكرين ونؤمن به إيمان الموقنين ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين ونشهد أن لا إله
_________
(1) حديث على سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته فقال المعرفة رأس مالي والعقل أصل ديني الحديث ذكره القاضى عياض من حديث علي بن أبي طالب ولم أجد له إسنادا(4/361)
إلا الله رب العالمين وخالق السموات والأرضين ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين أن يعبدوه عبادة المخلصين فقال تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدين} فما لله إلا الدين الخالص المتين فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وعلى جميع النبيين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين
أما بعد فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
فالعمل بغير نية عناء والنية بغير إخلاص رياء وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواء والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولاً لتحصل المعرفة ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتنا العبد إلى النجاة والخلاص
ونحن نذكر معاني الصدق والإخلاص في ثلاثة أبواب
الباب الأول في حقيقة النية ومعناها
الباب الثاني في الإخلاص وحقائقه
والباب الثالث في الصدق وحقيقته الباب الأول في حقيقة النية ومعناها
وفيه
بيان فضيلة النية
وبيان حقيقة النية وبيان كون النية خيراً من العمل وبيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنفس وبيان خروج النية عن الاختيار بيان فَضِيلَةُ النِّيَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) وقال صلى الله عليه وسلم أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته (2) وَقَالَ تَعَالَى {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بينهما} فجعل النية سبب التوفيق
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (3) وإنما نظر إلى القلوب لأنها مظنة النية وقال صلى الله عليه وسلم إن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول ألقوا هذه الصحيفة
_________
(1) حديث إنما الأعمال بالنيات الحديث متفق عليه من حديث عمر وقد تقدم
(2) حديث أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود وفيه عبد الله بن لهيعة
(3) حديث إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم الحديث أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وقد تقدم(4/362)
فإنه لم يرد بما فيها وجهي ثم ينادي الملائكة اكتبوا له كذا وكذا اكتبوا له كذا وكذا فيقولون يا ربنا إنه لم يعمل شيئاً من ذلك فيقول الله تعالى إنه نواه (1) وقال صلى الله عليه وسلم الناس أربعة رجل أتاه الله عز وجل علماً ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله فيقول رجل لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه لعملت كما يعمل فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله تعالى مالاً ولم يؤته علماً فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل فهما في الوزر سواء (2) ألا ترى كيف شركه بالنية في محاسن عمله ومساويه
وكذلك في حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْنَا وَادِيًا وَلَا وَطِئْنَا مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا أَنْفَقْنَا نَفَقَةً وَلَا أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ إِلَّا شَرِكُونَا فِي ذَلِكَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالُوا وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَيْسُوا مَعَنَا قَالَ حَبَسَهُمُ العذر فشركوا بحسن النية (3) وفي حديث ابن مسعود من هاجر يبتغي شيئاً فهو له فهاجر رجل فتزوج امرأة منا فكان يسمى مهاجر أم قيس (4) وكذلك جاء في الخبر إن رجلاً قتل في سبيل الله وكان يدعى قتيل الحمار (5) لأنه قاتل رجلاً ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته
وفي حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى (6) وقال أبي استعنت رجلاً يغزو معي فقال لا حتى تجعل لي جعلاً فجعلت له فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس له من دنياه وآخرته إلا ما جعلت له (7) وروي في الإسرائيليات أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أن قل له إن الله تعالى قبل صدقتك وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب مالو كان طعاماً فتصدقت به وقد ورد في أخبار كثيرة من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة (8) وفي حديث عبد الله بن عمرو من كانت الدنيا نيته جعل الله فقره بين عينيه وفارقها أرغب ما يكون فيها ومن تكن الآخرة نيته جعل الله تعالى غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وفارقها أزهد ما يكون فيها (9) وفي حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جيشاً يخسف بهم البيداء فقلت يا رسول الله يكون فيهم المكره والأجير فقال يحشرون على نياتهم (10) وقال عمر رضي الله
_________
(1) حديث إن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد بها الملائكة الحديث أخرجه الدارقطنى من حديث أنس بإسناد حسن
(2) حديث الناس أربعة رجل أتاه الله علماً ومالا الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبى كبشة الأنمارى بسند جيد بلفظ مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر الحديث وقد تقدم ورواه الترمذى بزيادة وفيه وإنما الدنيا لأربعة نفر الحديث وقال حسن صحيح
(3) حديث أنس إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا واديا الحديث أخرجه البخارى مختصرا وأبو داود
(4) حديث ابن مسعود من هاجر يبتغي شيئاً فهو له هاجر رجل فتزوج امرأة منا وكان يسمى مهاجر أم قيس أخرجه الطبرانى بإسناد جيد
(5) حديث إن رجلاً قتل في سبيل الله فكان يدعى قتيل الحمار لم أجد له أصلا في الموصولات وإنما رواه أبو إسحق الفراوى في السنن من وجه مرسل
(6) حديث من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى أخرجه النسائي من حديث عبادة بن الصامت وتقدم غير مرة
(7) حديث أبى استعنترجلا يغزو معي فقال لا حتى تجعل لي جعلاً فجعلت له فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس له من دنياه وآخرته إلا ما جعلت له أخرجه الطبرانى في مسند الشاميين ولأبى داود من حديث يعلى بن أمية أنه استأجر أجيرا للغزو وسمى له ثلاثة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة ألا دنانيره التى سمى
(8) حديث من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة متفق عليه وقد تقدم
(9) حديث عبد الله بن عمرو من كانت الدنيا نيته جعل الله فقره بين عينيه الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت بإسناد جيد دون قوله وفارقها أرغب ما يكون فيها ودون قوله وفارقها أزهد ما يكون فيها وفيه زيادة ولم أجده من حديث عبد الله بن عمرو
(10) حديث أم سلمة في الجيش الذى يخسف بهم يحشرون على نياتهم أخرجه مسلم وأبو داود وقد تقدم(4/363)
عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إنما يقتتل المقتتلون على النيات أخرجه ابن أبى الدنيا في كتاب الإخلاص والنية من حديث عمر بإسناد ضعيف بلفظ إنما يبعث ورويناه في فوائد تمام بلفظ إنما يبعث المسلمون على النيات ولابن ماجه من حديث أبى هريرة إنما يبعث الناس على نياتهم وفيه ليث بن أبى سليم مختلف فيه وقال عليه السلام إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا فلان يقاتل حمية فلان يقاتل عصيبة ألا فلا تقولوا فلان قتل في سبيل الله فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1) هي العليا فهو في سبيل الله وعن جابر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ (2) وفي حديث الأحنف عن أبي بكرة إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال لأنه أراد قتل صاحبه (3) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ فَهُوَ زَانٍ وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ لَا يَنْوِي قضاءه فهو سارق (4) وقال صلى الله عليه وسلم من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة (5)
وأما الآثار فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عما حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله تعالى وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره
وقال بعض السلف رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية
وقال داود الطائي البر همته التقوى فلو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة وكذلك الجاهل بعكس ذلك
وقال الثوري كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل
وقال بعض العلماء اطلب النية للعمل قبل العمل وما دمت تنوي الخير فأنت بخير
وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله فقيل له قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت فإذا فترت أو تركته فهم بعمله فإن الهام بعمل الخير كعامله
وكذلك قال بعض السلف وإن نعمة الله عليكم أكثر من أن تحصوها وإن ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين يغفر لكم ما بين ذلك
وقال عيسى عليه السلام طوبى لعين نامت ولا تهم بمعصية وانتبهت إلى غير إثم
وقال أبو هريرة يبعثون يوم القيامة على قدر نياتهم وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} يبكي ويرددها ويقول إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا
وقال الحسن إنما خلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنيات وقال أبو هريرة مكتوب في التوراة ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غيري فكثيره قليل
وقال بلال بن سعد إن العبد ليقول قول مؤمن فلا يدعه الله عز وجل وقوله حتى ينظر في عمله فإذا عمل لم يدعه الله حتى ينظر في ورعه فإن تورع لم يدعه حتى ينظر ماذا نوى فإن صلحت نيته فبالحري أن يصلح ما دون ذلك
_________
(1) حديث إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد موقوفا على ابن مسعود وآخر الحديث مرفوع ففي الصحيحين من حديث أبى موسى من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
(2) حديث جابر يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رواه مسلم
(3) حديث الأحنف عن أبي بكرة إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار متفق عليه
(4) حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ فَهُوَ زَانٍ أخرجه أحمد من حديث صهيب ورواه ابن ماجه مقتصرا على قصة الدين دون ذكر الصداق
(5) حديث من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك الحديث أخرجه أبو الوليد الصفار في كتاب الصلاة من حديث اسحق بن أبى طلحة مرسلا(4/364)
فإذن عماد الأعمال بالنيات فالعمل مفتقر إلى النية ليصير بها خيراً والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل بعائق
بيان حقيقة النية
اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات على متوارده معنى واحد وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران علم وعمل {العلم} يقدمه لأنه أصله وشرطه {والعمل} يتبعه لأنه ثمرته وفرعه وذلك لأن كل عمل أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور علم وإرادة وقدرة لأنه لا يريد الإنسان مالا يعلمه فلابد وأن يعلم ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من إرادة
ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال أو في المآل فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه ويخالفه بعض الأمور فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضار المنافي عن نفسه فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب من هذا فإن من لا يبصر الغذاء ولا يعرفه لا يمكنه أن بتناول ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منها فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسباباً وهي الحواس الظاهرة والباطنة وليس ذلك من غرضنا ثم لو أبصر الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك للتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة له باعثة عليه إذا المريض يرى الغذاء ويعلم أنه موافق ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل ولفقد الداعية المحركة إليه فخلق الله تعالى له الميل والرغبة والإرادة وأعني به نزوعاً في نفسه إليه وتوجهاً في قلبه إليه ثم ذلك لايكفيه فكم من مشاهد طعاماً راغب فيه مريد تناوله عاجز عنه لكونه زمناً فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول والعضو لا يتحرك إلا بالقدرة والقدرة تنتظر الداعية الباعثة والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن والاعتقاد وهو أن يقوى في نفسه كون الشيء موافقاً له فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل وسمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة وتحقق الميل فإذا انبعثت الإرادة انتهضت القدرة لتحريك الأعضاء لأن القدرة خادمة للإردة والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة
فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض إما في الحال وإما في المآل
فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث والغرض الباعث هو المقصد المنوي والانبعاث هو القصد والنية وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل إلا أن انتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد وقد يكون بباعثين اجتمعا في فعل واحد وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو انفرد لكان ملياً بإنهاض القدرة وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له ومعاوناً
فيخرج من هذا القسم أربعة أقسام فلنذكر لكل واحد مثالاً واسماً
أما الأول فهو أن ينفرد الباعث الواحد يتجرد كما إذا هجم على الإنسان سبع فكلما رآه قام من موضعه فلا مزعج له إلا غرض الهرب من السبع فإنه رأى السبع وعرفه ضاراً فانبعثت نفسه إلى الهرب ورغبت فيه فانتهضت القدرة عاملة بمقتضى الانبعاث فيقال نيته للفرار من السبع لا نية له في القيام لغيره وهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً بالإضافة إلى الغرض الباعث ومعناه أنه خلص عن مشاركة غيره وممازجته
وأما الثاني فهو أن يجتمع باعثان كل واحد مستقل بالإنهاض لو انفرد
ومثاله من المحسوس أن يتعاون رجلان على حمل شيء بمقدار من القوة كان كافياً في الحمل لو انفرد ومثاله في غرضنا أن يسأله قريبه الفقير حاجة(4/365)
فيقضيها لفقره وقرابته وعلم أنه لولا فقره لكان يقضيها بمجرد القرابة وأنه لولا قرابته لكان يقضيها بمجرد القرابة وأنه لولا قرابته لكان يقضيها بمجرد الفقر وعلم ذلك من نفسه بأنه يحضره قريب غني فيرغب في قضاء حاجته وفقير أجنبي فيرغب أيضاً فيه
وكذلك من أمره الطبيب بترك الطعام ودخل عليه يوم عرفة فصام وهو يعلم أنه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطعام حمية ولولا الحمية لكان يتركه لأجل أنه يوم عرفة وقد اجتمعا جميعاً فأقدم على الفعل وكان الباعث الثاني رفيق الأول
فلنسم هذا مرافقة للبواعث والثالث أن لا يستقل كل واحد لو انفرد ولكل قوى مجموعهما على إنهاض القدرة
ومثاله في المحسوس أن يتعاون ضعيفان على حمل مالا ينفرد أحدهما به
ومثاله في غرضنا أن يقصده قريبه الغني فيطلب درهماً فلا يعطيه ويقصده الأجنبي الفقير فيطلب درهماً فلا يعطيه ثم يقصده القريب الفقير فيعطيه فيكون انبعاث داعيته المجموع الباعثين وهو القرابة والفقر
وكذلك الرجل يتصدق بين يدي الناس لغرض الثواب ولغرض الثناء ويكون بحيث لو كان منفرداً لكان لا يبعثه مجرد قصد الثواب على العطاء ولو كان الطالب فاسقاً لا ثواب في التصدق عليه لكان لا يبعثه مجرد الرياء على العطاء ولو اجتمعا أورثا بمجموعهما تحريك القلب
ولنسم هذا الجنس مشاركة والرابع أن يكون أحد الباعثين مستقلاً لو انفرد بنفسه والثاني لا يستقل
ولكن لما انضاف إليه لم ينفك عن تأثير بالإعانة والتسهيل
ومثاله في المحسوس أن يعاون الضعيف الرجل القوي على الحمل ولو انفرد القوي لاستقل ولو انفرد الضعيف لم يستقل فإن ذلك بالجملة يسهل العمل ويؤثر في تخفيفه
ومثاله في غرضنا أن يكون للإنسان ورد في الصلاة وعادة في الصدقات فاتفق أن حضر في وقتها جماعة من الناس فصار الفعل أخف علة بسبب مشاهدتهم وعلم من نفسه أنه لو كان منفرداً خالياً لم يفتر عن عمله وعلم أن عمله لو لم يكن طاعة لم يكن مجرد الرياء يحمله عليه فهو شوب تطرق إلى النية
ولنسم هذا الجنس المعاونة
فالباعث الثانى إما أن يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً
وسنذكر حكمها في باب الإخلاص
والغرض الآن بيان أقسام النيات فإن العمل تابع للباعث عليه فيكتسب الحكم منه
ولذلك قيل إنما الأعمال بالنيات لأنها تابعة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم للمتبوع
بيان سر قوله صلى الله عليه وسلم نية المؤمن خير من عمله (1)
اعلم أنه قد يظن أن سبب هذا الترجيح أن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى والعمل ظاهر ولعمل السر فضل
وهذا صحيح ولكن ليس هو المراد لأنه لو نوى أن يذكر الله بقلبه أو يتفكر في مصالح المسلمين فيقتضي عموم الحديث أن تكون نية التفكر خيراً من التفكر وقد يظن أن سبب الترجيح أن النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم وهو ضعيف لأن ذلك يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من القليل بل ليس كذلك فإن نية أعمال الصلاة قد لا تدوم إلا في لحظات معدودة والأعمال تدوم والعموم يقتضي أن تكون نيته خيراً من عمله
وقد يقال إن معناه أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية وهو كذلك ولكنه بعيد أن يكون هو المراد إذ العمل بلا نية أو على الغفلة لا خير فيه أصلاً والنية بمجردها خير وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخير بل المعنى أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل وكانت النية من جملة الخيرات وكان العمل من جملة الخيرات ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل أي لكل واحد منهما أثر في المقصود وأثر النية أكثر من أثر العمل
_________
(1) حديث نية المؤمن خير من عمله أخرجه الطبرانى من حديث سهل بن سعد ومن حديث النواس بن سمعان وكلاهما ضعيف(4/366)
فمعناه نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته والغرض أن للعبد اختياراً في النية وفى العمل فمهما عملان والنية من الجملة خيرهما فهذا معناه
وأما سبب كونها خيراً ومترجحة على العمل فلا يفهمه إلا من فهم مقصد الدين وطريقه ومبلغ أثر الطريق في الاتصال إلى المقصد وقاس بعض الآثار بالبعض حتى يظهر له بعد ذلك الأرجح بالإضافة إلى المقصود
