أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة (1)
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا فقال اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق وأشار إلى لسانه (2)
فلم يقل إني لا أغضب ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق أي لا أعمل بموجب الغضب وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك جاءك شيطانك فقالت ومالك شيطان قال بلى ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير (3)
ولم يقل لا شيطان لي وأراد شيطان الغضب لكن قال لا يحملني على الشر وقال علي رضي الله تعالى عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له (4)
فكان يغضب على الحق وإن كان غضبه لله فهو التفات إلى الوسائط على الجملة بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته وحاجته التي لا بد له في دينه منها فإنما غضب لله فلا يمكن الانفكاك عنه نعم قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولاً بضروري أهم منه فَلَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مُتَّسَعٌ لِلْغَضَبِ لِاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ اسْتِغْرَاقَ الْقَلْبِ بِبَعْضِ الْمُهِمَّاتِ يَمْنَعُ الإحساس بما عداه
وهذا كما أن سلمان لما شتم قال إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال ما ستر الله عنك أكثر فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان وذلك لجلالة قدره
وقالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي فقال ما عرفني غيرك فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء ومنكراً على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه فلم يغضب لما نسب إليه وسب رجل الشعبي فقال إن كنت صادقاً فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر الله لك
فهذه الأقاويل دالة في الظاهر على أنهم لم يغضبوا لاشتغال قلوبهم بمهمات دينهم ويحتمل أن يكون ذلك قد أثر في قلوبهم ولكنهم لم يشتغلوا به واشتغلوا بما كان هو الأغلب على قلوبهم فإذاً اشتغال القلب ببعض المهمات لا يبعد أن يمنع هيجان الغضب عند فوات بعض المحاب فإذاً يتصور فقد الغيظ إما باشتغال القلب بمهم أو بغلبة نظر التوحيد أو بسبب ثالث وهو أن يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْهُ أَنْ لَا يغتاظ فيطفئ شدة حبه لله غيظه وذلك غير محال في أحوال نادرة وقد عرفت بهذا أن الطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا عن القلب وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها كما سيأتي في كتاب ذم الدنيا ومن أخرج حب المزايا عن القلب تخلص من أكثر
_________
(1) حديث اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة دون قوله أغضب كما يغضب البشر وقال جلدته بدل ضربته وفي رواية اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وأصله متفق عليه وتقدم ولمسلم من حديث أنس إنما أنا بشرا أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر ولأبي يعلى من حديث أبي سعيد أو ضربته
(2) حديث عبد الله بن عمرو يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا قال اكتب فوالذي بعثني بالحق ما يخرج منه إلا حق وأشار إلى لسانه أخرجه أبو داود بنحوه
(3) حديث غضبت عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم مالك جاءك شيطانك الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة
(4) حديث علي كان لا يغضب للدنيا الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل وقد تقدم(3/171)
أسباب الغضب وما لا يمكن محوه يمكن كسره وتضعيفه فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه أنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده
بَيَانُ الْأَسْبَابِ الْمُهَيِّجَةِ لِلْغَضَبِ
قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ علاج كل علة حسم مَادَّتِهَا وَإِزَالَةِ أَسْبَابِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أسباب الغضب وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام أي شيء أشد قال غضب الله قال فما يقرب من غضب الله قال أن تغضب قال فما بيدي الغضب وما ينبته قال عيسى الكبر والفخر والتعزز والحمية
والأسباب المهيجة للغضب هِيَ الزَّهْوُ وَالْعُجْبُ وَالْمِزَاحُ وَالْهَزْلُ وَالْهُزْءُ وَالتَّعْيِيرُ والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول الْمَالِ وَالْجَاهِ وَهِيَ بِأَجْمَعِهَا أَخْلَاقٌ رَدِيئَةٌ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا وَلَا خَلَاصَ مِنَ الْغَضَبِ مَعَ بَقَاءِ هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بِأَضْدَادِهَا
فَيَنْبَغِي أَنْ تُمِيتَ الزَّهْوَ بِالتَّوَاضُعِ وَتُمِيتَ العجب بمعرفتك بنفسك كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إِذِ النَّاسُ يَجْمَعُهُمْ فِي الِانْتِسَابِ أَبٌ وَاحِدٌ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة وَأَمَّا الْمِزَاحُ فَتُزِيلُهُ بِالتَّشَاغُلِ بِالْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك وَأَمَّا الْهَزْلُ فَتُزِيلُهُ بِالْجِدِّ فِي طَلَبِ الْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تُبْلِغُكَ إِلَى سعادة الآخرة وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إِيذَاءِ النَّاسِ وَبِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ أَنْ يُسْتَهْزَأَ بك وأما التعيير فالحذر عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ مُرِّ الجواب وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ طَلَبًا لِعِزِّ الِاسْتِغْنَاءِ وَتَرَفُّعًا عَنْ ذُلِّ الْحَاجَةِ
وَكُلُّ خُلُقٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَصِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَفْتَقِرُ فِي عِلَاجِهِ إلى رياضة وتحمل مشقة وحاصل رياضتها يرجع إِلَى مَعْرِفَةِ غَوَائِلِهَا لِتَرْغَبَ النَّفْسُ عَنْهَا وَتَنْفِرَ عن قبحها ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة عَلَى النَّفْسِ فَإِذَا انْمَحَتْ عَنِ النَّفْسِ فَقَدْ زَكَتْ وَتَطَهَّرَتْ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَتَخَلَّصَتْ أَيْضًا عن الغضب الذي يتولد منها
ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح والمرأة أسرع غضباً من الرجل والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل وذو الخلق السيء والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل
فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة ولبخله إذا فاتته الحبة حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه
بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب (1) بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلي عليه
_________
(1) حديث ليس الشديد بالصرعة تقدم قبله(3/172)
حِكَايَاتُ أَهْلِ الْحِلْمِ وَالْعَفْوِ وَمَا اسْتُحْسِنَ مِنْهُمْ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنِ الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم
بيان علاج الغضب بعد هيجانه
ما ذكرناه هو حسم لمواد الغضب وقطع لأسبابه حَتَّى لَا يَهِيجَ فَإِذَا جَرَى سَبَبٌ هَيَّجَهُ فَعِنْدَهُ يَجِبُ التَّثَبُّتُ حَتَّى لَا يَضْطَرَّ صَاحِبُهُ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْمُومِ وَإِنَّمَا يُعَالَجُ الْغَضَبُ عِنْدَ هَيَجَانِهِ بِمَعْجُونِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ
أما العلم فهو ستة أمور
الأول أن يتفكر في الأخبار التي سنوردها فِي فَضْلِ كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَالِاحْتِمَالِ فيرغب في ثوابه فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام وينطفيء عنه غيظه قال مالك بن أوس ابن الحدثان غضب عمر على رجل وأمر بضربه فقلت يا أمير المؤمنين {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فكان عمر يقول {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فكان يتأمل في الآية وكان وقافاً عند كتاب الله مهما تلي عليه كثير التدبر فيه فتدبر فيه وخلى الرجل
وأمر عمر بن عبد العزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى {والكاظمين الغيظ} فقال لغلامه خل عنه
الثاني أن يخوف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو فقد قال تعالى في بعض الكتب القديمة يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيفاً إلى حاجة فأبطأ عليه فلما جاء قال لولا القصاص لأوجعتك (1)
أي القصاص في القيامة وقيل ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه
الثَّالِثُ أَنْ يُحَذِّرَ نَفْسَهُ عَاقِبَةَ الْعَدَاوَةِ وَالِانْتِقَامِ وَتَشَمُّرَ الْعَدُوِّ لِمُقَابَلَتِهِ وَالسَّعْيِ فِي هَدْمِ أَغْرَاضِهِ وَالشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِهِ وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ الْمَصَائِبِ فَيُخَوِّفُ نَفْسَهُ بِعَوَاقِبِ الْغَضَبِ فِي الدُّنْيَا إِنْ كان لا يخاف من الآخرة وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه لأنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض إلا أن يكون محذوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه
الرَّابِعُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي قُبْحِ صُورَتِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ صُورَةَ غَيْرِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَيَتَفَكَّرَ فِي قُبْحِ الْغَضَبِ فِي نَفْسِهِ وَمُشَابَهَةِ صَاحِبِهِ لِلْكَلْبِ الضَّارِي وَالسَّبُعِ الْعَادِي وَمُشَابَهَةِ الْحَلِيمِ الْهَادِي التَّارِكِ لِلْغَضَبِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَيُخَيِّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِالْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ وَأَرَاذِلِ النَّاسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ فِي عَادَتِهِمْ لِتَمِيلَ نَفْسُهُ إِلَى حُبِّ الِاقْتِدَاءِ بِهَؤُلَاءِ إِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ
الْخَامِسُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى الِانْتِقَامِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ كظم الغيظ ولا بد وأن يكون له سبب مِثْلَ قَوْلِ الشَّيْطَانِ لَهُ إِنَّ هَذَا يُحْمَلُ منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وَتَصِيرُ حَقِيرًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ مَا أَعْجَبَكِ تَأْنَفِينَ مِنَ الِاحْتِمَالِ الْآنَ وَلَا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم
_________
(1) حديث لولا القصاص لأوجعتك أخرجه أبو يعلى من حديث أم سلمة بسند ضعيف(3/173)
منك وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس وَلَا تَحْذَرِينَ مِنْ أَنْ تَصْغُرِي عِنْدَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ فَمَهْمَا كَظَمَ الْغَيْظَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْظِمَهُ لِلَّهِ وَذَلِكَ يُعَظِّمُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَمَا له وللناس وذل من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله لو انتقم الآن أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا فهذا وأمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه
السادس أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده فكيف يقول مرادي أولى من مراد الله ويوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه
وَأَمَّا الْعَمَلُ فَأَنْ تَقُولَ بِلِسَانِكَ أَعُوذُ بِاللَّهِ من الشيطان الرجيم هكذا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يقال عند الغيظ (1) حديث كان إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي الحديث أخرجه ابن السني في اليوم والليلة من حديثها وتقدم في الأذكار والدعوات
فيستحب أن تقول ذلك فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً واضجع إن كنت جالساً واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك واطلب بالجلوس والاضجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة
فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الغضب جمرة توقد في القلب (2)
ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمره عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فلينم فإن لم يزل ذلك فليتوضاً بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء فقد قال صلى الله عليه وسلم إذا غضب أحدكم فليتوضأ بالماء فإنما الغضب من النار (3)
وفي رواية إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ وقال ابن عباس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا غضبت فاسكت (4)
وقال أبو هريرة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غضبه (5)
وقال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم (6)
ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض وكأن هذا إشارة إلى السجود وتمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب وروي أن عمر غضب يوماً فدعا بماء فاستنشق وقال إن الغضب من الشيطان وهذا يذهب الغضب وقال عروة
_________
(1) حديث الأمر بالتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند الغيظ متفق عليه من حديث سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما أحمر وجهه وانتفخت أوداجه الحديث وفيه لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد فقالوا له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله من الشيطان الرجيم الحديث
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن
(2) حديث إن الغضب جمرة توقد فيالقلب الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد دون قوله توقد في وقد تقدم ورواه بهذا اللفظ البيهقي في الشعب
(3) حديث إذا غضب أحدكم فليتوضأ بالماء البارد الحديث أخرجه أبو داود من حديث عطية السعدي دون قوله بالماء البارد وهو بلفظ الرواية الثانية التي ذكرها المصنف وقد تقدم
(4) حديث ابن عباس إذا غضبت فاسكت أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني واللفظ لهما والبيهقي في شعب الإيمان وفيه ليث بن أبي سليم
(5) حديث أبي هريرة كان إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غضبه أخرجه ابن أبي الدنيا وفيه من لم يسم ولأحمد بإسناد جيد في أثناء حديث فيه وكان أبو ذر قائما فجلس ثم اضطجع فقيل له لم جلست ثم اضطجعت فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع والمرفوع عند أبي داود وفيه عنده انقطاع سقط منه أبو الأسود
(6) حديث أبي سعيد ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن(3/174)
ابن محمد لما استعملت على اليمن قال لي أبي أوليت قلت نعم قال فإذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك وإلى الأرض تحتك ثم عظم خالقهما
وروي أن أبا ذر قال لرجل يا ابن الحمراء في خصومة بينهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر بلغني أنك اليوم عيرت أخاك بأمه فقال نعم فانطلق أبو ذر ليرضي صاحبه فسبقه الرجل فسلم عليه فذكر ذلك لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أبا ذر ارفع رأسك فانظر ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل ثم قال إذا غضبت فإن كنت قائماً فاقعد وإن كنت قاعدا فاتكيء وإن كنت متكئاً فاضطجع (1)
وقال المعتمر بن سليمان كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلاً وقال للأول إذا غضبت فأعطني هذه وقال للثاني إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه وقال للثالث إذا ذهب غضبي فأعطني هذه فاشتد غضبه يوماً فأعطى الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً فسكن بعض غضبه فأعطي الثانية فإذا فيها ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء فأعطي الثالثة فإذا فيها خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك أي لا تعطل الحدود وغضب المهدي على رجل فقال شبيب لا تغضب لله بأشد من غضبه لنفسه فقال خلوا سبيله فضيلة كظم الغيظ
قال الله تعالى {والكاظمين الغيظ} وذكر ذلك في معرض المدح وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلَى رَبِّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ وَمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّكُمْ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَحْلَمُكُمْ مَنْ عَفَا عِنْدَ القدرة (3)
وقال صلى الله عليه وسلم من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا وفي رواية ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً (4)
وقال ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى (5)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم إن لجهنم بابا
_________
(1) حديث أبي ذر أنه قال لرجل يا ابن الحمراء في خصومة بينهما فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه فقال يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر الحديث وفيه ثم قال إذا غضبت إلى آخره أخرجه ابن أبي الدنيا في العفو وذم الغضب بإسناد صحيح وفي الصحيحين من حديثه قال كان بيني وبين رجل من إخواني كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فشاكني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ولأحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال له انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى ورجاله ثقات
(2) حديث من كف غضبه كفي الله عنه عذابه الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان واللفظ له من حديث أنس بإسناد ضعيف ولابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر من ملك غضبه وقاه الله عذابه الحديث وقد تقدم في آفات اللسان
(3) حديث أشدكم من ملك نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَحْلَمُكُمْ مَنْ عَفَا عِنْدَ القدرة أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث علي بسند ضعيف والبيهقي في الشعب بالشطر الأول من رواية عبد الرحمن بن عجلان مرسلا بإسناد جيد وللبزار والطبراني في مكارم الأخلاق واللفظ له من حديث أشدكم أملككم لنفسه عند الغضب وفيه عمران القطان مختلف فيه
(4) حديث من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا وفي رواية أمنا وإيمانا أخرجه ابن أبي الدنيا بالرواية الأولى من حديث ابن عمر وفيه سكين بن أبي سراج تكلم فيه ابن حبان وأبو داود بالرواية الثانية من حديث رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه ورواها ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة وفيه من لم يسم
(5) حديث ابن عمر ما جرع رجل جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله أخرجه ابن ماجه(3/175)
لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية اللَّهُ تَعَالَى (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها عبد وما كظمها عبد إلا ملأ الله قلبه إيمانا (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق ويخيره من أي الحور شاء (3)
الآثار قال عمر رضي الله عنه من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون وقال لقمان لابنه يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك وقال أيوب حلم ساعة يدفع شراً كثيراً
واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع
وقال رجل لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهِ مَا تَقْضِي بِالْعَدْلِ وَلَا تُعْطِي الْجَزْلَ فَغَضِبَ عمر حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فهذا من الجاهلين فقال عمر صدقت فكأنما كانت ناراً فأطفئت وقال محمد بن كعب ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له وجاء رجل إلى سلمان فقال يا عبد الله أوصني قال لا تغضب قال لا أقدر قال فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك
بيان فَضِيلَةُ الْحِلْمِ
اعْلَمْ أَنَّ الْحِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ كظم الغيظ لِأَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحَلُّمِ أَيْ تَكَلُّفِ الْحِلْمِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَظْمِ الْغَيْظِ إِلَّا مِنْ هَاجَ غَيْظُهُ وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ وَلَكِنْ إِذَا تَعَوَّدَ ذَلِكَ مُدَّةً صار ذلك اعتياداً فَلَا يَهِيجُ الْغَيْظُ وَإِنْ هَاجَ فَلَا يَكُونُ فِي كَظْمِهِ تَعَبٌ وَهُوَ الْحِلْمُ الطَّبِيعِيُّ وَهُوَ دَلَالَةُ كَمَالِ الْعَقْلِ وَاسْتِيلَائِهِ وَانْكِسَارِ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَخُضُوعِهَا لِلْعَقْلِ وَلَكِنِ ابْتِدَاؤُهُ الْتَّحَلُّمُ وَكَظْمُ الْغَيْظِ تكلفاً
قال صلى الله عليه وسلم إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه (4) وأشار بهذا إِلَى أَنَّ اكْتِسَابَ الْحِلْمِ طَرِيقُهُ التَّحَلُّمُ أَوَّلًا وَتَكَلُّفُهُ كَمَا أَنَّ اكْتِسَابَ الْعِلْمِ طَرِيقُهُ التَّعَلُّمُ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فيغلب جهلكم حلمكم (5)
وأشار بهذا إلى أن التكبر والتجبر هو الذي يهيج الغضب ويمنع من الحلم واللين
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية (6)
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم {ابتغوا}
_________
(1) حديث ابن عباس إن لجهنم باباً لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله تقدم في آفات اللسان
(2) حديث ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها عبد وما كظمها عبد إلا ملأ الله قلبه إيمانا أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس وفيه ضعف وبتلفق من حديث ابن عمر وحديث الصحابي الذي لم يسم وقد تقدما
(3) حديث من كظم غيضا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء تقدم في آفات اللسان
(4) حديث إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم الحديث أخرجه الطبراني والدارقطني في العلل من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف
(5) حديث أبي هريرة اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم الحديث أخرجه ابن السني في رياضة المتعلمين بسند ضعيف
(6) حديث كان من دعائه اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية لم أجد له أصلا(3/176)
الرفعة عند الله قالوا وما هي يا رسول الله قال تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك (1)
وقال صلى الله عليه وسلم خمس من سنن المرسلين الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر (2) حديث علي إِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ لَيُدْرِكُ بِالْحِلْمِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القائم الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف (3) حديث أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم الحديث رواه مسلم (4) حديث قال رجل من المسلمين اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها فأيما رجل أصاب من عرضي شيئاً فهو صدقة عليه الحديث أخرجه أبو نعيم في الصحابة والبيهقي في الشعب من رواية عبد المجيد بن أبي عبس بن جبر عن أبيه عن جده بإسناد لين زاد البيهقي عن علية بن زيد وعلية هو الذي قال ذلك كما في أثناء الحديث وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا من المسلمين ولم يسمه وقال أظنه أبا ضمضم قلت وليس بأبي ضمضم إنما هو علية بن زيد وأبو ضمضم ليس له صحبة وإنما هو متقدم (5) حديث أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم الحديث تقدم في آفات اللسان (6) حديث أن ابن مسعود مر بلغو معرضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح ابن مسعود وأمسى كريما أخرجه ابن المبارك في البر والصلة (7) حديث اللهم لا يدركني ولا أدركه زمان لا يتعبون فيه العليم ولا يستحيون فيه من الحليم الحديث أخرجه أحمد من حديث سهل بن سعد بسند ضعيف (8) حديث ليليني منكم أولو الأحلام والنهى الحديث أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود دون قوله ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم فهي عند أبي داود والترمذي وحسنه وهي عند مسلم في حديث آخر لابن مسعود //
وروي أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم الأشج فأناخ راحلته ثم عقلها وطرح عنه ثوبين كانا عليه وأخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما وذلك بعين رسول الله
_________
(1) حديث ابتغوا الرفعة عند الله قالوا وما هي قال تصل من قطعك الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي وقد تقدم
(2) حديث خمس من سنن المرسلين الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر أخرجه أبو بكر بن أبي عاصم في المثاني والآحاد والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من رواية مليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده وللترمذي وحسنه من حديث أبي أيوب أربع فأسقط الحلم والحجامة وزاد النكاح
وقال علي كرم الله وجهه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جباراً عنيداً ولا يملك إلا أهل بيته
(3) وقال أبو هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم قال إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك
(4) المل يعني به الرمل
وقال رجل من المسلمين اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها فأيما رجل أصاب من عرضي شيئاً فهو عليه صدقة فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني قد غفرت له
(5) وقال صلى الله عليه وسلم أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم قالوا وما أبو ضمضم قال رجل ممن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني
(6) وقيل في قوله تعالى ربانيين أي حلماء علماء وَعَنْ الحسن فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قالوا سلاماً قَالَ حُلَمَاءُ إِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجْهَلُوا وقال عطاء بن أبي رباح يمشون على الأرض هوناً أي حلماء وقال ابن أبي حبيب في قوله عز وجل وكهلا قاله الكهل منتهى الحلم وقال مجاهد وإذا مروا باللغو مروا كراما أي إذا أوذوا صفحوا
وروي أن ابن مسعود مر بلغو معرضاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً
(7) ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وهو الراوي قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما وقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا يدركني ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم ولا يستحيون فيه من الحليم قلوبهم قلوب العجم وألسنتهم ألسنة العرب
(8) وقال صلى الله عليه وسلم ليليني منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق(3/177)
صلى الله عليه وسلم يرى ما يصنع ثم أقبل يمشي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عليه السلام إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله قال ما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال الحلم والأناة فقال خلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما فقال بل خلقان جبلك الله عليهما فقال الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحب الحليم الحي الغني المتعفف أبا العيال التقي ويبغض الفاحش البذي السائل الملحف الغبي (2)
وقال ابن عباس قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله تقوى تحجزه عن معاصي الله عز وجل وحلم يكف به السفيه وخلق يعيش به في الناس (3)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد أين أهل الفضل فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فتقولون لهم إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل فيقولون لهم ما كان فضلكم فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذ جهل علينا حلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين // حديث إذا جمع الخلائق نادى مناد أين أهل الفضل فيقوم ناس الحديث وفيه إذا جهل علينا حلمنا أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال البيهقي في إسناده ضعف
الآثار قال عمر رضي الله عنه تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ وَلَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ وَيَعْظُمَ حِلْمُكَ وَأَنْ لَا تُبَاهِيَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِذَا أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ تَعَالَى وإذا أسأت استغفرت الله تعالى وقال الحسن اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم وقال أكثم بن صيفي دِعَامَةُ الْعَقْلِ الْحِلْمُ وَجِمَاعُ الْأَمْرِ الصَّبْرُ وَقَالَ أبو الدرداء أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه إن عرفتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك قالوا كيف نصنع قال تقرضهم عن عرضك ليوم فقرك وقال علي رضي الله عنه أن أول ما عوض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل وقال معاوية رحمه الله تعالى لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ مَبْلَغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَصَبْرُهُ شَهْوَتَهُ وَلَا يَبْلُغُ ذَلِكَ إِلَّا بِقُوَّةِ الْعِلْمِ وَقَالَ معاوية لعمرو بن الأهتم أَيُّ الرِّجَالِ أَشْجَعُ قَالَ مَنْ رَدَّ جَهْلَهُ بِحِلْمِهِ قَالَ أَيُّ الرِّجَالِ أَسْخَى قَالَ من بذل دنياه لصلاح دينه وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حميم} إلى قوله {عظيم} هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُهُ أَخُوهُ فَيَقُولُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فغفر الله لي وقال بعضهم شتمت فلاناً من أهل البصرة فحلم علي فاستعبدني بها زماناً وقال معاوية لعرابة بن أوس بم سدت قومك يا عرابة قال يا أمير المؤمنين كُنْتُ أَحْلُمُ عَنْ جَاهِلِهِمْ وَأُعْطِي سَائِلَهُمْ وَأَسْعَى في حوائجهم فمن فعل فِعْلِي فَهُوَ مِثْلِي وَمَنْ جَاوَزَنِي فَهُوَ أَفْضَلُ مِنِّي وَمَنْ قَصَّرَ عَنِّي فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وسب رجل ابن عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها فنكس الرجل رأسه واستحى وقال رجل لعمر بن عبد العزيز أشهد أنك من الفاسقين فقال ليس تقبل شهادتك وعن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أَنَّهُ سَبَّهُ رَجُلٌ فَرَمَى إِلَيْهِ بِخَمِيصَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ جَمَعَ لَهُ خَمْسَ خِصَالٍ مَحْمُودَةٍ الْحِلْمُ وَإِسْقَاطُ الأذى وتخليص الرجل مما يبعد مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَمْلُهُ عَلَى النَّدَمِ والتوبة ورجوعه إلى مدح بَعْدَ الذَّمِّ اشْتَرَى جَمِيعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنَ الدنيا يسير وقال رجل لجعفر بن محمد
_________
(1) حديث يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة الحديث متفق عليه
(2) حديث إن الله يحب الحيي الحليم الغني المتعفف الحديث أخرجه الطبراني من حديث سعد إن الله يحب العبد التقي الغني الحفي
(3) حديث ابن عباس ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله أخرجه أبو نعيم في كتاب الإيجاز بإسناد ضعيف والطبراني من حديث أم سلمة بإسناد لين وقد تقدم في آداب الصحبة(3/178)
إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي إن تركك له ذل فقال جعفر إنما الذليل الظالم وقال الخليل بن أحمد كان يقال من أساء فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته وقال الأحنف بن قيس لست بحليم ولكنني أتحلم وقال وهب بن منبه من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يجهل يغلب ومن يعجل يخطيء ومن يحرص على الشر لا يسلم ومن لا يدع المراء يشتم ومن لا يكره الشر يأثم ومن يكره الشر يعصم ومن يتبع وصية الله يحفظ ومن يحذر الله يأمن ومن يتول الله يمنع ومن لا يسأل الله يفتقر ومن يأمن مكر الله يخذل ومن يستعن بالله يظفر وقال رجل لمالك بن دينار بلغني أنك ذكرتني بسوء قال أنت إذن أكرم علي من نفسي إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي وقال بعض العلماء الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به وقال رجل لبعض الحكماء والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك فقال معك يدخل لا معي ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شراً فقال لهم خيراً فقيل له إنهم يقولون شراً وأنت تقول خيراً فقال كل ينفق مما عنده وقال لقمان ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاث لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا الأخ إلى عند الحاجة إليه ودخل على بعض الحكماء صديق له فقدم إليه طعاماً فخرجت امرأة الحكيم وكانت سيئة الخلق فرفعت المائدة وأقبلت على شتم الحكيم فخرج الصديق مغضباً فتبعه الحكيم وقال له تذكر يوم كنا في منزلك نطعم فسقطت دجاجة على المائدة فأفسدت ما عليها فلم يغضب أحد منا قال نعم قال فاحسب أن هذه مثل تلك الدجاجة فسرى عن الرجل غضبه وانصرف وقال صدق الحكيم الحلم شفاء من كل ألم وضرب رجل قدم حكيم فأوجعه فلم يغضب فقيل له في ذلك فقال أقمته مقام حجر تعثرت به فذبحت الغضب وقال محمود الوراق
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه علي الجرائم
وما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثلي مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره ... وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثل فإن زل أو هفا ... تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم
بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به مِنَ الْكَلَامِ
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ظُلْمٍ صَدَرَ مِنْ شَخْصٍ فَلَا يَجُوزُ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ فَلَا تَجُوزُ مُقَابَلَةُ الْغِيبَةِ بِالْغِيبَةِ وَلَا مُقَابَلَةُ التَّجَسُّسِ بِالتَّجَسُّسِ وَلَا السَّبُّ بِالسَّبِّ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعَاصِي وإنما القصاص والغرامة على قدر ما ورد الشرع به وقد فصلناه في الفقه وأما السب فلا يقال بمثله إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِمَا فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بما فيه (1)
وقال المستبان ما قالا فهو على الباديء ما لم يعتد المظلوم وقال المستبان شيطانان يتهاتران (2)
وشتم رجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ساكت فلما ابتدأ ينتصر منه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر إنك كنت ساكتاً لما شتمني فلما تكلمت قمت قال لأن الملك كان يجيب عنك فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان (3)
وَقَالَ قَوْمٌ تَجُوزُ الْمُقَابَلَةُ بِمَا لَا كَذِبَ فيه وإنما نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث إِنِ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِمَا فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بما فيه أخرجه أحمد من حديث جابر بن مسلم وقد تقدم
(2) حديث المستبان شيطانان يتهاتران تقدم
(3) حديث شتم رجل أبا بكر رضي الله عنه وهو ساكت فلما ابتدأ ينتصر منه قام صلى الله عليه وسلم الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة متصلا ومرسلا قال البخاري المرسل أصح(3/179)
عَنْ مُقَابَلَةِ التَّعْيِيرِ بِمِثْلِهِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَالْأَفْضَلُ تركه ولكنه لا يعصى به وَالَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ أَنْ تَقُولَ مَنْ أَنْتَ وهل أنت إلا من بني فلان كما قال سعد لابن مسعود وهل أنت إلا من بني هذيل وقال ابن مسعود وهل أنت إلا من بني أمية ومثل قوله يا أحمق قال مطرف كل الناس أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الناس أقل حماقة من بعض
وقال ابن عمر من حديث طويل حتى ترى الناس كلهم حمقى في ذات الله تعالى (1) حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن فاطمة فقالت يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة الحديث رواه مسلم (2) حديث المستبان ما قالا فعلى البادي الحديث رواه مسلم وقد تقدم (3) حديث المؤمن سريع الغضب سريع الرضي تقدم (4) حديث أبي سعيد الخدري ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات الحديث تقدم
ولما كان الغضب يهيج ويؤثر في كل إنسان وجب على السلطان أن لا يعاقب
_________
(1) حديث ابن عمر في حديث طويل حتى ترى الناس كأنهم حمقى في ذات الله عز وجل تقدم في العلم
وكذلك قوله يا جاهل إذ ما من أحد إلا وفيه جهل فَقَدْ آذَاهُ بِمَا لَيْسَ بِكَذِبٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يا سيء الخلق يا صفيق الوجه يا ثلايا لِلْأَعْرَاضِ وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَوْ كَانَ فِيكَ حَيَاءٌ لَمَا تَكَلَّمْتَ وَمَا أَحْقَرَكَ في عيني بما فعلت وأخزاك الله وانتقم منك
فأما النميمة والغيبة والكذب وسب الوالدين فحرام بالاتفاق لما روي أنه كان بين خالد بن الوليد وسعد كلام فذكر رجل خالداً عند سعد فقال سعد مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا يعني أن يأثم بعضنا في بعض فلم يسمع السوء فكيف يجوز له أن يقوله
والدليل على جواز ما ليس بكذب ولا حرام كالنسبة إلى الزنا والفحش والسب ما روت عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن إليه فاطمة فجاءت فقالت يا رسول الله أرسلني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم فقال يا بنية أتحبين ما أحب قالت نعم قال فأحبي هذه فرجعت إليهن فأخبرتهن بذلك فقلن ما أغنيت عنا شيئا فأرسلن زينب بنت جحش قالت وهي التي كانت تساميني في الحب فجاءت فقالت بنت أبي بكر وبنت أبي بكر فما زالت تذكرني وأنا ساكتة أنتظر أن يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب فأذن لي فسببتها حتى جف لساني فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلا إنها ابنة أبي بكر
(2) يعني أنك لا تقاومينها في الكلام قط وقولها سببتها وليس المراد به الفحش بل هو والجواب عن كلامها بالحق ومقابلتها بالصدق
وقال النبي صلى الله عليه وسلم المستبان ما قالا فعلى الباديء منهما حتى يعتدي المظلوم
(3) فأثبت المظلوم انتصار إلى أن يعتدي فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ولكن الأفضل تركه فإنه يجره إلى ما وراءه ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ولكن يعود سريعا ومنهم من يكف نفسه في الابتداء ولكن يحقد على الدوام والناس في الغضب أربعة فبعضهم كالحلفاء سريع الوقود سريع الخمود وبعضهم كالغضا بطيء الوقود بطيء الخمود وبعضهم بطئ الوقود سريع الخمود وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود وهذا هو شرهم وفي الخبر المؤمن سريع الغضب سريع الرضى فهذه بتلك
(4) وقال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان وقد قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم بطيء الغضب سريع الفيء ومنهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك ومنهم سريع الغضب بطيء الفيء ألا وإن خيرهم البطيء الغضب السريع الفيء وشرهم السريع الغضب البطيء الفيء(3/180)
أحداً في حال غضبه لأنه ربما يتعدى الواجب ولأنه ربما يكون متغيظاً عليه فيكون متشفيا لغبظه ومريحاً نفسه من ألم الغيظ فيكون صاحبه حظ نفسه فينبغي أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه ورأى عمر رضي الله عنه سكران فأراد أن يأخذه ويعزره فشتمه السكران فرجع عمر فقيل له يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته قال لأنه أغضبني ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي ولم أحب أن أضرب مسلماً حمية لنفسي وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل أغضبه لولا أنك أغضبتني لعاقبتك
القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق
اعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ إِذَا لَزِمَ كَظْمُهُ لِعَجْزٍ عَنِ التَّشَفِّي فِي الْحَالِ رَجَعَ إِلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا وَمَعْنَى الْحِقْدِ أَنْ يَلْزَمَ قَلْبُهُ اسْتِثْقَالَهُ وَالْبِغْضَةَ لَهُ وَالنِّفَارَ عَنْهُ وَأَنْ يَدُومَ ذَلِكَ وَيَبْقَى وَقَدْ قَالَ صَلَّى الله عليه وسلم المؤمن ليس بحقود (1) فالحقد ثمرة الغضب والحقد يثمر ثمانية أمور الْأَوَّلُ الْحَسَدُ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَكَ الْحِقْدُ عَلَى أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغثم بِنِعْمَةٍ إِنْ أَصَابَهَا وَتُسَرَّ بِمُصِيبَةٍ إِنْ نَزَلَتْ به وهذا من فعل المنافقين وسيأتي ذمه إن شاء الله تعالى الثاني أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن فتشمت بِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ الثَّالِثُ أَنْ تَهْجُرَهُ وَتُصَارِمَهُ وَتَنْقَطِعَ عَنْهُ وَإِنْ طَلَبَكَ وَأَقْبَلَ عَلَيْكَ الرَّابِعُ وَهُوَ دُونَهُ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُ اسْتِصْغَارًا لَهُ الْخَامِسُ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا لَا يَحِلُّ مِنْ كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَإِفْشَاءِ سِرٍّ وَهَتْكِ ستر وغيره السَّادِسُ أَنْ تُحَاكِيَهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ وَسُخْرِيَةً مِنْهُ السَّابِعُ إِيذَاؤُهُ بِالضَّرْبِ وَمَا يُؤْلِمُ بَدَنَهُ الثَّامِنُ أَنْ تَمْنَعَهُ حَقَّهُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ رَدِّ مَظْلَمَةٍ وَكُلُّ ذَلِكَ حرام
وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل وإن كان لا يعرضك لعقاب الله
وَلَمَّا حَلَفَ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مسطح وَكَانَ قَرِيبَهُ لكونه تكلم في واقعة الإفك نزل قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم فَقَالَ أبو بكر نَعَمْ نُحِبُّ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ (2)
وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَزِيدَ في الإحسان مجاهدة في لِلنَّفْسِ وَإِرْغَامًا لِلشَّيْطَانِ فَذَلِكَ مَقَامُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ من فضائل أعمال المقربين فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة أحدها أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل الثاني أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل الثالث أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور وهو اختيار الأراذل والثاني هو اختيار الصديقين والأول هو منتهى درجات الصالحين ولنذكر الآن فضيلة العفو والإحسان
_________
(1) حديث المؤمن ليس بحقود تقدم في العلم
(2) حديث لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح نزل قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية متفق عليه من حديث عائشة(3/181)
فَضِيلَةُ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ أن يستحق حقا فيسقطه ويبري عنه من قصاص أو غرامة وهو غير الحلم وكظم الغيظ فلذلك أفردناه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعرض عن الجاهلين وقال الله تعالى وأن تعفوا أقرب للتقوى وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث والذي نفسي بيده لو كنت حلافاً لحلفت عليهن ما نقص مال من صدقة فتصدقوا ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر (1) حديث التَّوَاضُعُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلَّا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يرفعكم الله أخرجه الأصفهاني في الترغيب والترهيب وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بسند ضعيف (2) حديث عائشة ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل وهو عند مسلم بلفظ آخر وقد تقدم (3) حديث عقبة بن عامر يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب بإسناد ضعيف وقد تقدم (4) حديث قال موسى يا رب أي عبادك أعز عليك قال الذي إذا قدر عفا أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث أبي هريرة وفيه ابن لهيعة (5) حديث إن المظلومين هم المفلحون يوم القيامة وفي أوله قصة رواها ابن أبي الدنيا في كتاب العفو من رواية أبي صالح الحنفي مرسلا (6) حديث أنس إذا بعث الله عز وجل الخلائق يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ثلاثة أصوات يا معشر الموحدين إن الله قد عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض أخرجه أبو سعيد أحمد بن إبراهيم المقري في كتاب التبصرة والتذكرة بلفظ ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد إن الله تعالى يقول ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحمتي وإسناده ضعيف ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ نادى مناد يا أهل الجمع تناكروا المظالم بينكم وثوابكم علي وله من حديث أم هانيء ينادي مناد يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض وعلي الثواب // وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال ما تقولون وما تظنون فقالوا نقول أخ وابن عم حليم رحيم قالوا ذلك ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم أقول كما قال يوسف {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهو أرحم}
_________
(1) حديث ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت حالفا لحلفت عليهن ما نقصت صدقة من مال الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري ولمسلم وأبي داود نحوه من حديث أبي هريرة وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوَاضُعُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلَّا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمُ اللَّهُ وَالْعَفْوُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلَّا عِزًّا فَاعْفُوا يُعِزُّكُمُ اللَّهُ وَالصَّدَقَةُ لَا تَزِيدُ الْمَالَ إِلَّا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله
(2) وقالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً
(3) وقال عقبة لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فابتدرته فأخذت بيده أو بدرني فأخذ بيدي فقال يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك
(4) وقال صلى الله عليه وسلم قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أعز عليك قال الذي إذا قدر عفا
(5) وكذلك سئل أبو الدرداء عن أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر فاعفوا يعزكم الله وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو مظلمة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس وأراد أن يأخذ له بمظلمته فقال له صلى الله عليه وسلم إن المظلومين هم المفلحون يوم القيامة
(6) فأبى أن يأخذها حين سمع الحديث وقالت عائشة رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دعا على من ظلمه فقد انتصر وعن أنس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بعث الله عز وجل الخلائق يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ثلاثة أصوات يا معشر الموحدين إن الله قد عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض(3/182)
{الراحمين} (1) قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام وعن سهيل بن عمرو قال لما قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله فقال لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له صدق وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ {ثُمَّ قال} يا معشر قريش ما تقولون وما تظنون قال قلت يا رسول الله نقول خيراً ونظن خيراً أخ كريم وابن عم رحيم وقد قدرت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقول كما قال أخي يوسف {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} (2) وعن أنس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة قيل ومن ذا الذي له على الله أجر قال العافون عن الناس فيقوم كذا وكذا ألفاً فيدخلونها بغير حساب (3) حديث ابن مسعود لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه والله عفو يحب العفو الحديث أخرجه أحمد والحاكم وصححه وتقدم في آداب الصحبة وقال جابر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء من أدى ديناً خفياً وقرأ في دبر كل صلاة {قل هو الله أحد} عشر مرات وعفا عن قاتله قال أبو بكر أو إحداهن يا رسول الله قال أو إحداهن (4)
الآثار قال إبراهيم التيمي إن الرجل ليظلمني فأرحمه وهذا إحسان وراء العفو لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب وقال بعضهم إذا أراد الله أن يتحف عبداً قيض له من يظلمه ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها وقال يزيد بن ميسرة إن ظللت تدعو على من ظلمك فإن الله تعالى يقول إن آخر يدعو عليك بأنك ظلمته فإن شئت استجبنا لك وأجبنا عليك وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فيسعكما عفوي وقال مسلم بن يسار لرجل دعا على ظالمه كل الظالم إلى ظلمه فإنه أسرع إليه من دعائك عليه إلا أن يتداركه بعمل وقمن أن لا يفعل وعن ابن عمر عن أبي بكر أنه قال بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس وعن هشام بن محمد قال أتى النعمان بن المنذر برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه وقال
تعفو الملوك عن العظيم ... من الذنوب بفضلها
ولقد تعاقب في اليسير ... وليس ذاك لجهلها
إلا ليعرف حلمها ... ويخاف شدة دخلها
وعن مبارك بن فضالة قال وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر قال فكنت عنده إذا أتى برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثا سمعته
_________
(1) حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال ما تقولون الحديث رواه ابن الجوزي في الوفاء من طريق ابن أبي الدنيا وفيه ضعف
(2) حديث سهيل بن عمرو لما قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وضع يده على باب الكعبة الحديث بنحوه لم أجده
(3) حديث أنس إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة قيل من ذا الذي أجره على الله قال العافون عن الناس الحديث أخرجه الطبراني في مكارم الأخلاق وفيه الفضل بن يسار ولا يقابع على حديثه وقال ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه والله عفو يحب العفو ثم قرأ {وليعفوا وليصفحوا} الآية
(4) حديث جابر ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط في الدعاء بسند ضعيف(3/183)
من الحسن قال وما هو قلت سمعته يقول إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلا من عفا فقال والله لقد سمعته من الحسن فقلت والله لسمعته منه فقال خلينا عنه وقال معاوية عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال
وروي أن راهباً دخل على هشام بن عبد الملك فقال للراهب أرأيت ذا القرنين أكان نبياً فقال لا ولكنه إنما أعطى ما أعطى بأربع خصال كن فيه كان إذا قدر عفا وإذا وعد وفى وإذا حدث صدق ولا يجمع شغل اليوم لغد وقال بعضهم ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتقم ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا وقال زياد القدرة تذهب الحفيظة يعني الحقد والغضب وأتى هشام برجل بلغه عنه أمر فلما أقيم بين يديه جعل يتكلم بحجته فقال له هشام وتتكلم أيضاً فقال الرجل يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها أفنجادل الله تعالى ولا نتكلم بين يديك كلاماً قال هشام بلى ويحك تكلم وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له اقطعه فإنه من أعدائنا فقال بل أستر عليه لعل الله يستر علي يوم القيامة وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدتها قد حلت فقال لقد جلست وإنها لمعي فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها اللهم افعل به كذا فقال عبد الله اللهم إن كان حمله عَلَى أَخْذِهَا حَاجَةٌ فَبَارِكْ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ حَمَلَتْهُ جَرَاءَةٌ عَلَى الذَّنْبِ فَاجْعَلْهُ آخِرَ ذنوبه وقال الفضيل ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إلي في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه فجعل يبكي فقلت أعلى الدنانير تبكي فقال لا ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمة له وقال مالك بن دينار أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلاً وهو على البصرة أمير وجاء الحسن وهو خائف فدخلنا معه عليه فما كنا مع الحسن إلا بمنزله الفراريج فَذَكَرَ الحسن قِصَّةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا صنع به إخوته من بَيْعِهِمْ إِيَّاهُ وَطَرْحِهِمْ لَهُ فِي الْجُبِّ فَقَالَ بَاعُوا أَخَاهُمْ وَأَحْزَنُوا أَبَاهُمْ وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ وَمِنَ الْحَبْسِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ أَدَالَهُ مِنْهُمْ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَمَاذَا صَنَعَ حِينَ أَكْمَلَ لَهُ أمره وجمع له أَهْلَهُ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه قال الحكم فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته وكتب ابن المقفع إلى صديق له يسأله العفو عن بعض إخوانه فلان هارب من زلته إلى عفوك لائذ منك بك واعلم أنه لن يزداد الذنب عظما إلا ازداد العفو فضلاً وأتى عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة ما ترى قال إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو فعفا عنهم وروي أن زياد أخذ رجلاً من الخوارج فأفلت منه فأخذ أخاً له فقال له إن جئت بأخيك وإلا ضربت عنقك فقال أرأيت إن جئتك بكتاب من أمير المؤمنين تخلي سبيلي قال نعم قال فأنا آتيك بكتاب من العزيز الحكيم وأقيم عليه شاهدين إبراهيم وموسى ثم تلا أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى فقال زياد خلوا سبيله هذا رجل قد لقن حجته وقيل مكتوب في الإنجيل من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان فَضِيلَةُ الرِّفْقِ
اعْلَمْ أَنَّ الرِّفْقَ مَحْمُودٌ وَيُضَادُّهُ الْعُنْفُ وَالْحِدَّةُ وَالْعُنْفُ نَتِيجَةُ الْغَضَبِ وَالْفَظَاظَةِ
وَالرِّفْقُ واللين نتيجة حسن(3/184)
الخلق والسلامة وقد يكون سبب الحدة الغضب وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكر ويمنع من التثبت فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق وَلَا يَحْسُنُ الْخُلُقُ إِلَّا بِضَبْطِ قُوَّةِ الْغَضَبِ وقوة الشهوة وحفظهما عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَلِأَجْلِ هَذَا أَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرِّفْقِ وبالغ فيه فقال يا عائشة إنه مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ أَهْلَ بَيْتٍ أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى (3) وقالت عائشة رضي الله عنها قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف (4) وقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق (5) وقال صلى الله عليه وسلم من يحرم الرفق يحرم الخير كله (6) وقال صلى الله عليه وسلم أيما وال ولى فرفق ولان رفق الله تعالى به يَوْمَ الْقِيَامَةِ (7) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدرون من يحرم على النار يوم القيامة كل هين لين سهل قريب (8) وقال صلى الله عليه وسلم الرفق يمن والخرق شؤم (9) حديث التأني من الله والعجلة من الشيطان أخرجه أبو يعلى من حديث أنس ورواه الترمذي وحسنه من حديث سهل بن سعد بلفظ الآناة من الله وقد تقدم (10) حديث أتاه رجل فقال يا رسول الله إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك الحديث وفيه فإذا أردت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فامضه الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق من حديث أبي جعفر هو المسمى عبد الله بن مسور الهاشمي ضعيف جدا ولأبي نعيم في كتاب الإيجاز من رواية إسماعيل الأنصاري عن أبيه عن جده إذا هممت بأمر فاجلس فتدبر عاقبته وإسناده ضعيف (11) حديث عائشة عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ إلا زانه الحديث رواه مسلم // الآثار بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله فأمرهم أن يوافوه فلما أتوه
_________
(1) حديث يا عائشة إنه مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حظه من خير الدنيا والآخرة الحديث رواه أحمد والعقيلي في الضعفاء في ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وضعفه عن القاسم عن عائشة وفي الصحيحين من حديثها يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله
(2) حديث إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ أَهْلَ بَيْتٍ أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرفق أخرجه أحمد بسند جيد والبيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث عائشة
(3) حديث إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق الحديث أخرجه الطبراني في الكبير من حديث جرير بإسناد ضعيف
(4) حديث إن الله رفيق يحب الرفق الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة
(5) حديث يا عائشة ارفقي إن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق أخرجه أحمد من حديث عائشة وفيه انقطاع ولأبي داود يا عائشة ارفقي
(6) حديث من يحرم الرفق يحرم الخير كله أخرجه مسلم من حديث جرير دون قوله كله فهي عند أبي داود
(7) حديث أيما وال ولي فلان ورفق رفق الله به يوم القيامة أخرجه مسلم من حديث عائشة وفي حديث فيه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به
(8) حديث تدرون على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وتقدم في آداب الصحبة
(9) حديث الرفق يمن والخرق شؤم أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود والبيهقي في الشعب من حديث عائشة وكلاهما ضعيف
وقال صلى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من الشيطان
(10) وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك فاخصصني منك بخير فقال الحمد لله مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل عليه فقال هل أنت مستوص مرتين أو ثلاثاً قال نعم قال إن أردت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فامضه وإن كان سوى ذلك فانته
(11) وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر على بعير صعب فجعلت تصرفه يميناً وشمالاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عائشة عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شانه(3/185)
قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس أيتها الرعية إن لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقا فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرجه واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه
وقال وهب بن منبه الرفق ثنى الحلم
وفي الخبر موقوفاً ومرفوعاً العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيمه والرفق والده واللين أخوه والصبر أمير جنوده (1) وقال بعضهم ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله ما الرفق قال تكون ذا أناة فتلاين الولاة قال فما الخرق قال معاداة إمامك ومناوأة من يقدر على ضررك وقال سفيان لأصحابه تدرون ما الرفق قالوا قل يا أبا محمد قال أن تضع الأمور من مواضعها الشدة في موضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
فالمحمود وسط بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف وإن كان العنف في محله حسناً كما أن الرفق في محله حسن فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحق الهوى وهو ألذ من الزبد بالشهد وهكذا وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله روي أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية أما بعد فإن الفهم في الخير زيادة رشد وإن الرشيد من رشد عن العجلة وإن الجانب من خاب عن الأناة وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً وأن من لا ينفعه الرفق يضره الخرق ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي وعن أبي عون الأنصاري قال ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها وقال أبو حمزة الكوفي لا تتخذ من الخدم إلا ما لا بد منه فإن مع كل إنسان شيطاناً واعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئاً إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه وقال الحسن المؤمن وقاف متأن وليس كحاطب ليل فهذا ثناء أهل العلم على الرفق وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال وأغلب الأمور والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور وإنما الكامل من يميز مواقع الرفق عن مواضع العنف فيعطي كل أمر حقه فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإن النجح معه في الأكثر
القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في
إزالته بيان ذَمُّ الْحَسَدِ
اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ أَيْضًا مِنْ نتائج الحقد والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد مِنَ الْفُرُوعِ الذَّمِيمَةِ مَا لَا يَكَادُ يُحْصَى وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قائدة والرفق والده أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب وفضائل الأعمال من حديث أنس بسند ضعيف ورواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث أبي الدرداء وأبي هريرة وكلاهما ضعيف(3/186)
الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ (1) حديث لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا الحديث متفق عليه وقد تقدم (2) حديث أنس كنا يوماً جلوساً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة الحديث بطوله وفيه أن ذلك الرجل قال لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين ورواه البزار وسمي الرجل في رواية له سعدا وفيها ابن لهيعة (3) حديث ثلاث لا ينجو منهن أحد الظن والطعن والحسد الحديث وفي رواية وقل من ينجو منهن أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الحسد من حديث أبي هريرة وفيه يعقوب بن محمد الزهري وموسى بن يعقوب الزمعي ضعفهما الجمهور والرواية الثانية رواها ابن أبي الدنيا أيضا من رواية عبد الرحمن بن معاوية وهو مرسل ضعيف وللطبراني من حديث حارثة بن النعمان نحوه وتقدم في آفات اللسان وفي رواية ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة وقال صلى الله عليه وسلم دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم (4) وقال صلى الله عليه وسلم كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر (5) وقال صلى الله عليه وسلم إنه سيصيب أمتي داء الأمم قالوا وما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج (6) وقال صلى الله عليه وسلم لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك (7) وروي أن موسى عليه السلام لما تعجل إلى ربه تعالى
_________
(1) حديث الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة وابن ماجه من حديث أنس وقد تقدم وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً
(2) وقال أنس كنا يوماً جلوساً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة قال فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت فقال نعم فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ولم يقم لصلاة الفجر قال غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ولكني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذلك فقال ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه قال عبد الله فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق
(3) وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث لا ينجو منهن أحد الظن والطيرة والحسد وسأحدثكم بالمخرج من ذلك إذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض وإذا حسدت فلا تبغ
(4) حديث دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء الحديث أخرجه الترمذي من حديث مولى الزبير عن الزبير
(5) حديث كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر أخرجه أبو مسلم الكشي والبيهقي في الشعب من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد ضعيف ورواه الطبراني في الأوسط من وجه آخر بلفظ كادت الحاجة أن تكون كفرا وفيه ضعف أيضا
(6) حديث إنه سيصيب أمتي داء الأمم قبلكم قالوا وما داء الأمم قال الأشر والبطر الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الحسد والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة بإسناد جيد
(7) حديث لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك أخرجه الترمذي من حديث واثلة بن الأسقع وقال حسن غريب وفي رواية ابن أبي الدنيا فيرحمه الله(3/187)
رأى في ظل العرش رجلاً فغبطه بمكانه فقال إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه تعالى أن يخبره باسمه فلم يخبره وقال أحدثك من عمله بثلاث كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله وكان لا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة وقال زكريا عليه السلام قال الله تعالى الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي وقال صلى الله عليه وسلم أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون (1) وقال صلى الله عليه وسلم استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود (2) وقال صلى الله عليه وسلم إن لنعم الله أعداء فقيل ومن هم فقال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله (3) حديث ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة قيل يا رسول الله ومن هم قال الأمراء بالجور الحديث وفيه والعلماء بالحسد أخرجه أبو منصور الديلمي من حديث ابن عمر وأنس بسندين ضعيفين //
الآثار قال بعض السلف أول خطيئة هِيَ الْحَسَدُ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رُتْبَتِهِ فَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ فَحَمَلَهُ على الحسد والمعصية وحكي أن عون بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال إني أريد أن أعظك بشيء فقال وما هو قال إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله به ثم قرأ {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} الآية وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أمكنه الله سبحانه من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه الله عنها فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها ثم قال {اهبطوا منها} إلى آخر الآية وإياك والحسد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق} الآيات وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك وإذا ذكر القدر فاسكت وإذا ذكرت النجوم فاسكت وقال بكر بن عبد الله كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك فقال إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر فقال له الملك وكيف يصح ذلك عندي قال تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر فقال له انصرف حتى أنظر فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادته فقال أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فقال له الملك أدن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه ما أرى فلانا إلا قد صدق قال وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فقال ما هذا الكتاب قال خط الملك لي بصلة فقال هبه لي
_________
(1) حديث أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر لهم المال فيتحاسدون ويقتتلون أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الحسد من حديث ابن عامر الأشعري وفيه ثابت بن أبي ثابت جهله أبو حاتم وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ولهما من حديث عمرو بن عوف البدري والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا الحديث ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو إذا فتحت عليكم فارس والروم الحديث وفيه يتنافسون ثم يتحاسدون ثم يتدابرون الحديث ولأحمد والبزار من حديث عمر لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
(2) حديث استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني من حديث معاذ بسند ضعيف
(3) حديث إن لنعم الله أعداء قيل ومن أولئك قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس إن لأهل النعم حسادا فاحذروهم وقال صلى الله عليه وسلم ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة قيل يا رسول الله من هم قال الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد(3/188)
فقال هو لك فأخذه ومضى به إلى العامل فقال العامل في كتابك أن أذبحك وأسلخك قال إن الكتاب ليس هو لي فالله الله في أمري حتى تراجع الملك فقال ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشى جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله فعجب الملك وقال ما فعل الكتاب فقال لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له قال له الملك إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال ما قلت ذلك قال فلما وضعت يدك على فيك قال لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه قال صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته وقال ابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا حَسَدْتُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى الدنيا وهي حفيرة فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ يَصِيرُ إلى النار وقال رجل للحسن هل يحسد المؤمن قال ما أنساك بني يعقوب نعم ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً وقال أبو الدرداء ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده وقال معاوية كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ولذلك قيل
كل العداوات قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد وقال بعض الحكماء الحسد جرح لا يبرأ وحسب الحسود ما يلقى وقال أعرابي ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه وقال الحسن يا ابن آدم لم تحسد أخاك فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إِلَى النَّارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا وَلَا يَنَالُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَعْنَةً وَبُغْضًا وَلَا يَنَالُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا وَلَا يَنَالُ عند النزع إلا شدة وهولاً وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَوْقِفِ إِلَّا فَضِيحَةً وَنَكَالًا
بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه
اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان
إحداهما أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسداً فالحسد حده كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ
الحالة الثانية أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها
وهذه تسمى غبطة وقد تختص باسم المنافسة وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني
وقد قال صلى الله عليه وسلم إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد (1)
فأما الأول فهو حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا نِعْمَةً أَصَابَهَا فَاجِرٌ أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الخلق فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ الْأَخْبَارُ الَّتِي نَقَلْنَاهَا وَإِنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ تَسَخُّطٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ لَا عُذْرَ فِيهِ وَلَا رُخْصَةَ وَأَيُّ مَعْصِيَةٍ تَزِيدُ على كراهتك
_________
(1) حديث المؤمن يغبط والمنافق يحسد لم أجد له أصلا مرفوعا وإنما هو من قول الفضيل بن عياض كذلك رواه ابن أبي الدنيا في ذم الحسد(3/189)
لِرَاحَةِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَكَ منه مضرة وإلى هذا أشار القرآن بقول {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يفرحوا بها} وَهَذَا الْفَرَحُ شَمَاتَةٌ وَالْحَسَدُ وَالشَّمَاتَةُ يَتَلَازَمَانِ وَقَالَ تعالى {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم} فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد وقال عز وجل {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم} فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مما أوتوا} أَيْ لَا تَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِهِ وَلَا يَغْتَمُّونَ فأثنى عليهم بعدم الحسد وقال تعالى في معرض الإنكار {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} وقال تعالى {كان الناس أمة واحدة} إلى قوله {إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم} قيل في التفسير حسداً وقال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته وأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول فرد بعضهم على بعض قال ابن عباس كانت اليهود قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا (1) فكانوا ينصرون فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} إلى قوله {أن يكفروا بما أنزل الله بغياً} أي حسداً وقالت صفية بنت حيي للنبي صلى الله عليه وسلم جاء أبي وعمي من عندك يوماً فقال أبي لعمي ما تقول فيه قال أقول أنه النبي الذي بشر به موسى قال فما ترى قال أرى معاداته أيام الحياة (2) فهذا حكم الحسد في التحريم
وأما المنافسة فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد قال قثم بن العباس لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة قالا لعلي حين قال لهما لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمركما عليها فقالا له ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك (3) أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة
والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وَقَالَ تَعَالَى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين ينسابقان إلى خدمة مولاهما إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها
_________
(1) حديث ابن عباس قوله كانت اليهود قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله الحديث في نزول قوله تعالى {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أخرجه ابن إسحاق في السيرة فيما بلغه عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره نحوه وهو منقطع
(2) حديث قالت صفية بن حيي للنبي صلى الله عليه وسلم جاء أبي وعمي من عندك يوماً فقال أبي لعمي ما تقول فيه قال أقول أنه النبي الذي بشر به موسى الحديث أخرجه ابن إسحاق في السيرة قال حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال حديث عن صفية فذكره نحوه وهو منقطع أيضا
(3) حديث قال قثم بن العباس لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فيسألانه أن يأمرهما على الصدقة قالا لعلي الحديث هكذا وقع للمصنف أنه قثم والفضل وإنما هو الفضل والمطلب ابن ربيعة كما رواه مسلم من حديث المطلب بن ربيعة ابن الحارث قال اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين قال لي وللفضل بن عباس ائتيا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلماه فذكر الحديث(3/190)
فكيف وقد صرح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فقال لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ورجل آتاه الله تعالى علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس (1) حديث أبي كبشة مثل هذه الأمة مثل أربعة رجل أتاه الله مالا الحديث رواه ابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح (2) حديث ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن الحسد والظن والطيرة الحديث تقدم غير مرة // ثم قال وله منهن مخرج إذا حسدت فلا تبغ أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد
_________
(1) حديث لا حسد إلا في اثنتين الحديث متفق عليه من حديث ابن عمرو وقد تقدم في العلم ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأنماري فقال مثل هذه الأمة مثل أربعة رجل أتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو ينفقه في معاصي الله ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي فهما في الوزر سواء
(2) فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ماله فإذاً لا حَرَجَ عَلَى مَنْ يَغْبِطُ غَيْرَهُ فِي نِعْمَةٍ وَيَشْتَهِي لِنَفْسِهِ مِثْلَهَا مَهْمَا لَمْ يُحِبَّ زَوَالَهَا عنه ولم يكره دوامها له نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضياً بالمعصية وذلك حرام وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة وكان تحت هذه النعمة أمران أحدهما راحة المنعم عليه والآخر ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له
ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان وههنا دقيقة غامضة وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب زوال النقصان وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسدا مذموما وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفي عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن الحسد والظن والطيرة(3/191)
الدنيا ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له فهذه هي حقيقة الحسد وأحكامه وأما مراتبه فأربع
الأولى أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث الثانية أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها الثالثة أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلاً يظهر التفاوت بينهما الرابعة أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه
وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين والثالثة فيها مذموم وغير مذموم والثانية أخف من الثالثة والأولى مذموم محض وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ الله به بعضكم على بعض فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم
بيان أسباب الحسد والمنافسة
أما المنافسة فسببها حب ما فيه المنافسة فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى وحب طاعته وإن كان دنيوياً فسببه حب مباحات الدنيا والتنعم فيها وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ومداخله كثيرة جداً ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب العداوة والكبر والتعجب والخوف من فوت المقاصد المحبوبة وحب الرياسة وخبث النفس وبخلها فإنه مما يكره النعمة على غيره إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضاً له بسبب إساءته إليه أو إلى من يحبه وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه وهو المراد بالتعزز وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه لنعمته وهو المراد بالتكبر وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب عظيم فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها وإما أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى ولابد من شرح هذه الأسباب
السبب الأول الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَهَذَا أَشَدُّ أَسْبَابِ الْحَسَدِ فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ شَخْصٌ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَخَالَفَهُ فِي غَرَضٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَبْغَضَهُ قَلْبُهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَرَسَخَ فِي نَفْسِهِ الْحِقْدُ وَالْحِقْدُ يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز المبغض عَنْ أَنْ يَتَشَفَّى بِنَفْسِهِ أَحَبَّ أَنْ يَتَشَفَّى مِنْهُ الزَّمَانُ وَرُبَّمَا يُحِيلُ ذَلِكَ عَلَى كَرَامَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَهْمَا أَصَابَتْ عَدُوَّهُ بَلِيَّةٌ فَرِحَ بِهَا وَظَنَّهَا مُكَافَأَةً لَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ عَلَى بُغْضِهِ وَأَنَّهَا لِأَجْلِهِ وَمَهْمَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ سَاءَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ضِدُّ مُرَادِهِ وَرُبَّمَا يَخْطُرُ لَهُ أَنَّهُ لَا مَنْزِلَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَقِمْ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ الَّذِي آذَاهُ بَلْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَسَدُ يَلْزَمُ الْبُغْضَ وَالْعَدَاوَةَ وَلَا يُفَارِقُهُمَا وَإِنَّمَا غَايَةُ التَّقِيِّ أَنْ لَا يَبْغِيَ وَأَنْ يَكْرَهَ ذلك من نفسه فأما أن يبغض إنساناً ثم يستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به أعني الحسد بالعداوة إذ قال الله تعالى وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن(3/192)
الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم الآية وكذلك قال ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه
السبب الثاني التَّعَزُّزُ وَهُوَ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَرَفَّعَ عليه غيره
فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علماً أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته مثلاً ولكن لا يرضى بالترفع عليه
السبب الثالث الكبر وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته أو ربما يتشوف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطيء رءوسنا فقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (1)
أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً وقال تعالى يصف قول قريش أهؤلاء من الله عليهم من بيننا كالاستحقار لهم والأنفة منهم
السبب الرابع التعجب كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب وقالوا متعجبين أبعث الله بشراً رسولاً {وقالوا} لولا أنزل علينا الملائكة وقال تعالى أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم الآية
السبب الخامس الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهه محصورين إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له
السبب السادس حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر
_________
(1) حديث سبب نزول قوله تعالى لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ذكره ابن إسحاق في السيرة وإن قائل ذلك الوليد بن المغيرة قال أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدهما ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف فنحن عظماء القريتين فأنزل الله فيما بلغني هذه الآية ورواه أبو محمد بن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيريهما من حديث ابن عباس إلا أنهما قالا مسعود بن عمرو وفي رواية لابن مردويه حبيب بن عمير الثقفي وهو ضعيف(3/193)
وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكبر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد
وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصل إلى مقاصد سوى الرياسة وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم واستتباعهم مهما نسخ علمهم
السبب السابع خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ لِغَيْرِهِ وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ ملكه وخزانته ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة هذا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ إِلَّا خُبْثٌ فِي النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة إزالته فهذه هي أسباب الحسد وَقَدْ يَجْتَمِعُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ أَكْثَرُهَا أَوْ جَمِيعُهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَعْظُمُ فِيهِ الْحَسَدُ بِذَلِكَ وَيَقْوَى قُوَّةً لَا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ وَالْمُجَامَلَةِ بَلْ يَنْهَتِكُ حِجَابُ الْمُجَامَلَةِ وتظهر العداوة بالمكاشفة
وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد سبب واحد منها
بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم
والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه
اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب
وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة وكذلك في محلتين نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما فيثور من التناقض التنافر والتباغض ومنه تثور بقية أسباب الحسد ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم والتاجر يحسد التاجر بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته
لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون وإنما ينازعه فيه بزاز آخر إذ حريف البزاز لا يطلبه(3/194)
الإسكاف بل البزاز ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق فلا جرم يكون حسده للجار أكثر وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص فأصل هذه المحاسدات العداوة وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهما نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين أما الآخرة فلا ضيق فيها وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً فيما عند الله تعالى لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة فيكون ذلك سبباً للمحاسدة وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتليء قلب غيره بها وأن يفرح بذلك والفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع ما في الأرض لم يبق بعده مال يتملكه غيره والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق لأن غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته يأمن زوالها وهو أبداً يجني ثمارها فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة بل قطوفها دانية فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبداً ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء ومشاهدة المحبوب في العقبى فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة لأن الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين ولذلك وسم به الشيطان اللعين وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء ولما دعى إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود(3/195)
يضيق عن الوفاء بالكل ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء ولكن السماء لسعة الأقطار وافيه بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجال رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذكر الله ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم لأن الشوق بعد الذوق ومن لم يذق لم يعرف ومن لم يعرف لم يشتق ومن لم يشتق لم يطلب ومن لم يطلب لم يدرك ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين
بَيَانُ الدَّوَاءِ الَّذِي يَنْفِي مَرَضَ الْحَسَدِ عَنِ الْقَلْبِ
اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَظِيمَةِ لِلْقُلُوبِ وَلَا تُدَاوَى أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْعِلْمُ النَّافِعُ لِمَرَضِ الْحَسَدِ هُوَ أَنْ تَعْرِفَ تَحْقِيقًا أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِمَا وَمَهْمَا عَرَفْتَ هَذَا عَنْ بَصِيرَةٍ وَلَمْ تَكُنْ عَدُوَّ نَفْسِكَ وَصَدِيقَ عَدُوِّكَ فَارَقْتَ الْحَسَدَ لَا مَحَالَةَ أَمَّا كَوْنُهُ ضَرَرًا عَلَيْكَ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّكَ بِالْحَسَدِ سَخِطْتَ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرِهْتَ نِعْمَتَهُ الَّتِي قَسَّمَهَا بَيْنَ عِبَادِهِ وَعَدْلَهُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي مُلْكِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ فاستنكرت ذلك واستبشعته وهذه جناية على حَدَقَةِ التَّوْحِيدِ وَقَذًى فِي عَيْنِ الْإِيمَانِ وَنَاهِيكَ بِهِمَا جِنَايَةً عَلَى الدِّينِ وَقَدِ انْضَافَ إِلَى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وَأَنْبِيَاءَهُ فِي حُبِّهِمُ الْخَيْرَ لِعِبَادِهِ تَعَالَى وَشَارَكْتَ إبليس وسائر الكفار فِي مَحَبَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْبَلَايَا وَزَوَالَ النِّعَمِ وَهَذِهِ خَبَائِثُ فِي الْقَلْبِ تَأْكُلُ حَسَنَاتِ الْقَلْبِ كَمَا تأكل النار الحطب وتمحوها كما يمحو الليل والنهار وأما كونه ضرراً عليك فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّكَ تَتَأَلَّمُ بِحَسَدِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَتَعَذَّبُ بِهِ وَلَا تَزَالُ فِي كَمَدٍ وَغَمٍّ إِذْ أَعْدَاؤُكَ لَا يُخْلِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نِعَمٍ يُفِيضُهَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَزَالُ تَتَعَذَّبُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ تَرَاهَا وَتَتَأَلَّمُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ تنصرف عنهم فتبقى مغموماً محروماً متشعب القلب ضيق الصدر قد نَزَلَ بِكَ مَا يَشْتَهِيهِ الْأَعْدَاءُ لَكَ وَتَشْتَهِيهِ لِأَعْدَائِكَ فَقَدْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمِحْنَةَ لِعَدُوِّكَ فَتَنَجَّزَتْ في الحال محنتك وغمك نقداً ومع هذا فلا تَزُولُ النِّعْمَةُ عَنِ الْمَحْسُودِ بِحَسَدِكَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ لَكَانَ مُقْتَضَى الْفِطْنَةِ إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا أَنْ تَحْذَرَ مِنَ الْحَسَدِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَلَمِ الْقَلْبِ وَمَسَاءَتِهِ مَعَ عَدَمِ النَّفْعِ فَكَيْفَ وَأَنْتَ عَالِمٌ بِمَا فِي الْحَسَدِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ فَمَا أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَنَالُهُ بَلْ مَعَ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُهُ وَأَلَمٍ يُقَاسِيهِ فَيُهْلِكُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ مِنْ غير جدوى ولا فائدة وأما أنه ضَرَرَ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَوَاضِحٌ لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه فلا حيلة في دفعه بل كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب
ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغييره فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها ومهما(3/196)
لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا يكون عليه إثم في الآخرة ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضاً لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان قال الله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم إذ ما يريد الحسود لا يكون نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها وَأَمَّا أَنَّ الْمَحْسُودَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَوَاضِحٌ أَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِكَ لَا سِيَّمَا إِذَا أَخْرَجَكَ الْحَسَدُ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالْغِيبَةِ وَالْقَدْحِ فيه وهتك ستره وذكر مساويه فهذه هدايا تهديها إليه أعني أنك بذلك تُهْدِي إِلَيْهِ حَسَنَاتِكَ حَتَّى تَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مفلساً محروماً عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل
نعم كان لله عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة
وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم ولذلك لا يشتهي عدوك موتك بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسداً ولذلك قيل
لا مات أعداؤك بل خلدوا ... حتى يروا فيك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد
ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبليه عنده فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّكَ عَدُوُّ نَفْسِكَ وَصَدِيقُ عَدُوِّكَ إِذْ تَعَاطَيْتَ مَا تَضَرَّرْتَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَانْتَفَعَ بِهِ عَدُوُّكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَصِرْتَ مَذْمُومًا عِنْدَ الْخَالِقِ وَالْخَلَائِقِ شَقِيًّا فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ وَنِعْمَةُ الْمَحْسُودِ دَائِمَةٌ شئت أم أبيت باقية ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك
وقد قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم(3/197)
المرء مع من أحب (1)
وقام أعرابي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب فقال يا رسول الله متى الساعة فقال ما أعددت لها قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت (2)
قال أنس فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله قال أنس فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم وقال أبو موسى قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم حتى عد أشياء فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو مع من أحب (3)
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً فإن لم تستطع أن تكون متعلماً فأحبهم فإن لم تستطع فلا تبغضهم فقال سبحان الله الذي جعل الله لنا مخرجاً
فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطيء في دين الله تعالى وينكشف خطؤه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة وقد جاء في الحديث أهل الجنة ثلاثة المحسن والمحب له والكاف عنه (4)
أي من يكف عن الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها البتة فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهما إلى عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمني فيقلعها فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها فيزداد غيظه فيعود على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى وأعداؤه حوله يفرحون به ويضحكون عليه وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه بل حالك في الحسد أقبح من هذا لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة
والحسد يعود بالإثم والإثم لا يفوت بالموت ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقاً لقوله تعالى ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله وربما يبتلي بعين ما يشتهيه لعدوه وقلما يشمت شامت بمساءة إلا ويبتلى بمثلها حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما تمنيت لعثمان شيئاً إلا نزل بي حتى لو تمنيت له القتل لقتلت فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه الحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة
فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بِذِهْنٍ صَافٍ وَقَلْبٍ حَاضِرٍ انْطَفَأَتْ نَارُ الْحَسَدِ من قلبه وعلم
_________
(1) حديث الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال هو مع من أحب متفق عليه من حديث ابن مسعود
(2) حديث سؤال الأعرابي متى الساعة فقال ما أعددت لها الحديث متفق عليه من حديث أنس
(3) حديث أبي موسى قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي الحديث وفيه هو مع من أحب متفق عليه من حديث بلفظ آخر مختصرا الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال المرء مع من أحب
(4) حديث أهل الجنة ثلاثة المحسن والمحب له والكاف عنه لم أجد له أصلا(3/198)
أنه مهلك نفسه ومفرح عدوه ومسخط ربه ومنغص عيشه
وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصير ما تكلفه أولاً طبعاً آخرا ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة تكلفاً كانت أو طبعاً تكسر سورة العداوة من الجانبين وتقل مرغوبها وتعود القلوب التَّآلُفِ وَالتَّحَابِّ وَبِذَلِكَ تَسْتَرِيحُ الْقُلُوبُ مِنْ أَلَمِ الْحَسَدِ وَغَمِّ التَّبَاغُضِ
فَهَذِهِ هِيَ أَدْوِيَةُ الْحَسَدِ وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا إِلَّا أَنَّهَا مُرَّةٌ عَلَى الْقُلُوبِ جِدًّا وَلَكِنَّ النَّفْعَ فِي الدَّوَاءِ الْمُرِّ فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ لَمْ يَنَلْ حَلَاوَةَ الشِّفَاءِ وَإِنَّمَا تَهُونُ مَرَارَةُ هَذَا الدَّوَاءِ أَعْنِي التَّوَاضُعَ لِلْأَعْدَاءِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِقُوَّةِ الْعِلْمِ بِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَقُوَّةِ الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل وعند ذلك يريد ما لا يكون إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه وأما الثاني فللمجاهدة فيه مدخل وتحصيله بالرياضة ممكن فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي
فأما الدواء المفصل فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه ويغمه ذلك لا محالة وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق
بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ولكن إن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل قال اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مما أوتوا وقال عز وجل ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء {وقال} إن تمسسكم حسنة تسؤهم أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن(3/199)
الحسد وليس هو عين الحسد بل محل الحسد القلب دون الجوارح نعم هذا الحسد ليس مظلمة يجب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع فقد أديت الواجب عليك ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقاً بحب الله تعالى مثل السكران الواله فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعالا لله ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته أعني الشيطان فإنه ينازع بالوسوسة فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده وروي عنه موقوفاً ومرفوعاً إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من الحسد أن لا يبغي والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة العدو وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء فإن جميع ما ورد من الأحبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد فإذن كونه آثماً بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال
أحدها أن تحب مساءتهم بطبعك وتكره حبك لذلك وميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك وهذا معفو عنه قطعاً لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه
الثاني أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك فهذا هو الحسد المحظور قطعاً
الثالث وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه وهذا في محل الخلاف والظاهر أنه لا يخلو عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل(3/200)
كتاب ذم الدنيا وهو الكتاب السادس من ربع المهلكات من كتاب إحياء
العلوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا في شواهدها وآياتها ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها ولا يفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها إن أحسنت ساعة أساءت سنة وإن أساءت مرة جعلتها سنة فدوائر إقبالها على التقارب دائرة وتجارة بنيها خاسرة بائرة وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة فكل مغرور بها إلى الذل مصيره وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره شأنها الهرب من طالبها والطلب لهاربها ومن خدمها فاتته ومن أعرض عنها واتته لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات ولا ينفك سرورها عن المنغصات سلامتها تعقب السقم وشبابها يسوق إلى الهرم ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم فهي خداعة مكارة طيارة فرارة لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها وشوشت عليهم مناظم أسبابها وكشفت لهم عن مكنون عجائبها فأذاقتهم قواتل سمامها ورشقتهم بصوائب سهامها بينما أصحابها منها في سرور وإنعام إذ ولت عنها كأنها أضغاث أحلام ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد إن ملكت واحداً منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس تمنى أصحابها سروراً وتعدهم غروراً حتى يأملون كثيراً ويبنون قصورا فتصبح قصورهم قبورا وجمعهم بورا وسعيهم هباء منثورا ودعاؤهم ثبورا هذه صفتها وكان أمر الله قدراً مقدورا والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله المرسل إلى العالمين بشيراً ونذيرا وسراجاً منيرا وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيرا وعلى الظالمين نصيرا وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فإن الدنيا عدوة لله وعدوة لأولياء الله وعدوة لأعداء الله أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل فإنه تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها وعولوا عليها فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها فاجتنوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ولا يغاثون بل يقال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون أولئك الذي اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب ولا هم ينصرون
وإذا عظمت غوائل الدنيا وشرورها فلا بد أولاً من معرفة حقيقة الدنيا وما هي وما الحكمة في خلقها مع عداوتها وما مدخل غرورها وشرورها فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ويوشك أن يقع فيه ونحن نذكر ذم(3/201)
الدنيا وأمثلتها وحقيقتها وتفصيل معانيها وأصناف الأشغال المتعلقة بها ووجه الحاجة إلى أصولها وسبب انصراف الخلق عن الله بسبب التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى وهو المعين على ما يرتضيه
بيان ذَمِّ الدُّنْيَا
الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَأَمْثِلَتِهَا كَثِيرَةٌ وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَمِّ الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إِلَى الْآخِرَةِ بَلْ هُوَ مَقْصُودُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يُبْعَثُوا إِلَّا لِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِشْهَادِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ لِظُهُورِهَا وَإِنَّمَا نُورِدُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا
فَقَدْ رُوِيَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّاةَ هَيِّنَةً عَلَى أَهْلِهَا قَالُوا مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا
قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ عَلَى أَهْلِهَا وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ (1)
وقال صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (2)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منها (3)
وقال أبو موسى الأشعري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ الدُّنْيَا رأس كل خطيئة (5)
وقال زيد بن أرقم كنا مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه وسكتوا وما سكت ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته قال ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك قال كنت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولم أر معه أحداً فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني ثم رجعت فقالت إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك (6)
وقال صلى الله عليه وسلم يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور (7)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال هلموا إلى الدنيا وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت فقال هذه الدنيا (8)
وهذه إشارة إلى أن زينة الدنيا ستخلق مثل تلك الخرق وأن الأجسام التي ترى بها ستصير عظاماً بالية
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كيف تعملون إن بني إسرائيل لما
_________
(1) حديث مَرَّ عَلَى شَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشاة هينة على صاحبها الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث سهل بن سعد وآخره عند الترمذي وقال حسن صحيح ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث المستورد بن شداد دون هذه القطعة الأخيرة ولمسلم نحوه من حديث جابر
(2) حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(3) حديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي هريرة وزاد إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم
(4) حديث أبي موسى الأشعري من أحب دنياه أضر بآخرته الحديث أخرجه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه
(5) حديث حب الدنيا رأس كل خطيئة أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه من رواية الحسن مرسلا
(6) حديث زيد بن أرقم كنا مع أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى الحديث وفيه كنت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يدفع عن نفسه شيئا الحديث أخرجه البزار بسند ضعيف بنحوه والحاكم وصحح إسناده وابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بلفظه
(7) حديث يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي جرير مرسلا
(8) حديث إنه وقف على مزبلة فقال هلموا إلى الدنيا الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه من رواية ابن ميمون اللخمي مرسلا وفيه بقية بن الوليد وقد عنعنه وهو مدلس(3/202)
بسطت لهم الدنيا ومهدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب (1)
وقال عيسى عليه السلام لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم عبيداً اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة وقال عليه أفضل الصلاة والسلام يا معشر الحواريين إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن عصي الله فيها وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا ورب شهوة ساعة أورثت أهلها حزناً طويلاً
وقال أيضاً بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة وقال أيضاً الدنيا طالبة ومطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه وقال موسى ابن يسار قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها (2)
وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله قال فمر بعابد من بني إسرائيل فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً قال فسمع سليمان وقال لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطى ابن داود فإن ما أعطى ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى
وقال صلى الله عليه وسلم ألهاكم التكاثر يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت (3) حديث الدنيا دار من لا دار له الحديث أخرجه أحمد من حديث عائشة مقتصرا على هذا وعلى قوله ولها يجمع من لا عقل له دون بقيته وزاد ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه ومال من لا مال له وإسناده جيد (4) حديث من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر دون قوله وألزم الله قلبه وكذلك رواه ابن أبي الدنيا من حديث أنس بإسناد ضعيف والحاكم من حديث حذيفة وروي هذه الزيادة منفردة صاحب الفردوس من حديث ابن عمر وكلاهما ضعيف (5) حديث أبي هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها قلت بلى يا رسول الله فأخذ بيدي وأتى بي وادياً من أودية المدينة فإذا مزبلة الحديث لم أجد له أصلا //
ويروى إن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى الأرض قال له ابن للخراب ولد للفناء
_________
(1) حديث إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فيها فناظر كيف تعملون الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد دون قوله إن بني إسرائيل والشطر الأول متفق عليه ورواه ابن أبي الدنيا من حديث الحسن مرسلا بالزيادة التي في آخره
(2) حديث موسى بن يسار إن الله جل ثناؤه لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها أخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه بلاغا وللبيهقي في الشعب من طريقه وهو مرسل
(3) حديث ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي الحديث أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن الشخير
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الدُّنْيَا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادى من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا يقين لَهُ
(4) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال هما لا ينقطع عنه أبداً وشغلاً لا يتفرغ منه أبداً وفقراً لا يبلغ غناه أبداً وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً
(5) وقال أبو هريرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها فقلت بل يا رسول الله فأخذ بيده وأتى بي وادياً من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رءوس أناس وعذرات وخرق وعظام ثم قال يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكياً على الدنيا فليبك قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا(3/203)
وقال داود بن هلال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم إني قذفت في قلوبهم بغضك والصدود عنك وما خلقت خلقاً أهون علي منك كل شأنك صغير وإلى الفناء يصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ولا يدوم لك أحد وإن بخل بك صاحبك وشح عليك طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم والملائكة حافون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لم ينظر إليها وتقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيباً فيقول اسكتي يا لا شيء إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم (1)
وروي في أخبار آدم عليه السلام أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثقل ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة فلذلك نهيا عن أكلها قال فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له قل له أي شيء تريد قال آدم أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقيل للملك قل له في أي مكان تريد أن تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكاناً يصلح لذلك اهبط إلى الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار قالوا يا رسول الله مصلين قال نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عرض لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه (2)
وقال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزود العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار (3) وقال عيسى عليه السلام لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد وروي أن جبريل عليه السلام قال لنوح عليه السلام يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر قيل لعيسى عليه السلام لو اتخذت بيتاً يكنك
قال يكفينا خلقان من كان قبلنا
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت (4)
وعن الحسن قال خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم على أصحابه فقال هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد في الدنيا وقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية ألا أنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبة إلا باتباع الهوى إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صديقا // حديث الحسن هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه هكذا مرسلا وفيه إبراهيم بن الأشعث تكلم فيه أبو حاتم وروي أن عيسى عليه السلام اشتد عليه المطر والرعد
_________
(1) حديث الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله لا ينظر إليها الحديث تقدم بعضه من رواية موسى بن يسارمرسلا ولم أجد باقيه
(2) حديث لجيئين أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم الي النار الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث سالم مولى أبي حذيفة بسند ضعيف وأبو منصور الديلمي من حديث أنس وهو ضعيف أيضا
(3) حديث المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث الحسن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه انقطاع
(4) حديث احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه من رواية أبي الدرداء الرهاوي مرسلا وقال البيهقي أن بعضهم قال عن أبي الدرداء عن رجل من الصحابة قال الذهبي لا يدرى من أبو الدرداء قال وهكذا منكر لا أصل له(3/204)
والبرق يوماً فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى فأوحى الله تعالى إليه مأواك في مستقر رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتها بيدي ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام يوم منها كعمر الدنيا ولآمرن منادياً ينادي أين الزهاد في الدنيا زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن مريم وقال عيسى ابن مريم عليه السلام ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وما فيها وتغره ويأمنها ويثق بها وتخذله وويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون وويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غداً بذنبه وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام يا موسى مالك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك فبئست الدار هي إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فجاء بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم (1)
وقال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض فقيل ما بركات الأرض قال زهرة الدنيا (2)
وقال صلى الله عليه وسلم لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا (3)
فنهى عن ذكرها فضلاً عن إصابة عينها وقال عمار بن سعيد مر عيسى عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق فقال يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا روح الله وددنا أن لو علمنا خبرهم فسأل الله تعالى فأوحى إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله فقال ما حالكم وما قصتكم قال بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية قال وكيف ذاك قال بحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي قال وكيف كان حبكم للدنيا قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا بها وإذا أدبرت حزنا وبكينا عليها قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال فكيف أجبتني أنت من بينهم قال لأني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أأنجوا منها أم أكبكب فيها فقال المسيح للحواريين لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة وقال أنس كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه (4) وقال عيسى عليه السلام من الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا
_________
(1) حديث بعث أبا عبيدة بن الجراح فجاء بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة متفق عليه من حديث عمرو ابن عوف البدري
(2) حديث أبي سعيد إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الدنيا الحديث متفق عليه
(3) حديث لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا أخرجه البيهقي في الشعب من طريق ابن أبي الدنيا من رواية محمد بن النضر الحارثي مرسلا
(4) حديث أنس كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق الحديث وفيه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه أخرجه البخاري(3/205)
تتخذوها قراراً وقيل لعيسى عليه السلام علمنا علما واحداً يحبنا الله عليه قال ابغضوا الدنيا يحبكم الله تعالى وقال أبو الدرداء قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة (1) ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لابد لكم منه ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته ما لكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم تناصحون في أمر الدنيا ولا تناصحون في أمر الآخرة ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك لأموركم فإن قلتم حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه فبئس القوم أنتم ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فائتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في أموركم ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حالكم إني لأرى الله قد تبرأ منكم يلقى بعضكم بعضاً بالسرور وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل ونبتت مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته ولو كان حياً لم يصابركم فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً وبالله أستعين على نفسي وعليكم وقال عيسى عليه السلام يا معشر الحواريين ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا وفي معناه قيل
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ... وما أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى ... الملوك بدنياهم عن الدين
وقال عيسى عليه السلام يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب (2)
وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشذ منها
ومر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي ورجع وهو يبكي فقال موسى يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموع عينيه ورفع يديه حتى يسقطا لم أغفر له وهو يحب الدنيا
الآثار قال علي رضي الله عنه من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً أولها من
_________
(1) حديث أبي الدرداء لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة أخرجه الطبراني دون قوله ولهانت وزاد ولخرجتم إلى الصعدات الحديث وزاد الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر وما تلذذتم بالنساء على الفرش وأول الحديث متفق عليه من حديث أنس وفي أفراد البخاري من حديث عائشة
(2) حديث لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب لم أجد له أصلا(3/206)
عرف الله وأطاعه وعرف الشيطان فعصاه وعرف الحق فاتبعه وعرف الباطل فاتقاه وعرف الدنيا فرفضها وعرف الآخرة فطلبها
وقال الحسن رحم الله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافاً وقال أيضاً رحمه الله من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره وقال لقمان عليه السلام لابنه يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير فلتكن سفينتك فيه تقوى الله عز وجل وحشوها الإيمان بالله تعالى وشراعها التوكل على الله عز وجل لعلك تنجو وما أراك ناجياً وقال الفضيل طالت فكرتي في هذه الآية {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} وقال بعض الحكماء إنك لن تصبح في شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك وسيكون له أهل بعدك وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم فلا تهلك في أكله وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار وقيل لبعض الرهبان كيف ترى الدهر قال يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية ويبعد الأمنية قيل فما حال أهله قال من ظفر به تعب ومن فاته نصب وفي ذلك قيل
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره ... فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها وقال بعض الحكماء كانت الدنيا ولم أكن فيها وتذهب الدنيا ولا أكون فيها فلا أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو بلية نازلة أو منية قاضية وقال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحدا ما يستحق لكنها إما أن تزيد وإما أن تنقص وقال سفيان أما ترى النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها وقال أبو سليمان الداراني من طلب الدنيا على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر ومن طلب الآخرة على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر وليس لهذا غاية وقال رجل لأبي حازم أشكو إليك حب الدنيا وليست لي بدار فقال انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلا في حقه ولا يضرك حب الدنيا
وإنما قال هذا لأنه لو آخذ نفسه بذلك لألعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها وقال يحيى بن معاذ الدنيا حانوت الشيطان فلا تسرق من حانوته شيئاً فيجيء في طلبه فيأخذك وقال الفضيل لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى فكيف وقد اخترنا خزفاً يفني على ذهب يبقى وقال أبو حازم إياكم والدنيا فإنه بلغني أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظماً الدنيا فيقال هذا عظم ما حقره الله وقال ابن مسعود ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة وفي ذلك قيل
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وزار رابعة أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره وقيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت فقال
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقع
وقيل أيضاً في ذلك
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ... ونال من الدنيا سروراً وأنعما(3/207)
كبان بنى بنيانه فأقامه ... فلما استوى ما قد بناه تهدما
وقيل أيضاً في ذلك
هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل فيء ... أظلك ثم آذن بالزوال
وقال لقمان لابنه يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً وقال مطرف ابن الشخير لا تنظر إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم وقال ابن عباس إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر فالمؤمن يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع وقال بعضهم الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب وفي ذلك قيل يا خاطب الدنيا إلى نفسها ... تنح عن خطبتها تسلم
إن التي تخطب غدارة ... قريبة العرس من المأتم
وقال أبو الدرداء من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها
وفي ذلك قيل
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وقيل أيضاً
يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
أفنى القرون التي كانت منعمة ... كر الجديدين إقبالاً وإدبارا
كم قد أبادت صروف الدهر من ملك ... قد كان في الدهر نفاعاً وضرارا
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها ... يمسي ويصبح في دنياه سفارا
هلا تركت من الدنيا معانقة ... حتى تعانق في الفردوس أبكارا
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها ... فينبغي لك أن لا تأمن النارا
وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أتت إبليس جنوده فقالوا قد بعث نبي وأخرجت أمة قال يحبون الدنيا قالوا نعم قال لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث أخذ المال من غير حقه وإنفاقه في غير حقه وإمساكه عن حقه والشر كان من هذا نبع وقال رجل لعلي كرم الله وجهه يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا قال وما أصف لك من دار صح فيها سقم ومن أمن فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها افتتن في حلالها الحساب وفي حرامها العقاب ومتشابهها العتاب وقيل له ذلك مرة أخرى فقال أطول أم أقصر فقيل قصر فقال حلالها حساب وحرامها عذاب وقال مالك بن دينار اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا
وقال أبو سليمان الداراني إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة وهذا تشديد عظيم ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح إذ قال الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب فأيهما غلب كان الآخر تبعاً له وقال مالك بن دينار بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال الدنيا(3/208)
والآخرة ضرتان فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى وقال الحسن والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا وقال رجل للحسن ما تقول في رجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق منه ويصل منه أيحسن له أن يتعيش فيه يعني يتنعم فقال لا لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقدم ذلك ليوم فقره وقال الفضيل لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت على حلالاً لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقيل لما قدم عمر رضي الله عنه الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومة بحبل فسلم وسأله ثم أتى منزله فلم ير فيه إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر رضي الله عنه لو اتخذت متاعاً فقال يا أمير المؤمنين إن هذا يبلغنا المقيل
وقال سفيان خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقلبك
وقال الحسن والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرحمن بحبهم الدنيا
وقال وهب قرأت في بعض الكتب الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهال لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا وقال لقمان لابنه يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد عنها وقال سعيد بن مسعود إذا رأيت العبد تزداد دنياه وتنقص آخرته وهو به راض فذلك المغون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر وقال عمرو بن العاص على المنبر والله ما رأيت قوماً قط أرغب فيما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزهد فيه منكم والله ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له (1)
وقال الحسن بعد أن تلا قوله تعالى {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} من قال ذا قاله من خلقها ومن هو أعلم بها إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب وقال أيضاً مسكين ابن أدم رضي بدار حلالها حساب وحرامها عذاب إن أخذه من حله حوسب به وإن أخذه من حرام عذب به ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز سلام عليك أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات فأجابه عمر سلام عليك كأنك بالدنيا ولم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل وقال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد وقال بعضهم عجباً لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح وعجباً لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك وعجبا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها وعجباً لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب وقدم على معاوية رضي الله عنه رجل من نجران عمره مائتا سنة فسأله عن الدنيا كيف وجدها فقال سنيات بلاء وسنيات رخاء يوم فيوم وليلة فليلة يولد ولد ويهلك هالك فلولا المولود لباد الخلق ولولا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها فقال له سل ما شئت قال عمر مضى فترده أو أجل حضر فتدفعه قال لا أملك ذلك قال لا حاجة لي إليك وقال داود الطائي رحمه الله يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك وإنما بلغته بانقضاه أجلك ثم سوفت بعملك كان منفعته لغيرك وقال بشر من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه وقال أبو حازم ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد ألصق الله إليه شيئاً يسوءك وقال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث أنه لم يشبع مما جمع ولم يدرك ما أمل ولم يحسن الزاد لما يقدم عليه وقيل لبعض العباد قد نلت الغنى فقال إنما نال الغنى من عتق من رق الدنيا وقال أبو سليمان لا يصبر
_________
(1) حديث عمرو بن العاص والله ما رأيت قوماً قط أرغب فيما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزهد فيه منكم الحديث أخرجه الحاكم وصححه ورواه أحمد وابن حبان بنحوه(3/209)
عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة وقال مالك بن دينار اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً ولا ينهى بعضنا بعضاً ولا يدعنا الله على هذا فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا وقال أبو حازم يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة وقال الحسن أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها
وقال أيضاً إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك فإذا نفذ أعاد عليه وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً وكان بعضهم يقول في دعائه يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني وقال محمد بن المنكدر أرأيت لو أن رجلاً صام الدهر لا يفطر وقام الليل لا ينام وتصدق بماله وجاهد في سبيل الله واجتنب محارم الله غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال إن هذا عظم في عينه ما صغره الله وصغر في عينه ما عظمه الله كيف ترى يكون حاله فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا وقال أبو حازم اشتدت مؤنة الدنيا والآخرة فأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً وأما مؤنة الدنيا فإنك لا تضرب بيدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه وقال أبو هريرة الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي تنادي ربها منذ خلقها إلى يوم يفنيها يا رب يا رب لم تبغضني فيقول لها اسكتي يا لا شيء وقال عبد الله بن المبارك حب الدنيا والذنوب في القلب قد احتوشته فمتى يصل الخير إليه وقال وهب بن منبه من فرح قلبه بشيء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة ومن جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله ومن غلب علمه هواه فهو الغالب وقيل لبشر مات فلان فقال جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة ضيع نفسه قيل له إنه كان يفعل ويفعل وذكروا أبواباً من البر فقال وما ينفع هذا وهو يجمع الدنيا وقال بعضهم الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا وقيل لحكيم الدنيا لمن هي قال لمن تركها فقيل الآخرة لمن هي قال لمن طلبها وقال حكيم الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها وقال الجنيد كان الشافعي رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا وعظ أخاً له في الله وخوفه بالله فقال يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة عمرانها إلى الخراب صائر وساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف وغناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقصر من أملك وقال إبراهيم بن أدهم لرجل أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة فقال دينار في اليقظة فقال كذبت لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة وعن إسماعيل بن عياش قال كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة فيقولون إليك عنا يا خنزيرة فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به وقال كعب لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه وقال أيضاً الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله فكيف الوقوع فيها وقال بكر بن عبد الله من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفيء النار بالتبن وقال بندار إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرة الشيطان وقال أيضاً من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها يعني الحرص حتى يصير رماداً ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهراً لا حد لقيمته وقال علي كرم الله وجهه إنما الدنيا ستة أشياء مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب(3/210)
ومنكوح ومشموم فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها وأشرف المشمومات المسك وهو دم
بيان المواعظ في ذم الدنيا وصفتها
