عن غيره
فإن قدر عبد على أن يجعل همه مستغرقاً بالله عز وجل فلا يقدر على أن يموت على تلك الحالة إلا في صف القتال
فإنه قطع الطمع عن مهجته وأهله وماله وولده بل من الدنيا كلها فإنه يريدها لحياته وقد هون على قلبه حياته في حب الله عز وجل وطلب مرضاته فلا تجرد لله أعظم من ذلك ولذلك عظم أمر الشهادة وورد فيه من الفضائل ما لا يحصى
فمن ذلك أنه لما استشهد عبد الله بن عمرو الأنصاري يوم أحد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر ألا أبشرك يا جابر قال بلى بشرك الله بالخير قال إن الله عز وجل أحيا أباك فأقعده بين يديه وليس بينه وبينه ستر فقال تعالى تمن علي يا عبدي ما شئت أعطيكه فقال يا رب إن تردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك وفي نبيك مرة أخرى فقال عز وجل سبق القضاء مني بأنهم إليها لا يرجعون (1) ثم القتل سبب الخاتمة على مثل هذه الحالة فإنه لو لم يقتل وبقي مدة ربما عادت شهوات الدنيا إليه وغلبت على ما استولى على قلبه من ذكر الله عز وجل
ولهذا عظم خوف أهل المعرفة من الخاتمة فإن القلب وإن ألزم ذكر الله عز وجل فهو متقلب لا يخلو عن الالتفات إلى شهوات الدنيا ولا ينفك عن فترة تعتريه
فإذا تمثل في آخر الحال في قلبه أمر من الدنيا واستولى عليه وارتحل عن الدنيا والحالة هذه فيوشك أن يبقى استيلاؤه عليه فيحن بعد الموت إليه ويتمنى الرجوع إلى الدنيا
وذلك لقلة حظه في الآخرة إذ يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه
فاسلم الأحوال عن هذا الخطر خاتمة الشهادة إذ لم يكن قصد الشهيد نيل مال أو أن يقال شجاع أو غير ذلك (2) كما ورد به الخبر بل حب الله عز وجل وإعلاء كلمته فهذه الحالة هي التي عبر عنها {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأن لهم الجنة} ومثل هذا الشخص هو البائع للدنيا بالآخرة
وحالة الشهيد توافق معنى قولك {لا إله إلا الله} فإنه لا مقصود له سوى الله عز وجل وكل مقصود معبود وكل معبود إله فهذا الشهيد قائل بلسان حاله {لا إله إلا الله} إذ لا مقصود له سواه
ومن يقول ذلك بلسانه ولم يساعده حاله فأمره في مشيئة الله عز وجل ولا يؤمن في حقه الخطر
ولذلك فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول لا إله إلا الله على سائر الأذكار (3) وذكر ذلك مطلقاً في مواضع الترغيب ثم ذكر في بعض المواضع الترغيب
ثم ذكر في بعض المواضع الصدق والإخلاص فقال مرة من قال لا إله إلا الله مخلصاً ومعنى الإخلاص مساعدة الحال للمقال
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلا الله حالاً ومقالاً ظاهراً وباطناً حتى نودع الدنيا غير متلفتين إليها بل متبرمين بها ومحبين للقاء الله فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فهذه مرامز إلى معاني الذكر التي لا يمكن الزيادة عليها في علم المعاملة
الباب الثاني في آداب الدعاء وفضله وفضل بعض الأدعية المأثورة وفضيلة الاستغفار والصلاة عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَضِيلَةُ الدُّعَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دعان فليستجيبوا لي} وقال تعالى
_________
(1) حديث ألا أبشرك يا جابر قال بلى بشرك الله بالخير قال إن الله أحيا أباك وأقعده بين يديه وليس بينه وبينه ستر فقال تعالى تمن علي الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث جابر
(2) حديث الرجل يقاتل لنيل مال أو أن يقال شجاع أو غير ذلك متفق عليه من حديث أبي موسى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
(3) حديث تفضيل لا إله إلا الله على سائر الأذكار أخرجه الترمذي وقال حسن والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث جابر(1/303)
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المعتدين} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} وقال عز وجل {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وروى النعمان بن بشير عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ ادعوني أستجب لكم (1) الآية وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ مُخُّ العبادة (2) وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء (3) وقال صلى الله عليه وسلم إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاث إما ذنب يغفر له وإما خير يعجل له وإما خير يدخر له (4) وقال أبو ذر رضي الله عنه يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُوا اللَّهَ تعالى من فضله فإن الله تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الفرج (5) آداب الدعاء وهي عشرة
الأول أن يَتَرَصَّدُ لِدُعَائِهِ الْأَوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ مِنَ السَّنَةِ وَرَمَضَانَ مِنَ الْأَشْهُرِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنَ الأسبوع ووقت السحر من ساعات الليل قال تعالى وبالأسحار هم يستغفرون وقال صلى الله عليه وسلم ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول عز وجل من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له (6) وقيل إن يعقوب صلى الله عليه وسلم إنما قال سوف أستغفر لكم ربي ليدعو في وقت السحر فقيل إنه قام في وقت السحر يدعو وأولاده يؤمنون خلفه فأوحى الله عز وجل إني قد غفرت لهم وجعلتهم أنبياء
الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة قال أبو هريرة رضي الله عنه إن أبواب السماء تفتح عند زَحْفِ الصُّفُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ نزول الغيث وعند إقامة الصلوات المكتوبة فاغتنموا الدعاء فيها وقال مجاهد إن الصلاة جعلت في خير الساعات فعليكم بالدعاء خلف الصلوات
وقال صلى الله عليه وسلم الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد (7) وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً الصائم لا ترد دعوته (8) وَبِالْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ شَرَفُ الْأَوْقَاتِ إِلَى شَرَفِ الْحَالَاتِ أَيْضًا إِذْ وَقْتُ السَّحَرِ وَقْتُ صَفَاءِ الْقَلْبِ وَإِخْلَاصِهِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْمُشَوِّشَاتِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الجمعة وقت اجتماع الهمم وَتَعَاوُنِ الْقُلُوبِ عَلَى اسْتِدْرَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وجل فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يطلع البشر عليها
وحالة السجود أيضاً أجدر بالإجابة قال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي
_________
(1) حديث النعمان بن بشير إن الدعاء هو العبادة أخرجه أصحاب السنن والحاكم وقال صحيح الإسناد وقال الترمذي حسن صحيح
(2) حديث الدعاء مخ العبادة أخرجه الترمذي من حديث أنس وقال غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة
(3) حديث أبي هريرة ليس شيء أكرم عند الله من الدعاء أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد
(4) حديث إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاث إما ذنب يغفر له وإما خير يعجل له وإما خير يدخر له أخرجه الديلمي في الفردوس من حديث أنس وفيه روح أخرجه ابن مسافر عن أبان بن عياش وكلاهما ضعيف ولأحمد والبخاري في الأدب والحاكم وصحح إسناده من حديث أبي سعيد إما أن تعجل له دعوته وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها
(5) حديث سلوا الله من فضله فإن الله يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال حماد بن واقد ليس بالحافظ قلت وضعفه ابن معين وغيره
(6) حديث ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(7) حديث الدعاء بين الأذان والإقامة لايرد أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة والترمذي وحسنه من حديث أنس وضعفه ابن عدي وابن القطان ورواه في اليوم والليلة بإسناد آخر جيد وابن حبان والحاكم وصححه
(8) حديث الصائم لا ترد دعوته أخرجه الترمذي وقال حسن وابن ماجه من حديث أبي هريرة بزيادة فيه(1/304)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء (1) وروى ابن عباس رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظموا فيه الرب تعالى وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم (2)
الثالث أن يدعو مستقبل الْقِبْلَةَ وَيَرْفَعَ يَدَيْهِ بِحَيْثُ يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آتي الموقف بعرفة واستقبل القبلة ولم يزل يدعو حتى غربت الشمس (3)
وقال سلمان قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن ربكم حيي كريم يستحي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفراً (4)
وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في الدعاء ولا يشير بأصبعيه (5)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مر على إنسان يدعو ويشير بإصبعيه السبابتين فقال صلى الله عليه وسلم أحد أحد (6) أي اقتصر على الواحدة
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه ارفعوا هذه الأيدي قبل أن تغل بالأغلال ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ قَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ (7)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا ضَمَّ كَفَّيْهِ وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ (8)
فَهَذِهِ هَيْئَاتُ الْيَدِ وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السماء قال صلى الله عليه وسلم لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم (9)
الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر لما روي أن أبا موسى الأشعري قال قدمنا مع رسول الله فلما دنونا من المدينة كبر وكبر الناس ورفعوا أصواتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق ركابكم (10)
وقالت عائشة رضي الله عنه في قوله عز وجل {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} (11) أي بدعائك وقد أثنى الله عز وجل على نبيه زكرياء عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نداء خفياً} وقال عز وجل {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}
الْخَامِسُ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع والتكلف لا يناسبه قال صلى الله عليه وسلم سيكون قوم يعتدون في الدعاء (12) وقد قال عز وجل {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه}
_________
(1) حديث أبي هريرة أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ ساجد فأكثروا من الدعاء رواه مسلم
(2) حديث ابن عباس إنني نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا الحديث أخرجه مسلم أيضا
(3) حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آتي الموقف بعرفة واستقبل القبلة ولم يزل يدعو حتى غربت الشمس الحديث أخرجه مسلم دون قوله يدعو فقال مكانها واقفا والنسائي من حديث أسامة بن زيد كنت ردفه بعرفات فرفع يديه يدعو ورجاله ثقات
(4) حديث سلمان إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وقال إسناده صحيح على شرطهما
(5) حديث أنس كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في الدعاء ولا يشير بأصبعه أخرجه مسلم دون قوله ولا يشير بأصبعه والحديث متفق عليه لكن مقيد بالاستسقاء
(6) حديث أبي هريرة مر على إنسان يدعو بأصبعيه السبابتين فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أحد أخرجه النسائي وقال حسن وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد
(7) حديث عمر كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حتى يمسح بهما وجهه أخرجه الترمذي وقال غريب والحاكم في المستدرك وسكت عليه وهو ضعيف
(8) حديث ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا ضَمَّ كَفَّيْهِ وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يلي وجهه أخرجه الطبراني في الكبير بسند ضعيف
(9) حديث لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقال عند الدعاء في الصلاة
(10) حديث أبي موسى الأشعري يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب متفق عليه مع اختلاف واللفظ الذي ذكره المصنف لأبي داود
(11) حديث عائشة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ولا تخافت بها} أي بدعائك متفق عليه
(12) حديث سيكون قوم يعتدون في الدعاء وفي رواية والطهور أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن مغفل(1/305)
{لا يحب المعتدين} قيل معناه التكلف للأسجاع وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُجَاوِزَ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةَ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْتَدِي فِي دُعَائِهِ فَيَسْأَلُ مَا لَا تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَتُهُ فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الدُّعَاءَ ولذلك روي عن معاذ رضي الله عنه أن العلماء يحتاج إليهم في الجنة إذ يقال لأهل الجنة تمنوا فلا يدرون كيف يتمنون حتى يتعلموا من العلماء وقد قال صلى الله عليه وسلم إياكم والسجع في الدعاء حسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قول وعمل (1) وفي الخبر سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور ومر بعض السلف بقاص يدعو بسجع فقال له أعلى الله تبالغ أشهد لقد رأيت حبيباً العجمي يدعو وما يزيد على قوله اللهم اجعلنا جيدين اللهم لا تفضحنا يوم القيامة اللهم وفقنا للخير والناس يدعون من كل ناحية وراءه وكان يعرف بركة دعائه
وقال بعضهم ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق
ويقال إن العلماء الأبدال لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها ويشهد له آخر سورة البقرة فإن الله تعالى لم يخبر في موضع من أدعية عبادة أكثر من ذلك
واعلم أن المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة وإلا ففي الأدعية المأثورة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات متوازنة لكنها غير متكلفة كقوله صلى الله عليه وسلم أسألك الأمن من يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود إنك رحيم ودود وإنك تفعل ما تريد (2) وأمثال ذلك فليقتصر على المأثور من الدعوات أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف فالتضرع هو المحبوب عند الله عز وجل