فمن قال الخبز خير من الفاكهة فإنما يعني به أنه خير بالإضافة إلى مقصود القوت والاغتذاء ولا يفهم ذلك إلا من فهم أن للغذاء مقصداً وهو الصحة والبقاء وأن الأغذية مختلفة الآثار فيها وفهم أثر كل واحد وقاس بعضها بالبعض فالطاعات غذاء للقلوب والمقصود شفاؤها وبقاؤها وسلامتها في الآخرة وسعادتها وتنعمها بلقاء الله تعالى فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط ولن يتنعم بلقاء الله إلا من مات محباً لله تعالى عارفاً بالله ولن يحبه إلا من عرفه ولن يأنس بربه إلا من طال ذكره له
فالآنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة تحصل بدوام الفكر والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلاً إلى الخير مريداً له نافراً عن الشر مبغضاً له وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها كما يميل العاقل إلى القصد والحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما
وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وأرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة وتقوى بسببها
فالمائل إلى طلب العلم او طلب الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفاً فإن اتبع بمقتضى الميل واشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك تأكيد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر وربما زال والمحق
بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلاً فيميل إليه طبعا لا ضعفا لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل ويكون ذلك زبراً ودفعاً في وجهه حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي
وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا لا الآخرة
وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة وترك المعاصي بالجوارح لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء وارتعدت الفرائض وتغير اللون إلا أن القلب هو الأصل المتبوع فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع
فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه فالقلب هو المقصود والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد (1) وقال عليه الصلاة والسلام اللهم أصلح الراعي والرعية (2) وأراد بالراعي القلب وقال الله تعالى لن ينال لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى
_________
(1) حديث إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد متفق عليه من حديث النعمان بن بشير وقد تقدم
(2) حديث اللهم أصلح الراعي والرعية تقدم ولم أجده(4/367)
{منكم} وهي صفة القلب
فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح
ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له
وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر فبالضرورة يكون خيراً بالإضافة إلى الغرض لأنه متمكن من نفس المقصود وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة فالشرب خير من طلاء الصدر لأن طلاء الصدر أيضاً إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة فما بلاقى عين المعدة فهو خير وأنفع
فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعاً فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكد الرقة في قلبه ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيدا أصلاً لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه أو ظان أنه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة وكذلك من يسجد غافلاً وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتاكد به التواضع فكان وجود ذلك كعدمه وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلاً فيقال العبادة بغير نية باطلة وهذا معناه إذا فعل عن غفلة فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شراً فإنه لم يؤكد الصفة المطلوبة تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا فهذا وجه كون النية خير من العمل
وبهذا أيضاً يعرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة وإن عاق عن العمل عائق ف لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يناله التقوى منكم والتقوى ههنا صفة القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا كما تقدم ذكره لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات
وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التى أوردناها في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا نطول بالإعادة
بيان تفصيل الأعمال المتعلقة بالنية
اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساماً كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه فهي ثلاثة أقسام معاص وطاعات ومباحات القسم الأول المعاصي وهي لا تتغير عن موضعها بالنية فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فيظن أن المعصية تَنْقَلِبُ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ كَالَّذِي يَغْتَابُ إِنْسَانًا مُرَاعَاةً لقلب(4/368)
غَيْرِهِ أَوْ يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ أو يبني مدرسة أو مسجداً أو رباطاً بِمَالٍ حَرَامٍ وَقَصْدُهُ الْخَيْرُ فَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَالنِّيَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي إِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَمَعْصِيَةً بَلْ قَصْدُهُ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ شَرٌّ آخَرُ فَإِنْ عَرَفَهُ فَهُوَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ وَإِنْ جَهِلَهُ فَهُوَ عَاصٍ بِجَهْلِهِ إِذْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَالْخَيْرَاتُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا خَيْرَاتٍ للشرع فكيف يمكن أن يكون الشر خير هيهات بل المروج لذلك على القلب خفي الشهوة وباطن الهوى فإن القلب إذا كان مائلاً إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل وَلِذَلِكَ قَالَ سهل رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا عصي الله تعالى بِمَعْصِيَةٍ أَعْظَمَ مِنَ الْجَهْلِ قِيلَ يَا أبا محمد هَلْ تَعْرِفُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْجَهْلِ قَالَ نَعَمْ الْجَهْلُ بِالْجَهْلِ
وَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْجَهْلِ يَسُدُّ بِالْكُلِّيَّةِ بَابَ التَّعَلُّمِ فمن يظن بالكلية بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ فَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ وَكَذَلِكَ أَفْضَلُ مَا أُطِيعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعِلْمُ وَرَأْسُ الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ كَمَا أَنَّ رَأْسَ الْجَهْلِ الجهل بالجهل
فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا وذلك هو مادة الجهل ومنبع فساد العالم والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم
وقد قال الله سبحانه فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يعذر الجاهل على الجهل ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه (1)
ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق والفجور القاصرين هممهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائباً عن الدجال يتكالب على الدنيا ويتبع الهوى ويتباعد عن التقوى ويستجرى الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله ويتخذونه أيضاً آلة ووسيلة في الشر وإتباع الهوى ويتسلسل ذلك ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله وفي مطعمه وملبسه ومسكنه فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلاً وألفي سنة وَطُوبَى لِمَنْ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ ثم العجب من جهله حيث يقول إنما الأعمال بالنيات وقد قصدت بذلك نشر علم الدين فإن استعمله هو في الفساد فالمعصية منه لا مني وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير
وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفاً من قاطع طريق وأعد له خيلاً وأسباباً يستعين بها على مقصوده ويقول إنما أردت البذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات فإن هو صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي
وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى حتى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لله تعالى ثلثمائة خلق من تقرب إليه
_________
(1) حديث لا يعذر الجاهل على الجهل ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله الحديث أخرجه الطبرانى في الأوسط وابن السنى وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث جابر بسند ضعيف دون قوله لا يعذر الجاهل على الجهل وقال لا ينبغى بدل ولا يحل وقد تقدم في العلم(4/369)
بواحد منها دخل الجنة وأحبها إليه السخاء (1) فليت شعري لم حرم هذا السخاء ولم وجب عليه أن ينظر إلى قرينه الحال من هذا الظالم فإذا لاح له من عادته أنه يستعين بالسلاح على الشر فينبغي أن يسعى في سلب سلاحه لا أن يمده بغيره والعلم سلاح يقاتل به الشيطان وأعداء الله تعالى وقد يعاون به أعداء الله عز وجل وهو الهوى فمن لا يزال مؤثراً لدنياه على دينه ولهواه على آخرته وهو عاجز عنها لقلة فضله فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكن به من الوصول إلى شهواته بل لم يزل علماء السلف رحمهم الله تعالى يتفقدون أحوال من يتردد إليهم فلو رأوا منه تقصيرا في نفل من النوافل أنكروه وتركوا إكرامه وإذا رأوا منه فجوراً واستحلال حرام هجروه ونفوه عن مجالسهم وتركوا تكليمه فضلاً عن تعليمه لعلمهم بأن من تعلم مسألة ولم يعمل بها وجاوزها إلى غيرها فليس يطلب إلا آلة الشر وقد تعوذ جميع السلف بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة وما تعوذوا من الفاجر الجاهل حكي عن بعض أصحاب أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يتردد إليه سنين ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره وصار لا يكلمه فلم يزل يسأله عن تغيره عليه وهو لا يذكره حتى قال بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع وقد أخذت قدر سمك الطين وهو أنملة من شارع المسلمين فلا تصلح لنقل العلم فهكذا كانت مراقبة السلف لأحوال طلاب العلم وهذا وأمثاله مما يلتبس على الأغبياء وأتباع الشيطان وإن كانوا أرباب الطيالسة والأكمام الواسعة وأصحاب الألسنة الطويلة والفضل الكثير أعني الفضل من العلوم التي لا تشتمل على التحذير من الدنيا والزجر عنها والترغيب في الآخرة والدعاء إليها بل هي العلوم التي تتعلق بالخلق ويتوصل بها إلى جمع الحطام واستتباع الناس والتقدم على الأقران
فإذن قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات دون المعاصي إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً نعم للنية دخل فيها وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها كما ذكرنا ذلك في كتاب التوبة
الْقِسْمُ الثَّانِي الطَّاعَاتُ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي أَصْلِ صِحَّتِهَا وَفِي تَضَاعُفِ فَضْلِهَا أَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً وَأَمَّا تَضَاعُفُ الْفَضْلِ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ فَإِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً فَيَكُونُ لَهُ بِكُلِّ نِيَّةٍ ثَوَابٌ إِذْ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها (2) كما ورد به الخبر
وَمِثَالُهُ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ طَاعَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً حَتَّى يَصِيرَ من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين أَوَّلُهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ وَأَنَّ داخله زائر الله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعده به رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قال من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور أن يكرم زائره (3) وثانيها أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَكُونَ فِي جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى {ورابطوا} وثالثها التَّرَهُّبُ بِكَفِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَعْضَاءِ عَنِ الْحَرَكَاتِ والترددات فإن الاعتكاف كف وهو في معنى
_________
(1) حديث إن لله ثلثمائة خلق من تقرب إليه بواحد منها دخل الجنة وأحبها إليه السخاء تقدم في كتاب المحبة والشوق
(2) حديث تضعيف الحسنة بعشر أمثالها تقدم
(3) حديث من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور إكرام زائره أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث سلمان وللبيهقي فى الشعب نحوه من رواية جماعة من الصحابة لم يسموا بإسناد صحيح وقد تقدما في الصلاة(4/370)
الصوم وهو نوع ترهب وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رهبانية أمتي القعود في المساجد (1) ورابعها عُكُوفُ الْهَمِّ عَلَى اللَّهِ وَلُزُومُ السِّرِّ لِلْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ وَدَفْعُ الشَّوَاغِلِ الصَّارِفَةِ عَنْهُ بِالِاعْتِزَالِ إلى المسجد وخامسها التَّجَرُّدُ لِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ لِاسْتِمَاعِ ذِكْرِهِ وَلِلتَّذَكُّرِ به كما روي في الخبر من غدا إلى المسجد ليذكر الله تعالى أو يذكر به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى (2) وسادسها أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ الْعِلْمِ بِأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ إِذِ الْمَسْجِدُ لَا يَخْلُو عَمَّنْ يسئ في صلاته أو يتعاطى مالا يَحِلُّ لَهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الدِّينِ فَيَكُونُ شَرِيكًا مَعَهُ فِي خَيْرِهِ الَّذِي يَعْلَمُ منه فتتضاعف خيراته وسابعها أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَذَخِيرَةٌ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْمَسْجِدُ مُعَشَّشُ أَهْلِ الدين المحبين لله وفي الله وثامنها أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَيَاءً مِنْ أَنْ يَتَعَاطَى فِي بَيْتِ اللَّهِ ما يقتضي هتك الحرمة وقد قَالَ الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال أخاً مستفاداً في الله أو رحمة مستنزلة أو علماً مستظرفاً أو كلمة تدل على هدى أو تصرفه عن ردى أو يترك الذنوب خشية أو حياء فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطاعات والمباحات إِذْ مَا مِنْ طَاعَةٍ إِلَّا وَتَحْتَمِلُ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَإِنَّمَا تَحْضُرُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِقَدْرِ جَدِّهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَشَمُّرِهِ لَهُ وتفكر فيه فبهذا تزكوا الْأَعْمَالُ وَتَتَضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمُبَاحَاتُ وَمَا من شيء من المبحاثات إِلَّا وَيَحْتَمِلُ نِيَّةً أَوْ نِيَّاتٍ يَصِيرُ بِهَا من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئاً من الخطرات والخطوات واللحظات فكل ذلك يسئل عنه يوم القيامة أنه لم فعله وما الذي قصد به هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حلالها حساب وحرامها عقاب (3) وفي حديث معاذ بن حبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه (4) وفي خبر آخر من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ومن تطيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة فاستعمال الطيب مباح ولكن لا بد فيه من نية فإن قلت فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس وكيف يتطيب لله فاعلم أن من يتطيب مثلاً يوم الجمعة وفي سائر الأوقات يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحلا للنظر إليهن ولأمور أخرى لا تحصى وكل هذا يجعل التطيب معصية فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسئل عنه ومن
_________
(1) حديث رهبانية أمتي القعود في المساجد لم أجد له أصلا
(2) حديث من غدا إلى المسجد يذكر الله أو يذكر به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى هو معروف من قول كعب الأحبار رويناه في جزء ابن طوق وللطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجه وإسناده جيد وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح
(3) حديث حلالها حساب وحرامها عذاب تقدم
(4) حديث معاذ إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطين بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه لم أجد له إسنادا(4/371)
نوقش الحساب عذب ومن أتى شيئاً من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره وناهيك خسراناً بأن يستعجل ما يفنى ويخسر زيادة نعيم لا يفنى
وأما النية الحسنة فإنه ينوي بِهِ اتِّبَاعَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يوم الجمعة (1) وينوي بذلك أيضاً تعظيم المسجد واحترام بيت الله فلا يرى أن يدخله زائراً لله إلا طيب الرائحة وأن يقصد به ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه وأن يقصد به دفع الروائح الْكَرِيهَةِ عَنْ نَفْسِهِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِيذَاءِ مخالطيه وأن يقصد حسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة فيعصون الله بسببه فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية كما قيل
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم
وقال اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أشار به إلى أن التسبب إلى الشر شر وأن يقصد به معالجة دماغه لتزيد به فطنته وذكاؤه ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر فقد قال الشافعي رحمه الله من طاب ريحه زاد عقله
فهذا وأمثاله من النيات لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير غالبة على قلبه وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا لم تحضره هذه النيات وإن ذكرت له لم ينبعث لها قلبه فلا يكون معه منها إلا حديث النفس وليس ذلك من النية في شيء