قال بعضهم يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة قد تزخرف لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة فكم من عاشق لها قتلت ومطمئن إليها خذلت فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل فهو على الدواء من دليل وهل إلى الطبيب من سبيل فتدعى له الأطباء ولا يرجى له الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك وثبت يقينك وطمحت جفونك وصدقت ظنونك وتلجلج لسانك وبكى إخوانك وقيل لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان ومنعت من الكلام فلا تنطق وختم على لسانك فلا ينطلق ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك فغسلوك وكفنوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهناً بأعمالك وقال بعضهم لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه أو على جمعه فتفرقه أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بشيء هو ضنين به بين أحبابه فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة ما تعطي الراجعة فيما تهب بينا هي تضحك صاحبها إذا أضحكت منه غيره وبينا تبكي له إذ أبكت عليه وبينا هي تبسط كفها بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد فتعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غداً سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفاً وترضى بكل من كل بدلاً وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إلى عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغني منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها حلت بآمالها وسوفت بخطابها فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قالية فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغصته وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يروح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم(3/211)
على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه السار في أهلها غار والنافع فيها غدار ضار وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء فسروها مشوب بالأحزان لا يرجع منها ما ولى وأدبر ولا يدري ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وابن آدم فيها على خطر إن عقل ونظر فهو من النعماء على خطر ومن البلاء على الحذر فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجرا وفيها واعظ فما لها عند الله جل ثناؤه قدر وما نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبيك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها (1) إذ كره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختباراً وبسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسي ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه (2)
ولقد جاءت الرواية عنه عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام إذا رأيت الغني مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى ابن مريم عليه السلام فإنه كان يقول إدامي الجوع وشعاري الخوف ولباسي الصوف وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس وسراجي القمر ودابتي رجلاي وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض أبيت وليس لي شيء وأصبح وليس لي شيء وليس على الأرض أحد أغنى مني وقال وهب بن منبه لما بعث الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال لا يرو عنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ولا يعجبنكما ما تمتع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين فلو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك فأزوي ذلك عنكما وكذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وإني لأجنبهم ملاذها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن منازل الغرة وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخوف والخضوع والتقوى تنبت في قلوبهم وتظهر على أجسادهم فهي ثيابهم التي يلبسون ودثارهم الذي يظهرون وضميرهم الذي يستشعرون ونجاتهم التي بها يفوزون ورجاؤهم الذي إياه يأملون ومجدهم الذي به يفخرون وسيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر له يوم القيامة
وخطب علي كرم الله وجهه يوماً خطبة فقال فيها اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها بالبلاء محفوفة وبالفناء معروفة وبالغدر موصوفة وكل ما فيها إلى زوال وهي بين أهلها دول وسجال لا تدوم أحوالها ولا يسلم من شرها نزالها بينا أهلها منها في رخاء
_________
(1) حديث الحسن وكتب به إلى عمر بن عبد العزيز عرضت أي الدنيا على نبيك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها الحديث أخرجه أبي الدنيا هكذا مرسلا ورواه أحمد والطبراني متصلا من حديث أبي مويهبة في أثناء حديث فيه إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة الحديث وسنده صحيح وللترمذي من حديث أبي أمامة عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً الحديث
(2) حديث الحسن مرسلا في شده الحجر على بطنه أخرجه ابن أبي الدنيا أيضا هكذا وللبخاري من حديث أنس رفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرين وقال حديث غريب(3/212)
وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور أحوال مختلفة وتارات منصرفة العيش فيها مذموم والرخاء فيها لا يدوم وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتقصيهم بحمامها وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعماراً وأشد منكم بطشاً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأجسادهم بالية وديارهم على عروشها خاوية وآثارهم عافية واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل محلة متشاغلين لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما بينهم من قرب المكان والجوار ودنو الدار وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلا وأكلتهم الجنادل والثرى وأصبحوا بعد الحياة أمواتاً وبعد نضارة العيش رفاتاً فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب ظعنوا فليس لهم إياب هيهات هيهات {كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع فكيف بكم لو عاينتم الأمور وبعثرت القبور وحصل ما في الصدور وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت عنكم الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار هنالك تجزى كل نفس بما كسبت إن الله عز وجل يقول ليجزى الذي أساءوا بما عملوا ويجزى الذي أحسنوا بالحسنى وَقَالَ تَعَالَى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مما فيه} الآية جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابة متبعين لأوليائه حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله إنه حميد مجيد
وقال بعض الحكماء الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعة بك ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها وإنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ اللهم أرشدنا إلى الصواب وقال بعض الحكماء وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها فقال الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه وما لم يأت فلا علم لك به والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله عليه فقال يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم حمقى وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ثم غلبه البكاء ونزل
قال علي كرم الله وجهه في خطبته أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم وإن كنتم لا تحبون تركها المبلية أجسامكم وأنتم تريدون تجديدها فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقاً وكأنهم قطعوه وأفضوا إلى علم فكأنهم بلغوه وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهي إلى الغاية وكم عسى أن يبقى من له يوم في(3/213)
الدنيا وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه
وقال محمد بن الحسين لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب إن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه وأنها عنده حقيرة قليلة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي لبسوا من الثياب ما ستر العورة وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم
بيان صفة الدنيا بالأمثلة
اعلم أن الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها وإنما يحس عند انقضائها ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ... إن اغتراراً بظل زائل حمق
وقيل إن هذا من قوله ويقال إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه فقام وهو يقول
ألا إنما الدنيا كظل ثنية ... ولا بد يوماً أن ظلك زائل
وكذلك قيل
وإن امرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها
تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون (1) وقال يونس بن عبيد ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به وقيل لبعض الحكماء أي شيء أشبه بالدنيا قال أحلام النائم
مثال آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيها اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها كم تزوجت قالت لا أحصيهم قال
_________
(1) حديث الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون لم أجد له أصلا(3/214)
فكلهم مات عنك أم كلهم طلقك قالت بل كلهم قتلت فقال عيسى عليه السلام بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر
مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها
وقال العلاء بن زياد رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها ويلك من أنت قالت أو ما تعرفني قلت لا أدري من أنت قالت أنا الدنيا قلت أعوذ بالله من شرك قالت إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم قال أبو بكر بن عياش رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء ثم بكى أبو بكر وقال رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد وقال الفضيل بن عياض قال ابن عباس يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية ومشوه خلقها فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التي تناحرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم يقذف بها في جهنم فتنادي أي رب أين أتباعي وأشياعي فيقول الله عز وجل ألحقوا بها أتباعها وأشياعها وقال الفضيل بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رآه الناس عجوز شمطاء زرقاء عمشاء قال فقلت أعوذ بالله منك قالت لا والله لا يعيذك الله مني حتى تبغض الدرهم قال فقلت من أنت قالت أنا الدنيا
مثال آخر للدنيا وعبور الإنسان بها اعلم أن الأحوال ثلاثة حالة لم تكن فيها شيئاً وهي ما قبل وجودك إلى الأزل وحالة لا تكون فيها مشاهداً للدنيا وهي ما بعد موتك إلى الأبد وحالة متوسطة بين الأبد والأزل وهي أيام حياتك في الدنيا فانظر إلى مقدار طولها وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مالي وللدنيا وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها (1)
ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق أو في سعة ورفاهية بل لا يبني لبنة على لبنة
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (2)
ورأى بعض الصحابة يبني بيتاً من جص فقال أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك (3) وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وهو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة واللحد هو الميل الآخر
_________
(1) حديث مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن مسعود بنحوه ورواه أحمد والحاكم وصححه من حديث ابن عباس
(2) حديث ما وضع لبنة على لبنة الحديث أخرجه ابن حبان في الثقات وللطبراني في الأوسط من حديث عائشة بسند ضعيف من سأل عني أو سره أن ينظر إلى فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة الحديث
(3) حديث رأى بعض أصحابه يبني بيتاً من جص فقال أرى الأمر أعجل من هذا أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وقال حسن صحيح(3/215)
وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد له من العبور والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان
مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها اعلم أن أوائل الدنيا تبدو هينة لينة يظن الخائض فيها أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام
مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه (1)
وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من أعظم المتفجعين بفراقها فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة
قال عيسى عليه السلام بحق أقول لكم كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا وبحق أقول لكم إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ وبحق أقول لكم إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله (2)
مثال آخر لما بقي من الدنيا وقلته بالإضافة لما سبق قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع (3)
مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك قال عيسى عليه السلام مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشاً حتى يقتله
مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد
_________
(1) حديث إنما مثل صاحب الدنيا كمثل الماشي في الماء الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من رواية الحسن قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره ووصله البيهقي في الشعب وفي الزهد من رواية الحسن عن أنس
(2) حديث إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية فرقه في موضعين ورجاله ثقات
(3) حديث مثل هذه الدنيا كمثل ثوب شق من أوله إلى آخره أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس بسند ضعيف(3/216)
بل هي في الدنيا مشاهدة فإن من نهبت داره وأخذ أهله وماله وولده فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا وقد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للضحاك بن سفيان الكلابي الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه اللبن والماء قال بلى قال فإلام يصير قال إلى ما قد علمت يا رسول لله قال فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم (1)
وقال أبي بن كعب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه إلام يصير (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلا وضرب مطعم ابن آدم للدنيا مثلاً وإن قزحه وملحه (3)
وقال الحسن قد رأيتهم يطيبونه بالأفاويه والطيب ثم يرمون به حيث رأيتم وقد قال الله عز وجل فلينظر الإنسان إلى طعامه قال ابن عباس إلى رجيعه وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحي قال فلا تستحي واسأل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام ينظر إلى ذلك منه قال نعم إن الملك يقول له انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ماذا صار وكان بشر بن كعب يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم
مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع إليه (4)
مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها اعلم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس ينفعه التأسف
وبعضهم تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات
_________
(1) حديث أنه قال للضحاك بن سفيان الكلابي الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح الحديث وفيه فإن الله ضرب مثل الدنيا لما يصير إليه طعام بن آدم أخرجه أحمد والطبراني من حديثه بنحوه وفيه علي بن زيد بن جدعان مختلف فيه
(2) حديث أبي بن كعب إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم الحديث أخرجه الطبراني وابن حبان بلفظ إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلا ورواه عبد الله بن أحمد في زياداته بلفظ جعل
(3) حديث إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلا وضرب مطعم ابن آدم للدنيا مثلا الحديث الشطر الأول منه غريب والشطر الأخير هو الذي تقدم من حديث الضحاك بن سفيان إن الله ضرب ما يخرج من بني آدم مثلا للدنيا
(4) حديث ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع إليه أخرجه مسلم من حديث المستورد بن شداد(3/217)
والنكبات ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك ومنهم من مات في الأوحال ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة
وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل
مثال آخر لاغتزار الخلق بالدنيا وضعف إيمانهم قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه فقالوا هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال يا هؤلاء فقالوا يا هذا فقال علام أنتم فقالوا على ما ترى فقال أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئاً قال عهودكم ومواثيقكم بالله فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً قال فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء قالوا يا هذا قال الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم فقال أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل (1)
ومثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً واحداً بعد واحد فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه لا ليتملكه ويأخذه فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له فلما استرجع منه ضجر وتفجع ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب
_________
(1) حديث الحسن بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله لأحمد والبزار والطبراني من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان الحديث وفيه فقال أي أحد الملكين إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى مفازة فذكر نحوه اخصر منه وإسناده حسن(3/218)
وانشراح صدر وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها
فهذه أمثلة الدنيا وآفاتها وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه
بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد
اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَمِّ الدُّنْيَا لَا تَكْفِيكَ مَا لَمْ تَعْرِفِ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةَ مَا هِيَ وَمَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ مِنْهَا وَمَا الَّذِي لَا يُجْتَنَبُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ نُبَيِّنَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةَ الْمَأْمُورَ بِاجْتِنَابِهَا لِكَوْنِهَا عَدُوَّةً قَاطِعَةً لِطَرِيقِ اللَّهِ مَا هِيَ فَنَقُولُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَتَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ قَلْبِكَ فَالْقَرِيبُ الداني منها يُسَمَّى دُنْيَا وَهُوَ كُلُّ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْمُتَرَاخِي الْمُتَأَخِّرُ يُسَمَّى آخِرَةً وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكُلُّ مَا لَكَ فِيهِ حَظٌّ وَنَصِيبٌ وَغَرَضٌ وَشَهْوَةٌ وَلَذَّةٌ عَاجِلُ الْحَالِ قَبْلَ الْوَفَاةِ فَهِيَ الدُّنْيَا فِي حَقِّكَ إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ مالك إِلَيْهِ مَيْلٌ وَفِيهِ نَصِيبٌ وَحَظٌّ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ بَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان العلم والعمل فقط وأعني بالعلم العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا
ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلاً بل قلنا إنه من الآخرة وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه حتى قال بعضهم ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل وكان آخر يقول اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة (1)
فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة فنقول هذه ليست من الدنيا
الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُقَابِلُ لَهُ عَلَى الطَّرَفِ الْأَقْصَى كُلُّ مَا فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ وَلَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَصْلًا كَالتَّلَذُّذِ بِالْمَعَاصِي كلها والتنعم بالمباحاة الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي جملة الرفاهية والرعونات كالتنعم بالقناطير الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة فَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ هِيَ الدُّنْيَا المذمومة وفيما يعد فضولا أوفى محل الحاجة نظر طويل إذ روي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفاً أنفق عليه درهمين فكتب إليه عمر من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها فإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك فلم يزل بها حتى مات فهذا رآه فضولاً من الدنيا فتأمل فيه
_________
(1) حديث حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة أخرجه النسائي والحاكم من حديث أنس دون قوله ثلاث وتقدم في النكاح(3/219)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كُلُّ حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن وكل ما لا بد منه لبتأتي للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا كالقسم الأول لأنه معين على القسم الْأَوَّلِ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَمَهْمَا تَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَنَاوِلًا لِلدُّنْيَا وَلَمْ يَصِرْ بِهِ من أبناء الدنيا وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث صفات صفاء القلب أعني طهارته من الأدناس وأنسه بذكر الله تعالى وحبه لله عز وجل
وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت
أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بن العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه (1) الحديث
وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة فيصير القبر روضة من رياض الجنة وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه ولذلك قيل
ما حال من كان له واحد ... غيب عنه ذلك الواحد
وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن وصحة البدن لا تنال إلا بقوت وملبس ومسكن ويحتاج كل واحد إلى أسباب فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَكَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مزرعة للآخرة وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب (2)
إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلالها حساب وحرامها عذاب (3)
وقد قال أيضاً حلالها عذاب إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام
_________
(1) حديث مناضلة أعمال العبد عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل فدفع عنه الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة بطوله وفيه خالد بن عبد الرحمن المخزومي ضعفه البخاري وأبو حاتم ولأحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا أحزبه عمله الصلاة والصيام الحديث وإسناده صحيح
(2) حديث من نوقش الحساب عذب متفق عليه من حديث عائشة
(3) حديث حلالها حساب وحرامها عذاب أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه موقوفا على علي بن أبي طالب بإسناد منقطع بلفظ وحرامها النار ولم أجده مرفوعا(3/220)
بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يرد على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه هذا من النعيم الذي تسئل عنه (1)
أشار به إلى الماء البارد والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخطر ومشقة وانتظار وكل ذلك من نقصان الحظ ولذلك قال عمر رضي الله عنه اعزلوا عني حسابها حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله فإن ذلك القدر ليس من الدنيا وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد حتى أن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه إذ تمثل له إبليس وقال رغبت في الدنيا وحتى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُلْكِهِ كَانَ يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة فإن الصبر على لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياماً (2)
وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع (3)
ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه وقد عرفت بهذا أن كل مَا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا هو لله فذلك ليس من الدنيا
فإن قلت فما الذي هو لله فأقول الأشياء ثلاثة أقسام منها مالا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات وهي الدنيا المحضة المذمومة فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده فإن كان القصد حظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا قال صلى الله عليه وسلم من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر (4)
فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد فإذاً الدُّنْيَا حَظُّ نَفْسِكَ الْعَاجِلُ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْهَوَى وَإِلَيْهِ الإشارة بقوله تعالى ونهى النفس عن
_________
(1) حديث هذا من النعيم الذي تسئل عنه تقدم في الأطعمة
(2) حديث زوى الله الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياما أخرجه محمد بن خفيف في شرف الفقراء من حديث عمر بن الخطاب قال قلت يا رسول الله عجبا لمن بسط الله لهم الدنيا وزواها عنك الحديث وهو من طريق إسحاق معنعنا وللترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله الحديث قال الترمذي حسن صحيح
(3) حديث كان يشد الحجر على بطنه من الجوع تقدم
(4) حديث من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيف(3/221)
الهوى فإن الجنة هي المأوى وَمَجَامِعُ الْهَوَى خَمْسَةُ أُمُورٍ وَهِيَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد وَالْأَعْيَانُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا هَذِهِ الْخَمْسَةُ سَبْعَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحياة الدنيا فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هو لله إن قصد به وجه الله والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة ولها طرفان وواسطة طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منه وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه
والحزم في الحذر والتقوى والتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام إذا كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرنى كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتان والثلاث لا يرون له وجهاً وكان يخرج أول الآذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة وكان طعامه أن يلتقط النوى وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها فكان ذلك لباسه وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون فيقول لهم يا أخوتاه إن كنتم ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي فيحضر وقت الصلاة ولا أصيب الماء فهكذا كانت سيرته ولقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فقال إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله (1) ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم قالوا فقاموا فقال اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة فجلسوا فقال اجلسوا إلا من كان من مراد فجلسوا فقال اجلسوا إلا من كان من قرن فجلسوا كلهم إلا رجلاً واحداً فقال له عمر أقرني أنت فقال نعم فقال أتعرف أويس بن عامر القرني فوصفه له فقال نعم وما ذاك تسأل عنه يا أمير المؤمنين والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولا أدنى منه فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال ما قلت ما قلت إلا لأني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر (2)
فقال هرم بن حيان لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم إلا أن أطلب أويساً القرني وأسأل عنه حتى سقطت عليه جالسا على شاطيء الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه فعرفته بالنعت الذي نعت لي فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية متغير جداً كريه الوجه متهيب المنظر قال فسلمت عليه فرد علي السلام ونظر إلي فقلت حياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني فقلت رحمك الله يا أويس وغفر لك كيف أنت رحمك الله ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى فقال وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك علي قال قلت الله فقال
_________
(1) إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن أشار به إلى أويس القرني تقدم في قواعد العقائد لم أجد له أصلا
(2) حديث عمر يدخل الجنة في شفاعته مثل ربيعة ومضر يريد أويسا ورويناه في جزء ابن السماء من حديث أبي أمامة يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر وإسناده حسن وليس فيه ذكر لأويس بل في آخره فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان(3/222)
لا إله إلا الله سبحان الله إن كان وعد ربنا لمفعولا قال فعجبت حين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني فقلت من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم قال نبأني العليم الخبير وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل قال قلت حدثني رحمك الله عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحديث أسمعه منك قال إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي رسول الله ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً أو مفتياً أو قاضياً في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان فقلت يا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنك فإني أحبك في الله حباً شديداً قال فقام وأخذ بيدي على شاطيء الفرات ثم قال أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثم بكى ثم قال قال ربي والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه ثم قرأ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون حتى انتهى إلى قوله إنه هو العزيز الرحيم فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال يا ابن حيان مات أبوك حيان وتوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجى الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد صلى الله عليه وسلم وهو رسول رب العالمين ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بن الخطاب أخي وصفي ثم قال يا عمراه يا عمراه قال فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت قال فقد نعاه إلي ربي ونعى إلى نفسي ثم قال أنا وأنت في الموت كأنه قد كان ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا بدعوات خفيات ثم قال هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلى نفسي ونفسك عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة ادع لي ولنفسك ثم قال اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيراً واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عني خير الجزاء ثم قال أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي أن كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حياً فلا تسأل عني ولا تطلبني واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا
فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك ثم سألت عنه بعد ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له
فهكذا كانت سيرة أبناء الآخرة المعرضين عن الدنيا
وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا
ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذا حلف أنه في طريق الحج(3/223)
لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الرواية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولم يكن مشغولاً بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا نعم إذا قصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفاً عن الآخرة ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاوياً فسمعت في الليلة الثامنة منادياً وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه
فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى
بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم
أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم
اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عِبَارَةٌ عَنْهَا فَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً فَالْأَرْضُ فِرَاشٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَمِهَادٌ وَمَسْكَنٌ وَمُسْتَقَرٌّ وَمَا عَلَيْهَا لَهُمْ مَلْبَسٌ وَمَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ وَمَنْكَحٌ
وَيَجْمَعُ مَا عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ
أَمَّا النَّبَاتُ فَيَطْلُبُهُ الْآدَمِيُّ لِلِاقْتِيَاتِ وَالتَّدَاوِي وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَيَطْلُبُهَا لِلْآلَاتِ وَالْأَوَانِي كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَلِلنَّقْدِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ
أَمَّا الْبَهَائِمُ فَيَطْلُبُ مِنْهَا لُحُومَهَا لِلْمَآكِلِ وَظُهُورَهَا لِلْمَرْكَبِ والزينة
وأما الإنسان فقد يطلب الأدمى أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان أو ليتمتع بهم كَالْجَوَارِي وَالنِّسْوَانِ وَيَطْلُبُ قُلُوبَ النَّاسِ لِيَمْلِكَهَا بِأَنْ يَغْرِسَ فِيهَا التَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامَ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَاهِ إِذْ مَعْنَى الْجَاهِ مِلْكُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ فَهَذِهِ هِيَ الْأَعْيَانُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدُّنْيَا وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَهَذَا مِنَ الْإِنْسِ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهَذَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَعَادِنِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ على غيرها من اللآليء وَالْيَوَاقِيتِ وَغَيْرِهَا وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَهِيَ الْبَهَائِمُ والحيوانات وَالْحَرْثِ وَهُوَ النَّبَاتُ وَالزَّرْعُ
فَهَذِهِ هِيَ أَعْيَانُ الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ لَهَا مَعَ الْعَبْدِ عَلَاقَتَيْنِ عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ وَهُوَ حُبُّهُ لَهَا وَحَظُّهُ مِنْهَا وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إِلَيْهَا حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ أَوِ الْمُحِبِّ الْمُسْتَهْتِرِ بِالدُّنْيَا وَيَدْخُلُ فِي هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بِالدُّنْيَا كَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَالْمُدَاهَنَةِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ وَحُبِّ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ وَهَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا الْبَاطِنَةُ وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهِيَ الأعيان الَّتِي ذَكَرْنَاهَا
الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْبَدَنِ وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لِتَصْلُحَ لِحُظُوظِهِ وَحُظُوظِ غَيْرِهِ وَهِيَ جُمْلَةُ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الَّتِي الْخَلْقُ مَشْغُولُونَ بِهَا وَالْخَلْقُ إِنَّمَا نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَآبَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ بِالدُّنْيَا لِهَاتَيْنِ الْعَلَاقَتَيْنِ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِالْحُبِّ وَعَلَاقَةِ الْبَدَنِ بِالشُّغْلِ وَلَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ وَعَرَفَ رَبَّهُ وَعَرَفَ حِكْمَةَ الدُّنْيَا وَسِرَّهَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا دُنْيَا لَمْ تُخْلَقْ إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى وأعنى بالدابة البدن فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال(3/224)
ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبرد لها الماء بالثلج حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن فإن القوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضها ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها
ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية حدوث الحاجة إليها وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تتضح لك أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم فنقول الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث القوت والمسكن والملبس فالقوت للغذاء والبقاء والملبس لدفع الحر والبرد والمسكن لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه
نعم خلق ذلك للبهائم فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء ولباسها شعورها وجلودها فتستغني عن اللباس والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات وأوائل الأشغال الدنيوية وهي الفلاحة والرعاية والاقتناص والحياكة والبناء أما البناء فللمسكن والحياكة وما يكتنفها من أمر الغزل والخياطة فللملبس والفلاحة للمطعم والرعاية للمواشي والخيل أيضاً للمطعم والمركب والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما أو من جلود الحيوانات فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات النجارة والحدادة والخز وهؤلاء هم عمال الآلات ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان وبالحداد كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبرى وغيرهما وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها فهذه أمهات الصناعات ثم إن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين أحدهما حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما
والثاني(3/225)
التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه من الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل فحدثت البلاد لهذه الضرورة
ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت
فأما المرأة فتخاصم الزوج والولد يخاصم الأبوين هذا في المنزل
وأما أهل البلد أيضاً فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعاً لهلك ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى
فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم العدل
ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم
ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها
فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلاً تعطلت الصناعات ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة فتحدث الحاجة إلى الخراج ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصاً ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل(3/226)
طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال
ثم هؤلاء أيضاً يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الفرع مع مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاث طوائف الفلاحون والرعاة والمحترفون
والثانية الجندية الحماة بالسيوف
والثالثة المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى
وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسببه أبواب أخر وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى وهكذا على التوالي فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به وأعلاها الأغذية ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها وهي الدور ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته ثم آلات الآلات وقد يكون الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد والبقر آلة الحراثة والفرس آلة الركوب في الحرب ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده للآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة إلا أن النجار مثلاً إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجاً باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعا في الربح وكذلك في جميع الأمتعة والأموال ثم يحدث لا محالة بين البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم إذ كل بلد ربما لا توجد فيه كل آلة وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة
ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضاً ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة ويصير الكراء نوعاً من الاكتساب أيضاً ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاماً بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال ثم يحتاج إلى(3/227)
مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم
وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم وشي من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه عنه مانع فيبقى عاجز عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره فيحدث منه حرفتان خسيستان اللصوصية والكداية إذ يجمهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير أما اللصوص فمنهم من يطلب أعواناً ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة وإما بأن يكون طراراً أو سلالاً إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فمالك والبطالة فلا يعطى شيئاً فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رءوس المنابر إذا لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين وكل ذلك استنبط بدقيق الفكرة لأجل المعيشة فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه
فطائفة غلبهم الجهل والغفلة فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة امورهم فقالوا المقصود أن نعيش أياماً في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ثم نكسب حتى نأكل فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين فإنه يتعب نهاراً(3/228)
ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت
وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر
وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك ولا يعتبرون وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس
وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة وأن ذلك غاية المطلب وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعرف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم وأضلهم في الإعراض أيضاً حتى انقسموا إلى طوائف
فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا(3/229)
وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولاً من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عبادة العباد لا ينقصه عصيان عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد
وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف وإنما التكليف على عوام الخلق ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَلْبُ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر وَبَقِيَ مُلَازِمًا لِسِيَاسَةِ الشَّهَوَاتِ وَمُرَاقِبًا لَهَا حَتَّى لَا يُجَاوِزَ حُدُودَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ وَهُمُ الصحابة فإنه عليه السلام لما قال الناجي منها واحدة قالوا يا رسول الله ومن هم قال أهل السنة والجماعة فقيل ومن أهل السنة والجماعة قال ما أنا عليه وأصحابي (1)
وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا بَلْ لِلدِّينِ وَمَا كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ وَيَهْجُرُونَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْأُمُورِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ بَلْ كَانَ أَمْرُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْوَسَطُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ أحب الأمور إلى الله تعالى كما سبق ذكره في مواضع والله أعمل تم كتاب ذم الدنيا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسلم
_________
(1) حديث افتراق الأمة وفيه الناجي منهم واحدة قالوا ومن هم قال أهل السنة والجماعة الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة فقالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث أنس وعوف بن مالك وهي الجماعة وأسانيدها جياد(3/230)
كتاب ذم البخل وذم حب المال
وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط وكاشف الضر بعد القنوت الذي خلق الخلق ووسع الرزق وأفاض على العالمين أصناف الأموال وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال ورددهم فيها بين العسر واليسر والغنى والفقر والطمع واليأس والثروة والإفلاس والعجز والاستطاعة والحرص والقناعة والبخل والجود والفرح بالموجود والأسف على المفقود والإيثار والإنفاق والتوسع والإملاق والتبذير والتقتير والرضا بالقليل واستحقار الكثير كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف واسعة الأرجاء والأكناف ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها ثم إذا وجدت فلا سلامة منها فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً وإن وجد حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسرا وبالجملة فهي لا تخلو من الفوائد والآفات وفوائدها من المنجيات وآفاتها من المهلكات وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المسترسمين المغترين وشرح ذلك مهم على الانفراد فإن ما ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ ذَمِّ الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ نَظَرًا فِي الْمَالِ خَاصَّةً بَلْ فِي الدُّنْيَا عامة إذ الدنيا تتناول كل حظ عاجل والمال بعض أجزاء الدنيا والجاه بعضها واتباع شهوة البطن والفرج بعضها وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها والكبر وطلب العلو بعضها ولها أبعاض كثيرة ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده إِذْ فِيهِ آفَاتٌ وَغَوَائِلُ وَلِلْإِنْسَانِ مِنْ فَقْدِهِ صِفَةُ الْفَقْرِ وَمِنْ وُجُودِهِ وَصْفُ الْغِنَى وَهُمَا حَالَتَانِ يَحْصُلُ بِهِمَا الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ ثُمَّ لِلْفَاقِدِ حَالَتَانِ الْقَنَاعَةُ وَالْحِرْصُ وَإِحْدَاهُمَا مَذْمُومَةٌ وَالْأُخْرَى مَحْمُودَةٌ وَلِلْحَرِيصِ حَالَتَانِ طَمَعٌ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَتَشَمُّرٌ لِلْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ مَعَ الْيَأْسِ عَنِ الْخَلْقِ والطمع شر الحالتين وللواجد حَالَتَانِ إِمْسَاكٌ بِحُكْمِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَإِنْفَاقٌ وَإِحْدَاهُمَا مَذْمُومَةٌ وَالْأُخْرَى مَحْمُودَةٌ وَلِلْمُنْفِقِ حَالَتَانِ تَبْذِيرٌ وَاقْتِصَادٌ وَالْمَحْمُودُ هُوَ الِاقْتِصَادُ وَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَشَابِهَةٌ وَكَشْفُ الغطاء عن الغموض فيها مهم ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلاً إن شاء الله تعالى وهو بيان ذم المال ثم مدحه ثم تفصيل فوائد المال وآفاته ثم ذم الحرص والطمع ثم علاج الحرص والطمع ثم فضيلة السخاء ثم حكايات الأسخياء ثم ذم البخل ثم حكايات البخلاء ثم الإيثار وفضله ثم حد السخاء والبخل ثم علاج البخل ثم مجموع الوظائف في المال ثم ذم الغنى ومدح الفقر إن شاء الله تعالى(3/231)
بَيَانُ ذَمِّ الْمَالِ وَكَرَاهَةِ حُبِّهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عنده أجر عظيم فَمَنِ اخْتَارَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عَلَى مَا عِنْدَ الله فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدنيا وزينتها الآية وقال تعالى إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ العظيم وقال تعالى ألهاكم التكاثر وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذِئْبَانِ ضاريان أرسلا في زريبة غَنَمٍ بِأَكْثَرَ إِفْسَادًا فِيهَا مِنْ حُبِّ الشَّرَفِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ فِي دِينِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ إِلَّا مَنْ قَالَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وهكذا وقليل ما هم (3)
وقيل يا رسول الله أي أمتك شر قال الأغنياء (4)
وقال صلى الله عليه وسلم سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ويركبون فره الخيل وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها ويلبسون أجمل الثياب وألوانها لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع عاكفون على الدنيا يغدون ويروحون إليها اتخذوها آلهة من دون إلههم ورباً دون ربهم إلى أمرها ينتهون ولهواهم يتبعون فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام (5)
وقال صلى الله عليه وسلم دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أو تصدقت فأمضيت (7)
وقال رجل يا رسول الله مالي لا أحب الموت فقال هل معك من مال قال نعم يا رسول الله قال قدم مالك فإن قلب المؤمن مع ماله إن قدمه
_________
(1) حديث حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل لم أجده بهذا اللفظ وذكره بعد هذا بلفظ الجاه بدل الشرف
(2) حديث ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفسادا لها من حب المال والجاه في دين الرجل المسلم أخرجه الترمذي والنسائي في الكبرى من حديث كعب بن مالك وقالا جائعان مكان ضاريان ولم يقولا في زريبة وقالا الشرف بدل الجاه قال الترمذي حسن صحيح وللطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم الحديث وللبزار من حديث أبي هريرة ضاريان جائعان وإسناد الطبراني فيهما ضعيف
(3) حديث هلك الأكثرون إِلَّا مَنْ قَالَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هكذا وهكذا الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبد الرحمن ابن أبزي بلفظ المكثرون ولم يقل في عباد الله ورواه أحمد من حديث أبي سعيد بلفظ المكثرون وهو متفق عليه من حديث أبي ذر بلفظ هم الأخسرون فقال أبو ذر من هم فقال هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا الحديث
(4) حديث قيل يا رسول الله أي أمتك شر قال الأغنياء غريب لم أجده بهذا اللفظ وللطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن جعفر شرار أمتي الذين ولدوا في النعيم وغذوا به يأكلون من الطعام ألوانا وفيه أصرم بن حوشب ضعيف ورواه هناد بن السري في الزهد له من رواية عروة بن رويم مرسلا وللبزار من حديث أبي هريرة بسند ضعيف إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم وتنبت عليه أجسامهم
(5) حديث سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها الحديث بطوله أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث أبي أمامة سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب يتشدقون في الكلام أولئك شرار أمتي وسنده ضعيف ولم أجد لباقيه أصلا
(6) حديث دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر أخرجه البزار من حديث أنس وفيه هانيء بن المتوكل ضعفه ابن حبان
(7) حديث يقول العبد مالي مالي الحديث أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن الشخير وأبي هريرة وقد تقدم(3/232)
أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه (1)
وقال صلى الله عليه وسلم أخلاء ابن آدم ثلاثة واحد يتبعه إلى قبض روحه والثاني إلى قبره والثالث إلى محشرة فالذي يتبعه إلى قبض روحه فهو ماله والذي يتبعه إلى قبره فهو أهله والذي يتعبه إلى محشره فهو عمله (2)
وقال الحواريون لعيسى عليه السلام مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك فقال لهم ما منزلة الدينار والدرهم عندكم قالوا حسنة قال لكنهما والمدر عندي سواء وكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا مالاً تؤدي شكره فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور (3)
وكل ما أوردناه في كتاب الزهد والفقر في ذم الغنى ومدح الفقر يرجع جميعه إلى ذم المال فلا نطول بتكريره وكذا كل ما ذكرناه في ذم الدنيا فيتناول ذم المال بحكم العموم لأن المال أعظم أركان الدنيا وإنما نذكر الآن ما ورد في المال خاصة
قال صلى الله عليه وسلم إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف (4) حديث لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا أخرجه الترمذي والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود بلفظ فترغبوا //
الآثار روي أن رجلاً نال من أبي الدرداء وأراه سوءاً فقال اللهم من فعل بي سوءاً فأصح جسمه وأطل عمره وأكثر ماله فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم وطول العمر لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهماً على كفه ثم قال أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت ما هذا قالوا أرسل إليك عمر بن الخطاب قالت غفر الله له ثم سلت ستراً كان لها فقطعته وجعلته صرراً وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها ثم رفعت يديها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقاً به وقال الحسن والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله وقيل إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعهما إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما وقال من أحبكما فهو عبدي حقاً وقال سميط بن عجلان إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار وقال يحيى بن معاذ الدِّرْهَمُ عَقْرَبٌ فَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ رُقْيَتَهُ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَدَغَكَ قَتَلَكَ سُمُّهُ قِيلَ وَمَا رُقْيَتُهُ قَالَ أَخْذُهُ مِنْ حِلِّهِ وَوَضْعُهُ في حقه وقال العلاء بن زياد تمثلت لي الدنيا وعليها من كل زينة فقلت أعوذ
_________
(1) حديث قال رجل يا رسول الله مالي لا أحب الموت الحديث لم أقف عليه
(2) حديث أخلاء ابن آدم ثلاثة واحد يتبعه إلى قبض روحه والثاني إلى قبره الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث النعمان بن بشير بإسناد جيد نحوه ورواه أبو داود الطيالسي وأبو الشيخ في كتاب الثواب والطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند جيد أيضا وفي الكبير من حديث سمرة بن جندب وللشيخين من حديث أنس يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد الحديث
(3) حديث كتب سلمان إلى أبي الدرداء وفيه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه الحديث قلت ليس هو من حديث سلمان إنما هو من حديث أبي الدرداء أنه كتب إلى سلمان كذا رواه البيهقي في الشعب وقال بدل الدنيا المال وهو منقطع
(4) حديث إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة يبلغ به وقد تقدم في آداب الصحبة
وقال صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا(3/233)
بالله من شرك فقالت إن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدرهم والدينار وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا وفي ذلك قيل
إني وجدت فلا تظنوا غيره ... أن التورع عند هذا الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته ... فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم
وفي ذلك قيل أيضاً
لا يغرنك من المر قميص رقعه ... أو إزار فوق عظم الساق منه رفعه
أو جبين لاح فيه أثر قد خلعه ... أره الدرهم تعرف حبه أو ورعه
ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته فقال يا أمير المؤمنين صنعت صنيعاً لم يصنعه أحد قبلك تركت ولدك ليس لهم درهم ولا دينار وكان له ثلاثة عشر من الولد فقال عمر أقعدوني فأقعدوه فقال أما قولك لم أدع لهم دينار ولا درهماً فإني لم أمنعهم حقاً لهم ولم أعطهم حقاً لغيرهم وإنما ولدي أحد رجلين إما مطيع لله فالله كافيه والله يتولى الصالحين وإما عاص لله فلا أبالي على ما وقع وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالاً كثيراً فقيل له لو ادخرته لولدك من بعدك قال لا ولكني أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي ويروى أن رجلاً قال لأبي عبد ربه يا أخي لا تذهب بشر وتترك أولادك بخير فأخرج أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم
وقال يحيى بن معاذ مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته قبل وما هما قال يؤخذ منه كله ويسئل عَنْهُ كُلُّهُ
بَيَانُ مَدْحِ الْمَالِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّمِّ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْمَالَ خَيْرًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ العزيز فقال جل وعز {إن ترك خيراً} الآية وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم المال الصالح للرجل الصالح (1)
وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به وقال تعالى {ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} وَقَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} وقال صلى الله عليه وسلم كاد الفقر أن يكون كفرا (2) حديث من أكرم الناس وأكيسهم قال أكثرهم للموت ذكرا الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ أي المؤمنين أكيس ورواه ابن أبي الدنيا في الموت بلفظ المصنف وإسناده جيد //
_________
(1) حديث نعم المال الصالح للرجل الصالح أخرجه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح بلفظ نعما وقالا للمرء
(2) حديث كاد الفقر أن يكون كفرا أخرجه أبو مسلم الليثي في سننه والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس وتقدم في كتاب ذم الغضب
وهو ثناء على المال
ولا تقف على وجه الجمع بعد الذَّمِّ وَالْمَدْحِ إِلَّا بِأَنْ تَعْرِفَ حِكْمَةَ الْمَالِ ومقصوده وآفاته وغوائله حَتَّى يَنْكَشِفَ لَكَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَشَرٌّ مِنْ وَجْهٍ وَأَنَّهُ مَحْمُودٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَيْرٌ وَمَذْمُومٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرٌّ فإنه ليس بخير محض ولا شر محض بل هو سبب لأمرين جميعاً وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة ويذم أخرى ولكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم وبيانه بالاستمداد مما ذكرناه في كتاب الشكر من بيان الخيرات وتفصيل درجات النعم والقدر المقنع فيه هو أن مقصد الأكياس وأرباب البصائر سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم والملك المقيم
والقصد إلى هذا دأب الكرام والأكياس إذ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس وأكيسهم فقال أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً(3/234)
وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا وهي الفضائل النفسية كالعلم وحسن الخلق والفضائل البدنية كالصحة والسلامة والفضائل الخارجة عن البدن كالمال وسائر الأسباب وأعلاها النفسية ثم البدنية ثم الخارجة
فالخارجة أخسها والمال من جملة الخارجات وأدناها الدراهم والدنانير فإنهما خادمان ولا خادم لهما ومرادان لغيرهما
ولا يرادان لذاتهما إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها وأنها تخدم العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق لتحصلها صفة في ذاتها والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس والأعضاء والمطاعم والملابس تخدم البدن وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن ومن المناكح إبقاء النسل ومن البدن تمكيل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والخلق
ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال ووجه شرفه وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ملتفتاً إليها غير ناس لها فقد أحسن وانتفع وكان ما حصل له الغرض محموداً في حقه فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل فهو إذن محمود مذموم محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر (1) حديث اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا متفق عليه من حديث أبي هريرة (2) حديث اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً أخرجه الترمذي من حديث أنس وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث أبي سعيد وقد تقدم (3) حديث تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة ولم يقل وانتفش وإنما علق آخره بلفظ تعس وانتكس ووصل ذلك ابن ماجه والحاكم //
فبين أَنَّ مُحِبَّهُمَا عَابِدٌ لَهُمَا وَمَنْ عَبَدَ حَجَرًا فهو عابد صنم بل كان من كان عبداً لغير الله فهو عابد صنم أي قَطَعَهُ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ فَهُوَ كَعَابِدِ صَنَمٍ وَهُوَ شِرْكٌ إِلَّا أن الشرك شركان شرك خفي لا يوجب الخلود في النار وقلما ينفك عنه المؤمنون فإنه أخفى من دبيب النمل وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع
بيان تفصيل آفات المال وفوائده
اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق ففوائده ترياقه وغوائله سمومه فمن عرف غوائله وفوائده أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ شَرِّهِ وَيَسْتَدِرَّ مِنْ خيره
_________
(1) حديث من أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر تقدم قبله بتسعة أحاديث وهو بقية احذروا الدنيا
كما ورد به الخبر
ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله وكان المال مسهلاً لها وآلة إليها عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبيا صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً
(2) فلم يطلب من الدنيا إلا ما يتمحض خيره وقال اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زمرة المساكين
(3) واستعاذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} وعنى بها هذين الحجرين الذهب والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة إذ قد كفى قبل النبوة مع الصغر وإنما معنا عبادتهما حبهما والاغترار بهما والركون إليهما قال نبيا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وتعس عبد الدرهم تعس ولن تعش وإذا شيك فلا انتفش(3/235)
أما الفوائد فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها
وأما الدينية فتنحصر جميعها فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ
النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَنْ يُنْفِقَهُ على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة أما في العبادة فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما وأما فيما يقويه على العبادة فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا بِهِ فهو عبادة فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة على الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط
النَّوْعُ الثَّانِي مَا يَصْرِفُهُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الصَّدَقَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَوِقَايَةُ الْعِرْضِ وَأُجْرَةُ الاستخدام
أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفيء غضب الرب تعالى وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم
وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَنَعْنِي بِهَا صَرْفَ الْمَالِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْأَشْرَافِ فِي ضِيَافَةٍ وَهَدِيَّةٍ وَإِعَانَةٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا فَإِنَّ هَذِهِ لَا تُسَمَّى صَدَقَةً بَلِ الصَّدَقَةُ مَا يُسَلَّمُ إِلَى الْمُحْتَاجِ إِلَّا أَنَّ هَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ إِذْ بِهِ يَكْتَسِبُ الْعَبْدُ الْإِخْوَانَ وَالْأَصْدِقَاءَ وَبِهِ يَكْتَسِبُ صِفَةَ السَّخَاءِ وَيَلْتَحِقُ بِزُمْرَةِ الْأَسْخِيَاءِ فَلَا يُوصَفُ بِالْجُودِ إِلَّا مَنْ يَصْطَنِعُ الْمَعْرُوفَ وَيَسْلُكُ سَبِيلَ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةَ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَعْظُمُ الثَّوَابُ فِيهِ فَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الْهَدَايَا وَالضِّيَافَاتِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ فِي مَصَارِفِهَا
وَأَمَّا وِقَايَةُ الْعِرْضِ فَنَعْنِي بِهِ بَذْلَ الْمَالِ لِدَفْعِ هَجْوِ الشُّعَرَاءِ وَثَلْبِ السُّفَهَاءِ وقطع ألسنتهم وَدَفْعِ شَرِّهِمْ وَهُوَ أَيْضًا مَعَ تَنَجُّزِ فَائِدَتِهِ بالعاجلة من الحظوظ الدينية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ (1)
وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ مَنْعُ الْمُغْتَابِ عَنْ مَعْصِيَةِ الْغِيبَةِ وَاحْتِرَازٌ عَمَّا يَثُورُ مِنْ كلامه من العداوة التي تحمل في المكافئة وَالِانْتِقَامِ عَلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ لتهيئة أسبابه كثيرة ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران
النَّوْعُ الثَّالِثُ مَا لَا يَصْرِفُهُ إِلَى إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَكِنْ يَحْصُلُ بِهِ خَيْرٌ عَامٌّ كَبِنَاءِ المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْقَافِ الْمُرْصَدَةِ لِلْخَيْرَاتِ وَهِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ الدَّارَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْمُسْتَجْلِبَةِ بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية وَنَاهِيكَ بِهَا خَيْرًا فَهَذِهِ جُمْلَةُ فَوَائِدِ الْمَالِ في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر والوصول إلى العز والمجد بين الخلق وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء والوقار والكرامة في القلوب فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية
_________
(1) حديث ما وقى به المرء عرضه به فهو صدقة رواه أبو يعلى من حديث جابر وقد تقدم(3/236)
وَأَمَّا الْآفَاتُ فَدِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَثَلَاثٌ
الأولى أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية ومن العصمة أن لا يجد ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته فإذا استشعر القدرة عليها انبعثت داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة إذ الصبر مع القدرة أشد وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء
الثانية أنه يجر إلى التنعم في المباحات وهذا أول الدرجات فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه ويجره البعض منه إلى البعض فإذا اشْتَدَّ أُنْسُهُ بِهِ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَيْهِ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ فَيَقْتَحِمُ الشُّبَهَاتِ وَيَخُوضُ في المراءاة والمداهنة والكذب وَالنِّفَاقِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ لِيَنْتَظِمَ لَهُ أَمْرُ دنياه ويتيسر له تنعمه فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه
الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أَنَّهُ يُلْهِيهِ إِصْلَاحُ مَالِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ عَنِ اللَّهِ فهو خسران ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام في المال ثلاث آفات أن يأخذه من غير حله فقيل إن أخذه من حله فقال يضعه في غير حقه فقيل إن وضعه في حقه فقال يشغله إصلاحه عن الله تعالى وهذا هو الداء العضال فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله وذلك يستدعي قلباً فارغاً وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في المال والحدود وخصومة أعوان السلطان في الخراج وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال وكذلك صاحب المواشي وهكذا سائر أصناف الأموال
وأبعدها عن كثرة الشغل النقد المكنوز تحت الأرض ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه إنه على ذلك قدير
بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس
اعلم أن الفقر محمود كما أوردناه في كتاب الفقر ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَلَا حَرِيصًا عَلَى اكتساب المال كيف كان ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة(3/237)
من المطعم والملبس والمسكن ويقتصر على أقله قدراً وأخسه نوعاً ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره ولا يشغل قلبه بما بعد شهر فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات وَقَدْ جُبِلَ الْآدَمِيُّ عَلَى الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب (1) وعن أبي واقد الليثي قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوحى أليه أتيناه يعلمنا مما أوحى إليه فجئته ذات يوم فقال إن الله عز وجل يقول إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب (2) وقال أبو موسى الأشعري نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب (3)
وقال صلى الله عليه وسلم منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال (4)
وقال صلى الله عليه وسلم يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الأمل وحب المال أو كما قال (5)
ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة وغريزة مهلكه أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة فقال صلى الله عليه وسلم طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا (7)
وقال صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس (8)
ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة (9)
وروي أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال أي عبادك أغنى قال أقنعهم مما أعطيته قال فأيهم أعدل قال من أنصف من نفسه (10) حديث ابن مسعود إن روح القدس نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة والحاكم مع اختلاف وقد تقدم فيه (11) حديث أبي هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس الحديث أخرجه ابن ماجه وقد تقدم //
_________
(1) حديث لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لابتغى لهما ثالثا الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس وأنس
(2) حديث أبي واقد الليثي إن الله عز وجل يقول إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة الحديث أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب بسند صحيح
(3) حديث أبي موسى نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم لو أن لابن آدم واديين من مال الحديث أخرجه مسلم مع اختلاف دون قوله إن الله يؤيد هذا الدين ورواه بهذه الزيادة الطبراني وفيه علي بن زيد متكلم فيه
(4) حديث منهومان لا يشبعان الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
(5) حديث يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحديث متفق عليه من حديث أنس
(6) حديث طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به أخرجه الترمذي وصححه والنسائي في الكبرى من حديث فضالة ابن عبيد ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه
(7) حديث ما من أحد غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي في الدنيا قوتا أخرجه ابن ماجه من رواية نفيع بن الحارث عن أنس ونفيع ضعيف
(8) حديث ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس متفق عليه من حديث أبي هريرة
(9) حديث ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له أخرجه الحاكم من حديث جابر بنحوه وصحح إسناده وقد تقدم في آداب الكسب والمعاش
(10) وقال ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن روح القدس نفث في روعي إن نفس لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب
(11) وقال أبو هريرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف وكوز من ماء وعلى الدنيا الدمار وقال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كن ورعاً تكن أعبد الناس وكن قنعاً تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً(3/238)
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع فيما رواه أبو أيوب الأنصاري أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عظني وأوجز فقال إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً وأجمع اليأس مما في أيدي الناس (1)
وقال عوف بن مالك الأشجعي كنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع أو ثمانية أو سبعة فقال ألا تبايعون رسول الله قلنا أو ليس قد بايعناك يا رسول الله ثم قال ألا تبايعون رسول الله فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل منا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك قال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الخمس وأن تسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئاً (2) قال فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه
الآثار قال عمر رضي الله عنه إن الطمع فقر وإن اليأس غنى وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم وقيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك وفي ذلك قيل
العيش ساعات تمر ... وخطوب أيام تكر
أقنع بعيشك ترضه ... واترك هواك تعيش حر
فلرب حتف ساقه ... ذهب وياقوت ودر
وكان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل ويقول من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد وقال سفيان خير دنياكم ما لم تبتلوا به وخير ما ابتليتم به ما خرج من أيديكم وقال ابن مسعود ما من يوم إلا وملك ينادى يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك وقال سميط بن عجلان إنما بطنك يابن آدم شبر في شبر فلم يدخلك النار وقيل لحكيم ما مالك قال التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس ويروى إن الله عز وجل قال يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت وإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن وقال ابن مسعود إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيراً ولا يأتي الرجل فيقول إنك وإنك فيقطع ظهره فإنما يأتيه ما قسم له من الرزق أو ما رزق وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه قد رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت وقيل لبعض الحكماء أي شيء أسر للعاقل وإيما شيء أعون على دفع الحزن فقال أسرها إليه ما قدم من صالح العمل وأعونها له على دفع الحزن الرضا بمحتوم القضاء وقال بعض الحكماء وجدت أطول الناس غماً الحسود وأهنأهم عيشاً القنوع وأصبرهم على الأذى الحريص إذا طمع وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا وأعظمهم ندامة العالم المفرط وفي ذلك قيل
آرفه ببال فتى أمسى على ثقة ... أن الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في دهره شيئاً يؤرقه
_________
(1) حديث أبي أيوب إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه وأجمع اليأس مما في أيدي الناس أخرجه ابن ماجه وتقدم في الصلاة وللحاكم نحوه من حديث سعد بن أبي وقاص وقال صحيح الإسناد
(2) حديث عوف بن مالك كنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال ألا تبايعون الحديث {وفيه} ولا تسألوا الناس أخرجه مسلم من حديثه ولم يقل فقال قائل ولا قال تسمعوا وقال سوط أحدهم وهي عند أبي داود وابن ماجه كما ذكرها المصنف(3/239)
وقد قيل أيضاً
حتى متى أنا في حل وترحال ... وطول سعي وإدبار وإقبال
ونازح الدار لا أنفك مغترباً ... عن الأحبة لا يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دعه ... إن القنوع الغنى لا كثرة المال
وقال عمر رضي الله عنه ألا أخبركم بما أستحل من مال الله تعالى حلتان لشتائي وقيظي وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا كأنه شك في أن هذا القدر هل هو زيادة على الكفاية التي تجب القناعة بها وعاتب أعرابي أخاه على الحرص فقال يا أخي أنت طالب ومطلوب يطلبك من لا تفوته وتطلب أنت ما قد كفيته وكأن ما غاب عنك قد كشف لك وما أنت فيه قد نقلت عنه كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً
وفي ذلك قيل
أراك يزيدك الإثراء حرصاً ... على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوماً ... إليها قلت حسبي قد رضيت
وقال الشعبي حكي أن رجلاً صاد قنبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك وآكلك قالت والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي أما واحدة فأعلمك وأنا في يدك وأما الثانية فإذا صرت على الشجرة وأما الثالثة فإذا صرت على الجبل قالت هات الأولى قالت لا تلهفن على ما فاتك فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هات الثانية لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالاً قال فعض على شفته وتلهف وقال هات الثالثة قالت أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك بالثالثة ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون أنا لحمي ودمي وريشي لا يكون عشرين مثقالاً فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالاً ثم طارت فذهبت وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون وقال ابن السماك إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك وقال أبو محمد اليزيدي دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب فلما رآني تبسم فقلت فائدة أصلح الله أمير المؤمنين قال نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما وقد أضفت إليهما ثالثاً
وأنشدني
إذا سد باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
ولا تك مبذالاً لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها
وقال عبد الله بن سلام لكعب ما يذهب العلوم من قلوب العلماء إذ وعوها وعقلوها قال الطمع وشره النفس وطلب الحوائج
وقال رجل للفضيل فسر لي قول كعب قال يطمع الرجل في الشيء يطلبه فيذهب عليه دينه وأما الشره فشره النفس في هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له فمن حبك للدنيا سلمت عليه(3/240)
إذا مررت به وعدته إذا مرض لم تسلم عليه لله عز وجل ولم تعده لله فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيراً لك
ثم قال هذا خير لك من مائة حديث عن فلان عن فلان قال بعض الحكماء من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال وقال عبد الواحد بن زيد مررت براهب فقلت له من أين تأكل قال من بيدر اللطيف الخبير الذي خلق الرحا يأتيها بالطحين وأومأ بيده إلى رحا أضراسه فسبحان القدير الخبير
بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة
اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان الصبر والعلم والعمل ومجموع ذلك خمسة أمور
الأول وهو العمل الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه ويرد نفسه إلا ما لا بد له منه فمن كَثُرَ خَرْجُهُ وَاتَّسَعَ إِنْفَاقُهُ لَمْ تُمْكِنْهُ الْقَنَاعَةُ بل إن كان وحده فينبغي أن يقنع بثوب واحد خشن ويقنع بأي طعام كان ويقلل من الإدام ما أمكنه ويوطن نفسه عليه وإن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد ويمكن معه الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وهو الأصل في القناعة ونعني به الرفق في الإنفاق وترك الخرق فيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله يحب الرفق الأمر كله (1)
وقال صلى الله عليه وسلم ما عال من اقتصد (2)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى والفقر والعدل في الرضا والغضب (3)
وروي أن رجلاً أبصر أبا الدرداء يلتقط حباً من الأرض وهو يقول إن من فقهك رفقك في معيشتك وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاقْتِصَادُ وَحُسْنُ السَّمْتِ والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة (4)
وفي الخبر التدبير نصف المعيشة (5)
وقال صلى الله عليه وسلم من اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ ومن ذكر الله عز وجل أحبه الله (6) أخرجه البزار من حديث طلحة بن عبيد الله دون قوله ومن ذكر الله أحبه الله وشيخه فيه عمران بن هارون البصري قال الذهبي شيخ لا يعرف حاله أتى بخبر منكر أي هذا الحديث ولأحمد وأبي يعلى في حديث لأبي سعيد ومن أكثر من ذكر الله أحبه الله (7) حديث ذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله فيه فرجا ومخرجا رواه ابن المبارك في البر والصلة وقد تقدم // والتؤدة في الإنفاق من أهم الأمور
الثاني أنه إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل والتحقق بِأَنَّ الرِّزْقَ الَّذِي قُدِّرَ لَهُ لَا بُدَّ وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى إذ قال عز وجل {وما من دابة في الأرض}
_________
(1) حديث إن الله يحب الرفق في الأمر كله متفق عليه من حديث عائشة وقد تقدم
(2) حديث ما عال من اقتصد أخرجه أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود ورواه من حديث ابن عباس بلفظ مقتصد
(3) حديث ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا والغضب أخرجه البزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الشعب من حديث أنس بسند ضعيف
(4) حديث ابن عباس الِاقْتِصَادُ وَحُسْنُ السَّمْتِ وَالْهَدْيُ الصَّالِحُ جُزْءٌ مِنْ بعض وعشرين جزءاً من النبوة أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس مع تقديم وتأخير وقال السمت الصالح وقال من خمسة وعشرين ورواه الترمذي وحسنه من حديث عبد الله بن سرجس وقال التؤدة بدل الهدي الصالح وقال من أربعة
(5) حديث التدبير نصف المعيشة رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس وفيه خلاد بن عيسى جهله العقيلي ووثقه ابن معين
(6) حديث من اقتصد أغناه الله الحديث
(7) وقال صلى الله عليه وسلم إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً(3/241)
{إلا على الله رزقها} وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفاً من الفقر ويضحك عليه في احتماله التعب نقداً مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
وقد دخلا ابنا خالد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهما لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى (1)
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن مسعود وهو حزين فقال له لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك (2)
وقال صلى الله عليه وسلم ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة (3) حديث أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث علي بإسناد رواه ورواه ابن الجوزي في الموضوعات (4) حديث عز المؤمن استغناؤه عن الناس أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم وصحح إسناده وأبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية من حديث سهل بن سعد أن جبريل قاله للنبي صلى الله عليه وسلم في أثناء حديث وفيه زفر بن سليمان عن محمد بن عيينة وكلاهما مختلف فيه وجعله القضاعي في مسند الشهاب من قول النبي صلى الله عليه وسلم ففي القناعة الحرية
_________
(1) حديث لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما الحديث رواه ابن ماجه من حديث حبة وسواء ابني خالد وقد تقدم
(2) حديث لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك قاله لابن مسعود أخرجه أبو نعيم من حديث خالد بن رافع وقد اختلف في صحبته ورواه الأصفهاني في الترغيب والترهيب من رواية مالك بن عمرو المغافري مرسلا
(3) حديث ألا أيها الناس أجملوا في الطلب الحديث تقدم قبل هذا بثلاثة عشر حديثا
ولا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن ثقته بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد وأن ذلك يحصل لا محالة مع الإجمال في الطلب بل ينبغي أن يعلم أن رزق الله للعبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} فإذا انسد عليه باب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله وقال صلى الله عليه وسلم أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب
(4) وقال سفيان اتق الله فما رأيت تقياً محتاجاً
أي لا يترك التقى فاقداً لضرورته بل يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه وقال المفضل الضبي قلت لأعرابي من أين معاشك قال نذر الحاج قلت فإذا صدروا فبكى وقال لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش
وقال أبو حازم رضي الله عنه وجدت الدنيا شيئين شيئاً منهما هو لي فلن أعجله قبل وقته ولو طلبته بقوة السماوات والأرض وشيئاً منهما هو لغيري فلذلك لم أنله فيما مضى فلا أرجوه فيما بقى يمنع الذي لغيري مني كما يمنع الذي لي من غيري ففي أي هذين أفنى عمري فهذا دواء من جهة المعرفة لا بد منه لدفع تخويف الشيطان وإنذاره بالفقر
الثالث أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل فإذا تحقق عنده ذلك انبعثت رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل
وليس في القناعة إلا ألم الصبر عن الشهوات والفضول وهذا ألم لا يطلع عليه أحد إلا الله وفيه ثواب الآخرة وذلك مما يضاف إليه نظر الناس وفيه الوبال والمأثم ثم يفوته عز النفس والقدرة على متابعة الحق فإن من كثر طعمه وحرصه كثرت حاجته إلى الناس فلا يمكنه دعوتهم إلى الحق ويلزمه المداهنة وذلك يهلك دينه ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان قال صلى الله عليه وسلم عز المؤمن استغناؤه عن الناس(3/242)
والعز ولذلك قيل استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره
الرابع أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى من الأكراد والأعراب الأجلاف ومن لا دين لهم ولا عقل ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء وإلى سمت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين وَيَسْتَمِعَ أَحَادِيثَهُمْ وَيُطَالِعَ أَحْوَالَهُمْ وَيُخَيِّرَ عَقْلَهُ بَيْنَ أن يكون على مشابهة أراذل الناس أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلاً منه وإن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه وإن تزين في الملبس والحلي ففي اليهود من هو أعلى زينة منه وإن قنع بالقليل ورضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأنبياء والأولياء
الْخَامِسُ أَنْ يَفْهَمَ مَا فِي جَمْعِ الْمَالِ مِنَ الْخَطَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي آفَاتِ الْمَالِ وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع وما في خلو اليد من الأمن والفراغ ويتأمل ما ذكرناه في آفات المال مع ما يفوته من المدافعة عن باب الجنة إلى خمسمائة عام فإنه إذا لم يقنع مما يكفيه ألحق بزمرة الأغنياء وأخرج من جريدة الفقراء وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَنْظُرَ أَبَدًا إِلَى مَنْ دُونَهُ فِي الدُّنْيَا لَا إِلَى مَنْ فَوْقَهُ فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه فيقول لم تفتر عن الطلب وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس ويصرف نظره في الدين إلى من دونه فيقول ولم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك وهو لا يخاف الله والناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تتميز عنهم قال أبو ذر أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى من هو دوني لا إلا من هو فوقي (1) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه (2)
فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ خُلُقِ الْقَنَاعَةِ
وعماد الأمر الصبر وقصر الأمل وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل للتمتع دهراً طويلاً فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء
بَيَانُ فَضِيلَةِ السَّخَاءِ
اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ إِنْ كَانَ مَفْقُودًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ الْقَنَاعَةَ وَقِلَّةَ الْحِرْصِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ الْإِيثَارَ وَالسَّخَاءَ وَاصْطِنَاعَ الْمَعْرُوفِ وَالتَّبَاعُدَ عَنِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ فَإِنَّ السَّخَاءَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أصول النجاة وعنه عبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة (3) حديث جابر مرفوعا حكاية عن جبريل عن الله تعالى إن هذا دين رضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق أخرجه الدارقطني في المستجاد وقد تقدم // وفي رواية فأكرموه بهما ما صحبتموه وعن عائشة الصديقية رضي
_________
(1) حديث أبي ذر أوصاني خليلي صلوات الله عليه أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر لمن هو فوقي أخرجه أحمد وابن حبان في أثناء حديث وقد تقدم أي في الدنيا
(2) حديث أبي هريرة إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه متفق عليه وقد تقدم
(3) حديث السخاء شجرة في الجنة الحديث أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث عائشة وابن عدي والدارقطني في المستجاد من حديث أبي هريرة وسيأتي بعده وأبو نعيم من حديث جابر وكلاهما ضعيف ورواه ابن الجوزي في الموضوعات من حديثهم ومن حديث الحسين وأبي سعيد وقال جابر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما استطعتما(3/243)
الله عنها قالت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على حسن الخلق والسخاء (1) وعن جابر قال قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الصبر والسماحة (2) وقال عبد الله بن عمرو
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الْخُلُقِ وَالْبُخْلُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا استعمله في قضاء حوائج الناس (3)
وروى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال إن مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ وَحُسْنُ الكلام حديث المقدام بن شريح عن أبيه عن جده إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السلام وحسن الكلام أخرجه الطبراني بلفظ بذل السلام وحسن الكلام وفي رواية له يوجب الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وفي رواية له عليك بحسن الكلام وبذل الطعام (4) حديث أبو هريرة السخاء شجرة في الجنة الحديث وفيه والشح شجرة في النار الحديث أخرجه الدارقطني في المستجاد وفيه عبد العزيز ابن عمران الزهري ضعيف جدا (5) حديث أبي سعيد يقول الله تعالى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم الحديث أخرجه ابن حبان في الضعفاء والخرائطي في مكارم الأخلاق والطبراني في الأوسط وفيه محمد بن مروان السدي الصغير ضعيف ورواه العقيلي في الضعفاء فجعله عبد الرحمن السدي وقال إنه مجهول وتابع محمد بن مروان السدي عليه عبد الملك ابن الخطاب وقد غمزه ابن القطان وتابعه عليه عبد الغفار بن الحسن بن دينار قال فيه أبو حاتم لا بأس بحديثه وتكلم فيه الجوزجاني والأزدي ورواه الحاكم من حديث علي وقال إنه صحيح الإسناد وليس كما قال (6) حديث ابن عباس تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر أخرجه الطبراني في الأوسط والخرائطي في مكارم الأخلاق وقال الخرائطي أقيلوا السخي زلته وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه ورواه الطبراني فيه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود نحوه بإسناد ضعيف ورواه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق الدارقطني (7) حديث ابن مسعود الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير الحديث لم أجده من حديث ابن مسعود ورواه ابن ماجه من حديث أنس ومن حديث ابن عباس بلفظ الخير أسرع إلى البيت الذي يغشى وفي حديث ابن عباس يؤكل فيه عن الشفرة إلى سنام البعير ولأبي الشيخ في كتاب الثواب من حديث جابر الرزق إلى أهل البيت الذي فيه السخاء الحديث وكلها ضعيفة (8) حديث إن الله جواد يجب الجود ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث طلحة بن عبيد الله ابن كريز وهذا مرسل وللطبراني في الكبير والأوسط والحاكم والبيهقي من حديث سهل بن سعد إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأمور وفي الكبير والبيهقي معالي الأخلاق الحديث وإسناده صحيح وتقدم آخر الحديث في أخلاق النبوة //
وَقَالَ أنس إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لم يسأل على الإسلام شيئا إلا
_________
(1) حديث عائشة ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على السخاء وحسن الخلق أخرجه الدارقطني في المستجاد دون قوله وحسن الخلق بسند ضعيف ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات وذكره بهذه الزيادة ابن عدي من رواية بقية عن يوسف بن أبي السفر عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة ويوسف ضعيف جدا
(2) حديث جابر أي الإيمان أفضل قال الصبر والسماحة أخرجه أبو يعلى وابن حبان في الضعفاء بلفظ سئل عن الإيمان وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفه الجمهور ورواه أحمد من حديث عائشة وعمرو بن عنبسة بلفظ ما الإيمان قال الصبر والسماحة وفيه شهر بن حوشب ورواه البيهقي في الزهد بلفظ أي الأعمال أفضل قال الصبر والسماحة وحسن الخلق وإسناده صحيح
(3) حديث عبد الله بن عمرو خلقان يحبهما الله وخلقان يبغضهما الله فأما اللذان يحبهما الله فحسن الخلق والسخاء الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي دون قوله في آخره وإذا أراد الله بعبد خيراً وقال فيه الشجاعة بدل حسن الخلق وفيه محمد بن يونس الكديمي كذبه أبو داود وموسى بن هارون وغيرهما ووثقه الخطيب وروى الأصفهاني جميع الحديث موقوفا على عبد الله بن عمرو وروى الديلمي أيضا من حديث أنس إذا أراد الله بعبده خيرا صير حوائج الناس إليه وفيه يحيى بن شبيب ضعفه ابن حبان
(4) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه ذلك الغصن حتى يدخله الجنة
(5) وقال أبو سعيد الخدري قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإن جعلت فيهم سخطي
(6) وعن ابن عباس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر
(7) وقال ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم الزرق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير وإن الله تعالى لباهى بمطعم الطعام الملائكة عليهم السلام
(8) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويكره سفسافها(3/244)
أَعْطَاهُ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ فَأَمَرَ لَهُ بِشَاءٍ كَثِيرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ شَاءِ الصَّدَقَةِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَاقَةَ (1)
وقال ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد فمن بخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره (2) حديث الهلالي أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلا الحديث وفيه فإن الله شكر له سخاء فيه لم أجد له أصلا (3) حديث إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح لم أقف له على أصل (4) حديث نافع عن ابن عمر طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء أخرجه ابن عدي والدارقطني في غرائب مالك وأبو علي الصدفي في عواليه رجاله ثقات أئمة قال ابن القطان ومنهم لمشاهير ثقات إلا مقدام بن داود فإن أهل مصر تكلموا فيه (5) حديث من عظمت نعمة الله عليه عظمت مؤنة الناس عليه رواه ابن عدي وابن حبان في الضعفاء من حديث معاذ بلفظ ما عظمت نعمة الله على عبد إلا ذكره وفيه أحمد بن مهران قال أبو حاتم مجهول والحديث باطل ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمر بإسناد منقطع وفيه حليس بن محمد أحد المتروكين ورواه العقيلي من حديث ابن عباس قال ابن عدي يروى من وجوه كلها غير محفوظة فمن لم يحتمل تلك المؤنة عرض تلك النعمة للزوال وقال عيسى عليه السلام استكثروا من شيء لا تأكله النار وقيل وما هو قال المعروف وقالت عائشة رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة دار الأسخياء (6)
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ السَّخِيَّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ وَإِنَّ الْبَخِيلَ بَعِيدٌ مِنَ الله مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ وَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عالم بخيل وأدوأ الداء البخل (7) حديث اصنع المعروف إلى أهله وإلى من ليس من أهله أخرجه الدارقطني في المستجاد من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جده مرسلا وتقدم في آداب المعيشة (8) حديث إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسماحة الأنفس الحديث أخرجه الدارقطني في المستجاد وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث أنس وفيه محمد بن عبد العزيز المبارك الدينوي أورد ابن عدي له مناكير وفي الميزان أنه ضعيف منكر الحديث ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث أبي سعيد نحوه وفيه صالح المري متكلم فيه //
وقال أبو سعيد الخدري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إن}
_________
(1) حديث أنس لم يسأل عن الإسلام شيئاً إلا أعطاه فأتاه رَجُلٌ فَسَأَلَهُ فَأَمَرَ لَهُ بِشَاءٍ كَثِيرٍ بَيْنَ جبلين الحديث أخرجه مسلم وتقدم في أخلاق النبوة
(2) حديث ابن عمر إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد الحديث أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو نعيم وفيه محمد بن حسان السمتي وفيه لين ووثقه ابن معين يرويه عن أبي عثمان عبد الله بن زيد الحمصي ضعفه الأزدي وعن الهلالي قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم فقال صلى الله عليه وسلم نزل علي جبريل فقال اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله تعالى شكر له سخاء فيه
(3) وقال صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح
(4) وعن نافع عن ابن عمر قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء
(5) وقال صلى الله عليه وسلم من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه
(6) حديث عائشة الجنة دار الأسخياء أخرجه ابن عدي والدارقطني في المستجاد والخرائطي قال الدارقطني لا يصح ومن طريقه رواه ابن الجوزي في الموضوعات وقال الذهبي حديث منكر ما آفته سوى جحدر قلت رواه الدارقطني فيه من طريق آخر وفيه محمد بن الوليد الموقري وهو ضعيف جدا
(7) حديث أبي هريرة إِنَّ السَّخِيَّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الناس قريب من الجنة الحديث أخرجه الترمذي وقال غريب ولم يذكر فيه وأدوأ الداء البخل ورواه بهذه الزيادة الدارقطني فيه وقال صلى الله عليه وسلم اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله فإن أصبت أهله فقد أصبت أَهْلُهُ وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ فَأَنْتَ مِنْ أهله
(8) وقال صلى الله عليه وسلم إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للمسلمين(3/245)
الله عز وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى البلدة الجدبة فيحييها ويحيي به أهلها (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَعْرُوفٍ صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفس وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا وَقَى بِهِ الرَّجُلُ عِرْضَهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلْفُهَا (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ والدال على الخير كفاعله الله يحب إغاثة اللهفان (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَعْرُوفٍ فعلته إلى غني أو فقير صدقة (4)
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري فإنه سخي وقال جابر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب فحدثوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فقال صلى الله عليه وسلم إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت // حديث جابر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم الحديث وفيه فقال إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت أخرجه الدارقطني فيه من رواية أبي حمزة الحميري عن جابر ولا يعرف اسمه ولا حاله الآثار قال علي كرم الله وجهه إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة والنجدة والكرم فقال أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحذره نفسه وحسن قيامه بضيفه وحسن المنازعة والأقدام في الكراهية وأما النجدة فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم فالتبرع بِالْمَعْرُوفِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَالْإِطْعَامُ فِي الْمَحَلِّ وَالرَّأْفَةُ بالسائل مع بذل النائل ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال حاجتك مقضية فقيل له يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه وسئل بعض الأعراب من سيدكم فقال من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ما له لطلابه لم يكن سخياً وإنما السخي من يبتديء بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاماً وقيل للحسن البصري ما السخاء فقال أن تجود بمالك في الله عز وجل قيل فما الحزم قال أن تمنع مالك فيه قيل فما الإسراف قال الإنفاق لحب الرياسة
وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة وقال حذيفة
_________
(1) حديث أبي سعيد إن الله جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف الحديث أخرجه الدارقطني في المستجاد من رواية أبي هارون العبدي عنه وأبي هارون ضعيف ورواه الحاكم من حديث علي وصححه
(2) حديث كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ على نفسه وأهله كتب له صدقة الحديث أخرجه ابن عدي والدارقطني في المستجاد والخرائطي والبيهقي في الشعب من حديث جابر وفيه عبد الحميد بن الحسن الهلالي وثقه ابن معين وضعفه الجمهور والجملة الأولى منه عند البخاري من حديث جابر وعند مسلم من حديث حذيفة
(3) حديث كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ والله يحب إغاثة اللهفان أخرجه الدارقطني في المستجاد من رواية الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والحجاج ضعيف وقد جاء مفرقا فالجملة الأولى تقدمت قبله والجملة الثانية تقدمت في العلم من حديث أنس وغيره والجملة الثالثة رواها أبو يعلى من حديث أنس أيضا وفيها زياد النميري ضعيف
(4) حديث كل معروف فعلته إلى غني أو فقير صدقة أخرجه الدارقطني فيه من حديث أبي سعيد وجابر والطبراني والخرائطي كلاهما في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود وابن منبع من حديث ابن عمر بإسنادين ضعيفين(3/246)
رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلاً في يده درهم فقال لمن هذا الدرهم فقال لي فقال أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك وفي معناه قيل
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
وسمي واصل بن عطاء الغزال لأنه كان يجلس إلى الغزالين فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئاً وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه خير المال ما وقي به العرض وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء قال السخاء البر بالإخوان والجود بالمال قال وورث أبي خمسين ألف درهم فبعث بها صرراً إلى إخوانه وقال قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي أفأبخل عليهم بالمال وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود وقيل لبعض الحكماء من أحب الناس إليك قال من كثرت أياديه عندي قيل فإن لم يكن قال من كثرت أيادي عنده وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي مثل يدي عنده وقال المهدي لشبيب بن شبة كيف رأيت الناس في داري فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل منهم ليدخل راجياً ويخرج راضياً وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها ... لله أو لذوي القرابة أو دع
فقال عبد الله بن جعفر إن هذين البيتين ليبخلان الناس ولكن أَمْطِرِ الْمَعْرُوفَ مَطَرًا فَإِنْ أَصَابَ الْكِرَامَ كَانُوا لَهُ أَهْلًا وَإِنْ أَصَابَ اللِّئَامَ كُنْتَ لَهُ أهلاً حكايات الأسخياء
عن محمد بن المنكدر عن أم درة وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها قالت إن معاوية بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس فلما أمست قالت يا جارية هلم فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه فقالت لو كنت ذكرتيني لفعلت
وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم فأتوه حتى ملؤا عليه الدار فقال ما هذا فأخبر الخبر فأمر عبيد الله بشراء فاكهة وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم قالوا نعم قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم
وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فلما خرج معاوية قال الحسن إن علينا ديناً فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه فمروا عليه ببختي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه فقال معاوية ما هذا فذكر له فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد
وعن واقد بن محمد الواقدي قال حدثني أبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان السخاء والحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق(3/247)
ما في يديك وأما الحياء فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك وأنت حدثتني وكنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحق عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته فمن كثر كثر له ومن قلل قلل له وأنت أعلم (1)
قال الواقدي فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلى من الجائزة وهي مائة ألف درهم
وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة فقال له يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله والكثير في ذات الله تعالى قليل وما في ملكي وفاه لشكرك فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت فقال يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية وأعذر علي المنع فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم فأحضر خمسين ألف قال فما فعلت بالخمسمائة دينار قال هي عندي قال أحضرها فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال هات من يحملها لك فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحمالين فقال له مواليه والله ما عندنا درهم فقال أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم
واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة فقالوا لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقا فأخرج منه ست بدر فقال احملوا فحملوا فقال ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا
وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال والله لأعلمن الشيطان أني عدوه فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته
وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل بحق علي بن أبي طالب لما وهبت لي نخلتك بموضع كذا وكذا فقال قد فعلت وحقه لأعطينك ما يليها وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل
وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني فإنأهلي لا يتركوني محبوساً ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس
وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن إذا دخل الأمير البستان فعرفني فلما دخل الأمير البستان أعلمه فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس الماء فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها
_________
(1) حديث أنس يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش الحديث وفي أوله قصة مع المأمون أخرجه الدارقطني فيه وفي إسناده الواقدي عن محمد بن إسحاق عن الزهري بالعنعنة ولا يصح(3/248)
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فما لي إلى معن سواك شفيع
فقال من صاحب هذه فدعي بالرجل فقال له كيف قلت فقال له فأمر له بعشر بدر فأخذهاووضع الأمير الخشبة تحت بسطاه فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار
وقال أبو الحسن المدائني خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا هل من شراب فقالت نعم فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت احلبوها وامتذقوا لبنها ففعلوا ذلك ثم قالوا لها هل من طعام قالت لا إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيء لكم ما تأكلون فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفيهم ثم تقولين نفر من قريش قال ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمنه فمرت العجوز ببعض سكك المدينة فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها يا أمة الله أتعرفيني قالت لا قال أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا فقالت العجوز بأبي أنت وأمي أنت هو قال نعم ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة وأمر لها معها بألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين بكم وصلك أخي قالت بألف شاة وألف دينار فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين قالت بألفي شاة وألفي دينار فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار وقال لها لو بدأت بي لأتعبتهما فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار
وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله ألك حاجة يا غلام قال صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجانبك مكروه فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك
وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به ولهذا الرجل بعير سمين فقال له في النوم نعم فباعه في النوم بعيره بنجيبه فلما وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب فقال رجل منهم من فلان بن فلان منكم باسم ذلك الرجل فقال أنا فقال له هل بعت من فلان بن فلان شيئاً وذكر الميت صاحب القبر قال نعم بعت بعيري بنجيبه في(3/249)
النوم فقال خذ هذا نجيبه ثم قال هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه
وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض فقال يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك قال لا ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني
واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بِتِسْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ سَمِعَ بكاء أهل خالد فقال لأهله ما لهؤلاء قالوا يبكون لدارهم فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً
وقيل بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار فبلغ ذلك الليث به سعد فأنفذ إليه ألف دينار فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي فقال يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار فاستحييت أن أعطي مثله أقل من دخل يوم وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل فأمر لها بزق من عسل فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا فقال إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا وكان الليث ابن سَعْدٍ لَا يَتَكَلَّمُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَتَصَدَّقَ على ثلثمائة وستين مسكيناً
وقال الأعمش اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها وكان تحتي لبد أجلس عليه فإذا خرج قال خذ ما تحت اللبد حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ
وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة بلغني عنك خصال فحدثني بها فقال هي من غيري أحسن منها مني فقال عزمت عليك إلا حدثتني بها فقال يا أمير المؤمنين مَا مَدَدْتُ رِجْلِي بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لِي قَطُّ وَلَا صَنَعْتُ طَعَامًا قَطُّ فَدَعَوْتُ عَلَيْهِ قوماً إلا كانوا أَمَنَّ عَلَيَّ مِنِّي عَلَيْهِمْ وَلَا نَصَبَ لِي رَجُلٌ وَجْهَهُ قَطُّ يَسْأَلُنِي شَيْئًا فَاسْتَكْثَرْتُ شَيْئًا أعطيته إياه
ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلاً جواداً فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن سأله صكاً على نفسه حتى يخرج عطاؤه فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت فقال
إني سمعت مع الصباح مناديا ... يا من يعين على الفتى المعوان
ثم قال ما حاجتك قال ديني قال وكم هو قال ثلاثون ألف دينار قال لك دينك ومثله
وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل له إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء قال فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده
عن أبي إسحاق قال صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان فقلت لست من أهل هذا المسجد فقالوا إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين(3/250)
وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً فولد لبعضهم مولود قال فجئت إليه وقلت له ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء قال ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه وقال هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء قال فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون ويخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه فقال هذا مالكم وليس لرؤياي حكم فقالوا هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى الرجل صاحب المولود وذكر له القصة قال فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر وقال يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء فقال أبو سعيد فلا أدري أي هؤلاء أسخى
وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال مروا فلاناً يغسلني فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال ائتوني بتذكرته فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين فكتبها على نفسه وقضاها عنه وقال هذا غسلي إياه أي أراد به هذا وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم مستدلاً بقوله تعالى وكان أبوهما صالحاً وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره فمر على الخياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره فقال الخياط والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها وأنشد الشافعي رحمه الله لِنَفْسِهِ
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَالٍ أَجُودُ بِهِ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ
إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ عندي لمن إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ
وَعَنْ الربيع بن سليمان قَالَ أَخَذَ رَجُلٌ بِرِكَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ يَا ربيع أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَاعْتَذِرْ إِلَيْهِ عني وقال الربيع سمعت الحميدي يقول قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عليه شيء
وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأصلها وقد وقف أكثرها ولكني بنيت بمنى مضربا يكون لأصحابنا إذا حجوا أن ينزلوا فيه وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول
أرى نفسي تتوق إلى أمور ... يقصر دون مبلغهن مالي
فنفسي لا تطاوعني ببخل ... ومالي لا يبلغني فعالي(3/251)
وقال محمد بن عباد المهلبي دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود فوصله بمائة ألف أخرى
وَقَامَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَكَى فَقَالَ لَهُ سعيد مَا يُبْكِيكَ قَالَ أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ مِثْلَكَ فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ ألف أخرى
ودخل أبو تمام على إبراهيم بن شكلة بأبيات امتدحه بها فوجده عليلاً فقبل منه المدحة وأمر حاجبه بنيله ما يصلحه وقال
عسى أن أقوم من مرضي فأكافئه فأقام شهرين فوحشه طول المقام فكتب إليه يقول
إن حراماً قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجي من الصفد
كما الدراهم والدنانير في البيعحرام إلا يدا بيد
فلما وصل البيتان إلى إبراهيم قال لحاجبه كم أقام بالباب قال شهرين قال أعطه ثلاثون ألف وجئني بدواة فكتب إليه
أعجلتنا فأتاك عاجل برنا ... قلا ولو أمهلتنا لم نقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تقل ... ونقول نحن كأننا لم نفعل
وروي أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة قد تهيأ مالك فاقبضه فقال هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك وقالت سعدى بنت عوف دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك فقال اجتمع عندي مال وقد غمني فقلت وما يغمك ادع قومك فقال يا غلام علي بقومي فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان قال أربعمائة ألف
وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها وإن شئت بعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن فقال الثمن فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن
وقيل بكى علي كرم الله وجهه يوماً فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ لَمْ يَأْتِنِي ضَيْفٌ مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قد أهانني
وأتى رجل صَدِيقًا لَهُ فَدَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكَ قَالَ عَلَيَّ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليها وعاد يبكي فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك فقال إنما أَبْكِي لِأَنِّي لَمْ أَتَفَقَّدْ حَالَهُ حَتَّى احْتَاجَ إلى مفاتحتي فرحم الله من هذه صفاتهم وغفر لهم أجمعين
بَيَانُ ذَمِّ الْبُخْلِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وَقَالَ تَعَالَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهم الله من فضله هو خير لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بخلوا به يوم القيامة وقال تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ
_________
(1) حديث إياكم والشح الحديث أخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ واتقوا الشح فإن الشح الحديث ولأبي داود والنسائي في الكبرى وابن حبان والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمرو إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا(3/252)
فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الجنة بخيل ولا خب ولا خائن ولا سيء الملكة (2)
وفي رواية ولا جبار وفي رواية ولا منان وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ (3) حديث أن الله يبغض ثلاثا الشيخ الزاني والبخيل المنان والفقير المختال أخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي ذر دون قوله البخيل المنان وقال فيه الغني الظلوم وقد تقدم وللطبراني في الأوسط من حديث علي إن الله ليبغض الغني الظلوم والشيخ الجهول والعائل المختال وسنده ضعيف (4) حديث مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبة من حديد الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة (5) حديث خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَسُوءُ الخلق أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال غريب (6) حديث اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن الحديث أخرجه البخاري من حديث سعد وتقدم في الأذكار (7) حديث إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة الحديث أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو دون قوله أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا قال عوضا عنهما وبالبخل فبخلوا وبالفجور ففجروا وكذا رواه أبو داود على ذكر الشح وقد تقدم قبله بسبعة أحاديث ولمسلم من حديث جابر اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فذكره بلفظ آخر ولم يذكر الفحش (8) حديث شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع أخرجه أبو داود من حديث جابر بسند جيد (9) حديث وما يدريك أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وللبيهقي في الشعب من حديث أنس أن أمه قالت ليهنك الشهادة وهو عند الترمذي إلا أن رجلاً قال له أبشر بالجنة (10) حديث جبير بن مطعم بينما نحن نسير مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الناس مقفلة من حنين علقت الأعراب به الحديث أخرجه البخاري وتقدم في أخلاق النبوة //
وقال عمر رضي الله عنه قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقلت غير هؤلاء كان أحق به
_________
(1) حديث إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ حرماتهم مكان أرحامهم وقال صحيح على شرط مسلم
(2) حديث لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن ولا سيء الملكة وفي رواية ولا منان أخرجه أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي بكر واللفظ لأحمد دون قوله ولا منان فهي عند الترمذي وله ولابن ماجه لا يدخل الجنة سيء الملكة
(3) حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم في العلم
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يبغض ثلاث الشيخ الزاني والبخيل المنان والمعيل المختال
(4) وقال صلى الله عليه وسلم مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا قلصت ولزمت كل حلقة مكانها حتى أخذت بتراقيه فهو يوسعها ولا تتسع
(5) قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ في مؤمن البخل وسوء الخلق
(6) وقال صلى الله عليه وسلم اللهم إن أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى ارذل العمر
(7) وقال صلى الله عليه وسلم إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة وإياكم والفحش إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا
(8) وقال صلى الله عليه وسلم شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع
(9) وقتل شهيد عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فبكته باكية فقالت واشهيداه فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه
(10) وقال جبير بن مطعم بينا نحن نسير مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الناس مقفلة من خيبر إذ علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف صلى الله عليه وسلم فقال أعطوني ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد هذه العصاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا(3/253)
{منهم فقال} إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل (1)
وقال أبو سعيد الخدري دخل رجلان عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه ثمن بعير فأعطاهما دينارين فخرجا من عنده فلقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأثنيا وقالا معروفاً وشكراً ما صنع بهما فدخل عمر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما قالا فقال صلى الله عليه وسلم لكن فلان أعطيته ما بين عشرة إلى مائة ولم يقل ذلك إن أحدكم ليسألني فينطلق في مسألته متأبطها وهي نار فقال عمر فلم تعطهم ما هو نار فقال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل (2)
وعن ابن عباس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله لكم ألا إن الله عز وجل خلق الجود فجعله في صورة رجل وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة طوبى وشد أغصانها بأغصان سدرة المنتهى ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة وخلق البخل من مقته وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله النار ألا إن البخل من الكفر والكفر في النار (3)
وقال صلى الله عليه وسلم السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي والبخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل (4)
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ بَنِي لَحْيَانَ مَنْ سيدكم يا بني لحيان قالوا سيدنا جد بن قيس إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ فِيهِ بُخْلٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ وَلَكِنَّ سَيِّدَكُمْ عَمْرُو بن الجموح (5)
وفي رواية أنهم قالوا سيدنا جد بن قيس فقال بم تسودونه قالوا إنه أكثر مالاً وأنا على ذلك لنرى منه البخل فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيُّ دَاءٍ أدوأ من البخل ليس ذلك سيدكم قالوا فمن سيدنا يا رسول الله قالوا سيدكم بشر بن البراء وقال علي رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَخِيلَ فِي حَيَاتِهِ السَّخِيَّ عنه موته (6)
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل (7)
وقال أيضاً قال صلى الله عليه وسلم الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد (8)
وقال أيضاً خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق (9)
وقال صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً (10)
وقال صلى الله عليه وسلم يقول قائلكم الشحيح
_________
(1) حديث عمر قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما الحديث وفيه ولست بباخل أخرجه مسلم
(2) حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين أعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارين فلقيهما عمر فأثنيا وقالا معروفا الحديث وفيه ويأبى الله لي البخل رواه أحمد وأبو يعلى والبزار نحوه ولم يقل أحمد إنهما سألاه ثمن بعير ورواه البزار من رواية أبي سعيد عن عمر ورجال أسانيدهم ثقات
(3) حديث ابن عباس الجود من جود الله فجودوا يجد الله لكم الحديث بطوله ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده في مسنده ولم أقف له على إسناد
(4) حديث السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج في الجنة إلا سخي الحديث تقدم دون قوله فلا يلج في الجنة إلى آخره وذكره بهذه الزيادة صاحب الفردوس من حديث علي ولم يخرجه ولده في مسنده
(5) حديث أبي هريرة من سيدكم يا بني لحيان قالوا سيدنا جد بن قيس الحديث أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم بلفظ يا بني سلمة وقال سيدكم بشر بن البراء وأما الرواية التي قال فيها سيدكم عمرو بن الجموح فرواها الطبراني في الصغير من حديث كعب بن مالك بإسناد حسن
(6) حديث علي إن الله ليبغض البخيل في حياته السخي عند موته ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده في مسنده ولم أجد له إسنادا
(7) حديث أبي هريرة السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل أخرجه الترمذي بلفظ ولجاهل سخي وهو بقية حديث إن السخي قريب من الله وقد تقدم
(8) حديث أبي هريرة لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أخرجه النسائي وفي إسناده اختلاف
(9) حديث خصلتان لا تجتمعان في مؤمن الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقد تقدم
(10) حديث لا ينبغي لمؤمن أن يكون جبانا ولا بخيلا لم أره بهذا اللفظ(3/254)
أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح حلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل (1) حديث كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي الحديث في ذم البخل وفيه قال إليك عني لا تحرقني بنارك الحديث بطوله وهو باطل لا أصل له
الآثار قال ابن عباس رضي الله عنهما لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التسنيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنهار العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمى فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلاً
وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز أف للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته
وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء لكننا نتصبر
وقال محمد بن المنكدر كان يقال إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم
وقال علي كرم الله وجهه في خطبته إنه سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وقال عبد اللهبن عمرو الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويشح بما في يده فيحبسه والبخيل هو الذي يبخل بما في يده
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَبْعَدُ غَوْرًا في نار جهنم البخل أو الكذب وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي تكلم فقال خير الناس من ألفى سخياً وعند الغضب وقوراً وفي القول متأنياً وفي الرفعة متواضعاً وعلى كل ذي رحم مشفقاً
وقام الرومي فقال من كان بخيلاً ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه
وقال الضحاك في قوله تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً قال البخل أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى
وقال كعب ما من صباح إلا وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفا
_________
(1) حديث يقول قائلكم الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم من الشح الحديث وفيه لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل لم أجده بتمامه وللترمذي من حديث أبي بكر لا يدخل الجنة بخيل وقد تقدم
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي فقال صلى الله عليه وسلم وما ذنبك صفه لي فقال هو أعظم من أن أصفه لك فقال ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون فقال بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال فذنبك أعظم أم الجبال قال بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال فذنبك أعظم أم البحار قال فذنبك أعظم أم السموات قال بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال فذنبك أعظم أم العرش قال بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال فذنبك أعظم أم الله قال بل الله أعظم وأعلى قال ويحك فصف لي ذنبك قال
يا رسول الله إني رجل ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من نار فقال صلى الله عليه وسلم إليك عني لا تحرقني بنارك فوالذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم صليت ألفي ألف عام ثم بكيت حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقى بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار ويحك أما علمت أن البخل كفر وأن الكفر في النار ويحك أما علمت أن الله تعالى يقول ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(3/255)
وعجل لمنفق خلفاً
وقال الأصمعي سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه
وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلاً لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة
وقال علي كرم الله وجهه وَاللَّهِ مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ حَقَّهُ
قَالَ الله تعلى عرف بعضه وأعرض عن بعض وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلاث دم البخلاء وأكل القديد وحك الجرب
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْبَخِيلُ لَا غِيبَةَ لَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنك إذاً لبخيل ومدحت امرأة عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا صوامة قوامة إلا أن فيها بخلاً قال فما خيرها إذن // حديث مدحت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا صوامة قوامة إلا أن فيها بخلا الحديث تقدم في آفات اللسان
وَقَالَ بشر النَّظَرُ إِلَى الْبَخِيلِ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَلِقَاءُ الْبُخَلَاءِ كَرْبٌ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَالَ يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبراراً
وَقَالَ ابن المعتز أَبْخَلُ النَّاسِ بِمَالِهِ أَجْوَدُهُمْ بعرضه
ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام
إبليس في صورته فقال له يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال أحب الناس إلي المؤمن البخيل وأبغض الناس إلي الفاسق السخي قال له لم قال لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي الخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك حكايات البخلاء
قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال لا بأس عليك تقيأ ما أكلت فقال هاه أتقيأ طباهجة ببيض الموت ولا ذلك
وقيل أقبل أعرابي يطلب رجلاً وبين يديه تين فغطى التين بكسائه فجلس الأعرابي فقال له الرجل هل تحسن من القرآن شيئاً قال نعم فقرأ والزيتون وطور سينين فقال وأين التين قال هو تحت كسائك
ودعا بعضهم أخاً له ولم يطعمه شيئاً فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون فأخذ صاحب البيت العود وقال له بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك قال صوت المقلى
ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل صف لي مائدته فقال هي فتر في فتر وصحافه منقورة من حب الخشخاش قيل فمن يحضرها قال الكرام الكاتبون قال فما يأكل معه أحد قال بلى الذباب فقال سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها ولو ملك محمد بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقيل له
نراك لا تأكل إلا الرءوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه إن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك وآكل منه ألواناً عينه لوناً وأذنه لوناً ولسانه لوناً وغلصمته لوناً ودماغه لوناً وأكفي مؤونة(3/256)
طبخه فقد اجتمعت لي فيه مرافق
وخرج يوماً يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله مالي عليك إن رجعت بالجائزة فقال إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهماً فأعطي ستين ألف فأعطاها أربعة دوانق
واشترى مرة لحماً بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق وقال أكره الإسراف
وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول لو دخلت فأكلت كسرة وملحاً فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال سر بنا فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحاً فجاء سائل فقال له رب المنزل بورك فيك فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك فلا والله ما رأيت أحداً أصدق مواعيد منه هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما
بَيَانُ الْإِيثَارِ وَفَضْلُهُ
اعْلَمْ أَنَّ السَّخَاءَ وَالْبُخْلَ كل منهما ينقسم إلى درجات
فأرفع درجة السخاء الإيثار وهو أن يجود بالمال مع الحاجة
وَإِنَّمَا السَّخَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِمُحْتَاجٍ أَوْ لِغَيْرِ مُحْتَاجٍ وَالْبَذْلُ مَعَ الْحَاجَةِ أَشُدُّ
وَكَمَا أَنَّ السَّخَاوَةَ قَدْ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَسْخُوَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ الْحَاجَةِ فَالْبُخْلُ قَدْ يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَبْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْحَاجَةِ فَكَمْ مِنْ بَخِيلٍ يُمْسِكُ الْمَالَ وَيَمْرَضُ فَلَا يَتَدَاوَى وَيَشْتَهِي الشَّهْوَةَ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا إِلَّا الْبُخْلُ بِالثَّمَنِ وَلَوْ وَجَدَهَا مَجَّانًا لَأَكَلَهَا
فَهَذَا بَخِيلٌ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ
فَانْظُرْ مَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ عَطَايَا يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَلَيْسَ بَعْدَ الْإِيثَارِ دَرَجَةٌ فِي السَّخَاءِ
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِهِ فَقَالَ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولو كان بهم خصاصة وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له (1) حديث عائشة ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متواليات ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا أخرجه البيهقي في الشعب بلفظ ولكنه كان يؤثر على نفسه وأول الحديث عند مسلم بلفظ ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز بر حتى مضى لسبيله وللشيخين ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة ثلاثة ليال تباعا حتى قبض زاد مسلم من طعام
ونزل بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَهْلِهِ شَيْئًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ بِالضَّيْفِ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّعَامَ وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِطْفَاءِ السِّرَاجِ وَجَعَلَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ كَأَنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يَأْكُلُ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَى ضَيْفِكُمْ وَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفسهم ولو كان بهم خصاصة // حديث نزل به ضَيْفٌ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَهْلِهِ شَيْئًا فَدَخَلَ عليه رجل من الأنصار فذهب به إلى أهله الحديث في نزول قوله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ متفق عليه من حديث أبي هريرة
فَالسَّخَاءُ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِيثَارُ أعلى درجات السخاء
وكان ذلك من أدب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمًا فَقَالَ تَعَالَى وَإِنَّكَ لعلى خلق عظيم وقال سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام يا رب أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فقال يا موسى إنك لن تطيق ذلك ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها
_________
(1) حديث أيما رجل اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له أخرجه ابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ في الثواب من حديث ابن عمر بسند ضعيف وقد تقدم
وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا(3/257)
من الله تعالى فقال يارب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة قال بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء وقيل خرج عبد الله بن جعفر إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَلَى نَخِيلِ قَوْمٍ وَفِيهِ غُلَامٌ أَسْوَدُ يَعْمَلُ فِيهِ إِذْ أَتَى الْغُلَامُ بِقُوتِهِ فَدَخَلَ الْحَائِطَ كَلْبٌ وَدَنَا مِنَ الْغُلَامِ فَرَمَى إِلَيْهِ الْغُلَامُ بِقُرْصٍ فَأَكَلَهُ ثُمَّ رَمَى إِلَيْهِ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فَأَكَلَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا غُلَامُ كَمْ قُوتُكَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلِمَ آثَرْتَ بِهِ هَذَا الْكَلْبَ قَالَ مَا هِيَ بِأَرْضِ كِلَابٍ إِنَّهُ جَاءَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ جَائِعًا فَكَرِهْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَهُوَ جَائِعٌ قَالَ فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ الْيَوْمَ قَالَ أَطْوِي يَوْمِي هَذَا فَقَالَ عبد الله بن جعفر أُلَامُ عَلَى السَّخَاءِ إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ لَأَسْخَى مِنِّي فَاشْتَرَى الْحَائِطَ وَالْغُلَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآلَاتِ فَأَعْتَقَ الْغُلَامَ وَوَهَبَهُ مِنْهُ
وَقَالَ عمر رَضِيَ الله عنه أهدي إلى رجل مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ شَاةٍ فَقَالَ إِنْ أَخِي كَانَ أَحْوَجَ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ فَلَمْ يزل وَاحِدٍ يَبْعَثُ بِهِ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهُ سبعة أبيات ورجع إلى الأول
وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختارا كلاهما الحياة وأحباها فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله تعالى يباهى بك الملائكة فأنزل الله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد // حديث بات علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر الحديث في نزول قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله أخرجه أحمد مختصرا من حديث ابن عباس شرى على نفسه فلبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه الحديث وليس فيه ذكر جبريل وميكائيل ولم أقف لهذه الزيادة على أصل وفيه أبو بلج مختلف فيه والحديث منكر
وعن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً وكانوا في قرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رفع فإذا الطعام بحاله ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه
وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء فنزع خشبة من سقف بيته فأعطاه ثم اعتذر إليه وقال حذيفة العدوي انطلقت يوم اليرموك أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي وَمَعِي شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ وَأَنَا أَقُولُ إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ وَمَسَحْتُ بِهِ وَجْهَهُ فَإِذَا أَنَا بِهِ فَقُلْتُ أَسْقِيكَ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ نَعَمْ فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ آهْ فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي إِلَيَّ أن أنطلق به إليه فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ فَقُلْتُ أَسْقِيكَ فَسَمِعَ بِهِ آخَرُ فَقَالَ آهْ فَأَشَارَ هشام انْطَلِقْ بِهِ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ فَرَجَعْتُ إِلَى هشام فَإِذَا هُوَ قد مات فرجعت إن ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ رَحْمَةُ الله عليهم أجمعين
وقال عباس بن دهقان ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه واستعار ثوباً فمات فيه
وعن بعض الصوفية قال كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد فتبعنا كلب من البلد فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا
فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً فجاء إلى تلك الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد فقام ذلك الكلب(3/258)
وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف
وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل
بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما
لعلك تقول قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات ولكن ما حد البخل وبماذا يصير الإنسان بخيلاً وما من إنسان إلا وهو يرى نفسه سخياً وربما يراه غيره بخيلاً وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس فيقول قوم هذا بخل ويقول آخرون ليس هذا من البخل
وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حباً للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه فإن كان يصير بإمساك المال بخيلاً فإذا لا ينفك أحد عن البخل
وإذا كان الإمساك مطلقاً لا يوجب البخل ولا معنى للبخل إلا الإمساك فما البخل الذي يوجب الهلاك وما حد السخاء الذي يستحق به البعد صفة السخاوة وثوابها فنقول قد قال قائلون حد البخل منع الواجب فكل من أدى ما يجب عليه فليس ببخيل 4 وهذا غير كاف فإن من يرد اللحم مثلاً إلى القصاب والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلاً بالاتفاق
وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلاً
ومن كان بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلاً
وقال قائلون البخيل هو الذي يستصعب العطية وهو أيضاً قاصر فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة وما يقرب منها ويستصعب ما فوق ذلك وإن أريد به أنه يستصعب بعض العطايا فمن من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا وهو ما يستغرق جميع ماله أو المال العظيم
فهذا لا يوجب الحكم بالبخل
وكذلك تكلموا في الجود فقيل الجود عطاء بلا من وإسعاف من غير روية
وقيل الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل
وقيل الجود السرور بالسائل والفرح بالعطاء لما أمكن
وقيل الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى والعبد لله عز وجل فيعطى عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر
وقيل من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار ومن لم يبذل شيئاً فهو صاحب بخل
وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل بل نقول المال خلق لحكمة ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إِلَيْهِ وَيُمْكِنُ بَذْلُهُ بِالصَّرْفِ إِلَى مَا لَا يَحْسُنُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ وَيُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ أَنْ يُحْفَظَ حَيْثُ يَجِبُ الْحِفْظُ وَيُبْذَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ
فَالْإِمْسَاكُ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ بخل والبذل حيث يجب الإمساك تبذير
وبينهما وسط وهو الْمَحْمُودُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّخَاءُ وَالْجُودُ عِبَارَةً عَنْهُ إِذْ لَمْ يُؤْمَرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالسَّخَاءِ وَقَدْ قِيلَ له وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تبسطها كل البسط وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً فَالْجُودُ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ وَبَيْنَ الْبَسْطِ وَالْقَبْضِ وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ بَذْلُهُ وَإِمْسَاكُهُ بِقَدْرِ الواجب ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قَلْبُهُ طَيِّبًا بِهِ غَيْرَ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ
فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يصابرها فهو متسخ وليس بسخي بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه(3/259)
فإن قلت فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله
فأقول إن الواجب قِسْمَانِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ وَوَاجِبٌ بِالْمُرُوءَةِ وَالْعَادَةِ
وَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ وَلَا وَاجِبَ الْمُرُوءَةِ فَإِنْ مَنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهُوَ بَخِيلٌ وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ أَبْخَلُ كَالَّذِي يَمْنَعُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَيَمْنَعُ عِيَالَهُ وَأَهْلَهُ النَّفَقَةَ أَوْ يُؤَدِّيهَا وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ بخيل بالطبع وإنما يتسخى بالتكلف أَوِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ وَلَا يَطِيبُ قَلْبُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَطْيَبِ مَالِهِ أو من وسطه فهذا كله بخل
وأما واجب المروءة فهو تَرْكُ الْمُضَايَقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ وَاسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ
فَمَنْ كَثُرَ مَالُهُ اسْتُقْبِحَ مِنْهُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْفَقِيرِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الرَّجُلِ المضايقة مع أهله وأقاربه ومماليكه ما لا يستقبح مع الْأَجَانِبِ وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الْجَارِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مع الْبَعِيدِ وَيُسْتَقْبَحُ فِي الضِّيَافَةِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ مَا لا يستقبح في المعاملة فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة
وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي
وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير
فَالْبَخِيلُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ إِمَّا بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَإِمَّا بِحُكْمِ المروءة وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره
ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال فمانع الزكاة والنفقة بخيل
وصيانة المروءة أهم من حفظ المال والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل
ثم تبقى درجة أخرى وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها
ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقدار ماله وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه
فمن أَدَّى وَاجِبَ الشَّرْعِ وَوَاجِبَ الْمُرُوءَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْبُخْلِ
نَعَمْ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ مَا لَمْ يَبْذُلْ زِيَادَةً على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير
ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض فَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ وَرَاءَ مَا تُوجِبُهُ الْعَادَةُ وَالْمُرُوءَةُ هُوَ الْجُودُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَنْ طيب نفس ولا يكون طَمَعٍ وَرَجَاءِ خِدْمَةٍ أَوْ مُكَافَأَةٍ أَوْ شُكْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَإِنَّ مَنْ طَمِعَ فِي الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَهُوَ بَيَّاعٌ وَلَيْسَ بِجَوَّادٍ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه والجود هو بذل الشيء من غير عوض
هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا(3/260)
الثواب في الآخرة أو اكتساب فضيلة الجود وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جواداً فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلاً أو من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه فكل ذلك لَيْسَ مِنَ الْجُودِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْبَوَاعِثِ وَهِيَ أَعْوَاضٌ مُعَجَّلَةٌ لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ معتاض لا جواد كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حبان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت هل فيكم من أسأله عن مسألة فقالوا لها سلي عما شئت وأشاروا إلى حبان بن هلال فقالت ما السخاء عندكم قالوا العطاء والبذل والإيثار قالت هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين قالوا أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة قالت فتريدون على ذلك أجراً قالوا نعم قالت ولم قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثالها قالت سبحان الله فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه قالوا لها فما السخاء عندك يرحمك الله قالت السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته غير كارهين لا تريدون على ذلك أجراً حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئاً بشيء إن هذا في الدنيا لقبيح وقالت بعض المتعبدات أتحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط قيل ففيم قالت السخاء عندي في المهج
وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخوا بنفسك تتلفها لله عز وجل ويسخو قلبك ببذل مهجتك وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه ولا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً وإن كنت غير مستغن عن الثواب ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك
بَيَانُ عِلَاجِ الْبُخْلِ
اعْلَمْ أَنَّ الْبُخْلَ سَبَبُهُ حُبُّ الْمَالِ
وَلِحُبِّ 2 الْمَالِ سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا حُبُّ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا وُصُولَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَالِ مع طول الأمل فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما أنه كان لا يبخل بماله إذ القدر الذي يحتاج إليه في يوم أو في شهر أو في سنة قريب وإن كان قصير الأمل ولكن كان له أولاد أقام الولد مقام طول الأمل فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عليه السلام الولد مبخلة مجبنة مجهلة // حديث الولد مبخلة زاد في رواية محزنة ابن ماجه من حديث يعلى بن مره دون قوله محزنة رواه بهذه الزيادة أبو يعلى والبزار من حديث أبي سعيد والحاكم من حديث الأسود بن خلف وإسناده صحيح
فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة
السبب الثاني أن يحب عين المال فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته وتفضل آلاف وهو شيخ بلا ولد ومعه أموال كثيرة ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة ولا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محباً للدنانير عاشقاً لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة وهذا مرض للقلب عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن وهو مرض مزمن لا يرجى علاجه
ومثال صاحبه مثال رجل عشق شخصاً فأحب رسوله لنفسه ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله فإن الدنانير رسول يبلغ إلى الحاجات فصارت محبوبة لذلك لأن الموصل إلى اللذيذ لذيذ ثم قد تنسى الحاجات ويصير الذهب عنده كأنه محبوب في نفسه وهو غاية الضلال بل من رأى بينه وبين الحجر فرقاً فهو جاهل إلا من حيث قضاء حاجته به فالفاضل عن قدر حاجته والحجر بمثابة واحدة
فهذه أسباب حب المال
وإنما علاج كل علة بمضادة سببها فتعالج حب الشهوات بالقناعة(3/261)
باليسير وبالصبر وتعالج طُولُ الْأَمَلِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالنَّظَرِ فِي مَوْتِ الْأَقْرَانِ وَطُولِ تَعَبِهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وضياعه بعدهم وتعالج الْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى الْوَلَدِ بِأَنَّ خَالِقَهُ خَلَقَ معه رزقه وكم من ولد ولم يَرِثْ مِنْ أَبِيهِ مَالًا وَحَالُهُ أَحْسَنُ مِمَّنْ وَرِثَ وَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ لِوَلَدِهِ يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر وأن ولده إن كان تقياً صالحاً فالله كافيه وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته إليه
ويعالج أيضاً قلبه بِكَثْرَةِ التَّأَمُّلِ فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَمَدْحِ السَّخَاءِ وَمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْبُخْلِ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ
وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ كَثْرَةُ التَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبُخَلَاءِ وَنَفْرَةُ الطَّبْعِ عَنْهُمْ وَاسْتِقْبَاحُهُمْ لَهُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَخِيلٍ إِلَّا وَيَسْتَقْبِحُ الْبُخْلَ مِنْ غَيْرِهِ وَيَسْتَثْقِلُ كل بخيل مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَثْقَلٌ وَمُسْتَقْذَرٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِثْلُ سَائِرِ الْبُخَلَاءِ فِي قَلْبِهِ
ويعالج أيضاً قلبه بِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مَقَاصِدِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لِمَاذَا خلق ولا يحفظ من المال إلا بقدر حاجته إليه وَالْبَاقِي يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ بَذْلِهِ
فَهَذِهِ الْأَدْوِيَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ فَإِذَا عَرَفَ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ أَنَّ الْبَذْلَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْإِمْسَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَاجَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْبَذْلِ إِنْ كَانَ عاقلاً فإن تَحَرَّكَتِ الشَّهْوَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ وَلَا يَتَوَقَّفَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيُخَوِّفُهُ ويصده عنه
حكي أن أبا الحسن البوشنجي كان ذات يوم في الخلاء فدعا تلميذاً له وقال انزع عني القميص وادفعه إلى فلان فقال هلا صبرت حتى تخرج قال لم آمن على نفسي أن تتغير وكان قد خطر لي بذله ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفاً كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره حتى إذا سافر وفارق تكلفاً وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له
ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب بها خبث الرياء ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال كما يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها لا ليخلى واللعب ولكن لينفك عن الثدي إليه ثم ينقل عنه إلى غيره فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب وتكسر سورته بها ويسلط الغضب على الشهوة وتكسر رعونتها به إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء فيبذل الأقوى بالأضعف فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه فإنه يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء فلذلك يتبين أن الرياء أغلب عليه فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء فينبغي أن يبذل فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه
ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جمع أجزائه دوداً ثم يأكل بعض الديدان البعض حتى يقل عددها ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها
ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها فإنها تقتضي لا محالة أعمالاً وإذا خولفت خمدت الصفات وماتت
مثل البخل فإنه يقتضي إمساك(3/262)
المال فإذا منع مقتضاه وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل وصار البذل طبعاً وسقط التعب فيه فإن علاج البخل بعلم وعمل فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود والعمل يرجع إلى الجود والبذل على سبيل التكلف ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة فلم يتيسر العمل فتبقى العلة مزمنة كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء وإمكان استعماله فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت
وكان من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة / علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم
وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها نقله إلى زاوية غيرها ونقل زاوية غيره إليه وأخرجه عن جميع ما ملكه وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه أو سجادة يفرح بها يأمره بتسليمها إلى غيره ويلبسه ثوباً خلقاً لا يميل إليه قلبه
فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا
فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها فإن كان له ألف متاع كان له ألف محبوب ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة لأنه كان يحب الكل وقد سلب عنه بل هو في حياته على خطر المصيبة بالفقد والهلاك
حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً فقال لبعض الحكماء عنده كيف ترى هذا قال أراه مصيبة أو فقراً قال كيف قال إن كسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر ثم اتفق يوماً أن كسر أو سرق وعظمت مصيبة الملك عليه فقال صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله تسوقهم إلى النار وعدوة أولياء الله إذ تغمهم بالصبر عنها وعدوة الله إذ تقطع طريقه على عباده وعدوة نفسها فإنها تأكل نفسها فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس
والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال وهو بذل الدراهم والدنانير فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته ومن قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه لحاجته فليس ببخل ولا يحتاج إليه فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله بل هو كالماء على شط الدجلة إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة
بيان مجموع الوظائف التي على العبد في ماله
اعلم أن المال كما وصفناه خير من وجه وشر من وجه
ومثاله مثال حية يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف
الأولى أن يعرف مقصود المال وأنه لماذا خلق وأنه لم يحتج إليه حتى يكتسب ولا يحفظ إلا قدر الحاجة ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه
الثانية أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض وما الغالب عليه الحرام كمال السلطان ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة وما يجري مجراه
الثالثة في المقدار الذي يكتسبه فلا يستكثر منه ولا يستقل بل القدر الواجب ومعياره الحاجة والحاجة(3/263)
ملبس ومسكن ومطعم
ولكل واحد ثلاث درجات أدنى وأوسط وأعلى
وما دام مائلاً إلى جانب القلة ومتقرباً من حد الضرورة كان محقاً ويجيء من جملة المحقين وإن جاوز ذلك وقع في هاوية لا آخر لعمقها
وقد ذكرنا تفصيل هذه الدرجات في كتاب الزهد
الرابعة أن يراعي جهة المخرج ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر كما ذكرناه فيضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه فإن الإثم في الأخذ من غير حقه والوضع في غير حقه سواء
الخامسة أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له إذا فعل ذلك لم يضره وجود المال ولذلك قال علي رضي الله عنه لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد ولو أنه ترك الجميع ولم يرد به وجه الله تعالى فليس بزاهد
فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة فإن أبعد الحركات عن العبادة الأكل وقضاء الحاجة وهما معينان على العبادة فإذا كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك
وكذلك ينبغي أن تكون نيتك في كل ما يحفظك من قميص وإزار وفراش وآنية لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين وما فضل من الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله ولا يمنعه منه عند حاجته فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها واتقى سمها فلا تضره كثرة المال ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه وعظم فيه علمه
والعامي إذا تشبه بالعالم في الاستكثار من المال وزعم أنه يشبه أغنياء الصحابة شابه الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ الحية ويتصرف فيها فيخرج ترياقها فيقتدي به ويظن أنه أخذها مستحسناً صورتها وشكلها ومستليناً جلدها فيأخذها اقتداء به فتقتله في الحال إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل وقتيل المال قد لا يعرف
وقد شبهت الدنيا بالحية فقيل
هي دنيا كحية تنفث السم ... وإن كانت المجسة لانت
وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال
بيان ذم الغنى ومدح الفقر
اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه ولكنا في هذا الكتاب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل الأحوال ونقتصر فيه على حكاية فصل ذكره الحارث المحاسبي رضي الله عنه في بعض كتبه في الرد على بعض العلماء من الأغنياء حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه
وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون وتدرسون مالا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى وما يغني عنكم أن تنقو جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة كذلك أنتم(3/264)
تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون ويلكم حتام تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة متعطلة يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم
ثم قال الحارث رحمه الله إخواني فهؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنه على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة واولوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون أو يعفو الكريم بفضله
وبعد فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص فيتفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي وإلى البوار والتلف مصيره فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} فيا لها من مصيبة ما أفظعها ورزية ما أجلها ألا فراقبوا الله إخواني ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله فإنهم يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج ويزعمون أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ليعذرهم الناس على جمع المال ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون
ويحك أيها المفتون إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ينطق بها على لسانك فتهلك لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمداً والمرسلين ونسبتهم إلى قلة الرغبة والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه فقد زعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينصح للأمة إذ نهاهم عن جمع المال // حديث النهي عن جمع المال أخرجه ابن عدي من حديث ابن مسعود ما أوحى الله إلي أن أجمع المال وأكون من الفاجرين الحديث ولأبي نعيم والخطيب في التاريخ والبيهقي في الزهد من حديث الحارث بن سويد في أثناء الحديث لا تجمعوا ما لا تأكلون وكلاهما ضعيف
وقد علم أن جمع المال خير للأمة فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال كذبت ورب السماء عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلقد كان للأمة ناصحاً وعليهم مشفقاً وبهم رءوفا
ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت إن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع فلذلك نهاهم عنه وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل لذلك رغبت في الاستكثار كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك تعالى الله عن جهلك أيها المفتون تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة ويحك ما ينفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتاً(3/265)
وقد بلغني أنه لما توفي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال أناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك فقال كعب سبحان الله وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيبا فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ثم انطلق يريد كعباً فقيل لكعب
إن أبا ذر يطلبك فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر وأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر فقال له أبو ذر هيه يا ابن اليهودية تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف ولقد خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً نحو أحد وأنا معه فقال يا أبا ذر فقلت لبيك يا رسول الله فقال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه وقليل ما هم ثم قال يا أبا ذر قلت نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين قلت أو قنطارين يا رسول الله قال بل قيراطان ثم قال يا أبا ذر أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل (1) حديث أنه قال أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت تدخلها إلا حبوا أخرجه البزار من حديث أنس بسند ضعيف والحاكم من حديث عبد الرحمن ابن عوف يا ابن عوف إنك من الأغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفا وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيف فيه خالد بن أبي مالك ضعفه الجهور
ويحك أيها المفتون فما احتجاجك بالمال وهذا عبد الرحمن في فضله وتقواه وصنائعه المعروف وبذله الأموال في سبيل الله مع صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشراه بالجنة // حديث بشر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف بالجنة أخرجه الترمذي والنسائي في الكبرى من حديثه أبو بكر في الجنة الحديث وفيه وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وهو عند الأربعة من حديث سعيد بن زيد قال البخاري والترمذي وهذا أصح
أيضاً يوقف في عرصات القيامة وأهوالها بسبب ماله كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف وأنفق منه قصداً وأعطي في سبيل الله سمحا
_________
(1) حديث أبي ذر الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا الحديث متفق عليه وقد تقدم دون هذه الزيادة التي في أوله من قول كعب حين مات عبد الرحمن بن عوف كسب طيبا وترك طيبا وإنكار أبي ذر عليه فلم أقف على هذه الزيادة إلا في قول الحارث بن أسد المحاسبي بلغني كما ذكره المصنف وقد رواها أحمد وأبو يعلى أخصر من هذا ولفظ كعب إذا كان قضى عنه حق الله فلا بأس به فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول ما أحب لو كان هذا الجبل لي ذهبا الحديث وفيه ابن لهيعة
فرسول الله يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف كذبت وكذب من قال فلم يرد عليه خوفاً حتى خرج
وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن فضجت المدينة ضجة واحدة فقالت عائشة رضي الله عنها ما هذا قيل عير قدمت لعبد الرحمن قالت صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعيا ولم أر أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف يدخلها معهم حبوا حديث عائشة رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعياً الحديث في أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا رواه أحمد مختصرا في كون عبد الرحمن يدخل حبوا دون ذكر فقراء المهاجرين والمسلمين وفيه عمارة بن زاذان مختلف فيه
فقال عبد الرحمن إن العير وما عليها في سبيل الله وإن إرقاءها أحراراً لعلي أدخلها معهم سعياً
وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت أن تدخلها إلا حبواً(3/266)
منع من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبوا فما ظنك بأمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وبعد فالعجب كل العجب لك يا مفتون تتمرغ في تخاليط الشبهات والسحت وتتكالب على أوساخ الناس وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة
ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله فكسبوا حلالاً وأكلوا طيباً وأنفقوا قصداً وقدموا فضلاً ولم يمنعوا منها حقاً ولم يبخلوا بها لكنهم جادوا لله بأكثرها وجاد بعضهم بجميعها وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم كثيراً فبالله أكذلك أنت والله إنك لبعيد الشبه بالقوم
وبعد فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين ومن خوف الفقر آمنين وبالله في أرزاقهم واثقين وبمقادير الله مسرورين وفي البلاء راضين وفي الرخاء شاكرين وفي الضراء صابرين وفي السراء حامدين وكانوا لله متواضعين وعن حب العلو والتكاثر ورعين
لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعيمها وزهرتها
فبالله أكذلك أنت
ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته من الله وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا مرحباً بشعار الصالحين
وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً فقيل له إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم شيء فرحوا وأنت لست كذلك قال إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة
وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا الآن تعاهدنا ربنا
فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا
فبالله أكذلك أنت إنك لبعيد الشبه بالقوم
وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضداً لأحوالهم وذلك أنك تطغي عند الغنى وتبطر عند الرخاء وتمرح عند السراء وتغفل عن شكر ذي النعماء وتقنط عند الضراء وتسخط عند البلاء ولا ترضى بالقضاء 2
نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم
وأنت تدخر المال وتجمعه خوفاً من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز وجل وقلة اليقين بضمانه وكفى به إثماً وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها
ولقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم فربت عليهم أجسامهم // حديث شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الحديث تقدم ذكره في أوائل كتاب ذم البخل عند الحديث الرابع منه من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة سنة
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة نعم وعساك أن تجمع المال للتكاثر والعلو والفخر والزينة في الدنيا وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي الله وهو عليه غضبان وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو(3/267)
نعم وعساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله فأنت تكره لقاء الله والله للقائك أكره وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة شهر
وقيل سنة
وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله
نعم ولعلك تخرج من دينك أحياناً لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك سروراً بها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه (1) حديث من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام متفق عليه من حديث النعمان بن بشير نحوه وقد تقدم في كتاب الحلال والحرام أول الحديث
أيها المغرور أما علمت أن خوفك من اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله من اكتساب الشبهات وبذلها في سبيل الله وسبيل البر بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال لأن تدع درهماً واحداً مخافة أن لا يكون حلالاً خير لك من أن تتصدق بألف دينار من شبهة لا تدري
_________
(1) حديث من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه لم أجده إلا بلاغا للحارث بن أسد المحاسبي كما ذكره المصنف عنه
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا وتحاسب بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك وعساك ترى مصيبتك في معاصيك أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا وعساك ترضى المخلوقين مساخطاً لله تعالى كيما تكرم وتعظم
ويحك فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك وعساك تخفى من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله أهون عليك من الفضيحة عند الناس فكأن العبيد أعلى عندك قدراً من الله تعالى الله عن جهلك فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك أف لك متلوثاً بالأقذار وتحتج بمال الأبرار هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار والله لقد بلغني أنهم كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم إن الذي لا بأس به عندكم كان من الموبقات عندهم وكانوا للزلة الصغيرة أشد استعظاما منكم لكبائر المعاصي فليت أطيب مالك وأحله مثل شبهات أمولهم وليتك أشفقت من سيئاتك كما أشفقوا على حسناتهم أن لا تقبل ليت صومك على مثال إفطارهم وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم وليت جميع حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم
وقد بلغني عن بعض الصحابة أنه قال غنيمة الصديقين ما فاتهم من الدنيا ونهمتهم ما زوى عنهم منها فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة فسبحان الله كم بين الفريقين من التفاوت فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق أمثالكم في السفالة أو يعفو الله الكريم بفضله
وبعد فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر أمرك ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم أو تحسب أنك محتاط في طلب الحلال كما احتاطوا لقد بلغني أن بعض الصحابة قال كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط لا ورب الكعبة ما أحسبك كذلك ويحك كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام(3/268)
أيحل لك أم لا فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من الحلال للبذل في سبيل الله ويحك إن كنت كما زعمت بالغاً في الورع فلا تتعرض للحساب فإن خيار الصحابة خافوا المسألة وبلغنا أن بعض الصحابة قال ما سرني أن أكتسب كل يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة قالوا ولم ذاك رحمك الله قال لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين اكتسبت وفي أي شيء أنفقت فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره وأنت بغاية الأمن والحلال في دهرك مفقود
تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من الحلال ويحك أين الحلال فتجمعه
وبعد فلو كان الحلال موجوداً لديك أما تخاف أن يتغير عند الغنى قلبك وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه أفتطمع أن يكون قلبك أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك لئن ظننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء ويحك إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب فإنه بلغنا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال من نوقش الحساب عذب (1) حديث يؤتى بالرجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار الحديث بطوله لم أقف له على أصل
ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال أمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها ويحك لأجل هذه المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر من كسب المال فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع والتقى ولم تجمع المال إلا من حلال بزعمك للتعفف والبذل في سبيل الله ولم تنفق شيئاً من الحلال إلا بحق ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنت كذلك ولست كذلك فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في
_________
(1) حديث من نوقش الحساب عذب متفق عليه من حديث عائشة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حلال فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال فيقال له قف لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئاً فرضت علي فيقال لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول لا يا رب لم أختل ولم أباه في شيء فيقال لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيقول لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئاً مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه قال فيجئ أولئك فيخاصمونه فيقولون يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء فيقال قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل(3/269)
زمرة المصطفى لا حبس عليك للمسألة والحساب فإما سلامة وإما عطب
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنة بخمسمائة عام (1) حديث يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيتمتعون ويأكلون الحديث لم أر له أصلا
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال
ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه
يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام وكونوا وجلين من التخلف والانقطاع عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجل المتقين
لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكلم فعاد في البكاء فلما أكثر البكاء قيل له أكل هذا من أجل هذه الشربة قال نعم بينا أنا ذات يوم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما معه أحد في البيت غيري فجعل يدفع عن نفسه وهو يقول إليك عني فقلت له فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحداً فمن تخاطب فقال هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي
يا محمد خذني فقلت
إليك عني فقالت
إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث إن بعض الصحابة عطش فاستسقى بشربة ماء وعسل الحديث في دفع النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا عن نفسه وقوله إليك عني الحديث أخرجه البزار والحاكم من حديث زيد بن أرقم وقال كنا عند أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء وعسل الحديث قال الحاكم صحيح الإسناد قلت بل ضعيف وقد تقدم قبل هذا الكتاب
يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شربة من حلال ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى الانقطاع أف لك ما أعظم جهلك ويحك فإن تخلفت في القيامة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير ولئن لم تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين
فتدبر ويحك ما سمعت وبعد
فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف قانع بالقليل زاهد في الحلال بذول لمالك مؤثر على نفسك لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئاً لغدك مبغض للتكاثر والغنى راض بالفقر والبلاء فرح بالقلة والمسكنة مسرور بالذل والضعة كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير عن الرشد قلبك قد حاسبت نفسك في الله وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن توقف في المسألة ولن يحاسب مثلك من المتقين
وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن النظر أما علمت أن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار
أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلي لقدرك عند الله أضعافاً
بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال لو أن رجلاً في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله لكان
_________
(1) حديث يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنة بخمسمائة عام أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ فقراء مكان صعاليك ولهما وللنسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة يدخل الفقراء الجنة الحديث ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفا
وقال عليه السلام يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون والآخرون جثاة على ركبهم فيقول قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم(3/270)
الذاكر أفضل
وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به
وبلغنا أن بغض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما
طلب الدنيا حلالاً فأصابها فوصل بها رحمه وقدم لنفسه
وأما الآخر
فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها فأيهما أفضل قال
بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها
ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك
فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر نعم وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل
وبعد
فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا
ويحك تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء المصطفى سابقاً إلى جنة المأوى
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء وإذا استقرض لم يجد قرضاً وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه يمسي مع ذلك ويصبح راضياً عن ربه {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} // حديث سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء الحديث عزاه صاحب مسند الفردوس للطبراني من رواية أبي حازم عن أبي هريرة مختصرا بلفظ سادة الفقراء في الجنة الحديث ولم أره في معاجم الطبراني
ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر والفضل تجمعه لا ولكنك خوفاً من الفقر تجمعه وللنعيم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال ويحك راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور
ويحك إن كنت مفتوناً بحب المال والدنيا فكن مقراً أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول نعم وكن عند جمع المال مزرياً على نفسك معترفاً بإساءتك وجلا من الحساب فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال
إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجوداً وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقوداً وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة
فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه
وبعد فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها وعن قريب يكون الورود فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون لهذا قليل
وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين
هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه
ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد
ويشهد له أيضاً ما روي عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت قال والذي بعثك بالحق نبياً لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه ولأفعلن ولأفعلن قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت(3/271)
عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال ما فعل ثعلبة بن حاطب فقيل يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة قال وأنزل الله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم عن الصدقة وكتب لهما كتاباً بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين وقال مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان رجل من بني سليم وخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك قال بلى خذوها فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال أروني كتابكما فنظر فيه فقال هذه أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال يا ويح ثعلبة قبل أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله تعالى في ثعلبة وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يكذبون وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه فخرج حتى أتى ثعلبة فقال لا أم لك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثو التراب على رأسه فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا عملك أمرتك فلم تطعني فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله فلما قبض رسول صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافه عثمان // حديث أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه الحديث بطوله أخرجه الطبراني بسند ضعيف
فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث ولأجل بركة الفقر وشؤم الغني آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر لنفسه ولأهل بيته حتى روى عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطمة فقرع الباب وقال السلام عليكم أأدخل فقالت ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي قالت ومن معك يا رسول الله فقال عمران بن حصين فقالت والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة فقال اصنعي بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال شدي بها على رأسك ثم أذنت له فدخل فقال السلام عليك يابنتاه كيف أصبحت قالت أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أجهدني الجوع فبكى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لا تجزعي يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا(3/272)
ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة فقالت فأين آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران فقال آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها وخديجة سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ثم قال لها اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا سيداً في الآخرة // حديث عمران بن حصين كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاء فقال فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله وفيه لقد زوجتك سيداً في الدنيا وسيداً في الآخرة لم أجده من حديث عمران ولأحمد والطبراني من حديث معقل بن يسار وضأت النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل لك في فاطمة تعودها الحديث وفيه أما ترضين أن زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وإسناده صحيح
فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف آثرت الفقر وتركت المال
ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال لهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله إذ لا ذكر إلا مع الفراغ ولا فراغ مع شغل المال
وقد روي عن جرير عن ليث قال صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال أكون معك وأصحابك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف فقال للرجل من أخذ الرغيف فقال لا أدري قال فانطق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها قال فدعا أحدهما فأتاه فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل ثم قال للخشف قم بإذن الله فقام فذهب فقال للرجل أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال لا أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء فلما جاوزا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال لا أدري فانتهيا إلى مفازة فجلسا فأخذ عيسى عليه السلام يجمع تراباً وكثيباً ثم قال كن ذهباً بإذن الله تعالى فصار ذهبا فقسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف فقال أنا الذي أخذت الرغيف فقال كله لك وفارقه عيسى عليه السلام فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه فقال هو بيننا أثلاثاً فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاماً نأكله قال فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال لكني أضع في هذا الطعام سماً فأقتلهما وآخذ المال وحدي قال ففعل وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى فمر بهم عيسى عليه السلام على تلك الحالة فقال لأصحابه هذه الدنيا فاحذروها
وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبورا فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا البقل كما ترعى البهائم وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض وأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين فقال مالي إليه حاجة فإن كان له حاجة فليأتني فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبلت فها أنا قد جئت فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين مالي أراكم على حالة لم أر أحداً من الأمم عليها قال وما ذاك قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بهما قالوا إنما كرهناهما(3/273)
لأن أحداً لم يعط منهما شيئاً إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه
فقال ما بالكم قد احتفرتم قبوراً فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل
قال وأراكم لا طعام لكن إلا البقل من الأرض أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً لها ورأينا في نبات الأرض بلاغاً وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وأيما ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال ياذا القرنين أتدري من هذا قال لا ومن هو قال ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا فلما رأى الله سبحانه ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته
ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال ياذا القرنين هل تدري من هذا قال لا أدري ومن هو قال هذا ملك ملكه الله بعده قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم والتجبر فتواضع وخشع لله عز وجل وأمر بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته
ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال
وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر ياذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين هل لك في صحبتي فأتخذك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما أتاني الله من هذا المال قال ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً قال ذو القرنين ولم قال من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق قال ولم قال يعادونك لما في يديك من الملك والمال والدنيا ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء قال فانصرف عنه ذو القرنين متعجباً منه ومتعظاً به فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من قبل وبالله التوفيق
تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه ويليه كتاب ذم الجاه والرياء
كتاب ذم الجاه والرياء وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله علام الغيوب المطلع على سرائر القلوب المتجاوز عن كبائر الذنوب العالم بما تجنه الضمائر من خفايا الغيوب البصير بسرائر النيات وخفافا الطويات الذي لا يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفي وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا فإنه المنفرد بالملكوت فهو أغنى الأغنياء عن الشرك
والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية التي هي أخفى من دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي الليلة الظلماء // حديث إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث شداد بن أوس وقالا الشرك بدل الرياء وفسراه بالرياء قال الحاكم صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه وهو عند ابن المبارك في الزهد ومن طريقه عند البيهقي في الشعب بلفظ المصنف
ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة(3/274)
العلماء فضلاً عن عامة العباد والأتقياء وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكايدها
وإنما يبتلي به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات وحملوها بالقهر على أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم فسارعت إلى إظهار الطاعة وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا في بركة دعائه وحرصوا على اتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه في المحافل غاية الإكرام وسامحوه في البيع والمعاملات وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس وتصاغروا له متواضعين وانقادوا له في أغراضه موقرين فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات فهو يظن أن حياته بالله وبعبادته المرضية وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة القوية ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزييناً للعباد وتصنعاً للخلق وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار وأحبطت بذلك ثواب الطاعات وأجور الأعمال وقد أثبتت اسمه في جريدة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين
وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة
وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشياطين وجب شرح القول في سببه وحقيقته ودرجاته وأقسامه وطرق معالجته والحذر منه ويتضح الغرض منه في ترتيب الكتاب على شطرين الشطر الأول في حب الجاه والشهرة وفيه بيان ذم الشهرة وبيان فضيلة الخمول وبيان ذم الجاه وبيان معنى الجاه وحقيقته وبيان السبب في كونه محبوباً أشد من حب المال وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي وبيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم
وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح وبيان علاج كراهة الذم وبيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم
فهي إثنا عشر فصلاً منها تنشأ معاني الرياء فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب بلطفه ومنه وكرمه
بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت
اعْلَمْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ أَنَّ أَصْلَ الْجَاهِ هُوَ انْتِشَارُ الصِّيتِ وَالِاشْتِهَارِ وَهُوَ مَذْمُومٌ بَلِ الْمَحْمُودُ الخمول إلا من شهرة الله تعالى لِنَشْرِ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ طَلَبِ الشُّهْرَةِ منه
قال أنس رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا مَنْ عصمه الله // حديث أنس حسب امرئ من الشر إلا من عصمه أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ ودنياه أخرجه البيهقي في الشعب بسند ضعيف
وقال جابر بن عبد الله قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ(3/275)
بالأصابع في دينه ودنياه
إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (1) حديث رُبَّ أَشَعْثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره وللحاكم رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره وقال صحيح الإسناد ولأبي نعيم في الحلية من حديث أنس ضعيف رب ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ على الله لأبره منهم البراء بن مالك وهو عند الحاكم نحوه بهذه الزيادة وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه
منهم البراء بن مالك وقال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم رب ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا // حديث ابن مسعود رب ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاء الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا أخرجه ابن أبي الدنيا ومن طريقه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه وسلم {إلا}
_________
(1) حديث جابر بحسب امرئ من الشر الحديث مثله وزاد في آخره إن الله لا ينظر إلى صوركم الحديث هو غير معروف من حديث جابر معروف من حديث أبي هريرة رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب بسند ضعيف مقتصرين على أوله ورواه مسلم مقتصرا على الزيادة التي في آخره وروى الطبراني والبيهقي في الشعب أوله من حديث عمران بن حصين بلفظ كفى بالمرء إثما ورواه ابن يونس في تاريخ الغرباء من حديث ابن عمر بلفظ هلاك بالرجل وفسر دينه بالبدعة ودنياه بالفسق وإسنادهما ضعيف
ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلاً ولا بأس به إذ روى هذا الحديث فقيل له يا أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع فقال إنه لم يعن هذا وإنما عنى به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه تبذل ولا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر وتعلم واكتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار
وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله ما صدق الله من أحب الشهرة
وقال أيوب السختياني والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه
وعن خالد بن معدان
أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة
وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام
ورأى طلحة قوما معه نحوا من عشرة فقال ذباب طمع وفراش نار
وقال سليم بن حنظلة بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة
فقال انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن الحسن قال خرج ابن مسعود يوما من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال علام تتبعوني فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان وقال الحسن إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى
وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال هل لكم من حاجة وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن
وروي أن رجلا صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال أوصني فقال إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشى إليك وتسأل ولا تسئل فافعل
وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل
وقال معمر عاتبت أيوب على طول قميصه فقال
إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره
وقال بعضهم كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال إياكم وهذا الحمار الناهق يشير به إلى طلب الشهرة
وقال الثوري كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعا
وقال رجل لبشر بن الحارث
أوصني فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك
وكان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي مسجد الجامع
وقال بشر ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح
وقال أيضا لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس
رحمة الله عليه وعليهم أجمعين
بيان فضيلة الخمول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره(3/276)
أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ وَأَهْلُ النَّارِ كل متكبر مستكبر جواظ (1) حديث إن من أمتي من لو أتى أحدكم فسأله ديناراً لم يعطه إياه الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ثوبان بإسناد صحيح دون قوله ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه إلا لهوانها عليه
وروى أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يبكيك فقال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إن اليسير من الرياء وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة (2) حديث أبي أمامة إن أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الخاذ الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسنادين ضعيفين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما
أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفارون بدينهم يجتمعون يوم القيامة إلى المسيح عليه السلام
وقال الفضيل بن عياض بلغني إن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده ألم أنعم عليك ألم أسترك ألم أخمل ذكرك وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك واجعلني عند الناس من أوسط خلقك
وقال الثوري وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء
وقال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني يوماً في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن فجرني المؤذن برجلي صلى الله عليه وسلم حتى أخرجني من المسجد
وقال الفضيل إن قدرت على أن لا تعرف فافعل
_________
(1) حديث أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مستضعف الحديث متفق عليه من حديث حارثة بن وهب
وقال أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم إن أهل الجنة كل أَشَعْثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أمتي من لو أتى أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه إياه ولو سأله درهما لم يعطه إياه ولو سأله فلساً لم يعطه إياه ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه إلا لهوانها عليه رب ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ على الله لأبره
(2) حديث معاذ بن جبل إن اليسير من الرياء شرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الحديث أخرجه الطبراني والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه فيه عيسى بن عبد الرحمن وهو الزرقي متروك
وقال محمد بن سويد قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق فقال يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم وسكن وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيتك في حاجة فقال ما هي قال تخصني بدعوة قال سبحان الله أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة ثم قال ما الذي بلغك ما رأيت قال أطعت الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني
وقال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض
وقال أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك قال ثم نقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه(3/277)
وما عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول
وإنما الْمَطْلُوبَ بِالشُّهْرَةِ وَانْتِشَارِ الصِّيتِ هُوَ الْجَاهُ وَالْمَنْزِلَةُ في القلوب وحب الجاه هو منشأ كل فساد
فإن قلت فأي شهوة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء فكيف فاتهم فضيلة الخمول فاعلم أن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من جهة الله سبحانه مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ مِنَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ
نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك
بيان ذم الجاه ومعناه
وقال اللَّهُ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} جمع بين إرادة الفساد والعلو وَبَيْنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِلْخَالِي عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جميعا
فقال عز وجل ومن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يعملون وَهَذَا أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ بِعُمُومِهِ لِحُبِّ الْجَاهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لَذَّةً مِنْ لَذَّاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَكْثَرُ زينة من زينتها
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (1) حديث ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم الحديث تقدم أيضا هناك
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء // حديث إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء لم أره بهذا اللفظ وقد تقدم في العلم من حديث أنس ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع الحديث ولأبي منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس بسند ضعيف حب الثناء من الناس يعمي ويصم
نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه
بيان معنى الجاه وحقيقته
اعْلَمْ أَنَّ الْجَاهَ وَالْمَالَ هُمَا رُكْنَا الدُّنْيَا
وَمَعْنَى الْمَالِ مِلْكُ الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا وَمَعْنَى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها
وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه
وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده فإن انقياد القلب حال للقلب
وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد
_________
(1) حديث المال والجاه ينبتان النفاق الحديث تقدم في أول هذا الباب ولم أجده
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذِئْبَانِ ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأسرع إفساداً من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم(3/278)
فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم لأن المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا ويبغي أن تكون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير
فإذاً معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه فيقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه
فهذا هو معنى الجاه وحقيقته وله ثمرات كالمدح والإطراء فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه والله تعالى أعلم
بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد
المجاهدة
اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوباً هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوباً بل يقتضي أن يكون أحب من المال كما يقتضي أن يكون يكون الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب وكما أن ملك الذهب والفضة يفيد قدرة يتوصل الإنسان بها إلى سائر أغراضه فكذلك ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه
الأول أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال فمن ملك الجاه فقد ملك المال ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال فلذلك صار الجاه أحب
الثاني هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن ويتطرق إليه أخطار كثيرة وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق ولا تتناولها أيدي النهاب والغصاب وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها والجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها
نعم إنما تغضب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله(3/279)
الثالث أن ملك القلوب يسرى وينمى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر
لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال
وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح
فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه
نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلي بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه فحبه للمال والجاه معلوم إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جمع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ليعظموه أو ليبروه بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة فنقول نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب
وله سببان
أحدهما جلي تدركه الكافة
والآخر خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلا عن الأغنياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون
فأما السبب الأول فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق بسوء الظن مولع والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلك فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال // حديث منهومان لا يشبعان الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف والبزار والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس بسند لين وقد تقدم
ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف(3/280)
وأما السبب الثاني وهو الأقوى لأن الروح أمر رباني به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أو معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم // حديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر سر الروح أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود وقد تقدم
ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال
فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوباً بالطبع للإنسان والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفددة بكمال معنى الشمسية والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته بل هو قائم به فلم يكن موجوداً معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال بل الكامل من لا نظير له في رتبته
وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعاً ولا يكون متبعاً فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال
وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكنه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال فإن العبودية قهر على النفس
والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى قل الروح من أمر ربي ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته
وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك فأن تكون مستولياً عليه فصار الاستيلاء على الكل محبوباً بالطبع لأنه نوع كمال
وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخراً لك تردده كيف تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه
إلا أن الموجودات منقسمة إلى مالا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته
وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولى عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين وكالجبال والبحار
وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات
فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والإطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم والعالم كالمستولي عليه فلذلك أحب أن يعرف(3/281)
الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب وجميع عجائب السموات وجميع عجائب البحار والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها والاستيلاء نوع كمال
وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها كمن يعجز عن وضع الشطرنج فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفية فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه
وأما القسم الثاني وهو الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها فإنه يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان أجساد وأرواح
أما الأجساد فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فيجب أن يكون قادراً عليها يفعل فيها ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع فإن ذلك قدرة والقدرة كمال والكمال من صفات الربوبية والربوبية محبوبة بالطبع فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار وإن لم يملك قلوبهم فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوباً لها ويقوم القهر منزلته فيها فإن الحشمة القهرية أيضاً لذيذة لما فيها من القدرة
القسم الثاني نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية والقلوب إنما تتسخر الحب ولا تحب إلا باعتقاد الكمال فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها والقدرة والاستيلاء كمال وهو من أوصاف الربوبية
فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة والمال والجاه من أسباب القدرة ولا نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن والنقصان لا يزول
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم منهومان لا يشبعان فإذن مطلوب القلوب الكمال والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوباً وهو أمر وراء كونه محبوباً لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية فكان محبوباً بالطبع إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى
بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له
قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه
أحدها من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط(3/282)
بجميع المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى
الثاني من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفاً به كشفاً تاماً فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى
الثالث من حيث بقاء العلم أبد الآباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى
والمعلوم قسمان متغيرات وأزليات
أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلاً فيكون نقصاناً لا كمالاً فكلما اعتقدت اعتقاداً موافقاً وتصور أن ينقلب المعتقد فيه كما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصاً ويعود علمك جهلاً
ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم كعلمك مثلاً بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالاً في القلب
القسم الثاني هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات فإن هذه معلومات أزلية أبدية إذ لا يستحيل الواجب قط جائزاً ولا الجائز محالاً ولا المحال واجباً
فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له وما يستحيل في صفاته ويجوز في أفعاله فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سبباً لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلاً كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى قد أفلح من زكاها وقال عز وجل والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى
ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقاً بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال(3/283)
وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقة وإنما القدرة الحقيقة لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا
نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالاً فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمره هذا الجهل فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية أما العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى وأما الحرية فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة
ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه ومنزلته عند الله أعظم
وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدرة وإنما لم نورده في أقسام الكلام لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال
فإذن الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها كمالاً ككمال العلم وكمال الحرية وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية وكمال القدرة للعبد طريق إلى اكتساب كمال العلم وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالاً فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى
فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبدياً لا انقطاع له وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالاً في النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية وقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات
فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصوداً فهو جاهل وإليه أشار أبو الطيب بقوله(3/284)
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك
بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم
مهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه حُكْمُ مِلْكِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الحياة الدنيا وينقطع بالموت كالمال وَالدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ فَكُلُّ مَا خُلِقَ فِي الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله له فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاذ يرشده وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء فهذا على التحقيق ليس محبا لبيت الماء فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه
وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحباً لنكاحها فهذا هو الحب دون الأول وكذلك الجاه والمال
وقد يحب كل واحد منهما على هذين الوجهين فحبهما لأجل التوصل بِهِمَا إِلَى مُهِمَّاتِ الْبَدَنِ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَحُبُّهُمَا لِأَعْيَانِهِمَا فِيمَا يُجَاوِزُ ضَرُورَةَ الْبَدَنِ وَحَاجَتَهُ مَذْمُومٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُوصَفُ صَاحِبُهُ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لم يحمل الحب على مباشرة معصية
وما يتوصل به إلى اكتساب بِكَذِبٍ وَخِدَاعٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ وَمَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى اكْتِسَابِهِ بِعِبَادَةٍ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ بِالْعِبَادَةِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ وَهُوَ حَرَامٌ وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي
فإن قلت طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص فأقول يُطْلَبُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَجْهَانِ مُبَاحَانِ وَوَجْهٌ مَحْظُورٌ
أَمَّا الْوَجْهُ الْمَحْظُورُ فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ قِيَامَ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ صفة وهو مُنْفَكٌّ عَنْهَا مِثْلَ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَالنَّسَبِ فَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ أَوْ عَالِمٌ أَوْ وَرِعٌ وَهُوَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ
فَهَذَا حَرَامٌ لِأَنَّهُ كذب وتلبيس أما بالقول أو بالمعاملة
أما أَحَدُ الْمُبَاحَيْنِ فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الْمَنْزِلَةَ بِصِفَةٍ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا كَقَوْلِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فيما أَخْبَرَ عَنْهُ الرَّبُّ تَعَالَى اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض إني حفيظ عليم فَإِنَّهُ طَلَبَ الْمَنْزِلَةَ فِي قَلْبِهِ بِكَوْنِهِ حَفِيظًا عليماً وكان(3/285)
مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ
وَالثَّانِي أَنْ يَطْلُبَ إِخْفَاءَ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِهِ وَمَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِيهِ حَتَّى لَا يُعْلَمَ فَلَا تَزُولُ مَنْزِلَتُهُ بِهِ فَهَذَا أَيْضًا مُبَاحٌ لِأَنَّ حِفْظَ السَّتْرِ عَلَى الْقَبَائِحِ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ هَتْكُ السَّتْرِ وإظهار القبيح
وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به كالذي يخفي عن السلطان أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ أَنَّهُ وَرِعٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنِّي وَرِعٌ تَلْبِيسٌ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِ بِالشُّرْبِ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ الْوَرَعِ بَلْ يَمْنَعُ الْعِلْمَ بِالشُّرْبِ
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحْظُورَاتِ تَحْسِينُ الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَحْسُنَ فِيهِ اعْتِقَادُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ وَهُوَ مُلْبِسٌ إِذْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الْخَاشِعِينَ لِلَّهِ وَهُوَ مُرَاءٍ بِمَا يَفْعَلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُخْلِصًا فَطَلَبُ الْجَاهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَرَامٌ وَكَذَا بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ وَذَلِكَ يجري مجرى اكتساب المال الحرام مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ غَيْرِهِ بِتَلْبِيسٍ فِي عِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ قَلْبَهُ بِتَزْوِيرٍ وَخِدَاعٍ فَإِنَّ مِلْكَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ من ملك الأموال
بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها
للذم ونفرتها منه
اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب
السبب الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب وكل محبوب فإدراكه لذيذ
فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق ذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح
السَّبَبُ الثَّانِي أَنَّ الْمَدْحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَلْبَ الْمَادِحِ مَمْلُوكٌ لِلْمَمْدُوحِ وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ وَمُعْتَقِدٌ فِيهِ وَمُسَخَّرٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَمِلْكُ الْقُلُوبِ محبوب والشعور بحصوله لذيذ وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم
السبب الثَّالِثُ أَنَّ ثَنَاءَ الْمُثْنِي وَمَدْحَ الْمَادِحِ سَبَبٌ لِاصْطِيَادِ قَلْبِ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ لَا سِيَّمَا إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى(3/286)
قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس
السبب الرابع أن المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق فتنقص اللذة بها
أما الْعِلَّةُ الْأُولَى وَهِيَ اسْتِشْعَارُ الْكَمَالِ فَتَنْدَفِعُ بِأَنْ يَعْلَمَ الْمَمْدُوحُ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي قَوْلِهِ كَمَا إِذَا مُدِحَ بِأَنَّهُ نَسِيبٌ أَوْ سَخِيٌّ أو عالم يعلم أَوْ مُتَوَرِّعٌ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضِدَّ ذَلِكَ فَتَزُولُ اللَّذَّةُ الَّتِي سَبَبُهَا اسْتِشْعَارُ الْكَمَالِ وَتَبْقَى لَذَّةُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى قَلْبِهِ وعلى لسانه وبقية اللذات فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَادِحَ لَيْسَ يَعْتَقِدُ مَا يَقُولُهُ وَيَعْلَمُ خُلُوَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بطلب اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلب اللذات كلها فلم يكن فيه أصلاً لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم
وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ لَا يُمْكِنُ مُعَالَجَتُهُ إِذِ الْعِلَاجُ عِبَارَةٌ عَنْ حَلِّ أَسْبَابِ الْمَرَضِ
والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى
بَيَانُ عِلَاجِ حُبِّ الْجَاهِ
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الْجَاهِ صَارَ مَقْصُورَ الْهَمِّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ مَشْغُوفًا بِالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ والمراءات لِأَجْلِهِمْ وَلَا يَزَالُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مُلْتَفِتًا إِلَى مَا يُعَظِّمُ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَهُمْ وَذَلِكَ بَذْرُ النِّفَاقِ وَأَصْلُ الْفَسَادِ وَيَجُرُّ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُرَاءَاةِ بِهَا وَإِلَى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال صلى الله عليه وسلم إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها وذلك هو عين النفاق
فحب الجاه إذا مِنَ الْمُهْلِكَاتِ فَيَجِبُ عِلَاجُهُ وَإِزَالَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ فإن طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال وَعِلَاجُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ
أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَحَبَّ الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إِنْ صَفَا وَسُلِّمَ فَآخِرُهُ الْمَوْتُ فَلَيْسَ هُوَ من الباقيات الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له
فهذا لا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ بِهِ الدِّينَ الَّذِي هُوَ الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً
وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن(3/287)
وكأنك بالآخرة لم تزل فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا
وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة التي لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب ولذلك قال تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال عز وجل كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب والقلوب أشد تغيراً من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلاً عما يفوت في الآخرة فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة
وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا فهذا هو العلاج من حيث العلم
وأما من حيث العمل فإسقاط الجاه على قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق
وهذا هو مذهب الملامتية إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة فلما نظر إليه الملك سقط من عينه وانصرف فقال الزاهد الحمد لله الذي صرفك عني
ومنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس
وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير كما فعل بعضهم فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه فدخل حماماً ولبس ثياب غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا إنه طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته فإنه ربما يظن أنه ليس محباً لذلك الجاه وهو مغرور وإنما سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك الغبار عن قلوبهم وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة
ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع
ويستعين على جميع ذلك بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ(3/288)
الجاه ومدح الخمول والذل مثل قولهم المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة
وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله عنهم أجمعين
بَيَانُ وَجْهِ الْعِلَاجِ لِحُبِّ الْمَدْحِ وَكَرَاهَةِ الذَّمِّ
اعلم أن أكبر الناس إِنَّمَا هَلَكُوا بِخَوْفِ مَذَمَّةِ النَّاسِ وَحُبِّ مَدْحِهِمْ فصار حَرَكَاتُهُمْ كُلُّهَا مَوْقُوفَةً عَلَى مَا يُوَافِقُ رِضَا النَّاسِ رَجَاءً لِلْمَدْحِ وَخَوْفًا مِنَ الذَّمِّ وَذَلِكَ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ فَيَجِبُ مُعَالَجَتُهُ وَطَرِيقُهُ مُلَاحَظَةُ الْأَسْبَابِ التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم
أما السبب الأول فهو اسْتِشْعَارُ الْكَمَالِ بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَادِحِ فَطَرِيقُكَ فِيهِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى عَقْلِكَ وَتَقُولَ لِنَفْسِكَ هَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي يَمْدَحُكَ بِهَا أَنْتَ مُتَّصِفٌ بِهَا أم لا فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق بها المدح كالعلم والورع وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فَالْفَرَحُ بِهَا كَالْفَرَحِ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ الَّذِي يَصِيرُ عَلَى الْقُرْبِ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَهَذَا مِنْ قلة العقل بل العاقل يقول كما قال المتنبي
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها
وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة وهذا إنما يقتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمة غير معلومة وهذا إنما يقتضى الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمة باق ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا بل الدنيا دار أحزان وغموم لا دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا بمدح المادح فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح والمدح لا يزيدك فضلاً وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ الَّتِي مُدِحْتَ بِهَا أَنْتَ خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما أطيب الروائح التي تفوح منه إذا قضى حاجته وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من الأقذار والأنتان ثم يفرح بذلك فكذلك إذا أثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك كان ذلك من غاية الجهل فإذاً المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتك التي هي من فضل الله عليك وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به
وأما السبب الثاني وهو دلالة المدح على تسخير قلب المادح وكونه سبباً لتسخير قلب آخر فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب وقد سبق وجه معالجته وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله وبأن تعلم أن طلبك المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله فكيف تفرح به
وأما السبب الثالث وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لإثبات لَهَا وَلَا تَسْتَحِقُّ الْفَرَحَ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَغُمَّكَ مَدْحُ الْمَادِحِ وَتَكْرَهَهُ وَتَغْضَبَ بِهِ كَمَا نقل ذلك عن السلف لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة كما ذكرناه في كتاب آفات اللسان قال بعض السلف من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه
وقال بعضهم إذا قيل لك نعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال لك بئس الرجل أنت فأنت والله بئس الرجل
وروي في بعض الأخبار فإن صح فهو قاصم للظهور(3/289)
أن رجلاً أثنى على رجل خيراً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لو كان صاحبك حاضراً فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار (1) {حديث} ويحك قطعت ظهره الحديث قاله للمادح تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب // حديث ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب تقدم دون قوله ألا لا تمادحوا
فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل على القلب من السرور العظيم به حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء فقال أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم فغضب وقال إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض الصحابة لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله فغضب وقال إني لأحسبك عراقياً
وقال بعضهم لما مدح اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته
وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق لأن الممدوح هو المقرب عند الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره وإن كان من أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد الخلق
ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه
والله الموفق للصواب برحمته
بيان علاج كراهة الذم
قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح فعلاجه أيضاً يفهم منه
وَالْقَوْلُ الْوَجِيزُ فِيهِ أَنَّ مَنْ ذَمَّكَ لَا يخلو من ثلاثة أحوال
إما أن يَكُونُ قَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ وَقَصَدَ بِهِ النُّصْحَ وَالشَّفَقَةَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَلَكِنَّ قَصْدَهُ الْإِيذَاءُ وَالتَّعَنُّتُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا
فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَقَصْدُهُ النُّصْحَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَذُمَّهُ وَتَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتَحْقِدَ بِسَبَبِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَتَقَلَّدَ مِنَّتَهُ فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيْكَ عُيُوبَكَ فَقَدْ أَرْشَدَكَ إِلَى الْمُهْلِكِ حَتَّى تَتَّقِيَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ بِهِ وَتَشْتَغِلَ بِإِزَالَةِ الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ عَنْ نَفْسِكَ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهَا فَأَمَّا اغْتِمَامُكَ بِسَبَبِهِ وَكَرَاهَتُكَ لَهُ وَذَمُّكَ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ غَايَةُ الْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَنُّتَ فَأَنْتَ قَدِ انْتَفَعْتَ بِقَوْلِهِ إِذْ أَرْشَدَكَ إِلَى عيبك إن كنت جاهلاً به وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه أو قبحه في عينك لينبعث حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته
وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة
فمهما قصدت الدخول على ملك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسة بالعذرة فقال قائل أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة وجميع مساوي الْأَخْلَاقِ مُهْلِكَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَعْرِفُهَا من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه
وَأَمَّا قَصْدُ الْعَدُوِّ التَّعَنُّتَ فَجِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى دِينِ نَفْسِهِ وَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَيْكَ فَلِمَ تَغْضَبُ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ انْتَفَعْتَ بِهِ أَنْتَ وَتَضَرَّرَ هو به
_________
(1) حديث أن رجلاً أثنى على رجل خيرا فقال لو كان صاحبك حاضراً فرضي الذي قلت ومات على ذلك دخل النار لم أجد له أصلا
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً لِلْمَادِحِ وَيْحَكَ قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة(3/290)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْكَ بِمَا أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا تَشْتَغِلْ بِذَمِّهِ بَلْ تتفكر في ثلاثة أمور
أحدها أنك إِنْ خَلَوْتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ فَلَا تَخْلُو عَنْ أَمْثَالِهِ وَأَشْبَاهِهِ وَمَا سَتَرَهُ اللَّهُ مِنْ عُيُوبِكَ أَكْثَرُ فَاشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ لَمْ يُطْلِعْهُ عَلَى عُيُوبِكَ وَدَفَعَهُ عَنْكَ بِذِكْرِ مَا أنت بريء عنه
والثاني أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وَكُلُّ مَنِ اغْتَابَكَ فَقَدْ أَهْدَى إِلَيْكَ حَسَنَاتِهِ وَكُلُّ مَنْ مَدَحَكَ فَقَدْ قَطَعَ ظَهْرَكَ
فَمَا بَالُكَ تَفْرَحُ بِقَطْعِ الظَّهْرِ وَتَحْزَنُ لِهَدَايَا الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تُحِبُّ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ أَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ جَنَى عَلَى دِينِهِ حَتَّى سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ بِافْتِرَائِهِ وَتَعَرَّضَ لِعِقَابِهِ الْأَلِيمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تغضب عليه مع غضب الله عليه فَتُشَمِّتَ بِهِ الشَّيْطَانَ وَتَقُولَ اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَصْلِحْهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي اللَّهُمَّ اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون // حديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون قاله لما ضربه قومه أخرجه البيهقي في دلائل النبوة وقد تقدم والحديث في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قاله حكاية عن نبي من الأنبياء حين ضربه قومه
لَمَّا أَنْ كَسَرُوا ثَنِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَقَتَلُوا عمه حمزة يوم أحد
ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال علمت أني مأجور بسببه وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي
ومما يهون عليك كراهة الْمَذَمَّةِ قَطْعُ الطَّمَعِ فَإِنَّ مَنِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْهُ مَهْمَا ذَمَّكَ لَمْ يَعْظُمْ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قلبه وأصل الدين القناعة وبها يَنْقَطِعُ الطَّمَعُ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَمَا دَامَ الطَّمَعُ قَائِمًا كَانَ حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَدْحِ فِي قَلْبِ مَنْ طَمِعْتَ فِيهِ غَالِبًا وَكَانَتْ هِمَّتُكَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِهِ مَصْرُوفَةً وَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَدْمِ الدِّينِ فَلَا يَنْبَغِي أن يطمع طالب المال والجاه وَمُحِبُّ الْمَدْحِ وَمُبْغِضُ الذَّمِّ فِي سَلَامَةِ دِينِهِ فإن ذلك بعيد جداً
بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم
اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح
الحالة الأولى أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب
الحالة الثانية أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويفرح باطنه ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال
الحالة الثالثة وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً
وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته
وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام
فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون(3/291)
أنفسهم بهذه العلامات وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام والشيطان يحسن له ذلك ويقول الذام قد عصى الله بمذمتك والمادح قد أطاع الله بمدحك فكيف تسوي بينهما وإنما استثقالك للذام من الدين المحض
وهنا محض التلبيس فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم ويعلم أن المادح الذي مدح لا يخلو عن مذمة غيره
ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره
فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعداً من الله ومن لم يطلع على مكايد الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة وفيهم قال الله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
الحالة الرابعة وهي الصدق في العبادة أن يكره المدح ويمقت المادح إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته فقد قال صلى الله عليه وسلم رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى (1) حديث ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف الحديث لم أجده هكذا وذكر صاحب الفردوس من حديث أنس ويل لمن لبس الصوف فخالف فعله قوله ولم يخرجه ولد في مسنده
وهذا شديد جداً وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح ولا يظهر ذلك بالقول والعمل فأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها
ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنه لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما بعده من المرتبتين وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات
أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ولا يبالي بمقارفة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين
ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات ولا يباشر المحظورات وهذا على شرف جرف هار فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد فهو قريب من الهالكين جداً
ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه
ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغنم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص
ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن
_________
(1) حديث رأس التواضع أن يكره أن يذكر بالبر والتقوى لم أجد له أصلا
وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من فقيل يا رسول الله ألا من فقال إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحب المذمة(3/292)
لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال في حق الذام وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح ولا يكون الفرح وإظهاره إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو والإنسان يفرح ممن يذم عدوه وهذا شخص عدوه نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على عيوبها فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في أعين الناس حتى لا يبتلي بفتنة الناس وإذا سيقت إليه حسنات لم ينصب فيها فعساه يكون خيراً لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه الخصلة الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها ولا يقطع شيئاً منها إلا بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل الشطر الثاني من الكتاب في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات
وهو الرياء وفيه
بيان ذم الرياء
وبيان حقيقة الرياء وما يرائى وبيان درجات الرياء وبيان الرياء الخفي وبيان مَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ مِنَ الرِّيَاءِ وَمَا لَا يحبط وبيان دواء الرياء وعلاجه وبيان الرخصة في إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب وبيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء والآفات وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق وبيان ما يجب على المريد أن يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها
وهي عشرة فصول وبالله التوفيق بيان ذم الرياء
اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ حَرَامٌ وَالْمُرَائِيَ عِنْدَ اللَّهِ ممقوت وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار
أَمَّا الْآيَاتُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور قَالَ مجاهد هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ
وَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جزاء ولا شكورا فمدح المخلصين ينفي كُلِّ إِرَادَةٍ سِوَى وَجْهِ اللَّهِ وَالرِّيَاءُ ضِدُّهُ وقال تعالى فمن كان يرجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بعبادة ربه أحدا // حديث نزول قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه الآية فيمن يطلب الآخرة بعباداته وأعماله
أخرجه الحاكم من حديث طاوس قال رجل إني أقف الموقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه حتى نزلت هذه الآية
هكذا في نسختي من المستدرك ولعله سقط منه ابن عباس أو أبو هريرة وللبزار من حديث معاذ بسند ضعيف من صام رياء فقد أشرك الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية
نزل بعد ذَلِكَ فِيمَنْ يَطْلُبُ الْأَجْرَ وَالْحَمْدَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل فقال يا رسول الله فيم النجاة فقال أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله كما أوردناه في كتاب الإخلاص وإن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ فأخبر صلى الله عليه وسلم(3/293)
أنهم لم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم (1) حديث ابن عمر من راءى راءى الله تعالى به ومن سمع سمع الله به متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله وأما حديث ابن عمر فرواه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب من رواية شيخ يكنى أبا يزيد عنه بلفظ من سمع الناس سمع الله به سامع خلقه وحقره وصغره وفي الزهد لابن المبارك ومسند أحمد بن منيع إنه من حديث عبد الله بن عمرو
وفي حديث آخر طويل إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين (2) حديث إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ الحديث أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب من حديث محمود بن لبيد وله رواية ورجاله ثقات ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد عن رافع بن خديج
وقال صلى الله عليه وسلم استعيذوا بالله عز وجل من جب الحزن قيل وما هو يا رسول الله قال واد في جهنم أعد للقراء المرائين (3) حديث يقول الله مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فهو له كله الحديث أخرجه مالك واللفظ له من حديث أبي هريرة دون قوله وأنا منه بريء ومسلم مع تقديم وتأخير دونها أيضا وهي عند ابن ماجه بسند صحيح
وقال عيسى المسيح صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ لِئَلَّا يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ صَائِمٌ وَإِذَا أَعْطَى بِيَمِينِهِ فَلْيُخْفِ عَنْ شِمَالِهِ وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ رياء (4) حديث معاذ إن أدنى الرياء شرك أخرجه الطبراني هكذا والحاكم بلفظ إن اليسير من الرياء شرك وقد تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية (5) حديث إِنَّ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلا ظله رجلاً تصدق بيمينه فكاد أن يخفيها عن شماله متفق عليه من حديث أبي هريرة بنحوه في حديث سبعة يظلهم الله في ظله
وَلِذَلِكَ وَرَدَ إِنَّ فَضْلَ عَمَلِ السِّرِّ عَلَى عمل الجهر بسبعين ضعفا (6) حديث إن المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا من رواية جبلة اليحصبي من صحابي لم يسم وزاد يا كافر يا خاسر ولم يقل يا مرائي (7)
وقال شداد بن أوس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله
_________
(1) حديث أبي هريرة في الثلاثة المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتابه فإن الله تعالى يقول لكل واحد منهم كذبت
رواه مسلم وسيأتي في كتاب الإخلاص
وقال ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به
(2) حديث إن الله يقول للملائكة إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين أخرجه ابن المبارك في الزهد ومن طريقه ابن أبي الدنيا في الإخلاص وأبو الشيخ في كتاب العظمة من رواية حمزة بن حبيب مرسلا ورواه ابن الجوزي في الموضوعات
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جازى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمُ الْجَزَاءَ
(3) حديث استعيذوا بالله من جب الحزن قيل وما هو قال واد في جهنم أعد للقراء المرائين أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه من حديث أبي هريرة وضعفه ابن عدي
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَأَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشرك
(4) حديث لا يقبل الله عملا فيه مقدار ذرة من رياء لم أجده هكذا
وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي ما يبكيك قال حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن أدنى الرياء شرك
(5) حديث أخوف ما أخاف عليكم الرياء الحديث تقدم في أول هذا الكتاب
وهي أيضاً ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رجلاً تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله
(6) حديث تفضيل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفه البيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء إن الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح معمول به في السر يضعف أجره سبعين ضعفا قال البيهقي هذا من أفراد بقية عن شيوخه المجهولين وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص من حديث عائشة بسند ضعيف يفضل الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين درجة
وقال صلى الله عليه وسلم إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له
(7) وإسناده ضعيف(3/294)
قال إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم (1)
وقال صلى الله عليه وسلم لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتاداً للأرض فقالت الملائكة ما خلق ربنا خلقاً هو أشد من الجبال فخلق الله الحديد فقطع الجبال ثم خلق النار فأذابت الحديد ثم أمر الله الماء بإطفاء النار وأمر الريح فكدرت الماء فاختلفت الملائكة فقالت نسأل الله تعالى قالوا يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك قال الله تعالى لم أخلق خلقاً هو أشد على من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقاً خلقه (2)
وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال لي يا معاذ قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة يا معاذ أن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها قد جللها عظماً فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري {قال} ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضروا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم {قال} وتصعد الحفظة يعلم يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها فقوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم {قال} وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري له دوى من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به ظهره وبطنه أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب في عمله {قال} وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضروا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة يحسدهم ويقع فيهم أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري {قال} وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به بل كان يشمت به أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري {قال} وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل
_________
(1) حديث شداد بن أوس إني تخوفت على أمتي الشرك الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم نحوه وقد تقدم قريبا
(2) حديث لما خلق الله الأرض مادت بأهلها الحديث {وفيه} لم أخلق خلقاً هو أشد من ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله أخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلاف وقال غريب(3/295)
وجه صاحبه اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى إنه أراد رفعة عند الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم يكن لله خالصاً فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي {قال} وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله {قال} فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي فتقول الملائكة كلهم عليه لعنتك ولعنتنا وتقول السموات كلها عليه لعنة الله ولغتنا وتلعنه السموات السبع والأرض ومن فيهن قال معاذ قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال اقتد بي وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك ولا تناج رجلاً وعندك آخر ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى {والناشطات نشطاً} أتدري من هن يا معاذ قلت ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال كلاب في النار تنشط اللحم والعظم قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها قال يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه // حديث معاذ الطويل أن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها الحديث بطوله في صعود الحفظة بعمل العبد ورد الملائكة له من كل سماء ورد الله تعالى له بعد ذلك عزاء المصنف إلى رواية عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل عن معاذ وهو كما قال رواه في الزهد وفي إسناده كما ذكر من لم يسم ورواه ابن الجوزي في الموضوعات
قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث
وأما الآثار فيروى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يُطَأْطِئُ رَقَبَتَهُ فَقَالَ يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ ارْفَعْ رَقَبَتَكَ لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ إِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقُلُوبِ وَرَأَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ يَبْكِي فِي سُجُودِهِ فَقَالَ أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بيتك
وقال علي كرم الله وجهه للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس ويزيد في العمل إذا أثني علي صلى الله عليه وسلم هـ وينقص إذا ذم
وقال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس قال لا شيء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شيء لك ثم قال في الثالثة إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال إن أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر فقال له أتحب أن تمقت قال لا قال فإذا عملت لله عملاً فأخلصه
وَقَالَ الضحاك
لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ هَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ وَلِوَجْهِكَ وَلَا يَقُولَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فإن الله تعالى لا شريك له
وضرب عمر رجلاً بالدرة ثم قال له اقتص مني فقال لا بل أدعها لله ولك
فقال له عمر ما صنعت شيئاً إما أن تدعها لي فأعرف ذلك أو تدعها لله وحده فقال ودعتها لله وحده فقال فنعم إذن
وقال الحسن لقد صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا
وقال الفضيل بن عياض كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون(3/296)
بما لا يعملون
وقال عكرمة إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها
وقال الحسن رضي الله عنه المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو رجل صالح وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه
وقال قتادة إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي
وقال مالك بن دينار الفراء ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك وأن محمد بن واسع من قراء الرحمن
وقال الفضل من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي
وقال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين
وقال أبو سليمان التوقي عن العمل أشد من العمل
وقال ابن المبارك إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان فقيل له وكيف ذاك قال يحب أن لا يذكر أنه مجاور بمكة
وقال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أراد أن يشتهر
بيان حقيقة الرياء وما يُرَاءَى بِهِ
اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرؤية والسمعة مشتقة من السماع وإنما الرياء أصله طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بِإِيرَائِهِمْ خِصَالَ الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات
واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله فالمرائي هو العابد والمراءى هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم والمراءى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها والرياء هو قصده إظهار ذلك والمراءى به كثير وتجمعه خَمْسَةُ أَقْسَامٍ وَهِيَ مَجَامِعُ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَبْدُ لِلنَّاسِ وَهُوَ الْبَدَنُ وَالزِّيُّ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ والأتباع والأشياء الخارجة
وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات
القسم الأول الرياء في الدين بالبدن وذلك بإظهار النُّحُولِ وَالصَّفَارِ لِيُوهِمَ بِذَلِكَ شِدَّةَ الِاجْتِهَادِ وَعِظَمَ الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين وكذلك يرائي بتشعيث الشَّعْرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْهَمِّ بِالدِّينِ وعدم التفرغ لتسريح الشعر
وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم فلذلك تدعوه النفس إلى إظهارها لنيل تلك الراحة
ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الصَّوْمِ وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته
وعن هذا قال المسيح عليه السلام إِذَا صَامَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْهِنْ رَأْسَهُ وَيُرَجِّلْ شَعْرَهُ ويكحل عينيه
وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ بِالرِّيَاءِ ولذلك قال ابن مسعود أصبحوا صياماً مدهنين
فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن
فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها
الثاني الرياء بالهيئة والزي أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء فِي الْحَرَكَةِ وَإِبْقَاءِ أَثَرِ السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ وَغِلَظِ الثِّيَابِ وَلُبْسِ الصُّوفِ وَتَشْمِيرِهَا إِلَى قَرِيبٍ من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله(3/297)
الصالحين وَمِنْ ذَلِكَ لُبْسُ الْمُرَقَّعَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَى السَّجَّادَةِ وَلُبْسُ الثِّيَابِ الزُّرْقِ تَشَبُّهًا بِالصُّوفِيَّةِ مَعَ الْإِفْلَاسِ مِنْ حَقَائِقِ التَّصَوُّفِ فِي الْبَاطِنِ
وَمِنْهُ التَّقَنُّعُ بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة
ومنه الدراعة والطيلسان يَلْبَسُهُ مَنْ هُوَ خَالٍ عَنِ الْعِلْمِ لِيُوهِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالْمُرَاءُونَ بِالزِّيِّ عَلَى طبقات فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا ولو كلف أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسه لكان عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ وَذَلِكَ لِخَوْفِهِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ قَدْ بَدَا لَهُ مِنَ الزُّهْدِ وَرَجَعَ عن تلك الطريقة ورغب في الدنيا
وطبقة أخرى يطلبون القبول عند أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون القبول عند الفريقين وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم كالذبح خوفاً من السقوط من أعين الملوك والأغنياء ولو كلفوا لبس الديبقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا
وكل طبقة منهم رأى مَنْزِلَتَهُ فِي زِيٍّ مَخْصُوصٍ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إلى ما دونه أو إلى ما فوقه وإن كان مباحاً خيفة من المذمة
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة
الثالث الرياء بالقول ورياء أَهْلِ الدِّينِ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَالنُّطْقِ بِالْحِكْمَةِ وَحِفْظِ الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصَّالِحِينَ وَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ فِي مَحْضَرِ النَّاسِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَشْهَدِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْغَضَبِ لِلْمُنْكَرَاتِ وَإِظْهَارِ الْأَسَفِ عَلَى مُقَارَفَةِ الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن وادعاء حفظ الحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِإِظْهَارِ الْفَضْلِ فِيهِ وَالْمُجَادَلَةِ عَلَى قَصْدِ إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين
والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمالة القلوب
الرابع الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وَطُولِ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَإِطْرَاقِ الرَّأْسِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا اطلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من(3/298)
أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضره ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإرادة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة
الخامس الْمُرَاءَاةُ بِالْأَصْحَابِ وَالزَّائِرِينَ وَالْمُخَالِطِينَ كَالَّذِي يَتَكَلَّفُ أَنْ يَسْتَزِيرَ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ لِيُقَالَ إِنَّ فُلَانًا قَدْ زَارَ فُلَانًا أَوْ عَابِدًا مِنَ الْعُبَّادِ لِيُقَالَ إِنَّ أَهْلَ الدِّينِ يَتَبَرَّكُونَ بِزِيَارَتِهِ وَيَتَرَدَّدُونَ إليه أو ملكاً من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين
وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومباهاته ومراءاته تشرشح منه عند مخاصمته فيقول لغيره من لقيت من الشيوخ وأنا قد لقيت فلاناً وفلاناً ودرت البلاد وخدمت الشيوخ وما يجري مجراه فَهَذِهِ مَجَامِعُ مَا يُرَائِي بِهِ الْمُرَاءُونَ وَكُلُّهُمْ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ
ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة وكم من عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه فإنه نَوْعُ قُدْرَةٍ وَكَمَالٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ سَرِيعَ الزَّوَالِ لَا يَغْتَرُّ بِهِ إِلَّا الْجُهَّالُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ جُهَّالٌ وَمِنَ الْمُرَائِينَ مَنْ لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذَلِكَ إِطْلَاقَ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه
ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جَاهٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ التَّوَصُّلَ بِذَلِكَ إِلَى جَمْعِ حُطَامٍ وَكَسْبِ مَالٍ وَلَوْ من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها
فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء
فإن قلت فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل فأقول فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه وهو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ فإن كان بغير العبادات فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضاً محمود وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال {إني حفيظ عليم} وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه وكما أن كثير المال يلهى ويطفى وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضاً تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز
نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها وأما سعة(3/299)
الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه فلا جاه أوسع من جاه ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم فعلى هذا نقول تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا وقس على هذا كل ما تجمل للناس وتزين لهم
والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت أو تفعل ذلك يا رسول الله قال نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم // حديث عائشة أراد أن يخرج على أصحابه وكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل وقد تقدم في الطهارة
نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم ولو سقط من أعينهم لم يرغبوا في اتباعه فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر فكان ذلك قصد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمراً مباحاً إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان
ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم
فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة وقد تكون طاعة وقد تكون مذمومة وذلك بحسب الغرض المطلوب بها
ولذلك نقول الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله
أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان
إحداهما أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات وهذا ليس بقصد العبادة لا يقتصر على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات
وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَمْرَانِ
أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادِ وَهُوَ التَّلْبِيسُ وَالْمَكْرُ لِأَنَّهُ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ مُخْلِصٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَلَيْسَ كذلك والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضاً حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر
والثاني يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَهُوَ أَنَّهُ مَهْمَا قَصَدَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَ اللَّهِ فَهُوَ مُسْتَهْزِئٌ بِاللَّهِ
ولذلك قال قتادة إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي
وَمِثَالُهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ طُولَ النَّهَارِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْخَدَمِ وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أَوْ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اسْتِهْزَاءٌ بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بِخِدْمَتِهِ بَلْ قَصَدَ بِذَلِكَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَأَيُّ اسْتِحْقَارٍ يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَاءَاةَ عَبْدٍ ضَعِيفٍ لَا يَمْلِكُ لَهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَوْلَى بالتقريب إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ إِذْ آثَرَهُ عَلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ فَجَعَلَهُ مَقْصُودَ عِبَادَتِهِ وَأَيُّ اسْتِهْزَاءٍ يَزِيدُ عَلَى رَفْعِ الْعَبْدِ فَوْقَ الْمَوْلَى فَهَذَا مِنْ كبائر المهلكات ولهذا(3/300)
سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرك الأصغر // حديث سمى الرياء الشرك الأصغر أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد وقد تقدم ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد عن رافع بن خديج فجعله في مسند رافع وتقدم قريبا وللحاكم وصحح إسناده من حديث شداد بن أوس كنا نعد عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن الرياء الشرك الأصغر
نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّيَاءِ إِلَّا أَنَّهُ يَسْجُدُ وَيَرْكَعُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ فقد قصد غير الله ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياً إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً وَذَلِكَ غَايَةُ الْجَهْلِ وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ خَدَعَهُ الشَّيْطَانُ وَأَوْهَمَ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِبَادَ يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه فإن الْعِبَادَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ لِغَيْرِهِمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ فِي يَوْمٍ لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا بَلْ تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِيهِ نَفْسِي نَفْسِي فَكَيْفَ يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله مَا يَرْتَقِبُهُ بِطَمَعِهِ الْكَاذِبِ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّاسِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَشُكَّ فِي أَنَّ المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص
وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت إنه لا أجر له فيه أصلاً
بيان درجات الرياء
اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه وأركانه ثلاثة المراءى به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء
الركن الأول نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب وإما أن يكون مع إرادة الثواب فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً
الأولى وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عند الله تعالى
وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو ولا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء
الثانية أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل فهذا قريب مما قبله(3/301)
وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم
الثالثة أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص
الرابعة أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح
الركن الثاني المراءى به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها
القسم الأول وهو الأغلظ الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات
الأولى الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وَصَاحِبُهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} الآية وقال تعالى {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} وقال تعالى {يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك} والآيات فيهم كثيرة
وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض وذلك مما يقل في زماننا ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطناً فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلاً إلى قول الملحدة أو يعتقد على بِسَاطِ الشَّرْعِ وَالْأَحْكَامِ مَيْلًا إِلَى أَهْلِ الْإِبَاحَةِ أو يعتقد كفراً أو بدعة وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار وليس وراء هذا الرياء رياء وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر
الثانية الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير
ومثاله أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يده لما أخرجها أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهى خلوة من الخلق ليفطر وكذلك يحضر الجمعة وَلَوْلَا خَوْفُ الْمَذَمَّةِ لَكَانَ لَا يَحْضُرُهَا أَوْ يَصِلُ رَحِمَهُ أَوْ يَبَرُّ وَالِدَيْهِ لَا عَنْ رغبة ولكن خوفاً من الناس أو يغزو أو يحج كذلك
فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق وخوفه مِنْ مَذَمَّةِ النَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ خَوْفِهِ مِنْ عقاب الله ورغبته في محمدتهم أشد مرغبته في ثواب اللَّهِ وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ وَمَا أَجْدَرَ صَاحِبَهُ بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد(3/302)
الثالثة أن لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصى ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب ثم يبعثه الرياء على فعلها وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس
فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفاً من المذمة أو طلبا للمحمدة ويعلم الله تعالى منه أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَمَا زَادَ عَلَى أداء الفرائض
فهذا أيضاً عظيم ولكنه دون ما قبله فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق
وهذا أيضاً قد فعل ذلك واتقى ذم الخلق دون ذم الخالق فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقاباً على ترك النافلة لو تركها وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه
فهذا هو الرياء بأصول العبادات
القسم الثاني الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها وهو أيضاً على ثلاثة درجات
الأولى أن يُرَائِي بِفِعْلِ مَا فِي تَرْكِهِ نُقْصَانُ الْعِبَادَةِ كَالَّذِي غَرَضُهُ أَنْ يُخَفِّفَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَلَا يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ أَحْسَنَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَتَرَكَ الِالْتِفَاتَ وَتَمَّمَ الْقُعُودَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن جلس بين يدي إنسان متربعاً أو متكئاً فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديماً للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة
وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَادُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنَ الدَّنَانِيرِ الرَّدِيئَةِ أَوْ مِنَ الْحَبِّ الرَّدِيءِ فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَخْرَجَهَا مِنَ الْجَيِّدِ خَوْفًا مِنْ مَذَمَّتِهِ وَكَذَلِكَ الصَّائِمُ يَصُونُ صَوْمَهُ عَنِ الْغِيبَةِ وَالرَّفَثِ لِأَجْلِ الْخَلْقِ لَا إِكْمَالًا لِعِبَادَةِ الصَّوْمِ خَوْفًا مِنَ الْمَذَمَّةِ فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الرِّيَاءِ الْمَحْظُورِ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا لِلْمَخْلُوقِينَ عَلَى الْخَالِقِ ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات
فَإِنْ قَالَ الْمُرَائِي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ صِيَانَةً لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية فَيُقَالُ لَهُ هَذِهِ مَكِيدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عِنْدَكَ وَتَلْبِيسٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ ضَرَرَكَ مِنْ نُقْصَانِ صَلَاتِكَ وَهِيَ خِدْمَةٌ مِنْكَ لِمَوْلَاكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِكَ بِغِيبَةِ غَيْرِكَ فَلَوْ كَانَ بَاعِثُكَ الدِّينَ لكان شفقتك على نفسك أكثر وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلاً وولاية يتقلدها فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده وإذا كان عنده بعض غلمانه امتنع خوفاً من مذمة غلمانه وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر
نعم للمرائي فيه حالتان
إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعاً
والثانية أن يقول ليس يحضرني في الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم فأستقيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو عليه ثواباً فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر
والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق
الدرجة الثانية أن يرائي بفعل مالا نُقْصَانَ فِي تَرْكِهِ وَلَكِنَّ فِعْلَهُ فِي حُكْمِ التَّكْمِلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِعِبَادَتِهِ كَالتَّطْوِيلِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَدِّ الْقِيَامِ وَتَحْسِينِ الْهَيْئَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَتَحْسِينِ الِاعْتِدَالِ(3/303)
والزيادة في القراءة على السور الْمُعْتَادَةِ وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْخَلْوَةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وطول الصمت وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة
وكل ذلك مِمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يُقْدِمُ عليه
الثالثة أن يُرَائِي بِزِيَادَاتٍ خَارِجَةٍ عَنْ نَفْسِ النَّوَافِلِ أَيْضًا كَحُضُورِهِ الْجَمَاعَةَ قَبْلَ الْقَوْمِ وَقَصْدِهِ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ وَتَوَجُّهِهِ إِلَى يَمِينِ الْإِمَامِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ
وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يُبَالِي أَيْنَ وَقَفَ وَمَتَى يُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ فَهَذِهِ دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ بالإضافة إلى ما يرائي بِهِ وَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ
وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ
الركن الثالث المرائي لأجله فإن لِلْمُرَائِي مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يُرَائِي لِإِدْرَاكِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ لا محالة وله أيضاً ثلاث درجات
الأولى وهي أشدها وأعظمها أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّمَكُّنَ مِنْ مَعْصِيَةٍ كَالَّذِي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصدة الفاسدة في المعاصي
وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور وقد يحظرون مجالس العلم والتذكيروحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام
وهؤلاء أَبْغَضُ الْمُرَائِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته واتخذوها آلة ومتجراً وبضاعة لهم في فسقهم ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى
الثانية أن يكون غرضه نيل حظ مباح مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ أَوْ نِكَاحِ امرأة جميلة أو شريفة كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته
فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْظُورٌ لِأَنَّهُ طَلَبَ بِطَاعَةِ اللَّهِ متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول فإنه المطلوب بهذا مباح في نفسه
الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَقْصِدَ نَيْلَ حَظٍّ وَإِدْرَاكَ مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ وَلَا يُعَدَّ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالزُّهَّادِ وَيُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَامَّةِ كَالَّذِي يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيُحْسِنُ الْمَشْيَ وَيَتْرُكُ الْعَجَلَةَ كَيْلَا يُقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالسَّهْوِ لَا من أهل الوقار وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا مِنْهُ الْمِزَاحُ فَيَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَيُتْبِعَ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ وَإِظْهَارِ الْحُزْنِ وَيَقُولُ مَا أَعْظَمَ غَفْلَةَ الْآدَمِيِّ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ لَمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ لَا بِعَيْنِ التَّوْقِيرِ وَكَالَّذِي يَرَى جَمَاعَةً يُصَلُّونَ التراويح أو يتهجدون أَوْ يَصُومُونَ الْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ أَوْ يَتَصَدَّقُونَ فَيُوَافِقُهُمْ خِيفَةَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْكَسَلِ وَيَلْحَقَ بِالْعَوَامِّ وَلَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ(3/304)
لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَكَالَّذِي يَعْطَشُ يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فَلَا يَشْرَبُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أنه غير صائم فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله أَوْ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَمْتَنِعُ لِيُظَنَّ أَنَّهُ صائم وقد لا يصرح بأني صَائِمٌ وَلَكِنْ يَقُولُ لِي عُذْرٌ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ خَبِيثَيْنِ فَإِنَّهُ يُرِي أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ يُرِي أَنَّهُ مُخْلِصٌ لَيْسَ بِمُرَاءٍ وَأَنَّهُ يَحْتَرِزُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ عِبَادَتَهُ لِلنَّاسِ فَيَكُونَ مُرَائِيًا فَيُرِيدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ سَاتِرٌ لِعِبَادَتِهِ ثُمَّ إِنِ اضْطُرَّ إِلَى شُرْبٍ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ أَنْ يَذْكُرَ لِنَفْسِهِ فِيهِ عُذْرًا تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا بِأَنْ يَتَعَلَّلَ بِمَرَضٍ يَقْتَضِي فَرْطَ الْعَطَشِ وَيَمْنَعُ مِنَ الصَّوْمِ أَوْ يَقُولُ أَفْطَرْتُ تَطْيِيبًا لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا مثل أن يقول إن فلاناً مُحِبٌّ لِلْإِخْوَانِ شَدِيدُ الرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَعَامِهِ وَقَدْ أَلَحَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ تَطْيِيبِ قَلْبِهِ
وَمِثْلَ أن يقول إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أَصُومُ فَهَذَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ آفَاتِ الرياء فلا يسبق إلى اللسان إِلَّا لِرُسُوخِ عِرْقِ الرِّيَاءِ فِي الْبَاطِنِ
أَمَّا الْمُخْلِصُ فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي كَيْفَ نَظَرَ الْخَلْقُ إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الصوم وقد علم الله ذلك مِنْهُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يَعْتَقِدَ غَيْرُهُ مَا يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ فَيَكُونَ مُلَبِّسًا وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الصَّوْمِ لِلَّهِ قَنَعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُشْرِكْ فِيهِ غَيْرَهُ وَقَدْ يَخْطُرُ لَهُ أَنَّ فِي إِظْهَارِهِ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِ بِهِ وَتَحْرِيكَ رَغْبَةِ النَّاسِ فِيهِ وَفِيهِ مَكِيدَةٌ وغرور وسيأتي شرح ذلك وشروطه
فَهَذِهِ دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ وَمَرَاتِبُ أَصْنَافِ الْمُرَائِينَ وَجَمِيعُهُمْ تحت مقت الله وغضبه وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم
بَيَانُ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ الَّذِي هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ
اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ فَالْجَلِيُّ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ وَلَوْ قَصَدَ الثَّوَابَ وَهُوَ أَجْلَاهُ وَأَخْفَى مِنْهُ قَلِيلًا هُوَ مَا لَا يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفُ الْعَمَلَ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ كَالَّذِي يَعْتَادُ التَّهَجُّدَ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَزَلَ عِنْدَهُ ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ وَلَا بِالتَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ مَعَ ذلك مستبطن في القلب ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يمكن أن يعرف إلا بالعلامات وَأَجْلَى عَلَامَاتِهِ أَنْ يُسَرَّ بِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى طَاعَتِهِ فَرُبَّ عَبْدٍ يُخْلِصُ فِي عَمَلِهِ وَلَا يَعْتَقِدُ الرِّيَاءَ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيَرُدُّهُ وَيُتَمِّمُ الْعَمَلَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ سَرَّهُ ذَلِكَ وَارْتَاحَ لَهُ وَرَوَّحَ ذَلِكَ عَنْ قَلْبِهِ شِدَّةَ الْعِبَادَةِ وَهَذَا السُّرُورُ يَدُلُّ عَلَى رِيَاءٍ خَفِيٍّ مِنْهُ يُرَشِّحُ السُّرُورَ وَلَوْلَا الْتِفَاتُ الْقَلْبِ إلى الناس لما ظَهَرَ سُرُورُهُ عِنْدَ اطِّلَاعِ النَّاسِ فَلَقَدْ كَانَ الرِّيَاءُ مُسْتَكِنًّا فِي الْقَلْبِ اسْتِكْنَانَ النَّارِ فِي الحجر فأظهر عنه اطِّلَاعُ الْخَلْقِ أَثَرَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ ثُمَّ إِذَا اسْتَشْعَرَ لَذَّةَ السُّرُورِ بِالِاطِّلَاعِ وَلَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ بِكَرَاهِيَةٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ قُوتًا وَغِذَاءً لِلْعِرْقِ الْخَفِيِّ من الرِّيَاءِ حَتَّى يَتَحَرَّكَ عَلَى نَفْسِهِ حَرَكَةً خَفِيَّةً فَيَتَقَاضَى تَقَاضِيًا خَفِيًّا أَنْ يَتَكَلَّفَ سَبَبًا يُطَّلَعُ عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَفِيَ بِحَيْثُ لَا يُرِيدُ الِاطِّلَاعَ وَلَا يُسَرُّ بِظُهُورِ طَاعَتِهِ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى النَّاسَ أَحَبَّ أَنْ يبدءوه بالسلام وأن يُقَابِلُوهُ بِالْبَشَاشَةِ وَالتَّوْقِيرِ وَأَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ(3/305)
وَأَنْ يَنْشَطُوا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَأَنْ يُسَامِحُوهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَكَانِ فَإِنْ قَصَّرَ فِيهِ مُقَصِّرٌ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ وَوَجَدَ لِذَلِكَ اسْتِبْعَادًا فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهُ يَتَقَاضَى الِاحْتِرَامَ مَعَ الطَّاعَةِ الَّتِي أَخْفَاهَا مع أنه لم يطلع عليه ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه وَمَهْمَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْعِبَادَةِ كَعَدَمِهَا فِي كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يَكُنْ خَالِيًا عَنْ شَوْبٍ خَفِيٍّ مِنَ الرِّيَاءِ أخفى من دبيب النمل // حديث في الرياء شوائب أخفى من دبيب النمل أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق وضعفه هو والدارقطني
وَكُلُّ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يُحْبِطَ الْأَجْرَ وَلَا يسلم منه إلا الصديقون
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج
وفي الحديث لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم وقال عبد الله بن المبارك
روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلاً من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه وإن سأل حاجة أحب أن تقضى له لمكان دينه وإن اشترى شيئا أحب أن يرخص عليه لمكان دينه فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس فقال السائح ما هذا قيل هذا الملك قد أظللك فقال للغلام ائتي بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً فقال الملك أين صاحبكم فقالوا هذا قال كيف أنت قال كالناس وفي حديث آخر بخير فقال الملك ما عند هذا من خير فانصرف عنه فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام فلم يَزَلِ الْمُخْلِصُونَ خَائِفِينَ مِنَ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ يَجْتَهِدُونَ لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إِخْفَائِهَا أَعْظَمَ مِمَّا يَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى إِخْفَاءِ فَوَاحِشِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ تَخْلُصَ أَعْمَالُهُمُ الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلق إِذْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي الْقِيَامَةِ إِلَّا الْخَالِصَ وَعَلِمُوا شِدَّةَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ وَلَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ ولده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد
نفسي نفسي فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والبهرج والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجي إلى الخالص من النقد فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى
فَإِذَنْ شَوَائِبُ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ وَمَهْمَا أَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عِبَادَتِهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فَفِيهِ شعبة من الرياء فإنه لما قطع طعمه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم وعلم أن العقلاء لا يقدرون له عَلَى رِزْقٍ وَلَا أَجَلٍ وَلَا زِيَادَةِ ثَوَابٍ ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفضيل
فَإِنْ قُلْتَ فَمَا نَرَى أَحَدًا يَنْفَكُّ عَنِ السُّرُورِ إِذَا عُرِفَتْ طَاعَاتُهُ فَالسُّرُورُ مَذْمُومٌ كُلُّهُ أو بعضه محمود وبعضه مذموم فنقول
أولاً كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم
فأما المحمود فأربعة أقسام
الأول أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إِخْفَاءَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَلَكِنْ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ(3/306)
الْخَلْقُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى حُسْنِ صُنْعِ الله به ونظره إليه وإلطافه به فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة ولا لُطْفَ أَعْظَمُ مِنْ سَتْرِ الْقَبِيحِ وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ نَظَرِ اللَّهِ لَهُ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فليفرحوا} فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به
الثاني أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة (1) حديث قال لرجل قال صمت الدهر قال ما صمت ولا أفطرت أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة قال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر قال لا صام ولا أفطر وللطبراني من حديث أسماء بنت يزيد في أثناء حديث فيه فقال رجل إني صائم قال بعض القوم إنه لا يفطر إنه يصوم كل يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم لا صام ولا أفطر من صام الأبد ولم أجده بلفظ الخطاب
فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر
وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ابن مسعود استدلالاً على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه التحدث به إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلاً لثواب العمل بل الأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها
_________
(1) حديث ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل وهذا التفات إلى المستقبل
الثالث أَنْ يَظُنَّ رَغْبَةَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الطَّاعَةِ فَيَتَضَاعَفُ بِذَلِكَ أَجْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أجر العلانية بما أظهر آخراً وَأَجْرُ السِّرِّ بِمَا قَصَدَهُ أَوَّلًا وَمَنِ اقْتُدِيَ بِهِ فِي طَاعَةٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَعْمَالِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ سبب السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة
الرابع أَنْ يَحْمَدَهُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ فَيَفْرَحُ بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ فِي مَدْحِهِمْ وَبِحُبِّهِمْ لِلْمُطِيعِ وَبِمَيْلِ قُلُوبِهِمْ إلى الطاعة إذاً من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه فَهَذَا فَرِحٌ بِحُسْنِ إِيمَانِ عِبَادِ اللَّهِ
وَعَلَامَةُ الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهم إياه
وأما المذموم وهو الخامس فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى يَمْدَحُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَقُومُوا بِقَضَاءِ حوائجة ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه والله تعالى أعلم
بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط
فنقول فيه إِذَا عَقَدَ الْعَبْدُ الْعِبَادَةَ عَلَى الْإِخْلَاصِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدُ الرِّيَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَلِ أَوْ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَ الْفَرَاغِ سُرُورٌ مُجَرَّدٌ بِالظُّهُورِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ فَهَذَا لَا يُفْسِدُ الْعَمَلَ إِذِ الْعَمَلُ قَدْ تَمَّ على نعت الإخلاص سالماً عن الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره بإظهار الله ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه
نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به فهذا مخوف
وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلا يقول قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظه منها
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له صمت الدهر يا رسول الله
فقال له ما صمت ولا أفطرت(3/307)
بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاة ويحبط العمل
وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ وَارِدُ الرِّيَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ من الصلاة مثلاً وكان قد عقد على الإخلاص ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل وإما ان يكون رياء باعثاً على العمل فإن كان بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ وَخَتَمَ الْعِبَادَةَ بِهِ حَبِطَ أجره
ومثاله أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليه أو يذكر شيئاً نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه ولولا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفاً من مذمة الناس فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال صلى الله عليه وسلم العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله (1) حديث من راءى بعمله ساعة حبط عمله الذي كان قبله لم أجده بهذا اللفظ وللشيخين من حديث جندب من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به ورواه مسلم من حديث ابن عباس
وهذا منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من ذلك مفرد فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي والصوم والحج من قبيل الصلاة
وأما إذا كان وراد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الإتمام لأجل الثواب كما لو حضر جماعة في أثناء الصلاة ففرح بحضورهم وعقد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضاً فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثاً على الحركات فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة مغموراً فهذا أيضاً ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها ويغمرها ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظراً إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه
ولقد ذهب الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس يعني سروراً هو كحب المنزلة والجاه قال قد اختلف الناس في هذا فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزم الأول وركن إلى حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته ثم قال ولا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلاف الناس والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء ثم قال فإن قيل قد قال الحسن رحمه الله تعالى إنهما حالتان فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية
وقد روي أن رجلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني قال لك أجران أجر السر وأجر العلانية // حديث أن رجلا قال أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني فقال لك أجران الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من رواية ذكوان عن ابن مسعود ورواه الترمذي وابن حبان من رواية ذكوان عن أبي هريرة الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه قال له أجر السر والعلانية قال الترمذي غريب وقال إنه روي عن أبي صالح وهو ذكر أنه مرسل
ثم تكلم على الخبر والأثر فقال أما الحسن فإنه أراد بقوله لا يضره أي لا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه
أحدها أنه يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنه قبل الفراغ
الثاني أنه أراد أن يسر به للاقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبل لا سروراً بسبب حب المحمدة والمنزلة بدليل أنه جعل له به أجراً ولا ذاهب من الأمة إلى أن للسرور بالمحمدة أجراً وغايته أن يعفى عنه فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران
والثالث أنه قال أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم يوقفه على أبي صالح ومنهم من يرفعه فالحكم
_________
(1) حديث العمل كالوعاء إذا طاب آخره طالب أوله أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ إذا طاب أسفله طاب أعلاه وقد تقدم
أي النظر إلى خاتمته
وروي أنه من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله(3/308)
بالعمومات الواردة في الرياء أولى
هذا ما ذكره ولم يقطع به بل أظهر ميلاً إلى الإحباط
والأقيس عندنا أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادراً عن باعث الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لأنه لم ينعدم به أصل نيته وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام
وأما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق وأما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساوياً لقصد الثواب أو أغلب منه أما إذا كان ضعيفاً بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال ولا ينبغي أن يفسد الصلاة ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لِوَجْهِ اللَّهِ وَالْخَالِصُ مَا لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ والعلم عند الله فيه
وقد ذكرنا في كتاب الإخلاص كلاماً أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه فهذا حكم الرياء الطارئ بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعد الفراغ
القسم الثالث الذي يقارن حال العقد بأن يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ عَلَى قَصْدِ الرِّيَاءِ فَإِنِ اسْتَمَرَّ عليه سَلَّمَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَقْضِي وَلَا يُعْتَدُّ بِصَلَاتِهِ وَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ ذلك واستغفر ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه
قالت فرقة لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف
وقالت فرقة تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجود وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة لأن التحريم عقد والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقداً
وقالت فرقة لا يلزم إعادة شيء بل يستغفر الله بقلبه ويتم العبادة على الإخلاص والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عمله
وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل فقالوا إن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافراً ولكن اقترن به عارض الرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاته
ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جداً خصوصاً من قال يلزمه إعادة الركوع والسجود دون الافتتاح لأن الركوع والسجود إن لم يصح صارت أفعالاً زائدة في الصلاة فتفسد الصلاة
وكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صح نظراً إلى الآخر فهو أيضاً ضعيف لأن الرياء يقدح في النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل ولما رأى الناس تحرم بالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجساً أيضاً كان يصلي لأجل الناس فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين وههنا لا باعث ولا إجابة
فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضاً لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضاً فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم أو في عقد صلاة وحج فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث الثواب {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره} فله ثواب بقدر قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر
وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلو إما أن تكون فرضاً أو نفلاً فإن كانت نفلاً فحكمها أيضاً حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع من وجه إذ اجتمع في قلبه الباعثان ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتى إن من صلى(3/309)
التراويح وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة ولولا اجتماع الناس خلفه وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جداً بل يظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضاً بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداء به وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه لأن الإيجاب لم ينتهض باعثاً في حقه بمجرده واستقلاله وإن كان كل باعث مستقلاً حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدى الفرائض ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعاً لأجل الرياء فهذا محل النظر وهو محتمل جداً فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم يؤد الواجب الخالص ويحتمل أن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان عاصياً بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلاً دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة ولو خلا لأخر إلى وسط الوقت ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء فهذا مما يقطع بصحة صلاته وسقوط الفرض به لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره بل من حيث تعيين الوقت فهذا أبعد من القدح في النية هذا في رياء يكون باعثاً على العمل وحاملاً عليه وأما مجرد السرور باطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة
فهذا ما نراه لائقاً بقانون الفقه والمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد العبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه والعلم عند الله عز وجل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم
بَيَانُ دَوَاءِ الرِّيَاءِ وَطَرِيقِ مُعَالَجَةِ الْقَلْبِ فِيهِ
قد عَرَفْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الرِّيَاءَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ وَسَبَبٌ لِلْمَقْتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مِنْ كَبَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ وَمَا هَذَا وَصْفُهُ فَجَدِيرٌ بِالتَّشْمِيرِ عن ساق الجد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق كثير الطمع فيهم فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه وإنما يشعر بكونه مهلكاً بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات
فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة ولكنها تشق أولاً وتخف آخراً وَفِي عِلَاجِهِ مَقَامَانِ
أَحَدُهُمَا قَلْعُ عُرُوقِهِ وَأُصُولِهِ الَّتِي مِنْهَا انْشِعَابُهُ
وَالثَّانِي دَفْعُ مَا يَخْطُرُ مِنْهُ فِي الْحَالِ
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي قَلْعِ عروقه واستئصال أصوله وأصله حب المنزلة والجاه
وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لَذَّةِ الْمَحْمَدَةِ وَالْفِرَارُ مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ وَالطَّمَعُ فيما في أيدي الناس
ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبو موسى أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل // حديث أبي موسى أن أعرابياً قال يا رسول الله الرجل يقاتل حمية الحديث متفق عليه
حمية ومعناه أنه يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب وقال والرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر(3/310)
في القلوب والرجل يقاتل للذكر وهذا هو الحمد باللسان فقال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقال ابن مسعود إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم فلان يقاتل للذكر وفلان يقاتل للملك والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا
وقال عمر رضي الله عنه يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً
وقال صلى الله عليه وسلم من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى // حديث من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى أخرجه النسائي وقد تقدم
فهذا إشارة إلى الطمع
وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل بين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل وهو ليس يطمع في الحمد وقد سبقه غيره وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفاً من الذم وهو لا يطمع في الحمد وقد هجم غيره على صف القتال
ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد
وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم ولذلك قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل ويفتى بغير علم ويدعى العلم بالحديث وهو به جاهل كل ذلك حذراً من الذم
فهذه الأمور الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ الْمُرَائِيَ إِلَى الرِّيَاءِ وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة
ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ إما في الحال وإما في المآل فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عَلَيْهِ قَطْعُ الرَّغْبَةِ عَنْهُ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَسَلَ لَذِيذٌ وَلَكِنْ إِذَا بَانَ لَهُ أَنَّ فيه سماً أعرض عنه فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة
ومهما عرف العبد مَضَرَّةَ الرِّيَاءِ وَمَا يَفُوتُهُ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ وَمَا يَحْرُمُ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِنَ التَّوْفِيقِ وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر
حيث ينادي على رؤوس الخلائق يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله وتزينت لهم بالشين عند الله وتقربت إليهم بالبعد من الله وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أما كان أحد أهون عليك من الله فَمَهْمَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِي هَذَا الْخِزْيِ وَقَابَلَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ وَالتَّزَيُّنِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُفَوِّتُهُ فِي الْآخِرَةِ وَبِمَا يحبط من ثواب الأعمال مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به ويهوي إلى النار فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين وقد حط عنهم بسبب الرياء رد إلى صف النعال من مراتب الأولياء هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط بعضهم ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه ثُمَّ أَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي مَدْحِهِمْ وَإِيثَارِ ذَمِّ اللَّهِ لِأَجْلِ حَمْدِهِمْ وَلَا يَزِيدُهُ حَمْدُهُمْ رِزْقًا وَلَا أَجَلًا وَلَا يَنْفَعُهُ يَوْمَ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا الطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ فَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسَخِّرُ لِلْقُلُوبِ بِالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ وَأَنَّ الْخَلْقَ مُضْطَرُّونَ فِيهِ وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ طَمِعَ فِي الْخَلْقِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الذُّلِّ وَالْخَيْبَةِ وَإِنْ وَصَلَ إِلَى الْمُرَادِ لَمْ يَخْلُ عَنِ الْمِنَّةِ وَالْمَهَانَةِ فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا عِنْدَ الله برجاء(3/311)
كاذب ووهم فاسد قد يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ وَإِذَا أَصَابَ فَلَا تَفِي لذته بألم منثه وَمَذَلَّتِهِ وَأَمَّا ذَمُّهُمْ فَلَمْ يَحْذَرْ مِنْهُ وَلَا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه عليه الله وَلَا يُعَجِّلُ أَجَلَهُ وَلَا يُؤَخِّرُ رِزْقَهُ وَلَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا يُبَغِّضُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ كان محموداً عند الله ولا يزيده مقتاً إن كان ممقوتاً عِنْدَ اللَّهِ فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَجَزَةٌ لَا يَمْلِكُونَ لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتا ولا حياتا ولا نشورا
فَإِذَا قُرِّرَ فِي قَلْبِهِ آفَةُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَضَرَرُهَا فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ قَلْبُهُ فإن العاقل لَا يَرْغَبُ فِيمَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ وَيَقِلُّ نَفْعُهُ ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم كما قال شاعر بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبت ذاك الله الذي لا إله إلا هو // حديث قال شاعر من بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال كذبت ذاك الله أخرجه أحمد من حديث الأقرع بن حابس وهو قائل ذلك دون قوله كذبت ورجاله ثقات إلا أني لا أعرف لأبي سلمة بن عبد الرحمن سماعا من الأقرع ورواه الترمذي من حديث البراء وحسنه بلفظ فقال رجل إن حمدي
إذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه فأي خير لك في مدح الناس
وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق وانعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة وسقط محل الخلق من قلبه وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص
فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الْأَدْوِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْقَالِعَةِ مَغَارِسَ الرِّيَاءِ
وَأَمَّا الدَّوَاءُ الْعَمَلِيُّ فَهُوَ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ إِخْفَاءَ الْعِبَادَاتِ وَإِغْلَاقَ الْأَبْوَابِ دُونَهَا كَمَا تُغْلَقُ الْأَبْوَابُ دُونَ الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا تنازعنه النفس إلى طلب علم غير الله به
وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه لا تجالسنا بعد هذا
فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء للرياء مثل الإخفاء وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب والله لا يضيع أجر المحسنين وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً
المقام الثاني في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضاً فإن من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات بل يعارضه بخطرات الرياء ولا تنقطع عنه نزعاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء
وخواطر الرياء ثلاثة قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج فالأول العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم
ثم يتلوه هيجان الرغبة(3/312)
من النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم
ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه
فالأول معرفة
والثاني حالة تسمى الشهوة والرغبة
والثالث فعل يسمى العزم وتصميم العقد
وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال مالك وَلِلْخَلْقِ عَلِمُوا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِحَالِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ فَإِنْ هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر مَا رَسَخَ فِي قَلْبِهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم والشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما
فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور
المعرفة والكراهة والإباء
وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطوياً عليها وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ قلبه غيظاً يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب
وإليه أشار جابر بقوله بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين // حديث جابر بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الشجرة على أن لا نفر الحديث أخرجه مسلم مختصرا دون ذكر يوم حنين فرواه مسلم من حديث العباس
حتى نودي يا أصحاب الشجرة فرجعوا
وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا وأكثر الشهوات التي تهجم فجأة هكذا تكون إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان
ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة
وقد يتذكر الإنسان فيعلم أن الخاطر الذي خطر له هو خاطر الرياء الذي يعرضه لسخط الله ولكن يستمر عليه لشدة شهوته فيغلب هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة فكم من عالم يحضره كلام لا يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه أوكد إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموماً عند الله ولا تنفعه معرفته إذا خلت المعرفة عن الكراهة
وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة بالإضافة إلى قوة الشهوة وهذا أيضاً لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف عن الفعل
فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث وهي المعرفة والكراهة والإباء
فالإباء ثمرة الكراهة والكراهة ثمرة المعرفة وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة وبعض ذلك ينتج بعضاً ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب والسنة وأنوار العلوم(3/313)
فإن قلت فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثمارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف به
ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شكوا إليه وقالوا تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال صلى الله عليه وسلم أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان (1) حديث ابن عباس الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة بلفظ كيده
وقال أبو حازم ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه
فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصاناً في منزلته عند الله
والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب
الأولى أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك
الثانية أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته
الثالثة أن لا يشتغل بتكذيبه أيضاً لأن ذلك وقفة وإن قلت بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحباً للكراهة غير مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة
الرابعة أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء فيكون قد عزم على أنه مهما نزع الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظاً للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع
يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له إن فلاناً يذكرك فقال والله لأغيظن من أمره قيل ومن أمره قال الشيطان اللهم اغفر له
أي لأغيظنه بأن
_________
(1) حديث شكوى الصحابة ما يعرض في قلوبهم وقوله ذلك صريح الإيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود مختصرا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال ذلك محض الإيمان والنسائي في اليوم الليلة وابن حبان في صحيحه ورواه النسائي فيه من حديث عائشة
ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء وإن كان عظيماً فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه قال الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة(3/314)
أطع الله فيه
ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته
وقال إبراهيم التيمي إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيراً فإذا رآه كذلك تركه وقال أيضاً إذا رآك الشيطان متردداً طمع فيك وإذا رآك مداوماً ملك وقلاك
وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالاً أحسن فيه فقال مثالهم كأربعة قصدوا مجلساً من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلاً وهداية ورشداً فحسدهم على ذلك ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره
فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتغل بالقتال واستعجل ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه
ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله بل استمر على ما كان فخال منه رجاؤه بالكلية
فمر الرابع فلم يتوقف له وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله
فإن قلت فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظاراً لوروده أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه قلنا اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا فصارت ملاذ الدنيا عندهم وإن كانت مباحة كالخمر والخنزير فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر
وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ونقص توكله فمن أيقن بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع والعارف يستحي منه أن يحذر غيره فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر
وقالت فرقة من أهل العلم لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان يكاد يكون غروراً إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله تعالى وأسمائه وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي (1) حديث إن شيطانه أسلم فلا يأمر إلا بخير تقدم أيضا
فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ومع أنه لم ينه إلى عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن من نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار
_________
(1) ي حديث إنه ليغان على قلبي تقدم
مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير(3/315)
والدنيا وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه تعالى هذا من عمل الشيطان ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وقال عز وجل إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف يدع الأمن منه وأخذ الحذر من حيث أمر الله به لا ينافي الاشتغال بحب الله فإن من الحب له امتثال أمره وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وقال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى
ولذلك قال ابن محيريز صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك
فأشار إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم فليس من الاشتغال بالله الأعراض عما حذر الله
وبه يبطل مذهب الفرقة الثانية في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في التوكل
وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم
إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا
وقال قوم إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى
وقال العلماء المحققون غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره اغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له(3/316)
وعند التنبه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر مع أنه بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه ومثل هذا القلب هو الذي يقوي على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحذر ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله ودفعوا بالذكر شر العدو واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو
فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جارياً إليها من جانب آخر فيطول تعبه ولا تجف البئر من الماء القذر والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سداً وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة تعب
بَيَانُ الرُّخْصَةِ فِي قَصْدِ إِظْهَارِ الطَّاعَاتِ
اعْلَمْ أن في الأسرار للأعمال فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ وَالنَّجَاةَ مِنَ الرِّيَاءِ وَفِي الْإِظْهَارِ فائدة والإقتداء وَتَرْغِيبَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَلَكِنْ فِيهِ آفَةُ الرياء قال الحسن قد علم المسلمون إِنَّ السِّرَّ أَحْرَزُ الْعَمَلَيْنِ وَلَكِنْ فِي الْإِظْهَارِ أَيْضًا فَائِدَةٌ وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَقَالَ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكم
وَالْإِظْهَارُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْعَمَلِ وَالْآخَرُ التحدث بِمَا عَمِلَ
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِظْهَارُ نَفْسِ الْعَمَلِ كَالصَّدَقَةِ فِي الْمَلَأِ لِتَرْغِيبِ النَّاسِ فِيهَا كَمَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَاءَ بِالصُّرَّةِ فَتَتَابَعَ النَّاسُ بِالْعَطِيَّةِ لَمَّا رَأَوْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فَعَمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنِ اتبعه // حديث من سن سنة حسنة فَعَمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنِ اتبعه وفي أوله قصة مسلم من حديث جرير بن عبد الله البيهقي
وَتَجْرِي سَائِرُ الْأَعْمَالِ هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الصَّلَاةِ والصيام والحج والغزو وغيرها وَلَكِنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الطِّبَاعِ أَغْلَبُ
نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضاً لهم على الحركة فذلك أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره فالمبادرة إليه ليست من الإعلان بل هو تحريض مجرد وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه جيرانه وأهله فيقتدى به
فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء وأما ما يمكن إسراره كالصدقة والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل لأن الإيذاء حرام
فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم السر أفضل من العلانية وإن كان في العلانية قدوة وقال قوم السر أَفْضَلُ مِنْ عَلَانِيَةٍ لَا قُدْوَةَ فِيهَا أَمَّا الْعَلَانِيَةُ لِلْقُدْوَةِ فَأَفْضَلُ مِنَ السِّرِّ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب النبوة ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم فله أجرها وأجر من عمل بها وقد روي في الحديث(3/317)
إن عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفاً ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله على عمل السر سبعين ضعفا // حديث إن عمل السر يضاعف على عمل العلانية بسبعين ضعفاً ويضاعف عمل العلانية إذا استن به على عمل السر سبعين ضعفا أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء مقتصرا على الشطر الأول بنحوه وقال هذا من أفراد بقية عن شيوخه المجهولين وقد تقدم قبل هذا بنحو ورقتين وله من حديث ابن عمر عمل السر أفضل من عمل العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء وقال تفرد به بقية عن عبد الملك بن مهران وله من حديث عائشة يفضل أو يضاعف الذكرالخفي الذي لا يسمعه الحفظة على الذي تسمعه بسبعين ضعفا وقال تفرد به معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف
وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة وإنما يخاف من ظهور الرياء ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به فلا خلاف في أن السر أفضل منه
وَلَكِنْ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْعَمَلَ وَظِيفَتَانِ
إِحْدَاهُمَا أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدي به أو يظن ذلك ظَنًّا وَرُبَّ رَجُلٍ يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُهُ دُونَ جِيرَانِهِ وَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ جِيرَانُهُ دُونَ أَهْلِ السُّوقِ وَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ وَإِنَّمَا الْعَالِمُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ كَافَّةً
فَغَيْرُ الْعَالِمِ إِذَا أَظْهَرَ بَعْضَ الطَّاعَاتِ رُبَّمَا نُسِبَ إِلَى الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَذَمُّوهُ وَلَمْ يَقْتَدُوا بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِظْهَارُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِظْهَارُ بِنِيَّةِ الْقُدْوَةِ مِمَّنْ هُوَ فِي مَحَلِّ الْقُدْوَةِ عَلَى مَنْ هُوَ في محل الاقتداء به
والثانية أَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ حب الرياء الخفي فيدعوه الْإِظْهَارِ بِعُذْرِ الِاقْتِدَاءِ وَإِنَّمَا شَهْوَتُهُ التَّجَمُّلُ بِالْعَمَلِ وبكونه يقتدي به وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم
فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله لا بل عذابه دائم مدة مديدة وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن لذلك غامض ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف العمل حتى يقتدي الناس بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به ورغبتهم في الخير فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع إسراره فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم فَلْيَحْذَرِ الْعَبْدُ خِدْعَ النَّفْسِ فَإِنَّ النَّفْسَ خَدُوعٌ وَالشَّيْطَانَ مُتَرَصِّدٌ وَحُبَّ الْجَاهِ عَلَى الْقَلْبِ غَالِبٌ وَقَلَّمَا تَسْلَمُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ عَنِ الْآفَاتِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا وَالسَّلَامَةُ فِي الْإِخْفَاءِ وَفِي الْإِظْهَارِ مِنَ الْأَخْطَارِ مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ أَمْثَالُنَا فَالْحَذَرُ مِنَ الْإِظْهَارِ أَوْلَى بِنَا وَبِجَمِيعِ الضُّعَفَاءِ
الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَتَحَدَّثَ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ إِظْهَارِ الْعَمَلِ نَفْسِهِ وَالْخَطَرُ فِي هَذَا أَشُدُّ لِأَنَّ مُؤْنَةَ النُّطْقِ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ وَقَدْ تَجْرِي فِي الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ وَمُبَالَغَةٌ وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ فِي إِظْهَارِ الدَّعَاوَى عَظِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الرِّيَاءُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ الْمَاضِيَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَهْوَنُ وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّ مَنْ قَوِيَ قَلَبُهُ وَتَمَّ إِخْلَاصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنِهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ وَذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرْجُو الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْخَيْرِ بسببه فهو جائز بل هو مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ صَفَتِ النِّيَّةُ وَسَلِمَتْ عَنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ لِأَنَّهُ تَرْغِيبٌ فِي الْخَيْرِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عن جماعة من السلف الأقوياء
قال سعد بن معاذ(3/318)
ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي بغيرها ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولاً قط إلا علمت أنه حق
وقال عمر رضي الله عنه ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي وقال ابن مسعود ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على غيرها
وقال عثمان رضي الله عنه ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) حديث إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم هما حديثان فالأول متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم في العلم والثاني رواه النسائي من حديث أنس بسند صحيح وتقدم أيضا
كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدي به منهم والله تعالى أعلم
بيان الرخصة في كتمان الذنوب وكراهة إطلاع الناس عليها وكراهة ذمهم
له
اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل عليك بعمل العلانية قال يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية قال
ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه
وقال أبو مسلم الخولاني ما عملت عملاً أبالي أن يطلع الناس عليه إلا إتياني أهلي والبول والغائط إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد
ولا يخلو الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني والله مطلع على جميع ذلك فإرادة العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر ذلك ليري الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي
وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه ويصح اغتمامه باطلاع الناس عليه في ثمانية أوجه
الأول أن يفرح بستر الله عليه وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره في القيامة إذ ورد في الخبر أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنباً ستره الله عليه في الآخرة // حديث إن من ستر عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة تقدم قبل هذا بورقة
وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان
_________
(1) حديث عثمان قوله ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي في معجمه بإسناد ضعيف من رواية أنس عنه في أثناء حديث وإن عثمان قال يا رسول الله فذكره بلفظ منذ بايعتك قال هو ذاك يا عثمان
وقال شداد بن أوس
ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها غير هذه وكان قد قال لغلامه ائتنا بالسفرة لنبعث بها حتى ندرك الغداء
وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت لا تبكوا علي فإني ما أحدثت ذنباً منذ أسلمت وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون قضي لي بغيره وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله
فهذا كله إظهار لأحوال شريفة وفيها غاية المراءاة إذا صدرت ممن يرائي بها وفيها غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به
فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء بل إظهار المرائي للعبادة إذا لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي
فكم من مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله وقد روي أنه كان يجتاز الإنسان في سكك البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت فصنف بعضهم كتاباً في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه فكانوا يقولون ليت ذلك الكتاب لم يصنف فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه
وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم(3/319)
الثاني أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب سترها كما قال صلى الله عليه وسلم من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله (1) حديث الحياء خير كله أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم الحياء شعبة من الإيمان (2) حديث الحياء لا يأتي إلا بخير متفق عليه من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحب الحيى الحليم // حديث إن الله يحب الحيي الحليم أخرجه الطبراني من حديث فاطمة وللبزار من حديث أبي هريرة إن الله يحب الغني الحليم المتعفف وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه
فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه
_________
(1) حديث من ارتكب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله أخرجه الحاكم في المستدرك وقد تقدم
فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله
وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي وأثر الصدق فيه أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضاً ويغتم بسببه
الثالث أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى فإن الطبع يتأذى بالذم وينازع العقل ويشغل عن الطاعة وبهذه العلة أيضاً ينبغي أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر
وهذا أيضاً من قوة الإيمان إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان
الرابع أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه فإن الذم مؤلم للقلب كما أن الضرب مؤلم للبدن وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ولا الإنسان به عاص وإنما يعصي إذا جزعت نفسه من ذم الناس ودعته إلى ما لا يجوز حذرا من ذمهم وليس يجب على الإنسان أن لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به
نعم كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق فيستوي عنده ذامه ومادحه لعلمه أن الضار والنافع هو الله وأن العباد كلهم عاجزون وذلك قليل جدا وأكثر الطباع تتألم بالذم لما فيه من الشعور بالنقصان ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل البصيرة في الدين فإنهم شهداء الله وذمهم يدل على ذم الله تعالى وعلى نقصان في الدين فكيف لا يغتم به نعم الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع كأنه يحب أن يحمد بالورع ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله فيكون قد طلب بطاعة الله ثوابا من غيره فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد
وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم فله الستر حذرا من ذلك ويتصور أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ولكن يكره الذم
وإنما مراده أن يتركه الناس حمدا وذما فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم الذم إذ الحمد بطلب اللذة وعدم اللذة لا يؤلم وأما الذم فإنه مؤلم فحب الحمد على الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه إلا أمر واحد وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله فإن ذلك غاية النقصان في الدين بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر
الخامس أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به وهذا من الإيمان وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضا فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع من جهة الطبع
السادس أن يستر ذلك كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه وهذا وراء ألم الذم فإن الذم مؤلم من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته وإن كان ممن يؤمن شره وقد يخاف شر من يطلع على ذنبه بسبب من الأسباب فله أن يستر ذلك حذرا منه
السابع مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم والقصد بالشر وهو خلق كريم يحدث في أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحي من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء خير كله
(2) حديث الحياء شعبة من الإيمان متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم الحياء لا يأتي إلا بخير(3/320)
للناس جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء فهو أشد حالاً ممن يستتر ويستحيي إلا أن الحياء ممتزج بالرياء ومشتبه به اشتباهاً عظيماً قل من يتفطن له ويدعي كل مراء أنه مستحي وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس وذلك كذب بل الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص ويتصور أن يخلص معه ويتصور أن يرائي معه
وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضاً ونفسه لا تسخو بإقراضه إلا أنه يستحي من رده وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحيي ولا يقرض رياء ولا لطلب الثواب فله عند ذلك أحوال أحدها أن يشافه بالرد الصريح ولا يبالي فينسب إلى قلة الحياء وهذا فعل من لا حياء له
فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض
فإن أعطي فيتصور له ثلاثة أحوال
أحدها
أن يمزج الرياء بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد فيهيج خاطر الرياء ويقول ينبغي أن تعطى حتى يثنى عليك ويحمدك وينشر اسمك بالسخاء أو ينبغي أن تعطى حتى لا يذمك ولا ينسبك إلى البخل
فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء
الثاني أن يتعذر عليه الرد بالحياء ويبقى في نفسه البخل فيتعذر الإعطاء فيهيج داعي الإخلاص ويقول له إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم وإدخال سرور على قلب صديق وذلك محمود عند الله تعالى فتسخو النفس بالإعطاء لذلك فهذا مخلص هيج الحياء إخلاصه
الثالث أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ولا حب لمحمدته لأنه لو طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه بمحض الحياء وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء ولولا الحياء لرده ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأراذل لكان يرده وإن كثر الحمد والثواب فيه فهذا مجرد الحياء ولا يكون هذا إلا في القبائح كالبخل ومقارفة الذنوب
والمرائي يستحي من المباحات أيضاً حتى إنه يرى مستعجلاً في المشي فيعود إلى الهدوء أو ضاحكاً فيرجع إلى الانقباض ويزعم أن ذلك حياء وهو عين الرياء
وقد قيل إن بعض الحياء ضعف وهو صحيح والمراد به الحياء مما ليس بقبيح كالحياء من وعظ الناس وإمامة الناس في الصلاة وهو في الصبيان والنساء محمود وفي العقلاء غير محمود
وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم وهذا الحياء حسن وأحسن منه أن يستحي من الله فلا تضيع الأمر بالمعروف فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس والضعيف قد لا يقدر عليه فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب
الثامن أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدي به وهذا العلة الواحدة فقط هي الجارية في إظهار الطاعة وهو القدوة ويختص ذلك بالأئمة أو بمن يقتدي به وبهذه العلة ينبغي أيضاً أن يخفي العاصي أيضاً معصيته من أهله وولده لأنهم يتعلمون منه
ففي ستر الذنوب هذه الأعذار الثمانية وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر الواحد ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائياً كما إذا قصد ذلك بإظهار الطاعة
فإن قلت فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح وحبهم إياه بسببه وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم(3/321)
دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال ازهد في الدنيا يحبك الله وانبذ إليهم هذا الحطام يحبوك // حديث قال رجل دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال ازهد في الدنيا يحبك الله الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد بلفظ وازهد فيما في أيدي الناس وقد تقدم
فنقول حبك لحب الناس لك قد يكون مباحاً وقد يكون محموداً وقد يكون مذموماً
فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك فإنه تعالى إذا أحب عبداً حببه في قلوب عباده
والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغزوك وصلاتك على طاعة بعينها فإن ذلك طلب عوض على طاعة الله عاجل سوى ثواب الله
والمباح أن تحب أن يحبوك لصفات محمودة سوى الطاعات المحمودة المعينة فحبك ذلك كحبك المال لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فلا فرق بينهما
بيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء ودخول الآفات
اعلم أن مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا بِهِ وَذَلِكَ غَلَطٌ وَمُوَافَقَةٌ للشيطان بل الحق فيما يترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره وهو أن الطاعات تنقسم إلى
ما لا لذة في عينه كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهدات إنما تصير لذيذة من حيث أنها توصل إلى حمد الناس وحمد الناس لذيذ وذلك عند اطلاع الناس عليه
وإلى ما هو لذيذ وهو أكثر مالا يقتصر على البدن بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء والولايات والحسبة وإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق وغير ذلك مما تعظم الآفة فيه لتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة
القسم الأول الطاعات اللازمة للبدن التي لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها كالصوم والصلاة والحج فخطرات الرياء فيها ثلاث
إحداها ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين فهذا مما ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيه فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب المنزلة فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها ألا تستحيين من مولاك لا تسخين بالعمل لأجله وتسخين بالعمل لأجل عباده حتى يندفع باعث الرياء وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل
الثانية أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياء مع عقد العبادة وأولها فلا ينبغي أن يترك العمل لأنه وجد باعثاً دينياً فليشرع في العمل وليجاهد نفسه في دفع الرياء وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء والإباء عن القبول
الثالثة أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيه فينبغي أن يجاهد في الدفع ولا يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليه قهراً حتى يتمم العمل لأن الشيطان يدعوك أولاً إلى ترك العمل فإذا لم تجب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء فإذا لم تجب ودفعت بقي يقول لك هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائع فأي فائدة لك في عمل لا إخلاص حتى يحملك بذلك على ترك العمل فإذا تركته فقد حصلت غرضه
ومثال من يترك العلم لخوفه أن يكون مرائياً كمن سلم إليه مولاه حنطة فيها زؤان وقال خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة فيترك أصل العمل يقول أخاف إن اشتغلت به لم تخلص خلاصاً صافياً نقياً
فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل فلا معنى له
ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفاً على الناس أن يقولوا إنه مراء فيعصون الله به
فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولاً أساء الظن بالمسلمين وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب(3/322)
العبادة وترك العمل خوفاً من قولهم إنه مراء هو عين الرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فماله ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص وأي فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفاً من أن يقال إنه غافل مقصر بل ترك العمل أشد من ذلك
فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة
فيضطرك بذلك إلى أن تهرب فإن هربت ودخلت سرباً تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وإن نزغ العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات
فَمَا دُمْتَ تَجِدُ بَاعِثًا دِينِيًّا عَلَى الْعَمَلِ فَلَا تَتْرُكِ الْعَمَلَ وَجَاهِدْ خَاطِرَ الرِّيَاءِ وَأَلْزِمْ قَلْبَكَ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ إِذَا دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِحَمْدِهِ حَمْدَ الْمَخْلُوقِينَ وَهُوَ مطلع على قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك بَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى أَنْ تَزِيدَ فِي الْعَمَلِ حَيَاءً مِنْ رَبِّكَ وَعُقُوبَةً لِنَفْسِكَ فَافْعَلْ
فَإِنْ قَالَ لَكَ الشَّيْطَانُ أَنْتَ مُرَاءٍ فَاعْلَمْ كَذِبَهُ وَخِدْعَهُ بِمَا تَصَادَفَ فِي قَلْبِكَ مِنْ كراهة الرِّيَاءِ وَإِبَائِهِ وَخَوْفِكَ مِنْهُ وَحَيَائِكَ مِنَ اللَّهِ تعالى وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفاً ولم يَبْقَ بَاعِثٌ دِينِيٌّ بَلْ تَجَرَّدَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب
فإن قلت فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة
روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال لا يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة
وقال إبراهيم التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم
وقال الحسن إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة
وقد ورد في ذلك آثار كثيرة قلنا هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه
وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل
والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء
وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء
وأما قول التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذراً من العجب
فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن(3/323)
العبد مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا يدركون هذه الدقائق وإنما ذكره تخويفاً للناس من آفة الشهرة وزجراً من طلبها
القسم الثاني ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال
أما الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما (1) حديث أول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقسط الحديث أخرجه مسلم من حديث عياض بن حماد أهل الجنة ثلاث ذو سلطان مقسط الحديث ولم أر فيه ذكر الأولية
أحدهم
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل (2) حديث أبي سعيد الخدري أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من رواية عطية العوفي وهو ضعيف عنه وفيه أيضا إسحاق بن إبراهيم الديباجي ضعيف أيضا رواه أبو سعيد الخدري
فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعياً في حظ نفسه ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقاً ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلاً وعند ذلك يهلك ويكون يوم من سلطان جائر شراً من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه
ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول من يأخذها بما فيها وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه أطلقه عدله أو أوبقه جوره (3) حديث الحسن أن رجلاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي خر لي قال اجلس أخرجه الطبراني موصولا من حديث عصمة هو ابن مالك وفيه الفضل بن المختار وأحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل قاله أبو حاتم ورواه أيضا من حديث ابن عمر بلفظ الزم بيتك وفيه الغراب بن أبي الغراب ضعفه ابن معين وابن عدي وقال أبو حاتم صدوق
وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها // حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة الحديث متفق عليه
وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر
_________
(1) حديث ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وقد تقدم
فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة وقال صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقسط
(2) حديث أبي هريرة ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل تقدم
أحدهم
وقال صلى الله عليه وسلم أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل
(3) حديث ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه لا يفكها إلا عدله أخرجه أحمد من حديث عبادة بن الصامت ورواه أحمد والبزار من رواية رجل لم يسم عن سعد بن عبادة وفيهما يزيد بن أبي زياد متكلم فيه ورواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة ورواه البزار والطبراني من حديث أبي هريرة ورواه البزار والطبراني من حديث بريدة والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس وثوبان وله من حديث أبي الدرداء ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه الحديث وقد عزى المصنف هذا الحديث لرواية معقل بن يسار والمعروف من حديث معقل بن يسار ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يرح رائحة الجنة متفق عليه
رواه معقل بن يسار وولاه عمر ولاية فقال يا أمير المؤمنين أشر على قال اجلس واكتم على
وروى الحسن أن رجلاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي خر لي قال اجلس(3/324)
على اثنين ثم ولي هو الخلافة فقام بها فقال له رافع ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعني لعنة الله
ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضاً وليس كذلك بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموا بها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم أرواحهم فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ نفاذ الأمر فتكره العزل فيداهن خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون لا يجب لأن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذات النفس والصحيح أن عليه الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير فلو وعدت بالخير جزماً لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد
والامتناع عن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع فالعزل مؤلم وهو كما قيل العزل طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال الحق وتهوى به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهراً وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية
ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا لا نولي أمرنا من سألنا (1) حديث القضاة ثلاثة الحديث أخرجه أصحاب السنن من حديث بريدة وتقدم في العلم وإسناده صحيح
وقال صلى الله عليه وسلم من استقضى فقد ذبح بغير سكين // حديث من استقضى فقد ذبح بغير سكين أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بلفظ من جعل قاضيا وفي رواية من ولى القضاء وإسناده صحيح
فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم
ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذراً مرخصاً له في الإهمال أصلاً بل إذا عزل سقطت العهدة عنه فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لأتباع الهوى والشيطان فكيف يرتقب عليه ثواباً وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار
وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية وكل ما يتسع بسببه الجاه ويعظم به
_________
(1) حديث إنا لا نولي أمرنا من سألنا متفق عليه من حديث أبي موسى
فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي أبي بكر رافعاً عن الولاية ثم تقلده لها ليس بمتناقض
وأما القضاء فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما فإن كل ذي ولاية أمير أي له أمر نافذ والإمارة محبوبة بالطبع والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق والعقاب فيه أيضاً عظيم مع العدول عن الحق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة(3/325)
القدر فآفته أيضاً عظيمة مثل آفة الولايات وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلاً وكانوا يقولون حدثنا باب من أبواب الدنيا ومن قال حدثنا فقد قال أوسعوا لي
ودفن بشر كذا وكذا قمطراً من الحديث وقال يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت
والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقاً ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم فلا يسمع حديثاً وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولاً ثم يقول إذا أنعم الله بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون
فهذا أيضاً مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة فعند ذلك يعود إليه
فإن قلت مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وعم الجهل كافة الخلق فنقول قد نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن طلب الإمارة وتوعد عليها (1) حديث إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة يوم القيامة وندامة إلا من أخذها بحقها أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة دون قوله إلا من أخذها بحقها وزاد في آخره فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ودون قوله حسرة وهي في صحيح ابن حبان
وقال نعمت المرضعة وبئست الفاطمة (2) حديث النهي عن القضاء أخرجه مسلم من حديث أبي ذر لا تؤمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم
بل الرياسة وحبها يضطر الخلق إلى طلبها وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها
وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن الله لا يضيعهم وانظر لنفسك ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلاً فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعاً للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما
_________
(1) حديث النهي عن طلب الإمارة هو حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة وقد تقدم قبله بثلاثة أحاديث
حتى قال إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها
(2) حديث نعمت المرضعة وبئست الفاطمة أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وهو بقية الحديث الذي قبله ورواه ابن حبان بلفظ فبئست المرضعة وبئست الفاطمة
ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعاً وثار القتال بين الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك وضرب عمر رضي الله عنه أبي بن كعب رأى قوماً يتبعونه وهو في ذلك يقول أبي سيد المسلمين وكان يقرأ عليه القرآن فمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع وعمر كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنعه فقال أتمنعني من نصح الناس فقال أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق
والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى وفي كل واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما فأما قول القائل نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس العلم فهو غلط إذ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل القضاء(3/326)
يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهد نفسك فإن قال لست أقدر على نفسي فنقول اشتغل وجاهد لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس كلهم إذ لا قائم به غيره ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع أحب عندنا من سلامة دينه وحده فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1) حديث لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لك من الدنيا وما فيها متفق عليه من حديث سهل بن سعد بلفظ خير لك من حمر النعم وقد تقدم في العلم
وقال صلى الله عليه وسلم أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه // حديث أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بزيادة في أوله ولمسلم من حديث أبي هريرة من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه الحديث
إلى غير ذلك من فضائل العلم فينبغي أن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاة لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد نفسك فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة ولا نقول لأحد من عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدي للوعظ والتدريس ورواية الحديث ولا نقول له أيضاً اتركه ما دام يجد
_________
(1) حديث إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم أخرجه النسائي وقد تقدم قريبا
ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته
فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والألفاظ المسجعة المقرونة بالأشعار مما ليس فيه تعظيم لأمر الدين وتخويف المسلمين بل فيه الترجية والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت فيجب إخلاء البلاد منهم فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب القبول ولا يقصد غيره وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله
ولهذا قال المسيح عليه السلام يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون ما تأمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي ناس أخس منكم لو تعلمون ويلكم حتى متى تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محلة المتجبرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلا مهلا ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم يدفعكم العلم من خلفكم ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم
وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال هؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون
فإن قلت فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها(3/327)
في نفسه باعثاً دينياً ممزوجاً بباعث الرياء أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار أنفع له وأسلم
وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها أما إذا خطر له وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم
وبالجملة فالمراتب ثلاث
الأولى الولايات والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفاً من الآفة
الثانية الصوم الصلاة والحج والغزو وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر عنهم الترك لخوف الآفة
وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة
الثالثة وهي متوسطة بين الرتبتين وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريس والآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة فالصلاة ينبغي أن لا يتركها الضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأساً دون الأقوياء ومناصب العلم بينهما ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة أشبه وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم والله أعلم
وهنا رتبة رابعة وهي جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين فإن في الإنفاق وإظهار السخاء استجلاباً للثناء وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس والآفات فيها أيضاً كثيرة
ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا وأن من الزهد تركها قربة إلى الله تعالى
وقال أبو الدرداء ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين ديناراً أتصدق بها أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريد أن أكون من الذين لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله
وقد اختلف العلماء فقال قوم إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل وقال قوم الجلوس في دوام ذكر الله أفضل والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام يا طالب الدنيا ليبر بها تركك لها أبر وقال
أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل
وهذا فيمن سلم من الآفات فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل
وبالجملة ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات والأحب أن يعمل ويدفع الآفات فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفت قلبه وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع
وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه لأن النفس لا تشير إلا بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه وإن كان لا يبعد ذلك أيضاً في بعض الأحوال وهذه أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر فيه لدينه ويدع ما يريبه إلى مالا يريبه ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك المال ولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل
ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلاً عن الصدقات أفضل من إمساكه وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب أن الأفضل الكسب والإنفاق أو التجرد للذكر وذلك لما في الكسب من الآفات فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال(3/328)
فإن قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق مخلص في وعظه غير مريد رياء الناس فاعلم أن لذلك علامات
إحداها أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظاً أو أغزر منه علماً والناس له أشد قبولاً فرح به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل علمه
والأخرى أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كان عليه فينظر إلى الخلق بعين واحدة
والأخرى أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشي خلفه في الأسواق
ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها
وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال كنت جالساً إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر فدخل المسجد على برذونه فجعل يلتفت في المسجد فلم يرى حلقة أحفل من خلقه الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه قال سعيد وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في كل يوم فما قطع الحسن كلامه قال سعيد فقلت في نفسي لأبلون الحسن اليوم ولأنظرن هل يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن ثم قال صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة فإنه بلغني عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن مجالس الذكر رياض الجنة // حديث أن مجالس الذكر رياض الجنة تقدم في الأذكار والدعوات
ولولا ما حملناه من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها قال ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام الحجاج فقال عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ كبير وأني أغزو فأكلف فرساً وبغلاً وأكلف فسطاطاً وأن لي ثلثمائة درهم من العطاء وأن لي سبع بنات من العيال فشكا من حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه والحسن مكب فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة وإذا أغزى أخاه أغزاه طاوياً راجلا فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام رجل من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج فقالوا أجب الأمير فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك إنما كان يتبسم فأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار إني أتيت هذا الرجل فقال أقصر عليك من لسانك وقولك إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا وإذا أغزى أخاه أغزاه كذا لا أبالك تحرض علينا الناس أما إنا على ذلك لانتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك قال فدفعه الله عني
وركب الحسن حماراً يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوماً يتبعونه فوقف فقال هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد فبهذه(3/329)
العلامات وأمثالها تتبين سريرة الباطن
ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون
اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين
بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح
اعلم أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلاً وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع فينبعث له نشاط في الصوم ولولاهم لما انبعث هذا النشاط فهذا ربما يظن أنه رياء وأن الواجب ترك الموافقة وليس كذلك على الإطلاق بل له تفصيل لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى وفي قيام الليل وصيام النهار ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ويغلبه التمكن من الشهوات أو تستهويه الغفلة فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع فينبعث له النشاط فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب عن التهجد مثل تمكنه من النوم على فراش وثير أو تمكنه من التمتع بزوجته أو المحادثة مع أهله وأقاربه أو الاشتغال بأولاده أو مطالعة حساب له مع معامليه فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتد رغبته عن الخير وحصلت له أسباب باعثة على الخير كمشاهدته إياهم وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا فإنه ينظر إليهم فينافسهم ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله فتتحرك داعيته للدين لا للرياء أو ربما يفارقه النوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم وفي منزله ربما يغلبه النوم وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام والنفس لا تسمح بالتهجد دائماً وتسمح بالتهجد وقتاً قليلاً فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ويشق عليه الصبر عنها فإذا أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه فتنبعث داعية الدين للصوم فإن الشهوات الحاضرة عوائق ودوافع تغلب باعث الدين فإذا سلم منها قوي الباعث
فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ويكون السبب فيه مشاهدة الناس وكونه معهم والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول لا تعمل فإنك تكون مرائياً إذا كنت لا تعمل في بيتك ولا تزد على صلاتك المعتادة وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم وخوفاً من ذمهم ونسبتهم إياه إلى الكسل لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم فيريد أن يحفظ منزلته وعند ذلك قد يقول الشيطان صل فإنك مخلص ولست تصلى لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم
وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة الله وإن كان انبعاثه لدفع العوائق وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق
وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه فإن سخت نفسه فليصل فإن باعثه الحق وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك فإن باعثه الرياء
وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا(3/330)
ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية ويشتغل بالعبادة
وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفاً من الله تعالى لا من الرياء ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب وقد لا يحضره البكاء فيتباكى تارة رياء وتارة مع الصدق إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفاً وذلك محمود
وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي
قال لقمان عليه السلام لابنه لا ترى الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر
وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال تارة تكون من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على أنه كثير الحزن ليعرف بذلك فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء وإن اقترنت بداعية الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه وإن قبل ذلك وركن إليه بقلبه حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به وقد يكون أصل الأنين عن الحزن ولكن يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء وهو محظور لأنها في حكم الابتداء لمجرد الرياء فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه ولكن يسبقه خاطر الرياء فيقبله فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر بعد أن استرسلت لخشية الله ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء
وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط ثم يستحي أن يقال له إنه سقط من غير زوال عقل وحالة شديدة فيزعق ويتواجد تكلفاً ليرى أنه سقط لكونه مغشياً عليه وقد كان ابتداء السقطة عن صدق وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعاً فتجزع نفسه أن يقال حالته غير ثابتة وإنما هي كبرق خاطف فيستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله وكذلك قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه فيستديم إظهار الضعف والأنين فيتكئ على غيره يرى أنه يضعف عن القيام ويتمايل في المشي ويقرب الخطا ليظهر أنه ضعيف عن سرعة المشي
فهذه كلها مكايد الشيطان ونزعات النفس
فإذا خطرت فعلاجها أن يتذكر أن الناس لو عرفوا نفاقه في الباطن واطلعوا على ضميره لمقتوه وإن الله مطلع على ضميره وهو له أشد مقتاً كما روي عن ذي النون رحمه الله أنه قام وزعق فقام معه شيخ آخر رأى فيه أثر التكلف فقال يا شيخ الذي يراك حين تقوم فجلس الشيخ
وكل ذلك من أعمال المنافقين
وقد جاء في الخبر تعوذوا بالله من خشوع النفاق // حديث تعوذوا بالله من خشوع النفاق أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي بكر الصديق وفيه الحارث بن عبيد الأيادي ضعفه أحمد وابن معين
وإنما خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع ومن ذلك الاستغفار والاستعاذة بالله من عذابه وغضبه فإن ذلك قد يكون لخاطر خوف وتذكر ذنب وتندم عليه وقد يكون للمراءاة
فهذه خواطر ترد على القلب متضادة مترادفة متقاربة وهي مع تقاربها متشابهة فراقب قلبك في كل ما يخطر لك وانظر ما هو ومن أين هو فإن كان لله فامضه واحذر مع ذلك أن يكون قد خفي عليكشيء من الرياء الذي هو كدبيب النمل وكن على وجل من عبادتك أهي مقبولة أم لا لخوفك على الإخلاص فيها واحذر أن يتجدد لك خاطر الركون إلى حمدهم بعد الشروع بالإخلاص فإن ذلك مما يكثر جدا(3/331)
فإذا خطر لك فتفكر في اطلاع الله عليك ومقته لك
وتذكر ما قاله أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب عليه السلام إذ قال يا أيوب أما علمت أن العبد تضل عنه علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزى بسريرته
وقول بعضهم أعوذ بك أن يرى الناس أني أخشاك وأنت لي ماقت
وكان من دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي محافظاً على رياء الناس من نفسي مضيعاً لما أنت مطلع عليه مني أبدي للناس أحس أمري وأفضي إليك بأسوأ عملي تقرباً إلى الناس بحسناتي وفراراً منهم إليك بسيآتي فيحل بي مقتك ويجب علي غضبك أعذني من ذلك يا رب العالمين
وقد قال أحد الثلاثة نفر لأيوب عليه السلام يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا علانيتهم وأضاعوا سرائرهم عند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوههم فهذه جمل آفات الرياء
فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر إن للرياء سبعين بابا // حديث الرياء سبعون بابا هكذا ذكر المصنف هذا الحديث هنا وكأنه تصحف عليه أو على من نقله من كلامه أنه الرياء بالمثناة وإنما هو الربا بالموحدة والمرسوم كتابته بالواو والحديث رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه وفي إسناد أبو معشر واسمه نجيح مختلف فيه وروى ابن ماجه أيضا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الربا ثلاث وسبعون بابا وإسناده صحيح هكذا ذكر ابن ماجه الحديثين في أبوب التجارات وقد روى البزار حديث ابن مسعود بلفظ الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك وهذه الزيادة قد يستدل بها على أنه الرياء بالمثناة لاقترائه مع الشرك والله أعلم
وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض حتى إن بعضه مثل دبيب النمل وبعضه أخفى من دبيب النمل وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة وليته أدرك بعد بذل المجهود فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن خدعها نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه
بيان ما ينبغي للمريد أن يلزم نفسه قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ وَفِيهِ
اعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى مَا يُلْزِمُ الْمُرِيدُ قَلْبَهُ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ الْقَنَاعَةُ بِعِلْمِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ وَلَا يَقْنَعُ بِعِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ فَأَمَّا مَنْ خَافَ غَيْرَهُ وَارْتَجَاهُ اشْتَهَى اطِّلَاعَهُ عَلَى مَحَاسِنِ أَحْوَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَلْيُلْزِمْ قَلْبَهُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَطَرِ التَّعَرُّضِ لِلْمَقْتِ وليراقب نفسه عند الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصاً على الإفشاء وتقول مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه الخلق منك لسجدوا لك فما في الخلق من يقدر على مثله فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك ففي مثل هذا الأمر ينبغي أَنْ يَثْبُتَ قَدَمُهُ وَيَتَذَكَّرَ فِي مُقَابَلَةِ عِظَمِ عمله عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد وعظم غضب الله ومقته عَلَى مَنْ طَلَبَ بِطَاعَتِهِ ثَوَابًا مِنْ عِبَادِهِ ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلطون فليس ذلك من شأنهم فيترك المجاهدة في الإخلاص لأن المخلط إلى ذلك أحوج من المتقي لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت فرائضه كاملة تامة والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجبران بالنوافل فإن لم تسلم صار مأخذوا بالفرائض وهلك به فالمخلط إلى الإخلاص أحوج
وقد روى تميم الداري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال يحاسب العبد يوم القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكمل به فرضه وإن لم يكن له تطوع أخذ(3/332)
بطرفيه فألقي في النار // حديث تميم الداري في إكمال فريضة الصلاة بالتطوع أخرجه أبو داود وابن ماجه وتقدم في الصلاة
فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة
فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله ثُمَّ يُلْزِمَ قَلْبَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ حَتَّى لَا يُظْهِرَهُ وَلَا يَتَحَدَّثَ بِهِ وَإِذَا فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَجِلًا مِنْ عَمَلِهِ خَائِفًا أَنَّهُ رُبَّمَا دَاخَلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَاكًّا فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ مُجَوِّزًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَحْصَى عَلَيْهِ مِنْ نِيَّتِهِ الْخَفِيَّةِ مَا مَقَتَهُ بِهَا وَرَدَّ عَمَلَهُ بِسَبَبِهَا وَيَكُونُ هَذَا الشك والخوف في دام عمله وبعده إلا في ابتداء العقل بل ينبغي أن يكون متيقناً في الابتداء أَنَّهُ مُخْلِصٌ مَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ إِلَّا اللَّهَ حتى يصح عمله فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء فيكون رجاء القبول أغلب وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات
فالإخلاص يقين والرياء شك
وَخَوْفُهُ لِذَلِكَ الشَّكِّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُكَفِّرَ خَاطِرَ الرِّيَاءِ إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ
وَالَّذِي يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالسَّعْيِ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ وَإِفَادَةِ الْعِلْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ رَجَاءَ الثَّوَابِ عَلَى دُخُولِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ مَنْ قَضَى حَاجَتَهُ فَقَطْ وَرَجَاءَ الثَّوَابِ عَلَى عَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِعِلْمِهِ فَقَطْ دُونَ شُكْرٍ وَمُكَافَأَةٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ وَالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْبِطُ الْأَجْرَ
فَمَهْمَا تَوَقَّعَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ مُسَاعَدَةً فِي شُغْلٍ وَخِدْمَةٍ أَوْ مُرَافَقَةٍ في المشي في الطريق ليستكثر بِاسْتِتْبَاعِهِ أَوْ تَرَدُّدًا مِنْهُ فِي حَاجَةٍ فَقَدْ أخذ أجره بلا ثَوَابَ لَهُ غَيْرُهُ
نَعَمْ إِنْ لَمْ يَتَوَقَّعْ هُوَ وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الثَّوَابَ عَلَى عَمَلِهِ بِعِلْمِهِ لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلَكِنْ خَدَمَهُ التِّلْمِيذُ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَ خِدْمَتَهُ فَنَرْجُو أَنْ لَا يحبط ذلك أجره إذا كان لا ينتظره ولا يريده منه ولا يستبعده منه لو قطعه
ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلاً ليرفعوه فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثاً خيفة أن يحبط أجره
وقال شقيق البلخي أهديت لسفيان الثوري ثوباً فرده علي فقلت له يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال علمت ذاك ولكن أخوك يسمع مني الحديث فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره
وجاء رجل إلى سفيان ببدرة أو بدرتين وكان أبوه صديقاً لسفيان وكان سفيان يأتيه كثيراً فقال له يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء فقال يرحم الله أباك كان وكان وأثنى عليه فقال يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إلي فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك قال فقبل سفيان ذلك قال فلما خرج قال لولده يا مبارك الحقه فرده علي فرجع فقال أحب أن تأخذ مالك فلم يزل به حتى رده عليه
وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك
قال ولده فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه فقلت ويلك أي شيء قلبك هذا حجارة عد أنه ليس لك عيال أما ترحمني أما ترحم إخوتك أما ترحم عيالنا فأكثرت عليه فقال لي يا مبارك تأكلها أنت هنيئا مرئيا وأسأل عنها أنا
فإذن يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ حَمْدَ الله وطلب ثوابه ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم وعند الخلق 2
وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته فيتعلم منه وهو خطأ لأن إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال والعلم ربما يفيد وربما(3/333)
لا يفيد فيكف يخسر في الحال عملاً نقداً على توهم علم وذلك غير جائز بل ينبغي أن يتعلم لله ويعبد الله وَيَخْدِمَ الْمُعَلِّمَ لِلَّهِ لَا لِيَكُونَ لَهُ فِي قلبه منزله إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة فإن العباد أمروا أن لا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَلَا يُرِيدُوا بِطَاعَتِهِمْ غَيْرَهُ
وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما إلا من حيث إن رضا الله عنه في رضا الوالدين ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين فإن ذلك معصية في الحال وسيكشف الله عن ريائه وتسقط منزلته من قلوب الوالدين أيضا
وأما الزاهد الْمُعْتَزِلُ عَنِ النَّاسِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْقَنَاعَةَ بِعِلْمِهِ وَلَا يُخْطِرَ بِقَلْبِهِ مَعْرِفَةَ النَّاسِ زُهْدَهُ وَاسْتِعْظَامَهُمْ مَحَلَّهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْرِسُ الرِّيَاءَ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَتَيَسَّرَ عليه العبادات في خلوته به وإنما سكوته لمعرفة الله بِاعْتِزَالِهِ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِمَحَلِّهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ المخفف للعمل عليه
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك قال منذ سبعين سنة قلت
فما طعامك قال يا حنيفي وما دعاك إلى هذا قلت أحببت أن أعلم قال في كل ليلة حمصة قلت فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قال ترى الدير الذي بحذائك قلت نعم قال إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها ويعظموني فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها عز تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر في قلبي المعرفة فقال حسبك أو أزيدك قلت بلى قال أنزل عن الصومعة فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي ادخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ قلت من قوته قالوا فما تصنع به ونحن أحق به ثم قالوا ساوم قلت عشرون ديناراً فأعطوني عشرين ديناراً فرجعت إلى الشيخ فقال يا حنيفي ما الذي صنعت قلت بعته منهم قال بكم قلت بعشرين ديناراً قال أخطأت لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب والجيئة
والمقصود أن استشعار النَّفْسِ عِزَّ الْعَظَمَةِ فِي الْقُلُوبِ يَكُونُ بَاعِثًا في الخلوة وقد لا يشعر العبد به فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ الْحَذَرَ مِنْهُ وَعَلَامَةُ سَلَامَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عِنْدَهُ وَالْبَهَائِمُ بِمَثَابَةٍ واحدة فلو تغيروا عن اعتقادهم له لَمْ يَجْزَعْ وَلَمْ يَضِقْ بِهِ ذَرْعًا إِلَّا كَرَاهَةً ضَعِيفَةً إِنْ وَجَدَهَا فِي قَلْبِهِ فَيَرُدُّهَا في الحال بعقله وإيمانه فإنه لو كَانَ فِي عِبَادَةٍ وَاطَّلَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ لم يزده ذلك خشوعاً ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه فإن دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه إلا أن يزيد عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه فذلك لا بأس به ولكن فيه غرور إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما حصل بأن يعدوا كثيراً أو يضحك كثيراً أو يأكل كثيراً فتسمح نفسه بذلك فإذا لم تسمح وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق
وَمِنْ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ أَحَدُهُمَا غَنِيٌّ وَالْآخَرُ فَقِيرٌ فَلَا يجد عند إقبال الغني زيادة هزة(3/334)
في نفسه لا كرامة إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْغَنِيِّ زِيَادَةُ عِلْمٍ أَوْ زِيَادَةُ وَرَعٍ فَيَكُونُ مُكْرِمًا لَهُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ لَا بِالْغِنَى فَمَنْ كَانَ اسْتِرْوَاحُهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ فَهُوَ مُرَاءٍ أَوْ طَمَّاعٍ وإلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويحبب إلى القلب المسكنة والنظر إلى الأغنياء بخلافه فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير وقد حكي أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري كان يجلسهم وراء الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه
نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة ولكن يكون بحث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام وتوقير البتة فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك لا يكون إلا طمعاً في غناه ورياء له ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني أكثر مما تظهره للفقير وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي كما قال ابن السماك لجارية له مالي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة فقالت الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت فإن اللسان ينطق عند الغني بما لا ينطق به عند الفقير وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا يحضره عند الفقير
وَمَكَايِدُ النَّفْسِ وَخَفَايَاهَا فِي هَذَا الْفَنِّ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يُنْجِيكَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ تُخْرِجَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ قَلْبِكَ وَتَتَجَرَّدَ بِالشَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِكَ بَقِيَّةَ عُمُرِكَ وَلَا تَرْضَى لَهَا بِالنَّارِ بِسَبَبِ شَهَوَاتٍ مُنَغِّصَةٍ فِي أَيَّامٍ مُتَقَارِبَةٍ وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات وساعدته اللذات ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في الشهوات وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه فلما عرف ذلك جالس الأطباء وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات وصبر على مفارقتها فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم نقصاناً لشدة احتمائه فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة المكروهات
فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف وترك المؤانسة بالخلق خوفاً من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذابه فخف ذلك كله عليه عند شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم في رضوان الله أبد الآباد ثم علم أن الله كريم رحيم لمن يزل لعباده المريدين لمرضاته عونا وبهم رءوفا وعليهم عطوفاً ولو شاء لأغنانهم عن التعب ولكن أراد أن يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلاً ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر وحبب إليه الطاعة ورزقه فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى سياسته وتقويته وأمده بمعونته فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب وهو الذي يقول من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ويقول تعالى لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقاً فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته تم كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده(3/335)
كتاب ذم الكبر والعجب وهو الكتاب التاسع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الخالق البارئ المصور العزيز الجبار المتكبر العلي الذي لا يضعه عن مجده واضع الجبار الذي كل جبار له ذليل خاضع وكل متكبر في جناب عزه مسكين متواضع فهو القهار الذي لا يدفعه عن مراده دافع الغني الذي ليس له شريك ولا منازع القادر الذي بهر أبصار الخلائق جلاله وبهاؤه وقهر العرش المجيد استواؤه واستعلاؤه واستيلاؤه وحصر ألسن الأنبياء وصفه وثناؤه وارتفع عن حد قدرتهم إحصاؤه واستقصاؤه فاعترف بالعجر عن وصف كنه جلاله ملائكته وأنبياؤه وكسر ظهور الأكاسرة عزه وعلاؤه وقصر أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه ومن نازعه فيهما قصمه بداء الموت فأعجزه دواؤه جل جلاله وتقدست أسماؤه والصلاة على محمد الذي أنزل عليه النور المنتشر ضياؤه حتى أشرقت بنوره أكناف العالم وأرجاؤه وعلى آله وأصحابه الذين هم أحباء الله وأولياؤه وخيرته وأصفياؤه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نازعني فيهما قصمته (1) حديث ثلاث مهلكات الحديث أخرجه البزار والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث أنس بسند ضعيف وتقدم فيه أيضا
فالكبر والعجب داءان مهلكان والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان وهما عند الله ممقوتات بغيضان
وإذا كان القصد في هذا الربع من كتاب إحياء علوم الدين شرح المهلكات وجب إيضاح الكبر والعجب فإنهما من قبائح المرديات
ونحن نستقضي بيانهما من الكتاب في شطرين شطر في الكبر وشطر في العجب
الشطر الأول من الكتاب في الكبر وفيه
بيان ذم الكبر
وبيان ذم الاختيال وبيان فضيلة التواضع وبيان حقيقة التكبر وآفته وبيان من يتكبر عليه ودرجات التكبر وبيان ما به التكبر وبيان البواعث على التكبر وبيان أخلاق المتواضعين وما فيه يظهر الكبر وبيان علاج الكبر
وبيان امتحان النفس في خلق الكبر وبيان المحمود من خلق التواضع والمذموم منه بيان ذم الكبر
قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بغير الحق} وقال عز وجل {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جبار} وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وقال تعالى {إنه لا يحب المستكبرين} وقال تعالى {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً} وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} وذم الكبر في القرآن كثير وقد
_________
(1) حديث قال اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نازعني فيهما قصمته أخرجه الحاكم في المستدرك دون ذكر العظمة وقال صحيح على شرط مسلم وتقدم في العلم وسيأتي بعد حديثين بلفظ آخر
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ(3/336)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مثقال حبة من خردل من كبر ولا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حبة من خردل من إيمان (1) حديث أبي هريرة يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه واللفظ له وقال أبو داود قذفته في النار وقال مسلم عذبته وقال رداؤه وإزاره بالغيبة وزاد مع أبي هريرة أبا سعيد أيضا
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على الصفا فتواقفا فمضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي فقالوا ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن فقال هذا يعني عبد الله بن عمرو زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه (2) حديث لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين الحديث أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سلمة بن الأكوع دون قوله من العذاب
وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوماً للطير والإنس والجن والبهائم اخرجوا فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات ثم خفض حتى مست أقدامه البحر فسمع صوتاً لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته
وقال صلى الله عليه وسلم يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان وعينان تبصران ولسان ينطق يقول وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر وبالمصورين (3) حديث لا يدخل الجنة جبار ولا بخيل ولا سيء الملكة تقدم في أسباب الكسب والمعاش والمعروف خائن مكان جبار
وقال صلى الله عليه وسلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم وعجزتهم فقال الله للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها (4) حديث بئس العبد عبد تجبر واعتدى الحديث أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت عميس بزيادة فيه مع تقديم وتأخير وقال غريب وليس إسناد بالقوي ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ورواه البيهقي في الشعب من حديث نعيم بن عمار وضعفه
وعن ثابت أنه قال بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده الموت // حديث ثابت بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده الموت أخرجه البيهقي في الشعب هكذا مرسلا بلفظ تجبر
وقال عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك والكبر وآمركما بلا إله إلا الله
فإن السموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح منهما ولو أن السموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليها لقصمتها وآمركما بسبحان الله
_________
(1) حديث لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار رجل فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ولا أبالي
(2) حديث عبد الله بن عمرو مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كبر كبه الله في النار على وجهه أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه بإسناد صحيح
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب
(3) حديث يخرج من النار عنق له أذنان الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح غريب
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الجنة بخيل ولا جبار ولا سيء الملكة
(4) حديث تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه وسلم بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى بئس العبد عبد تجبر واختال ونسى الكبير المتعال بئس العبد عبد غفل وسها ونسى المقابر والبلى بئس العبد عبد عتا وبغى ونسى المبدأ والمنتهى(3/337)
وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء (1) حديث أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وهي الزيادة عندهما من حديث حارثة بن وهب الخزاعي ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر
وقال صلى الله عليه وسلم إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلينا وأبعدكم منا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون المتكبرون (2) حديث يحشر المتكبرون يوم القيامة ذرا في صور الرجال الحديث أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال غريب
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس نهواهم على الله تعالى (3) حديث أبي موسى إن في جنهم وادياً يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار أخرجه أبو يعلى والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت فيه أزهر بن سنان ضعفه ابن معين وابن حبان وأورد له في الضعفاء هذا الحديث
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي النار قصراً يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم (4) حديث اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء لم أره بهذا اللفظ وروى أبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الحديث أعوذ بالله من الشيطان من نفخة ونفثه وهمزه قال نفثه الشعر ونفحه الكبر وهمزه الموتة ولأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري نحو تكلم فيه أبو داود وقال الترمذي هو أشهر حديث في هذا الباب
وقال من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة الكبر والدين والغلول // حديث من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاثة دخل الجنة الكبر والدين والغلول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ثوبان وذكر المصنف لهذا الحديث هنا موافق للمشهور في الرواية أنه الكبر بالموحدة والراء لكن ذكر ابن الجوزي في جامع المسانيد عن الدارقطني قال إنما هو الكنز بالنون والزاي وكذلك أيضا ذكر ابن مردويه الحديث في تفسير والذين يكنزون الذهب والفضة
الآثار قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يحقرن أحد أحداً من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير وقال وهب لما خلق الله جنة عدن نظر إليها فقال أنت حرام على كل متكبر
وكان الأحنف بن قيس يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوماً ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة فرأى أثر ذلك في وجهه فقال عجباً لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين
وقال الحسن العجب من ابن آدم يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السموات
وقد قيل في وفي أنفسكم أفلا تبصرون
_________
(1) حديث عبد الله بن عمرو إن نوحا لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك والكبر الحديث أخرجه أحمد والبخاري في كتاب الأدب والحاكم بزيادة في نقله قال صحيح الإسناد
قال المسيح عليه السلام طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جباراً
وقال صلى الله عليه وسلم أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وأهل الجنة الضعفاء المقلون
(2) حديث إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا الحديث أخرجه أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني بلفظ إلى ومني وفيه انقطاع ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة وقد تقدم في رياضة النفس أول الحديث
وقال صلى الله عليه وسلم يحشر المتكبرون يوم القيامة في مثل صور الذر تطؤهم الناس ذراً في مثل صور الرجال يعلوهم كل شيء من الغار ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس يعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار
(3) حديث أبي هريرة يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر الحديث أخرجه البزار هكذا مختصرا دون قوله الجبارون وإسناده حسن
وعن محمد بن واسع قال دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له يا بلال إن أباك حدثني عن أبيه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال أن في جهنم واديا يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه
(4) حديث إن في النار قصراً يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أنس وقال توابيت مكان قصرا وقال فيقفل مكان يطبق وفيه أبان بن أبي عياش وهو ضعيف
وقال صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء(3/338)
هو سبيل الغائط والبول
وقد قال محمد بن الحسين بن علي ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر
وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال الكبر وقال النعمان بن بشير على المنبر إن للشيطان مصالي وفخوخاً وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بإعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله
نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه
بيان ذل الاختيال وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ يَجُرُّ إِزَارَهُ بطرا (1) حديث بينما رجل يتبختر في برديه قد أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه وسلم من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة وقال زيد بن أسلم دخلت على ابن عمر فمر به عبد الله ابن واقد وعليه ثوب جديد فسمعته يقول أي بني ارفع إزارك فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء (2) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً على كفه ووضع أصبعه عليها وقال يقول الله ابن آدم أتعجزني وقد خلقت من مثل هذه الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث بشر بن جحاش
وقال صلى الله عليه وسلم إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط الله بعضهم على بعض (3) حديث من تعظم في نفسه واختال في مشيه لقي الله وهو عليه غضبان أخرجه أحمد والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر
الآثار عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر علينا ابن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف أف شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلق المجنون في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لفتة فسمع ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى {ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً} ومر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال له ابن آدم معجب بشبابه محب لشمائله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك ويحك داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم
وروى أن عمر
_________
(1) حديث لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه وسلم بينما رجل يتبختر في بردته إذ أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
(2) حديث ابن عمر لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء رواه مسلم مقتصرا على المرفوع دون ذكر مرور عبد الله ابن واقد على ابن عمر وهو رواية لمسلم أن المار رجل من بني ليث غير مسمى
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً على كفه ووضع أصبعه عليه وقال يقول الله تعالى ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأني أوان الصدقة
(3) حديث إذا مشت أمتي المطيطاء الحديث أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر المطيطاء بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهما مثناة من تحت مصغرا ولم يستعمل مكبرا
قال ابن الأعرابي هي مشية فيها اختيال
وقال صلى الله عليه وسلم من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقى الله وهو عليه غضبان(3/339)
ابن عبد العزيز حج قبل أن يستخلف فنظر إليه طاوس وهو يختال في مشيته فغمز جنبه بأصبعه ثم قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء فقال عمر كالمعتذر يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها ورأى محمد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال أتدري من أنت أما أمك فأشتريها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله ورأى ابن عمر رجلاً يجر إزاره فقال أن للشيطان إخواناً كررها مرتين أو ثلاثا ويروى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز فقال يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال له المهلب أما تعرفني فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته تلك
وقال مجاهد في قوله تعالى {ثم ذهب إلى أهله يتمطى} أي يتبختر وإذ قد ذكرنا ذم الكبر والاختيال فلنذكر فضيلة التواضع والله تعالى أعلم
بيان فضيلة التواضع
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زاد عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لله إلا رفعه الله (1) حديث ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة والبيهقي أيضا من حديث ابن عباس وكلاهما ضعيف
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ وخالط أهل الفقه والحكمة (2) حديث أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندنا بقباء وكان صائما الحديث وفيه من تواضع رفعه الله الحديث رواه البزار من رواية طلحة بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة فذكر نحوه دون قوله ومن أكثر من ذكر الله أحبه الله ولم يقل بقباء وقال الذهبي في الميزان إنه خبر منكر وقد تقدم ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه لبن وعسل الحديث {وفيه} أما إني لا أزعم أنه حرام الحديث وفيه من أكثر ذكر الموت أحبه الله وروى المرفوع منه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد دون قوله ومن بذر أفقره الله وذكر رفيه قوله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله وتقدم في ذم الدنيا
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون فقام سائل على الباب وبه زمانة يتكره منها فأذن له فلما دخل أجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه ثم قال له اطعم فكأن رجلاً من قريش اشمأز منه وتكره فما مات ذلك الرجل حتى كانت به زمانة مثلها (3) حديث خيرني ربي بين أمرين عبدا رسولا وملكا نبيا الحديث أخرجه أبو يعلى من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن عباس وكلا الحديثين ضعيف
وأوحى الله
_________
(1) حديث مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها فإن هو رفع نفسه جبذاها ثم قالا اللهم ضعه وإن وضع نفسه قالا اللهم ارفعه
(2) حديث طوبى لمن تواضع في غير مسكنة الحديث أخرجه البغوي وابن قانع والطبراني من حديث ركب المصري والبزار من حديث أنس وقد تقدم بعضه في العلم وبعضه في آفات اللسان
وعن أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندنا بقباء وكان صائماً فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن وجعلنا فيه شيئاً من عسل فلما رفعه وذاقه وجد حلاوة العسل فقال ما هذا قلنا يا رسول الله جعلنا فيه شيئاً من عسل فوضعه وقال أما إني لا أحرمه ومن تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ وَمَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ الله
(3) حديث السائل الذي كان به زمانة منكرة وأنه صلى الله عليه وسلم أجلسه على فخذه ثم قال اطعم الحديث لم أجد له أصلا والموجود حديث أكله مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر وقال الترمذي غريب
وقال صلى الله عليه وسلم خيرني ربي بين أمرين أن أكون عبداً رسولاً أو ملكاً نبياً فلم أدر أيهما أختار وكان صفي من الملائكة جبريل فرفعت رأسي إليه فقال تواضع لربك فقلت عبدا رسولا(3/340)
تعالى إلى موسى عليه السلام إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي وألزم قلبه خوفي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي وقال صلى الله عليه وسلم الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى (1) حديث إذا هدى الله عبداً للإسلام وحسن صورته الحديث أخرجه الطبراني موقوفا على ابن مسعود نحوه وفيه المسعودي مختلف فيه
وقال صلى الله عليه وسلم أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا (2) حديث ابن عباس إذا تواضع العبد رفع الله رأسه إلى السماء السابعة أخرجه البيهقي في الشعب نحوه وفيه زمعة بن صالح ضعفه الجمهور
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوَاضُعُ لَا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله (3) حديث كان يطعم فجاءه رجل أسود به جدري فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه
لم أجده هكذا والمعروف أكله مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وقال غريب وابن ماجه من حديث جابر كما تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه (4) حديث مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع غريب أيضاً
وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك مذلة لهم وصغار // حديث إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك لهم مذلة وصغار غريب أيضا
الآثار قال عمر رضي الله عنه إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش رفعك الله وإذا تكبر وعدا طوره رهصه الله في الأرض وقال اخسأ خسأك الله فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى إنه لأحقر عندهم من الخنزير
وقال جرير بن عبد الله انتهيت مرة إلى شجرة تحتها رجل نائم قد استظل بنطع له وقد جاوزت الشمس النطع فسويته عليه ثم إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي فذكرت له ما صنعت فقال لي يا جرير تواضع لله في الدنيا فإنه من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة يا جوير أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة قلت لا قال إنه ظلم الناس بعضهم في الدنيا
وقالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات التواضع
_________
(1) حديث الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين مرسلا وأسند الحاكم أوله من رواية الحسن عن سمرة وقال صحيح الإسناد
وقال المسيح عليه السلام طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة
وقال بعضهم بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا هدى الله عبداً للإسلام وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعاً فذلك من صفوة الله
(2) حديث أربع لا يعطيهن الله إلا من يحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا أخرجه الطبراني والحاكم من حديث أنس أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو أول العبادة والتواضع وذكر الله وقلة الشيء قال الحاكم صحيح الإسناد قلت فيه العوام بن جويرية قال ابن حبان يروي الموضوعات ثم روى له هذا الحديث
وقال ابن عباس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة
(3) حديث إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة الحديث أخرجه في الترغيب والترهيب من حديث أنس وفيه بشر بن الحسين وهو ضعيف جدا ورواه ابن عدي من حديث ابن عمر وفيه الحسن بن عبد الرحمن الاحتياصي وخارجة بن مصعب وكلاهما ضعيف
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم فجاء رجل أسود به جدري قد تقشر فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه
(4) حديث إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده فيكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه غريب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع(3/341)
وقال يوسف بن أسباط يجزى قليل الورع من كثير العمل ويجزى قليل التواضع من كثير الاجتهاد
وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع ما هو فقال أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِيٍّ قَبِلْتَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ الناس قبلته
وقال ابن المبارك رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل
وقال قتادة من أعطى مالاً أو جمالاً أو ثياباً أو علماً ثم لم يتواضع فيه كان عليه وبالاً يوم القيامة
وقيل أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها بالاستكانة أتممها عليك
وقال كعب ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجة في الآخرة وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقاً من النار يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه
وقيل لعبد الملك بن مروان أي الرجال أفضل قال من تواضع عن قدرة وزهد عن رغبة وترك النصرة عن قوة
ودخل ابن السماك على هارون فقال يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك فقال ما أحسن ما قلت فقال يا أمير المؤمنين إن امرأ أتاه الله جمالاً في خلقته وموضعاً في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى من ماله وتوضع في حسبه كتب في ديوان الله من خالص أولياء الله فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده
وكان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين فيقعد معهم ويقول مسكين مع مساكين
وقال بعضهم كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك الفقراء في الثياب المرتفعة
روي أنه خرج يونس وأيوب والحسن يتذاكرون التواضع فقال لهم الحسن أتدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً
وقال مجاهد
إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح عليه السلام شمخت الجبال وتطاولت وتواضع الجودي فرفعه الله فوق الجبال وجعل قرار السفينة عليه
وقال أبو سليمان إن الله عز وجل اطلع على قلوب الآدميين فلم يجد قلباً أشد تواضعاً من قلب موسى عليه السلام فخصه من بينهم بالكلام
وقال يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني أخشى أنهم حرموا بسببي
ويقال أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه
وقال زياد النمري الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر
وقال مالك بن دينار لو أن منادياً ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رحلا والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعى قال فلما بلغ ابن المبارك قوله قال بهذا صار مالك مالكاً
وقال الفضيل من أحب الرياسة لم يفلح أبداً
وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب هلاككم قال فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد ين مقاتل
وجاء رجل إلى الشبلي رحمه الله فقال له ما أنت وكان هذا دأبه وعادته فقال أنا النقطة التي تحت الباء فقال له الشبلي أباد الله شاهدك أو تجعل لنفسك موضعاً
وقال الشبلي في بعض كلامه ذلي عطل ذل اليهود
ويقال من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب
وعن أبي الفتح بن شخرف قال رأيت عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في المنام فقلت له يا أبا الحسن عظني فقال لي ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم في ثواب الله وأحسن من تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز وجل وقال أبو سليمان لا يتواضع العبد حتى يعرف(3/342)
نفسه
وقال أبو يزيد ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر فقيل له فمتى يكون متواضعاً قال إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه
وقال أبو سليمان لو اجتمع الخلق على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا عليه
وقال عروة بن الورد التواضع أحد مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع
وقال يحيى بن خالد البرمكي الشريف إذا تنسك تواضع والسفيه إذا تنسك تعاظم
وقال يحيى بن معاذ
التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع ويقال التواضع في الخلق كلهم حسن وفي الأغنياء أحسن والتكبر في الخلق كلهم قبيح وفي الفقراء أقبح ويقال لا عز إلا لمن تذلل لله عز وجل ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز وجل ولا أمن إلا لمن خاف الله عز وجل ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل
وقال أبو علي الجوزجاني
النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف به في ذلك فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل
وعن الجنيد رحمه الله أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه لولا أنه رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم // حديث يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة إذا اتخذ الفيء دولا الحديث {وفيه} كان زعيم القوم أرذلهم الحديث وقال غريب وله من حديث علي بن أبي طالب إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء فذكر منها وكان زعيم القوم أرذلهم ولأبي نعيم في الحلية من حديث حذيفة من اقتراب الساعة اثنان وسبعون خصلة فذكرها منها وفيهما فرج بن فضالة ضعيف
ما تكلمت عليكم وقال الجنيد أيضاً التواضع عند أهل التوحيد تكبر ولعل مراده أن التواضع يثبت نفسه ثم يضعها والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئاً حتى يضعها أو يرفعها
وعن عمرو بن شيبة قال كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنفون الناس قال ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي مالك تنظر إلي فقلت له شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة فقال له أنا ذلك الرجل فقلت ما فعل الله بك فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس
وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول إن زماناً صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء
وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض وقال هذا من أجلي يصيبكم لو مات عطاء لاستراح الناس
وكان بشر الحافي يقول سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم
ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال أعطاك الله ما ترجوه فقال إن الرجاء يكون بعد المعرفة فأين المعرفة وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوماً فقال سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم أتى الميزان فإن ثقل فأنا كريم وإن خف فأنا لئيم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجدنا الكرم في التقوى والغنى في اليقين والشرف في التواضع نسأل الله الكريم حسن التوفيق
بَيَانُ حَقِيقَةِ الْكِبْرِ وَآفَتِهِ
اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ يَنْقَسِمُ إِلَى بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ فَالْبَاطِنُ هُوَ خُلُقٌ في النفس والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح
واسم الكبر بالخلق الباطن أحق وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق
وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا(3/343)
ظهر على الجوارح يقال تكبر وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر
فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال فعند ذلك يكون متكبراً ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من نفخة الكبرياء (1) حديث لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرة من كبر تقدم فيه
وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهَا وَتِلْكَ الْأَخْلَاقُ هِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَالْكِبْرُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ يغلق تلك الأبواب كلها لأنه لا يقدر على أن يحب المؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهُوَ رَأْسُ أَخْلَاقِ المتقين وفيه العز ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز ولا يقدر أن يدوم على الصدق وفيه العز ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه العز ولا معنى للتطويل فما من خلق
_________
(1) حديث أعوذ بك من نفخة الكبرياء تقدم فيه
وكذلك قال عمر أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح
فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين وهو الاستعظام كبر وانتفخ وتعزز
فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات وتسمى أيضاً عزة وتعظماً ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه قال عظيمة لم يبلغوها ففسر الكبر بتلك العظمة
ثم هذه العزة تقتضي أعمالاً في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبراً فإنه مهما عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته ورأى أن حقه أن يقوم ماثلاً بين يديه إن اشتد كبره فإن كان أشد من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلاً للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته فإن كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه وإن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول وإن وعظ عنف في النصح وإن رد عليه شيء من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً لهم واستحقاراً
والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة
فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة وفيه يهلك الخواص من الخلق وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلاً عن عوام الخلق وَكَيْفَ لَا تَعْظُمُ آفَتُهُ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ في قلبه مثقال ذرة من كبر(3/344)
ذَمِيمٍ إِلَّا وَصَاحِبُ الْعِزِّ وَالْكِبْرِ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ ليحفظ عِزَّهُ وَمَا مِنْ خُلُقٍ مَحْمُودٍ إِلَّا وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ عِزُّهُ فَمِنْ هَذَا لَمْ يُدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قلبه مثقال حبة منه
والأخلاق الذميمة متلازمة والبعض منها داع إلى البعض لا محالة
وَشَرُّ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ مَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِفَادَةِ الْعِلْمِ وَقَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَفِيهِ وَرَدَتِ الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين قال الله تعالى والملائكة باسطو أيديهم إلى قوله وكنتم عن آياته تستكبرون {ثم قال} ادخلوا أبواب جنهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ثم أخبر أن أشد أهل النار عذاباً أشدهم عتياً على الله تعالى فقال ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً وقال تعالى فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون وقال عز وجل يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين وقال تَعَالَى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بغير الحق قيل في التفسير سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم وفي بعض التفاسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت
وقال ابن جريج سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها
ولذلك قال المسيح عليه السلام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا كذلك الحكمة تعمل في قلب المتواضع ولا تعمل في قلب المتكبر ألا ترون أن من شمخ برأسه إلى السقف شجه ومن طأطأ أظله وأكنه
فهذا مثل ضربه للمتكبرين وأنهم كيف يحرمون الحكمة ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم جحود الحق في حد الكبر والكشف عن حقيقته وقال من سفه الحق وغمص الناس // حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس أخرجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث وقال بطر الحق وغمط الناس ورواه الترمذي فقال من بطر الحق وغمص الناس وقال حسن صحيح ورواه أحمد من حديث عقبة عامر بلفظ المصنف ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبي ريحانة هكذا
بيان المتكبر عليه ودرجاته وأقسامه وثمرات الكبر فيه
اعلم أن المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه وقد خلق الإنسان ظلوماً جهولاً فتارة يتكبر على الخلق وتارة يتكبر على الخالق فإذن التكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام
الأول التكبر على الله وذلك هو أفحش أنواع الكبر ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان مثل ما كان من نمروذ فإنه كان يحدث نفسه بأن يقاتل رب السماء وكما يحكى عن جماعة من الجهلة
بل ما يحكى عن كل من ادعى الربوبية مثل فرعون وغيره فإنه لتكبره قال أنا ربكم الأعلى إذ استنكف أن يكون عبداً لله ولذلك قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون الآية وقال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً
القسم الثاني التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره فيمتنع عن الانقياد وهو ظان أنه محق فيه وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه للإنقياد للحق والتواضع للرسل كما حكى الله قولهم أنؤمن لبشرين مثلنا {وقولهم} إن أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيراً وقالوا لولا أنزل عليه ملك(3/345)
وقال فرعون فيما أخبر الله عنه {أو جاء معه الملائكة مقترنين} وقال الله تعالى {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق} فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعاً
قال وهب قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك قال حتى أشاور هامان فشاور هامان فقال هامان بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبد تعبد فاسنكف عن عبودية الله وعن اتباع موسى عليه السلام
وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} قال قتاده عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي طلبوا من هو أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا فقال تعالى {أهم يقسمون رحمة ربك} وقال الله تعالى {ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} أي استحقاراً لهم واستبعاداً لتقدمهم
وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء وأشاروا إلى فقراء المسلمين فازدروهم بأعينهم لفقرهم وتكبروا عن مجالستهم فأنزل اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} إلى قوله {ما عليك من حسابهم} وقال تَعَالَى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} // حديث قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء الحديث في نزول قوله تعالى {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} أخرجه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص إلا أنه قال فقال المشركون وقال ابن ماجه قالت قريش
ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذا لم يروا الذين ازدروهم فقالوا {ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار} قيل يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً والمقداد رضي الله عنهم ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقاً ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف قال الله تعالى مخبراً عنهم {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} وقال {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا} وهذا الكبر قريب من التكبر على الله عز وجل وإن كان دونه ولكنه تكبر على قبول أمر الله والتواضع لرسوله
القسم الثالث التكبر على العباد وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضاً عظيم من وجهين أحدهما أن الكبر والعز والعظمة والعلاء لا يليق إِلَّا بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَمِنْ أين يليق بحاله الكبر فَمَهْمَا تَكَبَّرَ الْعَبْدُ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِجَلَالِهِ وَمِثَالُهُ أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها عَلَى رَأْسِهِ وَيَجْلِسُ عَلَى سَرِيرِهِ فَمَا أَعْظَمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَقْتِ وَمَا أَعْظَمَ تَهَدُّفَهُ لِلْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَمَا أَشَدَّ اسْتِجْرَاءَهُ عَلَى مَوْلَاهُ وَمَا أَقْبَحَ ما تعاطاه وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته أي إنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جني عليه إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه فالخلق كلهم عباد الله وله العظمة الكبرياء عَلَيْهِمْ فَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله فقد نازع الله في حقه
نعم الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمروذ وفرعون هو الفرق بين منازعة الملك في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك(3/346)
الوجه الثاني الذي تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عبادالله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده ولذلك ترى المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون تجاحد المتكبرين ومهما اتضح الحق على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله وتشمر لجحده واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس وَذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِذْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فكل من يُنَاظِرُ لِلْغَلَبَةِ وَالْإِفْحَامِ لَا لِيَغْتَنِمَ الْحَقَّ إِذَا ظَفِرَ بِهِ فَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْخُلُقِ وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قَبُولِ الْوَعْظِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم} وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها فقال {إنا لله وإنا إليه راجعون} قام رجل يأمر بالمعروف فقتل فقام آخر فقال يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فقتل المتكبر الذي خالفه والذي أمره كبراً
وقال ابن مسعود كفى بالرجل إثماً إذا قيل له اتق الله قال عليك نفسك وقال صلى الله عليه وسلم لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ل أستطيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا فما منعه إلا كبره قال
فما رفعها بعد ذلك (1) حديث قول ثابت بن قيس بن شماس إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى الحديث وفيه الكبر من بطر الحق وغمص الناس أخرجه مسلم والترمذي وقد تقدم قبله بحديثين
وفي حديث آخر من سفه الحق (2) حديث آفة العلم الخيلاء قلت هكذا ذكره المصنف والمعروف آفة العلم النسيان وآفة الجمال الخيلاء هكذا رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث علي بسند ضعيف
وروى عنه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس آفة الجمال الخيلاء وفيه الحسن بن الحميد الكوفي لا يدري من هو حدث عن أبيه بحديث موضوع قاله صاحب الميزان
فلا يلبث
_________
(1) حديث قال لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت الحديث أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع
أي اعتلت يده
فإذن تكبره على الخلق عظيم لأنه سيدعوه إلى التكبر على أمر الله وإنما ضرب إبليس مثلاً لهذا وما حكاه من أحواله إلا ليعتبر به فإنه قال أنا خير منه وهذا الكبر بالنسب لأنه قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فحمله ذلك على أن يمتنع من السجود الذي أمره الله تعالى به وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد فهذه آفة من آفات الكبر على العباد عظيمة وَلِذَلِكَ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الكبر بهاتين الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس بن شماس فقال يا رسول الله إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى أفمن الكبر هو فقال صلى الله عليه وسلم لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس
(2) حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس تقدم معه
وقوله وغمص الناس أي ازدراهم واستحقرهم وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ أَمْثَالُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ
وهذه الآفة الأولى وسفه الْحَقِّ هُوَ رَدُّهُ وَهِيَ الْآفَةُ الثَّانِيَةُ فَكُلُّ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَخِيهِ وَاحْتَقَرَ أَخَاهُ وَازْدَرَاهُ وَنَظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاسْتِصْغَارِ أَوْ رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق ومن أنف من أن يخضع لله تعالى ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله فقد تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله
بَيَانُ مَا بِهِ التَّكَبُّرُ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يتكبر إلا متى اسْتَعْظَمَ نَفْسَهُ وَلَا يَسْتَعْظِمُهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ لَهَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ
وَجِمَاعُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَمَالٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ فَالدِّينِيُّ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالدُّنْيَوِيُّ هُوَ النَّسَبُ وَالْجَمَالُ وَالْقُوَّةُ وَالْمَالُ وَكَثْرَةُ الْأَنْصَارِ
فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ
الأول العلم وما أسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم آفة العلم الخيلاء(3/347)
العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام فإن بدأه واحد منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويداً عليه يلزمه شكرها واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله وأنه ينبغي أن يرقوا له ويخدموه شكراً له على صنيعه بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه فإن قصر فيه استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروفلديهم واستحقاق حق عليهم هذا فيما يتعلق بالدنيا
أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يَرَى نَفْسَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَفْضَلَ مِنْهُمْ فَيَخَافُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لَهُمْ وهذا بأن يسمى جاهلاً أولى من أن يسمى عالماً بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه كما سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم وهذا العلم يزيد خوفاً وتواضعاً وتخشعاً ويقتضي أن يرى كل الناس خيراً منه لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم
ولهذا قال أبو الدرداء من ازداد علماً ازداد وجعاً وهو كما قال
فإن قلت فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبراً وأمناً
فاعلم أن لذلك سببين
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِمَا يُسَمَّى عِلْمًا وليس علماً حقيقياً وإنما الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَنَفْسَهُ وَخَطَرَ أَمْرِهِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ وَالْحِجَابِ مِنْهُ وَهَذَا يُورِثُ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ دُونَ الْكِبْرِ والأمن
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماء فأما ما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلأ منها امتلأ بها كبراً ونفاقاً وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوماً بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة وهذه تورث التواضع غالباً
السبب الثاني أن يخوض العبد فِي الْعِلْمِ وَهُوَ خَبِيثُ الدُّخْلَةِ رَدِيءُ النَّفْسِ سيء الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ أَوَّلًا بِتَهْذِيبِ نَفْسِهِ وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة ربه فَبَقِيَ خَبِيثَ الْجَوْهَرِ فَإِذَا خَاضَ فِي الْعِلْمِ أي علم كان صَادَفَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ مَنْزِلًا خَبِيثًا فَلَمْ يَطِبْ ثَمَرُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْخَيْرِ أَثَرُهُ
وَقَدْ ضَرَبَ وهب لِهَذَا مَثَلًا فَقَالَ الْعِلْمُ كَالْغَيْثِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ حُلْوًا صَافِيًا فَتَشْرَبُهُ الْأَشْجَارُ بِعُرُوقِهَا فَتُحَوِّلُهُ عَلَى قَدْرِ طَعُومِهَا فَيَزْدَادُ المر مرارة والحلو حلاوة فكذلك العلم تحفظه الرِّجَالُ فَتُحَوِّلُهُ عَلَى قَدْرِ هِمَمِهَا وَأَهْوَائِهَا فَيَزِيدُ الْمُتَكَبِّرَ كِبْرًا وَالْمُتَوَاضِعَ تَوَاضُعًا وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ كانت همته الكبر وهو جَاهِلٌ فَإِذَا حَفِظَ الْعِلْمَ وَجَدَ مَا يَتَكَبَّرُ بِهِ فَازْدَادَ كِبْرًا وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَائِفًا مع جهله فَازْدَادَ عِلْمًا عَلِمَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ عليه فيزداد خوفاً وإشفاقاً وذلاً وتواضعاً فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال عز وجل وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك ووصف أولياءه فقال أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وكذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه العباس رضي الله عنه يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه وقال أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم(3/348)
وقود النار (1) حديث سيأتي على الناس زمان من تمسك بعشر ما أنتم عليه نجا أخرجه أحمد من رواية رجل عن أبي ذر
لكان جديراً بنا أن نقتحم والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا ومن لنا أيضاً بالتمسك بعشر ما كانوا عليه وليتنا تمسكنا بعشر عشره
فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه كرمه وفضله
الثَّانِي الْعَمَلُ وَالْعِبَادَةُ وَلَيْسَ يَخْلُو عَنْ رَذِيلَةِ العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ويترشح الكبر منهم فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا
أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء وَكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عِبَادَتَهُمْ مِنَّةً عَلَى الْخَلْقِ
وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنْ يَرَى النَّاسَ هَالِكِينَ وَيَرَى نَفْسَهُ نَاجِيًا وَهُوَ الْهَالِكُ تَحْقِيقًا مَهْمَا رَأَى ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أهلكهم (2) حديث كفى بالمرء شراً أن يقر أخاه المسلم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ امرؤ من الشر
وكم من الفرق بينه وبين من يحبه لله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجوه لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم كأنه مترفع عن مجالستهم فما أجدرهم إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى حد الإهمال كما روي أن رجلاً في بني إسرائيل كان يقال له خليع بني إسرائيل لكثرة فساده مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل وكان على رأس العابد غمامة تظله فلما مر الخليع به فقال الخليع في نفسه أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل
_________
(1) حديث العباس يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق
ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا تكونوا جبابرة العلماء فلا يفي علمكم بجهلكم
ولذلك استأذن تميم الداري عمر رضي الله عنه في القصص فأبى أن يأذن له وقال إنه الذبح واستأذنه رجل كان إمام قوم أنه إذا سلم من صلاته ذكرهم فقال إني أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا
وصلى حذيفة بقوم فلما سلم من صلاته قال لتلتمسن إماماً غيري أو لتصلن وحداناً فإني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني
فإذا كان مثل حذيفة لا يسلم فكيف يسلم الضعفاء من متأخري هذه الأمة فما أعز على بسيط الأرض عالماً يستحق أن يقال له عالم ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه فلا ينبغي أن يفارق بل يكون النظر إليه عبادة فضلاً عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله لو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته وتسري إلينا سيرته وسجيته وهيهات فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم فهم أرباب الإقبال وأصحاب الدول قد انقرضوا في القرن الأول ومن يليهم بل يعز في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة فذلك أيضاً إما معدوم وإما عزيز ولولا بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله سيأتي على الناس زمان من تمسك فيه بعشر ما أنتم عليه نجا
(2) حديث إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أهلكهم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُزْدَرٍ بِخَلْقِ اللَّهِ مُغْتَرٌّ بالله آمِنٌ مِنْ مَكْرِهِ غَيْرُ خَائِفٍ مِنْ سَطْوَتِهِ وَكَيْفَ لَا يَخَافُ وَيَكْفِيهِ شَرًّا احْتِقَارُهُ لِغَيْرِهِ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى بِالْمَرْءِ شراً أن يحقر أخاه المسلم(3/349)
فلو جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه فقال العابد أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع بني إسرائيل فكيف يجلس إلي فأنف منه وقال له قم عني فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد
وفي رواية أخرى فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع
وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم فالجاهل العاصي إذا تواضع هيبة لله وذل خوفاً منه فقد أطاع الله بقلبه فهو أطوع لله من العالم المتكبر والعابد المعجب
وكذلك روي أن رجلاً في بني إسرائيل أتى عابداً من بني إسرائيل فوطئ على رقبته وهو ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك (1) حديث أن رجلاً ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان الحديث أخرجه أحمد والبزار والدارقطني من حديث أنس
فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه
وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله
لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات
الدرجة الأولى أن يكون الكبر مستقراً في قلبه يرى نفسه خيراً من غيره إلا أنه يجتهد ويتواضع ويفعل
_________
(1) حديث الرجل من بني إسرائيل الذي وطئ على رقبة عابد من بني إسرائيل وهو ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك الحديث أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة في قصة العابد الذي قال للعاصي والله لا يغفر الله لك أبدا وهو بغير هذا السياق وإسناده حسن
فأوحى الله إليه أيها المتألي بل أنت لا يغفر الله لك وكذلك قال الحسن وحتى أن صاحب الصوف أشد كبراً من صاحب المطرز الخز أي أن صاحب الخز يذل لصاحب الصوف ويرى الفضل وصاحب الصوف يرى الفضل لنفسه وهذه الآفة أيضاً قلما ينفك عنها كثير من العباد وهو أنه لو اسْتَخَفَّ بِهِ مُسْتَخِفٌّ أَوْ آذَاهُ مُؤْذٍ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ وَلَا يَشُكُّ فِي أنه صار ممقوتاً عند الله ولو آذى مسلماً آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وَذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ جَهْلٌ وجمع بين الكبر والعجب واغترار بِاللَّهِ وَقَدْ يَنْتَهِي الْحُمْقُ وَالْغَبَاوَةُ بِبَعْضِهِمْ إِلَى أَنْ يَتَحَدَّى وَيَقُولَ سَتَرَوْنَ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ وَإِذَا أُصِيبَ بِنَكْبَةٍ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كراماته وأن الله ما أراد به إلا شفاء غليله والانتقام له منه مَعَ أَنَّهُ يَرَى طَبَقَاتٍ مِنَ الْكُفَّارِ يَسُبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعُرِفَ جَمَاعَةٌ آذَوُا الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ ضربهم ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة ثم الجاهل المغرور يطن أنه أكرم على الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه به
ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين
وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله عطاء السلمي حين كان تهب ريح أو تقع صاعقة ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لتخلصوا
وما قاله الآخر بعد انصرافه من عرفات كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم فانظر إلى الفرق بين الرجلين هذا يتقي الله ظاهرا وباطنا وهو وجل على نفسه مزدر لعمله وسعيه وذاك ربما يضمر من الرياء والكبر والحسد والغل ما هو ضحكة للشيطان به ثم إنه يمتن على الله بعمله
ومن اعتقد جزما أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جميع عمله فإن الجهل أفحش المعاصي وأعظم شيء يبعد العبد عن الله وحكمه لنفسه بأنه خير من غيره جهل محض وأمن من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ولذلك روي أن رجلا ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك قال اللهم نعم(3/350)
فعل من يرى غيره خيراً من نفسه وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها بالكلية
الثانية أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم وَلَيْسَ يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ فِي الجبهة حتى تقطب ولا في الوجه حتى يعبس ولا في الخد حتى يصعر وَلَا فِي الرَّقَبَةِ حَتَّى تُطَأْطَأَ وَلَا فِي الذَّيْلِ حَتَّى يُضَمَّ إِنَّمَا الْوَرَعُ فِي الْقُلُوبِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التقوى هاهنا وأشار إلى صدره (1) حديث كان أكرم الخلق وأتقاهم الحديث تقدم في كتاب أخلاق النبوة
ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبني من القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين مثله
ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم أخف حالاً ممن هو في
الرتبة الثالثة وهو الذي يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس وحكايات الأحوال والمقامات والتشمر لغلبة الغير في العلم والعمل
أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد
من هو وما عمله ومن أين زهده فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم وفلان ينام سحراً ولا يكثر القراءة وما يجري مجراه وقد يزكي نفسه ضمناً فيقول قصدني فلان بسوء فهلك ولده وأخذ ماله أو مرض أو ما يجره مجراه يدعي الكرامة لنفسه
وأما مباهاته فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم وكذلك يشتد في العبادة خوفاً من أن يقال غيره أعبد منه أو أقوى منه في دين الله
وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ورأيت من الشيوخ فلاناً وفلاناً ومن أنت وما فضلك ومن لقيت وما الذي سمعت من الحديث كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه
وأما مباهاته فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه
فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ من خردل من كبر // حديث لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حبة من خردل من كبر تقدم
كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار وإنما العظيم من خلا عن هذا ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر والعالم هو الذي فهم إن الله تعالى قال له إن لك عندنا قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لها قدراً فلا قدر لك عندنا
ومن لم يعلم
_________
(1) حديث التقوى هاهنا وأشار إلى صدره أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم
فقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمَ الْخَلْقِ وَأَتْقَاهُمْ وَكَانَ أَوْسَعَهُمْ خُلُقًا وَأَكْثَرَهُمْ بشراً وتبسما وانبساطا(3/351)
هذا من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدراً
فهذا هو التكبر بالعلم والعمل
الثَّالِثُ التَّكَبُّرُ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ فَالَّذِي لَهُ نَسَبٌ شَرِيفٌ يَسْتَحْقِرُ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ النَّسَبُ وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ مِنْهُ عَمَلًا وَعِلْمًا وَقَدْ يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره يا نبطي يا هندي ويا أرمني مَنْ أَنْتَ وَمَنْ أَبُوكَ فَأَنَا فُلَانٌ ابْنُ فلان وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي ومع مثلي تتكلم وما يجري مجراه
وذلك عرق دفين في النفس لا ينفك عنه نسيب وإن كان صالحاً وعاقلاً إلا أنه قد لا يترشح منه ذلك عند اعتدال الأحوال فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه كما روي عن أبي ذر أنه قَالَ قَاوَلْتُ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ طف الصاع طف الصاع لَيْسَ لِابْنِ الْبَيْضَاءِ عَلَى ابْنِ السَّوْدَاءِ فَضْلٌ (1) حديث أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك الحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح ورواه أحمد موقوفا على معاذ بقصة موسى فقط
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم أو ليكون أهون على الله من الجعلان التي تذرف بآنافها القذر (2) حديث عائشة دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة الحديث تقدم في آفات اللسان
وهذا منشؤه خفاء الكبر لأنها لو كانت أيضاً قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت
الخامس الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين فِي لِبَاسِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ فَيَسْتَحْقِرُ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ ويتكبر عليه ويقول له أنت مكد ومسكين وأنا لو أردت لاشتريت مثلك واستخدمت من هو فوقك ومن أنت وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك وأنا أنفق في اليوم ما لا تأكله في سنة وكل ذلك لاستعظامه للغنى واستحقاره للفقر وكل ذلك جهل منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى وإليه الإشارة بقوله تعالى {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً} حتى أجابه فقال إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً وكان ذلك منه تكبرا بالمال والولد
_________
(1) حديث أبي ذر قَاوَلْتُ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقلت له يا ابن السوداء الحديث أخرجه ابن المبارك في البر والصلة مع اختلاف ولأحمد من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى
فقال أبو ذر رحمه الله فَاضْطَجَعْتُ وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ قُمْ فَطَأْ عَلَى خَدِّي
فانظر كيف نبهه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رأى لنفسه فضلاً بكونه ابن بيضاء وأن ذلك خطأ وجهل وَانْظُرْ كَيْفَ تَابَ وَقَلَعَ مِنْ نَفْسِهِ شَجَرَةَ الكبر بأخمص قدم من تكبر عليه إِذْ عَرَفَ أَنَّ الْعِزَّ لَا يَقْمَعُهُ إِلَّا الذل ومن ذلك ما روي أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بل التسعة من أهل النار وأنت عاشرهم
(2) حديث ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان من حديث أبي هريرة
الرَّابِعُ التَّفَاخُرُ بِالْجَمَالِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَجْرِي بَيْنَ النِّسَاءِ وَيَدْعُو ذَلِكَ إِلَى التَّنَقُّصِ وَالثَّلْبِ والغيبة وذكر عيوب الناس ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد اغتبتها(3/352)
ثم بين الله عاقبة أمره بقوله {يا ليتني لم أشرك بربي أحداً} ومن ذلك تكبر قارون إذ قال تعالى إخباراً عن تكبره {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}
السَّادِسُ الْكِبْرُ بِالْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ وَالتَّكَبُّرِ بِهِ عَلَى أَهْلِ الضَّعْفِ
السَّابِعُ التَّكَبُّرُ بِالْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين
وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن في نفسه كمالاً أمكن أن يتكبر به حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفته وقدرته في صنعة المخنثين لأنه يرى ذلك كمالاً فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالاً وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أن ذلك كمالاً وإن كان مخطئاً فيه
فَهَذِهِ مَجَامِعُ مَا يَتَكَبَّرُ بِهِ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ على بعض فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا يدلي به أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده
وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه
نسأل الله العون بلطفه ورحمته أنه على كل شيء قدير
بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له
اعلم أن الكبر خلق باطن وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهي ثمرة ونتيجة وينبغي أن تسمى تكبراً
ويخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر كما سيأتي معناه فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من أسبابه استعظم وتكبر
وأما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة سبب في المتكبر وسبب في المتكبر عليه وسبب فيما يتعلق بغيرهما
أما السبب الذي في المتكبر فهو العجب والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد والحسد
والذي يتعلق بغيرهما هو الرياء فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة العجب والحقد والحسد والرياء
أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر الباطن والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال
وأما الحقد فإنه يحمل على التكبر من غير عجب كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقداً ورسخ في قلبه بغضه فهو لذلك لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقاً للتواضع فكم من رذل لا تطاوعه نفسه على التواضع لواحد من الأكابر لحقده عليه أو بغضه له ويحمله ذلك على رد الحق إذا جاء من جهته وعلى الأنفة من قبول نصحه وعلى أن يجتهد في التقدم عليه وإن علم أنه لا يستحق ذلك وعلى أن لا يستحله وإن ظلمه فلا يعتذر إليه وإن جنى عليه ولا يسأله عما هو جاهل به
وأما الحسد فإنه أيضاً يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد ويدعو الحسد أيضاً إلى جحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده أو أقاربه حسداً وبغياً عليه فهو يعرض عنه ويتكبر عليه مع معرفته بأنه يستحق التواضع بفضل علمه ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه
وأما الرياء فهو أيضاً يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه وليس بينه(3/353)
وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد ولكن يمتنع من قبول الحق منه ولا يتواضع له في الاستفادة خيفة من أن يقول الناس إنه أفضل منه فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبر عليه
وأما الذي يتكبر بالعجب أو الحسد أو الحقد فإنه يتكبر أيضاً عند الخلوة به مهما لم يكن معهما ثالث وكذلك قد ينتمي إلى نسب شريف كاذباً وهو يعلم أنه كاذب ثم يتكبر به على من ليس ينتسب إلى ذلك النسب ويترفع عليه في المجالس ويتقدم عليه في الطريق ولا يرضى بمساواته في الكرامة والتوقير وهو عالم باطناً بأنه لا يستحق ذلك ولا كبر في باطنه لمعرفته بأنه كاذب في دعوى النسب ولكن يحمله الرياء على أفعال المتكبرين وكأن اسم المتكبر إنما يطلق في الأكثر على من يفعل هذه الأفعال عن كبر في الباطن صادر عن العجب والنظر إلى الغير بعين الاحتقار وهو إن سمي متكبراً فلأجل التشبه بأفعال الكبر
نسأل الله حسن التوفيق والله تعالى أعلم
بَيَانُ أَخْلَاقِ الْمُتَوَاضِعِينَ وَمَجَامِعِ مَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ التَّوَاضُعِ وَالتَّكَبُّرِ
اعْلَمْ أَنَّ التَّكَبُّرَ يَظْهَرُ فِي شَمَائِلِ الرَّجُلِ كَصَعَرٍ فِي وَجْهِهِ وَنَظَرِهِ شَزْرًا وَإِطْرَاقِهِ رَأْسَهُ وَجُلُوسِهِ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُتَّكِئًا وَفِي أَقْوَالِهِ حَتَّى فِي صَوْتِهِ وَنَغَمَتِهِ وَصِيغَتِهِ فِي الْإِيرَادِ وَيَظْهَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَتَبَخْتُرِهِ وَقِيَامِهِ وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله
فَمِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ مَنْ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَبَّرُ فِي بَعْضٍ وَيَتَوَاضَعُ فِي بَعْضٍ
فَمِنْهَا التَّكَبُّرُ بِأَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ أو بين يديه
وقد قال علي كرم الله وجهه من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام
وقال أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك (1) حديث كان في بعض الأوقات يمشي مع أصحاب فيأمرهم بالتقدم أخرجه منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أنه خرج يمشي إلى البقيع فتبعه أصحابه فوقف فأمرهم أن يتقدموا ومشى خلفهم فسئل عن ذلك فقال إني سمعت خفق نعالكم فأشفقت أن يقع في نفسي شيء من الكبر وهو منكر فيه جماعة ضعفاء
إما لتعليم غيره أو لينفي عن نفسه وساوس الشيطان بالكبر والعجب كما أخرج الثوب الجديد في الصلاة وأبدله بالخليع لأحد هذين المعنيين // حديث إخراجه الثوب الجديد في الصلاة وإبداله بالخليع قلت المعروف نزع الشراك الجديد ورد الشراك الخلق أو نزع الخميصة وليس الأنبجانية وكلاهما تقدم في الصلاة
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَزُورَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْ زِيَارَتِهِ خَيْرٌ لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وهو ضد التواضع
روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم أن تعال فحدثنا فجاء سفيان فقيل له يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا فقال أردت أن أنظر كيف تواضعه
وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ مِنْ جُلُوسِ غَيْرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّوَاضُعُ خلافه
قال ابن وهب جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي لم تفعلون بي
_________
(1) حديث أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له الحديث تقدم في آداب الصحبة وفي أخلاق النبوة
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَمْشِيَ إِلَّا وَمَعَهُ غَيْرُهُ يمشي خلفه
قال أبو الدرداء لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مشى خلفه وكان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من عبيده إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة
ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال ما يبقى هذا من قلب العبد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات يمشي مع بعض الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم(3/354)
ما تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلا منكم شراً مني وقال أنس كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث تشاء (1) حديث الرجل الذي به جدري وإجلاسه إلى جنبه تقدم قريبا
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوماً ولا أبرص ولا مبتلي إلا أقعدهم على مائدته
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَعَاطَى بِيَدِهِ شُغْلًا فِي بَيْتِهِ وَالتَّوَاضُعُ خِلَافُهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ فَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ فَقَالَ الضَّيْفُ أَقُومُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأُصْلِحُهُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ ضَيْفَهُ قَالَ أَفَأُنَبِّهُ الْغُلَامَ فَقَالَ هي أول نومة نامها فقام وأخذ البطة وَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا فَقَالَ الضَّيْفُ قُمْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ذَهَبْتُ وَأَنَا عمر وَرَجَعْتُ وَأَنَا عمر مَا نَقَصَ مِنِّي شَيْءٌ وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَأْخُذَ مَتَاعَهُ وَيَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ خِلَافُ عَادَةِ الْمُتَوَاضِعِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذلك (2) حديث البذاذة من الإيمان أخرجه أبو داود وابن ماجه حديث أبي أمامة بن ثعلبة وقد تقدم
فقال هارون سألت معناً عن البذاذة فقال هو الدون من اللباس
وقال زيد بن وهب رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم وعوتب علي كرم الله وجهه في إزار مرقوع فقال يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب
وقال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء في القلب وقال طاوس إني لأغسل ثوبي هذين فأنكر قلبي ما داما نقيين
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف دينار فيقول ما أجودها لولا خشونة فيها فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة دراهم فيقول ما أجوده لولا لينه فقيل له أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين فقال إن لي نفساً ذواقة وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله عز وجل
وقال سعيد بن سويد صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست فنكس
_________
(1) حديث أنس كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث تقدم في آداب المعيشة
ومنها أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشي عنهم وهو الكبر دخل رجل وعليه جدري قد تقشر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده ناس من أصحابه يأكلون فما جلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه
(2) حديث حمله متاعه إلى بيته
أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة في شرائه للسراويل وحمله وتقدم
وقال علي كرم الله وجهه لَا يُنْقِصُ الرَّجُلَ الْكَامِلَ مِنْ كَمَالِهِ مَا حمل من شيء إلى عياله وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير يحمل سطلاً له من خشب إلى الحمام
وقال ثابت بن أبي مالك رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك وعن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر رضي الله عنه معلقاً لحماً في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله
وقال بعضهم رأيت علياً رضي الله عنه قد اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفته فقلت له أحمل عنك يا أمير المؤمنين فقال لا أبو العيال أحق أن يحمل
وَمِنْهَا اللِّبَاسُ إِذْ يَظْهَرُ بِهِ التَّكَبُّرُ وَالتَّوَاضُعُ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم البذاذة من الإيمان(3/355)
رأسه ملياً ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله وابتغاء لمرضاته كان حقاً على الله أن يدخر له عبقري الجنة (1) حديث سئل عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال {لا} الحديث تقدم غير مرة
فكيف طريق الجمع بينهما فاعلم أن الثوب الجديد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال وهو الذي أشار إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلي من الجمال ما ترى (2) حديث كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة أخرجه النسائي وابن ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ على عبده // حديث إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ على عبده أخرجه الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا وقد جعلهما المصنف حديثا واحدا
وقال بكر بن عبد الله المزني البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية وإنما خاطب بهذا قوماً يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح
وقد قال عيسى عليه السلام ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية
وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَاضَعَ بِالِاحْتِمَالِ إِذَا سُبَّ وَأُوذِيَ وأخذ حقه فذلك هو الأصل
وقد أوردنا ما نقل عن السلف من احتمال الأذى في كتاب الغضب والحسد
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَجَامِعُ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّوَاضُعِ سِيرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَمِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَلَّمَ
وَقَدْ قال أبو سلمة
قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَا تَرَى فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْمَلْبَسِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَطْعَمِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي كُلْ لِلَّهِ وَاشْرَبْ لِلَّهِ وَالْبَسْ لِلَّهِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَخَلَهُ زَهْوٌ أَوْ مُبَاهَاةٌ أَوْ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ وَسَرَفٌ وَعَالِجْ فِي بَيْتِكَ مِنَ الْخِدْمَةِ مَا كَانَ يُعَالِجُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ كان يعلف الناضح ويعقل البعير ويقم البيت ويحلب الشَّاةَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ وَيَأْكُلُ مَعَ خادمه ويطحن عنه إذا أعيا وَيَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنَ السُّوقِ وَلَا يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أن يلعقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه وينقلب إلى أهله يصافح الغني والفقير والكبير والصغير وَيُسَلِّمُ مُبْتَدِئًا عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْ صغير أو كبير أسود أو أحمر حر أو عبد من أهل الصلاة ليست له حلة لمدخله وحلة لمخرجه لا يستحي من أن يجيب إذا دعى وإن كان أشعث أغبر ولا يحقر ما دعى إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء هين المؤنة
_________
(1) حديث من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله الحديث أخرجه أبو سعيد الماليني في مسند الصوفية وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس من ترك زينة لله الحديث وفي إسناده نظر
فإن قلت فقد قال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء القلب
وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال لا ولكن من سفه الحق وغمص الناس
(2) حديث إن ثابت بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني امرؤ حبب إلي الجمال الحديث هو الذي قبله سمي فيه السائل وقد تقدم
فعرف أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر وقد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من التواضع
وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف كان
وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سنور داره فذلك ليس من التكبر
فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال على أن قوله خيلاء القلب يعني قد تورث خيلاء في القلب وقول نبينا صلى الله عليه وسلم إنه ليس من الكبر يعني أن الكبر لا يوجبه ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم يكون هو مورثاً للكبر
وبالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا المحبوب الْوَسَطُ مِنَ اللِّبَاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ شُهْرَةً بِالْجَوْدَةِ وَلَا بِالرَّدَاءَةِ
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غير سرف ولا مخيلة(3/356)
لين الخلق كريم الطبيعة جميل المعاشرة طليق الوجه بسام من غير ضحك محزون من غير عبوس شَدِيدٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ مُتَوَاضِعٌ فِي غَيْرِ مذلة جواد من غير سرف رحيم لكل ذي قربى ومسلم رقيق القلب دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع ولا يمد يده من طمع قال أبو سلمة فدخلت على عائشة رضي الله عنها فحدثتها بما قال أبو سعيد في زهد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ ما أخطأ منه حرفاً ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْتَلِئْ قَطُّ شِبَعًا وَلَمْ يَبُثَّ إِلَى أَحَدٍ شَكْوَى وَإِنْ كَانَتِ الْفَاقَةُ لَأَحَبَّ إِلَيْهِ من اليسار والغنى وإن كان ليظل جائعاً يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارق الأرض ومغاربها لفعل وربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع فيقول يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم وقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فأصبر أياماً يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي قالت عائشة رضي الله عنها فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله عز وجل // حديث أبي سعيد الخدري وعائشة قال الخدري لأبي سلمة عالج في بيتك من الخدمة ما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعالج في بيته كان يعلف الناضح الحديث وفيه قال أبو سلمة فدخلت على عائشة فحدثتها بذلك عن أبي سعيد فقالت ما أخطأ ولقد قصر أو ما أخبرك أنه لم يمتلئ قط شبعاً الحديث بطوله لم أقف له على إسناد
فما نقل من أحواله صلى الله عليه وسلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين فمن طلب التواضع فليقتد به ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه وسلم ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فَمَا أَشَدَّ جَهْلَهُ فَلَقَدْ كَانَ أَعْظَمَ خَلْقِ اللَّهِ مَنْصِبًا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ فَلَا عِزَّ ولا رفعة إلا في الاقتداء به ولذلك قال عمر رضي الله عنه إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نطلب العز في غيره لما عوتب في بذاذة هيئته عند دخوله الشام
وقال أبو الدرداء اعلم أن لله عباداً يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد الأرض فلما انقضت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر من غير تجبن وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم الله واستخلصهم لنفسه وهم أربعون صديقاً أو ثلاثون رجلاً قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئاً ولا يؤذونه ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحداً ولا يحرصون على الدنيا هم أطيب الناس خيراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة ليسوا اليوم في خشية وغداً في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر وهم فيما بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة قلوبهم تصعد ارتياحاً إلى الله واشتياقاً إليه وقدماً في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون قال الراوي فقلت يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد علي من تلك الصفة وكيف لي أن أبلغها فقال ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا فإنك إذا بغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر ذلك تبصر ما ينفعك وإذا علم الله من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه بالعصمة واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب الله تعالى المنزل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قال يحيى بن كثير فنظرنا(3/357)
في ذلك فما تلذذ المتلذذون بمثل حب الله وطلب مرضاته
اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته
وصلى الله عليه وسلم
بَيَانُ الطَّرِيقِ فِي مُعَالَجَةِ الْكِبْرِ وَاكْتِسَابِ التَّوَاضُعِ له
اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له
وفي معالجته مقامان
أحدهما استئصال أصله من سنخه وقلع شَجَرَتِهِ مِنْ مَغْرِسِهَا فِي الْقَلْبِ
الثَّانِي دَفْعُ العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره
المقام الأول في استئصال أصله وعلاجه عِلْمِيٌّ وَعَمَلِيٌّ وَلَا يَتِمُّ الشِّفَاءُ إِلَّا بِمَجْمُوعِهِمَا
أَمَّا الْعِلْمِيُّ فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَعْرِفَ رَبَّهُ تَعَالَى وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهُ مَهْمَا عَرَفَ نَفْسَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة وَإِذَا عَرَفَ رَبَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَلِيقُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ إِلَّا بِاللَّهِ أَمَّا مَعْرِفَتُهُ رَبَّهُ وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم المكاشفة وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ نَفْسَهُ فَهُوَ أَيْضًا يَطُولُ وَلَكُنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْفَعُ فِي إِثَارَةِ التواضع والمذلة وَيَكْفِيهِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى آيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين لمن فتحت بصيرته وقد قَالَ تَعَالَى قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إذا شاء أنشره فَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَوَّلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَإِلَى آخِرِ أَمْرِهِ وَإِلَى وَسَطِهِ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ لِيَفْهَمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَمَّا أَوَّلُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا وقد كان في حيز العدم دهوراً بل لم يكن لعدمه أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم وقد كان كذلك في القدم ثم خلقه الله من أرذل الأشياء ثم من أقذرها إذ قد خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ثُمَّ جَعَلَهُ عظماً ثم كسا العظم لحماً فقد كان هذا بداية وجوده حيث كان شيئاً مذكوراً فَمَا صَارَ شَيْئًا مَذْكُورًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَخَسِّ الْأَوْصَافِ وَالنُّعُوتِ إِذْ لَمْ يُخْلَقْ فِي ابْتِدَائِهِ كَامِلًا بَلْ خَلَقَهُ جَمَادًا مَيِّتًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُحِسُّ وَلَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَنْطِقُ وَلَا يَبْطِشُ وَلَا يُدْرِكُ وَلَا يَعْلَمُ فَبَدَأَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ حَيَاتِهِ وَبِضَعْفِهِ قَبْلَ قُوَّتِهِ وَبِجَهْلِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ وَبِعَمَاهُ قَبْلَ بَصَرِهِ وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قَبْلَ هُدَاهُ وَبِفَقْرِهِ قَبْلَ غِنَاهُ وَبِعَجْزِهِ قَبْلَ قدرته
فهذا معنى قوله مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فقدره ومعنى قوله هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ من نطفة أمشاج نبتليه كذلك خلقه أولاً ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِ فَقَالَ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَيَسَّرَ لَهُ فِي مدة حياته إلى الموت وكذلك قال مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إنا هديناه السبيل وإما شاكرا أو كفورا ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جماداً ميتاً تراباً أولاً ونطفة ثانياً وأسمعه بعد ما كان أصم وبصره بعد ما كان فاقداً للبصر وقواه بعد الضعف وعلمه بعد الجهل وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها وأغناه بعد الفقر وأشبعه بعد الجوع وكساه بعد العري وهداه بعد الضلال
فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره وإلى جهل الإنسان كيف أظهره فقال أو لم يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هو خصيم مبين {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إذا أنتم بشر تنتشرون} فانظر إلى نعمة الله كيف نقله من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجوداً بعد العدم وحياً بعد الموت وناطقاً بعد البكم وبصيراً بعد العمى وقوياً بعد الضعف وعالما بعد الجهل ومهديا بعد(3/358)
الضلال وقادراً بعد العجز وغنياً بعد الفقر فكان في ذاته لا شيء وأي شيء أخس من لا شيء وأي قلة أقل من العدم المحض ثم صار بالله شيئاً
وَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنَ التُّرَابِ الذَّلِيلِ الَّذِي يُوطَأُ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض أيضاً ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نَفْسَهُ وَإِنَّمَا أَكْمَلَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ بِهَا رَبَّهُ وَيَعْلَمَ بِهَا عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَأَنَّهُ لَا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا
ولذلك امتن عليه فقال ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين وعرف خسته أولاً فقال {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كان علقة} ثم ذكر منته عليه فقال {فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولاً بالاختراع
فمن كان هذا بدؤه وَهَذِهِ أَحْوَالَهُ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْبَطَرُ وَالْكِبْرِيَاءُ والفخر والخيلاء وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضُّعَفَاءِ وَلَكِنَّ هَذِهِ عَادَةُ الْخَسِيسِ إِذَا رُفِعَ مِنْ خِسَّتِهِ شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَتَعَظَّمَ وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ خِسَّةِ أَوَّلِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
نَعَمْ لَوْ أَكْمَلَهُ وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ وَأَدَامَ لَهُ الْوُجُودَ بِاخْتِيَارِهِ لَجَازَ أَنْ يَطْغَى وَيَنْسَى الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى وَلَكِنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ فِي دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات المختلفة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم يَهْدِمُ الْبَعْضُ مِنْ أَجْزَائِهِ الْبَعْضَ شَاءَ أَمْ أبى رضي أم سخط فَيَجُوعُ كُرْهًا وَيَعْطَشُ كُرْهًا وَيَمْرَضُ كُرْهًا وَيَمُوتُ كُرْهًا لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا خَيْرًا وَلَا شَرًّا يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ فَيَجْهَلُهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ فَيَنْسَاهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَنْسَى الشَّيْءَ وَيَغْفُلُ عَنْهُ فَلَا يغفل عنه ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه ويشتهى الشيء وربما يكون هلاكه فيه ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه يستلذ الأطعمة وتهلكه وترديه ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه وَلَا يَأْمَنُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ أَنْ يُسْلَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَتُفَلَّجَ أَعْضَاؤُهُ وَيُخْتَلَسَ عَقْلُهُ وَيُخْتَطَفَ رُوحُهُ وَيُسْلَبَ جَمِيعَ مَا يَهْوَاهُ فِي دُنْيَاهُ فَهُوَ مُضْطَرٌّ ذَلِيلٌ إِنْ تُرِكَ بَقِيَ وَإِنِ اخْتُطِفَ فَنِيَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ أَذَلُّ مِنْهُ لَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ وَأَنَّى يَلِيقُ الْكِبْرُ بِهِ لولا جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله
وأما آخره ومورده فَهُوَ الْمَوْتُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره} وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُسْلَبُ رُوحَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحِسَّهُ وَإِدْرَاكَهُ وَحَرَكَتَهُ فَيَعُودُ جَمَادًا كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَا يَبْقَى إِلَّا شَكْلُ أَعْضَائِهِ وَصُورَتِهِ لَا حِسَّ فِيهِ وَلَا حَرَكَةَ ثُمَّ يُوضَعُ فِي التُّرَابِ فَيَصِيرُ جِيفَةً مُنْتِنَةً قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة ثُمَّ تَبْلَى أَعْضَاؤُهُ وَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهُ وَتَنْخُرُ عِظَامُهُ ويصير رميماً رفاتاً ويأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما وبخديه فيقطعهما وبسائر أجزائه فَيَصِيرُ رَوْثًا فِي أَجْوَافِ الدِّيدَانِ وَيَكُونُ جِيفَةً يَهْرُبُ مِنْهُ الْحَيَوَانُ وَيَسْتَقْذِرُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ وَيَهْرُبُ منه لشدة الإنتان وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير تراباً يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان فيصير مفقوداً بعد ما أن موجوداً
وصار كأن لم يغن بالأمس حصيداً كما كان في أول أمره أمداً مديداً وَلَيْتَهُ بَقِيَ كَذَلِكَ فَمَا أَحْسَنَهُ لَوْ تُرِكَ تراباً
لَا بَلْ يُحْيِيهِ بَعْدَ طُولِ الْبِلَى لِيُقَاسِيَ شديد البلاء فَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ جَمْعِ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَيَخْرُجُ إِلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَيَنْظُرُ إِلَى قِيَامَةٍ قَائِمَةٍ وَسَمَاءٍ مُشَقَّقَةٍ مُمَزَّقَةٍ وَأَرْضٍ مُبَدَّلَةٍ وَجِبَالٍ مُسَيَّرَةٍ وَنُجُومٍ مُنْكَدِرَةٍ وَشَمْسٍ مُنْكَسِفَةٍ وَأَحْوَالٍ مُظْلِمَةٍ وَمَلَائِكَةٍ غِلَاظٍ شِدَادٍ وَجَهَنَّمَ تَزْفِرُ وَجَنَّةٍ يَنْظُرُ إِلَيْهَا الْمُجْرِمُ فَيَتَحَسَّرُ وَيَرَى صَحَائِفَ مَنْشُورَةً فَيُقَالُ لَهُ {اقْرَأْ كِتَابَكَ} فَيَقُولُ وَمَا هُوَ فَيُقَالُ كَانَ قَدْ وُكِّلَ بِكَ فِي حَيَاتِكَ الَّتِي كنت تفرح بها وتتكبر بِنَعِيمِهَا وَتَفْتَخِرُ بِأَسْبَابِهَا مَلَكَانِ رَقِيبَانِ يَكْتُبَانِ عَلَيْكَ(3/359)
ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود قَدْ نَسِيتَ ذَلِكَ وَأَحْصَاهُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَهَلُمَّ إِلَى الْحِسَابِ وَاسْتَعِدَّ لِلْجَوَابِ أَوْ تُسَاقُ إِلَى دَارِ الْعَذَابِ فَيَنْقَطِعُ قَلْبُهُ فَزَعًا مِنْ هَوْلِ هَذَا الْخِطَابِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ الصَّحِيفَةُ وَيُشَاهِدَ مَا فِيهَا مِنْ مَخَازِيهِ فَإِذَا شَاهَدَهُ قَالَ {يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أحصاها} فَهَذَا آخِرُ أَمْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {ثم إذا شاء أنشره} فَمَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّعَظُّمُ بَلْ ماله وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ أَوَّلُ حَالِهِ وَوَسَطُهُ وَلَوْ ظَهَرَ آخِرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى رُبَّمَا اخْتَارَ أن يكون كلباً أو خنزيراً ليصير مَعَ الْبَهَائِمِ تُرَابًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا يَسْمَعُ خطاباً أو يلقى عذاباً وإن كان عند الله مستحقاً للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب وهو بمعزل عن الحساب والعذاب والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق
ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة فَمَنْ هَذَا حَالُهُ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنَ العفو كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئاً حتى يعتقد له فضلاً وأي عبد لم يذنب ذنباً استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله
أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه ذَلِكَ حُزْنًا وَخَوْفًا وَإِشْفَاقًا وَمَهَانَةً وَذُلًّا
فَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ الْقَامِعُ لِأَصْلِ الْكِبْرِ
وَأَمَّا الْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ فَهُوَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ بِالْفِعْلِ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَخْلَاقِ الْمُتَوَاضِعِينَ كَمَا وَصَفْنَاهُ وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إنه كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد (1) حديث حكيم بن حزام بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائماً الحديث رواه أحمد مقتصرا على هذا وفيه إرسال خفي
فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ هُوَ مُنْتَهَى الذِّلَّةِ وَالضَّعَةِ أُمِرُوا بِهِ لِتَنْكَسِرَ بِذَلِكَ خُيَلَاؤُهُمْ وَيَزُولَ كِبْرُهُمْ وَيَسْتَقِرَّ التَّوَاضُعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِهِ أُمِرَ سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول قائماً هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح وسر
_________
(1) حديث كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد تقدم في آداب المعيشة
وقيل لسلمان
لم لا تلبس ثوباً جديداً فقال إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداً أشار به إلى العتق في الآخرة
وَلَا يَتِمُّ التَّوَاضُعُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْعَرَبُ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْإِيمَانِ وَبِالصَّلَاةِ جَمِيعًا وَقِيلَ الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ وَفِي الصَّلَاةِ أَسْرَارٌ لِأَجْلِهَا كَانَتْ عِمَادًا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِيهَا مِنَ التَّوَاضُعِ بِالْمُثُولِ قائماً وبالركوع والسجود وقد كانت الْعَرَبُ قَدِيمًا يَأْنَفُونَ مِنَ الِانْحِنَاءِ فَكَانَ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ الْوَاحِدِ سَوْطُهُ فَلَا يَنْحَنِي لِأَخْذِهِ وَيَنْقَطِعُ شِرَاكُ نَعْلِهِ فَلَا يُنَكِّسُ رَأْسَهُ لِإِصْلَاحِهِ حتى قال حكيم بن حزام بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائماً فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك(3/360)
الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت
الْمَقَامُ الثَّانِي فِيمَا يَعْرِضُ مِنَ التَّكَبُّرِ بِالْأَسْبَابِ السبعة المذكورة وقد ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْجَاهِ أَنَّ الْكَمَالَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَأَمَّا مَا عَدَاهُ مما يفنى بالموت فكمال وهمي فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر ولكنا نَذْكُرُ طَرِيقَ الْعِلَاجِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي جميع الأسباب السبعة
الأول النسب فيمن يَعْتَرِيهِ الْكِبْرُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَلْيُدَاوِ قَلْبَهُ بمعرفة أمرين
أحدهما أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَزَّزَ بكمال غيره ولذلك قيل
لئن فخرت بآباء ذوي شرف ... لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
فالمتكبر بالنسب إن كان خسيساً في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره بل لو كان الذي ينسب إليه حياً لكان له أن يقول الفضل لي ومن أنت وإنما أنت دودة خلقت من بولي أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس هيهات بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة
الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أَبَاهُ وَجَدَّهُ فَإِنَّ أَبَاهُ الْقَرِيبَ نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ وجده البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال {الذي أحسن كل شيء خلقه وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نسله من سلالة من ماء مهين} فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأ مسنوناً كيف يتكبر وأخس الأشياء ما إليه انتسابه إذ يقال يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة
فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول افتخر بالقريب دون البعيد فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربة فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل
وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان
فَهَذَا هُوَ النَّسَبُ الْحَقِيقِيُّ لِلْإِنْسَانِ وَمَنْ عَرَفَهُ لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم أفترى أن ذلك يبقي شيئاً من كبره لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره
فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب إذ لو كان أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه
السبب الثاني التكبر بِالْجَمَالِ وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَاطِنِهِ نَظَرَ العقلاء ولا ينظر إلى باطنه نَظَرَ الْبَهَائِمِ
وَمَهْمَا نَظَرَ إِلَى بَاطِنِهِ رَأَى مِنَ الْقَبَائِحِ مَا يُكَدِّرُ عَلَيْهِ تَعَزُّزَهُ بِالْجَمَالِ فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه الرجيع في أمعائه والبول في مثانته والمخاط في أنفه والبزاق في فيه والوسخ في أذنيه والدم في عروقه والصديد تحت بشرته والصنان تحت إبطه يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلاً عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه
وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى الأقذار
إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى القذر قال أنس رحمه الله كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ويقول خرج أحدكم من مجرى البول(3/361)
مرتين وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز
ما هذه مشية من في بطنه خراء إذ رآه يتبختر وكان ذلك قبل خلافته وهذا أوله ووسطه
ولو ترك نفسه في حياته يوماً لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط
فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار وَسَيَمُوتُ فَيَصِيرُ جِيفَةً أَقْذَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْذَارِ لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ صار هشيماً تذروه الرياح كيف ولو كان جمالة باقياً وعن هذه القبائح خالياً لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه كيف ولا بَقَاءَ لَهُ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ حِينٍ يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة أَوْ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ فَكَمْ مِنْ وُجُوهٍ جميلة قد سمجت بهذه الأسباب فمعرفة هذه الأمور تَنْزِعُ مِنَ الْقَلْبِ دَاءَ الْكِبْرِ بِالْجَمَالِ لِمَنْ أكثر تأملها
السبب الثالث التكبر بالقوة والأيدي وَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَأَنَّهُ لَوْ تَوَجَّعَ عِرْقٌ وَاحِدٌ فِي يَدِهِ لَصَارَ أَعْجَزَ مِنْ كل عاجز وأذل من كل ذليل وأنه لو سلبه الذباب شيئاً لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته وأن شَوْكَةً لَوْ دَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ لَأَعْجَزَتْهُ وَأَنَّ حمى يوم تحلل من قوته مالا يَنْجَبِرُ فِي مُدَّةٍ
فَمَنْ لَا يُطِيقُ شَوْكَةً ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِقُوَّتِهِ ثُمَّ إِنْ قَوِيَ الْإِنْسَانُ فَلَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حِمَارٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ فِيلٍ أَوْ جَمَلٍ وَأَيُّ افتخار في صفة يسبقك فيها الْبَهَائِمُ
السَّبَبُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْغِنَى وَكَثْرَةُ الْمَالِ وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بولاية السلاطين والتمكن من جهتهم وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَبُّرٌ بِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الإنسان كالجمال والقوة والعلم
وهذا أقبح أنواع الكبر فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى أمره على قلب هو أشد غلياناً من القدر فإن تغير عليه كان أذل الخلق وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو ظاهر الجهل كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى فِي الْيَهُودِ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْغِنَى والثروة والتجمل فأف لشرف يسبقك به اليهودي وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلاً مفلساً فهذه أسباب ليست في ذاته وما هو في ذاته ليس إليه دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال فالتفاخر به غاية الجهل وكل ما ليس إليك فليس لك وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه زال عنك وما أنت إلا عبد مملوك لا تقدر على شيء
ومن عرف ذلك لا بد وأن يزول كبره
ومثاله أن يفتخر الغافل بقوته وجماله وماله وحريته واستقلاله وسعة منازله وكثرة خيوله وغلمانه إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأن أبويه كانا مملوكين له فعلم ذلك وحكم به الحاكم فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف أن له مالكاً ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوساً في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله ولا يعرف طريقاً في الخلاص البتة أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوته وكماله أم يذل نفسه ويخضع وهذا حال كل عاقل بصير فإنه(3/362)
يرى نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك
فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة
فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل فإنهما كمالان في النفس جديران بأن يفرح بهما ولكن التكبر بهما أيضاً نوع من الجهل خفي كما سنذكره
السبب السادس الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة وجهد جهيد وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عظيم عند الناس وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما بل لا قدر لهما أصلاً إلا إذا كان معهما علم وعمل
ولذلك قال كعب الأحبار إن للعلم طغياناً كطغيان المال
وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين
أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ آكَدُ وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مِنَ الْجَاهِلِ مَا لَا يُحْتَمَلُ عُشْرُهُ مِنَ الْعَالِمِ فَإِنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى عَنْ مَعْرِفَةٍ وَعِلْمٍ فجنايته أفحش إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه // حديث يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه الحديث متفق عليه من حديث أسامة بن زيد بلفظ يؤتى بالرجل وتقدم في العلم
وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز وجل {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كمثل الحمار يحمل أسفاراً} أراد به علماء اليهود
وقال في بلعم بن باعوراء {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} حتى بلغ {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} قال ابن عباس رضي الله عنهما أوتي بلعم كتاباً فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} أي سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته ويكفي العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك
وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيراً فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال والعياذ بالله منه
فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر من هذا حاله فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول يا ليتني كنت هذه التبنة ويقول الآخر ليتني كنت طيراً أوكل ويقول الآخر ليتني لم أك شيئاً مذكوراً كل ذلك خوفاً من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالاً من الطير ومن التراب
ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق
ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه رسولاً يخرجه من كل ما هو فيه عرياناً ذليلاً ويلقيه على بابه في الحر والشمس زماناً طويلاً حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه(3/363)
وفتش عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي الفريقين يكون فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه ولم يتكبر على أحد من الخلق بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة
الأمر الثاني أن العالم يَعْرِفَ أَنَّ الْكِبْرَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ إِذَا تَكَبَّرَ صَارَ ممقوتاً عند الله بغيضاً وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له إن لك عندي قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لنفسك قدراً فلا قدر لك عندي فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه
وهذا يزيل التكبر عن قلبه وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلاً أو تصور ذلك
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن من نازع الله تعالى في رداء الكبرياء قصمه وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم فهذا أيضاً مما يبعثه على التواضع لا محالة
فإن قلت فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر والكبير من هو كبير عند الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك فكم من مسلم نظر إلى عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين إلا أبا بكر وحده فالعواقب مطوية عن العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة
فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد
بل إن نظر إلى جاهل قال هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني
وإن نظر إلى عالم قال هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله وإن نظر إلى كبير هو أكبر منه سناً قال هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله وإن نظر إلى صغير قال إني عصيت الله قبله فكيف أكون مثله وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال ما يدريني لعله يختم له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها إلي فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال في سعادة الآخرة والقرب من الله لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له ولعمري هذا الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة إلى نفسه مشغول القلب بخوفه لعاقبته لا أن يشتغل بخوف غيره فإن الشفيق بسوء الظن مولع وشفقه كل إنسان على نفسه
فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض وإن عمهم الخطر إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره حتى كأن كل واحد هو وحده في مصيبته وخطره
فإن قلت فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق وقد أمرت ببغضهما ثم مع ذلك أتواضع لهما والجمع بينهما متناقض فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق(3/364)
بكبر النفس والإدلال بالعلم والورع فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقاً جلس بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عند بكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه قد غضب لله كما وقع لعابد بني إسرائيل مع خليعهم وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير فإن الغضبان أيضاً يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون
والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور
أحدهما التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك
والثاني أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك فله المنة فيه لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب بنفسك وإذا لم تعجب لم تتكبر
والثالث ملاحظة إبهام عاقبتك وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه
فإن قلت فكيف أغضب مع هذه الأحوال فأقول تغضب لمولاك وسيدك إذ أمرك أن تغضب له لا لنفسك وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجياً وصاحبك هالكاً بل يكون خوفك على نفسك بما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة وأعرفك ذلك بمثال لتعلم أنه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به ويغضب عليه
فإن كان الغلام محباً مطيعاً لمولاه فلا يجد بداً أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء الأدب وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه بل هو متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه لأن الولد أعز لا محالة من الغلام
فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم لما سبق لهما من الحسنى في الأزل ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في الآخرة
فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع
وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة وذلك غاية الغرور
فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم الأمر
السبب السابع التكبر بالورع والعبادة وذلك أيضاً فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْعِبَادِ وَسَبِيلُهُ أَنْ يُلْزِمَ قلبه التواضع لسائر العباد وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان لما عرفه من فضيلة العلم وقد قال تعالى {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْ أصحابي // حديث فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رجل من أصحابي أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وتقدم في العلم
إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم(3/365)
فإن قال العابد ذلك لعالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر فيقال له أما عرفت أن الحسنات يذهبن السيئات وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له وكفارة لذنوبه وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا كان هذا الأمر غائباً عنه لم يجز له أن يحتقر عالماً بل يجب عليه التواضع له
فإن قلت فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي فاعلم أن ذلك كان ممكناً لو علم العالم عاقبة أمره وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هيناً وهو عند الله عظيم وقد مقته به وإذا كان هذا ممكناً كان على نفسه خائفاً فإذا كان كل واحد من العابد والعالم خائفاً على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره فينبغي أن يكون الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء وذلك يمنعه من التكبر بكل حال
فهذا العابد مع العالم فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوباً وأكثر منه عبادة وأشد منه حباً لله
وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك
فلا ينبغي أن تتكبر عليه ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنباً لأن عدد ذنوبك في طول عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن تعلم أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر عليه إذ ذنوب القلوب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتاً وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه وقد كفر الله بذلك عنه سيئاته فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات فهذا ممكن والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريباً عندك إن كنت مشفقاً على نفسك فلا تتفكر فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى وعذاب غيرك لا يخفف شيئاً من عذابك فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن ترى نفسك فوق غيرك
وقد قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ مَا تَمَّ عَقْلُ عبد حتى يكون فيه عشر خصال فعد تسعة حتى بلغ العاشر فقال العاشرة وما العاشرة بها شاد مَجْدُهُ وَبِهَا عَلَا ذِكْرُهُ أَنْ يَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْرًا مِنْهُ
وَإِنَّمَا النَّاسُ عِنْدَهُ فِرْقَتَانِ
فِرْقَةٌ هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَرْفَعُ وَفِرْقَةٌ هِيَ شَرٌّ مِنْهُ وَأَدْنَى
فَهُوَ يَتَوَاضَعُ لِلْفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا بقلبه إن رَأَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ سَرَّهُ ذَلِكَ وَتَمَنَّى أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَإِنْ رَأَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ قَالَ لَعَلَّ هَذَا يَنْجُو وَأَهْلِكُ أَنَا فَلَا تَرَاهُ إِلَّا خَائِفًا مِنَ العاقبة ويقوم لَعَلَّ بِرَّ هَذَا بَاطِنٌ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ فِيهِ خُلُقًا كَرِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَخْتِمَ له بأحسن الأعمال ويرى ظَاهِرٌ فَذَلِكَ شَرٌّ لِي
فَلَا يَأْمَنُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الطَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَهَا الْآفَاتُ فأحبطتها ثم قَالَ فَحِينَئِذٍ كَمُلَ عَقْلُهُ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ
فهذا كلامه
وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقياً وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فماله سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال
نعم إذا غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيراً من نفسه وذلك هو الفضيلة كما روي أن عابداً أوى إلى جبل فقيل له في النوم ائت فلاناً الإسكاف فسله أن يدعو لك
فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب(3/366)
فيتصدق ببعضه ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول إن هذا لحسن ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة الله فأتى في النوم ثانياً فقيل له ائت فلاناً الإسكاف فقل له ما هذا الصفار الذي بوجهك فأتاه فسأله فقال له ما رأيت أحداً من الناس إلا وقع لي أنه سينجو وأهلك أنا فقال العابد بهذه
والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قَوْلُهُ تَعَالَى {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنهم إلى ربهم راجعون} أَيْ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الطَّاعَاتِ وَهُمْ عَلَى وَجَلٍ عَظِيمٍ مِنْ قَبُولِهَا وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ هم من خشية ربهم مشفقون} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مشفقين} وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعَ تَقَدُّسِهِمْ عَنِ الذُّنُوبِ وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى الْعِبَادَاتِ على الدءوب بالإشفاق فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يفترون وهم من خشيته مشفقون فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل وينكشف عند خاتمة الأجل غَلَبَ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكِبْرَ وَهُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ
فَالْكِبْرُ دَلِيلُ الْأَمْنِ وَالْأَمْنُ مُهْلِكٌ
وَالتَّوَاضُعُ دَلِيلُ الْخَوْفِ وَهُوَ مُسْعِدٌ فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق والنظر إليهم بعين الاستصغار أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِظَاهِرِ الْأَعْمَالِ
فَهَذِهِ مَعَارِفُ بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير إِلَّا أَنَّ النَّفْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدْ تُضْمِرُ التَّوَاضُعَ وَتَدَّعِي الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكِبْرِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ عَادَتْ إِلَى طَبْعِهَا ونسيت وعدها فعلى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي الْمُدَاوَاةِ بِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ بِالْعَمَلِ وَتُجَرَّبَ بِأَفْعَالِ الْمُتَوَاضِعِينَ فِي مَوَاقِعِ هَيَجَانِ الْكِبْرِ في النفس
وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانان هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت الامتحانات كثيرة
الامتحان الأول أَنْ يُنَاظِرَ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ أَقْرَانِهِ فَإِنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِهِ فَثَقُلَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحق فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ كِبْرًا دَفِينًا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِيهِ وَيَشْتَغِلْ بِعِلَاجِهِ
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ فَبِأَنْ يُذَكِّرَ نَفْسَهُ خِسَّةَ نَفْسِهِ وَخَطَرَ عَاقِبَتِهِ وَأَنَّ الْكِبْرَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا الْعَمَلُ فَبِأَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ وَأَنْ يطلق اللسا 6 ن بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَيُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ وَيَشْكُرَهُ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ وَيَقُولَ مَا أَحْسَنَ مَا فَطِنْتَ لَهُ وَقَدْ كُنْتُ غَافِلًا عَنْهُ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا كَمَا نَبَّهْتَنِي لَهُ فَالْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا وَجَدَهَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَشْكُرَ مَنْ دَلَّهُ عَلَيْهَا
فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَةً صَارَ ذَلِكَ لَهُ طَبْعًا وَسَقَطَ ثِقَلُ الْحَقِّ عَنْ قَلْبِهِ وَطَابَ لَهُ قَبُولُهُ وَمَهْمَا ثَقُلَ عَلَيْهِ الثَّنَاءُ عَلَى أَقْرَانِهِ بِمَا فِيهِمْ فَفِيهِ كبر فإن كان ذلك لا يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء فليعالج الرياء بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند الله لا عند الخلق إلى غير ذلك من أدوية الرياء
وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعاً ففيه الكبر والرياء جميعاً ولا ينفعه الخلاص من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني
فليعالج كلا الداءين فإنهما جميعاً مهلكان
الِامْتِحَانُ الثَّانِي أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْأَقْرَانِ وَالْأَمْثَالِ فِي الْمَحَافِلِ وَيُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَيَمْشِيَ خَلْفَهُمْ ويجلس في الصدور تحتهم فإن ثقل عليه ذلك فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ فَلْيُوَاظِبْ عَلَيْهِ تَكَلُّفًا حَتَّى يَسْقُطَ عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر وههنا لِلشَّيْطَانِ مَكِيدَةٌ وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ فِي صَفِّ النعال أو يجعل بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَقْرَانِ بَعْضُ الْأَرْذَالِ فَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ تَوَاضُعٌ وَهُوَ عَيْنُ الْكِبْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ يخف على صدور الْمُتَكَبِّرِينَ إِذْ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَكَانَهُمْ بِالِاسْتِحْقَاقِ والتفضل فيكون قد تكبر وتكبر بِإِظْهَارِ التَّوَاضُعِ أَيْضًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ أقرانه ويجلس بينهم بِجَنْبِهِمْ وَلَا يَنْحَطَّ عَنْهُمْ إِلَى صَفِّ(3/367)
النِّعَالِ فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُ خُبْثَ الْكِبْرِ مِنَ الْبَاطِنِ
الِامْتِحَانُ الثَّالِثُ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَقِيرِ وَيَمُرَّ إِلَى السُّوقِ فِي حَاجَةِ الرُّفَقَاءِ وَالْأَقَارِبِ فَإِنْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَهُوَ كِبْرٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالثَّوَابَ عَلَيْهَا جَزِيلٌ فَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهَا لَيْسَ إِلَّا لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ فَلْيَشْتَغِلْ بِإِزَالَتِهِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ مَعَ تَذَكُّرِ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي تُزِيلُ دَاءَ الْكِبْرِ
الِامْتِحَانُ الرَّابِعُ أَنْ يَحْمِلَ حَاجَةَ نَفْسِهِ وَحَاجَةَ أَهْلِهِ وَرُفَقَائِهِ مِنَ السُّوقِ إِلَى الْبَيْتِ فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُهُ ذَلِكَ فهو كبر أو رياء فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر وإن كان لا يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وَعِلَلِهِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْ وَقَدْ أَهْمَلَ النَّاسُ طِبَّ الْقُلُوبِ وَاشْتَغَلُوا بِطِبِّ الْأَجْسَادِ مَعَ أَنَّ الْأَجْسَادَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ لَا مَحَالَةَ وَالْقُلُوبُ لَا تُدْرِكُ السَّعَادَةَ إِلَّا بِسَلَامَتِهَا إِذْ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أَتَى الله بقلب سليم} ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة وفي الخبر من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر (1) حديث من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بزيادة فيه وفي إسناده القاسم اليعمري ضعيف جدا
وقال صلى الله عليه وسلم إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق أصابعي وأجيب دعوة المملوك فمن رغب عن سنتي فليس مني // حديث إنما أن عبد آكل بالأرض وألبس الصوف الحديث تقدم بعضه ولم أجد بقيته
وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له إن أقواماً يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس عباءة فصلى فيها بالناس
وهذه مواضع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء وما يكون في الخلوة فهو الكبر فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ومن لا يدرك المرض لا يداويه
بَيَانُ غَايَةِ الرِّيَاضَةِ فِي خُلُقِ التَّوَاضُعِ
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ كَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ لَهُ طَرَفَانِ وواسطة فَطَرَفُهُ الَّذِي يَمِيلُ إِلَى الزِّيَادَةِ يُسَمَّى تَكَبُّرًا وطرفه الذي يَمِيلُ إِلَى النُّقْصَانِ يُسَمَّى تَخَاسُسًا وَمَذَلَّةً وَالْوَسَطُ يُسَمَّى تَوَاضُعًا
وَالْمَحْمُودُ أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مذلة ومن غير تخاسس فإن كلا طرفي الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَأَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَاطُهَا
فَمَنْ يَتَقَدَّمْ عَلَى أَمْثَالِهِ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ وَمَنْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُمْ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ أَيْ وَضَعَ شَيْئًا مِنْ قَدْرِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ
وَالْعَالِمُ إِذَا دخل عليه إسكاف فَتَنَحَّى لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَهُ فِيهِ ثُمَّ تقدم وسوى له نعله وعدا إِلَى بَابِ الدَّارِ خَلْفَهُ فَقَدْ تَخَاسَسَ وَتَذَلَّلَ وهذا أَيْضًا غَيْرُ مَحْمُودٍ بَلِ الْمَحْمُودُ عِنْدَ اللَّهِ الْعَدْلُ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ بِمِثْلِ هَذَا لِأَقْرَانِهِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْ دَرَجَتِهِ فَأَمَّا تَوَاضُعُهُ لِلسُّوقِيِّ فَبِالْقِيَامِ وَالْبِشْرِ فِي الْكَلَامِ وَالرِّفْقِ فِي السُّؤَالِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَالسَّعْيِ فِي حَاجَتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وأن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره فَلَا يَحْتَقِرُهُ وَلَا يَسْتَصْغِرُهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ خاتمة
_________
(1) حديث من حمل الشيء والفاكهة فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة وضعفه بلفظ من حمل بضاعته
الامتحان الخامس أن يلبس ثياباً بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلوة كبر
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر(3/368)
أمره
فإذن سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان فليرفع نفسه إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق وفي سائر الأخلاق
والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر
والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من بيان أخلاق الكبر والتواضع
الشطر الثاني من الكتاب في العجب وفيه
بيان ذم العجب وآفاته
وبيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما وبيان علاج العجب على الجملة وبيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه بَيَانُ ذَمِّ الْعُجْبِ وَآفَاتِهِ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ مَذْمُومٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عنكم شيئاً} ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} فَرَدَّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِعْجَابِهِمْ بِحُصُونِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} وَهَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى الْعُجْبِ بِالْعَمَلِ
وَقَدْ يعجب الإنسان بالعمل هُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ كَمَا يُعْجَبُ بِعَمَلٍ هُوَ مُصِيبٌ فِيهِ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ المرء بنفسه (1) حديث أبي ثعلبة إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وقد تقدم
وقال ابن مسعود الهالك فِي اثْنَتَيْنِ الْقُنُوطِ وَالْعُجْبِ
وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ السَّعَادَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ وَالْجِدِّ وَالتَّشَمُّرِ وَالْقَانِطُ لَا يَسْعَى وَلَا يَطْلُبُ وَالْمُعْجَبُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدْ سَعِدَ وَقَدْ ظَفِرَ بمراده فلا يسعى
فالموجود لا يطلب والمحال لا يطلب والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة له ومستحيلة في اعتقاد القانط فمن ههنا جمع بينهما
وقد قال تعالى {فلا تزكوا أنفسكم} قال ابن جريج معناه إذا عملت خيراً فلا تقل عملت
وقال زيد بن أسلم
لا تبروها أي لا تعتقدوا أنها بارة وهو معنى العجب
ووقى طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بنفسه فأكب عليه حتى أصيبت كفه فكأنه أعجبه فعله العظيم إذ فداه بروحه حتى جرح فتفرس ذلك عمر فيه فقال
مازال يعرف في طلحة فأو منذ أصيبت إصبعه مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ // حديث وقى طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وأكب عليه حتى أصيبت كفه أخرجه البخاري من وراية قيس بن أبي حازم قال رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم
والنأو هو العجب في اللغة إلا أنه لم ينقل فيه أنه أظهره واحتقر مسلماً ولما كان وقت الشورى قال له ابن عباس أين أنت من طلحة قال ذلك رجل فيه تحوة
فإذا كان لا يتخلص من العجب أمثالهم فكيف يتخلص من الضعفاء إن
_________
(1) حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وقال لأبي ثعلبة حيث ذكر آخر هذه الأمة فقال إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك(3/369)
لم يأخذوا حذرهم وقال مطرف لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أبيت قائماً وأصبح معجباً
وقال صلى الله عليه وسلم لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب // حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب أخرجه البزار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أنس وفيه سلام بن أبي الصهباء قال البخاري منكر الحديث
وقال أحمد حسن الحديث ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف جدا
فجعل العجب أكبر الذنوب
وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على العبادة فأطال الصلاة يوماً ورجل خلفه ينظر ففطن له بشر فلما انصرف عن الصلاة قال له لا يعجبنك ما رأيت مني فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة طويلة ثم صار إلى ما صار إليه
وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئاً قالت إذا ظن أنه محسن وقد قال تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وَالْمَنُّ نَتِيجَةُ اسْتِعْظَامِ الصَّدَقَةِ وَاسْتِعْظَامُ الْعَمَلِ هُوَ العجب
فظهر بهذا أن العجب مذموم جداً
بَيَانُ آفَةِ الْعُجْبِ
اعْلَمْ أَنَّ آفَاتِ الْعُجْبِ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْعُجْبَ يَدْعُو إِلَى الْكِبْرِ لِأَنَّهُ أحد أسبابه كما ذكرناه فَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْعُجْبِ الْكِبْرُ وَمِنَ الْكِبْرِ الْآفَاتُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا تَخْفَى هَذَا مَعَ الْعِبَادِ وَأَمَّا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعُجْبُ يَدْعُو إِلَى نِسْيَانِ الذُّنُوبِ وَإِهْمَالِهَا فَبَعْضُ ذُنُوبِهِ لَا يَذْكُرُهَا ولا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها وما يتذكره منها فيستصغره ولا يستعظمه فلا يجتهد في تداركه وتلافيه بَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ والأعمال فإنه يستعظمها ويتبجح بها وَيَمُنُّ عَلَى اللَّهِ بِفِعْلِهَا وَيَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عليه بالتوفيق والتمكين منها ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها
ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعاً فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب والمعجب يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ وَبِرَأْيِهِ وَيَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَيَظُنُّ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وَأَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَّةً وَحَقًّا بِأَعْمَالِهِ الَّتِي هِيَ نعمة وعطية من عطاياه وَيُخْرِجُهُ الْعُجْبُ إِلَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْمَدَهَا وَيُزَكِّيَهَا وَإِنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ وَعَمَلِهِ وَعَقْلِهِ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِفَادَةِ وَمِنَ الِاسْتِشَارَةِ وَالسُّؤَالِ فَيَسْتَبِدُّ بِنَفْسِهِ وَرَأْيِهِ وَيَسْتَنْكِفُ مِنْ سُؤَالِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَرُبَّمَا يُعْجَبُ بِالرَّأْيِ الْخَطَأِ الَّذِي خَطَرَ لَهُ فَيَفْرَحُ بِكَوْنِهِ مِنْ خَوَاطِرِهِ وَلَا يَفْرَحُ بِخَوَاطِرِ غَيْرِهِ فَيُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يسمع نصح وَلَا وَعْظَ وَاعِظٍ بَلْ يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ بعين الاستجهال ويصر على خطئه فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيحقق فيه وإن كان في أمر ديني لا سيما فيما يتعلق بأصول العقائد فيهلك به ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه واستضاء بنور القرآن واستعان بعلماء الدين وواظب على مدارسة العلم وتابع سؤال أهل البصيرة لكان ذلك يوصله إلى الحق
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آفَاتِ الْعُجْبِ فَلِذَلِكَ كَانَ من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يفتر فِي السَّعْيِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ فَازَ وَأَنَّهُ قد استغنى وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه
نسأل الله تعالى العظيم حسن التوفيق لطاعته
بيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما
اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل ومال وغيره حالتان
إحداهما أن يكون خائفاً على زواله ومشفقاً على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بمعجب
والأخرى أن لا يكون خائفاً من زواله لكن يكون فرحاً به من حيث إنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه(3/370)
وهذا أيضاً ليس بمعجب
وله حالة ثالثة هي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحاً به مطمئناً إليه ويكون فرحه به من حيث إنه كمال ونعمة وخير ورفعة لا من حيث إنه عطية من الله تعالى ونعمة منه فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث إنه منسوب إلى الله تعالى بأنه منه فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها عنه زال العجب بذلك عن نفسه
فإذن العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقاً وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعاداً يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالاً بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة وكذلك قد يعطى غيره شيئاً فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجباً فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلاً عليه
وقال قتادة في قوله تعالى {ولا تمنن تستكثر} أي لا تدل بعملك وفي الخبر إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك // حديث إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه الحديث لم أجد له أصلا
والإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلاً بعمله لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك
فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه والله تعالى أعلم
بَيَانُ عِلَاجِ الْعُجْبِ عَلَى الْجُمْلَةِ
اعْلَمْ أَنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ هُوَ مُقَابَلَةُ سَبَبِهَا بِضِدِّهِ وَعِلَّةُ الْعُجْبِ الْجَهْلُ الْمَحْضُ فَعِلَاجُهُ الْمَعْرِفَةُ الْمُضَادَّةُ لذلك الجهل فقط فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه
فنقول الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه فهو محله ومجراه أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره فهذا جهل لأن المحل مسخر ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل وبقدرته تم فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ومن غير وسيلة يدلي بها فينبغي أن يكون إعحابه بجود الله وكرمه وفضله إذ أفاض عليه مَا لَا يَسْتَحِقُّ وَآثَرَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ من غير سابقة ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ونظر إليهم وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة فيه ولا لوسيلة ولا لجماله ولا لخدمة فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين وما سببه ولا ينبغي أن يعجب بنفسه
نعم يجوز أن يعجب العبد فيقول الملك حكم عدل لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ولما آثرني بها فيقال وتلك الصفة أيضاً هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك من غير وسيلة أو هي عطية غيره فإن كانت من عطية الملك أيضاً لم يكن لك أن تعجب بها بل كانوا كما لو أعطاك فرساً(3/371)
فلم تعجب به
فأعطاك علاما فصرت تعجب به وتقول إنما أعطاني غلاماً لأني صاحب فرس فأما غيري فلا فرس له فيقال وهو الذي أعطاك الفرس فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معاً أو يعطيك أحدهما بعد الآخر فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك
وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة وهذا يتصور في حق الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت وفقني للعبادة لحبي له فيقال ومن خلق الحب في قلبك فتقول هو فيقال فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك إذ لا وسيلة لك ولا علاقة فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك فإذاً لا معنى لعجب العابد بعبادته وعجب العالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده والمحل أيضاً من فضله وجوده
فإن قلت لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثواباً ولولا أنها عملي لما انتظرت ثواباً فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من وجهين
أحدهما هو صريح الحق
والآخر فيه مسامحة
أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه فما عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فهذا هو الحق الذي انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك وخلق أعضاءك وخلق فيها القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئاً من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ثم خلق الحركات في أعضائك مستبداً باختراعها من غير مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علماً بالمراد ولم يخلق علماً ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئاً بعد شيء هو الذي خيل لك أنك أوجدت عملك وقد غلطت
وإيضاح ذلك وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر فإنه أليق به فارجع إليه
ونحن الآن نزيل إشكالك بالجواب الثاني الذي فيه مسامحة ما وهو أن تحسب أن العمل حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وسائر أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه وهذا المفتاح بيد الله ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة
أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن ولو جلست على بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها ولو أعطاك المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط فإذا أعطاك الخازن المفاتيح وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو بما إليك من مد اليد وأخذها فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤنة في تحريك اليد بأخذ المال قريبة وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح
فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك الموانع والصوارف حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك فمن العجائب أن تعجب بنفسك(3/372)
ولا تعجب بمن إليه الأمر كله ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من عباده إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك وسلط أخدان السوء ودعاة الشر عليهم وصرفهم عنك ومكنك من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك وصرف عنهم بواعث الخير ودواعيه وسلطها عليك حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر فعل ذلك كله بك من غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي بل آثرك وقدمك واصطفاك بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك فإذن لا تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلاً إلى مخالفتها فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلاً تحقيقاً فله الشكر والمنة لا لك وسيأتي في كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل إلا الله ولا خالق سواه والعجب ممن يتعجب إذا رزقه الله عقلاً وأفقره فمن أفاض عليه المال من غير علم فيقول كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل وأفاض على هذا نعيم الدنيا وهو الغافل الجاهل حتى يكاد يرى هذا ظلماً ولا يدري المغرور أنه لو جمع له بين العقل والمال جميعا لكان ذلك بالظلم أشبه في ظاهر الحال إذ يقول الجاهل الفقير يا رب لم جمعت له بين العقل والغنى وحرمتني منهما فهلا جمعتهما لي أو لا هلا رزقتني أحدهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له ما بال العقلاء فقراء فقال إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه
والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالاً من نفسه ولو قيل له هل تؤثر جهله وغناه عوضاً عن عقلك وفقرك لامتنع عنه فإذن ذلك يدل على أن نعمة الله عليه أكبر فلم يتعجب من ذلك والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على الدميمة القبيحة فتعجب وتقول كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك القبح ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال فإذن نعمة الله عليها أكبر
وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال كقول من أعطاه الملك فرساً فيقول أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس فيقول كنت لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس فهب أني ما أعطيتك فرساً أصارت نعمتي عليك وسيلة لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها ومنشأ جميع ذلك الجهل ويزال ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الْمُحَقَّقِ بِأَنَّ الْعَبْدَ وَعَمَلَهُ وَأَوْصَافَهُ كل ذلك من عند الله تعالى نعمة ابتدأه به قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا يَنْفِي الْعُجْبَ وَالْإِدْلَالَ وَيُورِثُ الخضوع والشكر والخوف من زوال النعمة
ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعلمه وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى ولذلك قال داود عليه السلام يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم وفي رواية ما تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي وإما يصوم وإما يذكرك فأوحى الله تعالى إليه يا داود ومن أين لهم ذلك أن ذلك لم يكن إلا بي ولولا عوني إياك ما قويت وسأكلك إلى نفسك قال ابن عباس إنما أصاب داود ما أصاب من الذنب بعجبه بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلاً به حتى وكل إلى نفسه فأذنب ذنباً أورثه الحزن والندم
وقال داود يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال إني ابتليتهم فصبروا فقال يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى فإني لم أخبرهم بأي شيء أبتليهم ولا في أي شهر ولا في أي يوم وأنا مخبرك في سنتك هذه وشهرك هذا أبتليك غداً بامرأة فاحذر نفسك فوقع فيما وقع فيه
وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم(3/373)
ونسوا فضل الله تعالى عليهم وقالوا لا نغلب اليوم من قلة (1) حديث ما منكم من أحد ينجيه عمله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا تراباً وتبناً وطيراً مع صفاء أعمالهم وقلوبهم فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله أو يدل به وَلَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَإِذَنْ هَذَا هُوَ العلاج القامع لمادة العجب من القلب
ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها بل هو ينظر إلى الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من ذلك فيقول إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن يعود ويسترجع ما وهب فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء وهذا لا يبقى معه عجب بحال والله تعالى أعلم
بَيَانُ أَقْسَامِ مَا بِهِ الْعُجْبُ وَتَفْصِيلُ عِلَاجِهِ
اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر كما ذكرناه وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله
فما به العجب ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ
الْأَوَّلُ أَنْ يُعْجَبَ بِبَدَنِهِ فِي جماله وهيئته وصحته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صورته وحسن صوته وبالجملة تفصيل خلقته فيلتفت إلى جمال نفسه وَيَنْسَى أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار باطنه وفي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَفِي آخِرِهِ وَفِي الْوُجُوهِ الْجَمِيلَةِ والأبدان الناعمة أنها كَيْفَ تَمَزَّقَتْ فِي التُّرَابِ وَأَنْتَنَتْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى اسْتَقْذَرَتْهَا الطِّبَاعُ