السادس التضرع والخشوع والرغبة والرهبة قال الله تعالى {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً} وقال عز وجل {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحَبَّ الله عبداً ابتلاه حتى يسمع تضرعه (3)
السَّابِعُ أَنْ يَجْزِمَ الدُّعَاءَ وَيُوقِنَ بِالْإِجَابَةِ وَيُصَدِّقَ رجاءه فيه
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ (4) وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قلب غافل (6) وقال سفيان بن عيينة لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله إذ قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين
الثَّامِنُ أَنْ يُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ وَيُكَرِّرَهُ ثَلَاثًا قال ابن مسعود
_________
(1) حديث إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قول وعمل غريب بهذا السياق وللبخاري عن ابن عباس وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلا ذلك وابن ماجه والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد من حديث عائشة عليك بالكوامل وفيه وأسألك الجنة إلى آخره
(2) حديث أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود إنك رحيم ودود وإنك تفعل ما تريد أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ليلة حين فرغ من صلاته فذكر حديثا طويلا مع جملته هذا وقال حديث غريب انتهى وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيىء الحفظ
(3) حديث إذا أحب الله عبداً ابتلاه حتى يسمع تضرعه أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس إذا أحب الله عبداً صب عليه البلاء صباً الحديث وفيه دعه فإني أحب أن أسمع صوته وللطبراني من حديث أبي أمامة إن الله يقول للملائكة انطلقوا إلى عبدي فصبوا عليه البلاء الحديث {وفيه} فإني أحب أن أسمع صوته وسندهما ضعيف
(4) حديث لا يقل أحدكم اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ له متفق عليه من حديث أبي هريرة
(5) حديث إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لا يتعاظمه شيء أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة
(6) حديث ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال غريب والحاكم وقال مستقيم الإسناد وتفرد به صالح المري وهو أحد زهاد البصرة قلت لكنه ضعيف في الحديث(1/306)
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا دعا ثلاثاً وإذا سال سأل ثلاثاً (1) وينبغي أن لا يستبطىء الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي فإذا دعوت فاسأل الله كثيراً فإنك تدعو كريماً (2) وقال بعضهم إني أسأل الله عز وجل منذ عشرين سنة حاجة وما أجابني وأنا أرجو الإجابة سألت الله تعالى أن يوفقني لترك ما لا يعنيني
وقال صلى الله عليه وسلم إذا سأل أحدكم ربه مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ومن أبطأ عنه من ذلك فليقل الحمد لله على كل حال (3)
التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله عز وجل فلا يبدأ بالسؤال قال سلمة بن الأكوع ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الدعاء إلا استفتحه بقول سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب (4) قال أبو سليمان الداراني رحمه الله من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأله حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما وروي في الخبر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال إذا سألتم الله عز وجل حاجة فابتدئوا بالصلاة علي فإن الله تعالى أكرم من أن يسئل حاجتين فيقضي إحداهما ويرد الأخرى (5) رواه أبو طالب المكي
الْعَاشِرُ وَهُوَ الْأَدَبُ الْبَاطِنُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِجَابَةِ التَّوْبَةُ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِكُنْهِ الْهِمَّةِ فَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ القريب في الإجابة فيروى عن كعب الأحبار أنه قال أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج موسى ببني إسرائيل يستسقي بهم فلم يسقوا حتى خرج ثلاث مرات ولم يسقوا فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام فقال موسى يا رب ومن هو حتى نخرجه من بيننا فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً فقال موسى لبني إسرائيل توبوا إلى ربكم بأجمعكم عن النميمة فتابوا فأرسل الله تعالى عليهم الغيث
وقال سعيد بن جبير قحط الناس في زمن ملك من ملوك بني إسرائيل فاستسقوا فقال الملك لبني إسرائيل ليرسلن الله تعالى علينا السماء أو لنؤذينه قيل له وكيف تقدر أن تؤذيه وهو في السماء فقال أقتل أولياءه وأهل طاعته فيكون ذلك أذى له فأرسل الله تعالى عليهم السماء
وقال سفيان الثوري بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون فأوحى الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام لو مشيتم إلي باقدامكم حتى تحفى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم عن الدعاء فإني لا أجيب لكم داعياً ولا أرحم لكم باكياً حتى تردوا المظالم إلى أهلها ففعلوا فمطروا من يومهم
وقال مالك بن دينار أصاب الناس في بني إسرائيل قحط فخرجوا مراراً فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلي بأبدان نجسة وترفعون إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء وملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعداً وقال أبو الصديق الناجي خرج سليمان عليه السلام يستسقي فمر بنملة ملقاة على ظهرها رافعة قوائمها
_________
(1) حديث ابن مسعود كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا دعا ثلاثاً وإذا سال سأل ثلاثاً رواه مسلم وأصله متفق عليه
(2) حديث يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي متفق عليه من حديث أبي هريرة
(3) حديث إذا سأل أحدكم مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ومن أبطأ عنه من ذلك شيء فليقل الحمد لله على كل حال أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث أبي هريرة وللحاكم نحوه من حديث عائشة مختصرا بإسناد ضعيف
(4) حديث سلمة بن الأكوع ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الدعاء إلا استفتحه وقال سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب أخرجه أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت فيه عمر بن راشد اليماني ضعفه الجمهور
(5) حديث إذا سألتم الله حاجة فابدءوا بالصلاة علي فإن الله تعالى أكرم من أن يسأل حاجتين فيعطي إحداهما ويرد الأخرى لم أجده مرفوعا وإنما هو موقوف على أبي الدرداء(1/307)
إلى السماء وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب غيرنا فقال سليمان عليه السلام ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم
وقال الأوزاعي خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة فقالوا اللهم نعم فقال اللهم إنا قد سمعناك تقول ما على المحسنين من سبيل وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا اللهم فاغفر لنا وارحمنا واسقنا فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا
وقيل لمالك بن دينار ادع لنا ربك فقال إنكم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجارة وروي أن عيسى صلوات الله عليه وسلامه خرج يستسقي فلما ضجروا قال لهم عيسى عليه السلام من أصاب منكم ذنباً فليرجع فرجعوا كلهم ولم يبق معه في المفازة إلا واحد فقال له عيسى عليهم السلام أما لك من ذنب فقال والله ما علمت من شيء غير أني كنت ذات يوم أصلي فمرت بي امرأة فنظرت إليها بعيني هذه فلما جاوزتني أدخلت أصبعي في عيني فانتزعتها وتبعت المرأة بها فقال له عيسى عليه السلام فادع الله حتى أؤمن على دعائك قال فدعا فتجللت السماء سحاباً ثم صبت فسقوا وقال يحيى الغساني أصاب الناس قحط على عهد داود عليه السلام فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتى يستسقوا بهم فقال أحدهم اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعفو عمن ظلمنا اللهم إنا قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا وقال الثاني اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقاءنا اللهم إنا أرقاؤك فأعتقنا وقال الثالث اللهم إنك أنزلت في توراتك أن لا نرد المساكين إذا وقفوا بأبوابنا اللهم إنا مساكينك وقفنا ببابك فلا ترد دعاءنا فسقوا وقال عطاء السلمي منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر فنظر إلي فقال يا عطاء أهذا يوم النشور أوبعثر ما في القبور فقلت لا ولكنا منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فقال يا عطاء بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية فقلت بل بقلوب سماوية فقال هيهات يا عطاء قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير ثم رمق السماء بطرفه وقال إلهي وسيدي ومولاي لا تهلك بلادك بذنوب عبادك ولكن بالسر المكنون من أسمائك وما وارت الحجب من آلائك إلا ما سقيتنا ماء غدقاً فراتاً تحيي به العباد وتروي به البلاد يا من هو على كل شيء قدير قال عطاء فما استتم الكلام حتى أرعدت السماء وأبرقت وجادت بمطر كأفواه القرب فولى وهو يقول
أفلح الزاهدون والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين العليلة حباً ... فانقضى ليلهم وهم ساهرونا
شغلتهم عبادة الله حتى ... حسب الناس أن فيهم جنونا
وقال ابن المبارك قدمت المدينة في عام شديد القحط فخرج الناس يستسقون فخرجت معهم إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش قد اتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه فجلس إلى جنبي فسمعته يقول إلهي أخلقت الوجوه عندك كثرة الذنوب ومساوي الأعمال وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك فأسألك يا حليماً ذا أناة يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة الساعة فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام وأقبل المطر من كل جانب قال ابن المبارك فجئت إلى الفضيل فقال ما لي أراك كئيباً فقلت أمر سبقنا إليه غيرنا فتولاه دوننا وقصصت عليه القصة فصاح الفضيل وخر مغشياً عليه
ويروى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ استسقى بالعباس رضي الله عنه فلما فرغ عمر من دعائه قال العباس اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة وأنت(1/308)
الراعي لا تهمل الضالة ولا تدع الكبير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الأصوات بالشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال فما تم كلامه حتى ارتفعت السماء مثل الجبال
فضيلة الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وفضله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وروي أنه صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال صلى الله عليه وسلم أنه جاءني جبريل عليه السلام فقال أما ترضى يا محمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك صلاة واحدة إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى علي صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقلل عند ذلك أو ليكثر (2) وقال صلى الله عليه وسلم إن أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة (3) وقال صلى الله عليه وسلم بحسب المؤمن من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي (4) وقال صلى الله عليه وسلم أكثروا من الصلاة علي يَوْمُ الْجُمُعَةِ (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلى علي من أمتي كتبت له عشر حسنات ومحيت عنه عشر سيئات (6) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ حين يسمع الأذان والإقامة اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ صل على محمد عبدك ورسولك وأعطه الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والشفاعة يوم القيامة حلت له شفاعتي (7) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يستغفرون له ما دام اسمي في ذلك الكتاب (8) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي الأرض ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام (9) وقال صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال إنه جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام فقال أما ترضى يا محمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا أخرجه النسائي وابن حبان من حديث أبي طلحة بإسناد جيد
(2) حديث من صلى علي صلت عليه الملائكة ما صلى فليقلل عبد من ذلك أو ليكثر أخرجه ابن ماجه من حديث عامر بن ربيعة بإسناد ضعيف والطبراني في الأوسط بإسناد حسن
(3) حديث إن أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال حسن غريب وابن حبان
(4) حديث بحسب امرىء من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي أخرجه قاسم بن أصبغ من حديث الحسن بن علي هكذا والنسائي وابن حبان من حديث أخيه الحسين البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ورواه الترمذي من رواية الحسين بن علي عن أبيه وقال حسن صحيح
(5) حديث أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري من حديث أوس بن أوس وذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر
(6) حديث من صلى علي من أمتي كتبت له عشر حسنات ومحيت عنه عشر سيئات أخرجه النسائي في اليوم والليلة من حديث عمرو بن دينار وزاد فيه مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وله في السير ولابن حبان من حديث أنس نحوه دون قوله مخلصا من قلبه ودون ذكر محو السيئات ولم يذكر ابن حبان أيضا رفع الدرجات
(7) حديث من قال حين يسمع الأذان والإقامة اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ صل على محمد عبدك ورسولك وأعطه الوسيلة والفضيلة والشفاعة يوم القيامة حلت له شفاعتي أخرجه البخاري من حديث جابر دون ذكر الإقامة والشفاعة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال النداء وللمستغفري في الدعوات حين يسمع الدعاء للصلاة وزاد ابن وهب ذكر الصلاة والشفاعة فيه بسند ضعيف وزاد الحسن بن علي المعمري في اليوم والليلة من حديث أبي الدرداء ذكر الصلاة فيه وله وللمستغفري في الدعوات سند ضعيف من حديث أبي رافع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان فذكر حديثا فيه وإذا قال قد قامت الصلاة قال اللهم رب هذه الدعوة التامة الحديث وزاد وتقبل شفاعته في أمته ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ثم سلوا الله لي الوسيلة وفيه فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة
(8) حديث من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب أخرجه الطبرانى في الأوسط وأبو الشيج في الثواب والمستغفرى في الدعوات من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(9) حديث إن في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام تقدم في آخر الحج(1/309)
ليس أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام (1) وقيل له يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فَقَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حميد مجيد (2) وروي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُمِعَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْكِي وَيَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا رسول الله لقد كان جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبراً لتسمعهم فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ من يطع الرسول فقد أطاع الله بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنْ أَخْبَرَكَ بِالْعَفْوِ عَنْكَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَكَ بِالذَّنْبِ فَقَالَ تَعَالَى عفا الله عنك لم أذنت لهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم فقال عز وجل وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم الآية بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَطَاعُوكَ وَهُمْ بَيْنَ أطباقها يعذبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كان موسى بن عمران أعطاه الله حجراً تنفجر مِنْهُ الْأَنْهَارُ فَمَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أَصَابِعِكَ حِينَ نَبَعَ مِنْهَا الْمَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ سليمان بن داود أَعْطَاهُ اللَّهُ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ فماذا بأعجب من البراق حين سريت عَلَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ثُمَّ صَلَّيْتَ الصُّبْحَ مِنْ لَيْلَتِكَ بِالْأَبْطَحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ عيسى بن مَرْيَمَ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى فَمَاذَا بِأَعْجَبَ مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ حِينَ كَلَّمَتْكَ وَهِيَ مَشْوِيَّةٌ فقالت لك الذِّرَاعُ لَا تَأْكُلْنِي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ بِأَبِي أَنْتَ وأمي يا رسول الله لقد دعا نوح على قومه فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا فلقد وطىء ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيراً فقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد اتَّبَعَكَ فِي قِلَّةِ سِنِّكَ وَقِصَرِ عُمُرِكَ مَا لَمْ يَتْبَعْ نُوحًا فِي كَثْرَةِ سِنِّهِ وَطُولِ عُمُرِهِ وَلَقَدْ آمَنَ بِكَ الْكَثِيرُ وَمَا آمَنَ معه إلا القليل بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤاً لك ما جالستنا ولو لم تنكح إلا كفؤاً لك ما نكحت إلينا ولو لم تؤاكل إلا كفؤاً لك ما واكلتنا فلقد والله جالستنا ونكحت إلينا وواكلتنا ولبست الصُّوفَ وَرَكِبْتَ الْحِمَارَ وَأَرْدَفْتَ خَلْفَكَ وَوَضَعْتَ طَعَامَكَ على الأرض ولعقت أصابعك تواضعاً منك صلى الله عليه وسلم (3) وقال بعضهم كنت أكتب
_________
(1) حديث ليس أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بسند جيد
(2) حديث قيل له يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته الحديث متفق عليه من حديث أبي حميد الساعدي
(3) حديث عمر في حنين الجذع ونبع الماء من بين أصابعه والإسراء به على البراق إلى السماء السابعة ثم صلاة الصبح من ليلته بالأبطح وكلام الشاة المسمومة وأنه دمى وجهه وكسرت رباعيته فقال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وأنه لبس الصوف وركب الحمار وأردف خلفه ووضع طعامه بالأرض ولعق أصابعه وهو غريب بطوله من حديث عمر وهو معروف من أوجه أخرى فحديث حنين الجذع متفق عليه من حديث جابر وابن عمر وحديث نبع الماء من بين أصابعه متفق عليه من حديث أنس وغيره وحديث الإسراء متفق عليه من حديث أنس دون ذكر صلاة الصبح بالأبطح وحديث كلام الشاة المسمومة رواه أبو داود من حديث جابر وفيه انقطاع وحديث أنه دمى وجهه وكسرت رباعيته متفق عليه من حديث سهل بن سعد في غزوة أحد وحديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون رواه البيهقي في دلائل النبوة والحديث في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم حكاه عن نبي من الأنبياء ضربه قومه وحديث لبس الصوف رواه الطيالسي من حديث سهل بن سعد وحديث ركوبه الحمار وإردافه خلفه متفق عليه من حديث أسامة بن زيد وحديث وضع طعامه بالأرض رواه أحمد في الزهد من حديث الحسن مرسلا وللبخاري من حديث أنس ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط وحديث لعقه أصابعه رواه مسلم من حديث كعب بن مالك وأنس بن مالك(1/310)
الحديث وأصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيه ولا أسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي أما تتم الصلاة علي في كتابك فما كتبت بعد ذلك إلا صليت وسلمت عليه
وروي عن أبي الحسن قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله بم جوزي الشافعي عنك حيث يقول في كتابه الرسالة وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون فقال صلى الله عليه وسلم جوزي عني أنه لا يوقف للحساب
فضيلة الاستغفار
قال عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم وقال علقمة والأسود قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم في كتاب الله عز وجل آيتان ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما واستغفر الله عز وجل إلا غفر الله تعالى له وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية وقوله عز وجل ومن يعمل سوءاً أو يظلم به ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وقال عز وجل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا وقال تعالى والمستغفرين بالأسحار وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ الله عز وجل لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضيق مخرجا وارزقه مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتُوبُ إليه في اليوم سبعين مرة (3) هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقال صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي حتى إني لأستغفر الله تعالى في كل يوم مائة مرة (4) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر أو عدد رمل عالج أو عدد ورق الشجر أو عدد أيام الدنيا (5) وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر من قال ذلك غفرت ذنوبه وإن كان فاراً من الزحف (6) وقال حذيفة كنت ذرب اللسان على أهلي فقلت يا رسول الله لقد خشيت أن يدخلني لساني النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأين أنت من الاستغفار فإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة (7) وقالت عائشة رضي الله عنها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار (8) وكان صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أنت التواب الرحيم أخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود وقال صحيح إن كان أبو عبيدة سمع من أبيه والحديث متفق عليه من حديث عائشة أنه كان يكثر أن يقول ذلك في ركوعه وسجوده دون قوله إنك أنت التواب الرحيم
(2) حديث مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ من كل هم فرجا ومن كل غم مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث ابن عباس وضعفه ابن حبان
(3) حديث إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة إلا أنه قال أكثر من سبعين وهو في الدعاء للطبراني كما ذكره المصنف
(4) حديث إنه ليغان على قلبي حتى إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة أخرجه مسلم من حديث الأغر
(5) حديث من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن الوليد الوصافي قلت الوصافي وإن كان ضعيفا فقد تابعه عليه عصام بن قدامة وهو ثقة ورواه البخاري في التاريخ دون قوله حين يأوي إلى فراشه وقوله ثلاث مرات
(6) حديث من قال ذلك غفرت ذنوبه وإن كان فاراً من الزحف أخرجه أبو داود والترمذي من حديث زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقال غريب قلت ورجاله موثقون ورواه ابن مسعود والحاكم من حديث ابن مسعود وقال صحيح على شرط الشيخين
(7) حديث حذيفة كنت ذرب اللسان على أهلي الحديث وفيه أين أنت من الاستغفار أخرجه النسائي في اليوم والليلة وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين
(8) حديث عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار متفق عليه دون قوله فإن التوبة الخ وزاد أو توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه وللطبراني في الدعاء فإن العبد إذا أذنب ثم استغفر الله غفر له(1/311)
يقول في الاستغفار اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ على كل شيء قدير (1) وقال علي رضي الله عنه كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله عز وجل بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف صدقته قال وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ثم تلا قوله عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أنفسهم (2) الآية وروى أبو هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها فإن زاد زادت حتى تغلف قلبه (3) فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل في كتابه {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يكسبون} وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله سبحانه ليرفع الدرجة للعبد في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه فيقول عز وجل باستغفار ولدك لك (4) وروت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا (5) وقال صلى الله عليه وسلم إذا أذنب العبد ذنباً فقال اللهم اغفر لي فيقول الله عز وجل أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب عبدي اعمل ما شئت فقد غفرت لك (6) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَرَّ مَنِ استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة (7) وقال صلى الله عليه وسلم إن رجلاً لم يعمل خيراً قط نظر إلى السماء فقال إن لي رباً يا رب فاغفر لي فقال الله عز وجل قد غفرت لك (8) وقال صلى الله عليه وسلم من أذنب ذنباً فعلم أن الله قد اطلع عليه غفر له وإن لم يستغفر (9) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم ومن علم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له وَلَا أُبَالِي (10) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءاً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت غفرت له ذنوبه ولو كانت كمدب النمل (11) وروى
_________
(1) حديث كان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي متفق عليه من حديث أبي موسى واللفظ لمسلم
(2) حديث علي عن أبي بكر ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له أخرجه أصحاب السنن وحسنه الترمذي
(3) حديث أبي هريرة إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه الحديث أخرجه الترمذي وصححه والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه وابن حبان والحاكم
(4) حديث أبي هريرة إن الله ليرفع العبد الدرجة في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه فيقول باستغفار ولدك لك رواه أحمد بإسناد حسن
(5) حديث عائشة اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا أخرجه ابن ماجه وفيه علي بن زيد بن جدعان مختلف فيه
(6) حديث إذا أذنب العبد فقال اللهم اغفر لي يقول الله أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(7) حديث ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر وقال غريب وليس إسناده بالقوي
(8) حديث إن رجلاً لم يعمل خيراً قط نظر إلى السماء فقال إن لي ربا يا رب اغفر لي فقال الله تعالى قد غفرت لك لم أقف له على أصل
(9) حديث من أذنب فعلم أن الله قد اطلع عليه غفر له وإن لم يستغفر أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
(10) حديث يقول الله يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم ومن علم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر وقال الترمذي حسن وأصله عند مسلم بلفظ آخر
(11) حديث من قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءاً فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت غفرت ذنوبه وإن كانت كمدب النمل أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كان عليك كعدد النمل أو كعدد الذر ذنوبا غفرها الله لك فذكره بزيادة لا إله إلا أنت في أوله وفيه ابن لهيعة(1/312)
إن أفضل الاستغفار اللهم أنت ربي وأنا عبدك خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وابوء على نفسي بذنبي فقد ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي ما قدمت منها وما أخرت فإنه لا يغفر الذنوب جميعا إلا أنت (1) والآثار قال خالد بن معدان يقول الله عز وجل إن أحب عبادي إلي المتحابون بحبي والمتعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت أهل الأرض بعقوبة ذكرتهم فتركتهم وصرفت العقوبة عنهم
وقال قتادة رحمه الله القرآن يدلكم عن دائكم ودوائكم أما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار وقال علي كرم الله وجهه العجب ممن يهلك ومعه النجاة قيل وما هي قال الاستغفار وكان يقول ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه
وقال الفضيل قول العبد أستغفر الله تفسيرها أقلني وقال بعض العلماء العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الحمد والاستغفار وقال الربيع بن خيثم رحمه الله لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنباً وكذباً إن لم يفعل ولكن ليقل اللهم اغفر لي وتب علي