والمباحات كثيرة ولا يُمْكِنُ إِحْصَاءُ النِّيَّاتِ فِيهَا فَقِسْ بِهَذَا الْوَاحِدِ ما عداه ولهذا قال بعض العارفين من السلف إني أستحب أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ سَبَبٌ لِبَقَاءِ الْبَدَنِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْبَدَنِ فَهُوَ مُعِينٌ عَلَى الدِّينِ فَمَنْ قصده مِنَ الْأَكْلِ التَّقَوِّيَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَمِنَ الْوِقَاعِ تَحْصِينَ دِينِهِ وَتَطْيِيبَ قَلْبِ أَهْلِهِ وَالتَّوَصُّلَ بِهِ إلى نسل صالح يعبد الله تعالى بعده فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مطيعاً بأكله ونكاحه وأغلب حظوظ النفس الأكل والوقاع وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة ولذلك ينبغي أن يحسن نيته مهما ضاع له مال ويقول هو في سبيل الله وإذا بلغه اغتياب غيره له فليطيب قلبه بأنه سيحمل سيآته وستنقل إلى ديوانه حسناته ولينوي ذلك بسكوته عن الجواب
ففي الخبر إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة فيتعجب ويقول يا رب هذه أعمال ما عملتها قط فيقال هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك (2) وفي الخبر إن العبد ليوافى القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له لدخل الجنة فيأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا يبقى له حسنة فتقول الملائكة قد فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول الله تعالى ألقوا عليه من
_________
(1) حديث إن لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة سنة أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه الحديث ولأبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله ابن سلام ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته وفي إسناده اختلاف وفي الصحيحين أن عمر رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة الحديث
(2) حديث إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار ثم ينشر له من الأعمال الحسنة ما يستوجب به الجنة الحديث وفيه هذه أعمال الذين اغتابوك الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم من حديث شيث بن سعد البلوي مختصرا ان العبد ليلقي كتابه يوم القيامة منتشرا فينظر فيه فيرى حسنات لم يعملها فيقول هذا لي ولم أعملها فيقال بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر وفيه ابن لهيعة(4/372)
سيآتهم ثم صكوا له صكاً إلى النار (1) وَبِالْجُمْلَةِ فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَسْتَحْقِرَ شَيْئًا مِنْ حَرَكَاتِكَ فَلَا تَحْتَرِزْ مِنْ غُرُورِهَا وَشُرُورِهَا وَلَا تُعِدَّ جَوَابَهَا يَوْمَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ فَإِنَّ الله تعالى مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ وَشَهِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لديه رقيب عتيد وقال بعض السلف كتبت كتاباً وأردت أن أتربه من حائط جار لي فتحرجت ثم قلت تراب وما تراب فتربته فهتف بي هاتف سيعلم من استخف بتراب جاره ما يلقى غداً من سوء الحساب
وصلى رجل مع الثوري فرآه مقلوب الثوب فعرفه فمد يده ليصلحه ثم قبضها فلم يسوه فسأله عن ذلك فقال إني لبسته لله تعالى ولا أريد أن أسويه لغير الله
وَقَدْ قَالَ الحسن إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ اللَّهُ فَيَقُولُ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ بَلَى أَنْتَ أَخَذْتَ لَبِنَةً مِنْ حَائِطِي وَأَخَذْتَ خَيْطًا مِنْ ثَوْبِي
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ قَطَّعَ قُلُوبَ الْخَائِفِينَ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَالنُّهَى وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْمُغْتَرِّينَ فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ الْآنَ وَدَقِّقِ الْحِسَابَ عَلَى نَفْسِكَ قَبْلَ أَنْ يُدَقَّقَ عَلَيْكَ وراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولاً أنك لم تتحرك وماذا تقصد وما الذي تنال به من الدنيا وما الذي يفوتك من الآخرة وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك وما خطر ببالك وإلا فأمسك ثم راقب أيضاً قلبك في إمساكك وامتناعك فإن ترك الفعل فعل ولا بد له من نية صحيحة فلا ينبغي أن يكون الداعي هوى خفي لا يطلع عليه ولا يغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات وافطن للأغوار والأسرار تخرج من حيز أهل الاغترار
فقد روي عن زكريا عليه السلام أنه كان يعمل في حائط بالطين وكان أجيراً لقوم فقدموا له رغيفا إذ كان لا يأكل إلا من كسب يده فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده وظنوا أن الخير في طلب المساعدة في الطعام فقال إني أعمل لقوم بالأجرة وقدموا إلي الرغيف لأتقوى به على عملهم فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم فالبصير هكذا ينظر في البواطن بنور الله فإن ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في فضل ولا حكم للفضائل مع الفرائض وقال بعضهم دخلت على سفيان وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه ثم قال لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه
وقال سفيان من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له رغبة أن يأكل منه فإن أجابه فأكل فعليه وزران وإن لم يأكل فعليه وزر واحد وأراد بأحد الوزرين النفاق وبالثاني تعريضه أخاه لما يكره لو علمه
فهكذا ينبغي أن يتفقد العبد نيته في سائر الأعمال فلا يقدم ولا يحجم إلا بنية فإن لم تحضره النية توقف فإن النية لا تدخل تحت الاختيار
بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار
اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصية بتحسين النية وتكثيرها مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله نويت أن أدرس لله أو آكل لله
ويظن ذلك نية وهيهات فذلك حديث نفس وحديث لسان وفكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر والنية بمعزل من جميع ذلك وإنما النية انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً
والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة بل ذلك كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه أو قول الفارغ نويت أن أعشق فلاناً وأحبه وأعظمه بقلبي فذلك محال
بل لا طريق إلى اكتساب
_________
(1) حديث ان العبد ليوافى القيامة بحسنات أمثال الجبال وفيه ويأتى قد ظلم هذا وشتم هذا الحديث تقدم مع اختلاف(4/373)
صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه وذلك مما قدم يقدر عليه وقد لايقدر عليه
وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده
وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه وذلك لا يمكن في كل وقت والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع ويختلف ذلك بالأشخاص وبالأحوال وبالأعمال
فإذا غلبت شهوة النكاح مثلاً ولم يعتقد غرضاً صحيحاً في الولد ديناً ولا دنيا لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاح (1) اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فضلها لا يمكن أن ينوى بالنكاح إتباع السنة إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه وهو حديث محض ليس بنية نعم طريق اكتساب هذه النية مثلاً أن يقوي أولاً إيمانه بالشرع ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد من ثقل المؤنة وطول التعب وغيره فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب فتحركه تلك الرغبة وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناوياً فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ويردده في قلبه من قصد الولد وسواس وهذيان
ولهذا امتنع جماعة من السلف من جملة من الطاعات إذ لم تحضرهم النية وكانوا يقولون ليس تحضرنا فيه نية حتى إن ابن سيرين لم يصل على جنازة الحسن البصري وقال ليس تحضرني نية
ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدري فقالت أجيء بالمرآة فسكت ساعة ثم قال نعم فقيل له في ذلك فقال كان لي في المدري نية ولم تحضرني في المرآة نية فتوقفت حتى هيأها الله تعالى
ومات حماد بن سليمان وكان أحد علماء أهل الكوفة فقيل للثوري ألا تشهد جنازته فقال لو كان لي نية لفعلت وكان أحدهم إذا سئل عملاً من أعمال البر يقول إن رزقني الله تعالى نية فعلت
وكان طاوس لا يحدث إلا بنية وكان يسئل أن يحدث فلا يحدث ولا يسئل فيبتدئ فقيل له في ذلك قال
أفتحبون أن أحدث بغير نية إذا حضرتني نية فعلت
وحكي أن داود بن المحبر لما صنف كتاب العقل جاءه أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحاً ورده فقال مالك قال فيه أسانيد ضعاف فقال له داود أنا لم أخرجه على الأسانيد فانظر فيه بعين الخبر إنما نظرت فيه بعين العمل فانتفعت قال أحمد فرده علي حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت فأخذه ومكث عنده طويلاً ثم قال جزاك الله خيراً فقد انتفعت به
وقيل لطاوس ادع لنا فقال حتى أجد له نية
وقال بعضهم أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر فما صحت لي بعد
وقال عيسى بن كثير مشيت مع ميمون بن مهران فلما انتهى إلى باب داره انصرفت فقال ابنه ألا تعرض عليه العشاء قال ليس من نيتي
وهذا لأن النية تتبع النظر فإذا تغير النظر تغيرت النية وكانوا لا يرون أن يعملوا عملاً إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وهو سبب مقت لا سبب قرب وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه نويت بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى فقد تتيسر في بعض
_________
(1) حديث ان النكاح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم في آداب النكاح(4/374)
الأوقات وقد تتعذر في بعضها نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالباً
ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها أو نعيم الجنة ويرغب نفسه فيها فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته
وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا وهذه أعز النيات وأعلاها ويعز على بسيط الأرض من يفهمها فضلاً عمن يتعاطاها
ونيات الناس في الطاعات أقسام إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار
ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة وهذا وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن وموضع قضاء وطرهما الجنة فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله
وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه لجماله لماله وجلاله وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها بل هم الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فقط وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى الحور العين ممن يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين بل أشد فإن التفاوت بين جمال حضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيراً من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية لقضاء الوطر من مخالطة الحسان وإعراضهم عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء لصاحبتها وإلفها لها وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء فعمي أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء بأنها لا تشعر به أصلاً ولا تلتفت إليه ولو كان لها عقل وذكرن لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن ولا يزالون مختلفين كل حزب بما لديهم فرحون ولذلك خلقهم
حكي أن أحمد بن خضرويه رأى ربه عز وجل في المنام فقال له كل الناس يطلبون مني الجنة إلا أبا يزيد فإنه يطلبني ورأى أبو يزيد ربه في المنام فقال يا رب كيف الطريق إليك فقال اترك نفسك وتعال إلي
ورؤي الشبلي بعد موته في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال لم يطالبني على الدعاوي بالبرهان إلا على قول واحد قلت يوما أي خسارة أعظم من خسران الجنة فقال أي خسارة أعظم من خسران لقائي
والغرض أن هذه النيات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها ربما لا يتيسر له العدول إلى غيرها
ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً وأفعالاً لا يستنكرها الظاهريون من الفقهاء فإنا نقول من حضرت له نية في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى وانتقلت الفضيلة إليه وصارت الفضيلة في حقه نقيصة لأن الأعمال بالنيات
وذلك مثل العفو فإنه أفضل من الانتصار في الظلم وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل
ومثل أن يكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليريح نفسه ويتقوى على العبادات في المستقبل وليس تنبعث نيته في الحالين للصوم والصلاة فالأكل والشرب والنوم هو الأفضل له
بل لو مل العبادة(4/375)
لمواظبته عليها وسكن نشاطه وضعفت رغبته وعلم أنه لو ترفه ساعة بلهو وحديث عاد نشاطه فاللهو أفضل له من الصلاة
قال أبو الدرداء إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عوناً لي على الحق وقال علي كرم الله وجهه روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت
وهذه دقائق لا يدركها إلا سماسرة العلماء دون الحشوية منهم بل الحاذق بالطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته ويستبعده القاصر في الطب وإنما يبتغي به أن يعيد أولاًً قوته ليحتمل المعالجة بالضد والحاذق في لعب الشطرنج مثلاً قد ينزل عن الرخ والفرس مجاناً ليتوصل بذلك إلى الغلبة والضعيف البصيرة قد يضحك به ويتعجب منه
وكذلك الخبير بالقتال قد يفر بين يدي قرينه ويوليه دبره حيلة منه ليستجره إلى مضيق فيكر عليه فيقهره
فكذلك سلوك طريق الله تعالى كله قتال مع الشيطان ومعالجة للقلب والبصير الموفق يقف فيها على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء فلا ينبغي للمريد أن يضمر إنكاراً على ما يراه من شيخه ولا للمتعلم أن يعترض على أستاذه بل ينبغي أن يقف عند حد بصيرته ومالا يفهمه من أحوالهما يسلمه لهما إلى أن ينكشف له أسرار ذلك بأن يبلغ رتبتهما وينال درجتهما ومن الله حسن التوفيق
الباب الثاني في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته
فضيلة الإخلاص
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مخلصين له الدين {وقال} ألا لله الدين الخالص وَقَالَ تَعَالَى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بالله وأخلصوا دينهم لله وقال تعالى فمن كان يرجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بعبادة ربه أحداً نزلت فيمن يعمل لله ويحب أن يحمد عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم إخلاص العمل لله (1) وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال ظن أبي أن له فضلاً على من هو دونه مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما نصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم (2) وعن الحسن قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول الله تعالى الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي (3) وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لاتهتموا لِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَاهْتَمُّوا لِلْقَبُولِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أخلص العمل يجزك منه القليل (4) وقال عليه السلام ما من عبد يخلص لله العمل أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (5)
_________
(1) حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم إخلاص العمل لله أخرجه الترمذى وصححه من حديث النعمان بن بشير
(2) حديث مصعب بن سعد عن أبيه أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم رواه النسائى وهو عند البخارى بلفظ هل تنصرون وترزقون الا بضعفائكم
(3) حديث الحسن مرسلا يقول الله تعالى الإخلاص سر من سرى استودعته قلب من أحببت من عبادى رويناه في جزء من مسلسلات القزوينى مسلسلا يقول كل واحد من رواته سألت فلانا عن الإخلاص فقال وهو من رواية أحمد بن عطاء الهجيمى عن عبد الواحد بن زيد عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله تعالى وأحمد بن عطاء وعبد الواحد كلاهما متروك وهما من الزهاد ورواه أبو القاسم القشيري في الرسالة من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف
(4) حديث أنه قال لمعاذ أخلص العمل يجزك منه القليل أخرجه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث معاذ واسناده منقطع
(5) حديث ما من عبد يخلص لله أربعين يوما أخرجه ابن عدى ومن طريقه ابن الجوزى في الموضوعات عن أبى موسى وقد تقدم(4/376)
وقال عليه الصلاة والسلام أول من يسئل يوم القيامة ثلاثة رجل آتاه الله العلم فيقول الله تعالى ما صنعت فيما علمت فيقول يارب كنت أقوم آناء الليل وأطراف النهار فيقول الله تعالى كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم ألا فقد قيل ذلك
ورجل آتاه الله مالاً فيقول الله تعالى لقد أنعمت عليك فماذا صنعت فيقول يارب كنت أتصدق به آناء الليل وأطراف النهار فيقول الله تعالى كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد ألا فقد قيل ذلك
ورجل قتل في سبيل الله تعالى فيقول الله تعالى ماذا صنعت فيقول يارب أمرت بالجهاد فقاتلت حتى قتلت فيقول الله كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع ألا فقد قيل ذلك قال أبو هريرة ثم خبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذي وقال يا أبا هريرة أولئك أول خلق تسعر نار جهنم بهم يوم القيامة (1) فدخل راوي هذا الحديث على معاوية وروى له ذلك فبكى حتى كادت نفسه تزهق ثم قال صدق الله إذ قال من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآية
وفي الإسرائيليات أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم فقالوا إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال أين تريد رحمك الله قال أريد أن أقطع هذه الشجرة قال وما أنت وذاك تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك فقال إن هذا من عبادتي قال فإنى لا أتركك أن تقطعها فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره فقال له إبليس أطلقني حتى أكلمك فقام عنه فقال إبليس يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها فقال العابد لا بد لي من قطعها فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع قال وما هو قال أطلقني حتى أقول لك فأطلقه فقال إبليس أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس قال نعم قال فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها فتفكر العابد فيما قال وقال صدق الشيخ لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها وما ذكره أكثر منفعة فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له فرجع العابد إلى متعبده فبات فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئاً
فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له إلى أين قال أقطع تلك الشجرة فقال كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها قال فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة فقال هيهات فأخذه إبليس وصرعه فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره وقال لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك فنظر العابد فإذا لا طاقة له به قال يا هذا غلبتني فخل عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن فقال لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك
_________
(1) حديث أول من يسئل يوم القيامة ثلاثة رجل آتاه الله العلم الحديث قد تقدم(4/377)
هذه الحكايات تصديق قوله تعالى إلا عبادك منهم المخلصين إذ لا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص ولذلك كان معروف الكرخي رحمه الله تعالى يضرب نفسه ويقول يا نفس أخلصي تتخلصي
وَقَالَ يعقوب المكفوف الْمُخْلِصُ مَنْ يَكْتُمُ حَسَنَاتِهِ كما يكتم سيئاته
وقال سليمان طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس وكتب بعض الأولياء إلى أخ له أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل وقال أيوب السختياني تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال
وكان مطرف يقول من صفا صفي له ومن خلط خلط عليه
ورؤي بعضهم في المنام فقيل له كيف وجدت أعمالك فقال كل شيء عملته لله وجدته حتى حبة رمان لقطتها من طريق وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً فقلت موت سنور في كفة الحسنات وموت حمار ليس فيها فقيل لي إنه قد وجهحيث بعثت به فإنه لما قيل لك قد مات قلت في لعنة الله فبطل أجرك فيه ولو قلت في سبيل الله لوجدته في حسناتك
وفي رواية قال وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي فوجدت ذلك لا علي ولا لي قال سفيان لما سمع هذا ما أحسن حاله إذ لم يكن عليه فقد أحسن إليه وقال يحيى بن معاذ الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم
وقيل كان رجل يخرج في زي النساء ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء من عرس أو مأتم فاتفق أن حضر يوماً موضعاً فيه مجمع للنساء فسرقت درة فصاحوا أن أغلقوا الباب حتى نفتش فكانوا يفتشون واحدة واحدة حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه فدعا الله تعالى بالإخلاص وقال إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحواأن أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدرة وقال بعض الصوفية كنت قائماً مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة فمر به بعض أخوانه من الأبدال فساره بشيء فقال أبو عبيد لا فمر كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني فقلت لأبي عبيد ما قال لك فقال سألني أن أحج معه قلت لا قلت فهلا فعلت قال ليس لي في الحج نية وقد نويت أن أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله تعرضت لمقت الله تعالى لأني أدخل في عمل الله شيئاً غيره فيكون ما أنا فيه أعظم عندي من سبعين حجة
ويروى عن بعضهم قال غزوت في البحر فعرض بعضنا مخلاة فقلت أشتريها فأنتفع بها في غزوي فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأن شخصين قد نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه اكتب الغزاة فأملي عليه خرج فلان متنزهاً وفلان مرائياً وفلان تاجراً وفلان في سبيل الله ثم نظر إلي وقال اكتب فلان خرج تاجراً فقلت الله الله في أمري ما خرجت أتجر وما معي تجارة أتجر فيها ما خرجت إلا للغزو فقال يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح فيها فبكيت وقلت لا تكتبوني تاجراً فنظر إلى صاحبه وقال ما ترى فقال اكتب خرج فلان غازياً إلا أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عز وجل فيه بما يرى
وقال سري السقطي رحمه الله تعالى لأن تصلي ركعتين في خلوة تخلصهما خير لك من أن تكتب سبعين حديثاً أو سبعمائة بعلو وقال بعضهم في إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز ويقال العلم بذر والعمل زرع وماؤه الإخلاص وقال بعضهم إذا أبغض الله عبداً أعطاه ثلاثاً ومنعه ثلاثاً أعطاه صحبة الصالحين ومنعه القبول منهم وأعطاه الأعمال الصالحة ومنعه(4/378)
الإخلاص فيها وأعطاه الحكمة ومنعه الصدق فيها وقال السوسي مراد الله من عمل الخلائق الإخلاص فقط وقال الجنيد إن لله عباداً عقلوا فلما عقلوا عملوا فلما عملوا أخلصوا فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع وقال محمد بن سعيد المروزي الأمر كله يرجع إلى أصلين فعل منه بك وفعل منك له فترضى ما فعل وتخلص فيما تعمل فإذن أنت سعدت بهذين وفزت في الدارين
بيان حقيقة الإخلاص
اعلم أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَشُوبَهُ غَيْرُهُ فَإِذَا صَفَا عَنْ شَوْبِهِ وَخَلُصَ عَنْهُ سُمِّيَ خالصاً ويسمى الفعل المصفى المخلص إخلاصاً قال الله تعالى من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به وَالْإِخْلَاصُ يُضَادُّهُ الْإِشْرَاكُ فَمَنْ لَيْسَ مُخْلِصًا فَهُوَ مشرك إلا أن الشرك درجات فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية والشرك منه خفي ومنه جلي وكذا الإخلاص والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات
وقد ذكر حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث فمهما كان الباعث واحد على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضافة إلى المنوي فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص ولكن العادة جارية بتخصيص اسْمِ الْإِخْلَاصِ بِتَجْرِيدِ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تعالى عن جميع الشوائب كما أن الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك ولسنا نتكلم فيه إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات وأقل أموره ما ورد في الخبر من إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربع أسام يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر (1)
وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس ومثال ذلك أَنْ يَصُومَ لِيَنْتَفِعَ بِالْحِمْيَةِ الْحَاصِلَةِ بِالصَّوْمِ مَعَ قصد التقرب أو يعتق عبدا ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه أَوْ يَحُجَّ لِيَصِحَّ مِزَاجُهُ بِحَرَكَةِ السَّفَرِ أَوْ يتخلص من شر يعرض له في بلده أو ليهرب عن عدو له في منزله أو يتبرم بأهله وولده أو بشغل هو فيه فأراد أن يستريح منه أياماً أو ليغزو وليمارس الحرب ويتعلم أسبابه ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ليراقب أهله أو رحله أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال أو ليكون عزيزاً بين العشيرة أو ليكون عقاره أو ماله محروساً بعز العلم عن الأطماع أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث
أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس أو لينال به رفقاً في الدنيا أو كتب مصحفاً ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه أو حج ماشياً ليخفف عن نفسه الكراء أو توضأ ليتنظف أو يتبرد
أو اغتسل لتطيب رائحته أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن
أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام أو ليتفرغ لأشغاله فلا يشغله الأكل عنها أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه أَوْ يَعُودَ مَرِيضًا لِيُعَادَ إِذَا مَرِضَ أَوْ يُشَيِّعَ جِنَازَةً لِيُشَيَّعَ جَنَائِزُ أَهْلِهِ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِالْخَيْرِ وَيُذْكَرَ بِهِ وَيُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الصَّلَاحِ وَالْوَقَارِ فَمَهْمَا كَانَ باعثه هو التقرب إلى الله تعالى
_________
(1) حديث إن المرائي يدعى يوم القيامة يا مرائي يا مخادع الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب السنة والإخلاص وقد تقدم(4/379)
وَلَكِنِ انْضَافَ إِلَيْهِ خَطْرَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخَطَرَاتِ حَتَّى صَارَ الْعَمَلُ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ خَرَجَ عَمَلُهُ عَنْ حَدِّ الْإِخْلَاصِ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تعالى وتطرق إليه الشرك
وقد قال تعالى أنا أغني الشركاء عن الشركة وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَى الْعَمَلِ تَكَدَّرَ بِهِ صفوه وزال به إخلاصه
والإنسان مرتبط في حظوظه منغمس في شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس
فلذلك قيل من سلم له من عمره لحظة واحده خالصة لوجه الله نجا وذلك لعزة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب بل الخالص هُوَ الَّذِي لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا طَلَبُ القرب من الله تعالى
وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور ثم هذه الشوائب إما أن تكون في رتبة الموافقة أو في رتبة المشاركة أو في رتبة المعاونة كما سبق في النية وبالجملة فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني أو أقوى منه أو أضعف ولكل واحد حكم آخر كما سنذكره وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يتجرد فيه قصد التقرب فلا يكون في باعث سواه
وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ مُحِبٍّ لِلَّهِ مستهتر بالله مستغرق الهم بالآخرة بحيث لَمْ يَبْقَ لِحُبِّ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ قَرَارٌ حتى لا يحب الأكل والشرب أيضاً بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة فلا يشتهي الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على عبادة الله تعالى ويتمنى أن لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة ويكون قدر الضرورة مطلوباً عنده لأنه ضرورة دينه فلا يكون له هم إلا الله تعالى
فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته فلو نام مثلاً حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وكان له درجة المخلصين فيه ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه وصارت إخلاصاً فالذي يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة وبالجملة غير الله فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك إلا نادراً فإذن عِلَاجُ الْإِخْلَاصِ كَسْرَ حُظُوظِ النَّفْسِ وَقَطْعَ الطَّمَعِ عَنِ الدُّنْيَا وَالتَّجَرُّدَ لِلْآخِرَةِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ ذَلِكَ على القلب فإذا ذَاكَ يَتَيَسَّرُ الْإِخْلَاصُ
وَكَمْ مِنْ أَعْمَالٍ يَتْعَبُ الْإِنْسَانُ فِيهَا وَيَظُنُّ أَنَّهَا خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ ويكون فيها مغرور لأنه لا يرى وجه الآفة فيها كما حكي عن بعضهم أنه قال قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد في الصف الأول لأني تأخرت يوماً لعذر فصليت في الصف الثاني فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر
وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال من أمثاله وقل من يتنبه له إلا من وفقه الله تعالى والغافلون يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وبقوله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأشد الخلق تعرضاً لهذه الفتنة العلماء فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والاستبشار بالحمد والثناء والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظه للسلاطين ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه(4/380)
وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظاً وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره
ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ويقول إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب واغتمامك لفوات الثواب محمود ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابا وأعوذ عليه في الآخرة من انفراده
وليت شعري لو اغتم عمر رضي الله عنه بتصدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه للإمامة أكان غمه محموداً أو مذموماً ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذموماً لأن انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل بل فرح عمر رضي الله تعالى عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر
فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر ثم إذا دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد
وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس وطال اشتغاله بامتحانها فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذوهو المستثنى في قوله تعالى إلا عبادك منهم المخلصين فَلْيَكُنِ الْعَبْدُ شَدِيدَ التَّفَقُّدِ وَالْمُرَاقَبَةِ لِهَذِهِ الدَّقَائِقِ وَإِلَّا الْتَحَقَ بِأَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
بيان أقاويل الشيوخ في الإخلاص
قال السوسي الإخلاص فقد رؤية الإخلاص فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص
وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل فإن الالتفات إلى الإخلاص والنظر إليه عجب وهو من جملة الآفات
والخالص ما صفا عن جميع الآفات فهذا تعرض لآفة واحد وقال سهل رحمه الله تعالى الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم الإخلاص صدق النية مع الله تعالى
وقيل لسهل أي شيء أشد على النفس فقال الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب وقال رويم الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين
وهذا إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة آجلاً وعاجلاً
والعابد لأجل التنعم بالشهوات في الجنة معلول بل الحقيقة أن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين وهو الإخلاص المطلق
فأما من يعمل لرجاء الجنة وخوف النار فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط وهو القائل لا يتحرك الإنسان إلا لحظ والبراءة من الحظوظ صفة الإلهية ومن ادعى ذلك فهو كافر
وقد قضى القاضي أبو بكر الباقلاني بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ وقال هذا من صفات الإلهية وما ذكره حق ولكن القوم إنما أرادوا به البراءة عما يسميه الناس حظوظاً وهو الشهوات الموصوفة في الجنة فقط فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله تعالى فهذا حظ هؤلاء وهذا لا يعده الناس حظاً بل يتعجبون منه
وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة السجود للحضرة الإلهية سراً وجهراً جميع نعيم الجنة لاستحقروه ولم يلتفتوا إليه فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم فقط دون غيره
وقال أبو عثمان الإخلاص نسيان روية(4/381)
الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط
وهذا إشارة إلى آفة الرياء فقط ولذلك قال بعضهم الإخلاص في العمل أن لا يطلع عليه شيطان فيفسده ولا ملك فيكتبه فإنه إشارة إلى مجرد الإخفاء
وقد قيل الإخلاص ما استتر عن الخلق وصفا عن العلائق
وهذا أجمع للمقاصد
وقال المحاسبي الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب
وهذا إشارة إلى مجرد نفي الرياء
وكذلك قول الخواص من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية
وقال الحواريون لعيسى عليه السلام ما الخالص من الأعمال فقال الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد
وهذا أيضاً تعرض لترك الرياء وإنما خصه بالذكر لأنه أقوى الأسباب المشوشة للإخلاص
وقال الجنيد الإخلاص تصفية العمل من الكدورات
وقال الفضيل ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما
وقيل الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها
وهذا هو البيان الكامل والأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة
وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإخلاص فقال أن تقول ربي الله ثم تستقيم كما أمرت (1) أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك وتستقيم في عبادته كما أمرت وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله عن مجرى النظر وهو الإخلاص حقاً
بيان درجات الشوائب والآفات المكدرة للإخلاص
اعلم أن الآفات المشوشة للإخلاص بعضها جلي وبعضها خفي وبعضها ضعيف مع الجلاء وبعضها قوي مع الخفاء ولا يفهم اختلاف درجاتها في الخفاء والجلاء إلا بمثال
وأظهر مشوشات الإخلاص الرياء فلنذكر منه مثالاً
فنقول الشيطان يدخل الآفة على المصلي مهما كان مخلصاً في صلاته ثم نظر إليه جماعة أو دخل عليه داخل فيقول له حسن صلاتك حتى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك فتخشع جوارحه وتسكن أطرافه وتحسن صلاته وهذا هو الرياء الظاهر ولا يخفى ذلك على المبتدئين من المريدين
الدرجة الثانية يكون المريد قد فهم هذه الآفة وأخذ منها حذره فصار لا يطيع الشيطان فيها ولا يلتفت إليه ويستمر في صلاته كما كان
فيأتيه في معرض الخير ويقول أنت متبوع ومقتدى بك ومنظور إليك وما تفعله يؤثر عنك ويتأسى بك غيرك فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزر إن أسأت فأحسن عملك بين يديه فعساه يقتدي بك في الخشوع وتحسين العبادة وهذا أغمض من الأول وقد ينخدع به من لا ينخدع بالأول وهو أيضاً عين الرياء ومبطل للإخلاص فإنه إن كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرضى لغيره تركه فلم لم يرتض لنفسه ذلك في الخلوة ولا يمكن أن تكون نفس غيره أعز عليه من نفسه فهذا محض التلبيس بل المقتدي به هو الذى استقام في نفسه واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره فيكون له ثواب عليه
_________
(1) حديث سئل عن الإخلاص فقال أن تقول ربي الله ثم تستقيم كما أمرت لم أره بهذا اللفظ وللترمذى وصححه وابن ماجه من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال قل ربي الله ثم استقم وهو عند مسلم بلفظ قل لى في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً بعدك قال قل آمنت بالله ثم استقم(4/382)
فأما هذا فمحض النفاق والتلبيس فمن اقتدى به أثيب عليه وأما هو فيطالب بتلبيسه ويعاقب على إظهاره من نفسه ما ليس متصفاً به
الدرجة الثالثة وهي أدق مما قبلها أن يجرب العبد نفسه في ذلك ويتنبه لكيد الشيطان ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملأ ويستحيي من نفسه ومن ربه أن يتخشع لمشاهدة خلقه تخشعاً زائداً على عادته فيقبل على نفسه في الخلوة ويحسن صلاته على الوجه الذي يرتضيه في الملأ ويصلي في الملأ أيضاً كذلك