الثَّانِي الْبَطْشُ وَالْقُوَّةُ كَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمِ عَادٍ حِينَ قَالُوا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلاً ليطبقه على عسكر موسى عليه السلام فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في عنقه وقد يتكل المؤمن أيضاً على قوته كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة ولم يقل إن شاء الله تعالى فحرم ما أراد من الولد // حديث قال سليمان لأطوفن الليلة بمائة امرأة الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
وكذلك قول داود عليه السلام إن ابتليتني صبرت وكان إعجاباً منه بالقوة فلما ابتلي بالمرأة لم يصبر
ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب وإلقاء النفس في التهلكة والمبادرة إلى الضرب والقتل لكل من قصده بالسوء وعلاجه ما ذكرناه وهو أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُمَّى يَوْمٍ تُضْعِفُ قُوَّتَهُ وَأَنَّهُ إِذَا أُعْجِبَ بِهَا رُبَّمَا سَلَبَهَا اللَّهُ تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه
_________
(1) حديث قولهم يَوْمَ حُنَيْنٍ لَا نُغْلَبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من رواية الربيع بن أنس مرسلا أن رجلا قال يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة فشق ذلك عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عز وجل {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} ولابن مردويه في تفسيره من حديث أنس لما التقوا يوم حنين أعجبتهم كثرتهم فقالوا اليوم نقاتل ففروا فيه الفرح بن فضالة ضعفه الجمهور
وكلوا إلى أنفسهم فقال تَعَالَى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}
روى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت
يا أيوب أنى لك ذلك أي من أين لك ذلك قال فأخذ رماداً ووضعه على رأسه وقال منك يا رب منك يا رب فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى
ولهذا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم خَيْرُ النَّاسِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برحمته(3/374)
الثَّالِثُ الْعُجْبُ بِالْعَقْلِ وَالْكِيَاسَةِ وَالتَّفَطُّنِ لِدَقَائِقِ الْأُمُورِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَثَمَرَتُهُ الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَتَرْكُ الْمَشُورَةِ وَاسْتِجْهَالُ النَّاسِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرَأْيِهِ وَيَخْرُجُ إِلَى قِلَّةِ الْإِصْغَاءِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقاراً لهم وإهانة وَعِلَاجُهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا رُزِقَ مِنَ الْعَقْلِ وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ بِأَدْنَى مَرَضٍ يُصِيبُ دِمَاغَهُ كَيْفَ يُوَسْوِسُ وَيُجَنُّ بِحَيْثُ يُضْحَكُ منه فلا يأمن من أَنْ يُسْلَبَ عَقْلَهُ إِنْ أُعْجِبَ بِهِ وَلَمْ يقم بشكره وليستقصر عقله وعلمه وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَإِنِ اتَّسَعَ عِلْمُهُ وَأَنَّ مَا جَهِلَهُ مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فَكَيْفَ بِمَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَتَّهِمَ عَقْلَهُ وَيَنْظُرَ إِلَى الْحَمْقَى كَيْفَ يُعْجَبُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيَضْحَكُ النَّاسُ مِنْهُمْ فَيَحْذَرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يَدْرِي
فإن القاصر العقل قط لَا يَعْلَمُ قُصُورَ عَقْلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ أَعْدَائِهِ لَا مِنْ أَصْدِقَائِهِ فَإِنَّ مَنْ يُدَاهِنُهُ يُثْنِي عَلَيْهِ فَيَزِيدُهُ عُجْبًا وَهُوَ لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَفْطَنُ لِجَهْلِ نفسه فيزداد عجباً
الرابع العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية حَتَّى يَظُنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْجُو بِشَرَفِ نَسَبِهِ ونجاة آبائه وأنه مغفور له ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَهْمَا خَالَفَ آبَاءَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَظَنَّ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِمْ فَقَدْ جَهِلَ وَإِنِ اقْتَدَى بِآبَائِهِ فَمَا كَانَ من أخلاقهم العجب بل الخوف والازدراء على النفس واستعظام الخلق وَمَذَمَّةُ النَّفْسِ وَلَقَدْ شَرُفُوا بِالطَّاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالْخِصَالِ الحميدة لا بالنسب فليتشرف بما شرفوا به وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر وكانوا عند الله شراً من الكلاب وأخس من الخنازير وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى} أَيْ لَا تَفَاوُتَ فِي أَنْسَابِكُمْ لِاجْتِمَاعِكُمْ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِدَةَ النَّسَبِ فَقَالَ {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الشَّرَفَ بِالتَّقْوَى لَا بِالنَّسَبِ فقال {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس من أكيس الناس لم يقل من ينتمي إلى نسبي ولكن قال أكرمهم أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعدادا (1) حديث إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي أيضا من حديث ابن عمر وقال غريب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش لا تأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا أي أعرض عنكم (2) حديث لما نزل قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} نَادَاهُمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ حَتَّى قَالَ يَا فاطمة بنت محمد يَا صفية بنت عبد المطلب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة ورواه مسلم من حديث عائشة
فَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَعَلِمَ أَنَّ شَرَفَهُ بِقَدْرِ تَقْوَاهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ آبَائِهِ التواضع اقتدى بهم في التقوى
_________
(1) حديث لما قيل له من أكرم الناس من أكيس الناس قال أكثرهم للموت ذكرا الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر دون قوله وأكرم الناس وهو بهذه الزيادة عند ابن أبي الدنيا في ذكر الموت آخر الكتاب
وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة فقال الحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وخالد بن أسيد هذا العبد الأسود يؤذن على الكعبة فقال تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية أي كبيرها كلكم بنو آدم وآدم من تراب
(2) حديث يا معشر قريش لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم الحديث أخرجه الطبراني من حديث عمران بن حصين إلا أنه قال يا معشر بني هاشم وسنده ضعيف
فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا لَمْ ينفعهم نسب قريش
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} نَادَاهُمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ حَتَّى قَالَ يَا فاطمة بنت محمد يَا صفية بنت عبد المطلب عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْمَلَا لِأَنْفُسِكُمَا فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا من الله شيئاً(3/375)
وَالتَّوَاضُعِ وَإِلَّا كَانَ طَاعِنًا فِي نَسَبِ نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ مَهْمَا انْتَمَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُشْبِهْهُمْ في التواضع والتقوى والخوف والإشفاق
فإن قلت فقد قال صلى الله عليه وسلم بعد قوله لفاطمة وصفية إني لا أغني عنكما من الله شيئاً إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها (1) حديث أترجو سليم شفاعتي ولا ترجوها بنو عبد المطلب أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن جعفر وفيه أصيرم بن حوشب عن إسحاق بن واصل وكلاهما ضعيف جدا
فذلك يدل على أنه سيخصص قرابته بالشفاعة فاعلم أن كل مسلم فهو منتظر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسيب أيضاً جدير بأن يرجوها لكن بشرط أن يتقي الله أن يغضب عليه فإنه إن يغضب عليه فلا يأذن لأحد في شفاعته لأن الذنوب منقسمة إلى ما يوجب المقت فلا يؤذن في الشفاعة له وإلى ما يعفى عنه بسبب الشفاعة كالذنوب عند ملوك الدنيا فإن كل ذي مكانة عند الملك لا يقدر على الشفاعة فيما اشتد عليه غضب الملك فمن الذنوب ما لا تنجي منه الشفاعة وعنه العبارة بقوله تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وبقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وبقوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وبقوله {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وإذا انقسمت الذنوب إلا ما يشفع فيه وإلا ما لا يشفع فيه وجب الخوف والإشفاق لا محالة ولو كان ذنب تقبل فيه الشفاعة لما أمر قريشاً بالطاعة ولما نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة رضي الله عنها عن المعصية ولكان يأذن لها في اتباع الشهوات لتكمل لذاتها في الدنيا ثم يشفع لها في الآخرة لتكمل لذاتها في الآخرة
فالانهماك في الذنوب وترك التقوى اتكالاً على رجاء الشفاعة يضاهي انهماك المريض في شهواته اعتماداً على طبيب حاذق قريب مشفق من أب أو أخ أو غيره وذلك جهل لأن سعي الطبيب وهمته وحذقه تنفع في إزالة بعض الأمراض لا في كلها فلا يجوز ترك الحمية مطلقاً اعتماداً على مجرد الطب بل للطبيب أثر على الجملة ولكن في الأمراض الخفيفة وعند غلبة اعتدال المزاج
فهكذا ينبغي أن تفهم عناية الشفعاء من الأنبياء والصلحاء للأقارب والأجانب فإنه كذلك قطعاً وذلك لا يزيل الخوف والحذر وكيف يزيل وخير الخلق بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه وقد كانوا يتمنون أن يكونوا بهائم من خوف الآخرة مع كمال تقواهم وحسن أعمالهم وصفاء قلوبهم وما سمعوه من وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالجنة خاصة وسائر المسلمين بالشفاعة عامة ولم يتكلوا عليه ولم يفارق الخوف والخشوع قلوبهم فكيف يعجب بنفسه ويتكل على الشفاعة من ليس له مثل صحبتهم وسابقتهم
الخامس العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم
وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله والفساد في دين الله وأنهم الممقوتون عند الله تعالى ولو نظر إلى صورهم في النار وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ولتبرأ من الانتساب إليهم ولأنكر على من نسبه إليهم استقذاراً واستحقار لهم ولو انكشف له ذلهم في القيامة وقد تعلق الخصماء بهم والملائكة آخذون بنواصيهم يجرونهم على وجوههم إلى جهنم في مظالم العباد لتبرأ إلى الله منهم ولكان انتسابه إلى الكلب والخنزير أحب إليه من الانتساب إليهم فحق أولاد الظلمة إن عصمهم الله من ظلمهم أن يشكروا الله تعال على سلامة دينهم ويستغفروا لآبائهم إن كانوا مسلمين فأما العجب فجهل محض
_________
(1) حديث قوله بعد قوله المتقدم لفاطمة وصفية ألا إن لكما رحما سأبلها ببلالها أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ غير أن لكم رحماً سأبلها ببلاها
وقد صلى الله عليه وسلم أترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب(3/376)
السَّادِسُ الْعُجْبُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْخَدَمِ والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع كَمَا قَالَ الْكُفَّارُ {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} وَكَمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَا نُغْلَبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ وَعِلَاجُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِبْرِ وَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي ضَعْفِهِ وَضَعْفِهِمْ وأن كلهم عبيد عَجَزَةٌ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيفترقون عنه إذا مات فيدفن في قبره ذليلاً مهينا وحده لا يرافقه أهل ولا ولد ولا قريب ولا حميم ولا عشير فيسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئاً وفي أحوج أوقاته إليهم وكذلك يهربون مِنْهُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} الآية
فأي خير فيمن يُفَارِقُكَ فِي أَشَدِّ أَحْوَالِكَ وَيَهْرُبُ مِنْكَ وَكَيْفَ تعجب به ولا ينفعك في القبر والقيامة وعلى الصراط إلا عملك وفضل الله تعالى فكيف تَتَّكِلُ عَلَى مَنْ لَا يَنْفَعُكَ وَتَنْسَى نِعَمَ من يملك نفعك وضرك وموتك وحياتك
السابع العجب بالمال كما قال تعالى إخباراً عن صاحب الجنتين إِذْ قَالَ {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نفراً} ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً غنياً جلس بجنبه فقير فانقبض عنه وجمع ثيابه فقال صلى الله عليه وسلم أخشيت أن يعدو إليك فقره (1) حديث بينما رجل في حلة قد أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه
وقال أبو ذر كنت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب جياد ثم قال ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب خلقة فقال لي يا أبا ذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا (2) حديث أنه يغلب على آخر هذه الأمة الإعجاب بالرأي هو حديث أبي ثعلبة المتقدم فإذا رأيت شحا مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وهو عند أبي داود والترمذي
وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقاً فكل معجب برأيه وكل حزب بما لديهم فرحون وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقاً وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه ولا يعالج الداء الذي لا يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جداً
لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله
_________
(1) حديث رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً غنياً جلس لجنبه فقير فانقبض منه الحديث رواه أحمد في الزهد
وذلك للعجب بالغنى وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي آفَاتِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ حقوقه وعظيم غوائله وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل له وَإِلَى أَنَّ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ في المال وإلى قوله صلى الله عليه وسلم بينما رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذا أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
(2) حديث أبي ذر كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر ارفع رأسك فرفعت رأسي الحديث وفيه هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا أخرجه ابن حبان في صحيحه
وجميع ما ذكرناه في كتاب الزهد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال يبين حقارة الأغنياء وشرف الفقراء عند الله تعالى فكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بثروته بل لا يخلو المؤمن عن خوف من تقصيره في القيام بحقوق المال في أخذه من حله ووضعه في حقه ومن لا يفعل ذلك فمصيره إلى الخزي والبوار فكيف يعجب بماله
الثامن العجب بالرأي الخطأ
قال الله تَعَالَى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حسناً} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن ذلك يغلب على آخر هذه الأمة(3/377)
عنه إلا إذا كان معجباً برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه فقد سلط الله عله بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهماً لرأيه أبداً لا يَغْتَرُّ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ صحيح جامع لشروط الْأَدِلَّةِ وَلَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَشُرُوطَهَا وَمَكَامِنَ الْغَلَطِ فِيهَا إِلَّا بِقَرِيحَةٍ تَامَّةٍ وَعَقْلٍ ثَاقِبٍ وَجِدٍّ وَتَشَمُّرٍ فِي الطَّلَبِ وَمُمَارَسَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُجَالَسَةٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ طُولَ الْعُمُرِ وَمُدَارَسَةٍ لِلْعُلُومِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَالصَّوَابُ لِمَنْ لَمْ يتفرع لِاسْتِغْرَاقِ عُمُرِهِ فِي الْعِلْمِ أَنْ لَا يَخُوضَ في المذاهب ولا يصغي إليها ولا يسمعها ولكن يعتقد أن الله تعالى واحد لا شريك له وأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وأن رسوله صادق فيما أخبر به ويتبع سنة السلف ويؤمن بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحث وتنقير وسؤال عن تفصيل بل يقول آمناً وصدقنا ويشتغل بِالتَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَأَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى المسلمين وسائر الأعمال فإن خاض في المذاهب والبدع والتعصب في العقائد هلك من حيث لا يشعر
هذا حق كل من عزم على أن يشتغل في عمره بشيء غير العلم فأما الذي عزم على التجرد للعلم فأول مهم له معرفة الدليل وشروطه وذلك مما يطول الأمر فيه والوصول إلى اليقين والمعرفة في أكبر المطالب شديد لا يقدر عليه إلا الأقوياء المؤيدون بنور الله تعالى وهو عزيز الوجود جداً فنسأل الله تَعَالَى الْعِصْمَةَ مِنَ الضَّلَالِ وَنَعُوذُ بِهِ مِنَ الاغترار بخيالات الجهال
تم كتاب ذم الكبر والعجب والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وصلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم
كتاب ذم الغرور وهو الكتاب العاشر من ربع المهلكات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور وبقدرته مفاتيح الخيرات والشرور مخرج أوليائه من الظلمات إلى النور ومورد أعدائه ورطات الغرور والصلاة على محمد مخرج الخلائق من الديجور وعلى آله وأصحابه الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور صلاة تتوالى على ممر الدهور ومكر الساعات والشهور
أما بعد فمفتاح السَّعَادَةِ التَّيَقُّظُ وَالْفِطْنَةُ وَمَنْبَعَ الشَّقَاوَةِ الْغُرُورُ وَالْغَفْلَةُ فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصدر بنور البصيرة ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة
فالأكياس وأرباب البصائر قلوبهم كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غريبة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور والمغترون قلوبهم {كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} فالأكياس هم الذين أراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام والهدى والمغترون هم الذين أراد الله أن يضلهم فجعل صدرهم ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء
وَالْمَغْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْفَتِحْ بَصِيرَتُهُ لِيَكُونَ بِهِدَايَةِ نَفْسِهِ كَفِيلًا وَبَقِيَ فِي الْعَمَى فَاتَّخَذَ الهوى قائداً والشيطان(3/378)
دليلاً {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} وإذا عرف أن الغرور 2 هو أم الشقاوات ومنبع المهلكات فلا بد من شرح مداخله ومجاريه وتفصيل ما يكثر من وُقُوعُ الْغُرُورِ فِيهِ لِيَحْذَرَهُ الْمُرِيدُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ فَيَتَّقِيهِ فَالْمُوَفَّقُ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ عَرَفَ مَدَاخِلَ الْآفَاتِ وَالْفَسَادِ فَأَخَذَ مِنْهَا حِذْرَهُ وَبَنَى عَلَى الحزم والبصيرة أمره
ونحن نشرح أجناس مجاري الغرور وأصناف المغترين من القضاة والعلماء والصالحين الذين اغتروا بمبادئ الأمور الجميلة ظواهرها القبيحة سرائرها ونشير إلى وجه اغترارهم بها وغفلتهم عنها فإن ذلك وإن كان أكثر مما يحصى ولكن يمكن التنبيه على أمثلة تغني عن الاستقصاء وفرق المغترين كثيرة ولكن يجمعهم أربعة أصناف
الصنف الأول من العلماء
الصنف الثاني من العباد
الصنف الثالث من المتصوفة
الصنف الرابع من أرباب الأموال
المغتر من كل صنف فرق كثيرة وجهات غرورهم مختلفة فمنهم من رأى المنكر معروفاً كالذي يتخذ المسجد ويزخرفها من المال الحرام ومنهم من لم يميز بين ما يسعى فيه لنفسه وبين ما يسعى فيه لله تعالى كالواعظ الذي غرضه القبول والجاه ومنهم من يترك الأهم ويشتغل بغيره ومنهم من يترك الفرض ويشتغل بالنافلة ومنهم من يترك اللباب ويشتغل بالقشر كالذي يكون همه في الصلاة مقصوراً على تصحيح مخارج الحروف إلى غير ذلك من مداخل لا تتضح إلا بتفصيل الفرق وضرب الأمثلة
ولنبدأ أولاً بذكر غرور العلماء ولكن بعد بيان ذم الغرور وبيان حقيقته وحده
بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} وَقَوْلَهُ تَعَالَى {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وغرتكم الأماني} الآية
كاف في ذم الغرور وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء الأرض من المغترين (1) حديث الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس
وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل على ذم الغرور لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به والغرور هو جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور بل يستدعي الغرور مغروراً فيه مخصوصاً ومغروراً به وهو الذي يغره
فمهما كان المجهدل المعتقد شيئاً يوافق الهوى وكان السبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة فاسدة يظن أنها دليل ولا تكون دليلاً سمي الجهل الحاصل به غروراً
فَالْغُرُورُ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ عَنْ شُبْهَةٍ وَخُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ إِمَّا فِي الْعَاجِلِ أَوْ فِي الْآجِلِ عَنْ شُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ فَهُوَ مَغْرُورٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ فَأَكْثَرُ النَّاسِ إذا مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم حتى كان غرور بعضهم أظهر وأشد من بعض وأظهرها وأشدها غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فنورد لهما أمثلة لحقيقة الغرور
_________
(1) حديث حبذا نوم الأكياس وفطرهم الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين من قول أبي الدرداء بنحوه وفيه انقطاع وفي بعض الروايات أبي الورد موضع أبي الدرداء ولم أجده مرفوعا
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ(3/379)
المثال الأول غرور الكفار فمنهم من غرته الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور أما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا النقد خير من النسيئة والدنيا نقد والآخرة نسيئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها وقالوا اليقين خير من الشك ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا نترك اليقين بالشك
وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} وعلاج هذا الغرور إما بتصديق الإيمان وَإِمَّا بِالْبُرْهَانِ أَمَّا التَّصْدِيقُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ فَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ مَا عندكم ينفذ وما عند الله باق وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خير} وقوله {والآخرة خير وأبقى} وقوله {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وقوله {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان (1) حديث قول من قال له نشدتك الله أبعثك رسولا فيقول {نعم} فيصدق متفق عليه من حديث أنس في قصة ضمام ابن ثعلبة وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أرسلك للناس كلهم فقال اللهم نعم وفي آخره فقال الرجل آمنت بما جئت به وللطبراني من حديث ابن عباس في ضمام قال نشدتك به أهو أرسلك بما أتتنا كتبك وأتتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى قال نعم الحديث
وهذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور وينزل هذا منزله تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيراً
وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه الشيطان فإن كل مغرور فلغروره سبب وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع في النفس ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ولا يقدر على نظمه بألفاظ العلماء
فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان
أحدهما أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة وهذا صحيح
والآخر قوله إن النقد خير من النسيئة وهذا محل التلبيس فليس الأمر كذلك بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير فإن الكافر المغرور يبذل في تجارته درهماً ليأخذ عشرة نسيئة ولا يقول النقد خير من النسيئة فلا أتركه وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفاً من ألم المرض في المستقبل فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة
والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقداً لأجل الراحة والربح نسيئة فإن كل عشرة في ثاني الحال خيراً من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء من ألف ألف جزء من الآخرة
فكأنه ترك واحداً ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد وإن نظر من حيث النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة فإذن قد غلط في قوله النقد خير من النسيئة فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور أطلق وأريد به خاص فغفل به المغرور عن خصوص معناه
فإن من قال النقد خير من النسيئة أراد به خيراً من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به
وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو أن اليقين خير من الشك إذاً الآخرة شك وهذا القياس أكثر فساداً من الأول لأن كلا أصليه باطل إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله وإلا فالتاجر في تعبه على يقين
_________
(1) حديث تصديق بعض الكفار بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم من غير مطالبة بالبرهان هو مشهور في السنن من ذلك قصة إسلام الأنصار وبيعتهم وهي عند أحمد من حديث جابر وفيه حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه الحديث وهي عند أحمد بإسناد جيد
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَبَعَثَكَ اللَّهُ رسولاً فكان يقول نعم فيصدق(3/380)
وفي ربحه على شك والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في تردده في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك ولكن التاجر يقول إن لم أتجر بقيت جائعاً وعظم ضرري وإن اتجرت كان تعبي قليلاً وربحي كثيراً وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة فإن كان ما قيل فيه كذباً فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم فأحسب أني بقيت في العدم
وإن كان ما قيل صدقاً فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق
ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا وإن كان ما قلناه حقاً فقد تخلصنا وهلكت وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقناً فهو مغرور
وأما الأصل الثاني من كلامه وهو أن الآخرة شك فهو أيضاً خطأ بل ذلك يقين عند المؤمنين وليقينه مدركان
أحدهما الإيمان والتصديق تقليداً للأنبياء والعلماء وذلك أَيْضًا يُزِيلُ الْغُرُورَ وَهُوَ مُدْرِكٌ يَقِينَ الْعَوَامِّ وأكثر الخواص ومثالهم مثال مَرِيضٌ لَا يَعْرِفُ دَوَاءَ عِلَّتِهِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ عَلَى أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نَفْسُ الْمَرِيضِ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِتَصْحِيحِ ذَلِكَ بِالْبَرَاهِينِ الطِّبِّيَّةِ بَلْ يَثِقُ بِقَوْلِهِمْ وَيَعْمَلُ به ولو بقي سوادي أو مَعْتُوهٌ يُكَذِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ عَدَدًا وَأَغْزَرُ مِنْهُ فَضْلًا وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِالطِّبِّ بَلْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ فَيَعْلَمُ كَذِبَهُ بِقَوْلِهِمْ وَلَا يعتقد كذبهم بقوله ولا يغتر في علمهم بِسَبَبِهِ وَلَوِ اعْتَمَدَ قَوْلَهُ وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ كَانَ مَعْتُوهًا مَغْرُورًا فَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إِلَى الْمُقِرِّينَ بِالْآخِرَةِ وَالْمُخْبِرِينَ عَنْهَا وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّقْوَى هو الدَّوَاءُ النَّافِعُ فِي الْوُصُولِ إِلَى سَعَادَتِهَا وَجَدَهُمْ خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ رُتْبَةً فِي الْبَصِيرَةِ والمعرفة والعقل وهم الأنبياء والأولياء وَالْحُكَمَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَاتَّبَعَهُمْ عِلْيَةُ الْخَلْقِ عَلَى أَصْنَافِهِمْ وشذ منهم آحاد من البطالين غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّهْوَةُ وَمَالَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى التَّمَتُّعِ فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَعَظُمَ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَجَحَدُوا الْآخِرَةَ وَكَذَّبُوا الأنبياء فكما أن قول الصبي وقول السوادي لَا يُزِيلُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إِلَى مَا اتَّفَقَ عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الَّذِي اسْتَرَقَتْهُ الشَّهَوَاتُ لَا يُشَكِّكُ فِي صِحَّةِ أقوال الأنبياء والأولياء وَالْعُلَمَاءِ
وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِيمَانِ كَافٍ لِجُمْلَةِ الْخَلْقِ وَهُوَ يَقِينٌ جَازِمٌ يَسْتَحِثُّ عَلَى الْعَمَلِ لا محالة والغرور يزول به
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون معرفتك مثل معرفته وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد
وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع المخلوقات(3/381)
بل العالم عالمان عالم الأمر وعالم الخلق ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه
فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وأنه في العالم الجسماني غريب وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بالمعصية وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى وأنه أمر رباني وحنينه إلى جواب الرب تعالى له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته فينسى عند ذلك نفسه وربه
ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه إذ قيل له ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم
يقال فسقت الرطبة عن كمامها إذا خرجت عن معدنها الفطري
وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها القاصرون فإنها تضر بهم كما تضر رياح الورد بالجعل وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش
وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه ولياً وعارفاً وهي مبادي مقامات الأنبياء
وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود أن غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي وأما ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال الصالحة ولابسوا الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة نعم أمرهم أخف لأن أصل الإيمان يعصمهم عن عقاب الأبد فيخرجون من النار ولو بعد حين ولكنهم أيضاً من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة خير من الدنيا ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز قَالَ تَعَالَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وعمل صالحاً ثم اهتدى وقال تعالى إن رحمت الله قريب من المحسنين ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه // حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه متفق عليه من حديث ابن عمر وقد تقدم
وقال تَعَالَى وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصبر فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضاً مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا الفرحين بها المترفين بنعيمها المحبين لها
الكارهين للموت خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعاً
ولنذكر للغرور بالله مثالين من غرور الكافرين والعاصين
فأما غرور الكفار بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظاً فيه وأسعد حالاً كما أخبر الله تعالى عنه من قول الرجلين المتحاورين إذ قال وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً وجملة أمرهما كما نقل في التفسير أن الكافر منهما بنى قصراً بألف دينار واشترى بستاناً بألف دينار وخدماً بألف دينار وتزوج امرأة على ألف دينار وفي ذلك كله يعظه المؤمن ويقول اشتريت قصراً يفنى ويخرب ألا اشتريت قصراً في الجنة لا يفنى واشتريت بستاناً يخرب ويفنى ألا اشتريت بستاناً في الجنة لا يفنى وخدماً لا يفنون ولا يموتون وزوجة من الحور العين لا تموت وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ويقول ما هناك شيء وما(3/382)
قيل من ذلك فهو أكاذيب وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا
وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول لأوتين مالاً وولداً فقال الله تعالى رداً عليه أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً كلا وروي عن خباب بن الأرت أنه قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت إني آخذه في الآخرة فقال لي إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالاً وولداً أقضيك منه
فأنزل الله تعالى قوله أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا (1) حديث إن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث قتادة بن النعمان
هكذا ورد في الخبر عن سيد البشر
وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا مرحباً بشعار الصالحين
والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن فأجاب الله عن ذلك كلا أي ليس كما قال إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله التثبيت فبين أن ذلك غرور قال الحسن كذبهما جميعاً بقوله كلا يقول ليس هذا بإكرامي ولا هذا بهواني ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنياً كان أو فقيراً والمهان من أهنته بمعصيتي غنياً كان أو فقيرا
_________
(1) حديث خباب بن الأرت قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه الحديث في نزول قوله تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية أخرجه البخاري ومسلم
وقال الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعض ضراء مسته ليقولون هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وهذا كله من الغرور بالله
وسببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعمة الآخرة وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم فيقيسون عليه عذاب الآخرة كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول فقال تعالى جواباً لقولهم حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم فيقولون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا {ويقولون} لو كان خيراً ما سبقونا إليه وترتيب القياس الذي نظمهم في قلوبهم أنهم يقولون قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا وكل محسن فهو محب وكل محب فإنه يحسن أيضاً في المستقبل كما قال الشاعر
لقد أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي
وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب إذ يقول لولا أني كريم عند الله ومحبوب لما أحسن إلي
والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة بل عند ذوي البصائر يدل على الهوان
ومثاله أن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر فالذي يحبه يمنعه من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره ويسقيه الأدوية التي تنفعه
والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل كل ما يشتهي فيظن هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه وذلك محض الغرور وهكذا نعيم الدنيا ولذتها فإنها مهلكات ومبعدات من الله فإن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه(3/383)
وهذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان إما بالبصيرة أو بالتقليد
أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعد عن الله ووجه كون التباعد عنها مقرباً إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء وشرحه من جملة علوم المكاشفة ولا يليق بعلم المعاملة
وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد قال تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وقال تعالى فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون وفي تفسير قوله تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أنهم كلما أحدثوا ذنباً أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً وقال تعالى وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته فإن من عرفه لا يأمن مكره ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة وينظر إلى فرعون وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم تدميرا فقال تعالى هل تحس منهم من أحد الآية وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه فقال فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ وقال تعالى ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون وقال عز وجل ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقال تعالى إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً فكما لا يجوز للعبد المهمل أن يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد بل ينبغي أن يحذر أن يكون ذلك مكراً منه وكيداً مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى مع تحذيره استدراجه أولى فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى فالشيطان بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما يوافقه وهو التصديق بدلالته على الكرامة وهذا هو حد الغرور
المثال الثاني غرور العصاة من المؤمنين بقولهم إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَإِنَّا نَرْجُو عَفْوَهُ وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِهْمَالِهِمُ الْأَعْمَالَ وَتَحْسِينِ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ تَمَنِّيهِمْ وَاغْتِرَارِهِمْ رَجَاءً وَظَنِّهِمْ أَنَّ الرَّجَاءَ مَقَامٌ مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ وَأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ وَرَحْمَتَهُ شَامِلَةٌ وَكَرَمَهُ عَمِيمٌ وَأَيْنَ مَعَاصِي الْعِبَادِ في بحار رحمته وإنا موحدون ومؤمنون فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان مستند رجائهم التَّمَسُّكَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ وَعُلُوِّ رُتْبَتِهِمْ كَاغْتِرَارِ الْعَلَوِيَّةِ بِنَسَبِهِمْ وَمُخَالَفَةِ سِيرَةِ آبَائِهِمْ فِي الْخَوْفِ وَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ آبائهم إذا آبَاؤُهُمْ مَعَ غَايَةِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى كَانُوا خَائِفِينَ وَهُمْ مَعَ غَايَةِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ آمِنُونَ
وَذَلِكَ نهاية الاغترار بالله تعالى
فقياس الشيطان للعلوية
أن من أحب إنساناً أحب أولاده وأن الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعة وينسى الْمَغْرُورُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ وَلَدَهُ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَلَمْ يُرِدْ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي من أهلي فقال تعالى يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ فَلَمْ ينفعه
وأن نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله // حديث أنه صلى الله عليه وسلم استأذن أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له الاستغفار الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
فهذا أيضاً اغترار بالله تعالى وهذا لأن الله(3/384)
تعالى يحب المطيع ويبغض العاصي فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك أن يسري البغض أيضاً بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو بِتَقْوَى أَبِيهِ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَشْبَعُ بِأَكْلِ أَبِيهِ وَيَرْوَى بِشُرْبِ أبيه ويصير عالماً بتعلم أَبِيهِ وَيَصِلُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَرَاهَا بِمَشْيِ أَبِيهِ
فَالتَّقْوَى فَرْضُ عَيْنٍ فَلَا يَجْزِي فِيهِ وَالِدٌ عن ولده شيئاً وكذا العكس وعند الله جزاء التقوى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ إلا على سبيل الشفاعة لمن لم يشتد غضب الله عليه فيأذن في الشفاعة له كما سبق في كتاب الكبر والعجب
فَإِنْ قُلْتَ فَأَيْنَ الْغَلَطُ فِي قَوْلِ الْعُصَاةِ وَالْفُجَّارِ إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَإِنَّا نَرْجُو رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَقَدْ قَالَ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي فليظن بي خيراً فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ولكن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هواها وتمنى على الله // حديث الكيس من دان نفسه تقدم قريبا
وَهَذَا هُوَ التَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيَّرَ الشَّيْطَانُ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ رَجَاءً حَتَّى خَدَعَ بِهِ الْجُهَّالَ
وَقَدْ شَرَحَ اللَّهُ الرَّجَاءَ فَقَالَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله أولئك يرجون رحمة الله يَعْنِي أَنَّ الرَّجَاءَ بِهِمْ أَلْيَقُ وَهَذَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَجْرٌ وَجَزَاءٌ عَلَى الْأَعْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءً بِمَا كَانُوا يعملون وَقَالَ تَعَالَى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أفترى أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى إِصْلَاحِ أَوَانٍ وَشُرِطَ لَهُ أُجْرَةٌ عَلَيْهَا وَكَانَ الشَّارِطُ كَرِيمًا يَفِي بِالْوَعْدِ مَهْمَا وَعَدَ وَلَا يُخْلِفُ بَلْ يَزِيدُ فَجَاءَ الْأَجِيرُ وَكَسَرَ الْأَوَانِيَ وَأَفْسَدَ جَمِيعَهَا ثُمَّ جَلَسَ يَنْتَظِرُ الْأَجْرَ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ كَرِيمٌ أفيراه الْعُقَلَاءُ فِي انْتِظَارِهِ مُتَمَنِّيًا مَغْرُورًا أَوْ رَاجِيًا وهذا للجهل بالفرق بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْغِرَّةِ
قِيلَ للحسن قَوْمٌ يَقُولُونَ نَرْجُو اللَّهَ وَيُضَيِّعُونَ الْعَمَلَ فَقَالَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ يَتَرَجَّحُونَ فِيهَا مَنْ رَجَا شَيْئًا طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه
وقال مسلم بن يسار لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي فقال له رجل إنا لنرجو الله فقال مسلم هيهات هيهات مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ
وَكَمَا أَنَّ الَّذِي يَرْجُو فِي الدنيا ولداً وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم ينزل فَهُوَ مَعْتُوهٌ فَكَذَلِكَ مَنْ رَجَا رَحْمَةَ اللَّهِ وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحاً أو عمل وَلَمْ يَتْرُكِ الْمَعَاصِيَ فَهُوَ مَغْرُورٌ
فَكَمَا أَنَّهُ إذا نكح ووطئ وأنزل بَقِيَ مُتَرَدِّدًا فِي الْوَلَدِ يَخَافُ وَيَرْجُو فَضْلَ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْوَلَدِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ عَنِ الرَّحِمِ وَعَنِ الْأُمِّ إِلَى أَنْ يَتِمَّ فَهُوَ كَيِّسٌ فَكَذَلِكَ إِذَا آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَتَرَكَ السَّيِّئَاتِ وَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ يَخَافُ أن لا يقبل منه وأن لا يدوم عليه وأن يختم له بالسوء ويرجو من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حَتَّى يَمُوتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَيَحْرُسَ قَلْبَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ حَتَّى لَا يَمِيلَ إِلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ كَيِّسٌ وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَهُمُ الْمَغْرُورُونَ بِاللَّهِ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يرون العذاب من أضل سبيلا ولتعلمن نبأه بعد حين وعند ذلك يقولون كما أخبر الله عنهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون أي علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحاً فقد علمنا الآن صدقك في قولك وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده وأنه(3/385)
توفي كل نفس ما كسبت {وأن} كل نفس بما كسبت رهينة فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير
فإن قلت فأين مظنة الرجاء وموضعه الْمَحْمُودِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَحْمُودٌ فِي مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ الْعَاصِي الْمُنْهَمِكِ إِذَا خَطَرَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَأَنَّى تُقْبَلُ تَوْبَتُكَ فَيُقَنِّطُهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ عِنْدَ هَذَا أَنْ يَقْمَعَ الْقُنُوطَ بِالرَّجَاءِ وَيَتَذَكَّرَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَأَنَّ التَّوْبَةَ طَاعَةٌ تكفر الذنوب قال الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم أمرهم بالإنابة وقال تَعَالَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالحاً ثم اهتدى فَإِذَا تَوَقَّعَ الْمَغْفِرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ فَهُوَ رَاجٍ وَإِنْ تَوَقَّعَ الْمَغْفِرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ فَهُوَ مَغْرُورٌ كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان إنك لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو راج وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فَهُوَ مَغْرُورٌ
الثَّانِي أَنْ تَفْتُرَ نَفْسُهُ عَنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ فَيُرَجِّي نَفْسَهُ نَعِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّالِحِينَ حَتَّى يَنْبَعِثَ مِنَ الرَّجَاءِ نَشَاطُ الْعِبَادَةِ فَيُقْبِلُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى قوله أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيها خالدون فَالرَّجَاءُ الْأَوَّلُ يَقْمَعُ الْقُنُوطَ الْمَانِعَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالرَّجَاءُ الثَّانِي يَقْمَعُ الْفُتُورَ الْمَانِعَ مِنَ النَّشَاطِ وَالتَّشَمُّرِ فَكُلُّ تَوَقُّعٍ حَثَّ عَلَى تَوْبَةٍ أَوْ عَلَى تَشَمُّرٍ فِي الْعِبَادَةِ فَهُوَ رَجَاءٌ وَكُلُّ رَجَاءٍ أَوْجَبَ فُتُورًا فِي الْعِبَادَةِ وَرُكُونًا إِلَى الْبَطَالَةِ فَهُوَ غِرَّةٌ كَمَا إِذَا خَطَرَ لَهُ أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة فهو غرة وعند هذا واجب على العبد أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْخَوْفَ فَيُخَوِّفُ نَفْسَهُ بِغَضَبِ اللَّهِ وَعَظِيمِ عِقَابِهِ وَيَقُولُ إِنَّهُ مَعَ أَنَّهُ غَافِرُ الذَّنْبِ وَقَابِلُ التَّوْبِ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ مَعَ أَنَّهُ كَرِيمٌ خَلَّدَ الْكُفَّارَ فِي النَّارِ أَبَدَ الآباد مع أنه لم يضره كفرهم بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها فمن هذه سنته في عباده وَقَدْ خَوَّفَنِي عِقَابَهُ فَكَيْفَ لَا أَخَافُهُ وَكَيْفَ أَغْتَرُّ بِهِ
فَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ قَائِدَانِ وَسَائِقَانِ يَبْعَثَانِ النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ فَمَا لَا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ تَمَنٍّ وَغُرُورٌ
وَرَجَاءُ كَافَّةِ الْخَلْقِ هُوَ سَبَبُ فُتُورِهِمْ وَسَبَبُ إِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَسَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِهْمَالِهِمُ السَّعْيَ للآخرة فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه وسلم وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة // حديث إن الغرور يغلب على آخر هذه الأمة تقدم في آخر ذم الكبر والعجب وهو حديث أبي ثعلبة في إعجاب كل ذي رأي برأيه
وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ويؤتون مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ راجعون يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يُبَالِغُونَ فِي التَّقْوَى وَالْحَذَرِ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَيَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ
وَأَمَّا الْآنَ فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غَيْرَ خَائِفِينَ مَعَ إِكْبَابِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى زَاعِمِينَ أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله راجون(3/386)
لعفوه ومغفرته كَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ يُدْرَكُ بِالْمُنَى وَيُنَالُ بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعاً لا خوف معه إن أحسن أحدهم قال يتقبل مني وإن أساء قال يغفر لي // حديث معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس نحوه بسند فيه جهالة ولم أره من حديث معقل
فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه
وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ومعناه أنهم ورثوا الكتاب أي هم علماء ويأخذون عرض هذا الأدنى أي شهواتهم من الدنيا حراماً كان أو حلالاً
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جنتان ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ تَحْذِيرٌ وَتَخْوِيفٌ لَا يَتَفَكَّرُ فِيهِ مُتَفَكِّرٌ إِلَّا وَيَطُولُ حُزْنُهُ ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه
وترى الناس يهذونه هذا يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرءون شعراً من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق بين الرجاء والغرور ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين وهو يتكل عليه ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله
نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد فهذا أبداً يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان
وذلك محض الغرور
ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يكتبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة من مهماته وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه فيا عجباً لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفاً على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفاً من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان(3/387)
وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور على القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالاً على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى والله أعلم
بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف وهم أربعة أصناف
الصنف الأول أهل العلم والمغترون منهم فرق
ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات وَاغْتَرُّوا بِعِلْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان علم معاملة وعلم مكاشفة وهو العلم بالله وبصفاته المسمى بالعادة علم المعرفة
فأما العلم بالمعاملة كمعرفة الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَعْرِفَةِ أَخْلَاقِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ وَالْمَحْمُودَةِ وَكَيْفِيَّةِ عِلَاجِهَا وَالْفِرَارِ مِنْهَا فَهِيَ عُلُومٌ لَا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة وَكُلُّ عِلْمٍ يُرَادُ لِلْعَمَلِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ دون العمل
فمثال هذا كمريض به عله لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها وكيفية خلطه وعجنه فتعلم ذلك وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن ورجع إلى بيته وهو يكررها ويعلمها المرضى ولم يشتغل بشر بها وَاسْتِعْمَالِهَا أَفَتَرَى أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْهُ مِنْ مرضه شيئاً هيهات هيهات لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئاً إلا أن يزن الذهب ويشترى الدواء ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلاً فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره
وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم علم الأخلاق المحمودة ولم يتصف بها فهو مغرور إذ قال تعالى قد أفلح من زكاها ولم يقل قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها وكتب علم ذلك وعلمه الناس وعند هذا يقول له الشيطان لا يغرنك هذا المثال فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه والعلم يجلب الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم
فإن كان المسكين معتوهاً مغروراً وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن إليه وأهمل العمل وإن كان كيساً فيقول للشيطان أتذكرني فضائل العالم وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى فمثله كمثل الكلب وكقوله تَعَالَى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً (1) حديث يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه الحديث تقدم غير مرة
وكقوله صلى الله عليه وسلم شر الناس العلماء السوء // حديث شر الناس علماء السوء تقدم في العلم
وقول أبي الدرداء ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات أي أن العلم حجة عليه إذ يقال له ماذا عملت فيما علمت وكيف قضيت شكر الله
_________
(1) حديث من ازداد علماً ولم يزدد هدى الحديث تقدم في العلم
وقال أيضاً يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار في الرحى(3/388)
وقال صلى الله عليه وسلم أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه (1) حديث أدنى الرياء شرك تقدم في ذم الجاه والرياء
وإلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ (2) حديث الحسد يأكل الحسنات الحديث تقدم في العلم وغيره
وإلى قوله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل // حديث حب الشرف والمال ينبتان النفاق في القلب الحديث تقدم
إلى
_________
(1) حديث أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله تعالى بعلمه تقدم فيه
فهذا وأمثاله مما أوردناه في كتاب العلم في باب علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر وما ورد في فضل العلم يوافقه فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه وذلك عين الغرور فإنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما ذكرناه وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء وأن حالهم عند الله أشد من حال الجهال
فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور
وأما الذي يدعي علوم المكاشفة كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يهمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده فغروره أشد ومثاله مثال من أراد خدمة ملك فعرف الملك وعرف أخلاقه وأوصافه ولونه وشكله وطوله وعرضه وعادته ومجلسه ولم يتعرف ما يحبه ويكرهه وما يغضب عليه وما يرضى به أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته وهو ملابس لجميع ما يغضب به عليه وعاطل عن جميع ما يحبه من زي وهيئة وكلام وحركة وسكون فورد على الملك وهو يريد التقرب منه والاختصاص به متلطخا بجميع ما يكرهه الملك عاطلا عن جميع ما يحبه متوسلا إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده وصورته وشكله وعادته في سياسة غلمانه ومعاملة رعيته
فهذا مغرور جدا إذ لو ترك جميع ما عرفه واشتغل بمعرفته فقط ومعرفة ما يكرهه ويحبه لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربه والاختصاص به بل تقصيره في التقوى واتباعه للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه واتقاه
فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ثم لا يتقيه ولا يخافه وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام خفني كما تخاف السبع الضاري
نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد فمن عرف الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي ويعلم أنه مسخر في قدرة من لو أهلك مثله آلافا مؤلفة وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثرا ولم تأخذه عليه رقة ولا اعتراه عليه جزع
ولذلك قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وفاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا
واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له إن فقهاءنا لا يقولون ذلك فقال وهل رأيت فقيها قط الفقيه القائم ليلة الصائم نهاره الزاهد في الدنيا
وقال مرة الفقيه لا يداري ولا يماري ينشر حكمة الله فإن قبلت منه حمد الله وإن ردت عليه حمد الله
فإذن الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه وعلم من صفاته ما أحبه وما كرهه وهو العالم ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاء والعباد وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها ولا يلتفت إلى قوله صلى الله عليه وسلم أدنى الرياء شرك
(2) حديث لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر تقدم غير مرة
وإلى قوله صلى الله عليه وسلم الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب(3/389)
غير ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة
فَهَؤُلَاءِ زَيَّنُوا ظَوَاهِرَهُمْ وَأَهْمَلُوا بَوَاطِنَهُمْ وَنَسُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم // حديث إن الله لا ينظر إلى صوركم الحديث تقدم
فَتَعَهَّدُوا الْأَعْمَالَ وَمَا تَعَهَّدُوا الْقُلُوبَ وَالْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ إِذْ لَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَتَى الله بقلب سليم
ومثال هؤلاء كبئر الحش ظاهرها جص وباطنها نتن أو كقبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها جيفة أو كبيت مظلم باطنه وضع سراج على سطحه فاستنار ظاهره وباطنه مظلم أو كرجل قصد الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره وترك المزابل في صدر داره ولا يخفى أن ذلك غرور بل أقرب مثال إليه رجل زرع زرعاً فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه من أصله فأخذ يجز رءوسه وأطرافه فلا تزال تقوى أصوله فتنبت لأن مغارس المعاصي هي الأخلاق الذميمة في القلب فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له الطاعات الظاهرة إلا مع الآفات الكثيرة
بل هو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء فالطلاء ليزيل ما على ظاهره والدواء ليقطع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء وبقي يتناول ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجر من المادة التي في الباطن
وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف قالوا ما هذا كبر وإنما هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من المبتدعين وإني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء الدين وفرحوا بذلك وكان ذلي ذلاً على الإسلام ونسي المغرور أن عدوه الذي حذره منه مولاه هو الشيطان وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به وينسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين ونسي ما روي عن الصحابة من التواضع والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند قدومه إلى الشام فقال إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العز في غيره ثم هذا المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرقيقة من القصب والديبقي والإبريسم المحرم والخيول والمراكب ويزعم أنه يطلب به عز العلم وشرف الدين وكذلك مهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئاً من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ولكن قال إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عدوانه وظلمه ولم يظن بنفسه الحسد حتى يعتقد أنه لو طعن في غيره من أهل العلم أو منع غيره من رياسة وزوحم فيها هل كان غضبه وعداوته مثل غضبه الآن فيكون غضبه لله أم لا يغضب مهما طعن في عالم آخر ومنع بل ربما يفرح به فيكون غضبه لنفسه وحسده لأقرانه من خبث باطنه وهكذا يرأئي بأعماله وعلومه وإذا خطر له خاطر الرياء قال هيهات إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله تعالى فيتخلصوا من عقاب الله تعالى ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الخلق بغيره كما يفرح باقتدائه به فلو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان كمن له عبيد مرضى يريد معالجتهم فإنه لا يفرق بين أن يحصل شفاؤهم على يده أو على يد طبيب آخر وربما يذكر هذا له فلا يخليه الشيطان أيضاً ويقول إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر لي والثواب لي فإنما فرحي بثواب الله لا بقبول الخلق قولي هذا ما يظنه(3/390)
بنفسه والله مطلع من ضميره على أنه لو أخبره نبي بأن ثوابه في الخمول وإخفاء العلم أكثر من ثوابه في الإظهار وحبس مع ذلك في سجن وقيد بالسلاسل لاحتال في هدم السجن وحل السلاسل حتى يرجع إلى موضعه الذي به تظهر رياسته من تدريس أو وعظ أو غيره وكذلك يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثني عليه ويتواضع له وإذا خطر له أن التواضع للسلاطين الظلمة حرام قال له الشيطان هيهات إنما ذلك عند الطمع في مالهم فأما أنت فغرضك أن تشفع للمسلمين وتدفع الضرر عنهم وتدفع شر أعدائك عن نفسك والله يعلم من باطنه أنه لو ظهر لبعض أقرانه قبول عند ذلك السلطان فصار يشفعه في كل مسلم حتى دفع الضرر عن جميع المسلمين ثقل ذلك عليه ولو قدر على أن يقبح حاله عند السلطان بالطعن فيه والكذب عليه لفعل
وكذلك قد ينتهي غرور بعضهم إلى أن يأخذ من مالهم وإذا خطر له أنه حرام قال له الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك قوام الدين أفلا يحل لك أن تأخذ قدر حاجتك
فيغتر بهذا التلبيس في ثلاثة أمور
أحدها في أنه مال لا مالك له فإنه يعرف أنه يأخذ الخراج من المسلمين وأهل السواد والذين أخذ منهم أحياء وأولادهم وورثتهم أحياء وغاية الأمر وقوع الخلط في أموالهم ومن غصب مائة دينار من عشرة أنفس وخالطها فلا خلاف في أنه مال حرام ولا يقال هو مال لا مالك له ويجب أن يقسم بين العشرة ويرد إلى كل واحد عشرة وإن كان مال كل واحد قد اختلط بالآخر
الثاني والثالث في قوله إنك من مصالح المسلمين وبك قوام الدين ولعل الذين فسد دينهم واستحلوا أموال السلاطين ورغبوا في طلب الدنيا والإقبال على الرياسة والإعراض عن الآخرة بسببه أكثر من الذين زهدوا في الدنيا ورفضوها وأقبلوا على الله فهو على التحقيق دجال الدين وقوام مذهب الشياطين لا إمام الدين
إذ الإمام هو الذي يقتدي به في الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله كالأنبياء عليهم السلام والصحابة وعلماء السلف
والدجال هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الله والإقبال على الدنيا
فلعل موت هذا أنفع للمسلمين من حياته وهو يزعم أنه قوام الدين
ومثله كما قال المسيح عليه السلام للعالم السوء إنه كصخرة وقعت في فم الوادي فلا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع
وأصناف غرور أهل العلم في هذه الأعصار المتأخرة خارجة عن الحصر وفيما ذكرناه تنبيه بالقليل على الكثير
وفرقة أخرى أحكموا العلم وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات واجتنبوا ظواهر المعاصي وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والحقد والكبر وطلب العلو وجاهدوا أنفسهم في التبري منها وقلعوا من القلوب منابتها الجلية القوية ولكنهم بعد مغرورون إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخبايا خداع النفس ما دق وغمض مدركه فلم يفطنوا لها وأهملوها وإنما مثاله من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه وفتش عن كل حشيش رآه فقلعه إلا أنه لم يفتش على ما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز وكان قد نبت من أصول الحشيش شعب لطاف فانبسطت تحت التراب فأهملها وهو يظن أنه قد اقتلعها فإذا هو بها في غفلته وقد نبتت وقويت وأفسدت أصول الزرع من حيث لا يدري
فكذلك العالم قد يفعل جميع ذلك ويذهل عن المراقبة للخفايا والتفقد للدفائن فتراه يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها وجمع التصانيف فيها وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته
ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف وكثرة الرحلة إليه من الآفاق وانطلاق الألسنة عليه(3/391)
بالثناء والمدح بالزهد والورع والعلم والتقديم له في المهمات وإيثاره في الأغراض والاجتماع حوله للاستفادة والتلذذ بحسن الإصغاء عند حسن اللفظ والإيراد والتمتع بتحريك الرءوس إلى كلامه والبكاء عليه والتعجب منه والفرح بكثرة الأصحاب والأتباع والمستفيدين والسرور بالتخصص بهذه الخاصية من بين سائر الأقران والأشكال للجمع بين العلم والورع وظاهر الزهد والتمكن به من إطلاق لسان الطعن في الكافة المقبلين على الدنيا لا عن تفجع بمصيبة الدين ولكن عن إدلال بالتمييز واعتداد بالتخصيص
ولعل هذا المسكين المغرور حياته في الباطن بما انتظم له من أمر وإمارة وعز وانقياد وتوقير وحسن ثناء فلو تغيرت عليه القلوب واعتقدوا فيه خلاف الزهد بما يظهر من أعماله فعساه يتشوس عليه قلبه وتختلط أوراده ووظائفه
وعساه يعتذر بكل حيلة لنفسه وربما يحتاج إلى أن يكذب في تغطية عيبه
وعساه يؤثر بالكرامة والمراعاة من اعتقد فيه الزهد والورع وإن كان قد اعتقد فيه فوق قدره وينبو قلبه عمن عرف حد فضله وورعه وإن كان ذلك على وفق حاله وعساه يؤثر بعض أصحابه على بعض وهو يرى أنه يؤثره لتقدمه في الفضل والورع وإنما ذلك لأنه أطوع له وأتبع لمراده وأكثر ثناء عليه وأشد إصغاء إليه وأحرص على خدمته ولعلهم يستفيدون منه ويرغبون في العلم وهو يظن أن قبوهم له لإخلاصه وصدقه وقيامه بحق علمه فيحمد الله تعالى على ما يسر على لسانه من منافع خلقه ويرى أن ذلك مكفر لذنوبه ولم يتفقد مع نفسه تصحيح النية فيه
وعساه لو وعد بمثل ذلك الثواب في إيثاره الخمول والعزلة وإخفاء العلم لم يرغب فيه لفقده في العزلة ولاختفاء لذة القبول وعزة الرياسة ولعل مثل هذا هو المراد بقول الشيطان من زعم من بني آدم أنه بعلمه امتنع مني فبجهله وقع في حبائلي
وعساه يصنف ويجتهد فيه ظاناً أنه يجمع علم الله لينتفع به وإنما يريد به استطارة اسمه بحسن التصنيف فلو ادعى مدع تصنيفه ومحا عنه اسمه ونسبه إلى نفسه ثقل عليه ذلك مع علمه بأن ثواب الاستفادة من التصنيف إنما يرجع إلى المصنف والله يعلم بأنه هو المصنف لا من ادعاه ولعله في تصنيفه لا يخلو من الثناء على نفسه إما صريحاً بالدعاوي الطويلة العريضة وإما ضمناً بالطعن في غيره ليستبين من طعنه في غيره أنه أفضل ممن طعن فيه وأعظم منه علما ولقد كان في غنية عن الطعن فيه ولعله يحكي من الكلام المزيف ما يزيد تزييفه فيعزيه إلى قائله وما يستحسنه فلعله لا يعزيه إليه ليظن أنه من كلامه فينقله بعينه كالسارق له أو يغيره أدنى تغيير كالذي يسرق قميصاً فيتخذه قباء حتى لا يعرف أنه مسروق ولعله يجتهد في تزيين ألفاظه وتسجيعه وتحسين نظمه كيلا ينسب إلى الركاكة ويرى أن غرضه ترويج الحكمة وتحسينها وتزيينها ليكون أقرب إلى نفع الناس
وعساه غافلاً عما روي أن بعض الحكماء وضع ثلثمائة مصحف في الحكمة فأوحى الله إلى نبي زمانه قل له قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً
ولعل جماعة من هذا الصنف من المغترين إذا اجتمعوا ظن كل واحد بنفسه السلامة عن عيوب القلب وخفاياه فلو افترقوا واتبع كل واحد منهم فرقة من أصحابه نظر كل واحد إلى كثرة من يتبعه وأنه أكثر تبعاً أو غيره فيفرح إن كان أتباعه أكثر وإن علم أن غيره أحق بكثرة الأتباع منه ثم إذا تفرقوا واشتغلوا بالإفادة تغايروا وتحاسدوا ولعل من يختلف إلى واحد منهم إذا انقطع عنه إلى غيره ثقل على قلبه ووجد في نفسه نفرة منه فبعد ذلك لا يهتز باطنه لإكرامه ولا يتشمر لقضاء حوائجه كما كان يتشمر من قبل ولا يحرص على الثناء عليه كما أثنى مع علمه بأنه مشغول بالاستفادة ولعل التحيز منه إلى فئة أخرى كان أنفع له في دينه لآفة من الآفات كانت تلحقه في هذه الفئة وسلامته عنها في تلك الفئة ومع ذلك لا تزول النفرة عن قلبه ولعل واحداً منهم إذا تحركت فيه مبادئ الحسد لم يقدر على إظهاره فيتعلل بالطعن في دينه وفي ورعه ليحمل غضبه على ذلك ويقول إنما غضبت لدين الله لا لنفسي
ومهما(3/392)
ذكرت عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه وربما قطب وجهه إذا ذكرت عيوبه يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين وسر قلبه راض به ومريد له والله مطلع عليه في ذلك
فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه ويسوءه ذلك ويكرهه ويحرص على إصلاحه فإذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مرجو الحال وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه الممتن على الله بعمله وعلمه الظان أنه من خيار خلقه فنعوذ بالله من الغفلة والاغترار ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال
هذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم
ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم وهم به مغترون إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم وإما لاقتصارهم عليه
فمنهم فرقة اقْتَصَرُوا عَلَى عِلْمِ الْفَتَاوَى فِي الْحُكُومَاتِ وَالْخُصُومَاتِ وَتَفَاصِيلِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ لِمَصَالِحِ العباد وخصصوا اسم الفقه بها وسموه الفقه وعلم المذاهب وَرُبَّمَا ضَيَّعُوا مَعَ ذَلِكَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ فلم يتفقدوا الجوارح ولم يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين وكذا سائر الجوارح وَلَمْ يَحْرُسُوا قُلُوبَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وسائر المهلكات
فهؤلاء مغرورون من وجهين
أحدهما من حيث العمل
والآخر من حيث العلم
أما العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسحة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف على الهلاك ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله فاشتغل بتعلم أدواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلاً ونهاراً مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحاض ولكن يقول ربما تقع علة الاستحاضة لامرأة وتسألني عن ذلك وذلك غاية الغرور
فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم والإجارة والظهار واللعان والجراحات والديات والدعاوي والبينات وبكتاب الحيض وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره لنفسه وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما فيه من الجاه والرياسة والمال وقد دهاه الشيطان وما يشعر إذ يظن المغرور بنفسه أنه مشغول بفرض دينه وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية
هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى فإنه وإن قصد وجه الله فهو باشتغاله به معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره من حيث العمل
وَأَمَّا غُرُورُهُ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ فَحَيْثُ اقْتَصَرَ على علم الفتاوى وظن أنه علم الدين وترك كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبَّمَا طَعَنَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ إِنَّهُمْ نَقَلَةُ أَخْبَارٍ وَحَمَلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَفْقَهُونَ وَتَرَكَ أَيْضًا عَلِمَ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَرَكَ الْفِقْهَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِدْرَاكِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَهُوَ العلم الَّذِي يُورِثُ الْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالْخُشُوعَ وَيَحْمِلُ عَلَى التقوى فتراه آمناً من الله مغتراً به متكلاً على أنه لا بد وأن يرحمه فإنه قوم دينه وأنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام فقد ترك العلوم التي هي أهم وهو غافل مغرور وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أن ذلك الْفِقْهَ هُوَ الْفِقْهُ عَنِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ صِفَاتِهِ الْمُخَوِّفَةِ وَالْمَرْجُوَّةِ لِيَسْتَشْعِرَ الْقَلْبُ الْخَوْفَ وَيُلَازِمَ التَّقْوَى إِذْ قَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قومهم إذا رجعوا}(3/393)
إليهم لعلهم يحذرون وَالَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْذَارُ غَيْرُ هَذَا الْعِلْمِ فإن مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع القتل والجراحات والمال في طريق الله آلة والبدن مركب
وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى وإذا مات ملوثاً بتلك الصفات كان محجوباً عن الله
فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز الرواية والخف ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في شيء ولا بسبيله وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصوم ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية وهؤلاء هم سباع الإنس طبعهم الإيذاء وهمهم السفه ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب وعلم سلوك الطريق إلى الله تعالى بمحو الصفات المذمومة وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرونه ويسمونه التزويق وكلام الوعاظ وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في الجدل
وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوى لكن زادوا إذ اشتغلوا بما ليس من فروض الكفايات أيضاً بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب وهو كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وفهم معانيهما
وأما حيل الجدل من الكسر والقلب وفساد الوضع والتركيب والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيراً وأقبح من غرور من قبلهم
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة أولئك وإفحامهم وافترقوا في ذلك فرقاً كثيرة واعتقدوا أنه لا يكون لعبد عمل إلا بإيمان ولا يصح إيمان إلا بأن يتعلم جدلهم وما سموه أدلة عقائدهم وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم ودعت كل فرقة منهم إلى نفسها
ثم هم فرقتان ضالة ومحقة فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة والمحقة هي التي تدعو إلى السنة والغرور شامل لجميعهم
أما الضالة فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضاً وإنما أتيت من حيث إنها لم تتهم رأيها ولم تحكم أولاً شروط الأدلة ومنهاجها فرأى أحدهم الشبهة دليلاً والدليل شبهة
وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور وأفضل القربات في دين الله وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث وأن من صدق الله ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ولا مقرب عند الله
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة ومناقضاتهم وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل ولكنه لالتذاذه بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى عميت بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق وأنهم قد(3/394)
أدركوا كثيراً من أهل البدع والهوى فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضاً للخصومات والمجادلات وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا مصراً على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر بل قالوا إن الحق هو الدعوة إلى السنة ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة
إذ روى أبو أمامة الباهلي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل (1) حديث خرج يوماً على أصحابه وهم يجادلون ويختصمون فغضب حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان الحديث تقدم
حمرة من الغضب فقال ألهذا بعثتم أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا وما نهيتم عنه فانتهوا فقد زجرهم عن ذلك وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدال
ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة ودفع سؤال وإيراد إلزام فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب ويستخرج منها الإشكالات والشبه ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا وقالوا لو نجا أهل الأرض وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم ولو نجونا وهلكوا لم يضرنا هلاكهم وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيده التعصب والخصومة تشدداً في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ومجادلتها ومجاهدتها لتترك الدنيا للآخرة أولى هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة فكيف وقد نهيت عنه وكيف أدعو إلى السنة بترك السنة فالأولى أتفقد نفسي وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله تعالى وما يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه
وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره وَهُمْ مَغْرُورُونَ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَدَعَوُا الْخَلْقَ إِلَيْهَا فَقَدْ صَارُوا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون وما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ولولا أنه مقرب عند الله لا عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله وكيفية قطع المنازل في طريق الله فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين وهو آمن من الله تعالى ويرى أنه من الراجين وهو من المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين
بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها
_________
(1) حديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل تقدم في العلم وفي آفات اللسان
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحابه وهم يتجادلون ويختصمون فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان(3/395)
فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن
ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ويصرف الناس عن الخلق وهو على الخلق أشد حرصاً لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه لمات غماً وحسداً ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه
فهؤلاء أعظم الناس غرة وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في الأخلاق المحمودة والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به
فبعد ذلك بماذا يعالج وكيف سبيل تخويفه وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون وهو ليس بخائف نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة وهو أن يدعي مثلاً حب الله فما الذي تركه من محاب نفسه لأجله ويدعي الخوف فما الذي امتنع منه بالخوف ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى ويدعى الأنس بالله فمتى طابت له الخلوة ومتى استوحش من مشاهدة الخلق لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش إذا خلا بالله تعالى فهل رأيت محباً يستوحش من محبوبه ويستروح منه إلى غيره فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ولا يقنعون منها بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى كما ورد به الخبر لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه وينهون عن الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئاً ضعيفاً من أصول هذه المعانيوهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية في هذه المعاني فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصفاهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام والكلام للمعرفة وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ذلك غير الاتصاف بالصفة فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف بل في القدرة على الوصف بل ربما زاد أمنه وقل خوفه وظهر إلى الخلق ميله وضعف في قلبه حب الله تعالى وإنما مثاله مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها
ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور
فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن والأخبار ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم
وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه فاشتغلوا بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب
وطائفة شغفوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها فأكثر هممهم بالأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق وغرضهم أن تكثر في مجالستهم الزعقات والتواجد ولو على أغراض فاسدة فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل فإن الأولين وإن لم يصلحوا أنفسهم فقد(3/396)
أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم
وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جراءة على المعاصي ورغبة في الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزيناً بالثياب والخيل والمراكب فإنه تشهد هيئته من فرقه إلى قدمه بشدة حرصه على الدنيا فما يفسده هذا المغرور أكثر مما يصلحه بل لا يصلح أصلاً ويضل خلقاً كثيراً ولا يخفى وجه كونه مغروراً
وفرقة أخرى مِنْهُمْ قَنَعُوا بِحِفْظِ كَلَامِ الزُّهَّادِ وَأَحَادِيثِهِمْ فِي ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر وبعضهم في المحاريب وبعضهم فِي الْأَسْوَاقِ مَعَ الْجُلَسَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَظُنُّ أنه إذا تميز هذا القدر عن السوقة والجندية إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم فَقَدْ أَفْلَحَ وَنَالَ الْغَرَضَ وَصَارَ مَغْفُورًا لَهُ وأمن عقاب الله من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام ولكنه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه
وَغُرُورُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ مِنْ غُرُورِ مَنْ قَبْلَهُمْ
وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلاناً ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري
وغرورهم من وجوه منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني السنة فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم يفهموا معانيها ولا يعملون بها وقد يفهمون بعضها أيضاً ولا يعملون به
ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين وهو معرفة علاج القلب ويشتغلون بتكثير الأسانيد وطلب العالي منها ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك ومنها وهو الذي أكب عليه أهل الزمان أنهم أيضاً لا يقيمون بشرط السماع فإن السماع بمجرده وإن لم تكن له فائدة ولكنه مهم في نفسه للوصول إلا إثبات الحديث إذ التفهم بعد الإثبات والعمل بعد التفهم فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع فترى الصبي يحضر في مجلس الشيح والحديث يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع منه والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو نسخ والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ولم يعرفه وكل ذلك جهل وغرور
إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظه كما سمعه ويرويه كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع
فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من الصحابة أو التابعين وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أن تصفي لتسمع فتحفظ وتروي كما حفظت وتحفظ كما سمعت بحيث لا تغير منه حرفاً ولو غير غيرك منه حرفاً أو أخطأ علمت خطأه
ولحفظك طريقان
أحدهما أن تحفظ بالقلب وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في مجاري الأحوال
والثاني أن تكتب كما تسمع وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره ويكون حفظك للكتاب معك وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره فإذا لم تحفظه لم تشعر بتغييره فيكون محفوظاً بقلبك أو بكتابك فيكون كتابك مذكراً لما سمعته وتأمن فيه من التغيير والتحريف
فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس ثم رأيت نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيراً أو يفارق حرف منه للنسخة التي سمعتها لم يجز لك أن تقول سمعت هذا الكتاب فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه بل سمعت شيئاً يخالف ما فيه ولو في كلمة
فإذا لم يكن معك حفظ(3/397)
بقلبك ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك وقد قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح
وأقل شروط السماع أن يجري الجميع على السمع مع نوع من الحفظ يشعر معه بالتغيير ولو جاز أن يكتب سماع الصبي والغافل والنائم والذي ينسخ لجاز أن يكتب سماع المجنون والصبي في المهد ثم إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون يسمع عليه ولا خلاف في عدم جوازه ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الجنين في البطن فإنكان لا يكتب سماع الصبي في المهد لأنه لا يفهم ولا يحفظ فالصبي الذي لا يلعب والغافل والمشغول بالنسخ عن السماع ليس بينهم ولا يحفظ وإن استجرأ جاهل فقال يكتب سماع الصبي في المهد فليكتب سماع الجنين في البطن فإن فرق بينهما بأن الجنين لا يسمع الصوت وهذا يسمع الصوت فما ينفع هذا وهو إنما ينقل الحديث دون الصوت فليقتصر إذا صار شيخاً على أن يقول سمعت بعد بلوغي أني في صباي حضرت مجلساً يروى فيه حديث كان يقرع سمعي صوته ولا أدري ما هو فلا خلاف في أن الرواية كذلك لا تصح وما زاد عليه فهو كذب صريح ولو جاز إثبات سماع التركي الذي لا يفهم العربية لأنه سمع صوتاً غفلاً لجاز إثبات سماع صبي في المهد وذلك غاية الجهل
ومن أين يأخذ هذا وهل للسماع مستند إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها (1) حديث مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يعنيه أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه من حديث أبي هريرة وهو عند مالك من رواية علي بن الحسين مرسلا وقد تقدم
فقام وقال يكفيني هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره
فهكذا يكون سماع الأكياس الذين يحذرون الغرور
وفرقة أخرى اشْتَغَلُوا بِعِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَغَرِيبِ اللُّغَةِ وَاغْتَرُّوا بِهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ وأنهم من عماد الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب اللغة ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلا بد من تعلمها وتصحيحها ولو عقل لعلم أنه يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زيادة على الكفاية وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك والمضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك والهند وإنما فارقتها لغة
_________
(1) حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها الحديث أخرجه أصحاب السنن وابن حبان من حديث زيد بن ثابت والترمذي وابن ماجه من حديث ابن مسعود وقال الترمذي حديث حسن صحيح وابن ماجه فقط من حديث جبير بن مطعم وأنس
وكيف يؤدي كما سمع من لا يدري ما سمع فهذا أفحش أنواع الغرور
وقد بلي بهذا أهل الزمان ولو اختلط أهل الزمان لم يجدوا شيوخاً إلا الذين سمعوه في الصبا على هذا الوجه مع الغفلة إلا أن للمحدثين في ذلك جاهاً وقبولاً فخاف المساكين أن يشترطوا ذلك فيقل من يجتمع لذلك في حلقهم فينقص جاههم وتقل أيضاً أحاديثهم التي قد سمعوها بهذا الشرط بل ربما عدموا ذلك وافتضحوا فاصطلحوا على أنه ليس يشترط إلا أن يقرع سمعه دمدمة وإن كان لا يدري ما يجري وصحة السماع لا تعرف من قول المحدثين لأنه ليس من علمهم بل من علم علماء الأصول بالفقه وما ذكرناه مقطوع به في قوانين أصول الفقه فهذا غرور هؤلاء ولو سمعوا على الشرط لكانوا أيضاً مغرورين في اقتصارهم على النقل وإفناء أعمارهم في جمع الروايات والأسانيد وإعراضهم عن مهمات الدين ومعرفة معاني الأخبار بل الذي يقصد من الحديث سلوك طريق الآخرة وسالك طريقها ربما يكفيه الحديث الواحد عمره كما روي عن بعض الشيوخ أنه حضر مجلس السماع فكان أول حديث روى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرء تركه ما لا يعنيه(3/398)
العرب لأجل ورود الشريعة بها فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه ثم لو اقتصر عليه وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضاً مغرور بل مثاله مثاله مثال من ضَيَّعَ عُمُرَهُ فِي تَصْحِيحِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ غُرُورٌ إِذِ الْمَقْصُودُ من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات والتدقيق في مخارج الحروف مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل والذي فوقه هو معرفة العمل وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو سماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات
فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب أو في المنزل البعيد
وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها
فأما علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم فكان الغرور بها أقل من الغرور بعلوم الشرع لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك القشر اللب في كونه محموداً ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى
والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى فمن اتخذ القشر مقصوداً وعرج عليه فقد اغتر به
وفرقة أخرى عظم غرورهم في فن الفقه فظنوا أن حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه في مجلس القضاء فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المبهمة واغتروا بالظواهر وأخطئوا فيها
وهذا من قبيل الخطأ في الفتوى والغرور فيه والخطأ في الفتاوى مما يكثر
ولكن هذا نوع عم الكافة إلا الأكياس منهم فنشير إلى أمثلة فمن ذلك فتواهم بأن المرأة متى أبرأت من الصدق برئ الزوج بينه وبين الله تعالى وذلك خطأ بل الزوج قد يسيء إلى الزوجة بحيث يضيق عليها الأمور بسوء الخلق فتضطر إلى طلب الخلاص فتبرئ الزوج لتتخلص منه فهو إبراء لا على طيبة نفس وقد قال تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً وطيبة النفس غير طيبة القلب فقد يريد الإنسان بقلبه ما لا تطيب به نفسه فإنه يريد الحجامة بقلبه ولكن تكرهها نفسه وإنما طيبة النفس أن تسمح نفسها بالإبراء لا عن ضرورة تقابله حتى إذا رددت بين ضررين اختارت أهونهما فهذه مصادرة على التحقيق بإكراه الباطن
نعم القاضي في الدنيا لا يطلع على القلوب والأغراض فينظر إلى الإبراء الظاهر وأنها لم تكره بسبب ظاهر والإكراه الباطن ليس يطلع الخلق عليه ولكن مهما تصدى القاضي الأكبر في صعيد القيامة للقضاء لم يكن هذا محسوباً ولا مقيداً في تحصيل الإبراء ولذلك لا يحل أن يؤخذ مال إنسان إلا بطيب نفس منه فلو طلب من الإنسان ما لالا على ملأ من الناس فاستحيا من الناس أن لا يعطيه وكان يود أن يكون سؤاله في خلوة حتى لا يعطيه ولكن خاف ألم مذمة الناس وخاف ألم تسليم المال وردد نفسه بينهما(3/399)
فاختار أهون الألمين وهو ألم التسليم فسلمه فلا فرق بين هذا وبين المصادرة إذ معنى المصادرة إيلام البدن بالسوط حتى يصير ذلك أقوى من ألم القلب ببذل المال فيختار أهون الألمين والسؤال في مظنة الحياء والرياء ضرب للقلب بالسوط ولا فرق بين ضرب الباطن وضرب الظاهر عند الله تعالى فإن الباطن عند الله تعالى ظاهر وإنما حاكم الدنيا هو الذي يحكم بالملك بظاهر قوله وهبت لأنه لا يمكنه الوقوف على ما في القلب وكذلك من يعطى اتقاء لشر لسانه أو لشر سعايته فهو حرام عليه وكذلك كل مال يؤخذ على هذا الوجه فهو حرام
ألا ترى ما جاء في قصة داود عليه السلام حيث قال بعد أن غفر له يا رب كيف لي بخصمي فأمر بالاستحلال منه وكان ميتاً فأمر بندائه في صخرة بيت المقدس فنادى يا أوريا فأجابه لبيك يا نبي الله أخرجتني من الجنة فماذا تريد فقال إني أسأت إليك في أمر فهبه لي قال قد فعلت ذلك يا نبي الله فانصرف وقد ركن إلى ذلك فقال له جبريل عليه السلام هل ذكرت له ما فعلت قال لا قال فارجع فبين له فرجع فناداه فقال لبيك يا نبي الله فقال إني أذنبت إليك ذنبا قال ألم أهبه لك قال ألا تسألني ما ذلك الذنب قال ما هو يا نبي الله قال كذا وكذا وذكر شأن المرأة فانقطع الجواب فقال يا أوريا ألا تجيبني قال يا نبي الله ما هكذا يفعل الأنبياء حتى أقف معك بين يدي الله فاستقبل داود البكاء والصراخ من الرأس حتى وعده الله أن يستوهبه منه في الآخرة
فهكذا ينبهك أن الهبة من غير طيبة قلب لا تفيد وأن طيبة القلب لا تحصل إلا بالمعرفة فكذلك طيبة القلب لا تكون في الإبراء والهبة وغيرهما إلا إذا خلى الإنسان واختياره حتى تنبعث الدواعي من ذات نفسه لا أن تضطر بواعثه إلى الحركة بالحيل والإلزام
ومن ذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول من زوجته واتهابه مالها لإسقاط الزكاة فالفقيه يقول سقطت الزكاة فإن أراد به أن مطالبة السلطان والساعي سقطت عنه فقد صدق فإن مطمح نظرهم ظاهر الملك وقد زال وإن ظن أنه يسلم في القيامة ويكون كمن لم يملك المال أو كمن باع لحاجته إلى المبيع لا على هذا القصد فما أعظم جهله بفقه الدين وسر الزكاة فإن سر الزكاة تطهير القلب عن رذيلة البخل فإن البخل مهلك قال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شحه مطاع // حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وإنما صار شح مطاعاً بما فعله وقبله لم يكن مطاعاً
فقد تم هلاكه بما يظن أن فيه خلاصه فإن الله مطلع على قلبه وحبه المال وحرصه عليه وأنه بلغ من حرصه على المال أن استنبط الحيل حتى يسد على نفسه طريق الخلاص من البخل بالجهل والغرور ومن ذلك إباحة الله مال المصالح للفقيه وغيره بقدر الحاجة والفقهاء المغرورون لا يميزون بين الأماني والفضول والشهوات وبين الحاجات بل كل مالا تتم رعونتهم إلا به يرونه حاجة وهو محض الغرور بل الدنيا خلقت لحاجة العباد إليها في العبادة وسلوك طريق الآخرة فكل ما تناوله العبد للاستعانة به على الدين والعبادة فهو حاجته وما عدا ذلك فهو فضوله وشهوته ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء في أمثال هذا لملأنا فيه مجلدات وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْثِلَةٍ تُعَرِّفُ الأجناس دون الاستيعاب فإن ذلك يطول
الصنف الثاني أرباب العبادة والعمل والمغرورون منهم فرق كثيرة فمنهم من غروره في الصلاة
ومنهم من غروره في تلاوة القرآن
ومنهم في الحج
ومنهم في الغزو
ومنهم في الزهد وكذلك كل مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خالياً عن غرور إلا الأكياس وقليل ما هم
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل وربما تعمقوا في الفضائل حتى خرجوا إلى العدوان(3/400)
والسرف كالذي تغلب عَلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ فِي الْوُضُوءِ فَيُبَالِغُ فِيهِ وَلَا يرضى الماء المحكوم بطهارته في فتوى الشَّرْعِ وَيُقَدِّرُ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةَ قَرِيبَةً فِي النَّجَاسَةِ وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض وَلَوِ انْقَلَبَ هَذَا الِاحْتِيَاطُ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الطَّعَامِ لَكَانَ أَشْبَهَ بِسِيرَةِ الصَّحَابَةِ إِذْ تَوَضَّأَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ ظُهُورِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَكَانَ مَعَ هَذَا يَدَعُ أَبْوَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنَ الوقوع في الحرام
ثم من هؤلاء من يخرج إلى الإسراف في صب الماء وذلك منهي عنه // حديث النهي من الإسراف في الوضوء أخرجه الترمذي وضعه وابن ماجه من حديث أبي بن كعب إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان الحديث وتقدم في عجائب القلب
وقد يطول الأمر حتى يضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها وإن لم يخرجها أيضاً عن وقتها فهو مغرور لما فاته من فضيلة أول الوقت وإن لم يفته فهو مغرور لإسرافه في الماء وإن لم يسرف فهو مغرور لتضييعه العمر الذي هو أعز الأشياء فيما له مندوحة عنه إلا أن الشيطان يصد الخلق عن الله بطريق سني ولا يقدر على صد العباد إلا بما يخيل إليهم أنه عبادة فيبعدهم عن الله بمثل ذلك
وفرقة أخرى غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَسَةُ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة ويخرج الصلاة عن الوقت وإن تم تكبيره فيكون في قلبه بعد تردد في صحة نيته وَقَدْ يُوَسْوَسُونَ فِي التَّكْبِيرِ حَتَّى قَدْ يُغَيِّرُونَ صيغة التكبير لشدة الاحتياط فيه يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَغْفُلُونَ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَلَا يُحْضِرُونَ قُلُوبَهُمْ وَيَغْتَرُّونَ بذلك ويظنون أنهم إذا أتعبوا أنفسهم في تصحيح النية في أول الصلاة وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خير عند ربهم
وفرقة أخرى تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْوَسْوَسَةُ فِي إِخْرَاجِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ مِنْ مَخَارِجِهَا فَلَا يَزَالُ يَحْتَاطُ فِي التَّشْدِيدَاتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَتَصْحِيحِ مخارج الحروف في جميع صلاته لا يهمه غيره ولا يتفكر فيما سواه ذَاهِلًا عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ وَصَرْفِ الْفَهْمِ إِلَى أَسْرَارِهِ
وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْغُرُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَحْقِيقِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ إِلَّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي الْكَلَامِ
وَمِثَالُ هَؤُلَاءِ مِثَالُ مَنْ حَمَلَ رِسَالَةً إِلَى مَجْلِسِ سُلْطَانٍ وَأُمِرَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَأَخَذَ يُؤَدِّي الرِّسَالَةَ وَيَتَأَنَّقُ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَيُكَرِّرُهَا وَيُعِيدُهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَهُوَ فِي ذَلِكَ غَافِلٌ عَنْ مَقْصُودِ الرِّسَالَةِ وَمُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا أحراه بأن تقام عليه السياسة ويرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل
وفرقة أخرى اغْتَرُّوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَيَهُذُّونَهُ هَذًّا وَرُبَّمَا يَخْتِمُونَهُ في اليوم والليل مرة ولسان أحدهم يجري به وَقَلْبُهُ يَتَرَدَّدُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَمَانِي إِذْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لِيَنْزَجِرَ بِزَوَاجِرِهِ وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ وَيَقِفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَيَعْتَبِرَ بِمَوَاضِعِ الاعتبار فيه إلى غير ذلك مما ذكرناه في كتاب تلاوة القرآن من مقاصد التلاوة فَهُوَ مَغْرُورٌ يَظُنُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْهَمْهَمَةُ بِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ
وَمِثَالُهُ مثال عبد كتب إليه مولاه ومالكه كِتَابًا وَأَشَارَ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَلَمْ يَصْرِفْ عِنَايَتَهُ إِلَى فَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَلَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِهِ فَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى خِلَافِ ما أمره بِهِ مَوْلَاهُ إِلَّا أَنَّهُ يُكَرِّرُ الْكِتَابَ بِصَوْتِهِ وَنَغَمَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ وَمَهْمَا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَهُوَ مَغْرُورٌ
نَعَمْ تِلَاوَتُهُ إِنَّمَا تُرَادُ لكيلا ينسى بعد لِحِفْظِهِ وَحِفْظُهُ يُرَادُ لِمَعْنَاهُ وَمَعْنَاهُ يُرَادُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَعَانِيهِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ فَهُوَ يَقْرَؤُهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَيَغْتَرُّ بِاسْتِلْذَاذِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ لَذَّةُ مُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَمَاعُ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّتُهُ فِي صَوْتِهِ(3/401)
ولو ردد ألحانه بشعر أو كلام آخر لالتذ به ذلك الالتذاذ فهو مغرور إذ لم يتفقد قلبه فيعرفه أن لذته بكلام الله تعالى من حيث حسن نظمه ومعانيه أو بصوته
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الْأَيَّامَ الشَّرِيفَةَ وَهُمْ فِيهَا لَا يَحْفَظُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عَنِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْهَذَيَانِ بِأَنْوَاعِ الْفُضُولِ طُولَ النَّهَارِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُظَنُّ بِنَفْسِهِ الْخَيْرَ فَيُهْمِلُ الْفَرَائِضَ وَيَطْلُبُ النَّفْلَ ثُمَّ لَا يَقُومُ بِحَقِّهِ وَذَلِكَ غَايَةُ الْغُرُورِ
وفرقة أخرى اغْتَرُّوا بِالْحَجِّ فَيَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنِ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَاسْتِرْضَاءِ الْوَالِدَيْنِ وَطَلَبِ الزَّادِ الْحَلَالِ وَقَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَعْدَ سُقُوطِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيُضَيِّعُونَ فِي الطَّرِيقِ الصَّلَاةَ والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة حتى يؤخذ منهم ولا يحذرون في الطريق من الرفث والخصام وربما جمع بعضهم الحرام وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرياء فيعصي الله تعالى في كسب الحرام أولاً وفي إنفاقه بالرياء ثانياً فلا هو أخذه من حله ولا هو وضعه في حقه ثم يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذميم الصفات لَمْ يُقَدِّمْ تَطْهِيرَهُ عَلَى حُضُورِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ مِنْ رَبِّهِ فهو مغرور
وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكر على الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر منكراً ورد عليه غضب وقال أنا المحتسب فكيف تنكر علي وقد يجمع الناس إلى مسجده ومن تأخر عنه أغلظ القول عليه وإنما غرضه الرياء والرياسة ولو قام بتعهد المسجد غيره لحرد عليه بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله ولو جاء غيره وأذن في وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال لم آخذ حقي وزوحمت على مرتبتي وكذلك قد يتقلد إمامة مسجد ويظن أنه على خير وإنما غرضه أن يقال إنه إمام مسجد فلو تقدم غيره وإن كان أورع وأعلم منه ثقل عليه
وفرقة أخرى جاوروا بمكة أو المدينة واغتروا بمكة وَلَمْ يُرَاقِبُوا قُلُوبَهُمْ وَلَمْ يُطَهِّرُوا ظَاهِرَهُمْ وَبَاطِنَهُمْ فَقُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِبِلَادِهِمْ مُلْتَفِتَةٌ إِلَى قَوْلِ مَنْ يعرفه أن فلاناً مجاور بذلك وتراه يتحدى ويقول قد جاورت بمكة كذا كذا سنة وإذا سمع أن ذلك قبيح ترك صريح التحدي وأحب أن يعرفه الناس بذلك ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُجَاوِرُ وَيَمُدُّ عَيْنَ طَمَعِهِ إلى أوساخ أموال الناس وإذا جمع من ذلك شيئاً شح به وأمسكه لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير فيظهر فيه الرياء والبخل والطمع وَجُمْلَةٌ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ كَانَ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ لَوْ تَرَكَ الْمُجَاوَرَةَ وَلَكِنَّ حُبَّ الْمَحْمَدَةِ وَأَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ أَلْزَمَهُ الْمُجَاوَرَةَ مَعَ التَّضَمُّخِ بهذه الرذائل فهو أيضاً مغرور وما من عمل من الأعمال وعبادة من العبادات إلا وفيها آفات فمن لم يعرف مداخل آفاتها واعتمد عليها فهو مغرور ولا يعرف شرح ذلك إلا من جملة كتب إحياء علوم الدين فيعرف مداخل الغرور في الصلاة من كتاب الصلاة وفي الحج من كتاب الحج والزكاة والتلاوة وسائر القربات من الكتب التي رتبناها فيها وإنما الغرض الآن الإشارة إلى مجامع ما سبق في الكتب
وفرقة أخرى زَهِدَتْ فِي الْمَالِ وَقَنَعَتْ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ بالدون ومن المسكن بالمساجد وَظَنَّتْ أَنَّهَا أَدْرَكَتْ رُتْبَةَ الزُّهَّادِ وَهُوَ مَعَ ذلك راغب في الرياسة وَالْجَاهِ إِمَّا بِالْعِلْمِ أَوْ بِالْوَعْظِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الزُّهْدِ فَقَدْ تَرَكَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ وَبَاءَ بِأَعْظَمِ المهلكين فإن الجاه أعظم من المال ولو ترك الجاه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا(3/402)
مغرور إذا الظن أَنَّهُ مِنَ الزُّهَّادِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الدُّنْيَا وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ مُنْتَهَى لذاتها لرياسة وَأَنَّ الرَّاغِبَ فِيهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا وَحَسُودًا وَمُتَكَبِّرًا وَمُرَائِيًا وَمُتَّصِفًا بِجَمِيعِ خَبَائِثِ الأخلاق
نعم وقد يترك الرياسة ويؤثر الْخَلْوَةَ وَالْعُزْلَةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَغْرُورٌ إِذْ يتطول بذلك على الأغنياء ويخشن معهم الكلام وينظر إليهم بعين الاستحقار ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم وَيُعْجَبُ بِعَمَلِهِ وَيَتَّصِفُ بِجُمْلَةٍ مِنْ خَبَائِثِ الْقُلُوبِ وهو لا يدري وَرُبَّمَا يُعْطَى الْمَالَ فَلَا يَأْخُذُهُ خِيفَةً مِنْ أن يقال بطل زهده ولو قيل له إنه حلال فخذه في الظاهر ورده في الخفية لم تسمح به نفسه خوفاً من ذم الناس فَهُوَ رَاغِبٌ فِي حَمْدِ النَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَلَذِّ أَبْوَابِ الدُّنْيَا وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مَغْرُورٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا لا يخلو من تَوْقِيرِ الْأَغْنِيَاءِ وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن الماثلين إلى غيره من الزهاد وَكُلُّ ذَلِكَ خُدْعَةٌ وَغُرُورٌ مِنَ الشَّيْطَانِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ
وَفِي الْعُبَّادِ مَنْ يُشَدِّدُ عَلَى نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلاً ألف ركعة ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يَخْطُرُ لَهُ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ وَتَفَقُّدُّهُ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات فلا يدري أن ذلك مهلك وإن علم ذلك فلا يظن بنفسه ذلك وإن ظن بنفسه ذلك توهم أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ لِعَمَلِهِ الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مؤاخذ بأحوال القلب وإن توهم فيظن أَنَّ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةَ تَتَرَجَّحُ بِهَا كِفَّةُ حَسَنَاتِهِ وَهَيْهَاتَ وَذَرَّةٌ مِنْ ذِي تَقْوَى وَخُلُقٌ وَاحِدٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَكْيَاسِ أَفْضَلُ مِنْ أَمْثَالِ الْجِبَالِ عَمَلًا بِالْجَوَارِحِ ثُمَّ لَا يَخْلُو هَذَا الْمَغْرُورُ مع سُوءِ خُلُقِهِ مَعَ النَّاسِ وَخُشُونَتِهِ وَتَلَوُّثِ بَاطِنِهِ عن الرياء وَحُبِّ الثَّنَاءِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ مِنْ أَوْتَادِ الْأَرْضِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحْبَابِهِ فَرِحَ الْمَغْرُورُ بذلك وصدق به وزاده ذلك غروراً وَظَنَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّاسِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يَدْرِي أَنَّ ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه
وفرقة أخرى حَرَصَتْ عَلَى النَّوَافِلِ وَلَمْ يَعْظُمِ اعْتِدَادُهَا بِالْفَرَائِضِ تَرَى أَحَدَهُمْ يَفْرَحُ بِصَلَاةِ الضُّحَى وَبِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَافِلِ وَلَا يَجِدُ لِلْفَرِيضَةِ لَذَّةً وَلَا يَشْتَدُّ حِرْصُهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَنْسَى قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ (1) حديث من أبر قال أمك الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديث زيد بن حكيم عن أبيه عن جده وقد تقدم في آداب الصحة
فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب فإن استويا فبالأحوج فإن استويا فبالأتقى والأورع
وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج فربما يحج وهو مغرور بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج وهذا من تقديم فرض أهم من فرض هو دونه
وكذلك إذا كان على العبد ميعاد ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوت والاشتغال
_________
(1) حديث مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افترضت عليهم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ ما تقرب إلي عبدي
وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور
بل قد يتعين في الإنسان فرضان أحدهما يفوت والآخر لا يفوت أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته
فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغروراً
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائض كلها على النوافل وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه وتقديم ما يفوت على مالا يفوت وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له من أبر يا رسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أباك قال ثم من قال أدناك فأدناك(3/403)
بالوفاء بالوعد معصية وإن كان هو طاعة في نفسه
وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك فالنجاسة محذورة وإيذاؤهما محذور والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة
وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر
ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور
وهذا غرور في غاية الغموض لأن المغرور فيه في طاعة إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها
ومن جملته الاشتغال بالمذهب والخلاف من الفقه في حق من بقي عليه شغل من الطاعات والمعاصي الظاهرة والباطنة المتعلقة بالجوارح والمتعلقة بالقلب لأن مقصود الفقه معرفة ما يحتاج إليه غيره في حوائجه
فمعرفة ما يحتاج هو إليه في قلبه أولى به إلا أن حب الرياسة والجاه ولذة المباهاة وقهر الأقران والتقدم عليهم يعمي عليه حتى يغتر به مع نفسه ويظن أنه مشغول بهم دينه
الصنف الثالث المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة
ففرقة منهم وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس عَلَى السَّجَّادَاتِ مَعَ إِطْرَاقِ الرَّأْسِ وَإِدْخَالِهِ فِي الْجَيْبِ كَالْمُتَفَكِّرِ وَفِي تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ وَفِي خَفْضِ الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيها ظنوا أنهم أيضاً صوفية وَلَمْ يُتْعِبُوا أَنْفُسَهُمْ قَطُّ فِي الْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْآثَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَنَازِلِ التصوف ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم يَحُومُوا قَطُّ حَوْلَهَا وَلَمْ يَسُومُوا أَنْفُسَهُمْ شَيْئًا منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بضعهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه
وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين ثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة فتاقت نفسها إلى أن يقطع لها مملكة فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية تبخترهم في الميدان وكيف تحريلم بالأيدي وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق والحركات والسكنات ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت إلى المعسكر أنفذت إلى ديوان العرض وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة فلما جردت عن المغفر والدرع فإذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر فقيل لها أجئت للاستهزاء بالملك وللاستخفاف بأهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها فألقوها قدام الفيل لسخفها فألقيت إلى الفيل
فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا على القاضي إلا كبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع بل إلى القلب
وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور إذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة الثياب والرضا بالدون فأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بداً من التزين بزيهم فتركوا الحرير والإبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو أرفع من الحرير والإبريسم وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعاً ونسي أنهم إنما لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها كل ساعة(3/404)
لإزالة الوسخ وإنما لبسوا المرقعات إذ كانت ثيابهم مخرقة فكانوا يرقعونها ولا يلبسون الجديد فأما تقطيع الفوط الرقيقة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها فمن أي يشبه ما اعتادوه فهؤلاء أظهر حماقة من كافة المغرورين فإنهم يتنعمون بنفيس الثياب ولذيذ الأطعمة ويطلبون رغد العيش ويأكلون أموال السلاطين ولا يجتنبون المعاصي الظاهرة فضلاً عن الباطنة وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق إذ يهلك من يقتدي بهم ومن لا يقتدي بهم تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة ويظن أن جميعهم كانوا من جنسه فيطول اللسان في الصادقين منهم وكل ذلك من شؤم المتشبهين وشرهم
وفرقة أخرى ادَّعَتْ عِلْمَ الْمَعْرِفَةِ وَمُشَاهَدَةَ الْحَقِّ وَمُجَاوَزَةَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُلَازَمَةَ فِي عَيْنِ الشُّهُودِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْقُرْبِ وَلَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُمُورَ إِلَّا بِالْأَسَامِي وَالْأَلْفَاظِ لِأَنَّهُ تَلَقَّفَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّامَّاتِ كَلِمَاتٍ فَهُوَ يُرَدِّدُهَا وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ أَعْلَى مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْفُقَهَاءِ والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الإزراء فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ حَتَّى إِنَّ الْفَلَّاحَ لَيَتْرُكُ فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم أياماً معدودة وَيَتَلَقَّفُ مِنْهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمُزَيَّفَةَ فَيُرَدِّدُهَا كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْوَحْيِ وَيُخْبِرُ عَنْ سِرِّ الْأَسْرَارِ ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون ويقول في العلماء إنهم بالحديث عن الله محجوبون ويدعى لنفسه أنه الواصل إِلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَهُوَ عِنْدَ الله من الفجار الْمُنَافِقِينَ وَعِنْدَ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ مِنَ الْحَمْقَى الْجَاهِلِينَ لَمْ يُحْكِمْ قَطُّ عِلْمًا وَلَمْ يُهَذِّبْ خُلُقًا وَلَمْ يُرَتِّبْ عَمَلًا وَلَمْ يُرَاقِبْ قَلْبًا سِوَى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه
وفرقة أخرى وَقَعَتْ فِي الْإِبَاحَةِ وَطَوَوْا بِسَاطَ الشَّرْعِ وَرَفَضُوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام فبعضهم يزعم إِنَّ اللَّهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ عَمَلِي فَلِمَ أُتْعِبُ نفسي وبعضهم يقول قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال فقد كلفوا ما لا يمكن وإنما يغتر به من لم يجرب وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال
ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما بل إنما كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ لَا وَزْنَ لَهَا وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَقُلُوبُنَا وَالِهَةٌ بِحُبِّ اللَّهِ وَوَاصِلَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَخُوضُ في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في حضرة الرُّبُوبِيَّةِ فَنَحْنُ مَعَ الشَّهَوَاتِ بِالظَّوَاهِرِ لَا بِالْقُلُوبِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ تَرَقَّوْا عَنْ رُتْبَةِ الْعَوَامِّ وَاسْتَغْنَوْا عَنْ تَهْذِيبِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَأَنَّ الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها ويرفعون درجة أنفسهم على درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى وكل ذلك بناء على أغاليط ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به وإحصاء أصنافهم يطول
وفرقة أخرى جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلقت الحلال واشتغلت بتفقد القلب وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها فمنهم من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم أنه واله بالله ولعله قد تخيل في الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل معرفته ثم أنه لا يخلوا عن مقارفة ما يكره الله عز وجل وعن إيثار هوى نفسه على أمر الله وعن ترك بعض الأمور حياءا من الخلق ولو خلا لما تركه حياءا من الله تعالى
وليس يدري أكل ذلك يناقض(3/405)
الحب وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح دعوى التوكل وليس يدري أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحابة وقد كانوا أعرف بالتوكل منه فما فهموا أن التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله تعالى لا على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واثق به وما من مقام من المقامات المنجيات إلا وفيه غرور وقد اغتر به قوم وقد ذكرنا مداخل الآفات في ربع المنجيات من الكتاب فلا يمكن إعادتها
وفرقة أخرى ضيقت على نفسها في أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص وأهملوا تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة ومنهم من أهمل الحلال في مطعمه وملبسه ومسكنه وأخذ يتعمق في غير ذلك وليس يدري المسكين أن الله تعالى لم يرض من عبد بطلب الحلال فقط ولا يرضى بسائر الأعمال دون طلب الحلال بل لا يرضيه إلا تفقد جميع الطاعات والمعاصي
فمن ظن أن بعض هذه الأمور يكفيه وينجيه فهو مغرور
وفرقة أخرى ادَّعَوْا حُسْنَ الْخُلُقِ وَالتَّوَاضُعَ وَالسَّمَاحَةَ فَتَصَدَّوْا لِخِدْمَةِ الصُّوفِيَّةِ فَجَمَعُوا قَوْمًا وَتَكَلَّفُوا بِخِدْمَتِهِمْ وَاتَّخَذُوا ذَلِكَ للرياسة وجمع المال وإنما غرضهم التكبر وهم يظهرون الخدمة والتواضع وغرضهم الارتفاع وهم يظهرون أن غرضهم الإرفاق وغرضهم الاستتباع وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية ثم إنهم يجمعون مِنَ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ وَيُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ لِتَكْثُرَ أَتْبَاعُهُمْ وينشر بالخدمة اسمهم وبعضهم يأخذ أموال السلاطين ينفق عليهم وبعضهم يأخذها لينفق في طريق الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والإنفاق وباعث جميعهم الرياء والسمعة وآية ذلك إهمالهم لجميع أوامر الله تعالى عليهم ظاهراً وباطناً ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه
ومثال من ينفق الحرام في طريق الحج لإرادة الخير كمن يعمر مساجد الله فيطينها بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة
وفرقة أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها وصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علماً وحرفة فهم في جميع أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس واستنباط دقيق الكلام في آفاتها فيقولون هذا في النفس عيب والغفلة عن كونه عيباً عيب والالتفات إلى كونه عيباً عيب ويشغفون فيه بكلمات مسلسلة تضيع الأوقات في تلفيقها ومن جعل طول عمره في التفتيش عن عيوب النفس وتحرير علم علاجها كان كمن اشتغل بالتفتيش عن عوائق الحج وآفاته ولم يسلك طريق الحج فذلك لا يغنيه
وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتح لهم أبواب المعرفة فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبتهم غرابتها فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم وكل ذلك غرور لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية فلو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها قصرت خطاه وحرم الوصول إلى المقصد وكان مثاله مثال من قصد ملكاً فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار لم يكن قد رأى قبل ذلك مثلها فوقف ينظر إليها ويتعجب حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك
وفرقة أخرى جاوزوا هؤلاء ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا فإن لله تعالى سبعين حجاباً من نور لا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا ويظن أنه قد وصل
وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام إذ قال الله تعالى(3/406)
إخباراً عنه فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي وليس المعنى به هذه الأجسام المضيئة فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة وهي كثيرة وليست واحداً والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله فمثل إبراهيم عليه السلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية
ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل وهي على طريق السالكين ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض وأصغر النيرات الكوكب فاستعير له لفظه وأعظمها الشمس وبينهما رتبة القمر فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات حيث قال تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض يصل إلى نور بعد نور ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ثم كان يكشف له أن وراءه أمراً فيترقى إليه ويقول قد وصلت فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده فقال هذا أكبر فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال قال لا أحب الآفلين إلى أن قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الأول وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه فإنه أيضاً أمر رباني وهو نور من أنوار الله تعالى أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل وعند ذلك يشرق نوره إشراقاً عظيماً إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول أنا الحق فإنه لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف عليه وهلك وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية ولم يصل بعد إلى القمر فضلاً عن الشمس فهو مغرور وهذا محل الالتباس إذا المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة بالمرآة فيظن أنه لون المرآة وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه كمن يرى كوكباً في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء فيمد يده إليه ليأخذه وهو مغرور وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع علوم المكاشفة وذلك مما لا رخصة في ذكره ولعل القدر الذي ذكرناه أيضاً كان الأولى تركه إذ السالك لهذا الطريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من غيره والذي لم يسلكه لا ينتفع بسماعه بل ربما يستضر به إذ يورثه ذلك دهشة من حيث يسمع ما لا يفهم ولكن فيه فائدة وهو إخراجه من الغرور الذي هو فيه بل ربما يصدق بأن الأمر أعظم مما يظنه ومما يتخيله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله المزخرف ويصدق أيضاً بما يحكى له من المكاشفات التي أخبر عنها أولياء الله ومن عظم غروره ربما أصر مكذباً بما يسمعه الآن كما يكذب بما سمعه من قبل
الصنف الرابع أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْمُغْتَرُّونَ مِنْهُمْ فِرَقٌ
فَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا الْمَغْفِرَةَ بِذَلِكَ
وقد اغتروا فيه من وجهين(3/407)
أحدهما أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها وتعرضوا لسخطه في إنفاقها وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها فإذن قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله وردها إلى ملاكها إما بأعيانها وإما برد بدلها عند العجز فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب ردها إلى الورثة فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح وربما يَكُونُ الْأَهَمُّ التَّفْرِقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَهُمْ لَا يفعلون ذلك خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس فيبنون الأبنية بالآجر وغرضهم من بنائها الرياء وجلب الثناء وحرصهم على بقائها لبقاء أسمائهم المكتوبة فيها لا لبقاء الخير
والوجه الثاني أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية ولو كلف واحد منهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه ذلك ولم تسمح به نفسه والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب ولولا أنه يريد به وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك
وفرقة أخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد وهي أيضاً مغرورة من وجهين
أحدهما
الرياء وطلب الثناء فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم وأفضل وأولى من الصرف إلى بناء المساجد وزينتها وإنما يخف عليهم الصرف إلى المساجد ليظهر ذلك بين الناس
والثاني أنه يصرف إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلين ومختطفة أبصارهم (1) حديث إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم أخرجه ابن المبارك في الزهد وأبو بكر ابن أبي داود في كتاب المصاحف موقوفاً على أبي الدرداء
وقال الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه جبريل عليه السلام فقال له ابنه سبعة أذرع طولاً في السماء لا تزخرفه ولا تنقشه // حديث الحسن مرسلا لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه جبريل فقال ابنه سبعة أذرع طولاً في السماء ولا تزخرفه ولا تنقشه لم أجده
فغرور هذا من حيث أنه رأى المنكر واتكل عليه
وفرقة أخرى ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ومن
_________
(1) حديث النهي عن زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش أخرجه البخاري من قول عمر بن الخطاب أكن الناس ولا تحمر ولا تصفر
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ وَحُضُورُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ يفسد قلوب المصلين ويحبط ثوابهم بذلك ووبال ذَلِكَ كُلِّهِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يغتر به ويرى أنه من الخيرات ويعد ذلك وسيلة إلى الله تعالى وهو مع ذلك قد تعرض لسخط الله تعالى وهو يظن أنه مطيع له وممتثل لأمره وقد شوش قلوب عباد الله بما زخرفه من المسجد وربما شوقهم به إلى زخارف الدنيا فيشتهون مثل ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه ووبال ذلك كله في رقبته إذ المسجد للتواضع ولحضور القلب مع الله تعالى
قال مالك بن دينار أتى رجلان مسجداً فوقف أحدهما على الباب وقال مثلي لا يدخل بيت الله فكتبه الملكان عند الله صديقاً
فهكذا ينبغي أن تعظم المساجد وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام أو بزخرف الدنيا منة على الله تعالى
وقال الحواريون للمسيح عليه السلام انظر إلى هذا المسجد ما أحسنه فقال أمتي أمتي بحق أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله إن الله لا يعبأ بالذهب والفضة ولا بهذه الحجارة التي تعجبكم شيئاً وإن أحب الأشياء إلى الله تعالى القلوب الصالحة بها يعمر الله الأرض وبها يخرب إذا كانت على غير ذلك وقال أبو الدرداء قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم(3/408)
الفقراء من عادته الشكر والإفشاء للمعروف وَيَكْرَهُونَ التَّصَدُّقَ فِي السِّرِّ وَيَرَوْنَ إِخْفَاءَ الْفَقِيرِ لما يأخذ مِنْهُمْ جِنَايَةً عَلَيْهِمْ وَكُفْرَانًا وَرُبَّمَا يَحْرِصُونَ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْحَجِّ فَيَحُجُّونَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَرُبَّمَا تَرَكُوا جِيرَانَهُمْ جِيَاعًا وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ الْحَاجُّ بِلَا سَبَبٍ يَهُونُ عَلَيْهِمُ السَّفَرُ وَيُبْسَطُ لَهُمْ في الزرق وَيَرْجِعُونَ مَحْرُومِينَ مَسْلُوبِينَ يَهْوِي بِأَحَدِهِمْ بَعِيرُهُ بَيْنَ الرِّمَالِ وَالْقِفَارِ وَجَارُهُ مَأْسُورٌ إِلَى جَنْبِهِ لَا يُوَاسِيهِ
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ إِنَّ رَجُلًا جَاءَ يُوَدِّعُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْحَجِّ فَتَأْمُرُنِي بِشَيْءٍ فَقَالَ لَهُ كم أعددت للنفقة فقال ألفي درهم
قال بشر فأي شئ تبتغي بحجك تَزَهُّدًا أَوِ اشْتِيَاقًا إِلَى الْبَيْتِ أَوِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ قَالَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ أَصَبْتَ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتَ فِي منزلك وَتُنْفِقُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَتَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَتَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ قال اذهب فأعطها عشرة أنفس مديون يقضي دينه وفقير يرم شعثه ومعيل يغني عِيَالَهُ وَمُرَبِّي يَتِيمٍ يُفْرِحُهُ وَإِنْ قَوِيَ قَلْبُكَ تُعْطِيهَا وَاحِدًا فَافْعَلْ فَإِنَّ إِدْخَالَكَ السُّرُورَ عَلَى قلب المسلم وَإِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ وَكَشْفَ الضُّرِّ وَإِعَانَةَ الضَّعِيفِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قُمْ فَأَخْرِجْهَا كَمَا أَمَرْنَاكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَنَا مَا فِي قَلْبِكَ فَقَالَ يَا أبا نصر سَفَرِي أَقْوَى فِي قَلْبِي فَتَبَسَّمَ بشر رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الْمَالُ إِذَا جُمِعَ مِنْ وَسَخِ التِّجَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ اقْتَضَتِ النَّفْسُ أَنْ تَقْضِيَ بِهِ وَطَرًا فَأَظْهَرَتِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ وَقَدْ آلَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ إلا عمل المتقين