قال الفضيل رحمه الله الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين وقالت رابعة العدوية رَحِمَهَا اللَّهُ اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى استغفار كثير
قال بعض الحكماء من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئاً بالله عز وجل وهو لا يعلم وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول اللهم إن استغفاري مع إصراري للؤم وإن تركي استغفارك مع علمي بسعة عفوك لعجز فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك يا من إذا وعد وفى وإذا أوعد عفا أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين وقال أبو عبد الله الوراق لو كان عليك مثل عدد القطر وزبد البحر ذنوباً لمحيت عنك إذا دعوت ربك بهذا الدعاء مخلصاً إن شاء الله تعالى اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه وأستغفرك من كل ما وعدتك به من نفسي ولم أوف لك به وأستغفرك من كل عمل أرد به وجهك فخالطه غيرك واستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كل ذنب أتيته في ضياء النهار وسواد الليل في ملأ أو خلاء وسر وعلانية يا حليم ويقال إنه استغفار آدم عليه السلام وقيل الخضر عليه الصلاة والسلام
الباب الثالث في أدعية مأثورة ومعزية إلى أسبابها وأربابها مما يستحب أن يدعو بها المرء صباحاً ومساء وبعقب كل صلاة
فمنها دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر قال ابن عباس رضي الله عنهما بعثني العباس إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته ممسياً وهو في بيت خالتي ميمونة فقام يصلي من الليل فلما صلى ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح قال اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي وترد بها الفتن عني وتصلح بها ديني وتحفظ بها غائبي وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتبيض بها وجهي وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء
اللهم أعطني إيماناً صادقاً ويقيناً ليس بعده كفر ورحمة أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء ومرافقة الأنبياء
اللهم إني
_________
(1) حديث أفضل الاستغفار اللهم أنت ربي وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت الحديث أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس دون قوله وقد ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ودون قوله ذنوبي ما قدمت منها وما أخرت ودون قوله جميعا(1/313)
أنزل بك حاجتي وإن ضعف رأيي وقلت حيلتي وقصر عملي وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا كافي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور
اللهم ما قصر عنه رأيي وضعف عنه عملي ولم تبلغه نيتي وأمنيتي من خير وعدته أحداً من عبادك أو خير أنت معطيه أحداً من خلقك فإني أرغب إليك فيه وأسألكه يا رب العالمين
اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين حرباً لأعدائك وسلماً لأوليائك نحبب بحبك من أطاعك من خلقك ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك
اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ذي الحبل الشديد والأمر الرشيد أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد
سبحان الذي لبس العز وقال به سبحان الذي تعطف بالمجد وتكرم به سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان ذي الفضل والنعم سبحان ذي العزة والكرم سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه
اللهم اجعل لي نوراً في قلبي ونوراً في قبري ونوراً في سمعي ونوراً في بصري ونوراً في شعري ونوراً في بشري ونوراً في لحمي ونوراً في دمي ونوراً في عظامي ونوراً من بين يدي ونوراً من خلفي ونوراً عن يميني ونوراً عن شمالي ونوراً من فوقي ونوراً من تحتي اللهم زدني نوراً وأعطني نوراً واجعل لي نوراً (1)
دعاء عائشة رضي الله عنها
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها عليك بالجوامع الكوامل قولي اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت وما لم أعلم وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قول وعمل وأسألك من الخير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وأستعيذك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً برحمتك يا أرحم الراحمين (2)
دعاء فاطمة رضي الله عنها
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا فاطمة ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي يا
حي يا قيوم برحمتك أستغيث لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله (3)
دعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك وعيسى كلمتك وروحك وبتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث ابن عباس اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي الحديث أخرجه الترمذي وقال غريب ولم يذكر في أوله بعث العباس لابنه عبد الله ولا نومه في بيت ميمونة وهو بهذه الزيادة في الدعاء للطبراني
(2) حديث قوله لعائشة عليك بالجوامع الكوامل قولي اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه من حديثها
(3) حديث يا فاطمة ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله أخرجه النسائي في اليوم والليلة والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين(1/314)
وعليهم أجمعين وبكل وحي أوحيته أو قضاء قضيته أو سائل أعطيته أو غني أفقرته أو فقير أغنيته أو ضال هديته وأسألك باسمك الذي أنزلته على موسى صلى الله عليه وسلم وأسألك باسمك الذي بثثت به أرزاق العباد وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت وأسألك باسمك الذي وضعته على السموات فاستقلت وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فرست وأسالك باسمك الذي استقل به عرشك وأسألك باسمك الطهر الطاهر الأحد الصمد الوتر المنزل في كتابك من لدنك من النور المبين وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار وعلى الليل فأظلم وبعظمتك وكبريائك وبنور وجهك الكريم أن ترزقني القرآن والعلم به وتخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري وتستعمل به جسدي بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين (1)
دعاء بريدة الأسلمي رضي الله عنه
وروي أنه قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يا بريدة ألا أعلمك كلمات من أراد بهن خيراً علمهن إياه ثم لم ينسهن إياه أبداً قال فقلت بلى يا رسول الله قال قل اللهم إني ضعيف فقو في رضاك ضعفي وخذ إلى الخير بناصيتي واجعل الإسلام منتهى رضاي اللهم إني ضعيف فقوني وإني ذليل فأعزني وإني فقير فأغنني يا أرحم الراحمين (2)
دعاء قبيصة بن المخارق
إذ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمني كلمات ينفعني الله عز وجل بها فقد كبر سني وعجزت عن أشياء كثيرة كنت أعملها فقال صلى الله عليه وسلم أما لدنياك فإذا صليت الغداة فقل ثلاث مرات سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فإنك إذا قلتهن أمنت من الغم والجذام والبرص والفالج وأما لآخرتك فقل اللهم اهدني من عندك وأفض علي من فضلك وانشر علي من رحمتك وأنزل علي من بركاتك ثم قال صلى الله عليه وسلم أما إنه إذا وافى بهن عبد يوم القيامة لم يدعهن فتح له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء (3)
دعاء أبي الدرداء رضي الله عنه
قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه قد احترقت دارك وكانت النار قد وقعت في محلته فقال ما كان الله ليفعل ذلك فقيل له ذلك ثلاثاً وهو يقول ما كان الله ليفعل ذلك ثم أتاه آت فقال يا أبا الدرداء إن النار حين دنت من دارك طفئت قال قد علمت ذلك فقيل له ما ندري أي قوليك أعجب قال إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من يقول هؤلاء الكلمات في ليل أو نهار لم يضره شيء وقد قلتهن وهي اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً وأحصى كل شيء عدداً اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي
_________
(1) حديث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك وعيسى كلمتك الحديث في الدعاء لحفظ القرآن رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من رواية عبد الملك بن هارون بن عبثرة عن أبيه أن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أتعلم القرآن وينفلت مني فذكره وعبد الملك وأبوه ضعيفان وهو منقطع بين هارون وأبي بكر
(2) حديث يا بريدة ألا أعلمك كلمات من أراد الله به خيراً علمهن إياه الحديث أخرجه الحاكم من حديث بريدة وقال صحيح الإسناد
(3) حديث إن قبيصة بن المخارق قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمني كلمات ينفعني الله بها فقد كبرت سني وعجزت الحديث أخرجه ابن السني في اليوم والليلة من حديث ابن عباس وهو عند أحمد في المسند مختصرا من حديث قبيصة نفسه وفيه رجل لم يسم(1/315)
ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (1)
دعاء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام
كان يقول إذا أصبح اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم قال ومن دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه
دعاء عيسى عليه الصلاة والسلام
كان يقول اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيد غيري وأصبحت مرتهناً بعملي فلا فقير أفقر مني اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا تسلط علي من لا يرحمني يا حي يا قيوم
دعاء الخضر عليه السلام
يقال إن الخضر وإلياس عليهما السلام إذا التقيا في كل موسم لم يفترقا إلا عن هذه الكلمات بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله فمن قالها ثلاث مرات إذا أصبح أمن من الحرق والغرق والسرق إن شاء الله تعالى
دعاء معروف الكرخي رضي الله عنه
قال محمد بن حسان قال لي معروف الكرخي رحمه الله ألا أعلمك عشر كلمات خمس للدنيا وخمس للآخرة من دعا الله عز وجل بهن وجد الله تعالى عندهن قلت اكتبها لي قال لا ولكن أرددها عليك كما رددها علي بكر بن خنيس رحمه الله حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله الكريم لما أهمني حسبي الله الحليم القوي لمن بغى علي حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء حسبي الله الرحيم عند الموت حسبي الله الرؤوف عند المسألة في القبر حسبي الله الكريم عند الحساب حسبي الله اللطيف عند الميزان حسبي الله القدير عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقد روي عن أبي الدرداء أنه قال من قال في كل يوم سبع مرات فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم كفاه الله عز وجل ما أهمه من أمر آخرته صادقاً كان أو كاذباً
دعاء عتبة الغلام
وقد رؤي في المنام بعد موته فقال دخلت الجنة بهذه الكلمات اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين ويا مقيل عثرات العاثرين ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين واجعلنا مع الأخيار المرزوقين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين
دعاء آدم عليه الصلاة والسلام
قالت عائشة رضي الله عنها لما اراد الله عز وجل أن يتوب على آدم صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا
_________
(1) حديث قيل لأبي الدرداء أحرقت دارك فقال ما كان الله ليفعل ذلك الحديث أخرجه الطبراني في الدعاء من حديث أبي الدرداء ضعيف(1/316)
وهو يومئذ ليس بمبني ربوة حمراء ثم قام فصلى ركعتين ثم قال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته علي والرضا بما قسمته لي يا ذا الجلال والإكرام فأوحى الله عز وجل إليه إني قد غفرت لك ولم يأتني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت له وكشفت غمومه وهمومه ونزعت الفقر من بين عينيه واتجرت له من وراء كل تاجر وجاءته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها دعاء عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
رواه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إن الله تعالى يمجد نفسه كل يوم ويقول إني أنا الله رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم إني أنا الله لا إله إلا أنا العلي العظيم إني أنا الله لا إله إلا أنا لم ألد ولم أولد إني أنا الله لا إله إلا أنا العفو الغفور إني أنا الله لا إله إلا أنا مبدىء كل شيء وإلي يعود العزيز الحكيم الرحمن الرحيم مالك يوم الدين خالق الخير والشر خالق الجنة والنار الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً الفرد الوتر عالم الغيب والشهادة الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ المتكبر الخالق البارىء المصور الكبير المتعال المقتدر القهار الحليم الكريم أهل الثناء والمجد أعلم السر وأخفى القادر الرزاق فوق الخلق والخليقة (1) وذكر قبل كل كلمة إني أنا الله لا إله إلا أنا كما أوردناه في الأول فمن دعا بهذه الأسماء فليقل إنك أنت الله لا إله إلا أنت كذا وكذا فمن دعا بهن كتب من الساجدين المخبتين الذين يجاورون محمداً وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين صلوات الله عليهم في دار الجلال وله ثواب العابدين في السموات والأرضين وصلى الله على محمد وعلى كل عبد مصطفى
دعاء ابن المعتمر وهو سليمان التيمي وتسبيحاته رضي الله عنه
روي أن يونس بن عبيد رأى رجلاً في المنام ممن قتل شهيداً ببلاد الروم فقال ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال قال رأيت تسبيحات ابن المعتمر من الله عز وجل بمكان وهي هذه سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ عد ما خلق وعدد ما هو خالق وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق وملء ما خلق وملء ما هو خالق وملء سمواته وملء أرضه ومثل ذلك وأضعاف ذلك وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ رضاه حتى يرضى وإذا رضي وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات وشم ونفس من الأنفاس وأبد من الآباد من أبد إلى أبد أبد الدنيا وأبد الآخرة وأكثر من ذلك لا ينقطع أوله ولاينفد آخره
دعاء إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه
روى إبراهيم بن بشار خادمه أنه كان يقول هذا الدعاء في كل يوم جمعة إذا أصبح وإذا أمسى مرحباً بيوم المزيد والصبح الجديد والكاتب والشهيد يومنا هذا يوم عيد اكتب لنا فيه ما نقول بسم الله الحميد المجيد الرفيع الودود الفعال في خلقه ما يريد أصبحت بالله مؤمناً وبلقائه مصدقاً وبحجته معترفاً ومن ذنبي مستغفراً ولربوبية الله خاضعا