فهذا أيضاً من الرياء الغامض لأنه حسن صلاته في الخلوة لتحسن في الملأ فلا يكون قد فرق بينهما فالتفاته في الخلوة والملأ إلى الخلق
بل الإخلاص أن تكون مشاهدة البهائم لصلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة فكأن نفس هذا ليست تسمح بإساءة الصلاة بين أظهر الناس ثم يستحيي من نفسه أن يكون في صورة المرائين ويظن أن ذلك يزول بأن تستوي صلاته في الخلا والملا وهيهات بل زوال ذلك بأن لا يلتفت إلى الخلق كما لا يلتفت إلى الجمادات في الخلا والملأ جميعاً وهذا من شخص مشغول الهم بالخلق في الملأ والخلا جميعاً وهذا من المكايد الخفية للشيطان
الدرجة الرابعة وهي أدق وأخفى أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن أن يقول له اخشع لأجلهم فإنه قد عرف أنه قد تفطن لذلك فيقول له الشيطان تفكر في عظمة الله تعالى وجلاله ومن أنت واقف بين يديه واستحي من أن ينظر الله إلى قلبك وهو غافل عنه فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ويظن أن ذلك عين الإخلاص وهو عين المكر والخداع فإن خشوعه لو كان لنظره إلى جلاله لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره وعلامة الأمن من هذه الآفة أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر كما لا يكون حضور البهيمة سبباً فما دام يفرق في أحواله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء وهذا الشرك أخفي في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء (1) كما ورد في الخبر ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه وهدايته وإلا فالشيطان ملازم للمتشعرين لعبادة الله تعالى لا يغفل عنهم لحظة حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات حتى في كحل العين وقص الشارب وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة وللنفس فيها حظ خفي لارتباط نظر الخلق بها ولاستئناس الطبع بها فيدعوه الشيطان إلى فعل ذلك ويقول هذه سنة لا ينبغي أن تتركها ويكون انبعاث القلب باطناً لها لأجل تلك الشهوة الخفية أو مشوبة بها شوباً يخرج عن حد الإخلاص بسببه ومالا يسلم عن هذه الآفات كلها فليس بخالص بل من يعتكف في مسجد معمور نظيف حسن العمارة يأنس إليه الطبع فالشيطان يرغبه فيه ويكثر عليه من فضائل الاعتكاف وقد يكون المحرك الخفي في سره هو الأنس بحسن صورة المسجد واستراحة الطبع إليه ويتبين ذلك في ميله إلى أحد المسجدين أو أحد الموضعين إذا كان أحسن من الآخر وكل ذلك امتزاج بشوائب الطبع وكدورات النفس ومبطل حقيقة الإخلاص لعمري الغش الذي يمزج بخالص الذهب له درجات متفاوتة فمنها ما يغلب ومنها ما يقل لكن يسهل دركه
ومنها ما يدق بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير
وغش القلب ودغل الشيطان وخبث النفس أغمض من ذلك وأدق كثيرا
_________
(1) حديث الشرك أخفي في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة تقدم في العلم وفى ذم الجاه والرياء(4/383)
ولهذا قيل ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كالنظر السوادي إلى حمرة الدينار المموه واستدارته وهو مغشوش زائف في نفسه وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد البصير خير من دينار يرتضيه الغر الغبي
فهكذا يتفاوت أمر العبادات بل أشد وأعظم ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها فلينتفع بما ذكرناه مثالاً والفطن يغنيه القليل عن الكثير والبليد لا يغنيه التطويل أيضاً فلا فائدة في التفصيل
بيان حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به
اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباً أم يقتضي عقاباً أم لا يقتضي شيئاً أصلاً فلا يكون له ولا عليه أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعاً وهو سبب المقت والعقاب
وأما الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب وإنما النظر في المشوب وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له (1) وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه والذي ينقدح لما فيه والعلم عند الله أن ينظر إلى قدر قوة الباعث فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب
نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب
وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني وهذا لقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره ولقوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير بل إن كان غالباً على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت زيادة وإن كان مغلوباً سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد
وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها فداعية الرياء من المهلكات وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه وداعية الخير من المنجيات وإنما قوتها بالعمل على وفقها
فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوي تلك الصفة وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوي أيضاً تلك الصفة وأحدهما مهلك والآخر منج فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما وإن كان أحدهما غالباً لم يخل الغالب عن أثر فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثيره في إنارة القلب أو تسويده وفي تقريبه من الله أو إبعاده فإذا جاء بما يقربه شبراً مع ما يبعده شبراً فقد عاد إلى ما كان
_________
(1) الأخبار التى يدل ظاهرها على أن العمل المشوب لا ثواب له قال وليس تخلو الأخبار عن تعارض رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله رجل يبتغي الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله لا أجر له الحديث وللنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد حسن أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول لا شيء له {ثم قال} أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه وللترمذي وقال غريب وابن حبان من حديث أبي هريرة الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه قال له أجران أجر السر وأجر العلانية وقد تقدم في ذم الجاه والرياء(4/384)
فلم يكن له ولا عليه وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبراً واحداً فضل له لا محالة شبر وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحها (1) فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقيبه فإذا اجتمعا جميعاً فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة
ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجاً ومعه تجارة صح حجه وأثيب عليه وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس
نعم يمكن أن يقال إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة وتجارته غير موقوفة عليه فهو خالص وإنما المشترك طول المسافة ولا ثواب فيه مهما قصد التجارة
ولكن الصواب أن يقال مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وكان غرض التجارة كالمعين والتابع فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ما
وعندي أن الغزاة لا يدركون في أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها الغنائم وبين جهة لا غنيمة فيها ويبعد أن يقال إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم بل العدل أن يقال إذا كان الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله تعالى وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية فلا يحبط به الثواب
نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة
فإن قلت فالآيات والأخبار تدل على أن شوب الرياء محبط للثواب وفي معناه شوب طلب الغنيمة والتجارة وسائر الحظوظ فقد روى طاوس وغيره من التابعين أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف أو قال يتصدق فيحب أن يحمد ويؤجر فلم يدر ما يقول له حتى نزلت {فمن كان يرجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بعبادة ربه أحدا} (2) وقد قصد الأجر والحمد جميعاً وروى معاذ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال أدنى الرياء شرك (3) وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم يقال لمن أشرك في عمله خذ أجرك ممن عملت له (4) وروي عن عبادة إن الله عز وجل يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشركة من عمل لي عملاً فأشرك معي غيري ودعت نصيبي لشريكي وروى أبو موسى أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (5) وقال عمر رضي الله عنه تقولون فلان شهيد ولعله أن يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا فهو له (6) فنقول هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه بل المراد بها من لم يرد بذلك إلا الدنيا كقوله من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا وكان ذلك هو الأغلب على همه وقد ذكرنا أن ذلك عصيان وعدوان لا لأن طلب الدنيا حرام ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها وأما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما ولم يكن له
_________
(1) حديث أتبع السيئة الحسنة تمحها تقدم في رياضة النفس وفي التوبة
(2) حديث طاوس وعدة من التابعين أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف أو قال يتصدق فيحب أن يحمد ويؤجر فنزلت {فمن كان يرجو لقاء ربه} أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب السنة والحاكم نحوه من رواية طاوس مرسلا وقد تقدم في ذم الجاه والرياء
(3) حديث معاذ أدنى الرياء شرك أخرجه الطبراني والحاكم وتقدم
(4) حديث أبي هريرة يقال لمن أشرك في عمله خذ أجرك ممن عملت له تقدم فيه من حديث محمود بن لبيد بنحوه وتقدم فيه حديث أبي هريرة من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه وفي رواية مالك في الموطأ فهو له كله
(5) حديث أبي موسى من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تقدم فيه
(6) حديث ابن مسعود من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا فهو له تقدم في الباب الذي قبله(4/385)
ولا عليه فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب ثم إن الإنسان عند الشركة أبداً في خطر فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده فربما يكون عليه وبالاً ولذلك قال تعالى {فمن كان يرجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بعبادة ربه أحداً} أي لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط ويجوز أن يقال أيضا منصب الشهادة لا ينال إلا بالإخلاص في الغزو
وبعيد أن يقال من كانت له داعيته الدينية بحيث تزعجه إلى مجرد الغزو وإن لم يكن غنيمة وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية والأخرى فقيرة فمال إلى جهة الأغنياء لإعلاء كلمة الله وللغنيمة لاثواب له على غزوه البتة ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك فإن هذا حرج في الدين ومدخل لليأس على المسلمين لأن أمثال هذه الشوائب التابعة قط لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب فأما أن يكون في إحباطه فلا نعم الإنسان فيه على خطر عظيم لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي وذلك مما يخفى غاية الخفاء
فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه وإن بالغ في الاحتياط فلذلك ينبغي أن يكون أبداً بعد كمال الاجتهاد متردداً بين الرد والقبول خائفاً أن تكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها
وهكذا كان الخائفون من ذوي البصائر وهكذا ينبغي أن يكون كل ذي بصيرة ولذلك قال سفيان رحمه الله لا أعتد بما ظهر من عملي
وقال عبد العزيز بن أبي رواد جاورت هذا البيت ستين سنة وحججت ستين حجة فما دخلت في شيء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبت نفسي فوجدت نصيب الشيطان أوفى من نصيب الله ليته لا لي ولا علي
ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص
ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعاً
وقد حكي أن بعض الفقراء كان يخدم أبا سعيد الخراز وكيف في أعماله فتكلم أبو سعيد في الإخلاص يوماً يريد إخلاص الحركات فأخذ الفقير يتفقد قلبه عند كل حركة ويطالبه بالإخلاص فتعذر عليه قضاء الحوائج واستضر الشيخ بذلك فسأله عن أمره فأخبره بمطالبته نفسه بحقيقة الإخلاص وأنه يعجز عنها في أكثر أعماله فيتركها فقال أبو سعيد لا تفعل إذ الإخلاص لا يقطع المعاملة فواظب على العمل واجتهد في تحصيل الإخلاص فما قلت لك اترك العمل وإنما قلت لك أخلص العمل وقد قال الفضيل ترك العمل بسبب الخلق رياء وفعله لأجل الخلق شرك
الباب الثالث في الصدق وفضيلته وحقيقته
فضيلة الصدق
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عليه} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتى يكتب عند الله كذاباً (1) ويكفي في فضيلة الصدق أن الصديق مشتق منه والله تعالى وصف الأنبياء به في معرض المدح والثناء فقال {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً} وقال
_________
(1) حديث إن الصدق يهدي إلى البر الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود وقد تقدم(4/386)
واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً وقال تعالى {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً} وقال ابن عباس أربع من كن فيه فقد ربح الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر
وقال بشر ابن الحارث من عامل الله بالصدق استوحش من الناس
وقال أبو عبد الله الرملي رأيت منصور الدينوري في المنام فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل فقلت له أحسن ما توجه العبد به إلى الله ماذا قال الصدق وأقبح ما توجه به الكذب
وقال أبو سليمان اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله تعالى غاية طلبتك وقال رجل لحكيم ما رأيت صادقاً فقال له لو كنت صادقاً لعرفت الصادقين
وعن محمد بن علي الكناني قال وجدنا دين الله تعالى مبنياً على ثلاثة أركان على الحق والصدق والعدل فالحق على الجوارح والعدل على القلوب والصدق على العقول
وقال الثوري في قوله تعالى {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} قال هم الذين ادعوا محبة الله تعالى ولم يكونوا بها صادقين
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته
وصاح رجل في مجلس الشبلي ورمى نفسه في دجلة فقال الشبلي إن كان صادقاً فالله تعالى ينجيه كما نجى موسى عليه السلام وإن كان كاذباً فالله تعالى يغرقه كما أغرق فرعون
وقال بعضهم أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة ولا يتم بعضها إلا ببعض الإسلام الخالص عن البدعة والهوى والصدق لله تعالى في الأعمال وطيب المطعم
وقال وهب بن منبه وجدت على حاشية التوراة اثنين وعشرين حرفاً كان صلحاء بني إسرائيل يجتمعون فيقرءونها ويتدارسونها لا كنز أنفع من العلم ولا مال أربح من الحلم ولا حسب أوضع من الغضب ولا قرين أزين من العمل ولا رفيق أشين من الجهل ولا شرف أعز من التقوى ولا كرم أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخزى من الكبر ولا دواء ألين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أطيب من الصحة ولا معيشة أهنأ من العفة ولا عبادة أحسن من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت
وقال محمد بن سعيد المروزي إذا طلبت الله بالصدق آتاك الله تعالى مرآة بيدك حتى تبصر كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة
وقال أبو بكر الوراق احفظ الصدق فيما بينك وبين الله تعالى والرفق فيما بينك وبين الخلق وقيل لذي النون هل للعبد إلى صلاح أموره سبيل فقال
قد بقينا من الذنوب حيارى ... نطلب الصدق ما إليه سبيل
فدعاوى الهوى تخف علينا ... وخلاف الهوى علينا ثقيل
وقيل لسهل ما أصل هذا الأمر الذي نحن عليه فقال الصدق والسخاء والشجاعة
فقيل زدنا فقال التقى والحياء وطيب الغذاء
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكمال فقال قول الحق والعمل بالصدق (1) وعن الجنيد في قوله تعالى {ليسأل الصادقين عن صدقهم} قال يسأل الصادقين عند أنفسهم عن صدقهم عند ربهم وهذا أمر على خطر
بيان حقيقة الصدق ومعناه ومراتبه
اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان صدق في القول وصدق في النية والإرادة وصدق في العزم
_________
(1) حديث ابن عباس سئل عن الكمال فقال قول الحق والعمل بالصدق لم أجده بهذا اللفظ(4/387)
وصدق في الوفاء بالعزم وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق لأنه مبالغة في الصدق
ثم هم أيضاً على درجات فمن كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه الصدق الأول صدق اللسان وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه والخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه
وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَحْفَظَ أَلْفَاظَهُ فلا يتكلم إلا بالصدق وهذا هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها
فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق ولكن لهذا الصدق كمالان
{أحدهما} الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَعَارِيضِ فَقَدْ قِيلَ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الكذب إذ المحذور من الكذب تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في نفسه إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَتَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَفِي تَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ وَفِي الْحَذَرِ عَنِ الظَّلَمَةِ وَفِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ إطلاعهم على أسرار الملك فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَصِدْقُهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نُطْقُهُ فِيهِ لِلَّهِ فِيمَا يَأْمُرُهُ الْحَقُّ بِهِ وَيَقْتَضِيهِ الدِّينُ فَإِذَا نَطَقَ بِهِ فَهُوَ صَادِقٌ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ مُفْهِمًا غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَا أُرِيدَ لِذَاتِهِ بَلْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ فَلَا يُنْظَرُ إِلَى صُورَتِهِ بَلْ إِلَى مَعْنَاهُ نَعَمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْبَغِي أن يعدل إلى المعاريض ما وحد إِلَيْهِ سَبِيلًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى سَفَرٍ وَرَّى بِغَيْرِهِ (1) وَذَلِكَ كَيْ لَا يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَعْدَاءِ فَيُقْصَدَ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خَيْرًا أَوْ أَنْمَى خَيْرًا (2) وَرَخَّصَ فِي النُّطْقِ عَلَى وِفْقِ الْمَصْلَحَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ وَمَنْ كَانَ فِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ
وَالصِّدْقُ هَهُنَا يَتَحَوَّلُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ إلا صدق النية وإرادة الخير فمهما وصح قَصْدُهُ وَصَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَتَجَرَّدَتْ لِلْخَيْرِ إِرَادَتُهُ صَارَ صَادِقًا وَصِدِّيقًا كَيْفَمَا كَانَ لَفْظُهُ ثُمَّ التَّعْرِيضُ فِيهِ أَوْلَى وَطَرِيقُهُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُهُ بَعْضُ الظَّلَمَةِ وَهُوَ فِي دَارِهِ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ خُطِّي بِأُصْبُعِكِ دَائِرَةً وَضَعِي الْأُصْبُعَ عَلَى الدَّائِرَةِ وَقُولِي لَيْسَ هُوَ هَهُنَا وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ عَنِ الْكَذِبِ وَدَفَعَ الظَّالِمَ عَنْ نفسه فكان قوله صدق وأفهم الظالم أنه ليس في الدار
فالكمال الأول في اللفظ أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضاً إلا عند الضرورة والكمال الثاني أَنْ يُرَاعِيَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي أَلْفَاظِهِ الَّتِي يُنَاجِي بِهَا رَبَّهُ كَقَوْلِهِ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات والأرض فَإِنَّ قَلْبَهُ إِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَشْغُولًا بِأَمَانِي الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهِ فَهُوَ كَذِبٌ
وكقوله إياك نعبد وقوله أَنَا عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَكَانَ لَهُ مَطْلَبٌ سِوَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ صِدْقًا وَلَوْ طُولِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ لعجز تَحْقِيقِهِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ أَوْ عَبْدًا لِدُنْيَا أَوْ عَبْدًا لِشَهَوَاتِهِ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ
وَكُلُّ مَا تَقَيَّدَ الْعَبْدُ به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام يا عبيد الدنيا وقال نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعِسَ عَبْدُ الدُّنْيَا وتعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة (3) فسمى كُلَّ مَنْ تَقَيَّدَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ عَبْدًا لَهُ
وَإِنَّمَا الْعَبْدُ الْحَقُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أعتق أولاً من غير الله تعالى فصار حراً مطلقاً فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغاً فحلت فيه العبودية لله فتشغله بالله وبمحبته وتقيد باطنه وظاهره بطاعته فلا يكون له مراد
_________
(1) حديث كان إذا أراد سفرا ورى بغيره متفق عليه من حديث كعب بن مالك
(2) حديث ليس بكاذب من أصلح بين الناس الحديث متفق عليه من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وقد تقدم
(3) حديث تعس عبد الدينار الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم(4/388)
إلا الله تعالى ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسنى منه يسمى الحرية وهو أن يعتق أيضاً عن إرادته لله من حيث هو بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى
وهذا عبد عتق عن غير الله فصار حراً ثم عاد وعتق عن نفسه فصار حراً
وصار مفقوداً لنفسه موجوداً لسيده ومولاه إن حركه تحرك وإن سكنه سكن وإن ابتلاه رضي لم يبق فيه متسع لطلب والتماس واعتراض بل هو بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل وهذا منتهى الصدق في العبودية لله تعالى
فالعبد الحق هو الذي وجوده لمولاه لا لنفسه وهذه درجة الصديقين
وأما الحرية عن غير الله فدرجات الصادقين وبعدها تتحقق العبودية لله تعالى وما قبل هذا فلا يستحق صاحبه أن يسمى صادقاً ولا صديقاً فهذا هو معنى الصدق في القول
الصدق الثاني فِي النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَاعِثٌ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ مَازَجَهُ شَوْبٌ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ بَطَلَ صِدْقُ النِّيَّةِ وصاحبه يجوز أن يسمى كاذباً كما روينا في فضيلة الإخلاص من حديث الثلاثة حين يسئل العالم ما عملت فيما علمت فقال فعلت كذا وكذا فقال الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم (1) فإنه لم يكذبه ولم يقل له لم تعمل ولكنه كذبه في إرادته ونيته
وقد قال بعضهم الصدق صحة التوحيد في القصد
وكذلك قول الله تعالى والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وقد قالوا إنك لرسول الله وهذا صدق ولكن كذبهم لا من حيث نطق اللسان بل من حيث ضمير القلب وكان التكذيب يتطرق إلى الخبر
وهذا القول يتضمن إخباراً بقرينة الحال إذ صاحبه يظهر من نفسه أن يعتقد ما يقول فكذب في دلالته بقرينة الحال على ما في قلبه فإنه كذب في ذلك ولم يكذب فيما يلفظ به فيرجع أحد معاني الصدق إلى خلوص النية وهو الإخلاص فكل صادق فلا بد وأن يكون مخلصاً
الصدق الثالث صدق العزم فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه
إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه أو بشطره أو إن لقيت عدواً في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت وإن أعطاني الله تعالى وِلَايَةً عَدَلْتُ فِيهَا وَلَمْ أَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى بظلم وميل إلى خلق
فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال لفلان شهوة صادقة
ويقال هذا المريض شهوته كاذبة مهما لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي أو كانت ضعيفة فقد يطلق الصدق ويراد به هذا المعنى
والصادق والصديق هُوَ الَّذِي تُصَادِفُ عَزِيمَتُهُ فِي الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا قُوَّةً تَامَّةً لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ وَلَا ضَعْفٌ ولا تردد بل تسخو نفسه أبداً بالعزم المصمم الجازم على الخيرات وهو كما قال عمر رضي الله عنه لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر رضي الله عنه فإنه قد وجد من نفسه العزم الجازم والمحبة الصادقة بأنه لا يتأمر مع وجود أبي بكر رضي الله عنه وأكد ذلك بما ذكره من القتل
ومراتب الصديقين في العزائم تختلف فقد يصادف العزم ولا ينتهي به إلى أن يرضى بالقتل فيه ولكن إذا خلي ورأيه لم يقدم ولو ذكر له حديث القتل لم ينقض عزمه بل في الصادقين والمؤمنين من لو خير بين أن يقتل هو أو أبو بكر كانت حياته أحب من حياة أبي بكر الصديق
الصدق الرابع فِي الْوَفَاءِ بِالْعَزْمِ فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَسْخُو بِالْعَزْمِ فِي الْحَالِ إِذْ لَا مَشَقَّةَ فِي الوعد والعزم
_________
(1) حديث الثلاثة حين سأل العالم ماذا عملت فيما علمت الحديث تقدم(4/389)
والمؤنة فِيهِ خَفِيفَةٌ فَإِذَا حُقَّتِ الْحَقَائِقُ وَحَصَلَ التَّمَكُّنُ وَهَاجَتِ الشَّهَوَاتُ انْحَلَّتِ الْعَزِيمَةُ وَغَلَبَتِ الشَّهَوَاتُ وَلَمْ يَتَّفِقِ الْوَفَاءُ بِالْعَزْمِ وَهَذَا يُضَادُّ الصِّدْقَ فِيهِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عاهدوا الله عليه فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أنس أَنَّ عَمَّهُ أنس بن النضر لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ وَقَالَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِبْتُ عَنْهُ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَشَهِدَ أُحُدًا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يا أبا عمرو إِلَى أَيْنَ فَقَالَ وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ رمية وضربة وطعنة فقالت أخته بنت النضر مَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِثِيَابِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (1) ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير وقد سقط على وجهه يوم أحد شهيداً وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر (2) وقال فضالة بن عبيد سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته قال الراوي فلا أدري قلنسوة عمر أو قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل جيد الإيمان إذا لقي العدو فكأنما يضرب وجهه بشوك الطلح أتاه سهم عاثر فقتله فهو في الدرجة الثانية ورجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة ورجل أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الرابعة (3) وَقَالَ مجاهد رَجُلَانِ خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ قُعُودٍ فَقَالَا إِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى مالا لنتصدقن فَبَخِلُوا بِهِ فَنَزَلَتْ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين وقال بعضهم إنما هو شيء نووه في أنفسهم لم يتكلموا به فقال وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يكذبون فَجَعَلَ الْعَزْمَ عَهْدًا وَجَعَلَ الْخُلْفَ فِيهِ كَذِبًا والوفاء به صدقاً
وهذا الصدق أشد من الصدق الثالث فإن الناس قد تسخو بالعزم ثم تكيع عند الوفاء لشدته عليها ولهيجان الشهوة عند التمكن وحصول الأسباب
ولذلك استثنى عمر رضي الله عنه فقال لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند القتل شيئاً لا أجده الآن لأني لا آمن أن يثقل عليها ذلك فتتغير عن عزمها
وأشار بذلك إلى شدة الوفاء بالعزم
وقال أبو سعيد الخراز رأيت في المنام كأن ملكين نزلا من السماء فقالا لي ما الصدق قلت الوفاء بالعهد فقالا لي صدقت وعرجا إلى السماء
الصدق الخامس فِي الْأَعْمَالِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ حَتَّى لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي بَاطِنِهِ لا يتصف هو به لا بأن يترك الأعمال ولكن بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر وهذا مخالف ما ذكرناه من ترك الرياء لأن
_________
(1) حديث أنس أَنَّ عَمَّهُ أنس بن النضر لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم الحديث في قتاله بأحد حَتَّى قُتِلَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ من بين رمية وضربة وطعنة ونزول رجال صدقوا الآية أخرجه الترمذى وقال حسن صحيح والنسائى في الكبرى وهو عند البخارى مختصرا ان هذه الآية نزلت في أنس بن النضر
(2) حديث وقف على مصعببن عمير وقد سقط على وجهه يوم أحد وقرأ هذه الآية أخرجه أبو نعيم في الحلية من رواية عبيد بن عمير مرسلا
(3) حديث فضالة بن عبيد عن عمر بن الخطاب الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان الحديث أخرجه الترمذى وقال حسن(4/390)
المرائي هو الذي يقصد ذلك ورب واقف على هيئة الخشوع في صلاته ليس يقصد به مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة فمن ينظر إليه يراه قائمابين يدي الله تعالى وهو بالباطن قَائِمٌ فِي السُّوقِ بَيْنَ يَدَيْ شَهْوَةٍ مِنْ شهواته فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباهو فيه كاذب وهو مطالب بالصدق في الأعمال وكذلك قد يمشي الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك الوقار فهذا غير صادق في عمله وإن لم يكن ملتفتاً إلى الخلق ولا مرائياً إياهم ولا ينجو من هذا إلا باستواء السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ مِثْلَ ظَاهِرِهِ أو خيراً من ظاهره
ومن خيفة ذلك اختار بعضهم تشويش الظاهر ولبس ثياب الأشرار كيلا يظن به الخير بسبب ظاهره فيكون كاذباً في دلالة الظاهر على الباطن
إذن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي واجعل علانيتي صالحة (1) وقال يزيد بن الحارث إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور وأنشدوا
إِذَا السِّرُّ وَالْإِعْلَانُ فِي الْمُؤْمِنِ اسْتَوَى ... فَقَدْ عَزَّ فِي الدَّارَيْنِ وَاسْتَوْجَبَ الثَّنَا
فَإِنْ خَالَفَ الْإِعْلَانُ سِرًّا فَمَا لَهُ ... عَلَى سَعْيِهِ فَضْلٌ سوى الكد والعنا
فما خالص الدينار في السوق نافق ... ومغشوشه المردود لا يقتضى المنا
وقال عطية بن عبد الغافر إذا وافقت سريرة المؤمن علانيته باهى الله به الملائكة يقول هذا عبدي حقاً
وقال معاوية بن قرة من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار
وقال عبد الواحد بن زيد كان الحسن إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به وإذا نهي عن شيء كان من أترك الناس له
ولم أر أحداً قط أشبه سريرة بعلانية منه
وكان أبو عبد الرحمن الزاهد يقول إلهي عاملت الناس فيما بيني وبينهم بالأمانة وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة ويبكي
وقال أبو يعقوب النهر جوري الصدق موافقة الحق في السر والعلانية
فإذن مساواة السريرة للعلانية أحد أنواع الصدق
الصدق السادس وهو أعلى الدرجات وأعزها الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور
فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه كما يقال فلان صدق القتال
ويقال هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة
وقال الله تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثم لم يرتابوا إلى قوله أولئك هم الصادقون وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله أولئك الذين صدقوا وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له سألناك عن الإيمان فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ هذه الآية // حديث أبى ذر سألته عن الإيمان فقرأ قوله تعالى {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} إلى قوله {أولئك الذين صدقوا} رواه محمد بن نصر المروزى في تعظيم قدر الصلاة بأسانيد منقطعة لم أجد له اسنادا
ولنضرب للخوف مثلاً فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفاً ينطلق عليه الاسم
_________
(1) حديث اللهم أجعل سريرتي خيرامن علانيتي الحديث تقدم ولم أجده(4/391)
ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة أما تراه إذا خاف سلطاناً أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه ويتعذر عليه أكله ونومه وينقسم عليه فكره حتى لا ينتفع به أهله وولده وقد ينزعج عن الوطن فيستبدل بالأنس الوحشة وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار كل ذلك خوفاً من درك المحذور
ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لم أر مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها (1) تقدم فالتحقيق في هذه الأمور عزيز جداً ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها ولكن لكل عبد منه حظ بحسب حاله إما ضعيف وإما قوي فإذا قوي سمي صادقاً فيه
فمعرفة الله تعالى وتعظيمه والخوف منه لا نهاية لها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال لا تطيق ذلك قال بلى بل أرني فواعده البقيع في ليلة مقمرة فأتاه فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو به قد سد الأفق يعني جوانب السماء فوقع النبي صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فأفاق وقد عاد جبريل لصورته الأولى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ظننت أن أحداً من خلق الله هكذا قال وكيف لو رأيت إسرافيل إن العرش لعلى كاهله وإن رجليه قد مرقتا تحت تخوم الأرض السفلى وإنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع (2) يعني كالعصفور الصغير فانظر ما الذي يغشاه من العظمة والهيبة حتى يرجع إلى ذلك الحد وسائر الملائكة ليسوا كذلك لتفاوتهم في المعرفة فهذا هو الصدق في التعظيم
وقال جابر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله تعالى (3) يعني الكساء الذي يلقى على ظهر البعير وكذلك الصحابة كانوا خائفين وما كانوا بلغوا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تنظر الناس كلهم حمقى في دين الله
وقال مطرف ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الحمق أهون من بعض وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير (4) فالصادق إذن في جميع هذه المقامات عزيز
ثُمَّ دَرَجَاتُ الصِّدْقِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْجَمِيعِ فَهُوَ الصديق حقاً
قال سعد بن معاذ ثلاثة أنا فيهن قوي وفيما سواهن ضعيف ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي حتى أفرغ منها ولا شيعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها حتى يفرغ من دفنها وما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول قولاً إلا علمت أنه حق فقال ابن المسيب ما ظننت أن هذه الخصال تجتمع إلا في النبي
صلى الله عليه وسلم فهذا صدق في هذه الأمور وكم قوم من جلة الصحابة قد أدوا الصلاة واتبعوا الجنائز ولم يبلغوا هذا المبلغ فهذه هي درجات الصدق ومعانيه
والكلمات المأثورة عن المشايخ في حقيقة الصدق في الأغلب لا تتعرض إلا لآحاد هذه المعاني نعم قد قال أبو بكر الوراق الصدق ثلاثة صدق التوحيد وصدق الطاعة وصدق المعرفة
فصدق التوحيد لعامة المؤمنين قال الله تعالى {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} وصدق الطاعة لأهل العلم
_________
(1) حديث لم أر مثل النار نام هاربها الحديث
(2) حديث قال لجبريل أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال لا تطيق ذلك الحديث تقدم في كتاب الرجاء والخوف أخصر من هذا والذى ثبت في الصحيح أنه رأى جبريل في صورته مرتين
(3) حديث مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله الحديث أخرجه محمد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة والبيهقى في دلائل النبوة من حديث أنس وفيه الحارث بن عبيد الإيادى ضعفه الجمهور وقال البيهقى ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن محمد بن عمير بن عطارد وهذا مرسل
(4) حديث لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير لم أجد له أصلا في حديث مرفوع(4/392)
والورع وصدق المعرفة لأهل الولاية الذين هم أوتاد الأرض وكل هذا يدور على ما ذكرناه في الصدق السادس ولكنه ذكر أقسام ما فيه الصدق وهو أيضاً غير محيط بجميع الأقسام وقال جعفر الصادق الصدق هو المجاهدة وأن لا تختار على الله غيره كما لم يختر عليك غيرك فقال تعالى {هو اجتباكم} وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام إني إذا أحببت عبداً ابتليته ببلايا لا تقوم لها الجبال لأنظر كيف صدقه فإن وجدته صابراً اتخذته ولياً وحبيباً وإن وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولا أبالي