وفرقة أخرى مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ اشْتَغَلُوا بِهَا يَحْفَظُونَ الْأَمْوَالَ وَيُمْسِكُونَهَا بِحُكْمِ الْبُخْلِ ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ التي لا يحتاج فِيهَا إِلَى نَفَقَةٍ كَصِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَخَتْمِ الْقُرْآنِ وَهُمْ مَغْرُورُونَ لِأَنَّ الْبُخْلَ الْمُهْلِكَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَوَاطِنِهِمْ فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى قَمْعِهِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ فَقَدِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ فَضَائِلَ هو مُسْتَغْنٍ عَنْهَا وَمِثَالُهُ مِثَالُ مَنْ دَخَلَ فِي ثَوْبِهِ حَيَّةٌ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ وَهُوَ مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن بِهِ الصَّفْرَاءَ وَمَنْ قَتَلَتْهُ الْحَيَّةُ مَتَى يَحْتَاجُ إلى السكنجبين وَلِذَلِكَ قِيلَ لبشر إِنَّ فُلَانًا الْغَنِيَّ كَثِيرُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَقَالَ الْمِسْكِينُ تَرَكَ حَالَهُ وَدَخَلَ فِي حَالِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا حَالُ هَذَا إِطْعَامُ الطَّعَامِ لِلْجِيَاعِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهَذَا أَفْضَلُ لَهُ مِنْ تَجْوِيعِهِ نَفْسَهُ وَمِنْ صَلَاتِهِ لِنَفْسِهِ من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء
وفرقة أخرى غَلَبَهُمُ الْبُخْلُ فَلَا تَسْمَحُ نُفُوسُهُمْ إِلَّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَطْ ثُمَّ إِنَّهُمْ يُخْرِجُونَ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثَ الرَّدِيءَ الَّذِي يَرْغَبُونَ عَنْهُ وَيَطْلُبُونَ مِنَ الفقراء من يخدمهم ويتردد في حاجاتهم ومن يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِلِاسْتِسْخَارِ فِي خِدْمَةٍ أو من لهم فيه على الجملة غرض أو يسلمون ذلك إِلَى مَنْ يُعِينُهُ وَاحِدٌ مِنَ الْأَكَابِرِ مِمَّنْ يَسْتَظْهِرُ بِحَشَمِهِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً فَيَقُومُ بِحَاجَاتِهِ
وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدَاتٌ لِلنِّيَّةِ وَمُحْبِطَاتٌ لِلْعَمَلِ وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ وَيَظُنُّ أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فَاجِرٌ إِذْ طَلَبَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عِوَضًا من غيره فهذا وأمثاله من غرور أصحاب الأموال أيضاً لَا يُحْصَى وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْقَدْرَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَجْنَاسِ الْغُرُورِ
وَفِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْ عَوَامِّ الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغْتَرُّوا بِحُضُورِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِيهِمْ وَيَكْفِيهِمْ وَاتَّخَذُوا ذَلِكَ عَادَةً وَيَظُنُّونَ أَنَّ لَهُمْ عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعِ الْوَعْظِ دُونَ الْعَمَلِ ودون الاتعاظ أَجْرًا وَهُمْ مَغْرُورُونَ لِأَنَّ فَضْلَ مَجْلِسِ الذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مُرَغِّبًا فِي الْخَيْرِ فَإِنْ لَمْ يُهَيِّجِ الرَّغْبَةَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ وَالرَّغْبَةُ مَحْمُودَةٌ لِأَنَّهَا تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ ضَعُفَتْ عَنِ الْحَمْلِ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا خَيْرَ فِيهَا وَمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا قَصَّرَ عَنِ الْأَدَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ وَرُبَّمَا يَغْتَرُّ بِمَا يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء وربما تدخله رقة كرقة(3/409)
النِّسَاءِ فَيَبْكِي وَلَا عَزْمَ وَرُبَّمَا يَسْمَعُ كَلَامًا مُخَوِّفًا فَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُصَفِّقَ بِيَدَيْهِ وَيَقُولَ يَا سَلَامُ سَلِّمْ أَوْ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْخَيْرِ كُلِّهِ وَهُوَ مَغْرُورٌ
وَإِنَّمَا مِثَالُهُ مِثَالُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْأَطِبَّاءِ فَيَسْمَعُ مَا يَجْرِي أَوِ الْجَائِعِ الَّذِي يَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَصِفُ لَهُ الْأَطْعِمَةَ اللَّذِيذَةَ الشَّهِيَّةَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَضِهِ وَجُوعِهِ شَيْئًا
فَكَذَلِكَ سَمَاعُ وَصْفِ الطَّاعَاتِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
فَكُلُّ وَعْظٍ لَمْ يُغَيِّرْ مِنْكَ صِفَةً تَغْيِيرًا يُغَيِّرُ أفعالك حتى تقبل على الله إِقْبَالًا قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا وَتُعْرِضَ عَنِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ الْوَعْظُ زِيَادَةُ حُجَّةٍ عَلَيْكَ فَإِذَا رَأَيْتَهُ وسيلة لك كنت مغروراً
فإن قلت فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ولا يمكن الاحتراز منه وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات فأقول الإنسان إذا افترقت هِمَّتُهُ فِي شَيْءٍ أَظْهَرَ الْيَأْسَ مِنْهُ وَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ وَاسْتَوْعَرَ الطَّرِيقَ وَإِذَا صَحَّ مِنْهُ الْهَوَى اهْتَدَى إِلَى الْحِيَلِ وَاسْتَنْبَطَ بِدَقِيقِ النَّظَرِ خَفَايَا الطرق فِي الْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْزِلَ الطَّيْرَ الْمُحَلِّقَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ بُعْدِهِ مِنْهُ اسْتَنْزَلَهُ وَإِذَا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْخِرَ السِّبَاعَ وَالْفِيَلَةَ وَعَظِيمَ الحيوانات استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الدرياق من أجوافها وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخراج بدقيق الهندسة ذلك وهو مستقر على الأرض وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي لاقتناص الطيور وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ حِيَلِ الْآدَمِيِّ
كل ذلك لأن همه أمر دنياه وذلك معين له على دنياه فلو همه أَمْرُ آخِرَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا شُغْلٌ وَاحِدٌ وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل وقال هذا محال ومن الذي يقدر عليه وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد بل هو كما يقال لو صح منك الهوى أرشدت للحيل فهذا شَيْءٌ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ
فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَيْضًا مَنْ صَدَقَتْ إِرَادَتُهُ وَقَوِيَتْ هِمَّتُهُ بَلْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عُشْرِ تَعَبِ الْخَلْقِ فِي اسْتِنْبَاطِ حِيَلِ الدُّنْيَا وَنَظْمِ أَسْبَابِهَا
فَإِنْ قُلْتَ قَدْ قَرَّبْتَ الْأَمْرَ فِيهِ مَعَ أَنَّكَ أَكْثَرْتَ فِي ذِكْرِ مَدَاخِلِ الْغُرُورِ فَبِمَ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنَ الْغُرُورِ فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور بالفعل وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَا بُدَّ مِنْهَا
أَمَّا الْعَقْلُ فَأَعْنِي بِهِ الْفِطْرَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَالنُّورَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي بِهِ يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ حَقَائِقَ الأشياء فالفطنة والكيس فطرة والحمق والبلادة فطرة والبليد لا يقدر على التحفظ عن الغرور فصفاء العقل وذكاء الفهم لا بد منه في أصل الفطرة فهذا إن لم يفطر عليه الإنسان فاكتسابه غير ممكن
نعم إذا حصل أصله أمكن تقويته بالممارسة فأساس السعادات كلها العقل والكياسة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبارك الله الذي قسم العقل بين عباده أشتاتا // حديث تبارك الذي قسم العقل بين عباده الحديث أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من رواية طاوس مرسلا وفي أوله قصة وإسناده ضعيف ورواه بنحوه من حديث أبي حميد وهو ضعيف أيضا
إن الرجلان ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذرة في جنب أحد وما قسم الله لخلقه حظا أفضل من العقل واليقين
وعن أبي الدرداء أنه قيل يا رسول الله أرأيت الرجل يصوم النهار ويقوم الليل ويحج ويعتمر ويتصدق(3/410)
ويغزو في سبيل الله ويعود المريض ويشيع الجنائز ويعين الضعيف ولا يعلم منزلته عند الله يوم القيامة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يجزى على قدر عقله (1) حديث أنس أثني على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف عقله الحديث أخرجه داود بن المحبر في كتاب العقل وهو ضعيف وتقدم في العلم
وقال أبو الدرداء كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل عن عقله فإذا قالوا حسن قال أرجوه وإن قالوا كان غير ذلك قال لن يبلغ // حديث أبي الدرداء كان إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل عن عقله الحديث أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر وابن عدي ومن طريقه البيهقي في الشعب وضعفه
وذكر له شدة عبادة رجل فقال كيف عقله قالوا ليس بشيء قال لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون فالذكاء صحيح وغريزة العقل نعمة من الله تعالى في أصل الفطرة فإن فاتت ببلادة وحماقة فلا تدارك لها
الثاني المعرفة وأعني بالمعرفة أن يعرف أربعة أمور يعرف نفسه ويعرف ربه ويعرف الدنيا ويعرف الآخرة فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه غريباً في هذا العالم وأجنبياً من هذه الشهوات البهيمية وإنما الموافق له طبعاً هو معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه فقط فلا يتصور أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب الشكر إذ فيها إشارات إلى وصف النفس وإلى وصف جلال الله ويحصل به التنبه على الجملة وكمال المعرفة وراءه فإن هذا من علوم المكاشفة ولم نطنب في هذا الكتاب إلا في علوم المعاملة
وأما معرفة الدنيا والآخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا وكتاب ذكر الموت ليتبين له أن لا نسبة للدنيا إلى الآخرة فإذا عرف نفسه وربه وعرف الدنيا والآخرة ثَارَ مِنْ قَلْبِهِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ حُبُّ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الْآخِرَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَبِمَعْرِفَةِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ عَنْهَا وَيَصِيرُ أَهَمُّ أُمُورِهِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا غَلَبَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ عَلَى قَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ في الأمور كلها فإن أكل مثلاً أو اشتغل بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة
وصحت نيته وَانْدَفَعَ عَنْهُ كُلُّ غَرُورٍ مَنْشَؤُهُ تَجَاذُبُ الْأَغْرَاضِ والنزوع إلى الدنيا والجاه والمال فإن ذلك هو المفسد للنية
وَمَا دَامَتِ الدُّنْيَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْآخِرَةِ وهوى نفسه أحب إليه من رضا اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنَ الْغُرُورِ
فَإِذَا غَلَبَ حُبُّ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَبِنَفْسِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ كَمَالِ عَقْلِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ وَهُوَ الْعِلْمُ أَعْنِي الْعِلْمَ بمعرفة كيفية سلوك الطريق إلى الله والعلم بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ والعلم بآفات الطريق وعقباته وغوائله وجميع ذلك قد أودعناه كتب إحياء علوم الدين فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها ومن ربع الْعَادَاتِ أَسْرَارَ الْمَعَايِشِ وَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ بِأَدَبِ الشَّرْعِ وَمَا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فيعرض عنه ومن ربع الْمُهْلِكَاتِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْعَقَبَاتِ الْمَانِعَةِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنَ اللَّهِ الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ فِي الْخُلُقِ فَيَعْلَمُ الْمَذْمُومَ وَيَعْلَمُ طَرِيقَ عِلَاجِهِ ويعرف من ربع الْمُنْجِيَاتِ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةَ الَّتِي لَا بُدَّ وَأَنْ تُوضَعَ خَلَفًا عَنِ الْمَذْمُومَةِ بَعْدَ مَحْوِهَا فَإِذَا أَحَاطَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ أَمْكَنَهُ الْحَذَرُ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا مِنَ الْغُرُورِ وَأَصْلُ ذَلِكَ كله أن يغلب
_________
(1) حديث أبي الدرداء أرأيت الرجل يصوم النهار ويقوم الليل الحديث وفيه إنما يجزى على قدر عقله أخرجه الخطيب في التاريخ وفي أسماء من روى عن مالك من حديث ابن عمر وضعفه ولم أره من حديث أبي الدرداء
وقال أنس أثني على رجل عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا خيراً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف عقله قالوا يا رسول الله نقول من عبادته وفضله وخلقه فقال كيف عقله فإن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر
وإنما يقرب الناس يوم القيامة على قدر عقولهم(3/411)
حُبُّ اللَّهِ عَلَى الْقَلْبِ وَيَسْقُطَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنْهُ حَتَّى تَقْوَى بِهِ الْإِرَادَةُ وَتَصِحَّ بِهِ النِّيَّةُ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ الَّتِي ذكرناها
فإن قلت فإذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه فأقول يخاف عليه أن يخدعه الشيطان ويدعوه إلى نصح الخلق ونشر العلم ودعوته الناس إلى ما عرفه من دين الله فإن المريد المخلص إذا فرغ من تهذيب نفسه وأخلاقه وراقب القلب حتى صفاه من جميع المكدرات واستوى على الصراط المستقيم وصغرت الدنيا في عينه فتركها وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم ولم يبق إلا هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق إلى لقائه وقد عجز الشيطان عن إغرائه إذ يأتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا يطيعه فيأتيه من جهة الدين ويدعوه إلى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم والنصح لهم والدعاء إلى الله فينظر العبد برحمته إلى العبيد فيراهم حيارى في أمرهم سكارى في دينهم صماً عمياً قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون وفقدوا الطبيب وأشرفوا على العطب فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده حقيقة المعرفة بما يهديهم ويبين لهم ضلالهم ويرشدهم إلى سعادتهم وهو يقدر على ذكرها من غير تعب ومؤنة ولزوم غرامة فكان مثله كمثل رجل كان به داء عظيم لا يطاق ألمه وقد كان لذلك يسهر ليله ويقلق نهاره لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الألم فوجد له دواء عفواً صفواً من غير ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب نومه بالليل بعد طول سهره وهدأ بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر وأصاب لذة العافية بعد طول السقام ثم نظر إلى عدد كثير من المسلمين وإذا بهم تلك العلة بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع إلى السماء أنينهم فتذكر أن دواءهم هو الذي يعرفه ويقدر على شفائهم بأسهل ما يكون وفي أرجى زمان فأخذته الرحمة والرأفة ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال بعلاجهم فكذلك العبد المخلص بعد أن اهتدى إلى الطريق وشفي من أمراض القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم وأعضل داؤهم وقرب هلاكهم وإشفاؤهم وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في الاشتغال بنصحهم وحرضه الشيطان على ذلك رجاء أن يجد مجالاً للفتنة فلما اشتغل بذلك وجد الشيطان مجالاً للفتنة فدعاه إلى الرياسة دعاء خفياً أخفى من دبيب النمل لا يشعر به المريد فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق بتحسين الألفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة فأقبل الناس إليه يعظمونه ويبجلونه ويوقرونه توقيراً يزيد على توقير الملوك إذا رأوه شافياً لأدوائهم بمحض الشفقة والرحمة من غير طمع فصار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم فآثروه بأبدانهم وأموالهم وصاروا له خولاً كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه على الملوك والسلاطين فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة أصابت من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة فكان قد ترك الدنيا فوقع في أعظم لذاتها فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت إلى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما يحفظ عليه تلك اللذة
وأمارة انتشار الطبع وركون النفس إلى الشيطان أنه لو أخطأ فرد عليه بين يدي الخلق غضب فإذا أنكر على نفسه ما وجده من الغضب بادر الشيطان فخيل إليه أن ذلك غضب لله لأنه إذا لم يحسن اعتقاد المريدين فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور فربما أخرجه ذلك إلى الوقيعة فيمن رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال المتسع ووقع في الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد أن يحذر من طوارق الخطرات وكذلك إذا سبقه الضحك أو فتر عن بعض الأوراد جزعت النفس أن يطلع عليه فيسقط قبوله فأتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء(3/412)
وربما زاد في الأعمال والأوراد لأجل ذلك والشيطان يخيل إليه إنك إنما تفعل ذلك كيلا يفتر رأيهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه وإنما ذلك خدعة وغرور بل هو جزع من النفس خيفة فوت الرياسة ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على مثل ذلك من أقرانه بل ربما يحب ذلك ويستبشر به ولو ظهر من أقرانه من مالت القلوب إلى قبوله وزاد أثر كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا أن النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة لكان يغتنم ذلك إذ مثاله أن يرى الرجل جماعة من إخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى
رأس البئر بحجر كبير فعجزوا عن الرقي من البئر بسببه فرق قلبه لإخوانه فجاء ليرفع الحجر من رأس البئر فشق عليه فجاءه من أعانه على ذلك حتى تيسر عليه أو كفاه ذلك ونحاه بنفسه فيعظم بذلك فرحه لا محالة إذ غرضه خلاص إخوانه من البئر فإن كان غرض الناصح خلاص إخوانه المسلمين من النار فإذا ظهر من أعانه أو كفاه ذلك لم يثقل عليه أرأيت لو اهتدوا جميعهم من أنفسهم أكان ينبغي أنه يثقل ذلك عليه إن كان غرضه هدايتهم فإذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه ومهما وجد ذلك في نفسه دعاه الشيطان إلى جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح وأهلكه فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن اعوجاج النفس بعد الاستواء
فإن قلت فمتى يصح له أن يشتغل بنصح الناس فأقول إذا لم يكن له قصد إلا هدايتهم لله تعالى وكان يود لو وجد من يعينه أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن ثنائهم وعن أموالهم فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم إذا كان الله يحمده ولم يفرح بحمدهم إذ لم يقترن به حمد الله تعالى ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات وإلى البهائم
أما إلى السادات فمن حيث إنه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيراً منه لجهله بالخاتمة
وأما إلى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فإنه لا يبالي كيف تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع بل راعي الماشية إنما غرضه رعاية الماشية ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية إليه
فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت إلى نظرها ولا يبالي بها لا يسلم من الاشتغال بإصلاحهم
نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه بإصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره ويحترق في نفسه
فإن قلت فلو ترك الوعاظ الوعظ إلا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن الوعظ وخربت القلوب فأقول قد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حب الدنيا رأس كل خطيئة // حديث حب الدنيا رأس كل خطيئة أخرجه البيهقي في الشعب من حديث الحسن مرسلا وقد تقدم في كتاب ذم الدنيا
ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش وهلكت القلوب والأبدان جميعاً إلا أنه صلى الله عليه وسلم علم أن حب الدنيا مهلك وأن ذكر كونه مهلكاً لا ينزع الحب من قلوب الأكثرين لا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم فلم يترك النصح وذكر ما في حب الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفاً من أن يترك نفسه بالشهوات المهلكة التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنم تصديقاً لقوله تعالى ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فكذلك لا تزال ألسنة الوعاظ مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول إن الوعظ لحب الرياسة حرام كما لا يدع الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم وسائر المعاصي يقول الله تعالى ورسوله إن ذلك حرام فانظر لنفسك وكن فارغ القلب من حديث الناس فإن الله تعالى يصلح خلقاً كثيراً بإفساد شخص واحد وأشخاص ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض وإن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم(3/413)
فإنما يخشى أن يفسد طريق الاتعاظ فأما أن تخرص ألسنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب الدنيا فلا يكون ذلك أبداً
فإن قلت فإن علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك النصح أو نصح وراعى شرط الصدق والإخلاص فيه فما الذي يخاف عليه وما الذي بقي بين يديه من الأخطار وحبائل الاغترار فاعلم أنه بقي عليه أعظمه وهو أن الشيطان يقول له قد أعجزتني وأفلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت على جملة من الأولياء والكبراء وما قدرت عليك فما أصبرك وما أعظم عند الله قدرك ومحلك إذ قواك على قهري ومكنك من التفطن لجميع مداخل غروري فيصغي إليه ويصدقه ويعجب بنفسه من فراره في الغرور كله فيكون إعجابه بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الأكبر فالعجب أعظم من كل ذنب ولذلك قال الشيطان يا ابن آدم إذا ظننت أنك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي
فإن قلت فلو لم يعجب بنفسه إذ علم أن ذلك من الله تعالى لا منه وإن مثله لا يقوى على دفع الشيطان إلا بتوفيق الله ومعونته ومن عرف ضعف نفسه وعجزه عن أقل القليل فإذا قدر على مثل هذا الأمر العظيم علم أنه لم يقو عليه بنفسه بل بالله تعالى فما الذي يخاف عليه بعد نفي العجب فأقول يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والأمن من مكره حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة والانقلاب فيكون حاله الاتكال على فضل الله فقط دون أن يقارنه الخوف من مكره ومن أمن مكر الله فهو خاسر جداً بل سبيله أن يكون مشاهداً جملة ذلك من فضل الله ثم خائفاً على نفسه أن يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء وسوء خلق والتفات إلى عز وهو غافل عنه ويكون خائفاً أن يسلب حاله في كل طرفة عين غير آمن من مكر الله ولا غافل عن خطر الخاتمة
وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه إلا بعد مجاوزة الصراط
ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس فقال أفلت مني يا فلان فقال لا بعد
ولذلك قيل الناس كلهم هلكى إلى العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
فإذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف والحذر قلوب أولياء الله أبداً
فنسأل الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة فإن الأمور بخواتيمها
تم كتاب ذم الغرور وبه تم ربع المهلكات ويتلوه في أول ربع المنجيات كتاب التوبة والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
تم الجزء الثالث من كتاب إحياء علوم الدين ويليه الجزء الرابع وأوله كتاب التوبة(3/414)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوبة وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم
الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب وبذكره يصدر كل خطاب وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الثواب وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخي دونهم الحجاب وضرب بينهم وبين السعداء بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ونتوب إليه توبة من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم الغفور التواب ونمزج الخوف برجائنا مزج من لا يرتاب أنه مع كونه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب
ونصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه صلاة تنقذنا من هول المطلع يوم العرض والحساب وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب
أما بعد فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين ولأبينا آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء أجمعين وما أجدر بالأولاد الإقتداء بالآباء والأجداد فلا غرو إن أذنب الآدمي واجترم فهي شنشنة نعرفها من أخزم ومن أشبه أباه فما ظلم ولكن الأب إذا جبر بعد ما كسر وعمر بعد أن هدم فليكن النزوع إليه في كلا طرفي النفي والإثبات والوجود والعدم ولقد قرع آدم سن الندم وتندم على ما سبق منه وتقدم فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلت به القدم بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان والمتجرد للشر شيطان والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان فقد ازدوج في طينة الإنسان شائبتان واصطحب فيه سجيتان وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك آو إلى آدم أو إلى الشيطان فالتائب قد أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان والمصر على الطغيان مسجل على نفسه بنسب الشيطان فإما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد(4/2)
لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجناً محكماً لا يخلصه إلا إحدى النارين نار الندم أو نار جهنم فالإحراق بالنار ضروري في تخليص جوهر الإنسان من خبائث الشيطان وإليك الآن اختيار أهون النارين والمبادرة إلى أخف الشرين قبل أن يطوى بساط الاختيار ويساق إلى دار الاضطرار إما إلى الجنة وإما إلى النار وإذا كانت التوبة موقعها من الدين هذا الموقع وجب تقديمها في صدر ربع المنجيات بشرح حقيقتها وشروطها وسببها وعلامتها وثمرتها والآفات المانعة منها والأدوية الميسرة لها ويتضح ذلك بذكر أربعة أركان
الركن الأول في نفس التوبة وبيان حدها وحقيقتها وأنها واجبة على الفور وعلى جميع الأشخاص وفي جميع الأحوال وأنها إذا صحت كانت مقبولة
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهو الذنوب وبيان انقسامها إلى صغائر وكبائر وما يتعلق بالعباد وما يتعلق بحق الله تعالى وبيان كيفية توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات وبيان الأسباب التي بها تعظم الصغائر
الركن الثالث في بيان شروط التوبة ودوامها وكيفية تدارك ما مضى من المظالم وكيفية
تكفير الذنوب وبيان أقسام التائبين في دوام التوبة الركن الرابع في المسبب الباعث على التوبة وكيفية العلاج في حل عقدة الإصرار من المذنبين
ويتم المقصود بهذه الأركان الأربعة إن شاء الله عز وجل الركن الأول في نفس التوبة بيان حقيقة التوبة وحدها
اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتثم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل فالعلم الأول والحال الثاني والفعل الثالث وَالْأَوَّلُ مُوجِبٌ لِلثَّانِي وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِلثَّالِثِ إِيجَابًا اقتضاه اطراد سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ أَمَّا الْعِلْمُ فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ كُلِّ مَحْبُوبٍ فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً بِيَقِينٍ غَالِبٍ عَلَى قَلْبِهِ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ مَهْمَا شَعَرَ بِفَوَاتِ مَحْبُوبِهِ تَأَلَّمَ فَإِنْ كَانَ فَوَاتُهُ بِفِعْلِهِ تَأَسَّفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ فَيُسَمَّى تَأَلُّمُهُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ الْمُفَوِّتِ لِمَحْبُوبِهِ نَدَمًا فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على القلب واستولى وانبعث مِنْ هَذَا الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بالحال والماضي وَبِالِاسْتِقْبَالِ أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ فَبِالتَّرْكِ لِلذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا وَأَمَّا بِالِاسْتِقْبَالِ فَبِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ وَأَمَّا بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول فيطلق اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَجْمُوعِهَا وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى النَّدَمِ وَحْدَهُ وَيُجْعَلُ العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وسلم الندم توبة
حديث الندم توبة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين // إذ لا يخلو الندم عن علم(4/3)
أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه فيه أعني ثمرته ومثمره وبهذا الاعتبار قيل في حد التوبة إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء وقال سهل ابن عبد الله التستري التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر وإذا فهمت هذه المعاني الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة
بَيَانُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَفَضْلُهَا
اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ ظَاهِرٌ بِالْأَخْبَارِ (1) وَالْآيَاتِ وَهُوَ وَاضِحٌ بِنُورِ البصيرة عند من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنياً عن قائد يقوده في كل خطوة فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوه وإما بصير يهدى إلى أول الطريق ثم يهتدي بنفسه وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله وربما يعوزه ذلك فيتحير فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر وخطاه قاصرة ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان وهو لشدة نور باطنه يجتزىء بأدنى بيان فكأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار فإذا مسته نار فهو نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولاً بنور البصيرة إلى التوبة ما هي ثم إلى الوجوب ما معناه ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة فلا يشك في ثبوته لها وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجباً معنى وقول القائل صار واجباً بالإيجاب حديث محض فإن مالا غرض لنا آجلاً وعاجلاً في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد وعلم أَنْ لَا سَعَادَةَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ إِلَّا فِي لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ مَحْجُوبٍ عنه يشقى لَا مَحَالَةَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِي محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أنه لَا مُبْعِدَ عَنْ لِقَاءِ اللَّهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعاً وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال بالكلية على الله طلباً للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله وإتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سَبَبُ كَوْنِهِ مَحْجُوبًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّ الِانْصِرَافَ عَنْ طَرِيقِ الْبُعْدِ وَاجِبٌ لِلْوُصُولِ إِلَى الْقُرْبِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ الانصراف بالعلم والندم والعزم فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم فلا يشك في أن المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول
_________
(1) الأخبار الدالة على وجوب التوبة أخرج مسلم من حديث الأغر المزنى يا أيها الناس توبوا إلى الله الحديث ولابن ماجه من حديث جابر يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا الحديث وسنده ضعيف(4/4)
إلى المحبوب وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون وهذا أمر على العموم وقال الله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله توبةً نصوحاً الآية وَمَعْنَى النَّصُوحِ الْخَالِصُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِيًا عَنِ الشوائب مأخوذ من النصح وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّوْبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال صلى الله عليه وسلم التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته (2) وفي بعض الألفاظ قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله أنا ربك وأنت عبدي ويروى عن الحسن قال لما تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك فقال آدم عليه السلام يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين مقامي فأوحى الله إليه يا آدم ورثت ذويك التعب والنصب وورثتهم التوبة فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك ومن سألني المغفرة لم أبخل عليه لأني قريب مجيب يا آدم وأحشر التائبين من القبور مستبشرينضاحكين ودعاؤهم مستجاب والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات ومبعدات من الله تعالى وهذا داخل في وجوب الإيمان ولكن قد تدهش الغفلة عنه فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة ولا خلاف في وجوبها ومن معانيها ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال وذلك لا يشك في وجوبه وأما التندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب وهو روح التوبة وبه تمام التلافي فكيف لا يكون واجباً بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فات من العمر وضاع في سخط الله
فإن قلت تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار فكيف يوصف بالوجوب فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال بل العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة والقادر الكل من خلق الله وفعله والله خلقكم وما تعملون هذا هو الحق عند ذوي الأبصار وما سوى هذا ضلال
فإن قلت أفليس للعبد اختيار في الفعل والترك قلنا نعم وذلك لا يناقض قولنا إن الكل من خلق الله تعالى بل الاختيار أيضاً من خلق الله والعبد مضطر في الاختيار الذي له فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة
_________
(1) حديث التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني دون الأول وأما الشطر الأول فروى ابن أبي الدنيا في التوبة وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بسند ضعيف إن الله يحب الشاب التائب ولعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبى يعلى بسند ضعيف من حديث على إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب
(2) حديث لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية مهلكة الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود وأنس زاد مسلم في حديث أنس ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ورواه مسلم بهذه الزيادة من حديث النعمان بن بشير ومن حديث أبى هريرة مختصرا(4/5)
وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة وخلق العلم في القلب بأن هذا الطعام يسكن الشهوة وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختياراً ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضرورياً فتحصل الحركة فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة وانجزام الإرادة وهما أيضاً من خلق الله وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع وهما أيضاً من خلق الله تعالى ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيباً جرت به سنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة وما لم يخلق فيها حياة وما لم يخلق إرادة مجزومة ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلاً في النفس ولا ينبعث هذا الميل انبعاثاً تاماً ما لم يخلق علماً بأنه موافق للنفس إما في الحال أو في المآل ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم فالعلم والميل الطبيعي أبداً يستتبع الإرادة الجازمة والقدرة والإرادة أبداً تستردف الحركة وهكذا الترتيب في كل فعل والكل من اختراع الله تعالى ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم فيكون خلق الجسم شرطاً لحدوث الحياة لا أن الحياة تتولد من الجسم ويكون خلق الحياة شرطاً لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حياً ويكون خلق العلم شرطاً لجزم الإرادة لا أن العلم يولد الإرادة ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم ولا يدخل في الوجود إلا ممكن والإمكان ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب والعبد مجري هذه الحوادث المرتبة وهي مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيباً كلياً لا يتغير وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر وعن القضاء الكلي الأزلي العبارة بقوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجاري القضاء والقدر ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة وبعد خلق ميل قوى جازم في نفسه يسمى القصد وبعد علم بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت وقالوا يا أيها الرجل قد تحركت ورميت وكتبت ونودي من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وما قتلت إذ قتلت ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة فمن قائل إنه جبر محض ومن قائل إنه اختراع صرف ومن متوسط مائل إلى أنه كسب ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول وقد يطلع على الشهادة(4/6)
من لم يدخل في حيز الارتضاء ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات وعلم كيفية تسلسلها ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علماً يقيناً أن لا خالق إلا الله ولا مبدع سواه
فإن قلت قد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض فكيف يمكن فهم ذلك وهل يمكن إيصال ذلك إلى الإفهام بمثال فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على أذنه فقالوا قد عرفنا انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم فقال الذي لمس الرجل إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها وقال الذي لمس الناب ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس في غلظ الأسطوانة أصلاً بل هو مثل عمود وقال الذي لمس الأذن لعمري هو لين وفيه خشونة فصدق أحدهما فيه ولكن قال ما هو مثل عمود ولا هو مثل أسطوانة وإنما هو مثل جلد عريض غليظ فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل ولكنهم بحملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل فاستبصر بهذا المثال واعتبر به فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه وإن كان هذا كلاماً يناطح علوم المكاشفة ويحرك أمواجها وليس ذلك من غرضنا فلنرجع إلى ما كنا بصدده وهو بيان أن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاثة العلم والندم والترك وأن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعاً في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها وما هذا وصفه فاسم الوجوب يشمله
بيان أن وجوب التوبة على الفور
أما وجوبها على الفور فلا يُسْتَرَابُ فِيهِ إِذْ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ المتقصي عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل المكروه فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التى لا تتعلق بعمل بل هي من علوم المعاملة وكل علم يراد ليكون باعثاً على عمل فلا يقع التقصي عن عهدته ما لم يصر باعثاً عليه فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثاً لتركها فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا فَهُوَ فَاقِدٌ لِهَذَا الْجُزْءِ من الإيمان وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ (1) وما أراد به نفي الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصي وإنما أراد به نفي الإيمان لِكَوْنِ الزِّنَا مُبْعِدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبًا للمقت كما إذا قال الطبيب هذا سم فلا تتناوله فإذا تناوله يقال تناول وهو غير مؤمن لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود الطبيب وكونه طبيباً وغير مصدق به بل المراد أنه غير مصدق بقوله إنه سم مهلك فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلاً فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان وليس الإيمان باباً واحداً بل هو نيف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ومثاله قول القائل ليس الإنسان موجوداً واحداً بل هو نيف وسبعون موجوداً أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأضافر نقى البشرة عن
_________
(1) حديث لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ متفق عليه من حديث أبي هريرة(4/7)
الخبث حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها وهذا مثال مطابق فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان بالكلية كفقد الروح والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة لا أصل الروح وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التي تخلف عنها الأعضاء التي تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ولم تنتشر في الأعمال فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة لا ما يسقى بالطاعات على توالي الأيام والساعات حتى رسخ وثبت وقول العاصي للمطيع إني مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر أنا شجرة وأنت شجرة وما أحسن جواب شجرة الصنوبر إذ قالت ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف فعند ذلك تنقطع أصولك وتتناثر أوراقك وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبوت الأشجار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
وهذا أمر يظهر عند الخاتمة وإنما انقطع نياط العارفين خوفاً من دواعي الموت ومقدماته الهائلة التي لا يثبت عليها إلا الأقلون فالعاصي إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته وأن الموت غالباً لا يقع فجأة فيقال له الصحيح يخاف المرض ثم إذا مرض خاف الموت وكذلك العاصي يخاف سوء الخاتمة ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب الخلود في النار فالعاصى للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة فكذلك المعاصي فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة تلافياً لبدنه المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة وهو العمر فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التي فيها النعيم المقيم والملك العظيم وفي فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذى تتصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عشر عشير مدته إذ ليس لمدته آخر البتة فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا ينفع بعده الاحتماء فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين ويدخل تحت عموم قوله تعالى {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ولا يغرنك لفظ الإيمان فنقول المراد بالآية الكافر إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون باباً وأن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي حروف وفروع سيساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل فلا بقاء للأصل دون الفرع(4/8)
ولا وجود للفرع دون الأصل ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعاً يستدعي وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغني أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم
بيان أن وجوب التوبة عام في الأشخاص والأحوال فلا ينفك عنه أحد البتة
اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون فعمم الخطاب ونور البصيرة أيضاً يرشد إليه إذ معنى التوبة الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان ولا يتصور ذلك إلا من عاقل ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة التي هي وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة الأربعين وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ ومباديه تظهر بعد سبع سنين والشهوات جنود الشيطان والعقول جنود الملائكة فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة إذ لا يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور والظلمة ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه ثم يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئاً فشيئاً على التدريج فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} وإن كمل العقل وقوي كان أول شغله قمع حنود الشيطان بكسر الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات ولا معنى للتوبة إلا هذا وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان إلى طريق الله تعالى وليس في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التي هي عدة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضرورياً في حق كل إنسان نبياً كان أو غبياً فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام وقد قيل
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند
بل هو حكم أزلي مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية التي لا مطمع في تبديلها فإذن كل من بلغ كافراً جاهلاً فعليه التوبة من جهله وكفره فإذا بلغ مسلماً تبعاً لأبويه غافلاً عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم معنى الإسلام فإنه لا يغني عنه إسلام أبويه شيئاً ما لم يسلم بنفسه فإن فهم ذلك فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب حدود الله في المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال وهو من أشق أبواب التوبة وفيه هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه وكل هذا رجوع وتوبة فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل شخص يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم فخلقة الولد لا تتسع لما لم يتسع له خلقة الوالد أصلاً وأما بيان وجوبها عَلَى الدَّوَامِ وَفِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ(4/9)
أَنَّ كُلَّ بَشَرٍ فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْصِيَةٍ بجوارحه إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنِ الْهَمِّ بِالذُّنُوبِ بِالْقَلْبِ فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنِ الْهَمِّ فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ المتفرقة الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنْ خَلَا عَنْهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَلَهُ أسباب وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رُجُوعٌ عَنْ طَرِيقٍ إِلَى ضِدِّهِ وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ الرُّجُوعُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْخُلُوُّ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ عن هذا النقص وإنما يتفاوتون في المقادير فَأَمَّا الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً (1) الْحَدِيثَ وَلِذَلِكَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ
فإن قلت لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وإنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا فرائض وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع فما المراد بقولك التوبة واجبة في كل حال فاعلم أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ أَصْلًا وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوْبَةِ تَرْكَهَا فَقَطْ بَلْ تَمَامُ التَّوْبَةِ بِتَدَارُكِ مَا مَضَى وَكُلُّ شَهْوَةٍ اتَّبَعَهَا الْإِنْسَانُ ارْتَفَعَ مِنْهَا ظُلْمَةٌ إِلَى قَلْبِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ عَنْ نَفَسِ الْإِنْسَانِ ظُلْمَةٌ إِلَى وَجْهِ المرآة الصقيلة فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجهه الْمِرْآةِ عِنْدَ تَرَاكُمِهِ خَبَثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يكسبون فَإِذَا تَرَاكَمَ الرَّيْنُ صَارَ طَبَعًا فَيَطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ كَالْخَبَثِ عَلَى وَجْهِ الْمِرْآةِ إِذَا تَرَاكَمَ وَطَالَ زَمَانُهُ غَاصَ فِي جِرْمِ الْحَدِيدِ وَأَفْسَدَهُ وَصَارَ لَا يَقْبَلُ الصَّقْلَ بَعْدَهُ وَصَارَ كَالْمَطْبُوعِ مِنَ الْخَبَثِ وَلَا يَكْفِي فِي تَدَارُكِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ تَرْكُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَحْوِ تِلْكَ الْأَرْيَانِ الَّتِي انْطَبَعَتْ فِي الْقَلْبِ كَمَا لَا يَكْفِي فِي ظُهُورِ الصُّوَرِ في المرآة قطع الانفاس والبخارت الْمُسَوِّدَةِ لِوَجْهِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَحْوِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مِنَ الْأَرْيَانِ وَكَمَا يَرْتَفِعُ إِلَى الْقَلْبِ ظُلْمَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ فَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ نُورٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَتَنْمَحِي ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ بِنُورِ الطَّاعَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا (2) فَإِذَنْ لَا يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ عَنْ مَحْوِ آثَارِ السَّيِّئَاتِ عَنْ قَلْبِهِ بِمُبَاشَرَةِ حَسَنَاتٍ تُضَادُّ آثَارُهَا آثَارَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ هذا في قلب حصل أولاً صفاؤه وجلاؤه ثم أظلم بأسباب عارضة فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل إذ ليس شغل الصقل في إزالة الصدأ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة فهذه أشغال طويلة لا تنقطع أصلاً وكل ذلك يرجع إلى التوبة فأما قولك إن هذا لا يسمى واجباً بل هو فضل وطلب كمال فاعلم أن الواجب له معنيان أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك فيه كافة الخلق وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم فلو كلف الناس كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية ثم يؤدي ذلك إلى بطلان التقوى بالكلية فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى بل شغل الحياكة
_________
(1) حديث إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة أخرجه مسلم من حديث الأغر المزنى إلا أنه قال في اليوم مائة مرة وكذا عند أبي داود وللبخاري من حديث أبي هريرة إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة وفي رواية البيهقي في الشعب سبعين لم يقل أكثر وتقدم فى الأذكار والدعوات
(2) حديث أتبع السيئة الحسنة تمحها أخرجه الترمذي من حديث ابي ذر بزيادة في أوله وآخره وقال حسن صحيح وقد تقدم في رياضة النفس(4/10)
والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار والواجب الثاني هو الذي لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْوُصُولِ بِهِ إِلَى الْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالتَّوْبَةُ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاجِبَةٌ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ في الصلاة للتطوع أي لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليه إلا بها فأما من رضي بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبة عليه لأجلها كما يقال العين والأذن واليد والرجل شرط في وجود الإنسان يعني أنه شرط لمن يريد أن يكون إنساناً كاملاً ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا فأما من قنع بأصل الحياة ورضي أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة وأصل النجاة كأصل الحياة وما وراء أصل النجاة من السعادات التي بها تنتهي الحياة يجري مجرى الأعضاء والآلات التي بها تتهيأ الحياة وفيه سعي الأنبياء والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل وعليه كان حرصهم وحواليه كان تطوافهم ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجراً في منامه فجاء إليه الشيطان وقال أما كنت تركت الدنيا للآخرة فقال نعم وما الذي حدث فقال توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ووضع رأسه على الأرض وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجباً في فتاوي العامة أفترى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم فى صلاته حتى نزعه (1) وشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلق (2) لم يعلم أن ذلك ليس واجباً في شرعه الذي شرعه لكافة عباده فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثراً في قلبه أثراً يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به أفترى أن الصديق رضي الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل إصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخلية المعدة عنه وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر وأن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله وبمكر الله وبمكامن الغرور بالله وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور فهذه أسرار من استنشق مبادىء روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر نوح وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ حَيْثُ قَالَ لَوْ لَمْ يَبْكِ الْعَاقِلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا عَلَى تَفْوِيتِ مَا مَضَى مِنْهُ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ لَكَانَ خَلِيقًا أَنْ يُحْزِنَهُ ذلك إِلَى الْمَمَاتِ فَكَيْفَ مَنْ يَسْتَقْبِلُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ بِمِثْلِ مَا مَضَى مِنْ جَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا مَلَكَ جَوْهَرَةً نَفِيسَةً وَضَاعَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ بَكَى عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ وَإِنْ ضَاعَتْ مِنْهُ وَصَارَ ضَيَاعُهَا سَبَبَ هَلَاكِهِ كَانَ بُكَاؤُهُ مِنْهَا أَشَدَّ وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنَ الْعُمْرِ بَلْ كُلُّ نَفَسٍ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا خَلَفَ لَهَا وَلَا بَدَلَ منها فإنها صالحة لأن تَوَصِّلُكَ إِلَى سَعَادَةِ الْأَبَدِ وَتُنْقِذُكَ مِنْ شَقَاوَةِ الأبد وأي جواهر أَنْفَسُ مِنْ هَذَا فَإِذَا ضَيَّعْتَهَا فِي الْغَفْلَةِ فقد خسرت خسراناً مبيناً وإن صرفتها إلى معصية
_________
(1) حديث نزعه صلى الله عليه وسلم الثوب الذي كان عليه في الصلاة تقدم في الصلاة أيضا
(2) حديث نزعه الشراك الجديد وإعادة الشراك الخلق تقدم في الصلاة أيضا(4/11)
فقد هلكت هلاكاً فاحشاً فإن كنت لا تبكي على هذه المعصية فَذَلِكَ لِجَهْلِكَ وَمُصِيبَتُكَ بِجَهْلِكَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مصيبة لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة فإن نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته والناس نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لِكُلِّ مُفْلِسٍ إِفْلَاسُهُ وَلِكُلِّ مُصَابٍ مُصِيبَتُهُ وَقَدْ رفع الناس عن التدارك
قال بعض العارفين إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلاً وهو أول ما يظهر من معاني قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} وإليه الإشارة بقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها فقيل الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك الموت أخرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي وأتوب وَأَتَزَوَّدُ صَالِحًا لِنَفْسِي فَيَقُولُ فَنِيَتِ الْأَيَّامُ فَلَا يَوْمَ فَيَقُولُ فَأَخِّرْنِي سَاعَةً فَيَقُولُ فَنِيَتِ السَّاعَاتُ فَلَا سَاعَةَ فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ التَّوْبَةِ فَيَتَغَرْغَرُ بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة وَلِمِثْلِ هَذَا يُقَالُ {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إني تبت الآن} وقوله {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بجهالة ثم يتوبون من قريب} ومعناه عَنْ قُرْبِ عَهْدٍ بِالْخَطِيئَةِ بِأَنْ يَتَنَدَّمَ عَلَيْهَا وَيَمْحُوَ أَثَرَهَا بِحَسَنَةٍ يُرْدِفُهَا بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَاكَمَ الرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتْبِعِ السيئة الحسنة تمحها ولذلك قال لقمان لابنه يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة وَمَنْ تَرَكَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ بِالتَّسْوِيفِ كَانَ بَيْنَ خَطَرَيْنِ عَظِيمَيْنِ {أَحَدُهُمَا} أَنْ تَتَرَاكَمَ الظُّلْمَةُ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الْمَعَاصِي حَتَّى يَصِيرَ رَيْنًا وَطَبْعًا فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ الثَّانِي أَنْ يُعَاجِلَهُ الْمَرَضُ أَوِ الْمَوْتُ فَلَا يَجِدُ مُهْلَةً لِلِاشْتِغَالِ بالمحو ولذلك ورد في الخبر إن أكثر صياح أهل النار من التسويف (1) فما هلك من هلك إلا بالتسويف فيكون تسويده القلب نقداً وجلاؤه بالطاعة نسيئة إلى أن يختطفه الموت فَيَأْتِي اللَّهَ بِقَلْبٍ غَيْرِ سَلِيمٍ وَلَا يَنْجُو إلا من أتى الله بقلب سليم فالقلب أمانة الله تعالى عند عبده والعمر أمانة الله عنده وكذا سائر أسباب الطاعة فمن خان في الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر
قال بعض العارفين إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام {أحدهما} إذا خرج من بطن أمه يقول له عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إلى كيف تلقاني والثاني عند خروج روحه يقول عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب وإليه الإشارة بقوله تعالى أوفوا بعهدي أوف بعهدكم وبقوله تعالى {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}
_________
(1) حديث إن أكثر صياح أهل النار من التسويف لم أجد له أصلا(4/12)
بيان أَنَّ التَّوْبَةَ إِذَا اسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا فَهِيَ مَقْبُولَةٌ لا محالة
اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة فالناظرون بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله تعالى وعلموا ان القلب خلق سليماً في الأصل وكل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة وأن نُورَ الْحَسَنَةِ يَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْقَلْبِ ظُلْمَةَ السيئة وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه فالقلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره وكما أن استعمال الثوب فِي الْأَعْمَالِ الْخَسِيسَةِ يُوَسِّخُ الثَّوْبَ وَغَسْلَهُ بِالصَّابُونِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ يُنَظِّفُهُ لَا مَحَالَةَ فَاسْتِعْمَالُ الْقَلْبِ فِي الشَّهَوَاتِ يُوَسِّخُ الْقَلْبَ وَغَسْلُهُ بِمَاءِ الدُّمُوعِ وَحُرْقَةِ النَّدَمِ يُنَظِّفُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُزَكِّيهِ وَكُلُّ قَلْبٍ زَكِيٍّ طَاهِرٍ فَهُوَ مَقْبُولٌ كَمَا أَنَّ كُلَّ ثوب نظيف فهو مَقْبُولٌ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ التَّزْكِيَةُ وَالتَّطْهِيرُ وَأَمَّا الْقَبُولُ فَمَبْذُولٌ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى فَلَاحًا فِي قوله {قد أفلح من زكاها} ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثراً متضادا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة كما يستعار للجهل ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم وأن بين النور والظلمة تضاداً ضرورياً لا يتصور الجمع بينهما فكأنه لم يتلق من الدين إلا قشوره ولم يعلق به إلا أسماؤه وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين بل عن حقيقة نفسه وصفات نفسه ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل وأعني به قلبه إذ بقلبه يعرف غير قلبه فكيف يعرف غيره وهو لا يعرف قلبه فَمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامَ لَا يَزُولُ وَالثَّوْبَ يُغْسَلُ بِالصَّابُونِ وَالْوَسَخَ لَا يَزُولُ إِلَّا أَنْ يَغُوصَ الْوَسَخُ لِطُولِ تَرَاكُمِهِ فِي تجاويف الثوب وخلله فَلَا يَقْوَى الصَّابُونُ عَلَى قَلْعِهِ فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ تَتَرَاكَمَ الذُّنُوبُ حَتَّى تَصِيرَ طَبْعًا وَرَيْنًا عَلَى الْقَلْبِ فَمِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ لَا يَرْجِعُ وَلَا يَتُوبُ نَعَمْ قَدْ يَقُولُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ قَدْ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ أَصْلًا مَا لَمْ يُغَيِّرْ صِفَةَ الثَّوْبِ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُضَادُّ الْوَصْفَ الْمُتَمَكِّنَ بِهِ فَهَذَا حَالُ امْتِنَاعِ أَصْلِ التَّوْبَةِ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الدُّنْيَا الْمُعْرِضِينَ عن الله بالكلية فهذا الْبَيَانُ كَافٍ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي قَبُولِ التوبة ولكنا نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار والآثار فَكُلُّ اسْتِبْصَارٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لا يوثق به وقد قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عن السيئات} وقال تعالى {غافر الذنب وقابل التوب} إلى غير ذلك من الآيات وقال صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة أحدكم الحديث والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالتَّوْبَةِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ وَلِمُسِيءِ النَّهَارِ إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا (1) وَبَسْطُ الْيَدِ كِنَايَةٌ عن طلب التوبة والطالب وراء القابل فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل وقال صلى الله عليه وسلم لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم (2) وقال أيضاً إن العبد ليذنب
_________
(1) حديث إن الله يَبْسُطُ يَدَهُ بِالتَّوْبَةِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ الحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار الحديث وفي رواية للطبراني لمسىء الليل أن يتوب بالنهار الحديث
(2) حديث لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب عليكم أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة وإسناده حسن بلفظ لو أخطأتم وقال ثم تبتم(4/13)
الذنب فيدخل به الجنة فقيل كيف ذلك يا رسول الله قال يكون نصب عينه تائباً منه فاراً حتى يدخل الجنة (1) وقال صلى الله عليه وسلم كفارة الذنب الندامة (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّائِبُ مِنَ الذنب كمن لا ذنب له
ويروى أن حبشياً قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة قال نعم فولى ثم رجع فقال يا رسول الله أكان يراني وأنا أعملها قال نعم فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه (3)
ويروى إن الله عز وجل لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح فقال الله تعالى وعزتى وجلالى لا حجبت عنه التوبة ما دام الروح فيه (4)
وقال صلى الله عليه وسلم إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ (5) والأخبار في هذا لا تحصى
وأما الآثار فقد قال سعيد بن المسيب أنزل قوله تعالى إنه كان للأوابين غفوراً في الرجل يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب
وقال الفضيل قال الله تعالى بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم وحذر الصديقين أني إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم
وقال طلق بن حبيب إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العبد ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من ذكر خطيئة ألم بها فوجل منها قلبه محيت عنه في أم الكتاب
ويروى أن نبينا من أنبياء بنى إسرائيل أذنب فأوحى الله تعالى إليه وعزتي لئن عدت لأعذبنك فقال يا رب أنت أنت وأنا أنا وعزتك إن لم تعصمني لأعودن فعصمه الله تعالى
وقال بعضهم إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة فيقول إبليس ليتني لم أوقعه في الذنب
وقال حبيب بن ثابت تعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول أما إني قد كنت مشفقاً منه فيغفر له
ويروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال له إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكاً موكلاً به لا يغلق فاعمل ولا تيأس
وقال عبد الرحمن بن أبي القاسم تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر وقول الله تعالى إن ينتهوا
_________
(1) حديث إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا ولأبى نعيم في الحلية من حديث أبى هريرة إن العبد ليذنب الذنب فإذا ذكره أحزنه فإذا نظر الله إليه أنه أحزنه غفر له الحديث وفيه صالح المرى وهو رجل صالح لكنه مضعف في الحديث ولابن أبى الدنيا في التوبة عن ابن عمر إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه والحديث غير محفوظ قاله العقيلى
(2) حديث كفارة الذنب الندامة أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وفيه يحيى بن عمرو بن مالك اليشكرى ضعيف
(3) حديث أن حبشياً قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة قال نعم الحديث لم أجد له أصلا
(4) حديث إن الله لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال وعزتك لاخرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح الحديث أخرجه أحمد وابو يعلى والحاكم وصححه من حديث أبى سعيد ان الشيطان قال وعزتك يا رب لا أزال أغوى عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى أورده المصنف بصيغة ويروى كذا ولم يعزه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرته احتياطا
(5) حديث أن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ لم أجده بهذا اللفظ وهو صحيح المعنى وهو بمعنى أتبع السيئة الحسنة تمحها رواه الترمذي وتقدم قريبا(4/14)
يغفر لهم ما قد سلف فقال إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالاً ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام
وقال عبد الله بن سلام لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل إن العبد إذا عمل ذنباً ثم ندم عليه طرفة عين سقط عنه أسرع من طرفة عين
قال عمر رضي الله عنه اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة
وقال بعضهم أنا أعلم متى يغفر الله لي قيل ومتى قال إذا تاب علي
وقال آخر أنا من أن أحرم التوبة أخوف من أن أحرم المغفرة أي المغفرة من لوازم التوبة وتوابعها لا محالة
ويروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال إلهى أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة فإن رجعت إليك أتقبلني فسمع قائلاً يقول ولا يرى شخصاً أحببتنا فأحببناك وتركتنا فتركناك وعصيتنا فأمهلناك وإن رجعت إلينا قبلناك
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى إن لله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً فجنوا من غير جنون وتبلدوا من غير عي ولا بكم وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت واستظلوا تحت رواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة
فإن قلت أفتقول ما قالته المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله فأقول لا أعني بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله إلا ما يريده القائل بقوله إن الثوب إذا غسل بالصابون وجب زوال الوسخ وإن العطشان إذا شرب الماء وجب زوال العطش وانه إذا منع الماء مدة وجب العطش وأنه إذا دام العطش وجب الموت وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة بالإيجاب على الله تعالى بل أقول خلق الله تعالى الطاعة مكفرة للمعصية والحسنة ماحية للسيئة كما خلق الماء مزيلاً للعطش والقدرة متسعة بخلافه لو سبقت به المشيئة فلا واجب على الله تعالى ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب كونه لا محالة
فإن قلت فما من تائب إلا وهو شاك في قبول توبته والشارب للماء لا يشك في زوال عطشه فلم يشك فيه فأقول شكه في القبول كشكه في وجود شرائط الصحة فإن للتوبة أركاناً وشروطاً دقيقة كما سيأتي وليس يتحقق وجود جميع شروطها كالذي يشك في دواء شربه للإسهال فإنه هل يسهل وذلك لشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال والوقت وكيفية خلط الدواء وطبخه وجودة عقاقيره وأدويته فهذا وأمثاله موجب للخوف بعد التوبة وموجب للشك في قبولها لا محالة على ما سيأتي في شروطها إن شاء الله تعالى(4/15)
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهي الذنوب صغائرها وكبائرها
اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَرْكُ الذَّنْبِ وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً كَانَ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إلا به واجباً فمعرفة الذنوب إذن وَاجِبَةٌ وَالذَّنْبُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَرْكٍ أَوْ فعل وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها وليس ذلك من غرضنا ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها والله الموفق للصواب برحمته
بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد
اعلم أن للإنسان أوصافاً وأخلاقاً كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله ولكن تنحصر مثارات الذنوب فِي أَرْبَعِ صِفَاتٍ صِفَاتٍ رُبُوبِيَّةٍ وَصِفَاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ وصفات بهيمية وصفات سبعية وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثراً من الآثار كما يقتضي السكر والخل والزعفران في السكنجبين آثاراً مختلفة فَأَمَّا مَا يَقْتَضِي النُّزُوعَ إِلَى الصِّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ فمثل الكبر والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وَحُبِّ دَوَامِ الْبَقَاءِ وَطَلَبِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى وَهَذَا يَتَشَعَّبُ مِنْهُ جُمْلَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ غَفَلَ عَنْهَا الْخَلْقُ وَلَمْ يَعُدُّوهَا ذُنُوبًا وَهِيَ الْمُهْلِكَاتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ كَالْأُمَّهَاتِ لِأَكْثَرِ المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات الثَّانِيَةُ هِيَ الصِّفَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ الَّتِي مِنْهَا يَتَشَعَّبُ الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وَفِيهِ يَدْخُلُ الْغِشُّ وَالنِّفَاقُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْبِدَعِ والضلال الثالثة الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره والكلب وَالْحِرْصُ عَلَى قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَمِنْهُ يتشعب الزنا واللوط وَالسَّرِقَةُ وَأَكْلُ مَالِ الْأَيْتَامِ وَجَمْعُ الْحُطَامِ لِأَجْلِ الشَّهَوَاتِ الرَّابِعَةُ الصِّفَةُ السَّبُعِيَّةُ وَمِنْهَا يَتَشَعَّبُ الْغَضَبُ وَالْحِقْدُ وَالتَّهَجُّمُ عَلَى النَّاسِ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ وَاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا جُمَلٌ مِنَ الذُّنُوبِ وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة وهي الصفة الشيطانية ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهي الفخر والعز والعلو وطلب الكبرياء وقصد الاستيلاء على جميع الخلق فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر الذُّنُوبُ مِنْ هَذِهِ الْمَنَابِعِ عَلَى الْجَوَارِحِ فَبَعْضُهَا فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً كَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَإِضْمَارِ السُّوءِ لِلنَّاسِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ وَبَعْضُهَا عَلَى اللِّسَانِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَبَعْضُهَا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ واضح
قسمة ثانية اعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصي وتهييج أسباب الجراءة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف وما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركاً فالعفو فيه أرجى وأقرب وقد جاء في الخبر الدواوين ثلاثة ديوان يغفر وديوان لا يغفر وديوان لا يترك فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى وأما الديوان الذي لا يغفر فالشرك(4/16)
بالله تعالى وأما الديوان الذي لا يترك فمظالم العباد (1) أي لا بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها
قسمة ثالثة اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وقد كثر اختلاف الناس فِيهَا فَقَالَ قَائِلُونَ لَا صَغِيرَةَ وَلَا كَبِيرَةَ بَلْ كُلُّ مُخَالَفَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَهَذَا (2) إِذْ قَالَ تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كريماً وَقَالَ تَعَالَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللمم وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر (3) وفي لفظ آخر كفارات لما بينهن إلا الكبائر وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس (4) واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك فقال ابن مسعود هن أربع وقال ابن عمر هن سبع وقال عبد الله بن عمرو هن تسع وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع وقال مرة كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وقال غيره كُلُّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ من الكبائر وقال بعض السلف كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة وقيل إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة وقال ابن مسعود لما سئل عنها اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه فكل ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة وقال أبو طالب المكي الكبائر سبع عشر جمعتها من جملة الأخبار (5) وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر
_________
(1) حديث الدواوين ثلاثة ديوان يغفر الحديث أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقه بن موسى الدقيقى ضعفه ابن معين وغيره وله شاهد من حديث سلمان رواه الطبراني
(2) ضعيف
(3) حديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن إن اجتنبت الكبائر رواه مسلم من حديث أبى هريرة
(4) حديث عبد الله بن عمرو الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمن الغموس رواه البخاري
(5) الأخبار الواردة في الكبائر حكى المصنف عن أبي طالب المكى أنه قال الكبائر سبع عشرة جميعها من جملة الأخبار وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رحمته والأمن من مكره وشهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس والسحر وشرب الخمر والمسكر وأكل مال اليتيم ظلماً وأكل الربا والزنا واللواط والقتل والسرقة والفرار من الزحف وعقوق الوالدين انتهى وسأذكر ما ورد منها مرفوعا وقد تقدم أربعة منها في حديث عبد الله بن عمرو وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هى قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات ولهما من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قال قول الزور ولهما من حديث أنس سئل عن الكبائر قال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور ولهما من حديث ابن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أى قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أى قال أن تزانى حليلة جارك وللطبرانى من حديث سلمة بن قيس إنما هى أربع لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا وفى الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر وفيه موقوفا على عبد الله بن عمرو أعظم الكبائر شرب الخمر وكلاهما ضعيف وللبزار من حديث ابن عباس بإسناد حسن أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله وله من حديث بريدة أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل وفيه صالح ابن حبان ضعفه ابن معين والنسائى وغيرهما وله من حديث أبى هريرة الكبائر أولهن الاشراك بالله وفيه والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته وفيه خالد بن يوسف السمين ضعيف وللطبراني في الكبير من حديث سهل بن أبى حثمة في الكبائر والتعرب بعد الهجرة وفيه ابن لهيعة وله في الأوسط من حديث أبى سعيد الخدري الكبائر سبع وفيه والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة وفيه أبو بلال الأشجرى ضعفه الدارقطنى وللحاكم من حديث عبيد بن عمير عن أبيه الكبائر تسع فذكر منها(4/17)
واستحلال البيت الحرام وللطبرانى من حديث واثلة إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل على ما لم أقل وله أيضا من حديثه إن من أكبر الكبائر أن ينتفى الرجل من ولده ولمسلم من حديث جابر بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو من الكبائر شتم الرجل والديه ولأبى داود من حديث سعيد بن زيد من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وإنه الكبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بول الحديث ولأحمد في هذه القصة من حديث أبي بكرة أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس الحديث ولأبى داود والترمذي من حديث أنس عرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها سكت عليه أبو داود واستغر به البخاري والترمذي وروى ابن أبى شيبة في التوبة من حديث ابن عباس لا صغيرة مع إصرار وفيه أبو شيبة الخراسانى والحديث منكر يعرف به وأما الموقوفات فروى الطبرانى والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله وروى البيهقي فيه عن ابن عباس قال الكبائر الإشراك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وعقوق الوالدين وقتل النفس التى حرم الله وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وأكل الربا والسحر والزنا واليمين الغموس الفاجرة والغلول ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمان الشهادة وشرب الخمر وترك الصلاة متعمدا وأشياء مما فرضها الله ونقض العهد وقطيعة الرحم وروى ابن أبى الدنيا في التوبة عن ابن عباس كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة وفيه الربيع بن صبيح مختلف فيه وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أنس قوله لا صغيرة مع الإصرار وإسناده جيد فقد اجتمع من المرفوعات والموقوفات ثلاثة وثلاثون أو اثنان وثلاثون إلا أن بعضها لا يصح إسناده كما تقدم وإنما ذكرت الموقوفات حتى يعلم ما ورد في المرفوع وما ورد في الموقوف وللبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هى إلى السبعين أقرب وروى البيهقي أيضا فيه عن ابن عباس قال كل ما نهى الله عنه كبيرة والله اعلم (1) حديث من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم عزاه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبى داود من حديث سعيد بن زيد والذي عندهما من حديثه من أربى الربا استطالة الرجل في عرض المسلم بغير حق كما تقدم (2) حديث أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الكبائر أخرجه أحمد والبزار بسند صحيح وقال من الموبقات بدل الكبائر ورواه البخاري من حديث أنس وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن قرص وقال صحيح الاسناد // وقالت طائفة كل عمد كبيرة وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة
_________
(1) وغيرهم أربعة فِي الْقَلْبِ وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِهِ وَأَرْبَعٌ فِي اللِّسَانِ وَهِيَ شَهَادَةُ الزُّورِ وَقَذْفُ المحصن وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَهِيَ الَّتِي يُحِقُّ بِهَا بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلُ بِهَا حَقًّا وَقِيلَ هِيَ الَّتِي يقتطع بها مال أمرىء مسلم باطلاً ولو سواكاً من أراك وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة وثلاث في البطن وهي شرب الخمر والسكر مِنْ كُلِّ شَرَابٍ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا وَأَكْلُ الرِّبَا وَهُوَ يَعْلَمُ وَاثْنَتَانِ فِي الْفَرَجِ وَهُمَا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ وَهُمَا القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف الواحد من اثنتين وَالْعَشَرَةُ مِنَ الْعِشْرِينَ وَوَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ وهي عقوق الوالدين قال وَجُمْلَةُ عُقُوقِهِمَا أَنْ يُقْسِمَا عَلَيْهِ فِي حَقٍّ فَلَا يَبَرُّ قَسَمَهُمَا وَإِنْ سَأَلَاهُ حَاجَةً فَلَا يُعْطِيهِمَا وَإِنْ يَسُبَّاهُ فَيَضْرِبُهُمَا وَيَجُوعَانِ فَلَا يُطْعِمُهُمَا هذا ما قاله وهو قريب ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر وهي جناية على الأموال ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله كيف وفي الخبر من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم
(2) وهذا زائد على قذف المحصن وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الكبائر(4/18)
أم لا لا يصح ما لم يفهم معنى الكبيرة والمراد بها كقول القائل السرقة حرام أم لا ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ثم البحث عن وجوده في السرقة فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه وصغير بالإضافة إلى ما فوقه فالمضاجعة مع الأجنبية بالإضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربه صغيرة بالإضافة إلى قتله نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ونعني بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيراً إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبة واجبة عظيم وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه فيقول تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ثم يكون عظيماً وكبيرة لا محالة بالإضافة إذ منصوصات القرآن أيضاً تتفاوت درجاتها فهذه الإطلاقات لا حرج فيها وما نقل من ألفاظ الصحابة يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شيء من هذه الاحتمالات نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تَعَالَى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر فإن هذا إثبات حكم الكبائر وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ مُنْقَسِمَةٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ إِلَى مَا يُعْلَمُ اسْتِعْظَامُهُ إِيَّاهَا وَإِلَى مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا مَعْدُودَةٌ فِي الصَّغَائِرِ وَإِلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ فَلَا يُدْرَى حُكْمُهُ فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ يقول إني أردت بالكبائر عشراً أو خمساً ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ ثلاث من الكبائر (1) وفي بعضها سبع من الكبائر (2) ثم ورد أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر وهو خارج عن السبع والثلاث علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع وربما قصد الشرع إبهامه ليكون العباد منه على وجل كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها نعم لنا سبيل كلي يمكننا أن نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ونعرف أيضاً أكبر الكبائر فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعاً أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله وإليه الإشارة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيد لي ولا يكون العبد عبداً ما لم يعرف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية ولا بد أن يعرف نفسه وربه فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام الدنيا مزرعة الآخرة (3) فصار حفظ الدنيا أيضاً مقصوداً تابعاً للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويليه باب ما يسد المعايش التي بها حياة الناس فهذه ثلاث مراتب فحفظ
_________
(1) حديث ثلاث من الكبائر أخرجه الشيخان من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث الحديث وقد تقدم
(2) حديث سبع من الكبائر رواه الطبرانى في الأوسط من حديث أبى سعيد الكبائر سبع وقد تقدم وله في الكبير من حديث عبد الله بن عمر من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر الحديث ثم عدهن سبعا وتقدم عن الصحيحين حديث أبى هريرة اجتنبوا السبع الموبقات
(3) حديث الدنيا مزرعة الآخرة لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته الحديث وإسناده ضعيف(4/19)
المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبياً يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربه بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفراً الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضاً عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمناً ولا أن يكون آيساً ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ومراتب ذلك لاتنحصر وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحاً في أصل شرع قصد به الإصلاح وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل وينبغي أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربع طرق أحدها الخفية وهي السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالباً كيف يتدارك الثانى أكل مال اليتيم وهذا أيضاً من الخفية وأعني به في حق الولي والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه الثالث تفويتها بشهادة الزور الرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلاً وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع(4/20)
في مثله وإذا لم يجعل الغضب الذي هو أكل مال الغير بغيره رضاه وبغير رضا الشرع من الكبائر فأكل الربا أكل برضا المالك ولكن دون رضا الشرع وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضاً الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى أنه غير داخل تحت الكبائر بل ينبغي أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضرورياً في الدين فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار من الزحف وحقوق الوالدين أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضاً لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ولكن هذا لا يجري في قطرة من الخمر فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو شرب ماء نجس والقطرة وحدها في محل الشك وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره فيعد ذلك من الكبائر بالشرع وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا فللتوقف فيه مجال وأما القذف فليس فيه إلا تناول الأعراض والأعراض دون الأموال في الريبة ولتناولها مراتب وأعظمها التناول بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا وقد عظم الشرع أمره وأظن ظنا غالباً أن الصحابة كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس وهو الذي نريده بالكبيرة الآن ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا يدل على كبره وعظمته بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنساناً يزني فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته فحده ليس ضرورياً في مصالح الدنيا وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة الحاجات فإذن هذا أيضاً يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع فأما من ظن أن له أن يشهد وحده أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغي أن يجعل في حقه من الكبائر وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك نفس أو مرض أو غيره وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين فهذا أيضاً ينبغي أن يكون من حيث القياس في محل التوقف وإذا قطع بأن سب الناس بكل شيء سوى الزنا وضربهم والظلم لهم بغصب أموالهم وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم وإجلائهم من أوطانهم ليس من الكبائر إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه فالتوقف في هذا أيضاً غير بعيد ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر فإذا رجع حاصل الأمر إلى أنا نعني بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم إلى ما علم أنه لا تكفره قطعاً وإلى ما ينبغي أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه والمتوقف فيه بعضه مظنون للنفي والإثبات وبعضه مشكوك فيه وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال
فإن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حده فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام لأن دار التكليف هي دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها كبيرة بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتماداً على الصلوات الخمس وكذلك اجتناب الكبائر(4/21)
يكفر الصغائر بموجب قوله تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم ولكن اجْتِنَابَ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنِ امْرَأَةٍ ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيراً في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادراً ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلاً وكل من يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي مقدماته كسماع الملاهي والأوتار نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بَعْدُ وَلَا حَدٌّ جَامِعٌ بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مختلفات فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة (1) قيل ما ترك السنة قيل الخروج عن الجماعة ونكث الصفقة أن يبايع رجلاً ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهماً
فإن قلت الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر والورع عن الصغائر ليس شرطاً في قبول الشهادة وهذا من أحكام الدنيا فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر فلا خلاف في أن من يسمع الملاهي ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أواني الذهب والفضة لا تقبل شهادته ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر وقال الشافعي رضي الله عنه إذا شرب الحنفي النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفياً وإثباتاً لا تدور على الصغائر والكبائر بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالباً بضرورة مجاري العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب في بعض الأقوال وسماع الغيبة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائداً على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقي على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات وليس لبس الحرير وسماع الملاهي واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغي أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ثم آحاد هذه الصغائر التي لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر
_________
(1) حديث الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة الحديث أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة نحوه وقال صحيح الإسناد(4/22)
بيان كيفية توزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في
الدنيا
اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة والآخرة من عالم الغيب والملكوت وأعني بالدنيا حالتك قبل الموت وبالآخرة حالتك بعد الموت في فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك يسمى القريب الداني منها دنيا والمتأخر آخرة ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك وغرضنا شرح الآخرة وهي عالم الملكوت ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ولذلك قال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (1) وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى التعبير فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال وأعني بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ويكفيك منه إن كنت فطناً ثلاثة أمثلة
فقد جاء رجل إلى ابن سرين فقال رأيتك كأن في يدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر قال صدقت وجاء رجل آخر فقال رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون فقال إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن أمك سبيت في صغرك لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد إلى الأصل فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره وقال له آخر رأيت كأني أقلد الدر في أعناق الخنازير فقال إنك تعلم الحكمة غير أهلها فكان كما قال والتعبير من أوله إلى آخره أمثال تعرفك طريق ضرب الأمثال وإنما نعني بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجده صادقاً وإن نظر إلى صورته وجده كاذباً فالمؤذن إن نظر إلى صورة الخاتم والختم به على الفروج رآه كاذباً فإنه لم يختم به قط وإن نظر إلى معناه وحده صادقاً إذ صدر منه روح الختم ومعناه وهو المنع الذي يراد الختم له وليس للأنبياء أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم وقدر عقولهم أنهم في النوم والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن (2) وهو من المثال الذي لا يعقله إلا العالمون فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي يسمى تأويلاً كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيراً فيثبت لله تعالى يداً وإصبعاً تعالى الله عن قوله علواً كبيراً وكذلك في قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته (3) فإنه لا يفهم من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك تعالى الله عن قوله علواً كبيراً من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتاً وحرفاً إلى غير ذلك من الصفات والقول فيه يطول وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثلة يكذب بها الملحد بجمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده كقوله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح (4) فيثور الملحد الأحمق ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول يا سبحان الله الموت عرض والكبش جسم فكيف ينقلب العرض جسماً وهل هذا إلا
_________
(1) حديث الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لم أجده مرفوعا وإنما يعزى إلى علي بن أبي طالب
(2) حديث قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن تقدم
(3) حديث إن الله خلق آدم على صورته تقدم
(4) حديث يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح الحديث متفق عليه من حديث أبى سعيد(4/23)
محال ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال وما يعقلها إلا العالمون ولا يدري المسكين أن من قال رأيت في منامي أنه جيء بكبش وقيل هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال المعبر صدقت والأمر رأيت وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط لأن المذبوح وقع اليأس منه فإذن المعبر صادق في تصديقه وهو صادق في رؤيته وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما في اللوح المحفوظ بمثال ضربه له لأن النائم إنما يحتمل المثال فكان مثاله صادقاً وكان معناه صحيحاً فالرسل أيضاً إنما يكلمون الناس في الدنيا وهي بالإضافة إلى الآخرة نوم فيوصلون المعاني إلى أفهامهم بالأمثلة حكمة من الله ولطفاً بعباده وتيسيراً لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل فقوله يؤتى بالموت في صورة كبش أملح مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعاني فيها بواسطتها ولذلك عبر القرآن بقوله كن فيكون عن نهاية القدرة وعبر صلى الله عليه وسلم بقوله قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن عن سرعة التقليب وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته فنقول الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس فنقول الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام هالكين ومعذبين وناجين وفائزين ومثاله في الدنيا أن يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ويخلى بعضهم فهم الناجون ويخلع على بعضهم فهم الفائزون فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ولا يخلي إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة وإهلاك الهالكين إما تحقيقا بجز الرقبة أو تنكيلاً بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد أنواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم فتقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ولا تنحصر فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون فمن هالك ومن معذب مدة ومن ناج يحل في دار السلامة ومن فائز والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلاً وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلف سنة وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر (1) وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي فلنذكر كيفية توزعها عليها
_________
(1) حديث أن آخر من يخرج من النار يعذب سبعة آلأف سنة أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبى هريرة في بسند ضعيف في حديث قال فيه وأطولهم مكثا فيه مثل الدنيا من يوم خلقت إلى يوم القيامة وذلك سبعة آلاف سنة(4/24)
الرتبة الأولى وهي رتبة الهالكين ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا ينال أصلاً إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق والجاحدون هم المنكرون والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق ولذلك قال العارفون ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاءونا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيمكأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ولذلك قيل
وفي فؤاد المحب نار جوى ... أحر نار الجحيم أبردها
ولا ينبغي أن تنكر هذا في عالم الآخرة إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤي من غلب عليه الوجد فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغضب قطعة من النار (1) واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث أنه يفرق بين جزءين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطه تأليف أشد إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاماً إن كنت من أرباب البصائر وأرباب القلوب ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم فالصبي لو خير بين ألم الحرمان على الكرة والصولجان وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان أصلاً ولم يعد ذلك ألماً وقال العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوباً ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذاً وذلك لمن استرقته صفات البهائم والسباع ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب له ليس له هذا الحس كمن لا سمع له ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور والألوان وليس لكل إنسان قلب ولو كان لما صح قوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلساً من القلب ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه وسائر الأعضاء
_________
(1) حديث الغضب قطعة من النار أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد نحوه وقد تقدم(4/25)
عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعاً ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه قل الروح من أمر ربي هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيباً وعالم الأمر أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادىء روائح المعنى المطوي تحت قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل لأن الرحمة على قدر المصيبة ومصيبة أولئك أكثر وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحكمته يختص بها من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلاى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر فلذلك لم نوردها
الرتبة الثانية رتبة المعذبين وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلا الله ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى قوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهو أن تذر في بالكلية غير الله ومعنى قوله تعالى الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأخذ من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب ومع كل نقصان ناران نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان ونار جهنم كما وصفها القرآن فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون بسبب أمرين أحدهما قوة الإيمان وضعفه والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته وإذ لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظالمين فيها جثياً ولذلك قال الخائفون من السلف إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة ولما روى الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادي يا حنان يا منان (1) قال الحسن يا ليتني كنت ذلك الرجل واعلم أن في الأخبار ما يدل على أن آخر من يخرج من النار بعد سبعة آلاف سنة وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة حتى قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث وبين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو وقد يضرب بالسياط وقد يعذب بنوع آخر من العذاب ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة وهو اختلاف الأنواع إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذاب بأخذ المال وقتل الولد واستباحة الحريم وتعذيب الأقارب والضرب وقطع اللسان واليد
_________
(1) حديث من يخرج من النار بعد ألف عام أنه ينادي يا حنان يا منان أخرجه أحمد وأبو يعلي من رواية أبى ظلال القسملى عن أنس وأبو ظلال ضعيف واسمه هلال بن ميمون(4/26)
والأنف والأذن وغيره فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع وهي بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها أما شدة العذاب فبشدة قبح السيئات وكثرتها وأما كثرته فبكثرتها وأما اختلاف أنواعه فباختلاف أنواع السيئات وقد انكشف هذا لأرباب القلوب مع شواهد القرآن بنور الإيمان وهو المعني بقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد وبقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وبقوله تعالى وان ليس للإنسان إلا ما سعى وبقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من كون العقاب والثواب جزاء على الأعمال وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه وجانب العفو والرحمة أرجح إذ قال تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم سبقت رحمتى غضبي (1) وقال تعالى وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً فإذن هذه الأمور الكلية من ارتباط الدرجات والدركات بالحسنات والسيئات معلومة بقواطع الشرع ونور المعرفة فأما التفصيل فلا يعرف إلا ظناً ومستنده ظواهر الأخبار ونوع حدس يستمد من أنوار الاستبصار بعين الاعتبار فنقول كل من أحكم أصل الإيمان واجتنب جميع الكبائر وأحسن جميع الفرائض أعني الأركان الخمسة ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها فيشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته إذ ورد في الأخبار إن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن وكذلك اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفراً للصغائر وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدفع الحساب وكل من هذا حاله فقد ثقلت موازينه فينبغي أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية نعم التحاقه باصحاب اليمين أو بالمقربين ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى فكذلك يتبع أصناف الإيمان لأن الإيمان إيمانان تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه وإيمان كشفي يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى وهم أيضاً على أصناف فمنهم السابقون ومنهم من دونهم وتفاوتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى ودرجات العارفين في المعرفة بالله تعالى لا تنحصر إذ الإحاطة بكلمة جلال الله غير ممكنة وبحر المعرفة ليس له ساحل وعمق وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم وبقدر ما سبق لهم من الله تعالى في الأزل فالطريق إلى الله تعالى لا نهاية لمنازله فالسالكون سبيل الله لا نهاية لدرجاتهم وأما المؤمن إيماناً تقليدياً فمن أصحاب اليمين ودرجته دون درجة المقربين وهم أيضاً على درجات فالأعلى من درجات أصحاب اليمين تقارب رتبته رتبة الأدنى من درجات المقربين هذا حال من اجتنب كل الكبائر وأدى الفرائض كلها أعني الأركان الخمسة التي هى النطق بكلمة الشهادة باللسان والصلاة والزكاة والصوم والحج فأما من ارتكب كبيرة أو كبائر أو أهمل بعض أركان الإسلام فإن تاب توبةً نصوحاً قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلاً وإن مات قبل التوبة فهذا أمر مخطر عند الموت إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه فيختم له بسوء الخاتمة لا سيما إذا كان إيمانه تقليدياً فإن التقليد وإن كان جزما فهو قابل للانحلال
_________
(1) حديث سبقت رحمتى غضب رضي الله عنهم أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة(4/27)
بادنى شك وخيال والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان إلا أن يعفو الله عذاباً يزيد على عذاب المناقشة في الحساب وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر ومن حيث اختلاف النوع بحسب اختلاف أصناف السيئات وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البله المقلدون في درجات أصحاب اليمين والعارفون المستبصرون في أعلى عليين ففي الخبر آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف (1) فلا تظن أن المراد به تقديره بالمساحة لأطراف الأجسام كان يقابل فرسخ بفرسخين أو عشرة بعشرين فإن هذا جهل بطريق ضرب الأمثال بل هذا كقول القائل أخذ منه جملاً واعطاه عشرة أمثاله وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار فإن لم يفهم من المثل إلا المثل في الوزن والثقل فلا تكون مائة دينار لو وضعت في كفة الميزان والجمل في الكفة الأخرى عشر عشيره بل هو موازنة معاني الأجسام وارواحها دون أشخاصها وهياكلها فإن الجمل لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته فروحه المالية وجسمه اللحم والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية وهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والفضة بل لو أعطاه جوهرة وزنها مثقال وقيمتها مائة دينار وقال أعطيته عشرة امثاله كان صادقاً ولكن لا يدرك صدقه إلا الجوهريون فإن روح الجوهرية لا تدرك بمجرد البصر بل بفطنة أخرى وراء البصر فلذلك يكذب به الصبي بل القروي والبدوي ويقول ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال ووزن الجمل ألف ألف مثقال فقد كذب في قوله إني أعطيته عشرة امثاله والكاذب بالتحقيق هو الصبي ولكن لا سبيل إلى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي يدرك به أرواح الجواهر وسائر الأموال فعند ذلك ينكشف له الصدق والعارف عاجز عن تفهيم المقلد القاصر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموازنة إذ يقول صلى الله عليه وسلم الجنة في السموات (2) كما ورد في الأخبار والسموات من الدنيا فكيف يكون عشرة أمثال الدنيا في الدنيا وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم الصبي تلك الموازنة وكذلك تفهيم البدوي وكما أن الجوهري مرحوم إذا بلي بالبدوي والقروي في تفهيم تلك الموازنة فالعارف مرحوم إذ يلى بالبليد الأبلة في تفهيم هذه الموازنة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ارحموا ثلاثة عالماً بين الجهال وغني قوم افتقر وعزيز قوم ذل (3) والأنبياء مرحومون بين الأمة بهذا السبب ومقاساتهم لقصور عقول الأمة فتنة لهم وامتحان وابتلاء من الله وبلاء موكل بهم سبق بتوكيله القضاء الأزلي وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل (4) فلا تظنن أن البلاء بلاء أيوب عليه السلام وهو الذى ينزل بالبدن فإن بلاء نوح عليه السلام أيضاً من البلاء العظيم إذ بلي بجماعة كان لا يزيدهم دعاؤه إلى الله إلا فرارا ولذلك لما تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام بعض الناس قال رحم الله اخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر (5) فإذن لا تخلو الأنبياء
_________
(1) حديث أن آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف متفق عليه من حديث ابن مسعود
(2) حديث كون الجنة في السموات أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة في أثناء حديث فيه فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن
(3) حديث ارحموا ثلاثة عالماً بين الجهال الحديث أخرجه ابن حبان في الضعفاء من رواية عيسى بن طهمان عن أنس وعيسى ضعيف ورواه فيه من حديث ابن عباس إلا أنه قال عالم تلاعب به الصبيان وفيه أبو البحترى واسمه وهب بن وهب أحد الكذابين
(4) حديث البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل أخرجه الترمذي وصححه والنسائى في الكبرى وابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص وقال قلت يا رسول الله أى الناس أشد بلاء فذكره دون ذكر الأولياء وللطبرانى من حديث فاطمة أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون الحديث
(5) حديث رحم الله أخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود(4/28)
عن الابتلاء بالجاحدين ولا تخلو الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين ولذلك قلما ينفك الأولياء عن ضروب من الإيذاء وأنواع البلاء بالإخراج من البلاد والسعاية بهم إلى السلاطين والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين وواجب أن يكون أهل المعرفة عند أهل الجهل من الكافرين كما يجب أن يكون المعتاض عن الجمل الكبير جوهرة صغيرة عند الجاهلين من المبذرين المضيعين فإذا عرفت هذه الدقائق فآمن بقوله عليه الصلاة والسلام أنه يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات وإياك أن تقتصر بتصديقك على ما يدركه البصر والحواس فقط فتكون حماراً برجلين لأن الحمار يشاركك في الحواس الخمس وإنما أنت مفارق للحمار بسر إلهي عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه فإدراك ما يخرج عن عالم الحواس الخمس لا يصادف إلا في عالم ذلك السر الذي فارقت به الحمار وسائر البهائم فمن ذهل عن ذلك وعطله وأهمله وقنع بدرجة البهائم ولم يجاوز المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه بتعطيلها ونسيها بالإعراض عنها فلا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فكل من لم يعرف إلا المدرك بالحواس فقد نسى الله إذ ليس ذات الله مدركاً في هذا العالم بالحواس الخمس وكل من نسي الله أنساه الله لا محالة نفسه ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقي إلى الأفق الأعلى وخان في الأمانة التي أودعه الله تعالى وانعم عليه كافراً لأنعمه ومتعرضاً لنقمته إلا أنه أسوأ حالاً من البهيمة فإن البهيمة تتخلص بالموت وأما هذا فعنده أمانة سترجع لا محالة إلى مودعها فإليه مرجع الأمانة ومصيرها وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة وإنما هبطت إلى هذه القالب الفاني وغربت فيه وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها وتعود إلى بارئها وخالقها إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة إذ المرجع والمصير للكل إليه إلا أنها ناكسة رأسها عن جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين ولذلك قال تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم فبين أنهم عند ربهم إلا أنهم منكوسون قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم وانتكست رءوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل وذلك حكم الله فيمن حرمه توفيقه ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول إلى منازل الجهال فهذا حكم انقسام من يخرج من النار ويعطى مثل عشرة أمثال الدنيا أو أكثر ولا يخرج من النار إلا موحد ولست أعني بالتوحيد ان يقول بلسانه لا إله إلا الله فإن اللسان من عالم الملك والشهادة فلا ينفع إلا في عالم الملك فيدفع السيف عن رقبته وأيدي الغانمين عن ماله ومدة الرقبة والمال مدة الحياة فحيث لا تبقى رقبة ولا مال لا ينفع القول باللسان وإنما ينفع الصدق في التوحيد وكمال التوحيد أن لا يرى الأمور كلها إلا من الله وعلامته أن لا يغضب على أحد من الخلق بما يجري عليه إذ لا يرى الوسائط وإنما يرى مسبب الأسباب كما سيأتي تحقيقه في التوكل وهذا التوحيد متفاوت فمن الناس من له من التوحيد مثل الجبال ومنهم من له مثقال ومنهم من له مقدار خردلة وذرة فمن في قلبه مثقال دينار من إيمان فهو أول من يخرج من النار وفي الخبر يقال أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان (1) وآخر من يخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وما بين المثقال والذرة على قدر تفاوت درجاتهم يخرجون بين طبقة المثقال وبين طبقة الذرة والموازنة بالمثقال والذرة على سبيل ضرب المثل كما ذكرنا في الموازنة بين أعيان الأموال وبين النقود وأكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد فديوان العباد هو الديوان الذي لا يترك فأما بقية السيئات فيتسارع العفو والتكفير إليها ففي الأثر إن العبد
_________
(1) حديث أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان الحديث تقدم(4/29)
ليوقف بين يدي الله تعالى وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب عرض هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيقضى من حسناته حتى لا تبقى له حسنة فتقول الملائكة يا ربنا هذا قد فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول الله تعالى ألقوا من سيئاتهم على سيئاته وصكوا له صكاً إلى النار وكما يهلك هو بسيئة غيره بطريق القصاص فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم إذ ينقل إليه عوضاً عما ظلم به وقد حكي عن ابن الجلاء أن بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه يستحله فقال لا أفعل ليس في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها وقال هو وغيره ذنوب إخواني من حسناتي أريد أن أزين بها صحيفتي فهذا ما أردنا أن نذكره من اختلاف العباد في المعاد في درجات السعادة والشقاوة وكل ذلك حكم بظاهر أسباب يضاهي حكم الطبيب على مريض بانه يموت لا محالة ولا يقبل العلاج وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف وعلاجه هين فإن ذلك ظن يصيب في أكثر الأحوال ولكن قد تثوب إلى المشرف على الهلاك نفسه من حيث لا يشعر الطبيب وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه وذلك من أسرار الله تعالى الخفية في أرواح الأحياء وغموض الأسباب التي رتبها مسبب الأسباب بقدر معلوم إذ ليس في قوة البشر الوقوف على كنهها فكذلك النجاة والفوز في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها يعبر عن ذلك السبب الخفي المفضي إلى النجاة بالعفو والرضا عما يفضي إلى الهلاك بالغضب والانتقام ووراء ذلك سر المشيئة الإلهية الأزلية التي لا يطلع الخلق عليها فلذلك يجب علينا أن نجوز العفو عن المعاصى وإن كثرت سيئاته الظاهرة والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة فإن الاعتماد على التقوى والتقوى في القلب وهو أغمض من أن يطلع عليه صاحبه فكيف غيره ولكن قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسبب خفي فيه يقتضي العفو ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد عن الله تعالى ولولا ذلك لم يكن العفو والغضب جزاء على الأعمال والأوصاف ولو لم يكن جزاء لم يكن عدلاً ولو لم يكن عدلاً لم يصح قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد ولا قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وكل ذلك صحيح فليس للإنسان إلا ما سعى وسعيه هو الذي يرى وكل نفس بما كسبت رهينه فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولما غيروا ما بانفسهم غير الله ما بهم تحقيقاً لقوله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب انكشافاً اوضح من المشاهدة بالبصر إذ للبصر يمكن الغلط فيه إذ قد يرى البعيد قريباً والكبير صغيراً ومشاهدة القلب لا يمكن الغلط فيها وإنما الشأن في انفتاح بصيرة القلب وإلا فما يرى بها بعد الانفتاح فلا يتصور فيه الكذب وإليه الإشارة بقوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى
الرتبة الثالثة رتبة الناجين وأعني بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم ولم يقصروا فيعذبوا ويشبه أن يكون هذا حال المجانين والصبيان من الكفار والمعتوهين والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد وعاشوا على البله وعدم المعرفة فلم يكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية فلا وسيلة تقربهم ولا جناية تبعدهم فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار بل ينزلون في منزلة بين المنزلتين ومقام بين المقامين عبر الشرع عنه بالأعراف وحلول طائفة من الخلق (1) فيه معلوم يقيناً من الآيات والأخبار ومن
_________
(1) حديث حلول طائفة من الخلق الأعراف أخرجه البزار من حديث أبي سعيد الخدري سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال هم رجال قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار ومنعتهم المعصيبة أن يدخلوا الجنة وهم على سور بين الجنة والنار الحديث وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف ورواه الطبرانى من رواية(4/30)
أبى معشر عن يحيى بن شبل عن عمر بن عبد الرحمن المدنى عن أبيه مختصرا وابو معشر تجيح السندى ضعيف ويحيى بن شبل لا يعرف وللحاكم عن حذيفة قال أصحاب الأعراف قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقصرت سيئاتهم من الجنة الحديث وقال صحيح على شرط الشيخين وروى الثعلبى عن ابن عباس قال الأعراف موضع عال في الصراط عليه العباس وحمزة وعلى وجعفر الحديث هذا كذب موضوع وفيه جماعة من الكذابين (1) حديث عائشة أنها قالت لما مات بعض الصبيان عصفور من عصافير الجنة فأنكر ذلك رسول الله وقال ما يدريك رواه مسلم قال المصنف والأخبار في حق الصبيان متعارضة قلت روى البخارى من حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه وأما الرجل الطويل الذى في الروضة فإبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وللطبرانى من حديثه سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدمة أهل الجنة وفيه عباد بن منصور الناجى قاضى البصرة وهو ضعيف يروية عن عيسى ابن شعيب وقد ضعفه ابن حبان وللنسائى من حديث الأسود بن سريع كنا في غزاة لنا الحديث في قتلى الذرية وفيه ألا إن خياركم أبناء المشركين ثم قال لا تقتلوا ذرية وكل نسمة تولد على الفطرة الحديث وإسناده صحيح وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة كل مولود يولد على الفطرة الحديث وفى رواية لأحمد ليس مولود يولد إلا على هذه الملة ولأبي داود في آخر الحديث يا رسول الله فرأيت من يموت وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وفى الصحيحين من حديث ابن عباس سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وللطبرانى من حديث ثابت بن الحارث الأنصاري كانت يهودى إذا هلك لهم صبى صغير قالوا هو صديق فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقى أو سعيد الحديث وفيه عبد الله بن لهيعة ولأبى داود من حديث ابن مسعود الوائدة والموءودة في النار وله من حديث عائشة قلت يا رسول الله ذرارى المؤمنين فقال مع آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين قلت فذراري المشركين قال مع آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين وللطبرانى من حديث خديجة قلت يا رسول الله أين أطفالى منك قال في الجنة قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين قلت أطفالى قبلك قال في النار قلت بلا عمل قال لقد علم الله ما كانوا عاملين وإسناده منقطع بين عبد الله بن الحارث وخديجة وفى الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة في أولاد المشركين هم من آبائهم وفى رواية هم منهم // فإذن الإشكال والاشتباه أغلب في هذا المقام
الرتبة الرابعة رتبة الفائزين وهم العارفون دون المقلدين وهم المقربون السابقون فإن المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين وهؤلاء هم المقربون وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان والقدر الممكن ذكره ما فصله القرآن فليس بعد بيان الله بيان والذي لا يمكن التعبير عنه في هذا العالم فهو الذى أجمله قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لهم من قرة أعين وقوله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر عل قلب بشر والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ولو أعطوها لم يقنعوا بها ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فهي غاية السعادات ونهاية اللذات ولذلك قيل لرابعة العدوية رحمة الله عليها كيف رغبتك في الجنة فقالت الجار ثم الدار فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها بل عن كل شيء سواه حتى عن أنفسهم ومثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه فإنه في الحال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه ويعبر على هذه الحالة بأنه فنى عن نفسه ومعناه أنه صار مستغرقاً بغيره وصارت همومه هماً واحداً وهو محبوبه ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لانفسه ولا غير نفسه وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن
_________
(1) أنوار الاعتبار فأما الحكم على العين كالحكم مثلاً بان الصبيان منهم فهذا مظنون وليس بمستيقن والاطلاع عليه تحقيقاً في عالم النبوة ويبعد أن ترتقى إليه رتبة الأولياء والعلماء والأخبار في حق الصبيان أيضاً متعارضة حتى قالت عائشة رضي الله عنها لما مات بعض الصبيان عصفور من عصافير الجنة فأنكر ذلك الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال وما يدريك(4/31)
تخطر في هذا العالم على قلب بشر كما لا يتصور أن تخطر صورة الألوان والألحان على قلب الأصم والأكمه إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره فعند ذلك يدرك حاله ويعلم قطعاً أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته فالدنيا حجاب على التحقيق وبرفعه ينكشف الغطاء فعند ذلك يدرك ذوق الطيبة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات والله الموفق بلطفه
بَيَانُ مَا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ
اعْلَمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ وَلِذَلِكَ قِيلَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ من الماء لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خير الأعمال أدومها وإن قل (1) والأشياء تستبان بأضداها وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل فالكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب إلا أن الكبيرة قلما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولو احق من جملة الصغائر فقلما يزني الزاني بغتة من غير مراودة ومقدمات وقلما يقتل بغتة من غير مشاحنة سابقة ومعاداة فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واطب الإنسان عليها عمره ومنها أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلها اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اسْتِعْظَامَهُ يَصْدُرُ عَنْ نُفُورِ الْقَلْبِ عنه وكراهيته له وَذَلِكَ النُّفُورُ يَمْنَعُ مِنْ شِدَّةِ تَأَثُّرِهِ بِهِ وَاسْتِصْغَارُهُ يَصْدُرُ عَنِ الْإِلْفِ بِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الْأَثَرِ فِي الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَطْلُوبُ تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة وقد جاء في الخبر المؤمن يرى ذنبه كالجبل فَوْقَهُ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَالْمُنَافِقَ يَرَى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره (2) وقال بعضهم الذنب الذي لا يغفر قول العبد ليت كل ذنب عملته مثل هذا وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله فإذا نظر إلى عظم من عصى به رأى الصغيرة كبيرة وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين لا صغيرة بل كل مخالفة فهي كبيرة وكذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم للتابعين وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الموبقات إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم فكانت الصغائر عندهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى من الكبائر وبهذا السبب يَعْظُمُ مِنَ الْعَالِمِ مَا لَا يَعْظُمُ مِنَ الْجَاهِلِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ الْعَامِّيِّ فِي أُمُورٍ لَا يُتَجَاوَزُ فِي أَمْثَالِهَا عَنِ الْعَارِفِ لِأَنَّ الذَّنْبَ وَالْمُخَالَفَةَ يَكْبُرُ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الْمُخَالِفِ وَمِنْهَا السُّرُورُ بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب الشقاوة فَكُلَّمَا غَلَبَتْ حَلَاوَةُ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْعَبْدِ كَبُرَتْ الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه حتى إن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه
_________
(1) حديث خير الأعمال أدومها وإن قل متفق عليه من حديث عائشة بلفظ أحب وقد تقدم
(2) حديث المؤمن يرى دنبه كالجبل فوقه الحديث أخرجه البخارى من رواية الحارث بن سويد قال حدثنا عبد الله ابن مسعود حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه فذكر هذا وحديث لله أفرح بتوبة العبد ولم يبين المرفوع من الموقوف وقد رواه البيهقى في الشعب من هذا(4/32)
كما يقول أما رأيتني كيف مزقت عرضه ويقول المناظر في مناظرته أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساويه حتى أخجلته وكيف استخففت به وكيف لبست عليه ويقول المعامل في التجارة أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته وكيف غبنته في ماله وكيف استحمقته فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان به في الحمل عليها فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه وبسبب بعده من الله تعالى فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه وَمِنْهَا أَنْ يَتَهَاوَنَ بِسِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحِلْمِهِ عَنْهُ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُمْهِلُ مَقْتًا لِيَزْدَادَ بِالْإِمْهَالِ إِثْمًا فَيَظُنَّ أَنَّ تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به فيكون ذلك لِأَمْنِهِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَجَهْلِهِ بِمَكَامِنِ الْغُرُورِ بالله كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الذَّنْبَ وَيُظْهِرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِ أَوْ يَأْتِيَهُ فِي مَشْهَدِ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى سِتْرِ اللَّهِ الَّذِي سَدَلَهُ عَلَيْهِ وَتَحْرِيكٌ لِرَغْبَةِ الشَّرِّ فِيمَنْ أَسْمَعَهُ ذَنْبَهُ أَوْ أَشْهَدَهُ فِعْلَهُ فَهُمَا جِنَايَتَانِ انضمتا إلى جنايته فغلظت به فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعه وتفاحش الأمر وفي الخبر كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه (1) وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر فالإظهار كفران لهذه النعمة وقال بعضهم لا تذنب فإن كان ولا بد فلا ترغب غيرك فيه فتذنب ذنبين ولذلك قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف وقال بعض السلف ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُذْنِبُ عَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِذَا فَعَلَهُ بِحَيْثُ يُرَى ذَلِكَ مِنْهُ كَبُرَ ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين ودخوله على السلاطين وتردده عليهم ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم وإطلاق اللسان في الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة وقصده الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه وَفِي الْخَبَرِ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقِصُ من أوزارهم شيئاً (2) قال تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل وقال ابن عباس ويل للعالم من الاتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق وقال بعضهم مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها وفي الإسرائيليات أن عالماً كان يضل الناس بالبدعة ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهراً فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر فعليهم وظيفتان إحداهما ترك الذنب والأخرى إخفاءه وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا فإذا ترك التجمل والميل إلى الدنيا وقنع منها باليسير ومن الطعام بالقوت ومن الكسوة بالخلق فيتبع عليه ويقتدي به العلماء والعوام فيكون له مثل ثوابهم وإن مال إلى التجمل مالت طباع من دونه إلى التشبه به ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين
_________
(1) حديث كل الناس معافى إلا المجاهرين الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة بلفظ كل أمتى وقد تقدم
(2) حديث مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عمل بها الحديث اخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله وقد تقدم فى آداب الكسب(4/33)
وجمع الحطام من الحرام ويكون هو السبب في جميع ذلك فحركات العلماء فِي طَوْرَيِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَتَضَاعَفُ آثَارُهَا إِمَّا بالربح وإما بالخسران وهذا القدر كاف في تفاصيل الذنوب التى التوبة توبة عنها
الركن الثالث في تمام التوبة وشروطها ودوامها إلى آخر العمر
قد ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نَدَمٍ يُورِثُ عزماً وقصداً وذلك الندم أورثه العلم بكون المعاصي حائلاً بينه وبين محبوبه ولكل واحد من العلم والندم والعزم دوام وتمام ولتمامها علامة ولدوامها شرط فلا بد من بيانها أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب التوبة وسيأتي وأما الندم فهو تَوَجُّعُ الْقَلْبِ عِنْدَ شُعُورِهِ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ وَعَلَامَتُهُ طول الحسرة والحزن وانسكاب الدمع وطول البكاء والفكر فمن استشعر عقوبة نازلة بولده أو ببعض أعزته طَالَ عَلَيْهِ مُصِيبَتُهُ وَبُكَاؤُهُ وَأَيُّ عَزِيزٍ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَشَدُّ مِنَ النار وأي شيء أَدَلُّ عَلَى نُزُولِ الْعُقُوبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَأَيُّ مُخْبِرٍ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ حَدَّثَهُ إنسان واحد يسمى طبيباً أن مرض ولده المريض لَا يَبْرَأُ وَأَنَّهُ سَيَمُوتُ مِنْهُ لَطَالَ فِي الْحَالِ حُزْنُهُ فَلَيْسَ وَلَدُهُ بِأَعَزَّ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا الطَّبِيبُ بِأَعْلَمَ وَلَا أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا الْمَوْتُ بِأَشَدَّ مِنَ النَّارِ وَلَا الْمَرَضُ بِأَدَلَّ عَلَى الْمَوْتِ مِنَ الْمَعَاصِي عَلَى سخط الله تعالى والتعرض بها للنار فَأَلَمُ النَّدَمِ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ كَانَ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِهِ أَرْجَى فَعَلَامَةُ صِحَّةِ النَّدَمِ رِقَّةُ القلب وغزارة الدمع وفي الخبر جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة (1) وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ تَتَمَكَّنَ مَرَارَةُ تِلْكَ الذُّنُوبِ في قلبه بدلاً عن حلاوتها فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة وفي الإسرائيليات أن الله سبحانه وتعالى قال لبعض أنبيائه وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين قي العبادة ولم ير قبول توبته فقال وعزتى وجلالى لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه
فإن قلت فالذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد مرارتها فأقول من تناول عسلاً كان فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه ثم مرض وطال مرضه وألمه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة فهل تنفر نفسه عن ذلك العسل أم لا فإن قلت لا فهو جحد للمشاهدة والضرورة بل ربما تنفر عن العسل الذي ليس فيه سم أيضاً لشبهه به فَوِجْدَانُ التَّائِبِ مَرَارَةَ الذَّنْبِ كَذَلِكَ يَكُونُ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فَذَوْقُهُ ذَوْقُ الْعَسَلِ وَعَمَلُهُ عَمَلُ السُّمِّ وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ وَلَا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان ولم عَزَّ مِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ عَزَّتِ التَّوْبَةُ وَالتَّائِبُونَ فَلَا تَرَى إِلَّا مُعْرِضًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَهَاوِنًا بِالذُّنُوبِ مُصِرًّا عَلَيْهَا فَهَذَا شَرْطُ تَمَامِ النَّدَمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَدُومَ إِلَى الْمَوْتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِدَ هَذِهِ الْمَرَارَةَ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ وإن لم يكن قد ارتكبها من قبل كما يجد متناول السم في العسل النفرة من الماء البارد مهما علم ان فيه مثل ذلك السم إذ لم يكن ضرره من العسل بل مما فيه ولم يكن ضرر التائب من سرقته وزناه من حيث إنه سرقة وزنا بل من حيث إنه من مخالفة أمر الله تعالى وذلك جار في كل ذنب وأما القصد الذى ينبعث منه هو إِرَادَةُ التَّدَارُكِ فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَهُوَ يُوجِبُ ترك كل مَحْظُورٍ هُوَ مُلَابِسٌ لَهُ وَأَدَاءَ كُلِّ فَرْضٍ وهو مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَاضِي وَهُوَ تَدَارُكُ مَا فَرَطَ وَبِالْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ دَوَامُ الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت
وشرط صحتها فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه بالسن او الاحتلام ويفتش عما مضى من
_________
(1) حديث جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة لم أجده مرفوعا وهو من قول عون بن عبد الله رواه ابن أبى الدنيا في التوبة قال جالسوا التوابين فإن رحمه الله الى النادم أقرب وقال أيضا فالموعظة إلى قلوبهم أسرع وهم إلى الرقة أقرب وقال أيضا التائب أسرع دمعا وأرق قلبا(4/34)
عمره سنة سنة وشهراً شهرا ويوما يوماً ونفساً نفساً وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها
فإن كان قد ترك صلاة او صلاها في ثوب نجس أو صلاها في بنية غير صحيحة لجهلة بشرط النية فيقضيها عن آخرها فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن انه أداه ويقضي الباقي وله أن ياخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد
وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمداً أو نسى النبة بالليل ولم يقض فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه
وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه لا من زمان البلوغ فإن الزكاة واجبة في مال الصبي فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته فإن أداه لا على وجه يوافق مذهبه بان لم يصرف إلى الأصناف الثمانية أو أخرج البدل وهو على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى فيقضي جميع ذلك فإن ذلك لا يجزيه اصلاً وحساب الزكاة ومعرفة ذلك يطول ويحتاج فيه إلى تأمل شاف ويلزمه أن يسأل عن كيفية الخروج عنه من العلماء
وأما الحج فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يتفق له الخروج والآن قد أفلس فعليه الخروج فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد فإن لم يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه الزكاة او الصدقات ما يحج به فإن إن مات قبل الحج مات عاصياً قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانيا (1) والعجز الطارىء بعد القدرة لا يسقط عنه الحج فهذا طريق تفتيشه عن الطاعات وتداركها
وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ومس مصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة تمحها (2) بل من قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر ويكفر القعود في المسجد جنباً بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة ويكفر مس المصحف محدثاً بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفاً ويجعله وقفاً ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه وعد جميع المعاصى غير ممكن وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة فإن المرض يعالج بضده فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة
_________
(1) حديث من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً الحديث تقدم فى الحج
(2) حديث اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحها أخرجه الترمذى من حديث أبى ذر وصححه وتقدم أوله في آداب الكسب وبعضه فى أوائل التوبة وتقدم فى رياضة النفس(4/35)
به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضاً مؤثراً في المحو فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأثر اتباع الدنيا في القلب السرو بها والحنين إليها فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم قال صلى الله عليه وسلم من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم (1) وفي لفظ آخر إلا الهم بطلب المعيشة وفي حديث عائشة رضي الله عنها إذا كثرت ذنوب العبد ولم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه (2) ويقال إن الهم الذي يدخل على القلب والعبد لا يعرف هو ظلمة الذنوب والهم بها وشعور القلب بوقفه الحساب وهول المطلع
فإن قلت هم الإنسان غالبا بما له وولده وجاهه وهو خطيئة فكيف يكون كفارة فاعلم أن الحب له خطيئة والحرمان عنه كفارة ولو تمتع به لتمت الخطيئة فقد روي أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فقال له كيف تركت الشيخ الكئيب فقال قد حزن عليك حزن مائة ثكلى قال فما له عند الله قال أجر مائة شهيد فإذن الهموم ايضاً مكفرات حقوق الله فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى
وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضاً فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان إليهم ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب لأن تلك إحياء إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده والإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه فيقابل الإعدام بالإيجاد وبهذا تعرف أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع حيث كفر القتل بإعتاق رقبة ثم إذا فعل ذلك كله لم يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد ومظالم العباد إما في النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب أعني به الإيذاء المحض
أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فنوبته بتسليم الدية ووصولها إلى المستحق إما منه او من عاقلته وهو في عهدة ذلك قبل الوصول وإن كان عمداً موجباً للقصاص فبالقصاص فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولي الدم ويحكمه في روحه فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب او سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالي استيفاء حق الله تعالى بل عليه أن بستر الله تعالى ويقيم حد الله على نفسه بانواع المجاهدة والتعذيب فالعفو في محض حقوق الله تعالى قريب من التائبين النادمين فإن أمر هذه إلى الوالي حتى أقام عليه الحد وقع موقعه وتكون توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى بدليل ما روي أن ما عز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظلمت نفسى وزنيت وإنى أريد أن تطهرني فرده فلما كان من الغد اتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فلما كان في الثالثة أمر به فحفر له حفرة ثم أمر به
_________
(1) حديث من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم وفي لفظ أخر إلا الهم في طلب المعيشة أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والخطيب في التلخيص من حديث أبى هريرة بسند ضعيف تقدم فى النكاح
(2) حديث إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له أعمال تكفرها أدخل الله عليه الغموم وتقدم أيضا فى النكاح وهو عند أحمد من حديث عائشة بلفظ ابتلاه الله بالحزن(4/36)
فرجم فكان الناس فيه فريقين فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أصدق من توبته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو سعتهم (1) وجاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني فردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك تريد أن ترددنى كما رددت ما عزا فو الله إني لحبلى فقال صلى الله عليه وسلم أما الآن فاذهبي حتى تضعي فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة فقالت هذا قد ولدته قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت يانبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال مهلا يا خالد فو الذى نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلي عليها ودفت (2)
وأما القصاص وحد القذف فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه وإن كان المتناول مالا تناوله بِغَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ غَبْنٍ فِي مُعَامَلَةٍ بِنَوْعِ تَلْبِيسٍ كَتَرْوِيجِ زَائِفٍ أَوْ سَتْرِ عَيْبٍ مِنَ الْمَبِيعِ أَوْ نَقْصِ أُجْرَةِ أَجِيرٍ أَوْ منع أجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل من أول مدة وجوده فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولي قد قصر فيه فإن لم يفعل كان ظالماً مطالباً به إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ فِي الْقِيَامَةِ وَلْيُنَاقِشْ قَبْلَ أَنْ يُنَاقَشَ فَمَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي الدنيا طال في الآخرة حسابه فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه وليكتب أسامي أصحاب المظالم واحداً واحداً وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ولكن على كل واحد منهم أن يفعل منه ما يقدر عليه فَإِنْ عَجَزَ فَلَا يَبْقَى لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئاته أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره فَهَذَا طَرِيقُ كُلِّ تَائِبٍ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف وربما يكون الأجل قريباً فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات هذا حكم المظالم الثابتة في ذمته
أما أَمْوَالُهُ الْحَاضِرَةُ فَلْيَرُدَّ إِلَى الْمَالِكِ مَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا مُعَيَّنًا وَمَا لَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَإِنِ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْحَرَامِ بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله في كتاب الحلال والحرام
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمُشَافَهَةِ النَّاسِ بِمَا يسوؤهم أو يعيهم في الغيبة فيطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحداً واحداً منهم ومن مات أو غاب فَقَدْ فَاتَ أَمْرُهُ وَلَا يُتَدَارَكُ إِلَّا بِتَكْثِيرِ الحسنات لتؤخذ منه عوضاً في القيامة وأما من وَجَدَهُ وَأَحَلَّهُ بِطِيبِ قَلْبٍ مِنْهُ فَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وعليه أن يعرفه قدر جنايته
_________
(1) حديث اعتراف ما عز بالزنا ورده صلى الله عليه وسلم حتى اعترف اربعا وقوله لقد تاب توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة بن الخصيب
(2) حديث الغامدية واعترافها بالزنا ورجمها وقوله صلى الله عليه وسلم لقد تابت توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة وهو بعض الذى قبله(4/37)
وتعرضه له فالاستحلال المبهم لا يكفي وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم آذاه مهما شوفه به فقد انسد عليه طريق الاستحلال فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب
وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه فإن الإنسان عبد الإحسان وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ ذلك منه عوضاً في القيامة بحكم الله به عليه كمن أتلف في الدنيا ما لا فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين وفي المتفق عليه من الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة قال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة (1) وفي رواية فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها وفي رواية فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له فبهذا تعرف أنه لاخلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة فلا بد للتائب من تكثير الحسنات هذا حكم القصد المتعلق بالماضي
وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة تضره مثلاً فيعزم عزماً جزماً أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه
_________
(1) حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين فسأل عن أعلم أهل الأرض الحديث هو متفق عليه كما قال المصنف من حديث أبى سعيد(4/38)
فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائباً مع الإصرار عليه ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات وقد قال بعضهم من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع مرار لم يبتل بها وقال آخر من تاب من ذنب واستقام سبع سنين لم يعد إليه أبداً وَمِنْ مُهِمَّاتِ التَّائِبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب كالذي يتوب عن الشرب والزنا والغصب مثلاً وليست هذه توبة مطلقة
وقد قال بعض الناس إن هذه التوبة لا تصح وقال قائلون تصح ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل بل نقول لمن قال لا تصح إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلاً بلا وجوده كعدمه فما أعظم خطأك فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب لقلته ونقول لمن قال تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولاً يوصل إلى النجاة أو الفوز فهذا أيضاً خطأ بل النجاة والفوز بترك الجميع هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله فإن قال من ذهب إلى أنها لا تصح إني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم وإنما يندم على السرقة مثلاً لكونها معصية لا لكونها سرقة ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية فإن العلة شاملة لهما إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو الزنا فكيف يتوجع على البعض دون البعض فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون البعض ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر فإن استحال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحد وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصي آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة فإذن معنى عدم الصحة أن الله تعالى وعد التائبين رتبة وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول نقول إن العقد لا يصح أي لم تترتب عليه الثمرة وهو الملك وتحقيق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه وثمرة الندم تكفير ما سبق فترك السرقة لا يكفر السرقة بل الندم عليها ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع المعاصي وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء
فنقول التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الكبائر أو عن كبيرة دون كبيرة أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فأمر ممكن لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني على دابته فيكون خائفاً من الجناية على الأهل مستحقراً للجناية على الدابة والندم بحسب استعظام الذنب واعتقاد كونه مبعداً عن الله تعالى وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر التائبون في الأعصار الخالية ولم يكن أحد منهم معصوماً فلا تستدعي التوبة العصمة والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيراً شديداً ويحذره السكر تحذيراً أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلاً فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده وإن أكلهما جميعاً بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر
الثاني أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض وهذا أيضاً ممكن لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند(4/39)
الله كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه أن ديوان العباد لا يترك وما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه فهذا أيضاً ممكن كما في تفاوت الكبائر والصغائر لأن الكبائر أيضاً متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد مرتكبها ولذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً إذ يتضح له أن الخمر مفتاح الشرور وأنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي وهو لا يدرى فبحسب ترجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركا في المستقبل وندماً على الماضي
الثالث أن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة كالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجري مجراه وهو مصر على شرب الخمر فهو أيضاً ممكن ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ونادم على فعله ندماً إما ضعيفاً وإما قوياً ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم موجوداً ولكن لا يكون ملياً بتحريك العزم ولا قوياً عليه فإن سلم عن شهوة أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه وتكون له ضراوة ما بالغيبة وثلب الناس والنظر إلى غير المحرم وخوفه من الله قد بلغ مبلغاً يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك بل يقول هذا الفاسق في نفسه إن قهرنى الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية بل أجاهده في بعض المعاصي فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم ولقيل له إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح وإن كانت لله فاترك الفسق لله فإن أمر الله فيه واحد فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب بترك الفسق وهذا محال بأن يقول لله تعالى على أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان وأناملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عنى بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي فكيف لا يتصور هذا وهو حال كل مسلم إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته ولاسبب له إلا هذا وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم والندم يورث العزم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الندم توبة ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال التائب من الذنب كمن لا ذنب له ولم يقل التائب من الذنوب كلها وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل أن التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة لأنها متمائلة في حق الشهوة وفي حق التعرض إلى سخط الله تعالى نعم يجوز أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ لتفاوتهما في اقتضاء السخط ويتوب عن الكثير دون القليل لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول قليلها ولكن لا يستكثر منها فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ولا يتوب عن مثله بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفاً لما بقي عليه إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم فيتصور اختلاف حاله في الترك فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي
فإن قلت هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة فأقول لا لأن التوبة عبارة عن ندم(4/40)
يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه لا بتركه إياه ولكني أقول لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها فإني أرجو أن يكون ذلك مكفراً لذنبه وما حيا عنه سيئته إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغاً أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده فإذن لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه فإن كل من لا يشتهي شيئاً يقدر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف والله تعالى مطلع على ضميره وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه بل الظاهر أنه يقبله
والحقيقة في هذا كله ترجع إلى ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين أحدهما حرقة الندم والآخر شدة المجاهدة بالترك في المستقبل وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة ولكن ليس محالاً أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة ولولا هذا لقلنا إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلاً
فإن قلت إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب والآخر بقي في نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها فأيهما أفضل فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه فقال أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني إن المجاهد أفضل لأن له مع التوبة فضل الجهاد وقال علماء البصرة ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة
والحق فيه أن الذي انقطع نزوع نفسه له حالتان إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها بفتور في نفس الشهوة فقط فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة قد دل على قوة نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين وعلى قوة الدين وأعني بقوة الدين قوة الإرادة التي تنبعث بإشارة اليقين وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة الشياطين فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعاً وقول القائل إن هذا أسلم إذ لو فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ وهو كقول القائل العنين أفضل من الفحل لأنه في أمن من خطر الشهوة والصبي أفضل من البالغ لأنه أسلم والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه لأن المفلس لا عدو له والملك ربما يغلب مرة وإن غلب مرات وهذا كلام رجل سليم القلب قاصر النظر على الظواهر غير عالم بأن العز في الأخطار وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار بل كقول القائل الصياد الذي ليس له فرس ولا كلب أفضل في صناعة الاصطياد وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس لأنه آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض وآمن من أن يعضه الكلب ويعتدي عليه وهذا خطأ بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قوياً عالماً بطريق تأديبهما أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد
الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين وصدق المجاهدة السابقة إذ بلغ مبلغاً قمع هيجان الشهوة حتى تأدبت بأدب الشرع فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين وقد سكنت بسبب استيلاء الدين عليها فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسي لهيجان الشهوة وقمعها وقول القائل ليس لذلك فضل الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود(4/41)
الجهاد فإن الجهاد كان مقصوداً لعينه بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك إلى شهواته وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد ظفرت وما دمت في المجاهدة فأنت بعد في طلب الظفر ومثاله كمثال من قهر العدو واسترقه بالإضافة إلى من هو مشغول بالجهاد في صف القتال ولا يدري كيف يسلم ومثاله أيضاً مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد ولقد زل في هذا فريق فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه فعجز عنه فقال هذا محال فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة واسترسل في إتباع الشهوات وكل ذلك جهل وضلال وقد قررنا ذلك في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات
فإن قلت فما قولك في تائبين أحدهما نسي الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه والآخر جعله نصب عينه ولا يزال بتفكر فيه ويحترق ندماً عليه فأيهما أفضل فاعلم أن هذا أيضاً قد اختلفوا فيه فقال بعضهم حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك وكل واحد من المذنبين عندنا على حق ولكن بالإضافة إلى حالين
وكلام المتصوفة أبداً يكون قاصراً فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال وهذا نقصان بالإضافة إلى الهمة والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره إذ طريقه إلى الله نفسه ومنازله أحواله وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم فالطرق إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والعبد والله أعلم بمن هو أهدى سبيلاً مع الاشتراك في أصل الهداية
فأقول تصور الذنب وذكره والتفجع عليه كمال في حق المبتدىء لأنه إذا نسيه لم يكثر احتراقه فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق لأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف الوازع عن الرجوع إلى مثله فهو بالإضافة إلى الغافل كمال ولكنه بالإضافة إلى سالك الطريق نقصان فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق بل سالك الطريق ينبغي أن لا يعرج على غير السلوك فإن ظهر له مبادى الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولو امع الغيب استغرقه ذلك ولم يبق متسع للالتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال بل لو عاق المسافر عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر حاجز طال تعب المسافر في عبوره مدة من حيث إنه كان قد خرب جسره من قبل ولو جلس على شاطىء البحر بعد عبوره يبكي متأسفاً على تخريبه الجسر كان هذا مانعاً آخر اشتغل به بعد الفراغ من ذلك المانع نعم إن لم يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلاً فتعذر السلوك أو كان على طريقة أنهار وهو يخاف على نفسه أن يمر بها فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر ليتأكد بطول الحزن عزمه على أن لا يعود إلى مثله فإن حصل له من التنبيه ما وثق بنفسه أنه لا يعود إلى مثله فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه وهذا لا يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك وقد أشرنا إلى تلويحات منه في كتاب العلم وفي ربع المهلكات بل نقول شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر في النعيم فى الآخرة لتزيد غبته ولكن إن كان شاباً فلا ينبغي أن يطيل فكره فى كل ما له نظير في الدنيا كالحور والقصور فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط فذلك لا نظير له في الدنيا(4/42)
فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوة فالمبتدى أيضاً قد يستضر به فيكون النسيان أفضل له عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته وإن كان ذلك نازلاً عن ذروة مقامهم فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها وقد كان مستغنياً عنها لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلاً للأمر على المريد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أما إني لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع (1) وفي لفظ إنما أسهو لأسن ولا تعجب من هذا فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء وكالمواشي في كنف الرعاة
أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي كما قال صلى الله عليه وسلم للحسن كخ كخ (2) لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول ارم هذه التمرة فإنها حرام ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقة ترك الفصاحة ونزل إلى لكنته بل الذي يعلم شاة أو طائراً يصوت به رغاءً أو صفيراً تشبهاً بالبهيمة والطائر تلطفاً في تعليمه فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق إنها مزلة أقدام العارفين فضلاً عن الغافلين نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان أَقْسَامُ الْعِبَادِ فِي دَوَامِ التَّوْبَةِ
اعْلَمْ أَنَّ التَّائِبِينَ فِي التَّوْبَةِ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ الطَّبَقَةُ الْأُولَى أَنْ يَتُوبَ الْعَاصِي وَيَسْتَقِيمَ عَلَى التَّوْبَةِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَيَتَدَارَكُ مَا فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى ذُنُوبِهِ إِلَّا الزَّلَّاتِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ الْبَشَرُ عَنْهَا في العادات مهما لم يكن في رتبة النبوة فَهَذَا هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ وَصَاحِبُهُ هُوَ السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ الْمُسْتَبْدِلُ بِالسَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ وَاسْمُ هَذِهِ التَّوْبَةِ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَاسْمُ هَذِهِ النَّفْسُ السَّاكِنَةُ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى رَبِّهَا رَاضِيَةً مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً (3) فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملي بمجاهدتها وردها ثم تتفاوت درجات النزاع أيضاً بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع وكذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموت قريباً من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفاً من الله تعالى واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن
_________
(1) حديث أما إني لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع ذكره مالك بلاغا بغير إسناد وقال ابن عبد البر لا يوجد فى الموطأ إلا مرسلا لا إسناد له وكذا قال حمزة الكتانى إنه لم يرد من غير طريق مالك وقال أبو طاهر الأنماطى وقد طال بحثى عنه وسؤالى عنه للأئمة والحفاظ فلم أظفر به ولا سمعت عن أحد أنه ظفر به قال وادعى بعض طلبه الحديث أنه وقع له مسندا
(2) حديث أنه قال للحسن كخ كخ لما أخذ تمرة من الصدقة ووضعها في فيه أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة وتقدم في كتاب الحلال والحرام
(3) حديث سبق المفردون المستهترون بذكر الله الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى هريرة وحسنة وقد تقدم(4/43)
اختياره فيقدم على المعصية وينقض توبته بل طريقها الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى يسد طرقها على نفسه ويسعى مع ذلك في كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته في الابتداء
الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ تَائِبٌ سَلَكَ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ فِي أُمَّهَاتِ الطَّاعَاتِ وَتَرَكَ كَبَائِرَ الْفَوَاحِشِ كُلَّهَا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ يَنْفَكُّ عَنْ ذُنُوبٍ تَعْتَرِيهِ لَا عن عمد وتجريد قصد وَلَكِنْ يُبْتَلَى بِهَا فِي مَجَارِي أَحْوَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّمَ عَزْمًا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ كُلَّمَا أَقْدَمَ عَلَيْهَا لَامَ نَفْسَهُ وَنَدِمَ وَتَأَسَّفَ وَجَدَّدَ عَزْمَهُ عَلَى أَنْ يَتَشَمَّرَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي تُعَرِّضُهُ لَهَا وَهَذِهِ النَّفْسُ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ إِذْ تلوم صاحبها على ما تستهدف لَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ لَا عَنْ تَصْمِيمِ عزم وتخمين رأي وَقَصْدٍ وَهَذِهِ أَيْضًا رُتْبَةٌ عَالِيَةٌ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً عَنِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَغْلَبُ أَحْوَالِ التَّائِبِينَ لِأَنَّ الشَّرَّ مَعْجُونٌ بِطِينَةِ الْآدَمِيِّ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَإِنَّمَا غَايَةُ سَعْيِهِ أَنْ يَغْلِبَ خَيْرُهُ شَرَّهُ حَتَّى يَثْقُلَ مِيزَانُهُ فَتَرْجَحُ كِفَّةُ الْحَسَنَاتِ فَأَمَّا أَنْ تَخْلُوَ بِالْكُلِّيَّةِ كِفَّةُ السَّيِّئَاتِ فَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُسْنُ الوعد من الله تعالى إِذْ قَالَ تَعَالَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ فَكُلُّ إِلْمَامٍ يَقَعُ بِصَغِيرَةٍ لَا عَنْ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّمَمِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاستغفروا لذنوبهم فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لِتَنَدُّمِهِمْ وَلَوْمِهِمْ أنفسهم عليه وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علي كرم الله وجهه خياركم كل مفتن تواب (1) وفي خبر آخر المؤمن كالسنبلة يفيء أحياناً ويميل أحياناً (2) وَفِي الْخَبَرِ لَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ ذَنْبٍ يأتيه الفينة بعد الفينة (3) أي الحين بعد الحين فَكُلُّ ذَلِكَ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا القدر لا ينفض التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه والأطعمة الحارة مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات قال النبي صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون المستغفرون (4) وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة فما وصفهم بعدم السيئة أصلاً
الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَمِرَّ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مدة ثم تغلبه الشهوات فى بعضالذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لِعَجْزِهِ عَنْ قَهْرِ الشَّهْوَةِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُوَاظِبٌ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَارِكٌ جُمْلَةً مِنَ الذنوب مع القدرة والشهوة وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها هذا أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الْفَرَاغِ يَتَنَدَّمُ وَيَقُولُ لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْهُ وَسَأَتُوبُ عنه وأجاهد نفسى
_________
(1) حديث على خياركم كل مفتن تواب اخرجه البيهقى فى الشعب بسند ضعيف
(2) حديث المؤمن كالسنبلة تفىء أحيانا وتميل أحيانا أخرجه ابو يعلى وابن حبان فى الضعفاء من حديث انس والطبرانى من حديث عمار بن ياسر والبيهقى فى الشعب من حديث الحسن مرسلا وكلها ضعفية وقالوا تقوم بدل تفىء وفى الأمثال للرامهرمزى إسناد جيد لحديث انس
(3) حديث لَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ ذَنْبٍ يَأْتِيهِ الْفَيْنَةَ بعد الفينة أخرجه الطبرانى والبيهقى فى الشعب من حديث ابن عباس بأسانيد حسنة
(4) حديث كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين المستغفرون اخرجه الترمذى واستغفر به والحاكم وصحيح إسناده من حديث أنس وقال التوابون بدل المستغفرون قلت فيه على بن مسعدة ضعفه البخارى(4/44)
في قهرها لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوماً بَعْدَ يَوْمٍ فَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى النَّفْسُ الْمُسَوِّلَةُ وَصَاحِبُهَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالحاً وآخر سيئاً فَأَمْرُهُ مِنْ حَيْثُ مُوَاظَبَتِهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكَرَاهَتُهُ لِمَا تَعَاطَاهُ مَرْجُوٌّ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَعَاقِبَتُهُ مَخَطَّرَةٌ مِنْ حَيْثُ تَسْوِيفُهُ وَتَأْخِيرُهُ فربما بختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل لأنه مهما تعذر على المتفقه مثلاً الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين فكذلك ارتباط سعادات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العلية في الدنيا بترك الكسل والمواظبة على تفقيه النفس فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفس صارت فقيهة بطول التفقيه فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهراً بطول التزكية والتطهير هكذا سبق في الأزل بتدبير رب الأرباب ولذلك قال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقداً والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان قال صلى الله عليه وسلم إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس إنه من أهلها ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (1) فإذن الخوف من الخاتمة قبل التوبة وكل نفس فهو خاتمة ما قبله إذ يمكن أن يكون الموت متصلاً به فليراقب الأنفاس وإلا وقع في المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر
الطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يَتُوبَ وَيَجْرِيَ مُدَّةً عَلَى الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَسَّفَ عَلَى فِعْلِهِ بَلْ يَنْهَمِكُ انْهِمَاكَ الْغَافِلِ فِي اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُصِرِّينَ وَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ الْفَرَّارَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَيُخَافُ عَلَى هَذَا سوء الخاتمة وأمره في مشيئة الله فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا تطلع عليه كما لا يستحل أن يدخل الإنسان خراباً ليجد كنزاً فيتفق أن يجده وأن يجلس في البيت ليجعله الله عالماً بالعلوم من غير تعلم كما كان الأنبياء صلوات الله عليهم فَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالطَّاعَاتِ كَطَلَبِ الْعِلْمِ بِالْجُهْدِ وَالتَّكْرَارِ وطلب المال بالتجارة وركوب البحار وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنور في المواضع الخربة وطلب العلوم من تعليم الملائكة وليت من اجتهد تعلم وليت من اتجر استغنى وليت من صام وصلى غفر له فالناس كلهم محرومون إلا العالمون والعالمون كلهم محرومون إلا العاملون والعاملون كلهم محرومون إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم وكما أَنَّ مَنْ خَرَّبَ بَيْتَهُ وَضَيَّعَ مَالَهُ وَتَرَكَ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ جِيَاعًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ فَضْلَ اللَّهِ بِأَنْ يَرْزُقَهُ كَنْزًا يَجِدُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ في بيته الخرب يعد عنه ذوي البصائر من الحمقى والمغرورين وإن كان ما ينتظره غير مستحيل في قدرة الله تعالى وفضله فكذلك من ينتظر
_________
(1) حديث إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة الحديث متفق عليه من حديث سهل بن سعد دون قوله سبعين سنة ولمسلم من حديث أبى هريرة إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة الحديث ولأحمد من رواية شهر بن حوشب عن أبى هريرة إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة وشهر مختلف فيه(4/45)
المغفرة من فضل الله تعالى وهو مقصر عن الطاعة مصر على الذنوب غير سالك سبيل المغفرة يعد عند أرباب القلوب من المعتوهين وَالْعَجَبُ مِنْ عَقْلِ هَذَا الْمَعْتُوهِ وَتَرْوِيجِهِ حَمَاقَتَهُ في صيغة حسنة إِذْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ كِرِيمٌ وَجَنَّتُهُ لَيْسَتْ تَضِيقُ عَلَى مِثْلِي وَمَعْصِيَتِي لَيْسَتْ تَضُرُّهُ ثُمَّ تَرَاهُ يَرْكَبُ الْبِحَارَ وَيَقْتَحِمُ الْأَوْعَارَ فِي طَلَبِ الدِّينَارِ وَإِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ كِرِيمٌ ودنانير خزائنه لَيْسَتْ تَقْصُرُ عَلَى فَقْرِكَ وَكَسَلُكَ بِتَرْكِ التِّجَارَةِ لَيْسَ يَضُرُّكَ فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَعَسَاهُ يَرْزُقُكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ فَيَسْتَحْمِقُ قَائِلَ هَذَا الكلام ويستهزىء بِهِ وَيَقُولُ مَا هَذَا الْهَوَسُ السَّمَاءُ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَإِنَّمَا يُنَالُ ذَلِكَ بِالْكَسْبِ وَهَكَذَا قَدَّرَهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَأَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ وَلَا تَبْدِيلَ لِسُنَّةِ اللَّهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمَغْرُورُ أَنَّ رَبَّ الْآخِرَةِ وَرَبَّ الدُّنْيَا وَاحِدٌ وأن سنته لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ إِذْ قَالَ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا ما سعى فكيف يعتقد أنه كريم في الآخرة وليس بكريم في الدنيا وكيف يقول ليس مقتضى الكرم الفتور عن كسب المال ومقتضاه الفتور عن العمل للملك لذلك المقيم والنعيم الدائم وأن ذلك بحكم الكرم يعطيه من غير جهد في الآخرة وهذا يمنعه مع شدة الاجتهاد في غالب الأمر في الدنيا وينسى قوله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون فنعوذ بالله من العمى والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس في ظلمات الجهل وصاحب هذا جدير بأن يكون داخلاً تحت قوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً أي أبصرنا أنك صدقت إذ قلت وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فأرجعنا نسعى وعند ذلك لا يمكن من الانقلاب ويحق عليه العذاب فنعوذ بالله من دواعي الجهل والشك والارتياب السائق بالضرور إلى سوء المنقلب والمآب
بيان ما ينبغي أن يبادر إليه التائب إن جَرَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ إِمَّا عَنْ قَصْدٍ وَشَهْوَةٍ
غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق
اعلم أن الواجب عليه التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضاده كما ذكرنا طريقه فَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ النَّفْسُ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ الثَّانِيَ وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة ليمحوها فَيَكُونَ مِمَّنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَالْحَسَنَاتُ الْمُكَفِّرَةُ لِلسَّيِّئَاتِ إِمَّا بِالْقَلْبِ وَإِمَّا بِاللِّسَانِ وَإِمَّا بِالْجَوَارِحِ وَلْتَكُنِ الْحَسَنَةُ فِي مَحَلِّ السَّيِّئَةِ وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا
فَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَلْيُكَفِّرْهُ بِالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ ويتذلل تذلل العبد الآبق ويكون ذله بحيث يظهر لسائر العباد وذلك بنقصان كبره فيما بينهم فما للعبد الآبق المذنب وجه للتكبر على سائر الْعِبَادِ وَكَذَلِكَ يُضْمِرُ بِقَلْبِهِ الْخَيْرَاتِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْعَزْمَ عَلَى الطَّاعَاتِ
وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَبِالِاعْتِرَافِ بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَيَقُولُ رَبِّ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَعَمِلْتُ سُوءًا فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَكَذَلِكَ يُكْثِرُ مِنْ ضُرُوبِ الِاسْتِغْفَارِ كما أوردناه في كتاب الدعوات والأذكار
وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا اتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجواً أربعة من أعمال القلوب وهي التوبة أو العزم على التوبة وحب الإقلاع عن الذنب وتخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له وأربعة من أعمال الجوارح وهي أن تصلي عقيب الذنب ركعتين ثم تستغفر الله تعالى بعدهم سبعين مرة وتقول سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم تتصدق بصدقة ثم تصوم(4/46)
يوماً وفي بعض الآثار تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ركعتين (1) وفى بعض الأخبار تصلي أربع ركعات (2) وفى الخبر إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية (3) ولذلك قيل صدقة السر تكفر ذنوب الليل وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار وفي الخبر الصحيح أن رجلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شىء إلا المسيس فاقض علي بحكم اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ما صليت معنا صلاة الغداة قال بلى فقال صلى الله عليه وسلم أن الحسنات يذهبن السيئات (4) وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ جعل الصلاة كفارة له بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إلا الكبائر فعلى الأحوال كلها ينبغي أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَجْمَعَ سَيِّئَاتِهِ ويجتهد في دفعها بالحسنات
فإن قلت فكيف يكون الاستغفار نافعاً من غير حل عقدة الإصرار وفي الخبر المستغفر من الذنب وهومصر عليه كالمستهزىء بآيات الله (5) وكان بعضهم يقول استغفر الله من قولي أستغفر الله وقيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين وقالت رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر ذكرناها في كتاب الأذكار والدعوات حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فكان بعض الصحابة يقول كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا وبقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا (6) فنقول الِاسْتِغْفَارَ الَّذِي هُوَ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ هُوَ الِاسْتِغْفَارُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَلْبِ فِيهِ شَرِكَةٌ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَعَنْ رَأْسِ الْغَفْلَةِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَكَمَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ صِفَةَ النَّارِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِهِ قَلْبُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ حَرَكَةِ اللِّسَانِ وَلَا جَدْوَى لَهُ فَأَمَّا إِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ تَضَرُّعُ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِهَالُهُ فِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ عَنْ صِدْقِ إِرَادَةٍ وَخُلُوصِ نِيَّةٍ وَرَغْبَةٍ فَهَذِهِ حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا فَتَصْلُحُ لِأَنْ تُدْفَعَ بِهَا السَّيِّئَةُ وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ في اليوم سبعين مرة (7)
_________
(1) أثر إن من مكفرات الذنب أن تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ركعتين اخرجه أصحاب السنن من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له لفظ أبى داود وهو فى الكبرى للنسائى مرفوعا وموقوفا فلعل المصنف عبر بالأثر لارادة الموقوف فذكرته احتياطا والا فالآثار ليست من شرط كتابى
(2) حديث التكفير بصلاة أربع ركعات أخرجه ابن مردوية فى التفسير والبيهقى فى الشعب من حديث ابن عباس قال كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهوى امرأة الحديث وفيه فلما رآها جلس منها مجلس الرجل من امرأته وحرك ذكره فإذا هو مثل الهدية فقام نادما فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صل أربع ركعات فأنزل الله عز وجل وأقم الصلاة طرفى النهار الآية وإسناده جيد
(3) حديث إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية أخرجه البيهقى فى الشعب من حديث معاذ وفيه رجل لم يسم ورواه الطبرانى من رواية عطاء بن يسار عن معاذ ولم يلقه بلفظ وما عملت من سوء فأحدث لله فيه توبة السر بالسر الحديث
(4) حديث أن رجلاً قال يا رسول الله إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شىء إلا المسيس الحديث فى نزول أن الحسنات يذهبن السيئات متفق عليه من حديث ابن مسعود دون قوله أو ما صليت معنا صلاة الغداة ورواه مسلم من حديث أنس وفيه هل حضرت معنا الصلاة قال نعم ومن حديث أبى أمامة وفيه ثم شهدت الصلاة معنا قال نعم الحديث
(5) حديث المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزىء بآيات الله أخرجه ابن أبى الدنيا فى التوبة ومن طريقة البيهقي فى الشعب من حديث ابن عباس بلفظ كالمستهزىء بربه وسنده ضعيف
(6) حديث بعض الصحابة في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية كان لنا أمانان ذهب أحدهما أخرجه احمد من قول أبى موسى الأشعرى ورفعه الترمذى من حديثه أنزل الله على أمانين الحديث وضعفه وابن مردوية فى تفسيره من ولابن عباس
(7) حديث ما أصر من استغفر الحديث تقدم فى الدعوات(4/47)
وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك قال سهل لا بد للعبد في كل حال من مولاه فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء فإن عصى قال يا رب استر علي فإذا فرغ من المعصية قال يا رب تب علي فإذا تاب قال يا رب ارزقني العصمة وإذا عمل قال يا رب تقبل مني وسئل أيضاً عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم التنقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم الفكر ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلة ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتوكل صاحبه ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وسئل أيضاً عن قوله صلى الله عليه وسلم التائب حبيب الله فقال إنما يكون حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله تعالى {التائبون العابدون} الآية وقال الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه
والمقصود إِنَّ لِلتَّوْبَةِ ثَمَرَتَيْنِ {إِحْدَاهُمَا} تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَصِيرَ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَالثَّانِيَةُ نَيْلُ الدرجات حتى يصير حبيباً وَلِلتَّكْفِيرِ أَيْضًا دَرَجَاتٌ فَبَعْضُهُ مَحْوٌ لِأَصْلِ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُهُ تَخْفِيفٌ لَهُ وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ التَّوْبَةِ فَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَالتَّدَارُكُ بِالْحَسَنَاتِ وَإِنْ خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات فَلَيْسَ يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أن تظن أن وجودها كعدمها بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} صدق وأنه لا تخلو ذرة من الخير عَنْ أَثَرٍ كَمَا لَا تَخْلُو شُعَيْرَةٌ تُطْرَحُ في الميزان عن أثر ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات وذلك بالضرورة محال بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع كفة السيئات فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ ذَرَّاتِ الطَّاعَاتِ فَلَا تَأْتِيَهَا وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللاً بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد وتقول أي غني يحصل بخيط وما وقع ذلك في الثياب ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطاً وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة فإذن التَّضَرُّعَ وَالِاسْتِغْفَارَ بِالْقَلْبِ حَسَنَةٌ لَا تَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ أَصْلًا بَلْ أَقُولُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ أَيْضًا حَسَنَةٌ إِذْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِهَا عَنْ غَفْلَةٍ خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل فقال اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير وعوده الذكر ولم يستعمله في الشر ولم يعوده الفضول وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذباً سبق لسانه إلى ما تعود فقال أستغفر الله ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول ما أحمقك وما أقبح كذبك ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادىء الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال لعنه الله فيعصي في إحدى الكلمتين ويسلم في الأخرى وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير وهو من جملة معاني قوله تعالى {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} ومعاني قوله تعالى {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه}(4/48)
{أجراً عظيماً} فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات وتضعيف الآخرة {أكبر لو كانوا يعلمون} فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات فتفتر رغبتك عن العبادات فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم أنهم أرباب البصائر وأهل التفطن للخفايا والسرائر فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات أما السابق فقال صدقت يا ملعون ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلاً فلا جرم أعذبك مرتين وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه وأما الظالم المغرور فاستشعر في نفسه خيلاء الفطنة لهذه الدقيقة ثم عجز عن الإخلاص بالقلب فترك مع ذلك تعويد اللسان بالذكر فأسعف الشيطان وتدلى بحبل غروره فتمت بينهما المشاركة والموافقة كما قيل وافق شن طبقه وافقه فاعتنقه وأما المقتصد فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب في العمل وتفطن لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب ولكن اهتدى إلى كماله بالإضافة إلى السكوت والفضول فاستمر عليه وسأل الله تعالى أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير فكان السابق كالحائك الذي ذمت حياكته فتركها وأصبح كاتباً والظالم المتخلف كالذي ترك الحياكة أصلاً وأصبح كناساً والمقتصد كالذي عجز عن الكتابة فقال لا أنكر مقدمة الحياكة ولكن الحائك مذموم بالإضافة إلى الكاتب لا بالإضافة إلى الكناس فإذا عجزت عن الكتابة فلا أترك الحياكة ولذلك قالت رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير فلا تَظُنَّ أَنَّهَا تَذُمُّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ بَلْ تَذُمُّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ مِنْ غَفْلَةِ قَلْبِهِ لا من حركة لسانه فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضاً احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد فهكذا ينبغي أن تفهم ذم ما يذم وحمد ما يحمد وإلا جهلت معنى ما قال القائل الصادق حسنات الأبرار سيئات المقربين فإن هذه أمور تثبت بالإضافة فلا ينبغي أن تؤخذ من غير إضافة بل ينبغي أن لا تستحقر ذرات الطاعات والمعاصي ولذلك قال جعفر الصادق إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه وغضبه في معاصيه فلا تحقروا منها شيئاً فلعل غضبه فيه وخبأ ولايته في عباده فلا تحقروا منهم أحداً فلعله ولي الله تعالى وزاد وخبأ إجابته في دعائه فلا تتركوا الدعاء فربما كانت الإجابة فيه
الركن الرابع في دَوَاءُ التَّوْبَةِ وَطَرِيقُ الْعِلَاجِ لِحَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ
اعلم أن الناس قسمان شاب لا صبوة له نشأ على الخير واجتناب الشر وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجب ربك من شاب ليست له صبوة (1) وهذا عزيز نادر والقسم الثاني هو الذي لا يخلو عن مقارفة الذنوب ثم هم ينقسمون إلى مصرين وإلى تائبين وغرضنا أن نبين العلاج في حل عقدة الإصرار ونذكر الدواة فيه فاعلم أَنَّ شِفَاءَ التَّوْبَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالدَّوَاءِ ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء فكل داء حصل من سبب فدواؤه حل ذلك السبب ورفعه وإبطاله ولا يبطل الشيء لا بِضِدِّهِ وَلَا سَبَبَ لِلْإِصْرَارِ إِلَّا الْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ وَلَا يُضَادُّ الْغَفْلَةَ إِلَّا الْعِلْمُ وَلَا يُضَادُّ الشهوة إلا الصبر على قطع
_________
(1) حديث يعجب ربك من شاب ليست له صبوة أخرجه احمد والطبرانى من حديث عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعه(4/49)
الأسباب المحركة للشهوة والغفلة رأس الخطايا قال الله تعالى {وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر وكما يجمع السكنجبين بين حلاوة السكر وحموضة الخل ويقصد بكل منهما غرض آخر في العلاج بمجموعهما فيقمع الأسباب المهيجة للصفراء فهكذا ينبغي أن تفهم علاج القلب مما به من مرض الإصرار فإن لهذا الدواء أصلان أحدهما العلم والآخر الصبر ولا بد من بيانهما
فإن قلت أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب ولكن لكل مرض علم يخصه كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان ليكون أقرب إلى الفهم فنقول يحتاج المريض إلى التصديق بأمور {الأول} أن يصدق على الجملة بأن للمرض والصحة أسباباً يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب وهذا هو الإيمان بأصل الطب فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع وهو أن للسعادة في الآخرة سبباً هو الطاعة وللشقاوة سبباً هو المعصية وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع وهذا لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد وكلاهما من جملة الإيمان
الثاني أنه لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبر عنه لا يلبس ولا يكذب فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف
الثالث أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له على الاحتماء ووزانه من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج
الرابع أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه وفيما يلزمه في نفسه الاحتماء عنه ليعرفه أولاً تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ومأكوله ومشروبه فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء ولا ينفعه كل دواء بل لكل علة خاصة علم خاص وعلاج خاص ووزانه من الدين أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة وارتكاب ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص أو ذنوب مخصوصة وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها ثم العلم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها
فهذه علوم يختص بها أطباء الدين وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فالعاصي إن علم عصيانه فعليه طلب العلاج من الطبيب وهو العالم وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب فعلى العالم أن يعرفه ذلك وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسئل عنه بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم ورثة الأنبياء والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ويطلبون واحداً واحداً فيرشدونهم فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما أن الذي ظهر على وجهه برص(4/50)
ولا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره وهذا فرض عين على العلماء كافة وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية وفي كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم فإن الخلق لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل إحداها أن المريض به لا يدري أنه مريض
والثانية أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه وما بعد الموت غير مشاهد وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم فقلت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال
والثالثة وهو الداء العضال فقد الطبيب فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً عجزوا عن علاجه وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضاً لأن الداء المهلك هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافاً من أن يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم فبهذا السبب عم على الخلق الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا وليتهم سكتوا وما نطقوا فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلاً أو خائباً أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين متضادي العلة أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال وكذلك المصر على الذنوب المشتهى للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه التي سبقت يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلباً للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلاً
فإن قلت فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه نعم نشير إلى الْأَنْوَاعُ النَّافِعَةُ فِي حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَحَمْلِ الناس على ترك الذنوب وهي أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ
{الْأَوَّلُ} أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار(4/51)
مثل قوله صلى الله عليه وسلم ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ويقول الآخر يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فيقول الآخر يا ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا (1) وفي بعض الروايات ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا ويقول الآخر يا ليتهم إذ لم يعلموا بما يعملوا تابوا مما عملوا وقال بعض السلف إذا أذنب العبد أمر صاحب اليمين صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها عليه وإن لم يستغفر كتبها وقال بعض السلف ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن تخسف له واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفاً فيقول الله تعالى للأرض والسماء كفا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاء ولو خلقتماه لرحمتماه ولعله يتوب إلي فأغفر له ولعله يستبدل صالحاً فأبدله له حسنات فذلك معنى قوله تعالى إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله الطابع فيطبع على القلوب بما فيها (2) وفي حديث مجاهد القلب مثل الكف المفتوحة كلما أذنب العبد ذنباً انقبضت إصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فيسد على القلب فذلك هو الطبع (3) وقال الحسن إن بين العبد وبين الله حداً من المعاصي معلوماً إذا بلغه العبد طبع الله على قلبه فلم يوفقه بعدها لخير
والأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين لا تحصى فينبغي أن يستكثر الواعظ منها إن كان وارث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ ما خلف ديناراً ولا درهماً إنما خلف العلم والحكمة وورثه كل عالم بقدر ما أصابه (4)
النوع الثَّانِي حِكَايَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ فَذَلِكَ شَدِيدُ الْوَقْعِ ظَاهِرُ النَّفْعِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِثْلُ أَحْوَالِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِصْيَانِهِ وَمَا لَقِيَهُ مِنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ حتى روى أنه لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل الإكليل عن جبينه ونودي من فوق العرش اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني قال فالتفت آدم إلى حواء باكياً وقال هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب وروى أن سليمان بن داود عليهما السلام لما عوقب على خطيئته لأجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يوماً وقيل لأن المرأة سألته أن بحكم لأبيها فقال نعم ولم يفعل وقيل بل أحب بقلبه أن
_________
(1) حديث ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات فيقول أحدهما ياليت هذا الخلق لم يخلقوا الحديث غريب لم أجده هكذا وروى أبو منصور الديلمي فى مسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند ضعيف إن لله ملكا ينادى فى كل ليلة أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده الحديث وفيه ليت الخلائق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فتجالسوا بينهم فتذكروا الحديث
(2) حديث عمر الطابع معلق بقائمة من قوائم العرش فإذا انتهكت الحرمات الحديث أخرجه ابن عدي وابن حبان فى الضعفاء من حديث ابن عمر وهو منكر
(3) حديث مجاهد القلب مثل الكف المفتوحة قلت هكذا قال المصنف وفى حديث مجاهد وكأنه أراد به قول مجاهد وكذا ذكره المفسرون من قوله وليس بمرفوع وقد رويناه فى الشعب الإيمان للبيهقى من قول حذيفة
(4) حديث أنه صلى الله عليه وسلم ما خلف ديناراً ولا درهماً إنما خلف العلم والحكمة أخرجه البخارى من حديث عمرو بن الحارث قال ما تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبدا ولا أمة ولمسلم من حديث عائشة ما ترك ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيرا وفى حديث أبى الدرداء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم الحديث وقد تقدم فى العلم(4/52)
يكون الحكم لأبيها على خصمه لمكانها منه فسلب ملكه أربعين يوماً فهرب تائهاً على وجهه فكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال أطعموني فإني سليمان بن داود رشج وطرد وضرب وحكى أنه استطعم من بيت لامرأته فطردته وبصقت في وجهه وفي رواية أخرجت عجوز جرة فيها بول فصبته على رأسه إلى أن أخرج الله الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء الأربعين أيام العقوبة قال فجاءت الطيور فعكفت على رأسه وجاءت الجن والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله فاعتذر إليه بعض من كان جنى عليه فقال لا ألومكم فيما فعلتم من قبل ولا أحمدكم في عذركم الآن إن هذا أمر كان من السماء ولا بد منه وروي في الإسرائيليات أن رجلاً تزوج امرأة من بلدة أخرى فأرسل عبده ليحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم قال فنبأه الله ببركة تقواه فكان نبياً في بني إسرائيل وفي قصص موسى عليه السلام أنه قال للخضر عليه السلام بم أطلعك الله على علم الغيب قال بتركي المعاصي لأجل الله تعالى وروي أن الريح كانت تسير بسليمان عليه السلام فنظر إلى قميصه نظرة وكان جديدا فكأنه أعجبه قال فوضعته الريح فقال لم فعلت هذا ولم آمرك قالت إنما نطيعك إذا أطعت الله وروي أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه السلام أتدري لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف قال لا قال لقولك لأخوته أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت عليه الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له وتدري لم رددته عليك قال لا قال لأنك رجوتني وقلت {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} وبما قلت اذهبو فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا وكذلك لما قال يوسف لصاحب الملك {اذكرني عند ربك} قال الله تعالى {فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}
وأمثال هذه الحكايات لا تنحصر ولم يُرِدْ بِهَا الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وُرُودَ الْأَسْمَارِ بَلِ الْغَرَضُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ لِتَعْلَمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يُتَجَاوَزْ عَنْهُمْ فِي الذُّنُوبِ الصِّغَارِ فَكَيْفَ يُتَجَاوَزُ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الذُّنُوبِ الكبار نعم كانت سعادتهما في أن عوجلوا بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثماً ولأن عذاب الآخرة أشد وأكبر فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكْثُرَ جِنْسُهُ عَلَى أَسْمَاعِ الْمُصِرِّينَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي تَحْرِيكِ دواعي التوبة
النوع الثَّالِثُ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جناياته فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله فينبغي أن يخوف به فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر كما حكي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه وقد تسقط منزلته من القلوب ويستولي عليه أعداؤه قال صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ (1) وَقَالَ ابن مسعود إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه وهو معنى قوله عليه السلام من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبداً (2) وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَيْسَتِ اللَّعْنَةُ سَوَادًا فِي الوجه ونقصاً فِي الْمَالِ إِنَّمَا اللَّعْنَةُ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعْتَ فِي مِثْلِهِ أَوْ شَرٍّ مِنْهُ وَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَإِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْخَيْرِ وَيُسِّرَ لَهُ الشَّرُّ فَقَدْ أُبْعِدَ وَالْحِرْمَانُ عَنْ رِزْقِ التَّوْفِيقِ أَعْظَمُ حِرْمَانٍ وَكُلُّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى ذَنْبٍ آخَرَ وَيَتَضَاعَفُ فَيُحْرَمُ الْعَبْدُ به عن رزقه النافع من مجالسة
_________
(1) حديث إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحيح إسناده واللفظ له إلا أنه قال الرجل بدل العبد من حديث ثوبان
(2) حديث من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا تقدم(4/53)
الْعُلَمَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلذُّنُوبِ وَمِنْ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ بَلْ يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون وحكي عن بعض العارفين أنه كان يمشي في الوحل جامعا ثيابه محترزا عن زلقة رجله حتى زلقت رجله وسقط فقام وهو يمشي في وسط الوحل ويبكي ويقول هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع فى ذنب وذنبين فعندها يخوض في الذنوب خوضاً وهو إشارة إلى أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار إلى ذنب آخر ولذلك قال الفضيل ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك وقال بعضهم إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري وقال آخر أعرف العقوبة حتى في فأر بيتي وقال بعض صوفية الشام نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فاستحييت منه فقلت يا أبا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار فغمز يدي وقال لتجدن عقوبتها بعد حين قال فعوقبت بها بعد ثلاثين سنة وقال أبو سليمان الداراني الاحتلام عقوبة وقال لا يفوت أحداً صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه وفي الخبر ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم (1) وفي الخبر يقول الله تعالى إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي (2) وحكي عن أبي عمرو بن علوان في قصة يطول ذكرها قال فيها كنت قائماً ذات يوم أصلى فخار قلبي هوى طاولته بفكرتي حتى تولد منه شهوة الرجال فوقعت إلى الأرض واسود جسدي كله فاستترت في البيت فلم أخرج ثلاثة أيام وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون فلا يزداد إلا سواداً حتى انكشف بعد ثلاث فلقيت الجنيد وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة فلما أتيته قال لي أما استحييت من الله تعالى كنت قائماً بين يديه فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة وأخرجتك من بين يدي الله تعالى فلولا أني دعوت الله لك وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون قال فعجبت كيف علم بذلك وهو ببغداد وأنا بالرقة
واعلم انه لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان سعيداً أظهر السواد على ظاهره لينزجر وإن كان شقياً أخفى عنه حتى ينهمك ويستوجب النار والأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا من الفقر والمرض وغيره بل من شؤم الذنب في الدنيا على الجملة أن يكسب ما بعده صفته فإن ابتلي بشيء كان عقوبة له ويحرم جميل الرزق حتى يتضاعف شقاؤه وَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ كَانَتِ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَيُحْرَمُ جَمِيلَ الشُّكْرِ حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَى كُفْرَانِهِ وَأَمَّا الْمُطِيعُ فَمِنْ بَرَكَةِ طَاعَتِهِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ نِعْمَةٍ فِي حَقِّهِ جَزَاءً عَلَى طَاعَتِهِ وَيُوَفَّقَ لِشُكْرِهَا وَكُلُّ بَلِيَّةٍ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ وَزِيَادَةٌ فِي درجاته
النوع الرَّابِعُ ذِكْرُ مَا وَرَدَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة والقتل والغيبة والكبر والحسد وكل ذلك مما لا يمكن حصره وذكره مع غير أهله وضع الدواء في غير موضعه بل ينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق فيستدل أولاً بالنبض والسحنة ووجود الحركات على العلل الباطنة ويشتغل بعلاجها فيستدل بقرائن الأحوال على خفايا الصفات وليتعرض لما وقف عليه اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال له واحد أوصني يا رسول الله ولا تكثر علي قال لا تغضب (3) وقال له آخر أوصني يا رسول الله فقال
_________
(1) حديث ما أنكرتم من زمانكم فبما أنكرتم من أعمالكم أخرجه البيهقى فى الزهد من حديث أبى الدرداء وقال غريب تفرد به هكذا العقيلي وهو عبد الله بن هانىء قلت هو متهم بالكذب قال ابن أبى حاتم روى عن أبيه أحاديث بواطيل
(2) حديث يقول الله إنى أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتى أن أحرمه لذة مناجاتى غريب لم أجده
(3) حديث قال رجل أوصنى ولا تكثر علي قال لا تغضب تقدم(4/54)
عليك السلام عليك باليأس مما في أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر وصل صلاة مودع وإياك وما يعتذر منه (1) وقال رجل لمحمد بن واسع أوصني فقال أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة قال وكيف لي بذلك قال الزم الزهد في الدنيا فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم في السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه وفي السائل الآخر مخايل الطمع في الناس وطول الأمل وتخيل محمد بن واسع في السائل مخايل الحرص على الدنيا وقال رجل لمعاذ أوصني فقال كن رحيماً أكن لك بالجنة زعيماً فكأنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة وقال رجل لإبراهيم بن أدهم أوصني فقال إياك والناس وعليك بالناس ولا بد من الناس فإن الناس هم الناس وليس كل الناس بالناس ذهب الناس وبقي النسناس وما أراهم بالناس بل غمسوا في ماء الياس فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة وأخبر عما كان هو الغالب على حاله في وقته وكان الغالب أذاه بالناس والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل وكتب معاوية رحمه الله إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري فكتبت إليه من عائشة إلى معاوية سلام الله عليك أما بعد فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس سخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس (2) والسلام عليك فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التي تكون الولاة بصددها وهي مراعاة الناس وطلب مرضاتهم وكتبت إليه مرة أخرى أما بعد فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً والسلام
فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن التوعظ فيه تضييع زمان
فإن قلت فإن كان الواعظ يتكلم في جمع أو سأله من لا يدرى باطن حاله أن يعظه فكيف يفعل فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق في الحاجة إليه إما على العموم وإلا على الأكثر فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية فالأغذية للكافة والأدوية لأرباب العلل
ومثاله ما روي أن رجلاً قال لأبي سعيد الخدري أوصني قال عليك بتقوى الله عز وجل فإنها رأس كل خير وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء وعليك بالصمت إِلَّا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ وقال رجل للحسن أوصني فقال أعز أمر الله يعزك الله وقال لقمان لابنه يا بني زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك وخذ من الدنيا بلاغك وأنفق فضول كسبك لآخرتك ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالاً وعلى أعناق الرجال كلاً وصم صوماً يكسر شهوتك ولا تصم صوماً يضر بصلاتك فإن الصلاة أفضل من الصوم ولا تجالس السفيه ولا تخالط ذا الوجهين وقال أيضاً لابنه يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تمش في غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت يا بني إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ومن يقل الشر يأثم ومن لا يملك لسانه يندم وقال رجل لأبي حازم أوصني فقال كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة
_________
(1) حديث قال له آخر أوصنى قال عليك باليأس الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وقد تقدم
(2) حديث عائشة من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس الحديث أخرجه الترمذى والحاكم وفى مسند الترمذى من لم يسم(4/55)
فالزمه وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه وقال موسى للخضر عليهما السلام أوصني فقال كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران وقال رجل لمحمد بن كرام أوصني فقال اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك وقال رجل لحامد اللفاف أوصني فقال اجعل لدينك غلافاً كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال وما غلاف الدين قال ترك طلب الدنيا إلا مالا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى أما بعد فخف مما خوفك الله واحذر مما حذرك الله وخذ مما في يديك لما بين يديك فعند الموت يأتيك الخبر اليقين والسلام وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه فكتب إليه أما بعد فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك ولا بد لك من مشاهدة ذلك إما بالنجاة وإما بالعطب واعلم أن من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن نظر في العواقب نجا ومن أطاع هواه ضل ومن حلم غنم ومن خاف أمن ومن أمن اعتبر ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم فإذا زللت فارجع وإذا ندمت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله أما بعد فإن الدنيا دار عقوبة ولها يجمع من من لا عقل له وبها يغتر من لا علم عنده فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطأة أما بعد فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله فأما أولياؤه فغمتهم وأما أعداؤه فغرتهم وكتب أيضاً إلى بعض عماله أما بعد فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئاً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك واعلم إن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين والسلام
فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته فهذه المواعظ مثل الأغذية التي يشترك الكافة في الانتفاع بها
ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصي واستسرى الفساد وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعاً وينشدون أبياتاً ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة علمهم ويتشبهون بحال غيرهم فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادراً من القلب ليصل إلى القلب بل القائل متصلف والمستمع متكلف وكل واحد منهما مدبر ومتخلف
فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى وطلب العلماء أول علاج العاصين فهذا أحد أركان العلاج وأصوله
الأصل الثاني الصبر ووجه الحاجة إليه أن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره وإنما يتناول ذلك إما لغفلته عن مضرته وإما لشدة غلبة شهوته فله سببان فما ذكرناه هو علاج الغفلة فيبقى علاج الشهوة وطريق علاجها قد ذكرناه في كتاب رياضة النفس وحاصله أن المريض إذا اشتدت ضراوته لمأكول مضر فطريقه أن يستشعر عظم ضرره ثم يغيب ذلك عن عينه فلا يحضره ثم يتسلى عنه بما يقرب منه في صورته ولا يكثر ضرره ثم يصبر بقوة الخوف على الألم الذي يناله في تركه فلا بد على كل حال من مرارة الصبر فكذلك يعالج الشهوة في المعاصي كالشاب مثلاً إذا غلبته الشهوة فصار لا يقدر على حفظ عينه ولا حفظ قلبه أو حفظ جوارحه في السعي وراء شهوته فينبغي أن يستشعر ضرر ذنبه بأن يستقري المخلوقات التي جاءت فيه من كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فإذا اشتد خوفه تباعد من الأسباب المهيجة لشهوته ومهيج الشهوة من خارج هو(4/56)
حضور المشتهى والنظر إليه وعلاجه الهرب والعزلة ومن داخل تناول لذائذ الأطعمة وعلاجه الجوع والصوم الدائم وكل ذلك لا يتم إلا بصبر ولا يصبر إلا عن خوف ولا يخاف إلا عن علم ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد فأول الأمر حضور مجالس الذكر ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع ثم التفكر فيه لتمام الفهم وينبعث من تمامه لا محالة خَوْفُهُ وَإِذَا قَوِيَ الْخَوْفُ تَيَسَّرَ بِمَعُونَتِهِ الصَّبْرُ وانبعثت الدواعي لطلب العلاج وَتَوْفِيقُ اللَّهِ وَتَيْسِيرُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فَمَنْ أَعْطَى مِنْ قَلْبِهِ حُسْنَ الْإِصْغَاءِ وَاسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره والله تَعَالَى لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَيُيَسِّرُهُ اللَّهُ لِلْعُسْرَى فَلَا يُغْنِي عَنْهُ مَا اشْتَغَلَ بِهِ مِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا مَهْمَا هَلَكَ وَتَرَدَّى وَمَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا شَرْحُ طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى
فإن قلت فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب لا يمكن إلا بالصبر عنه والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف والخوف لا يكون إلا بالعلم والعلم لا يحصل إلا بالتصديق بعظم بعزم ضرر الذنوب والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو الإيمان فكأن من أصر على الذنب لم يصر عليه إلا لأنه غير مؤمن فاعلم أن هذا لا يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة
ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور
أحدها أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر والنفس جبلت متأثرة بالحاضر فتأثرها بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر
الثاني أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة وهي في الحال آخذة بالمخنق وقد قوي ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد والإلف والعادة طبيعة خامسة والنزوع عن العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ولذلك قال تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال عز وجل بل تؤثرون الحياة الدنيا وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (1) وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد (2) فإذاً كون الشهوة مرهقة في الحال وكون العقاب متأخراً إلى المآل سببان ظاهران في الاسترسال مع حصول أصل الإيمان فليس كل من يشرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذباً بأصل الطب ولا مكذباً بأن ذلك مضر في حقه ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر
الثالث أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو فى الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات بالحسنات وقد وعد بأن ذلك يخبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف التوبة والتكفير فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان
الرابع أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجاباً لا يمكن العفو عنها
_________
(1) حديث حفت الجنة بالمكاره الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة
(2) حديث إن الله خلق النار فقال لجبريل اذهب فانظر إليها الحديث أخرجه أبو داود والترمذى والحاكم وصححه من حديث أبى هريرة وقدم فيه ذكر الجنة(4/57)
فهو يذنب وينتظر العفو عنها اتكالاً على فضل الله تعالى فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار على الذنب مع بقاء أصل الإيمان
نعم قد يقدم المذنب بسبب خامس يقدح في أصل إيمانه وهو كونه شاكاً في صدق الرسل وهذا هو الكفر كالذي يحذره الطبيب عن تناول ما يضره في المرض فإن كان المحذر ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب فيكذبه أو يشك فيه فلا يبالي به فهذا هو الكفر
فإن قلت فما علاج الأسباب الخمسة فأقول هو الفكر وذلك بأن يقرر على نفسه في السبب الأول وهو تأخر العقاب أن كل ما هو آت آت وأن غداً للناظرين قريب وأن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله فما يدريه لعل الساعة قريب والمتأخر إذا وقع صار ناجزاً ويذكر نفسه أنه أبداً في دنياه يتعب في الحال لخوف أمر فى الاستقبال إذ يركب البحار ويقاسي الأسفار لأجل الربح الذي يظن أنه قد يحتاج إليه في ثاني الحال بل لَوْ مَرِضَ فَأَخْبَرَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ بِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يَضُرُّهُ وَيَسُوقُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَكَانَ الْمَاءُ الْبَارِدُ أَلَذَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ تَرَكَهُ مَعَ أن الموت آلمه لحظة إذا لم يخف ما بعده ومفارقته للدنيا لا بد منها فكم نسبة وجوده في الدنيا إلى عدمه أزلا وأبداً فلينظر كيف يبادر إلى ترك ملاذه بقول ذمي لم تقم معجزة على طبه فَيَقُولُ كَيْفَ يَلِيقُ بِعَقْلِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ عِنْدِي دُونَ قَوْلِ نَصْرَانِيٍّ يدعي الطب لنفسه بلا معجزة على طبه ولا يشهد له إلا عوام الخلق وَكَيْفَ يَكُونُ عَذَابُ النَّارِ عِنْدِي أَخَفَّ مِنْ عَذَابِ الْمَرَضِ وَكُلُّ يَوْمٍ فِي الْآخِرَةِ بِمِقْدَارِ خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وبهذا التفكر بعينه يعالج اللذة الغالبة عليه ويكلف نفسه تركها ويقول إذا كنت لا أقدر على ترك لذاتي أيام العمر وهي أيام قلائل فكيف أقدر على ذلك أبد الآباد وإذا كنت لا أطيق ألم الصبر فكيف أطيق ألم النار وإذا كنت لا أصبر عن زخارف الدنيا مع كدوراتها وتنغصها وامتزاج صفوها بكدرها فكيف أصبر عن نعيم الآخرة وأما تسويف التوبة فيعالجه بالفكر في إن أكثر صياح أهل النار من التسويف لأن المسوف يبني الأمر على ما ليس إليه وهو البقاء فلعله لا يبقى وإن بقي فلا يقدر على الترك غدا كما لا يقدر عليه اليوم فليت شعري هل عجز في الحال إلا لغلبة الشهوة والشهوة ليست تفارقه غداً بل تتضاعف إذ تتأكد بالاعتياد فليست الشهوة التي أكدها الإنسان بالعادة كالتي لم يؤكدها وعن هذا هلك المسوفون لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين ولا يظنون أن الأيام متشابهة في أن ترك الشهوات فيها أبداً شاق وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف
وأما المعنى الرابع وهو انتظار عفو الله تعالى فعلاجه ما سبق وهو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظراً من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان وهو مثل من يتوقع النهب من الظلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل وقال أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا يتفرغ إلى داري أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله فمنتظر هذا منتظر أمر ممكن ولكنه في غاية الحماقة والجهل إذ قد لا يمكن ولا يكون(4/58)
وأما الخامس وهو شك فهذا كفر وعلاجه الأسباب التي تعرفه صدق الرسل وذلك يطول ولكن يمكن أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله فيقال له ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات هل صدقه ممكن أو تقول أعلم أنه محال كما أعلم استحالة شخص واحد في مكانين في حالة واحدة فإن قال أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه وكأنه لا وجود لمثل هذا في العقلاء وإن قال أنا شاك فيه فيقال لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامك في البيت لحظة أنه ولغت فيه حية وألقت سمها فيه وجوزت صدقه فهل تأكله أو تتركه وإن كان ألذ الأطعمة فيقول أتركه لا محالة لأني أقول إن كذب فلا يفوتني إلا هذا الطعام والصبر عنه وإن كان شديداً فهو قريب وإن صدق فتفوتني الحياة والموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام وإضاعته شديد فيقال له يا سبحان الله كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء بل جميع أصناف العقلاء ولست أعني بهم جهال العوام بل ذوي الألباب عن صدق رجل واحد مجهول لعل له غرضاً فيما يقول فليس في العقلاء إلا من صدق باليوم الآخروأثبت ثواباً وعقاباً وإن اختلفوا في كيفيته فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد وإن كذبوا فلا يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة فلا يبقى له توقف إن كان عاقلاً مع هذا الفكر إذ لا نسبة لمدة العمر إلى أبد الآباد بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة وقدرنا طائرا يلتقط فى كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ولم ينقص أبد الآباد شيئاً فكيف يفتر رأي العاقل في الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلاً لأجل سعادة تبقى أبد الآباد ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعري
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
لذلك قال علي رضي الله عنه لبعض من قصر عقله عن فهم تحقيق الأمور وكان شاكاً إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعاً وإلا فقد تخلصت وهلكت أي العاقل يسلك طريق الأمن في جميع الأحوال
فإن قلت هذه الأمور جلية ولكنها ليست تنال إلا بالفكر فما بال القلوب هجرت الفكر فيها واستثقلته وما علاج القلوب لردها إلى الفكر لا سيما من آمن بأصل الشرع وتفصيله فاعلم أن المانع من الفكر أمران أحدهما أن الفكر النافع هو الْفِكْرُ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ وَأَهْوَالِهَا وَشَدَائِدِهَا وَحَسَرَاتِ العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم وهذا فكر لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ويتلذذ بالفكر في أمور الدنيا على سبيل التفرج والاستراحة والثاني أن الفكر شغل في الحال مانع من لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات وما من إنسان إلا وله في كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه واسترقته فصار عقله مسخراً لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته وصارت لذته في طلب الحيلة فيه أو في مباشرة قضاء الشهوة والفكر يمنعه من ذلك
أما علاج هذين المانعين فهو أن يقول لقلبه ما أشد غباوتك في الاحتراز من الفكر في الموت وما بعده تألماً بذكره مع استحقار ألم مواقعته فكيف تصبر على مقاساته إذا وقع وأنت عاجز عن الصبر على تقدير الموت وما بعده ومتألم به وأما الثاني وهو كون الفكر مفوتاً للذات الدنيا فهو أن يتحقق أن فوات لذات الآخرة أشد وأعظم فإنها لا آخر لها ولا كدورة فيها ولذات الدنيا سريعة الدثور وهي مشوبة بالمكدرات فما فيها لذة صافية عن كدر وكيف وفي التوبة عن المعاصي والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى واستراحة بمعرفته وطاعته(4/59)
وطول الأنس به ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة وروح الأنس بمناجاة الله تعالى لكان ذلك كافياً فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة نعم هذه اللذة لا تكون في ابتداء التوبة ولكنها بعد ما يصير عليها مدة مديدة وقد صار الخير ديدناً كما كان الشر ديدناً فالنفس قابلة ما عودتها تتعود والخير عادة والشر لجاجة
فإذن هذه الأفكار هي المهيجة للخوف المهيج لقؤة الصبر عن اللذات ومهيج هذه الأفكار وعظ الوعاظ وتنبيهات تقع للقلب بأسباب تتفق لا تدخل في الحصر فيصير الفكر موافقاً للطبع فيميل القلب إليه ويعبر عن السبب الذي أوقع الموافقة بين الطبع والفكر الذي هو سبب الخير بالتوفيق إذ التوفيق هو التأليف بين الإرادة وبين المعنى الذي هو طاعة نافعة في الآخرة وقد روي في حديث طويل أنه قام عمار بن ياسر فقال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ماذا بني فقال علي رضي الله عنه بني على أربع دعائم على الجفاء والعمى والغفلة والشك فمن جفا احتقر الحق وجهر بالباطل ومقت العلماء ومن عمي نسي الذكر ومن غفل حاد عن الرشد ومن شك غرته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب فما ذكرناه بيان لبعض آفات الغفلة عن التفكر وهذا القدر في التوبة كاف وإذا كان الصبر ركناً من أركان دوام التوبة فلا بد من بيان الصبر فنذكره في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى
كتاب الصبر والشكر
وهو الكتاب الثاني من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أهل الحمد والثناء المنفرد برداء الكبرياء المتوحد بصفات المجد والعلاء المؤيد صفوة الأولياء بقوة الصبر على السراء والضراء والشكر على البلاء والنعماء والصلاة على محمد سيد الأنبياء وعلى أصحابه سادة الأصفياء وعلى آله قادة البررة الأتقياء صلاة محروسة بالدوام عن الفناء ومصونة بالتعاقب عن التصرم والانقضاء
أما بعد فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر (1) كما وردت به الآثار وشهدت له الأخبار وهما أيضاً وصفان من أوصاف الله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبوراً وشكوراً فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بكلا شطري الإيمان ثم هو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن ولا سبيل إلى الوصول إلى القرب من الله تعالى إلا بالإيمان وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به الإيمان ومن به الإيمان والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به الإيمان وعن إدراك ما به الإيمان فما أحوج كلا الشطرين إلى الإيضاح والبيان ونحن نوضح كلا الشطرين في كتاب واحد لارتباط أحدهما بالآخر إن شاء الله تعالى
الشطر الأول في الصبر
وفيه بيان فضيلة الصبر وبيان حده وحقيقته وبيان كونه نصف الإيمان وبيان اختلاف
_________
(1) حديث الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر أخرجه أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد ضعيف(4/60)
أساميه باختلاف متعلقاته وبيان أقسامه بحسب اختلاف القوة والضعف وبيان مظان الحاجة إلى الصبر وبيان دواء الصبر وما يستعان به عليه فهي سبعة فصول تشتمل على جميع مقاصده إن شاء الله تعالى
بيان فضيلة الصبر وقد وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّابِرِينَ بِأَوْصَافٍ وَذَكَرَ الصَّبْرَ
فِي الْقُرْآنِ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ مَوْضِعًا وَأَضَافَ أَكْثَرَ الدَّرَجَاتِ وَالْخَيْرَاتِ إِلَى الصَّبْرِ وَجَعَلَهَا ثَمَرَةً لَهُ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وقال تعالى وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا وَقَالَ تَعَالَى وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانوا يعملون وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صبروا وَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب فَمَا مِنْ قُرْبَةٍ إِلَّا وَأَجْرُهَا بِتَقْدِيرٍ وَحِسَابٍ إلا الصبر ولأجل كون الصوم من الصبر وأنه نصف الصبر قال الله تعالى الصوم لي وأنا أجزي به فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات ووعد الصابرين بأنه معهم فقال تعالى واصبروا إن الله مع الصابرين وعلق النصرة على الصبر فقال تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وجمع للصابرين بَيْنَ أُمُورٍ لَمْ يَجْمَعْهَا لِغَيْرِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هم المهتدون فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول
وأما الأخبار فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ (1) على ما سيأتي وجه كونه نصفاً وقال صلى الله عليه وسلم من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرىء منكم بمثل عمل جميعكم ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً وينكركم أهل السماء عند ذلك فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ثم قرأ قوله تعالى ما عندكم ينفد وما عنده الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم الآية (2) الآية وروى جابر أنه سئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ الصبر والسماحة (3) حديث الصبر كنز من كنوز الجنة غريب لم أجده وسئل مرة ما الإيمان فقال الصبر (4) حديث الحج عرفه تقدم في الحج معناه معظم الحج عرفة وقال أيضا صلى صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس // حديث أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس لا أصل له مرفوعا وإنما هو من قول عمر بن عبد العزيز هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب محاسبة النفس وقيل أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام تخلق بأخلاقي وأن من أخلاقي أني أنا الصبور وفي حديث عطاء عن ابن عباس لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار فقال أمؤمنون أنتم فسكتوا فقال عمر نعم يا رسول الله قال وما علامة إيمانكم قالوا نشكر على الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء فقال صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث الصبر نصف الإيمان أخرجه أبو نعيم والخطيب من حديث ابن مسعود وتقدم في الصوم
(2) حديث من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر الحديث بطوله تقدم في العلم مختصرا ولم أجده هكذا بطول
(3) حديث جابر سئل عن الإيمان فقال الصبر والسماحة أخرجه الطبراني في مكارم الآخلاق وابن حبان في الضعفاء وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر ضعيف ورواه الطبراني في الكبير من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده وقال أيضاً الصبر كنز من كنوز الجنة
(4) حديث سئل مرة عن الإيمان فقال الصبر أخرجه أبو منصور الديملى في مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ويزيد ضعيف وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفه(4/61)
مؤمنون ورب الكعبة (1) وقال صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما تكره خير كثير (2) وقال المسيح عليه السلام إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان الصبر رجلاً لكان كريماً والله يحب الصابرين (3) والأخبار في هذا لا تحصى
وأما الآثار فقد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران أحدهما أفضل من الآخر الصبر في المصيبات حسن وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر وقال علي كرم الله وجهه بني الإيمان على أربع دعائم اليقين والصبر والجهاد والعدل وقال أيضاً الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له وكان عمر رضي الله عنه يقول نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين يعني بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى والعلاوة ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشار به إلى قوله تَعَالَى {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هم المهتدون} وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب بكى وقال واعجباه أعطى وأثنى أي هو المعطي للصبر وهو المثني وقال أبو الدرداء ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر هذا بيان فضيلة الصبر من حيث النقل وأما من حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه إلا بعد فهم حقيقة الصبر ومعناه إذ معرفة الفضيلة والرتبة معرفة صفة فلا تحصل قبل معرفة الموصوف فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق
بيان حقيقة الصبر ومعناه
اعلم أن الصبر مقام من مقامات الدين ومنزل من منازل السالكين وجميع مقامات الدين إنما تنتظم من ثلاثة أمور معارف وأحوال وأعمال فالمعارف هي الأصول وهي تورث الأحوال والأحوال تثمر الأعمال فالمعارف كالأشجار والأحوال كالأغصان والأعمال كالثمار وهذا مطرد في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى واسم الإيمان تارة يختص بالمعارف وتارة يطلق على الكل كما ذكرناه في اختلاف اسم الإيمان والإسلام في كتاب قواعد العقائد وكذلك الصبر لا يتم إلا بمعرفة سابقة وبحالة قائمة فالصبر على التحقيق عبارة عنها والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم فإن الصبر خاصية الإنس ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها
وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً
وأما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف
وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب وليس له قوة الصبر البتة إذ الصبر عبارة عن
_________
(1) حديث عطاء عن ابن عباس دخل على الأنصار فقال أمؤمنون أنتم فسكتوا فقال عمر نعم يا رسول الله الحديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط من رواية يوسف بن ميمون وهو منكر الحديث عن عطاء
(2) حديث في الصبر على ما تكره خير كثير أخرجه الترمذى من حديث ابن عباس وقد تقدم
(3) حديث لو كان الصبر رجلاً لكان كريما أخرجه الطبراني من حديث عائشة وفيه صبيح بن دينار ضعفه العقيلى(4/62)
ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم واختص بصفتين إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ وأما الدواء النافع مع كونه مضراً في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوي ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد كما أن نور الهداية أيضاً يختلف في الخلق اختلافاً لا ينحصر
فلنسم هذه الصِّفَةُ الَّتِي بِهَا فَارَقَ الْإِنْسَانُ الْبَهَائِمَ فِي قمع الشهوات وقهرها باعثاً دينياً ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى والحرب بينهما سجال ومعركة هذا القتال قلب العبد ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى فالصبر عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ باعث الشهوة فإن ثَبَتَ حَتَّى قَهَرَهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّهْوَةِ فقد نصر حزب الله والتحق بِالصَّابِرِينَ وَإِنْ تَخَاذَلَ وَضَعُفَ حَتَّى غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ وَلَمْ يَصْبِرْ فِي دَفْعِهَا الْتَحَقَ بِأَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ
فإن ترك الأفعال المشتهاة عمل يثمره حال يسمى الصبر وهو ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضاداتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة فإذا قوي يقينه أعني المعرفة التي تسمى إيماناً وهو اليقين بكون الشهوة عدواً قاطعاً لطريق الله تعالى قوي ثبات باعث الدين وإذا قوي ثباته تمت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة فلا يتم ترك الشهوة إلا بقوة باعث الدين المضاد لباعث الشهوة وقوة المعرفة والإيمان تقبح مغبة الشهوات وسوء عاقبتها وهذان الملكان هما المتكفلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره إياهما وهما من الكرام الكاتبين وهما الملكان الموكلان بكل شخص من الآدميين وإذا عرفت أن رتبة الملك الهادي أعلى من رتبة الملك المقوي لم يخف عليك أن جانب اليمين هو أشرف الجانبين من جنبتي الدست الذي ينبغي أن يكون مسلماً له فهو إذن صاحب اليمين والآخر صاحب الشمال
وللعبد طوران في الغفلة والفكر وفي الاسترسال والمجاهدة فهو بالغفلة معرض عن صاحب اليمين ومسيء إليه فيكتب أعراضه سيئة وبالفكر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية فهو به محسن فيكتب إقباله له حسنة وكذا بالاسترسال هو معرض عن صاحب اليسار تارك للاستمداد منه فهو به مسيء إليه فيثبت عليه سيئة وبالمجاهدة مستمد من جنوده فيثبت له به حسنة وإنما ثبتت هذه الحسنات والسيئات بإثباتهما فلذلك سمياً كراماً كاتبين(4/63)
أما الكرام فلانتفاع العبد بكرمهما ولأن الملائكة كلهم كرام بررة وأما الكاتبون فلإثباتهما الحسنات والسيئات وإنما يكتبان في صحائف مطوية في سر القلب ومطوية عن سر القلب حتى لا يطلع عليه في هذا العالم فإنهما وكتبتهما وخطهما وصائفهما وجملة ما تعلق بهما من جملة عالم الغيب والملكوت لا من عالم الشهادة وكل شيء من عالم الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالم ثم تنشر هذه الصحائف المطوية عنه مرتين مرة في القيامة الصغرى ومرة في القيامة الكبرى وأعني بالقيامة الصغرى حالة الموت إذ قال صلى الله صلى الله عليه وسلم من مات فقد قامت قيامته (1) وفي هذه القيامة يكون العبد وحده وعندها يقال ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وفيها يقال كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً أما في القيامة الكبرى الجامعة لكافة الخلائق فلا يكون وحده بل ربما يحاسب على ملأ من الخلق وفيها يساق المتقون إلى الجنة والمجرمون إلى النار زمراً لا آحاداً والهول الأول هو هول القيامة الصغرى ولجميع أهوال القيامة الكبرى نظير في القيامة الصغرى مثل زلزلة الأرض مثلاً فإن أرضك الخاصة بك تزلزل في الموت فإنك تعلم أن الزلزلة إذا نزلت ببلدة صدق أن يقال قد زلزلت أرضهم وإن لم تزلزل البلاد المحيطة بها بل لو زلزل مسكن الإنسان وحده فقد حصلت الزلزلة في حقه لأنه إنما يتضرر عند زلزلة جميع الأرض بزلزلة مسكنه لا بزلزلة مسكن غيره فحصته من الزلزلة قد توفرت من غير نقصان واعلم أنك أرضى مخلوق من التراب وحظك الخاص من التراب بدنك فقط فأما بدن غيرك فليس بحظك والأرض التي أنت جالس عليها بالإضافة الى بذلك ظرف ومكان وإنما تخاف من تزلزله أن يتزلزل بدنك بسببه وإلا فالهواء أبداً متزلزل وأنت لا تخشاه إذ ليس يتزلزل به بدنك فحظك من زلزلة الأرض كلها زلزلة بدنك فقط فهي أرضك وترابك الخاص بك وعظامك جبال أرضك ورأسك سماء أرضك وقلبك شمس أرضك وسمعك وبصرك وسائر خواصك نجوم سمائك ومفيض العرق من بدنك بحر أرضك وشعورك نبات أرضك وشعورك نبات أرضك وأطرافك أشجار أرضك وهكذا إلى جميع أجزائك فإذا انهدم بالموت أركان بدنك فقد زلزلت الأرض زلزالها فإذا انفصلت العظام من اللحوم فقد حملت الأرض والجبال فدكتادكة واحدة فإذا رمت العظام فقد نسفت الجبال نسفاً فإذا أظلم قلبك عند الموت فقد كورت الشمس تكويراً فإذا بطل سمعك وبصرك وسائر حواسك فقد انكدرت النجوم انكداراً فإذا انشق دماغك فقد انشقت السماء انشقاقاً فإذا انفجرت من هول الموت عرق جبينك فقد فجرت البحار تفجيراً فإذا التفت إحدى ساقيك بالأخرى وهما مطيتاك فقد عطلت العشار تعطيلاً فإذا فارقت الروح الجسد فقد حملت الأرض فمدت حتى ألقت ما فيها وتخلت ولست أطول بجميع موازنة الأحوال والأهوال ولكني أقول بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة الصغرى ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصك بل ما يخص غيرك فإن بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتثرت حواسك التي بها تنتفع بالنظر إلى الكواكب والأعمى يستوى عنده الليل والنهار وكسوف الشمس وانجلاؤها لأنها قد كسفت في حقه دفعة واحدة وهو حصته منها فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره ومن انشق رأسه فقد انشقت سماؤه إذ السماء عبارة عما يلي جهة الرأس فمن لا رأس له لا سماء له فمن أين ينفعه بقاء السماء لغيره فهذه هي القيامة الصغرى والخوف بعد أسفل والهول بعد مؤخر وذلك إذا جاءت الطامة الكبرى وارتفع الخصوص وبطلت السموات والأرض ونسفت الجبال ونمت الأهوال
_________
(1) حديث من مات فقد قامت قيامته أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب الموت من حديث أنس بسند ضعيف(4/64)
واعلم أن هذه الصغرى وإن طولنا في وصفها فإنا لم نذكر عشير أوصافها وهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى فإن للإنسان ولادتين إحداهما الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم ونسبة سعة العالم الذي يقدم عليه العبد بالموت إلى سعة فضاء الدنيا كنسبة فضاء الدنيا أيضاً إلى الرحم بل أوسع وأعظم فقس الآخرة بالأولى فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وما النشأة الثانية إلا على قياس النشأة الأولى بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنتين وإليه الإشارة بقوله تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فالمقر بالقيامتين مؤمن بعالم الغيب والشهادة وموقن بالملك والملكوت والمقر بالقيامة الصغرى دون الكبرى ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين وذلك هو الجهل والضلال والإقتداء بالأعور الدجال
فما أعظم غفلتك يا مسكين وكلنا ذلك المسكين وبين يديك هذه الأهوال فإن كنت لا تؤمن بالقيامة الكبرى بالجهل والضلال أفلا تكفيك دلالة القيامة الصغرى أو ما سمعت قول سيد الأنبياء كفى بالموت واعظاً (1) او ما سمعت بكر به عليه السلام عند الموت حتى قال صلى الله عليه وسلم اللهم هون على محمد سكرات الموت (2) أو ما تستحي من استبطائك هجوم الموت اقتداءً برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون فيأتيهم المرض نذيراً من الموت فلا ينزجرون ويأتيهم الشيب رسولاً منه فما يعتبرون فيا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أم يحسبون أن الموتى سافروا من عندهم فهم معدمون كلا وإن كل لما جميع لدينا محضرون {ولكن} ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
ولنرجع إلى الغرض فإن هذه تلويحات تشير إلى أمور هي أعلى من علوم المعاملة فنقول ظهر أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ في مقاومة باعث الهوى وهذه المقاومة من خاصة الآدميين لما وكل بهم من الكرام الكاتبين ولا يكتبان شيئاً عن الصبيان والمجانين إذ قد ذكرنا أن الحسنة في الإقبال على الاستفادة منهما والسيئة في الإعراض عنهما وما للصبيان والمجانين سبيل إلى الاستفادة فلا يتصور منهما إقبال وإعراض وهما لا يكتبان إلا الإقبال والإعراض من القادرين على الإقبال والإعراض ولعمري إنه قد تظهر مباديء إشراق نور الهداية عند سن التمييز وتنمو على التدريج إلى سن البلوغ كما يبدو نور الصبح إلى أن يطلع قرص الشمس ولكنها هداية قاصرة لا ترشد إلى مضار الآخرة بل إلى مضار الدنيا فلذلك يضرب على ترك الصلوات ناجزاً ولا يعاقب على تركها في الآخرة ولا يكتب عليه من الصحائف ما ينشر في الآخرة بل على القيم العدل والولى البر الشفيق
_________
(1) حديث كفى بالموت واعظا أخرجه البيهقى فى الشعب من حديث عائشة وفيه الربيع بن بدر ضعيف ورواه الطبرانى من حديث عقبة بن عامر وهو معروف من قول الفضيل بن عياض رواه البيهى فى الزهد
(2) حديث اللهم هون على محمد سكرات الموت أخرجه الترمذى وقال غريب والنسائى فى اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عائشة بلفظ اللهم أعنى على سكرات الموت(4/65)
إن كان من الأبرار وكان على سمت الكرام الكاتبين البررة الأخيار أن يكتب على الصبي سيئته وحسنته على صحيفة قلبه فيكتبه عليه بالحفظ ثم ينشره عليه بالتعريف ثم يعذبه عليه بالضرب فكل ولي هذا سمته في حق الصبي فقد ورث أخلاق الملائكة واستعملها في حق الصبي فينال بها درجة القرب من رب العالمين كما نالته الملائكة فيكون مع النبيين والمقربين والصديقين وإليه الإشارة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كهاتين في الجنة (1) وأشار إلى إصبعيه الكريمتين صلى الله عليه وسلم
بيان كون الصبر نصف الإيمان
اعلم أن الإيمان تارة يختص في إطلاقه بالتصديقات بأصول الدين وتارة يختص بالأعمال الصالحة الصادرة منها وتارة يطلق عليهما جميعاً وللمعارف أبواب وللأعمال أبواب ولاشتمال لفظ الإيمان على جميعها كان الإيمان نيفاً وسبعين باباً واختلاف هذه الإطلاقات ذكرناه في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات ولكن الصبر نصف الإيمان باعتبارين وعلى مقتضى إطلاقين
أحدهما أن يطلق على التصديقات والأعمال جميعاً فيكون للإيمان ركنان أحدهما اليقين
والآخر الصبر والمراد باليقين المعارف القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى أصول الدين والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفه أن المعصية ضارة والطاعة نافعة ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فقال من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر الحديث إلى آخره
الاعتبار الثاني أن يطلق على الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف وعند ذلك ينقسم جميع ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره فيهما وله بالإضافة إلى ما يضره حال الصبر وبالإضافة إلى ما ينفعه حال الشكر فيكون الشكر أحد شطري الإيمان بهذا الاعتبار كما أن اليقين أحد الشطرين بالاعتبار الأول وبهذا النظر قال ابن مسعود رضي الله عنه الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر وقد يرفع أيضاً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولما كان الصبر صبراً عن باعث الهوى بثبات باعث الدين وكان باعث الهوى قسمين باعث من جهة الشهوة وباعث من جهة الغضب فالشهوة لطلب اللذيذ والغضب للهرب من المؤلم وكان الصوم صبراً عن مقتضى الشهوة فقط وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب قال بهذا الاعتبار الصوم نصف الصبر لأن كمال الصبر بالصبر عن دواعي الشهوة ودواعي الغضب جميعاً فيكون الصوم بهذا الاعتبار ربع الإيمان فهكذا ينبغي أن تفهم تقديرات الشرع بحدود الأعمال والأحوال ونسبتها إلى الإيمان والأصل فيه أن تعرف كثرة أبواب الإيمان فإن اسم الإيمان يطلق على وجوه مختلفة
بيان الأسامي التي تتجدد للصبر بالإضافة إلى ما عنه الصبر
اعلم أن الصبر ضربان أحدهما ضرب بدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها وهو إما بالفعل كتعاطي
_________
(1) حديث أنا وكافل اليتيم كهاتين أخرجه البخارى من حديث سهل بن سعد وتقدم(4/66)
الأعمال الشاقة إما من العبادات أو من غيرها وإما بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة وذلك قد يكون محموداً إذا وافق الشرع
ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى ثم هذا الضرب إن كان صبراً على شهوة البطن والفرج سمي عفة وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشق الجيوب وغيرهما وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس وتضاده حالة تسمى البطر وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً ويضاده التذمر وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام سمي كتمان السر وسمي صاحبه كتوماً وإن كان عن فضول العيش سمى زهدا ويضاده الحرص وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده الشره فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر ولذلك لما سئل عليه السلام مرة عن الإيمان قال هو الصبر لأنه أكثر أعماله وأعزها كما قال الحج عرفة وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبراً فقال تعالى والصابرين في البأساء أي المصيبة والضراء أي الفقر وحين البأس أي المحاربة {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} فإذن هذه أقسام الصبر باختلاف متعلقاتها ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه الأحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها من حيث رأى الأسامي مختلفة والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور الله تعالى يلحظ المعاني أولاً فيطلع على حقائقها ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة على المعاني فالمعاني هي الأصول والألفاظ هي التوابع ومن يطلب الأصول من التوابع لا بد وأن يزل وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم} فإن الكفار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلا بمثل هذه الانعكاسات نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه
بيان أقسام الصبر بحسب اختلاف القوة والضعف
اعلم إِنَّ بَاعِثَ الدِّينِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَاعِثِ الْهَوَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَقْهَرَ دَاعِيَ الْهَوَى فَلَا تَبْقَى لَهُ قُوَّةُ الْمُنَازَعَةِ وَيُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِدَوَامِ الصَّبْرِ وَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ وَالْوَاصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ هُمُ الْأَقَلُّونَ فَلَا جَرَمَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الْمُقَرَّبُونَ {الَّذِينَ قالوا ربنا الله ثم استقاموا} فهؤلاء لازموا الطريق المستقيم واستووا على الصراط القويم واطمأنت نفوسهم على مقتضى باعث الدين وإياهم ينادي المنادي {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَغْلِبَ دَوَاعِي الْهَوَى وَتَسْقُطُ بِالْكُلِّيَّةِ مُنَازَعَةُ بَاعِثِ الدِّينِ فَيُسَلِّمُ نَفْسَهُ إِلَى جند الشياطين ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغَافِلُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَرَقَّتْهُمْ شَهَوَاتُهُمْ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ شِقْوَتُهُمْ فَحَكَّمُوا أَعْدَاءَ الله في قلوبهم التي هي سر من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله وإليهم الإشارة بقوله تعالى {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم وقيل لمن قصد إرشادهم فأعرض عمن تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا(4/67)
{ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط والغرور بالأماني وهو غاية الحمق كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أتبع نفسه هواها وتمنى على الله (1) وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال أنا مشتاق إلى التوبة ولكنها قد تعذرت علي فلست أطمع فيها أو لم يكن مشتاقاً إلى التوبة ولكن قال إن الله غفور رحيم كريم فلا حاجة به إلى توبتي وهذا المسكين قد صار عقله رقيقاً لشهوته فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار فهم يستسخرونه في رعاية الخنازير وحفظ الخمور وحملها ومحله عند الله تعالى محل من يقهر مسلماً ويسلمه إلى الكفار ويجعله أسيراً عندهم لأنه بفاحش جنايته يشبه أنه سخر ما كان حقه أن لا يستسخر وسلط ما حقه أن لا يتسلط عليه وإنما استحق المسلم أن يكون متسلطاً لما فيه من معرفة الله وباعث الدين وإنما استحق الكافر أن يكون مسلطاً عليه لما فيه من الجهل بالدين وباعث الشياطين وحق المسلم على نفسه أوجب من حق غيره عليه فمهما سخر المعنى الشريف الذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الذي هو من حزب الشياطين المبعدين عن الله تعالى كان كمن أرق مسلماً لكافر بل هو كمن قصد الملك المنعم عليه فأخذ أعز أولاده وسلمه إلى أبغض أعدائه فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته واستيجابه لنقمته لأن الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى والعقل أعز موجود خلق على وجه الأرض
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْجُنْدَيْنِ فَتَارَةً لَهُ الْيَدُ عَلَيْهَا وَتَارَةً لَهَا عليه وهذا من المجاهدين يعد مثله لَا مِنَ الظَّافِرِينَ وَأَهْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُمُ الَّذِينَ {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أن يتوب عليهم} هذا باعتبار القوة والضعف ويتطرق إليه أيضاً ثلاثة أحوال باعتبار عدد ما يصبر عنه فإنه إما أن يغلب جميع الشهوات أو لا يغلب شيئاً منها أو يغلب بعضها دون بعض وتنزيل قوله تعالى {خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} على من عجز عن بعض الشهوات دون بعض أولى وَالتَّارِكُونَ لِلْمُجَاهَدَةِ مَعَ الشَّهَوَاتِ مُطْلَقًا يُشَبَّهُونَ بِالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا إِذِ الْبَهِيمَةُ لَمْ تُخْلَقْ لَهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا تُجَاهِدُ مقتضى الشهوات وهذا قد خلق ذلك له وعطله فهو الناقص حقاً المدبر يقيناً ولذلك قيل
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
وينقسم الصبر أيضاً باعتبار اليسر والعسر إلى ما يشق على النفس فلا يمكن الدوام عليه إلا بجهد جهيد وتعب شديد ويسمى ذلك تصبراً وإلى ما يكون من غير شدة تعب بل يحصل بأدنى تحامل على النفس ويخص ذلك باسم الصبر وَإِذَا دَامَتِ التَّقْوَى وَقَوِيَ التَّصْدِيقُ بِمَا فِي العاقبة من الحسنى تيسر الصبر ولذلك قال تعالى {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} ومثال هذه القسمة قدرة المصارع على غيره فإن الرجل القوي يقدر على أن يصرع الضعيف بأدنى حملة وأيسر قوة بحيث لا يلقاه في مصارعته إعياء ولا لغوب ولا تضطرب فيه نفسه ولا ينبهر ولا يقوى على أن يصرع الشديد إلا بتعب ومزيد جهد وعرق جبين فهكذا تكون المصارعة بين باعث الدين وباعث الهوى فإنه على التحقيق صراع بين جنود الملائكة وجنود الشياطين ومهما أذعنت الشهوات وانقمعت وتسلط باعث الدين واستولى وتيسر الصبر بطول المواظبة أورث ذلك مقام الرضا كما سيأتي في كتاب الرضا فالرضا
_________
(1) حديث الكيس من دان نفسه الحديث تقدم فى ذم الغرور(4/68)
أعلى من الصبر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير وقال بعض العارفين أهل الصبر على ثلاثة مقامات أولها ترك الشهوة وهذه درجة التائبين وثانيها الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين وثالثها المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصديقين
وسنبين في كتاب المحبة أن مقام المحبة أعلى من الرضا كما أن مقام الرضا أعلى من مقام الصبر وكأن هذا الانقسام يجري في صبر خاص وهو الصبر على المصائب والبلايا
واعلم أن الصبر أيضاً ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم فالصبر عن المحظورات فرض وعلى المكاره نفل والصبر على الأذى المحظور محظور كمن تقطع يده أو يد ولده وهو يصبر عليه ساكتا وكمن يقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن اظهاره الغيرة ويسكت على ما يجري على أهله فهذا الصبر محرم والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع فليكن الشرع محك الصبر فكون الصبر نصف الإيمان لا ينبغي أن يخيل إليك أن جميعه محمود بل المراد به أنواع من الصبر مخصوصة
بَيَانُ مَظَانِّ الْحَاجَةِ إِلَى الصَّبْرِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَلْقَى الْعَبْدُ فِي هذه الحياة لا يخلو من نوعين أحدهما هو الذي يوافق هواه والآخر هو الذي لَا يُوَافِقُهُ بَلْ يَكْرَهُهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّبْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ فِي جميع الأحوال لا يخلو عن أحد هذين النوعين أو عن كليهما فهو إذن لَا يَسْتَغْنِي قَطُّ عَنِ الصَّبْرِ
النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَالْمَالُ وَالْجَاهُ وَكَثْرَةُ الْعَشِيرَةِ وَاتِّسَاعُ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعُ مَلَاذِّ الدُّنْيَا وَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا والانهماك في ملاذها المباحة منها أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى حتى قال بعض العارفين البلاء يصبر عليه المؤمن والعوافي لا يصبر عليها إلا صديق وقال سهل الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء ولما فتحت أبواب الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم قالوا ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر وَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذكر الله} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عدواً لكم فاحذروهم} وقال صلى الله عليه وسلم الولد مبخلة مجبنة محزنة ولما نظر عليه السلام إلى ولده الحسن رضي الله عنه يتعثر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه ثم قال {صدق الله} إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني لما رأيت ابني يتعثر لم أملك نفسي أن أخذته ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار
فَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ وَمَعْنَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده وعسى أن يسترجع على القرب وَأَنْ لَا يُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْفَرَحِ بِهَا ولا ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب وَأَنْ يَرْعَى حُقُوقَ اللَّهِ فِي مَالِهِ بِالْإِنْفَاقِ وَفِي بَدَنِهِ بِبَذْلِ الْمَعُونَةِ لِلْخَلْقِ وَفِي لِسَانِهِ بِبَذْلِ الصِّدْقِ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ(4/69)
وهذا الصبر متصل بالشكر فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر كما سيأتي وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى السَّرَّاءِ أَشَدَّ لِأَنَّهُ مقرون بالقدرة ومن العصمة أن لا تقدر والصبر على الحجامة والقصد إذا تولاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك وَالْجَائِعُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّعَامِ أَقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللَّذِيذَةُ وَقَدَرَ عَلَيْهَا فَلِهَذَا عَظُمَتْ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ
النَّوْعُ الثَّانِي مَا لَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَالطَّبْعَ وذلك لا يخلو إِمَّا أَنْ يَرْتَبِطَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي أو لا يرتبط باختيار كالمصائب والنوائب أولا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي إِزَالَتِهِ كَالتَّشَفِّي مِنَ الْمُؤْذِي بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أقسام
القسم الأول ما يرتبط باختياره وهو سائر أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية وَهُمَا ضَرْبَانِ
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الطَّاعَةُ وَالْعَبْدُ يَحْتَاجُ إلى الصبر عليها فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية ولذلك قال بعض العارفين ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استخف قومه فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره فإن استشاطته وغيظه عند تقصيرهم في خدمته واستعباده ذلك ليس يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوية في رداء الكبرياء
فإذن العبودية شاقة على النفس مطلقاً ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ومنها ما يكره بسببهما جميعاً كالحج والجهاد فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد
ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال الأولى قبل الطاعة وذلك في تصحيح النية والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات وعقد العزم على الإخلاص والوفاء وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص وآفات الرياء ومكايد النفس وقد نبه صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى // وقال تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدين ولهذا قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال تعالى إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات
الحالة الثانية حالة العمل كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ وهذا أيضاً من شدائد الصبر ولعله المراد بقوله تعالى نعم أجر العاملين الذين صبروا أي صبروا إلى تمام العمل
الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء والصبر عن النظر إليه بعين العجب وعن كل ما يبطل عمله ويحبط أثره كما قال تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وكما قال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله
والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعاً وقد جمعهما الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربى فالعدل هو الفرض والإحسان هو النفل وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ
الضَّرْبُ الثَّانِي المعاصي فما أحوج العبد إلى الصبر عنها وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ {وقال} صلى الله عليه وسلم المهاجر من هجر السوء والمجاهد من جاهد هواه(4/70)
والمعاصي مقتضى باعث الهوى
وأشد أنواع الصبر الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة فإن العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة وَالْكَذِبِ وَالْمِرَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى النَّفْسِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا وَأَنْوَاعِ الْمَزْحِ الْمُؤْذِي لِلْقُلُوبِ وَضُرُوبِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يقصد بها الإزراء والاستحقار وذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم فإن ذلك في ظاهره غيبة وفي باطنه ثناء على النفس فللنفس فيه شهوتان إحداهما نفي الغير والأخرى إثبات نفسه وبها تتم له الربوبية التي هي في طبعه وهي ضد ما أمر به من العبودية ولاجتماع الشهوتين وتيسر تحريك اللسان ومصير ذلك معتاداً في المحاورات يعسر الصبر عنها وهي أكبر الموبقات حتى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب لكثرة تكريرها وعموم الأنس بها فترى الإنسان يلبس حريراً مثلاً فيستبعد غاية الاستبعاد ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس ولا يستنكر ذلك مع ما ورد في الخبر من ان الغيبة أشد من الزنا (1) وقال تعالى {ودع أذاهم وتوكل على الله} وقال تَعَالَى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جميلاً} وقال تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك} الآية وَقَالَ تَعَالَى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} أي تصبروا عن الْمُكَافَأَةِ وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَافِينَ عَنْ حُقُوقِهِمْ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صبرتم لهو} خير الصابرين {وَقَالَ} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ // ورأيت في الإنجيل قال عيسى بن مريم عليه السلام لقد قيل لكم من قبل إن السن بالسن والأنف بالأنف وأنا أقول لكم لا تقاوموا بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحول إليه
_________
(1) ومن لم يملك لسانه في المحاورات ولم يقدر على الصبر عن ذلك فيجب عليه العزلة والانفراد فلا ينجيه غيره فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة
وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاف الوساوس فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة ولا يمكن الصبر عنه أصلاً إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرقه كمن أصبح وهمومه هم واحد وإلا فإن لم يستعمل الفكر في شيء معين لم يتصور فتور الوسواس عنه
القسم الثاني مالا يَرْتَبِطُ هُجُومُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ اخْتِيَارٌ فِي دَفْعِهِ كَمَا لَوْ أُوذِيَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَجُنِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا وَتَارَةً يكون فضيلة قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم ما كنا نعد إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى وقال تعالى ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مالا فقال بعض الأعراب من المسلمين هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر رسول الله فاحمرت وجنتاه ثم قال يرحم الله أخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر(4/71)