_________
(1) حديث على أن الله تعالى يمجد نفسه كل يوم فيقول إني أنا الله رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم الحديث بطوله لم أجد له أصلا(1/317)
ولسوى الله في الآلهة جاحداً وإلى الله فقيراً وعلى الله متكلاً وإلى الله منيباً أشهد الله وأشهد ملائكته وأنبيائه ورسله وحملة عرشه ومن خلقه ومن هو خالقه بأنه هو الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن الجنة حق وأن النار حق والحوض حق والشفاعة حق ومنكراً ونكيراً حق ووعدك حق ووعيدك حق ولقاءك حق والساعة آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ من في القبور على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك اللهم من شر ما صنعت ومن شر كل ذي شر
اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك أنا لك وإليك أستغفرك وأتوب إليك آمنت اللهم بما أرسلته من رسول وآمنت اللهم بما أنزلت من كتاب وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً خاتم كلامي ومفتاحه وعلى أنبيائه ورسله أجمعين آمين يا رب العالمين
اللهم أوردنا حوض محمد واسقنا بكأسه مشربا رويا سائغا هنيا لا نظمأ بعده أبداً واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ناكثين للعهد ولا مرتابين ولا مفتونين ولا مغضوب علينا ولا ضالين
اللهم اعصمني من فتن الدنيا ووفقني لما تحب وترضى وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تضلني وإن كنت ظالماً سبحانك سبحانك يا علي يا عظيم يا بارىء يا رحيم يا عزيز يا جبار سبحان من سبحت له السموات بأكنافها وسبحان من سبحت له البحار بأمواجها وسبحان من سبحت له الجبال بأصدائها وسبحان من سبحت له الحيتان بلغاتها وسبحان من سبحت له النجوم في السماء بأبراجها وسبحان من سبحت له الأشجار بأصولها وثمارها وسبحان من سبحت له السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن سبحان من سبح له كل شيء من مخلوقاته تباركت وتعاليت سبحانك سبحانك يا حي يا قيوم يا عليم يا حليم سبحانك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك تحيي وتميت وأنت حي لا تموت بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير
الباب الرابع في أدعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم
محذوفة الأسانيد منتخبة من جملة ما جمعة أبو طالب المكي وابن خزيمة وابن منذر رحمهم الله
يستحب للمريد إذا أصبح أن يكون أحب أوراده الدعاء كما سيأتي ذكره في كتاب الأوراد فإن كنت من المريدين لحرث الآخرة المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دعا به فقل في مفتتح دعواتك (1) أعقاب صلواتك (2) سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل شيء قدير وقل رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً (3) ثلاث مرات وقل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه (4) وقل اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي وأقل
_________
(1) حديث افتتاح الدعاء بسبحان ربي العلي الأعلى الوهاب تقدم في الباب الثاني في الدعاء
(2) حديث القول عقب الصلوات لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل شيء قدير متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة
(3) حديث رضيت بالله ربا الحديث تقدم في الباب الأول من الأذكار
(4) حديث اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة أن أبا بكر الصديق قال يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت قال قل اللهم فذكره(1/318)
عثراتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي (1) اللهم لا تؤمني مكرك ولا تولني غيرك ولا تنزع عني سترك ولا تنسني ذكرك ولا تجعلني من الغافلين (2) وقل اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (3) ثلاث مرات وقل اللهم عافني في بدني وعافني في سمعي وعافني في بصري لا إله إلا أنت (4) ثلاث مرات وقل اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم وشوقاً إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأعوذ بك أن أظلم أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى علي أو أكسب خطيئة أو ذنباً لا تغفره (5) اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلباً خاشعاً سليماً وخلقاً مستقيماً ولساناً صادقاً وعملاً متقبلاً وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم فإنك تعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب (6) اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ به مني فإنك أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء قدير وعلى كل غيب شهيد (7) اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين الأبد ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد (8) اللهم إني أسألك الطيبات وفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين أسألك حبك وحب من أحبك وحب كل عمل يقرب إلي حبك وأن تتوب علي وتغفر لي وترحمني وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون (9) اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة واللهم زينا
_________
(1) حديث اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عورتي وآمن روعتي وأقل عثرتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر قال لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح
(2) حديث اللهم لا تؤمني مكرك ولا تولني غيرك ولا ترفع عني سترك ولا تنسني ذكرك ولا تجعلني من الغافلين رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس دون قوله ولا تولني غيرك وإسناده ضعيف
(3) حديث اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس وقد تقدم
(4) حديث اللهم عافني في بدني وعافني في سمعي وعافني في بصري لا إله إلا أنت ثلاث مرات أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة من حديث أبي بكرة وقال النسائي جعفر بن ميمون ليس بالقوي
(5) حديث اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء الحديث إلى قوله أو ذنبا لا يغفر أخرجه أحمد والحاكم من حديث زيد بن ثابت في أثناء حديث وقال صحيح الإسناد
(6) حديث اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد الحديث إلى قوله وأنت علام الغيوب أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه من حديث شداد بن أوس قلت بل هو منقطع وضعيف
(7) حديث اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وما أسررت وما أعلنت الحديث إلى قوله وعلى كل غيب شهيد متفق عليه من حديث أبي موسى دون قوله وعلى كل غيب شهيد وقد تقدم في الباب الثاني من هذا الكتاب
(8) حديث اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين الأبد الحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود دون قوله وقرة عين الأبد وقال صحيح الإسناد والنسائي من حديث عمار بن ياسر بإسناد جيد وأسألك نعيما لا يبيد وقرة عين لا تنقطع
(9) حديث اللهم إني أسألك الطيبات وفعل الخيرات الحديث إلى قوله غير مفتون أخرجه الترمذي من حديث معاذ اللهم إني أسألك فعل الخيرات الحديث وقال حسن صحيح ولم يذكر {الطيبات} وهي في الدعاء للطبراني من حديث عبد الرحمن بن عايش وقال أبو حاتم ليست له صحبة(1/319)
بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين (1) اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا والآخرة (2) اللهم املأ وجوهنا منك حياء وقلوبنا منك فرقاً واسكن في نفوسنا من عظمتك ما تذلل به جوارحنا لخدمتك واجعلك اللهم أحب إلينا ممن سواك واجعلنا أخشى لك ممن سواك (3) اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخره نجاحاً اللهم اجعل أوله رحمة وأسطه نعمة وآخره تكرمة ومغفرة (4) الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته وذل كل شيء لعزته وخضع كل شيء لملكه واستسلم كل شيء لقدرته والحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته وأظهر كل شيء بحكمته وتصاغر كل شيء لكبريائه (5) اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وأزواج محمد وذريته وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد (6) اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي رسولك الأمين وأعطه المقام المحمود الذي وعدته يوم الدين (7) اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين وعبادك الصالحين واستعملنا لمرضاتك عنا ووفقنا لمحابك منا وصرفنا بحسن اختيارك لنا (8) نسألك جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ونعوذ بك من جوامع الشر وفواتحه وخواتمه (9) اللهم بقدرتك علي تب على إنك أنت التواب الرحيم وبحلمك عني اعف عني إنك أنت الغفار الحليم وبعلمك بي ارفق بي إنك أنت أرحم الراحمين وبملكك لي ملكني نفسي ولا تسلطها علي إنك أنت الملك الجبار (10) سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربي ولا يغفر الذنوب إلا أنت (11) اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي (12) اللهم ارزقني حلالاً لا تعاقبني عليه وقنعني بما رزقتني
_________
(1) حديث اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي الحديث إلى قوله واجعلنا هداة مهتدين أخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث عمار بن ياسر قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به
(2) حديث اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن والنسائي في اليوم والليلة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختم مجلسه بذلك
(3) حديث اللهم املأ وجوهنا منك حياء وقلوبنا بك فرحا الحديث إلى قوله واجعلنا أخشى لك من سواك لم أقف له على أصل
(4) حديث اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخره نجاحاً اللهم اجعل أوله رحمة وأوسطه نعمة وآخره تكرمة أخرجه عبد بن حميد في المنتخب والطبراني من حديث ابن أوفى بالشطر الأول فقط إلى قوله نجاحا وإسناده ضعيف
(5) حديث الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته وذل كل شيء لعزته الحديث إلى قوله وتصاغر كل شيء لكبريائه أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف دون قوله والحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته إلى آخره وكذلك رواه في الدعاء من حديث أم سلمة وسنده ضعيف أيضا
(6) حديث اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته الحديث إلى قوله {حميد مجيد} تقدم في الباب الثاني
(7) حديث اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي رسول الأميين وأعطه المقام المحمود يوم الدين لم أجده بهذا اللفظ مجموعا والبخاري من حديث أبي سعيد اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن مسعود اللهم صل على محمد النبي الأمي والنسائي من حديث جابر وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وهو عند البخاري بلفظ وابعثه مقاما محمودا قال الدارقطني إسناده حسن وقال الحاكم صحيح وقال البيهقي في المعرفة إسناده صحيح
(8) حديث اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين الحديث إلى قوله صرفنا بحسن اختيارك لنا لم أقف له على أصل
(9) حديث نسألك جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ونعوذ بك من جوامع الشر وفواتحه وخواتمه أخرجه الطبراني من حديث أم سلمة أنه كان يدعو بهؤلاء الكلمات فذكر منها اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وأوله وآخره وظاهره وباطنه والدرجات العلى من الجنة آمين فيه عاصم بن عبيد لا أعلم روى عنه إلا موسى بن عقبة
(10) حديث اللهم بقدرتك علي تب علي إنك أنت التواب الرحيم وبحلمك علي اعف عني الحديث إلى قوله إنك الملك الجبار لم أقف له على أصل
(11) حديث سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي أنت ربي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث علي دون قوله ذنبي إنك أنت ربي وقد تقدم في الباب الثاني
(12) حديث اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي أخرجه الترمذي من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لحصين وقال حسن غريب ورواه النسائي في اليوم والليلة والحاكم من حديث حصين والد عمران وقال صحيح على شرط الشيخين(1/320)
واستعملني به صالحاً تقبله مني (1) اللهم إني أسألك العفو والعافية وحسن اليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة (2) يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة هب لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين
أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة وقنا عذاب النار ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان إلى قوله عز وجل إنك لا تخلف الميعاد ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا إلى آخر السورة (3) رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات (4) رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وأنت خير الراحمين وأنت خير الغافرين وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (5)
أنواع الاستعاذة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم
اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى ارذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر (6) اللهم إني أعوذ بك من طبع يهدي إلى طمع ومن طمع في غير مطمع ومن
_________
(1) حديث اللهم ارزقني حلالاً لا تعاقبني فيه وقنعني بما رزقتني واستعملني به صالحاً تقبله مني أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه وأخلف علي كل غائبة لي بخير وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه
(2) حديث اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة وحسن اليقين في الدنيا والآخرة أخرجه النسائي من حديث أبي بكر الصديق بلفظ سلوا الله المعافاة فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة وفي رواية للبيهقي سلوا الله العفو والعافية واليقين في الأولى والآخرة فإنه ما أوتي العبد بعد اليقين خيرا من العافية وفي رواية لأحمد أسأل الله العفو والعافية
(3) حديث يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة هب لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بسند ضعيف