فإذن من علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعاً وكراهة إطلاع الخلق عليها
تم كتاب الصدق والإخلاص يتلوه كتاب المراقبة والمحاسبة والحمد لله
كتاب المراقبة والمحاسبة وهو الكتاب الثامن من ربع المنجيات من كتاب
إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على كل جارحة بما اجترحت المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت الذي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات والأرض تحركت أو سكنت المحاسب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت المتطول بالعفو عن من معاصيهم وإن كثرت وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت وتنظر فيما قدمت وأخرت فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشفيت في صعيد القيامة وهلكت وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت فسبحان من عمت نعمته كافة العباد وشملت واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت فبنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت وبيمن توفيقه تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت وبحسن هدايته انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت وبتأييده ونصرته انقطعت مكايد الشيطان واندفعت وبلطف عنايته تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت وبتيسيره تيسرت من الطاعات ما تيسرت فمنه العطاء والجزاء والإبعاد والإدناء والإسعاد والإشقاء والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله سادة الأصفياء وعلى أصحابه قادة الأتقياء
أما بعد فقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بنا حاسبين} وَقَالَ تَعَالَى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ ربك أحداً} وَقَالَ تَعَالَى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كل شيء شهيد} وَقَالَ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كسبت وهم لا يظلمون} وَقَالَ تَعَالَى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بعيداً ويحذركم الله نفسه} وَقَالَ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في أنفسكم فاحذروه} فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ وَأَنَّهُمْ سَيُنَاقَشُونَ(4/393)
فِي الْحِسَابِ وَيُطَالَبُونَ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الْخَطَرَاتِ واللحظات وتحققوا أنه لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْطَارِ إِلَّا لُزُومُ الْمُحَاسَبَةِ وَصِدْقُ الْمُرَاقَبَةِ وَمُطَالَبَةُ النَّفْسِ فِي الْأَنْفَاسِ وَالْحَرَكَاتِ وَمُحَاسَبَتُهَا فِي الْخَطِرَاتِ وَاللَّحَظَاتِ فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ فِي الْقِيَامَةِ حِسَابُهُ وَحَضَرَ عِنْدَ السُّؤَالِ جَوَابُهُ وَحَسُنَ مُنْقَلَبُهُ وَمَآبُهُ وَمَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ وَطَالَتْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَقَفَاتُهُ وَقَادَتْهُ إِلَى الخزي والمقت سيئاته فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال عز من قائل يا أيها الذين آمنو اصبروا وصابروا ورابطوا فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة ثم بالمراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمعاقبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة
فكانت لهم في المرابطة ست مقامات ولا بد من شرحها وبيان حقيقتها وفضيلتها وتفصيل الأعمال فيها وأصل ذلك المحاسبة ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة
فلنذكر شرح هذه المقامات وبالله التوفيق
المقام الأول من المرابطة: المشارطة
اعلم أن مطالب المتعاملين في التجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الربح وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة وإنما مطالبة وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحها قال الله تعالى {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة
والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله وكما أن الشريك يصير خصماً منازعاً يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولاً ويراقبه ثانياً ويحاسبه ثالثا ويعاقبه أو يعاتبه رابعاً فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولاً فيوظف عليها الوظائف ويشرط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويحزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال
ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيراً من تدقيقه في أرباح الدنيا مع أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى ثم كيفما كانت فمصيرها إلى التصرم والانقضاء ولا خير في خير لا يدوم بل شر لا يدوم خير من خير لا يدوم لأن الشر الذي لا يدوم إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائماً وقد انقضى الشر والخير الذي لا يدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائماً وقد انقضى الخير
ولذلك قيل
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا فختم عَلَى كُلِّ ذِي حَزْمٍ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا فِي حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا وَخَطَرَاتِهَا وَخُطُوَاتِهَا فَإِنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْعُمُرِ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا عِوَضَ لَهَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا كَنْزٌ مِنَ الْكُنُوزِ لَا يَتَنَاهَى نَعِيمُهُ أبد الآباد فانقباض هَذِهِ الْأَنْفَاسِ ضَائِعَةً أَوْ مَصْرُوفَةً إِلَى مَا يَجْلِبُ الْهَلَاكَ خُسْرَانٌ عَظِيمٌ هَائِلٌ لَا تَسْمَحُ به نفس عاقل
فإذا أَصْبَحَ الْعَبْدُ وَفَرَغَ مِنْ فَرِيضَةِ الصُّبْحِ يَنْبَغِي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته
فيقول للنفس مَا لِي بِضَاعَةٌ إِلَّا الْعُمُرُ وَمَهْمَا فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رَأْسُ الْمَالِ وَوَقَعَ الْيَأْسُ عَنِ التِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ وَهَذَا الْيَوْمُ الْجَدِيدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللَّهُ فِيهِ وَأَنْسَأَ فِي أَجْلِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِهِ وَلَوْ تَوَفَّانِي لَكُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يُرْجِعَنِي إِلَى الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى أَعْمَلَ فِيهِ صَالِحًا فَاحْسَبِي(4/394)
أَنَّكِ قَدْ تُوُفِّيتِ ثُمَّ قَدْ رُدِدْتِ فَإِيَّاكِ ثُمَّ إِيَّاكِ أَنْ تُضَيِّعِي هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنَ الْأَنْفَاسِ جَوْهَرَةٌ لَا قِيمَةَ لها واعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وقد ورد في الخبر أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلته عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح منها نتنها ويغشاه ظلامها وهي الساعة التي عصي فيها فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسؤه (1) وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا فيتحسر على خلوها ويناله من غبن ذلك ما ينال القادر على الربح الكثير والملك الكبير إذا أهمله وتساهل فيه حتى فاته وناهيك به حسرة وغبناً وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تَمِيلِي إِلَى الْكَسَلِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ فَيَفُوتَكِ مِنْ دَرَجَاتِ عِلِّيِّينَ مَا يُدْرِكُهُ غَيْرُكِ وَتَبْقَى عِنْدَكِ حَسْرَةٌ لَا تُفَارِقُكِ وَإِنْ دَخَلْتِ الْجَنَّةَ فَأَلَمُ الغبن وحسرته لا يطاق وإن كان دون ألم النار
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ هَبْ أَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ عُفِيَ عَنْهُ أَلَيْسَ قَدْ فَاتَهُ ثَوَابُ الْمُحْسِنِينَ أَشَارَ بِهِ إِلَى الْغَبْنِ وَالْحَسْرَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} فَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِنَفْسِهِ فِي أَوْقَاتِهِ
ثُمَّ لْيَسْتَأْنِفْ لَهَا وَصِيَّةً فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ وَهِيَ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ وتسليمها إليها فإنها رعايا خادمة لنفسه في هذه التجارة وبها تتم أعمال هذه التجارة وإن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم وإنما تتعين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء فَيُوصِيَهَا بِحِفْظِهَا عَنْ مَعَاصِيهَا أَمَّا الْعَيْنُ فَيَحْفَظُهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِمَحْرَمٍ أَوْ إِلَى عَوْرَةِ مُسْلِمٍ أَوِ النَّظَرِ إلى مسلم بعين الاحتقار بل عن كل فضول مستغنى عنه فإن الله تعالى يسأل عبده عن فضول النظر كما يسأله عن فضول الكلام ثم إذا صرفها عن هذا لم تقنع بِهِ حَتَّى يَشْغَلَهَا بِمَا فِيهِ تِجَارَتُهَا وَرِبْحُهَا وَهُوَ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ لِلِاقْتِدَاءِ وَالنَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمُطَالَعَةِ كُتُبِ الْحِكْمَةِ لِلِاتِّعَاظِ وَالِاسْتِفَادَةِ
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا فِي عُضْوٍ عُضْوٍ لَا سِيَّمَا اللِّسَانُ وَالْبَطْنُ أَمَّا اللسان فلأنه منطلق بالطبع ولا مؤنة عَلَيْهِ فِي الْحَرَكَةِ وَجِنَايَتُهُ عَظِيمَةٌ بِالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَمَذَمَّةِ الْخَلْقِ وَالْأَطْعِمَةِ وَاللَّعْنِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْمُمَارَاةِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ آفَاتِ اللِّسَانِ فَهُوَ بِصَدَدِ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ أَنَّهُ خُلِقَ للذكر والتذكير وتكرار العلم والتعليم وإرشاد عباد اللَّهِ إِلَى طَرِيقِ اللَّهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وسائر خيراته فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول النهار إلا في الذكر فنطق المؤمن ذكر ونظره وعبرة وصمته فكرة و {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد} وَأَمَّا الْبَطْنُ فَيُكَلِّفُهُ تَرْكَ الشَّرَهِ وَتَقْلِيلَ الْأَكْلِ من الحلال
_________
(1) حديث ينشر للعبد كل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة من حسناته الحديث بطوله لم أجد له أصلا(4/395)
واجتناب الشبهات ويمنعه من الشهوات ويقتصر على قدر الضرورة
ويشرط على نفسه أنها إن خالفت شيئاً من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن ليفوتها أكثر مما نالته بشهواتها
هكذا يَشْرِطُ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعاتها
ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ وَصِيَّتَهَا فِي وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ الَّتِي تتكرر عليه في اليوم والليلة ثم النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها
وهذه شروط يفتقر إليها في كل يوم ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك على نفسه أياماً وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها استغنى عن المشارطة فيها وإن أطاعت في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقي ولكن لا يخلو كل يوم عن مهم جديد وواقعة حادثة لها حكم جديد ولله عليه في ذلك حق ويكثر هذا على من يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا مِنْ وِلَايَةٍ أو تجارة أو تدريس إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جَدِيدَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى نَفْسِهِ الِاسْتِقَامَةَ فِيهَا وَالِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ فِي مَجَارِيهَا وَيُحَذِّرَهَا مَغَبَّةَ الْإِهْمَالِ وَيَعِظَهَا كَمَا يُوعَظُ الْعَبْدُ الْآبِقُ الْمُتَمَرِّدُ فَإِنَّ النَّفْسَ بِالطَّبْعِ مُتَمَرِّدَةٌ عَنِ الطَّاعَاتِ مُسْتَعْصِيَةٌ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَكِنَّ الْوَعْظَ وَالتَّأْدِيبَ يُؤَثِّرُ فِيهَا {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}
فهذا وما يجري مجراه هو أول مقام المرابطة مع النفس وهي محاسبة قبل العمل
والمحاسبة تارة تكون بعد العمل وتارة قبله للتحذير قال الله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أنفسكم فاحذروه} وهذا للمستقبل
وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة
فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وقال تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فاسق بنبأ فتبينوا} وقال تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ذكر ذلك تحذيراً وتنبيهاً للاحتراز منه في المستقبل
وروى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فامضه وإن كان غياً فانته عنه (1)
وقال بعض الحكماء إذا أردت أن يكون العقل غالباً للهوى فلا تعمل بقضاءالشهوة حتى تنظر العاقبة فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة وقال لقمان إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة وروى شداد بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى على الله (2) دان نفسه أي حاسبها ويوم الدين يوم الحساب وقوله {أئنا لمدينون} أي لمحاسبون
وَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وتهيئوا للعرض الأكبر وكتب إلى أبي موسى الأشعري حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة
وقال لكعب كيف تجدها في كتاب الله قال ويل لديان الأرض من ديان السماء فعلاه بالدرة وقال إلا من حاسب نفسه فقال كعب ياأمير المؤمنين إنها إلى جنبها في التوراة ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه
وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال من دان نفسه يعمل لما بعد الموت
ومعناه وزن الأمور أولا وقدرها ونظر فيها وتدبرها ثم أقدم عليها فباشرها المرابطة الثانية: المراقبة
إذا أوصى الإنسان نفسه وشرط عليها ما ذكرناه فلا يبقى إلا المراقبة لها عند الخوض في الأعمال وملاحظاتها
_________
(1) حديث عبادة بن الصامت إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته الحديث تقدم
(2) حديث الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت الحديث تقدم(4/396)
بالعين الكالئة فإنها إن تركت طغت وفسدت
ولنذكر فضيلة المراقبة ثم درجاتها
أما الفضيلة فقد سأل جبريل عليه السلام عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تراه (1) وقال عليه السلام اعبد اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ (2) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَفَمَنْ هُوَ قائم على كل نفس بما كسبت وَقَالَ تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى وقال الله تعالى إن الله كان عليكم رقيبا وقال تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هم بشهاداتهم قائمون وقال ابن المبارك لرجل راقب الله تعالى فسأله عن تفسيره فقال كن أبدا كأنك ترى الله عز وجل
وقال عبد الواحد بن زيد إذا كان سيدي رقيبا على فلا أبالى بغيره
وقال أبو عثمان المغربي أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريقة المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم وقال ابن عطاء أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات وقال الجريري أمرنا هذا مبنى على أصلين أن تلزم نفسك المراقبة لله عز وجل ويكون العلم على ظاهرك قائما وقال أبو عثمان قال لي أبو حفص إذا جلست للناس فكن واعظا لنفسك وقلبك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك
وحكى أنه كان لبعض المشايخ من هذه الطائفة تلميذ شاب وكان يكرمه ويقدمه فقال له بعض أصحابه كيف تكرم هذا وهو شاب ونحن شيوخ فدعا بعدة طيور وناول كل واحد منهم طائرا وسكينا وقال ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد ودفع إلى الشاب مثل ذلك وقال له كما قال لهم فرجع كل واحد بطائره مذبوحا ورجع الشاب والطائر حي في يده فقال ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك فقال لم أجد موضعا لا يراني فيه أحد إذ الله مطلع على فى كل مكان فاستحسنوا منه هذه المراقبة وقالوا حق لك أن تكرم
وحكى أن زليخا لما همت بيوسف عليه السلام قامت فغطت وجه صنم كان لها فقال يوسف مالك أتستحيين من مراقبة جماد ولا أستحيى من مراقبة الملك الجبار وحكى عن بعض الأحداث أنه راود جارية عن نفسها فقالت له ألا تستحيى فقال ممن أستحيى وما يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها وَقَالَ رَجُلٌ للجنيد بِمَ أَسْتَعِينُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ النَّاظِرِ إِلَيْكَ أسبق من نظرك إلى المنظور إليه
وقال الجنيد إنما يتحقق بالمراقبة من يخاف على فوت حظه من ربه عز وجل وعن مالك بن دينار قال جنات عدن من جنات الفردوس وفيها حور خلقن من ورد الجنة قيل له ومن يسكنها قال يقول الله عز وجل وإنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني والذين انثنت أصلابهم من خشيتي وعزتي وجلالى إنى لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب
وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال أولها علم القلب بقرب الله تعالى وقال المرتعش المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة
ويروى أن الله تعالى قال لملائكته أنتم موكلون بالظاهر وأنا الرقيب على الباطن
وقال محمد بن علي الترمذي اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك وأجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمة عنك وأجعل طاعتك لمن لا تستغنى عنه وأجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه
وقال سهل لم يتزين القلب بشىء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهدة حيث كان وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ لِمَنْ رَاقَبَ رَبَّهُ عَزَّ وجل وحاسب نفسه وتزود لمعاده وسئل ذو النون بم ينال العبد الجنة فقال بخمس استقامة ليس فيها روغان واجتهاد ليس معه سهوومراقبة الله تعالى في السر والعلانية وانتظار الموت بالتأهب
_________
(1) حديث متفق عليه من حديث أبى هريرة ورواه مسلم من حديث عمر وقد تقدم
(2) حديث اعبد الله كأنك تراه الحديث تقدم(4/397)
له ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب وقد قيل
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب ... وأن غدا إذا للناظرين قريب
وقال حميد الطويل لسليمان بن علي عظنى فقال لئن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت وقال سفيان الثورى عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة
وقال فرقد السنجى إن المنافق ينظر فإذا لم ير أحدا دخل مدخل السوء وإنما يراقب الناس ولا يراقب الله تعالى
وقال عبد الله بن دينار خرجت مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرسنا في بعض الطريق فانحدر عليه راع من الجبل فقال له يا راعي بعنى شاة من هذه الغنم فقال إنى مملوك فقال قل لسيدك أكلها الذئب قال فأين الله قال فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة
بيان حقيقة المراقبة ودرجاتها
أعلم أن حقيقة المراقبة هي ملاحظة الرقيب والصراف الهم إليه فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره يقال أنه يراقب فلانا ويراعى جانبه ويعنى بهذه المراقبة حَالَةٌ لِلْقَلْبِ يُثْمِرُهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَتُثْمِرُ تِلْكَ الْحَالَةُ أَعْمَالًا فِي الْجَوَارِحِ وَفِي الْقَلْبِ
أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب واشتغاله به والتفاته إليه وملاحظتهإياه وانصرافه إليه
وأما المعرفة التي تثمر هذه الحالة فهو الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ رَقِيبٌ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَأَنَّ سِرَّ الْقَلْبِ فِي حَقِّهِ مَكْشُوفٌ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْبَشَرَةِ للخلق مكشوف بل أشد من ذلك
فهذه المعرفة إذا صارت يقينا أعنى أنها خلت عن الشك ثم استولت بعد ذلك على القلب قهرته فرب علم لا شك فيه لا يغلب على القلب كالعلم بالموت فإذا استولت على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب وصرفت همه إليه والموقنون بهذه المعرفة هم المقربون وهم ينقسمون إلى الصديقين وإلى أصحاب اليمين فمراقبتهم على درجتين
الدرجة الأولى مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم والإجلال وهو أن يصير القلب مستغرقا بملاحظة ذلك الجلال ومنكسرا تحت الهيبة فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير أصلا وهذه مراقبة لا نطول النظر في تفصيل أعمالها فإنها مقصورة على القلب
أما الجوارح فإنها تتعطل عن التلفت إلى المباحات فضلا عن المحظورات وإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة بها فلا تحتاج إلى تدبير وتثبيت في حفظها على سنن السداد
بل يسدد الرعية من ملك كلبة الراعى والقلب هو الراعى فإذا صار مستغرقا بالمعبود صارت الجوارح مستعملة جارية على السداد والاستقامة من غير تكلف وهذا هو الذي صار همه هما واحدا فكفاه الله سائر الهموم
ومن نال هذه الدرجة فقد يغفل عن الخلق حتى لا يبصر من يحضر عنده وهو فاتح عينيه ولا يسمع ما يقال له مع أنه لا صمم به وقد يمر على ابنه مثلا فلا يكلمه حتى كان بعضهم يجري عليه ذلك فقال لمن عاتبه إذا مررت بي فحركنى
ولا تستبعد هذا فإنك تجد نظير هذا في القلوب المعظمة لملوك الأرض حتى إن خدم الملك قد لا يحسون بما يجري عليهم في مجالس الملوك لشدة استغراقهم بهم بل قد يشتغل القلب بمهم حقير من مهمات الدنيا فيغوص(4/398)
الرجل في الفكر فيه ويمشى فربما يجاوز الموضع الذي قصده وينسى الشغل الذي نهض له
وقد قيل لعبد الواحد ابن زيد هل تعرف في زمانك هذا رجلا قد اشتغل بحاله عن الخلق فقال ما أعرف إلا رجلا سيدخل عليكم الساعة فما كان إلا سريعا حتى دخل عتبه الغلام فقال له عبد الواحد بن زيد من أين جئت يا عتبه فقال من موضع كذا وكان طريقه على السوق فقال من لقيت في الطريق فقال ما رأيت أحدا
ويروى عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه مر بامرأة فدفعها فسقطت على وجهها فقيل له لم فعلت هذا فقال ما ظننتها إلا جدارا
وحكى عن بعضهم أنه قال مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيدا منهم فتقدمت إليه فأردت أن أكلمه فقال ذكر الله تعالى أشهى فقلت وحدك فقال معي ربي وملكاي فقلت من سبق من هؤلاء فقال من غفر الله له فقلت أين الطريق فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال أكثر خلقك شاغل عنك فهذا كلام مستغرق بمشاهدة الله تعالى لا يتكلم إلا منه ولا يسمع إلا فيه
فهذا لا يحتاج إلى مراقبة لسانة وجوارحه فإنها لا تتحرك إلا بما هو فيه
ودخل الشبلى على أبي الحسين النووي وهو معتكف فوجده ساكنا حسن الاجتماع لا يتحرك من ظاهرة شيء فقال له من أين أخذت هذه المراقبة والسكون فقال من سنور كانت لنا فكانت إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر لا تتحرك لها شعرة
وقال أبو عبد الله بن خفيف خرجت من مصر أريد الرملة للقاء أبي على الروذبارى فقال لي عيسى بن يونس المصري المعروف بالزاهد وأن في صور شابا وكهلا قد اجتمعا على حال المراقبة فلو نظرت إليهما نظرة لعلك تستفيد منهما فدخلت صورا وأنا جائع عطشان وفي وسطى خرقة وليس على كتفي شيء فدخلت المسجد فإذا بشخصين قاعدين مستقبلى القبلة فسلمت عليهما فما أجابانى فسلمت ثانية وثالثة فلم أسمع الجواب فقلت نشدتكما بالله إلا رددتما على السلام فرفع الشاب رأسه من مرقعته فنظر إلى وقال يا ابن خفيف الدنيا قليل ومابقى من القليل إلا القليل فخذ من القليل الكثير يا ابن خفيف ما أقل شغلك حتى تتفرغ إلى لقائنا قال فأخذ بكليتي ثم طأطأ رأسه في المكان فبقيت عندهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب جوعي وعطشي وعنائي فلما كان وقت العصر قلت عظنى فرفع رأسه إلى وقال يا ابن خفيف نحن أصحاب المصائب ليس لنا لسان العظة فبقيت عندهما ثلاثة أيام لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا رأيتهما أكلا شيئا ولا شربا فلما كان اليوم الثالث قلت في سري أحلفهما أن يعظاني لعلى أن أنتفع اضطرها فرفع الشاب رأسه وقال لي يا ابن خفيف عليك بصحبة من يذكرك الله رؤيته وتقع هيبته على قلبك يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله والسلام قم عنا فهذه درجة المراقبين الذين غلب على قلوبهم الإجلال والتعظيم فلم يبق فيهم متسع لغير ذلك
الدرجة الثانية مراقبة الورعين من أصحاب اليمين وهم قوم غلب يقين اطلاع الله على ظاهرهم وباطنهم وعلى قلوبهم ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال إنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة
نعم غلب عليهم الحياء من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعا عليهم فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة
وتعرف اختلاف الدرجتين بالمشاهدات فإنك في خلوتك قد تتعاطى أعمالا فيحضرك صبي أو امرأة فتعلم أنه مطلع عليك فتستحيى منه فتحسن جلوسك وتراعى أحوالك لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء فإن(4/399)
مشاهدته وإن كانت لا تدهشك ولا تستغرقك فإنها تهيج الحياء منك
وقد يدخل عليك ملك من الملوك أو كبير من الأكابر فيستغرقك التعظيم حتى تترك كل ما أنت فيه شغلا به لا حياء منه فهكذا تختلف مراتب العباد في مراقبة الله تعالى
ومن كان في هذه الدرجة فيحتاج أن يراقب جميع حركاته وسكناته وخطراته ولحظاته وبالجملة جميع اختياراته وله فيها نَظَرَانِ نَظَرٌ قَبْلَ الْعَمَلِ وَنَظَرٌ فِي الْعَمَلِ أما قبل العمل فلينظر أن ما ظهر له وتحرك بفعله خاطره أهو لله خاصة أو هو في هوى النَّفْسِ وَمُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ وَيَتَثَبَّتُ حَتَّى يَنْكَشِفَ لَهُ ذَلِكَ بِنُورِ الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْضَاهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ وَانْكَفَّ عَنْهُ ثُمَّ لَامَ نَفْسَهُ عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهِ وَهَمِّهِ بِهِ وَمَيْلِهِ إليه وعرفها سوء فعلها وسعيها في فضيحتها وأنها عدوة نفسها إن لم يتداركها الله بعصمته
وهذا التوقف في بداية الأمور إلى حد البيان واجب محتوم لا محيص لأحد عنه فإن في الخبر أنه ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين الديوان الأول لم والثاني كيف والثالث لمن (1) ومعنى لم أي لم فعلت هذا أكان عليك أن تفعله لمولاك أو ملت إليه بشهوتك وهواك فإن سلم منه بأن كان عليه أن يعمل ذلك لمولاه سئل عن الديوان الثاني فقيل له كيف فعلت هذا فإن لله في كل عمل شرطا وحكما لا يدرك قدره ووقته وصفته إلا بعلم فيقال له كيف فعلت أبعلم محقق أم بجهل وظن فإن سلم من هذا نشر الديوان الثالث وهو المطالبة بالإخلاص فيقال له لمن عملت ألوجه الله خالصا وفاء بقولك لا إله إلا الله فيكون أجرك على الله أو لمراءاة خلق مثلك فخذ أجرك منه أم عملته لتنال عاجل دنياك فقد وفيناك نصيبك من الدنيا أم عملته بسهو وغفلة فقد سقط أجرك وحبط عملك وخاب سعيك وإن عملت لغيري فقد استوجبت مقتى وعقابي إذ كنت عبدا لي تأكل رزقي وتترفه بنعمتي ثم تعمل لغيري أما سمعتني أقول إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ويحك أما سمعتني أقول ألا لله الدين الخالص فإذا عرف العبد أنه بصدد هذه المطالبات والتوبيخات طالب نفسه قبل أن تطالب وأعد للسؤال جوابا وليكن الجواب صوابا فلا يبدئ ولا يعيد إلا بعد التثبت ولايحرك جفنا ولا أنمله إلا بعد التأمل
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ إن الرجل ليسئل عن كحل عينيه وعن فته الطين بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه (2) حديث سعد حين أوصاه سلمان أن اتق الله عند همك إذا هممت أخرجه أحمد والحاكم وصححه وهذا القدر منه موقوف وأوله مرفوع تقدم // وقال محمد بن علي إن المؤمن وقاف متأن يقف عند همه ليس كحاطب ليل
فهذا هو النظر الأول في هذه المراقبة ولا يخلص من هذا إلا العلم المتين والمعرفة الحقيقة بأسرار الأعمال وأغوار النفس ومكايد الشيطان فمتى لم يعرف نفسه وربه وعدوة إبليس ولم يعرف ما يوافق هواه ولم يميز بينه وبين ما يحبه الله ويرضاه في نيته وهمته وفكرته وسكونه وحركته فلا يسلم في هذه المراقبة بل الأكثرون يرتكبون الجهل فيما يكرهه الله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولا تظنن أن الجاهل بما يقدر على التعلم فيه يعذر هيهات بل طلب العلم فريضة على كل مسلم ولهذا كانت ركعتان من عالم
_________
(1) حديث ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وان صغرت ثلاثة دواوين الأول لم والثاني كيف والثالث لمن لم أقف له على أصل
(2) حديث قال لمعاذ إن الرجل ليسأل عن كحل عينيه وقال الحسن كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت فإن كان لله أمضاه
وقال الحسن رحم الله تعالى عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر
وقال في حديث سعد حين أوصاه سلمان اتق الله عند همك إذا هممت(4/400)
أفضل من ألف ركعة من غير عالم لأنه يعلم آفات النفوس ومكايد الشيطان ومواضع الغرور فيتقى ذلك والجاهل لا يعرفه فكيف يحترز منه فلا يزال الجاهل في تعب والشيطان منه في فرح وشماته فنعوذ بالله من الجهل والغفلة فهو رأس كل شقاوة وأساس كل خسران
فحكم الله تعالى على كل عبد أن يراقب نفسه عند همه بالفعل وسعيه بالجارحة فيتوقف عن الهم وعن السعي حتى ينكشف له بنور العلم أنه لله تعالى فيمضيه أو هو لهوى النفس فيتقيه ويزجر القلب عن الفكر فيه وعن الهم به فإن الخطوة الأولى في الباطل إذا لم تدفع أورثت الرغبة والرغبة تورث الهم والهم يورث جزم القصد والقصد يورث الفعل والفعل يورث البوار والمقت فينبغى أن تحسم مادة الشر من منبعه الأول وهو الخاطر فإن جميع ما وراءه يتبعه
ومهما أشكل على العبد ذلك وأظلمت الواقعة فلم ينكشف له فيتفكر في ذلك بنور العلم ويستعيذ بالله من مكر الشيطان بواسطة الهوى فإن عجز عن الاجتهاد والفكر بنفسه فيستضىء بنور علماء الدين وليفر من العلماء المضلين المقبلين على الدنيا فراره من الشيطان بل أشد فقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام لاتسأل عنى عالما أسكره حب الدنيا فيقطعك عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي فالقلوب المظلمة بحب الدنيا وشدة الشرة والتكآلب عليها محجوبة عن نور الله تعالى فإن مستضاء أنوار القلوب حضرة الربوبية فكيف يستضئ بها من أستدبرها وأقبل على عدوها وعشق بغيضها ومقيتها وهي شهوات الدنيا فلتكن همه المريد أولا في أحكام العلم أو في طلب عالم معرض عن الدنيا أو ضعيف الرغبة فيها إن لم يجد من هو عديم الرغبة فيها وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات (1) جمع بين الأمرين وهما متلازمان حقا فمن ليس له عقل وازع عن الشهوات فليس له بصر ناقد في الشبهات
ولذلك قال عليه السلام من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا (2) فما قدر العقل الضعيف الذي سعد الآدمي به حتى يعمد إلى محوه ومحقه بمقارنة الذنوب ومعرفة آفات الأعمال قد اندرست في هذه الأعصار فإن الناس كلهم قد هجروا هذه العلوم واشتغلوا بالتوسط بين الخلق في الخصومات الثائرة في اتباع الشهوات وقالوا هذا هو الفقة وأخرجوا هذا العلم الذي هو فقه الدين عن جملة العلوم وتجردوا لفقه الدنيا الذى ما قصد به الا دفع الشواغل عن القلوب ليتفرغ لفقه الدين فكان فقه الدنيا من الدين بواسطة هذا الفقه
وفي الخبر أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتى عليكم زمان خيركم فيه المتثبت (3) ولهذا توقف طائفة من الصحابة في القتال مع أهل العراق وأهل الشام لما أشكل عليهم الأمر كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة وغيرهم
فمن لم يتوقف عند الاشتباه كان متبعا لهواه معجبا برأيه وكان ممن وَصَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قال فإذا رأيت شحا مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وكل من خاض في شبهه بغير تحقيق فقد خالف قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم (4) وقوله عليه السلام إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (5) وأراد به ظنا بغير دليل كما يستفتى بعض العوام قلبه فيما أشكل عليه ويتبع ظنه ولصعوبة هذا الأمر وعظمة كان دعاء الصديق رضي الله تعالى عنه اللهم أرني الحق حقاً وارزقنى اتباعه وأرني الباطل باطلا وارزقنى اجتنابه ولا تجعله متشابها على فأتبع الهوى وقال عيسى عليه
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عمران بن حصين وفيه حفص بن عمر العدنى ضعفه الجمهور
(2) حديث من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا تقدم ولم أجده
(3) حديث أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتي عليكم زمان خيركم فيه المتثبت لم أجده
(4) حديث فإذا رأيت شحا مطاعاً وهوى متبعا الحديث تقدم
(5) حديث إياكم والظن الحديث تقدم(4/401)
السلام الأمور ثلاثة أمر استبان رشده فاتبعه وأمر استبان غيه فاجتنبه وأمر أشكل عليك فكله إلى عالمه (1) وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك أن أقول في الدين بغير علم (2) فأعظم نعمة الله على عباده هو العلم وكشف الحق والإيمان عبارة عن نوع كشف وعلم ولذلك قال تعالى امتنانا على عبده {وكان فضل الله عليك عظيما} وأراد به العلم وقال تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تعلمون} وقال تعالى {إن علينا للهدى} وقال {ثم إن علينا بيانه} وقال {وعلى الله قصد السبيل}
وقال علي كرم الله وجهه الهوى شريك العمى ومن التوفيق التوقف عند الحيرة ونعم طارد الهم اليقين وعاقبة الكذب الندم وفي الصدق السلامة رب بعيد أقرب من قريب وغريب من لم يكن له حبيب والصديق من صدق غيبه ولا يعدمك من حبيب سوء ظن نعم الخلق التكرم والحياء سبب إلى كل جميل وأوثق العرا التقوى واوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله تعالى إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك والرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك فان لم تأته أتاك وإن كنت جازعا على ما أصيب مما في يديك فلا تجزع على ما لم يصل إليك واستدل على ما لم يكن بما كان فإنما الأمور أشباه والمرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه فما نالك من دنياك فلا تكثرن به فرحا وما فاتك منها فلا تتبعه نفسك أسفا وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على ما خلفت وشغلك لآخرتك وهمك فيما بعد الموت
وغرضنا من نقل هذه الكلمات قوله ومن التوفيق التوقف عند الحيرة فإذن النظر الأول للمراقب نظره في الهم والحركة أهي لله أم للهوى وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا (3) وأكثر ما ينكشف له في حركاته أن يكون مباحا ولكن لا يعنيه فيتركه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرء تركه مالا يعنيه (4)
النظر الثاني للمرقبة عند الشروع في العمل وذلك بِتَفَقُّدِ كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ لِيَقْضِيَ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ ويحسن النية في إتمامه ويكمل صورته وَيَتَعَاطَاهُ عَلَى أَكْمَلِ مَا يُمْكِنُهُ وَهَذَا مُلَازِمٌ له في جميع أحواله فإنه لا يخلو في جميع أحواله عن حركة وسكون فإذا راقب الله تعالى في جميع ذلك قدر على عبادة الله تعالى فيها بالنية وحسن الفعل ومراعاة الأدب فإن كان قاعدا مثلا فينبغى أن يقعد مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس ما استقبل به القبلة (5) ولا يجلس متربعا إذ لا يجالس الملوك كذلك وملك الملوك مطلع عليه قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله جلست مرة متربعا فسمعت هاتفا يقول هكذا تجالس الملوك فلم أجلس بعد ذلك متربعا وإن كان ينام
فينام على اليد اليمنى مستقبل القبلة مع سائر الآداب التي ذكرناها في موضعها فكل ذلك داخل في المراقبة بل لو كان في قضاء الحاجة فمراعاته لآدابها وفاء بالمراقبة
فإذن لا يخلو العبد إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ أَوْ فِي معصية أو في مباح
فمراقبته في الطاعة بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِكْمَالِ وَمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ وَحِرَاسَتِهَا عَنِ الْآفَاتِ
_________
(1) حديث قال عيسى الأمور ثلاثة الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف
(2) حديث اللهم إني أعوذ بك أن أقول في الدين بغير علم لم أجده
(3) حديث ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبى هريرة وقد تقدم
(4) حديث من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه تقدم
(5) حديث خير المجالس ما استقبل به القبلة أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وقد تقدم(4/402)