(4) حديث رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن من حديث أبي أسيد الساعدي قال رجل من بني سلمة هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ قال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما الحديث ولأبي الشيخ ابن حبان في الثواب والمستغفري في الدعوات من حديث أنس من استغفر للمؤمنين والمؤمنات رد الله عليه عن كل مؤمن مضى من أول الدهر أو هو كائن إلى يوم القيامة وسنده ضعيف وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي سعيد أيما رجل مسلم لم يكن عنده صدقة فليقل في دعائه اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وصل على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات فإنها زكاة
(5) حديث رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وأنت خير الراحمين وخير الغافرين أخرجه أحمد من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم وفيه علي بن زيد بن جدعان مختلف فيه وللطبراني في الدعاء من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سعى في بطن المسيل اللهم اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه ورواه موقوفا عليه بسند صحيح
(6) حديث اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر أخرجه البخاري من حديث سعيد بن أبي وقاص(1/321)
طمع حيث لا مطمع (1) اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع ونفس لا تشبع وأعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة ومن الكسل والبخل والجبن والهرم ومن أن أرد إلى ارذل العمر ومن فتنة الدجال وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات اللهم إنا نسألك قلوباً أواهة مخبتة منيبة في سبيلك اللهم إني أسألك عزائم مغفرتك وموجبات رحمتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار (2) اللهم إني أعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغم والغرق والهدم وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك من أن أموت في تطلب الدنيا (3) اللهم إني أعوذ بك شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم (4) اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأدواء والأهواء (5) اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء (6) اللهم إني أعوذ بك من الكفر والدين والفقر وأعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة الدجال (7) اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وشر لساني وقلبي وشر منيي (8) اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول (9) اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة وأعوذ بك من الكفر والفقر والفسوق والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وضيق الأرزاق والسمعة والرياء وأعوذ بك من الصمم والبكم والعمى والجنون والجذام والبرص وسيىء الأسقام (10) اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ومن تحول عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن جميع سخطك (11) اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وعذاب القبر وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر وشر فتنة
_________
(1) حديث اللهم إني أعوذ بك من طبع يهدي إلى طمع وطمع في غير مطمع ومن طمع حيث لا مطمع أخرجه أحمد والحاكم من حديث معاذ وقال مستقيم الإسناد
(2) حديث اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لايسمع الحديث إلى قوله والنجاة من النار أخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود وقال صحيح الإسناد وليس كما قال إلا أنه ورد مفرقا في أحاديث جيدة الأسانيد
(3) حديث اللهم إني أعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغم الحديث إلى قوله وأعوذ بك أن أموت في تطلب الدنيا أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصحح إسناده من حديث أبي اليسر واسمه كعب بن عمر بزيادة فيه دون قوله وأعوذ بك أن أموت في تطلب دنيا وتقدم من عند البخاري الاستعاذة من فتنة الدنيا
(4) حديث اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم قلت هكذا في غير نسخة علمت وإنما هو عملت وأعمل كذا رواه مسلم من حديث عائشة ولأبي بكر بن الضحاك في الشمائل في حديث مرسل في الاستعاذة وفيه وشر ما لم أعمل وشر ما لم أعلم
(5) حديث اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأدواء والأهواء أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه واللفظ له من حديث قطبة بن مالك
(6) حديث اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء متفق عليه من حديث أبي هريرة
(7) حديث اللهم إني أعوذ بك من الكفر والدين والفقر وأعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة الدجال أخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث أبي سعيد الخدري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول من الكفر والدين وفي رواية للنسائي من الكفر والفقر ولمسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم وفتنة الدجال وللشيخين من حديث عائشة في حديث قال فيه ومن شر فتنة المسيح الدجال
(8) حديث اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وقلبي وشر منيي أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه الحاكم وصحح إسناده من حديث سهل بن حميد
(9) حديث اللهم إني أعوذ بك من جاء السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول أخرجه النسائي والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط مسلم
(10) حديث اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة وأعوذ بك من الفقر والكفر والفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون والجذام والبرص وسيىء الأسقام أخرجه أبو داود والنسائي مقتصرين على الأربعة الأخيرة والحاكم بتمامه من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين
(11) حديث اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك ومن جميع سخطك أخرجه مسلم من حديث ابن عمر(1/322)
المسيح الدجال وأعوذ بك من المغرم والمأثم (1) اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع وقلب لا يخشع وصلاة لا تنفع ودعوة لا تستجاب وأعوذ بك من شر الغم وفتنة الصدر (2) اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء (3) وصلى الله على محمد وعلى كل عبد مصطفى من كل العالمين آمين
الباب الخامس في الأدعية المأثورة عند حدوث كل حادث من الحوادث
إذا أصبحت وسمعت الأذان فيستحب لك جواب المؤذن وقد ذكرناه وذكرنا أدعية دخول الخلاء والخروج منه وأدعية الوضوء في كتاب الطهارة فإذا خرجت إلى المسجد فقل اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً واجعل في سمعي نوراً واجعل في بصري نوراً واجعل خلفي نوراً وأمامي نوراً واجعل من فوقي نوراً اللهم أعطني (4) نوراً وقل أيضاً اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك (5) فإني لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
فإن خرجت من المنزل لحاجة فقل بسم الله رب أعوذ بك أن أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ علي (6) بسم الله الرحمن الرحيم لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ بسم الله التكلان على الله (7)
فإذا انتهيت إلى المسجد تريد دخوله فقل اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وسلم اللهم اغفر لي جميع ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك (8) وقدم رجلك اليمنى في الدخول فإذا رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع فقل لا أربح الله تجارتك (9) وإذا رأيت من ينشد ضالة في المسجد فقل لا ردها الله عليك أمر به رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (10) فَإِذَا صليت ركعتي الصبح فقل بسم الله اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي الدعاء إلى آخره (11)
_________
(1) حديث اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وعذاب القبر وفتنة القبر وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر وشر فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من المأثم والمغرم متفق عليه من حديث عائشة
(2) حديث اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع وقلب لا يخشع وصلاة لا تنفع ودعوة لا تستجاب وأعوذ بك من سوء العمر وفتنة الصدر أخرجه مسلم من حديث زيد بن أرقم في أثناء حديث اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ونفس لا تشبع وعمل لا يرفع ودعوة لا يستجاب لها وصلاة لا تنفع وشك أبو المعتمر في سماعه من أنس وللنسائي بإسناد جيد من حديث عمر في أثناء حديث {وأعوذ بك} وأبو داود من حديث أنس اللهم إني أعوذ بك من سوء العمر وأعوذ بك من فتنة الصدر
(3) حديث اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء أخرجه النسائي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو وقال صحيح على شرط مسلم
(4) حديث القول عند الخروج إلى المسجد اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس
(5) حديث اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك الحديث من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد حسن
(6) حديث القول عند الخروج من المنزل لحاجته بسم الله رب أعوذ بك أن أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ علي أخرجه أصحاب السنن من حديث أم سلمة قال الترمذي حسن صحيح
(7) حديث بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله التكلان على الله أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من منزله قال بسم الله فذكره إلا أنه لم يقل {الرحمن الرحيم} وفيه ضعف
(8) حديث القول عند دخول المسجد اللهم صل على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي حسن وليس إسناده بمتصل ولمسلم من حديث أبي حميد أو أبي أسيد إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وزاد أبو داود في أوله فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
(9) حديث القول إذا رأى من يبيع أو يبتاع في المسجد لا أربح الله تجارتك أخرجه الترمذي وقال حسن غريب والنسائي في اليوم والليلة من حديث أبي هريرة
(10) حديث القول إذا رأى من ينشد ضالة في المسجد لا ردها الله عليك أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(11) حديث ابن عباس في القول بعد ركعتي الصبح اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي الخ قد تقدم في الدعاء(1/323)
كما أوردناه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ركعت فقل في ركوعك اللهم لك ركعت ولك خشعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين (1) وإن أحببت فقل سبحان ربي العظيم ثلاث مرات (2) أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح (3) فإذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (4) وإذا سجدت فقل اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين اللهم سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي وهذا ما جنيت على نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (5) أو تقول سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات (6) فإذا فرغت من الصلاة فقل اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (7) وتدعو بسائر الأدعية التي ذكرناها
فإذا قمت من المجلس وأردت دعاء يكفر لغو المجلس فقل سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (8)
فإذا دخلت السوق فقل لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير (9) بسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها اللهم إني أعوذ بك من شرها وشر ما فيها اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يميناً فاجرة أو صفقة خاسرة (10)
فإن كان عليك دين فقل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك (11)
فإذا لبست ثوباً جديداً فقل اللهم كسوتني هذا الثوب فلك الحمد أسألك من خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له (12)
وإذا
_________
(1) حديث ابن عباس في القول في الركوع اللهم لك ركعت ولك أسلمت الحديث أخرجه مسلم من حديث علي
(2) حديث القول فيه سبحان ربي العظيم ثلاثاً أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي من حديث ابن مسعود وفيه انقطاع
(3) حديث القول فيه سبوح قدوس رب الملائكة والروح أخرجه مسلم من حديث عائشة
(4) حديث القول عند الرفع من الركوع سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس دون قوله سمع الله لمن حمده فهي في اليوم والليلة للحسن بن علي المعمري وهي عند مسلم من حديث ابن أبي أوفى وعند البخاري من حديث أبي هريرة
(5) حديث القول في السجود اللهم لك سجدت الحديث أخرجه مسلم من حديث علي اللهم سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي وهذا ما جنيت على نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود وقال صحيح الإسناد وليس كما قال بل هو ضعيف
(6) حديث سبحان ربي الأعلى ثلاثاً أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي من حديث ابن مسعود وهو منقطع
(7) حديث القول إذا فرغ من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام أخرجه مسلم من حديث ثوبان
(8) حديث كفارة المجلس سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا أنت أخرجه النسائي في اليوم والليلة من حديث رافع بن خديج بإسناد حسن
(9) حديث القول عند دخول السوق لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير من حديث عمر وقال غريب والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين
(10) حديث بسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها اللهم إني أعوذ بك من شرها وشر ما فيها اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يميناً فاجرة أو صفقة خاسرة أخرجه الحاكم من حديث بريدة وقال أقربها لشرائط هذا الكتاب حديث بريدة قلت فيه أبو عمر جار لشعيب بن حرب ولعله حفص بن سليمان الأسدي مختلف فيه
(11) حديث دعاء الدين اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك أخرجه الترمذي وقال حسن غريب والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث علي بن أبي طالب
(12) حديث الدعاء إذا لبس ثوبا جديدا اللهم كسوتني هذا الثوب فلك الحمد أسألك من خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن والنسائي في اليوم والليلة من حديث أبي سعيد الخدري ورواه ابن السني بلفظ المصنف(1/324)
رأيت شيئاً من الطيرة تكرهه فقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله (1)
وإذا رأيت الهلال فقل اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والبر والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى والحفظ عمن تسخط ربي وربك الله (2) ويقول هلال رشد وخير آمنت بخالقك (3) اللهم إني أسألك خير هذا الشهر وخير القدر وأعوذ بك من شر يوم الحشر (4) وتكبر قبله أولاً ثلاثاً
وإذا هبت الريح فقل اللهم إني أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن شر ما أرسلت به (5)
وإذا بلغك وفاة أحد فقل إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم اكتبه في المحسنين واجعل كتابه في عليين واخلفه على عقبه في الغابرين اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله (6)
وتقول عند التصدق {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}
وتقول عند الخسران {عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون}
وتقول عند ابتداء الأمور ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري
وتقول عند النظر إلى السماء ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً
وإذا سمعت صوت الرعد فقل سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته (7)
فإن رأيت الصواعق فقل اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك (8) قاله كعب
فإذا أمطرت السماء فقل اللهم سقيا هنيئاً وصيباً نافعاً (9) اللهم اجعله صيب رحمة ولا تجعله صيب عذاب (10)
فإذا غضبت فقل اللهم اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي
_________
(1) حديث القول إذا رأى شيئا من الطيرة يكرهه اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بالله أخرجه ابن أبي شيبة وأبو نعيم في اليوم والليلة والبيهقي في الدعوات من حديث عروة بن عامر مرسلا ورجاله ثقات وفي اليوم والليلة لابن السني عن عقبة بن عامر فجعله مسندا
(2) حديث التكبير عند رؤية الهلال ثلاثاً ثم يقول اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله أخرجه الدارمي من حديث ابن عمر إلا أنه أطلق التكبير ولم يقل ثلاثا ورواه الترمذي وحسنه من حديث طلحة بن عبيد الله دون ذكر التكبير وللبيهقي في الدعوات من حديث قتادة مرسلا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رأى الهلال كبر ثلاثا
(3) حديث هلال خير ورشد آمنت بخالقك أخرجه أبو داود مرسلا من حديث قتادة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال هلال خير ورشد هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات وأسنده الدارقطني في الأفراد والطبراني في الأوسط من حديث أنس وقال أبو داود وليس في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مسند صحيح
(4) حديث اللهم إني أسألك خير هذا الشهر وخير القدر وأعوذ بك من شر يوم الحشر أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في مسنديهما من حديث عبادة بن الصامت وفيه من لم يسم بل قال الراوي عنه حدثني من لا أتهم
(5) حديث القول إذا هبت الريح اللهم إني أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي في اليوم والليلة من حديث أبي بن كعب
(6) حديث القول إذا بلغه وفاة أحد إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم اكتبه من المحسنين واجعل كتابه في عليين واخلفه على عقبه في الغابرين اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله أخرجه ابن السني في اليوم والليلة وابن حبان من حديث أم سلمة إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون ولمسلم من حديثها اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه
(7) حديث القول إذا سمع صوت الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن الزبير موقوفا ولم أجده مرفوعا
(8) حديث القول عند الصواعق اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك أخرجه الترمذي وقال غريب والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن عمر وابن السني بإسناد حسن
(9) حديث القول عند المطر اللهم سقيا هنيئا وصيبا نافعا أخرجه البخاري من حديث عائشة كان إذا رأى المطر قال اللهم اجعله صيبا نافعا وابن ماجه سيبا بالسين أوله والنسائي في اليوم والليلة اللهم اجعله صيبا هنيئا وإسنادهما صحيح
(10) حديث اللهم اجعله صيب رحمة ولا تجعله صيب عذاب أخرجه النسائي في اليوم والليلة من حديث سعيد بن المسيب مرسلا(1/325)
وأجرني من الشيطان الرجيم (1)
فإذا خفت قوماً فقل اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم (2)
فإذا غزوت فقل اللهم أنت عضدي ونصيري وبك أقاتل (3)
وإذا طنت أذنك فصل على محمد صلى الله عليه وسلم وقل ذكر الله من ذكرني بخير (4)
فإذا رأيت استجابة دعائك فقل الحمد لله الذي بعزته وجلاله تتم الصالحات
وإذا أبطأت فقل الحمد لله على كل حال (5)
وإذا سمعت أذان المغرب فقل اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك أسألك أن تغفر لي (6)
وإذا أصابك هم فقل اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء غمي وذهاب حزني وهمي (7) قال صلى الله عليه وسلم ما أصاب أحداً حزن فقال ذلك إلا أذهب الله همه وأبدله مكانه فرحاً فقيل له يا رسول الله أفلا نتعلمها فقال صلى الله عليه وسلم بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها
وإذا وجدت وجعاً في جسدك أو جسد غيرك فارقة برقية رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا اشتكى الإنسان قرحة أو جرحاً وضع سبابته على الأرض ثم رفعها وقال بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا (8)
وإذا وجدت وجعاً في جسدك فضع يدك على الذي يتألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أجد وأحاذر (9)
فإذا أصابك كرب فقل لا إله إلا الله العلي الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم (10)
فإن أردت النوم فتوضأ أولاً ثم توسد على يمينك مستقبل القبلة ثم كبر الله تعالى أربعاً وثلاثين وسبحه ثلاثاً وثلاثين واحمده ثلاثاً وثلاثين (11) ثم قل اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك اللهم إني لا أستطيع أن أبلغ ثناء عليك ولو حرصت ولكن أنت كما أثنيت على نفسك (12) اللهم باسمك أحيا وأموت (13) اللهم رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء ومليكه فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل
_________
(1) حديث القول إذا غضب اللهم اغفر ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من الشيطان الرجيم أخرجه ابن السني في اليوم والليلة من حديث عائشة بسند ضعيف
(2) حديث القول إذا خاف قوما اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من شرورهم أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة من حديث أبي موسى بسند صحيح
(3) حديث القول إذا غزا اللهم أنت عضدي ونصيري بك أقاتل أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أنس قال الترمذي حسن غريب
(4) حديث القول عند طنين الأذن اللهم صل على محمد ذكر الله بخير من ذكرني أخرجه الطبراني وابن عدي وابن السني في اليوم والليلة من حديث أبي رافع بسند ضعيف
(5) حديث القول إذا رأى استجابة دعائه الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات تقدم في الدعاء
(6) حديث القول إذا سمع أذان المغرب اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك وحضور صلواتك أسألك أن تغفر لي أخرجه الترمذي وأبو داود وقال غريب والحاكم من حديث أم سلمة دون قوله وحضور صلواتك فإنها عند الخرائطي في مكارم الأخلاق والحسن بن علي المعمري في اليوم والليلة
(7) حديث القول إذا أصابه هم اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك الحديث أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث ابن مسعود وقال صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن عن أبيه فإنه مختلف في سماعه من أبيه
(8) حديث رقية رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا متفق عليه من حديث عائشة
(9) حديث وضع يده على الذي يألم من جسده ويقول بسم الله ثلاثا ويقول أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أجد وأحاذر سبع مرات أخرجه مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص
(10) حديث دعاء الكرب لا إله إلا الله العلي الحليم الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس
(11) حديث التكبير عند النوم أربعا وثلاثين والتسبيح ثلاثا وثلاثين والتحميد ثلاثا وثلاثين متفق عليه من حديث علي
(12) حديث القول عند إرادة النوم اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك اللهم لا أستطيع أن أبلغ ثناء عليك ولو حرصت ولكن أنت كما أثنيت على نفسك أخرجه النسائي في اليوم والليلة من حديث علي وفيه انقطاع
(13) حديث اللهم باسمك أحيا وأموت أخرجه البخاري من حديث حذيفة ومسلم من حديث البراء(1/326)
والقرآن أعوذ بك من شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر (1) اللهم إنك خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها اللهم إن أمتها فاغفر لها وإن أحييتها فاحفظها اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة (2) باسمك ربي وضعت جنبي فاغفر لي ذنبي (3) اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك (4) اللهم أسلمت لك نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك والجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت (5)
ويكون هذا آخر دعائك فقد أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وليقل قبل ذلك اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك واستعملني بأحب الأعمال إليك تقربني إليك زلفى وتبعدني من سخطك بعداً أسألك فتعطيني وأستغفرك فتغفر لي وأدعوك فتستجيب لي (6)
فإذا استيقظت من نومك عند الصباح فقل الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور (7) أصبحنا وأصبح الملك لله والعظمة والسلطان لله والعزة والقدرة لله (8) أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (9) اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير (10) اللهم إني أسألك أن تبعثنا في هذا اليوم إلى كل خير ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءاً أو نجره إلى مسلم فإنك قلت {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى} (11) اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وأعوذ بك من شره وشر ما فيه (12) بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما شاء الله
_________
(1) حديث اللهم رب السموات والأرض رب كل شيء ومليكه فالق الحب والنوى الحديث إلى قوله وأغننا من الفقر أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(2) حديث اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها الحديث إلى قوله اللهم إني أسألك العافية أخرجه مسلم من حديث ابن عمر
(3) حديث باسمك ربي وضعت جنبي فاغفر لي ذنبي أخرجه النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الله بن عمرو بسند جيد وللشيخين من حديث أبي هريرة باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وقال البخاري فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين
(4) حديث اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك أخرجه الترمذي في الشمائل من حديث ابن مسعود وهو عند أبي داود من حديث حفصة بلفظ تبعث وكذا رواه الترمذي من حديث حذيفة وصححه من حديث البراء وحسنه
(5) حديث اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك الحديث متفق عليه من حديث البراء
(6) حديث اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك واستعملني في أحب الأعمال إليك تقربني إليك زلفى وتبعدني من سخطك بعداً أسألك فتعطيني وأستغفرك فتغفر لي وأدعوك فتستجيب لي أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس اللهم ابعثنا في أحب الساعات إليك حتى نذكرك فتذكرنا ونسألك فتعطينا وندعوك فتستجيب لنا ونستغفرك فتغفر لنا وإسناده ضعيف وهو معروف من قول حبيب الطائي كما رواه ابن أبي الدنيا في الدعاء
(7) حديث القول إذا استيقظ من منامه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وإليه النشور أخرجه البخاري من حديث حذيفة ومسلم من حديث البراء
(8) حديث أصبحنا وأصبح الملك لله والعظمة والسلطان لله والعزة والقدرة لله أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة أصبحنا وأصبح الملك والحمد والحول والقوة والقدرة والسلطان والسموات والأرض وكل شيء لله رب العالمين وله في الدعاء من حديث ابن أبي أوفى أصبحت وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والليل والنهار وما سكن فيهما لله وإسنادهما ضعيف ولمسلم من حديث ابن مسعود أصبحنا وأصبح الملك لله
(9) حديث أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين أخرجه النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الرحمن بن أبزى بسند صحيح ورواه أحمد من حديث ابن أبزى عن أبي بن كعب مرفوعا
(10) حديث اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير أخرجه أصحاب السنن وابن حبان وحسنه الترمذي إلا أنهم قالوا وإليك النشور ولابن السني {وإليك المصير}
(11) حديث اللهم إنا نسألك أن تبعثنا في هذا اليوم إلى كل خير ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءا أو نجره إلى مسلم الحديث لم أجد أوله والترمذي من حديث أبي بكر في حديث له وأعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن نقترف على أنفسنا سوءا أو نجره إلى مسلم رواه أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري بإسناد جيد
(12) حديث اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وأعوذ بك من شره وشر ما فيه قلت هو مركب من حديثين فروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وقوني على الجهاد في سبيلك وللدار قطني في الأفراد من حديث البراء نسألك خير هذا اليوم وخير ما بعده ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده وأبو داود من حديث أبي مالك الأشعري اللهم إنا نسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وهداه وبركته وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده وسنده جيد وللحسن بن علي المعمري في اليوم واليلة من حديث ابن مسعود اللهم إني أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده والحديث عند مسلم في المساء خير ما في هذه الليلة الحديث ثم قال وإذا أصبح قال ذلك أيضا(1/327)
كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله (1) رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (2) وإذا أمسى قال ذلك إلا أنه يقول أمسينا ويقول مع ذلك أعوذ بكلمات الله التامات وأسمائه كلها من شر ما ذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (3) وإسناده جيد ولمسلم من حديث أبي هريرة في الدعاء عند النوم أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها وللطبراني في الدعاء من حديث أبي الدرداء (4) وإذا نظر في المرآة قال الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله وكرم صورة وجهي وحسنها وجعلني من المسلمين (5) وإذا اشتريت خادماً أو غلاماً أو دابة فخذ بناصيته وقل اللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه (6) وإذا هنأت بالنكاح فقل بارك الله فيك وبارك عليك وجمع بينكما في خير (7) وإذا قضيت الدين فقل للمقضي له بارك الله لك في أهلك ومالك إذ قال صلى الله عليه وسلم وإنما جزاء السلف الحمد والأداء (8)
فهذه أدعية لا يستغني المريد عن حفظها وما سوى ذلك من أدعية السفر والصلاة والوضوء ذكرناها في كتاب الحج والصلاة والطهارة فإن قلت فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب
_________
(1) حديث بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة فمن الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله عد في الكامل من حديث ابن عباس ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال يلتقي الخضر وإلياس عليهما الصلاة والسلام كل عام بالموسم بمنى فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه فيفترقان عن هذه الكلمات فذكره ولم يقل الخير كله بيد الله قال موضعها لا يسوق الخير إلا الله قال ابن عباس من قالهن حين يصبح وحين يمسي أمنه الله من الغرق والحرق وأحسبه قال ومن الشيطان والسطان والحية والعقرب أورده في ترجمة الحسين بن رزين قال ليس بالمعروف وهو بهذا الإسناد منكر
(2) حديث رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيا تقدم في الباب الأول
(3) حديث القول عند المساء مثل الصباح إلا أنك تقول أمسينا وتقول مع ذلك أعوذ بكلمات الله التامات وأسمائه كلها من شر ما ذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث عبد الرحمن بن عوف من قال حين يصبح أعوذ بكلمات التامات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ اعتصم من شر الثقلين الحديث وفيه وإن قالهن حين يمسي كن له كذلك حتى يصبح وفيه ابن لهيعة ولأحمد من حديث عبد الرحمن بن حسن في حديث إن جبريل قال يا محمد قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء الحديث
(4) أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة الخ الحديث وقد تقدم في الباب الثاني
(5) حديث القول إذا نظر في المرآة الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله وكرم صورة وجهي وحسنها وجعلني من المسلمين أخرجه الطبراني في الأوسط وابن السني في اليوم والليلة من حديث أنس بسند ضعيف
(6) حديث القول إذا اشترى خادما أو دابة اللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند جيد
(7) حديث التهنئة بالنكاح بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال الترمذي حسن صحيح
(8) حديث الدعاء لصاحب الدين إذا قضى الله دينه بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن أبي ربيعة قال استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفا فجاءه مال فدفعه إلي قال فذكره وإسناده حسن(1/328)
لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى {خذوا حذركم} وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذر فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته ثم في الدعاء من الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ (1) والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى فهذا ما أردنا أن نورده من جملة الأذكار والدعوات والله الموفق للخير وأما بقية الدعوات في الأكل والسفر وعيادة المريض وغيرها فستأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى وعلى الله التكلان نجز كتاب الأذكار والدعوات بكماله يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب الأوراد والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتاب ترتيب الأوراد وتفصيل إحياء الليل
وهو الكتاب العاشر من إحياء علوم الدين وبه اختتام ربع العبادات نفع الله به المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله على آلائه حمداً كثيراً ونذكره ذكراً لا يغادر في القلب استكباراً ولا نفوراً ونشكره إذ جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً ونصلي على نبيه الذي بعثه بالحق بشيراً ونذيراً وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين الذين اجتهدوا في عبادة الله غدوة وعشياً وبكرة وأصيلاً حتى أصبح كل واحد منهم نجماً في الدين هادياً وسراجاً منيراً
أما بعد فإن الله تعالى جعل الأرض ذلولاً لعباده إلا ليستقروا في مناكبها بل ليتخذوها منزلاً فيتزودوا منها زاداً يحملهم في سفرهم إلى أوطانهم ويكتنزون منها تحفاً لنفوسهم عملاً وفضلاً محترزين من مصايدها ومعاطبها ويتحققون أن العمر يسير بهم سير السفينة براكبها فالناس في هذا العالم سفر وأول منازلهم المهد وآخرها اللحد والوطن هو الجنة أو النار والعمر مسافة السفر فسنوه مراحله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطواته وطاعته بضاعته وأوقاته رءوس أمواله وشهواته وأغراضه قطاع طريقه وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام مع الملك
_________
(1) حديث الدعاء مخ العبادة تقدم في الباب الأول(1/329)
الكبير والنعيم المقيم وخسرانه البعد من الله تعالى مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم
فالغافل في نفس من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله زلفى متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمر الموفقون عن ساق الجد وودعوا بالكلية ملاذ النفس واغتنموا بقايا العمر ورتبوا بحسب تكرر الأوقات وظائف الأوراد حرصاً على إحياء الليل والنهار في طلب القرب من الملك الجبار والسعي إلى دار القرار فصار من مهمات علم طريق الآخرة تفصيل القول في كيفية قسمة الأوراد وتوزيع العبادات التي سبق شرحها على مقادير الأوقات ويتضح هذا المهم بذكر بابين
الباب الأول في فضيلة الأوراد وترتيبها في الليل والنهار
الباب الثاني في كيفية إحياء الليل وفضيلته وما يتعلق به
الباب الأول في فضيلة الأوراد وترتيبها وأحكامها
فضيلة الأوراد وبيان أن المواظبة عليها هي الطريق إلى الله تعالى
اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محباً لله تعالى وعارفاً بالله سبحانه
وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وأفعاله وليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله ولن يتيسر دوام الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار والنفس لما جبلت عليه من السآمة والملال لا تصبر على فن واحد من الأسباب المعينة على الذكر والفكر بل إذا ردت إلى نمط واحد أظهرت الملال والاستثقال وأن الله تعالى لا يمل حتى تملوا فمن ضرورة اللطف بها أن تروح بالتنقل من فن إلى فن ومن نوع إلى نوع بحسب كل وقت لتغزر بالانتقال لذتها وتعظم باللذة رغبتها وتدوم بدوام الرغبة مواظبتها فلذلك تقسم الأوراد قسمة مختلفة فالذكر والفكر ينبغي أن يستغرقا جميع الأوقات أو أكثرها فإن النفس بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا فإن صرف العبد شطر أوقاته إلى تدبيرات الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً والشطر الآخر إلى العبادات رجح جانب الميل إلى الدنيا لموافقتها الطبع إذ يكون الوقت متساوياً فأنى يتقاومان والطبع لأحدهما مرجح إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا ويصفو في طلبها القلب ويتجرد وأما الرد إلى العبادات فمتكلف ولا يسلم إخلاص القلب فيه وحضوره إلا في بعض الأوقات فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في الطاعة ومن أراد أن تترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته فإن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فأمره مخطر ولكن الرجاء غير منقطع والعفو من كرم الله منتظر فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه فهذا ما انكشف للناظرين بنور البصيرة فإن لم تكن من أهله فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله واقتبسه بنور الإيمان فقد قال الله تعالى لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه {إن لك في النهار سبحاً طويلاً واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} وقال تعالى {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً} وقال تعالى {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} وقال سبحانه {وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} وقال تعالى {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً} وقال تعالى {ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} وقال عز وجل {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل أن الحسنات يذهبن السيئات} ثم انظر كيف وصف الفائزين من عباده وبماذا وصفهم فقال تَعَالَى {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ}(1/330)
{آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعلمون} وقال تَعَالَى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خوفاً وطمعاً} وقال عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} وقال عز وجل {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هم يستغفرون} وقال عز وجل {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} وقال تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي يريدون وجهه} فهذا كله يبين لك أن الطريق إلى تعالى مراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله تعالى (1) وقد قال تعالى {الشمس والقمر بحسبان} وقال تعالى {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} وقال تعالى {والقمر قدرناه منازل} وقال تعالى {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} فلا تظنن أن المقصود من سير الشمس والقمر بحسبان منظوم مرتب ومن خلق الظل والنور والنجوم أن يستعان بها على أمور الدنيا بل لتعرف بها مقادير الأوقات فتشتغل فيها بالطاعات والتجارة للدار الآخرة يدلك عليه قوله تعالى {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} أي يخلف أحدهما الآخر ليتدارك في أحدهما ما فات في الآخر وبين أن ذلك للذكر والشكر لا غير وقال تعالى {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} وإنما الفضل المبتغى هو الثواب والمغفرة ونسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه
بيان أعداد الأوراد وترتيبها
اعلم أن أوراد النهار سبعة فما بين طلوع الصبح إلى طلوع قرص الشمس ورد وما بين طلوع الشمس إلى الزوال وردان وما بين الزوال إلى وقت العصر وردان وما بين العصر إلى المغرب وردان والليل ينقسم إلى أربعة أوراد وردان من المغرب إلى وقت نوم الناس ووردان من النصف الأخير من الليل إلى طلوع الفجر فلنذكر فضيلة كل ورد ووظيفته وما يتعلق به
فالورد الأول ما بين طلوع الصبح إلى طلوع الشمس وهو وقت شريف ويدل على شرفه وفضله إقسام الله تعالى به إذ قال {والصبح إذا تنفس} وقدحه به إذ قال {فالق الإصباح} وقال تعالى {قل أعوذ برب الفلق} وإظهاره القدرة بقبض الظل فيه إذ قال تعالى {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} وهو وقت قبض ظل الليل ببسط نور الشمس وإرشاده الناس إلى التسبيح فيه بقوله تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} وبقوله تعالى فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقوله عز وجل {ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} وقوله تعالى {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً}
فأما ترتيبه فليأخذ من وقت انتباهه من النوم فإذا انتبه فينبغي أن يبتدىء بذكر الله تعالى فيقول الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وإليه النشور إلى آخر الأدعية والآيات التي ذكرناها في دعاء الاستيقاظ من كتاب الدعوات
_________
(1) كتاب الأوراد وفضل إحياء الليل
الباب الأول في فضيلة الأوراد حديث أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر والأهلة لذكر الله أخرجه الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث ابن أبي أوفى بلفظ خيار عباد الله(1/331)
وليلبس ثوبه وهو في الدعاء وينوي به ستر عورته امتثالاً لأمر الله تعالى واستعانة به على عبادته من غير قصد رياء ولا رعونة ثم يتوجه إلى بيت الماء إن كان به حاجة إلى بيت الماء ويدخل أولاً رجله اليسرى ويدعو بالأدعية التي ذكرناها فيه في كتاب الطهارة عند الدخول والخروج ثم يستاك على السنة كما سبق ويتوضأ مراعياً لجميع السنن والأدعية التي ذكرناها في الطهارة فإنا إنما قدمنا آحاد العبادات لكي نذكر في هذا الكتاب وجه التركيب والترتيب فقط فإذا فرغ من الوضوء صلى ركعتي الفجر أعني السنة في منزله (1) كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرأ بعد الركعتين سواء أداهما في البيت أو المسجد الدعاء الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما ويقول اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي إلا آخر الدعاء (2) ثم يخرج من البيت متوجهاً إلى المسجد ولا ينسى دعاء الخروج إلى المسجد لا يسعى إلى الصلاة سعياً بل يمشي وعليه السكينة والوقار (3) كما ورد به الخبر ولا يشبك بين أصابعه ويدخل المسجد ويقدم رجله اليمنى ويدعو بالدعاء المأثور لدخول المسجد (4) ثم يطلب من المسجد الصف الأول إن وجد متسعاً ولا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم كما سبق ذكره في كتاب الجمعة ثم يصلي ركعتي الفجر إن لم يكن صلاهما في البيت ويشتغل بالدعاء المذكور بعدهما وإن كان قد صلى ركعتي الفجر صلى ركعتي التحية وجلس منتظراً للجماعة والأحب التغليس بالجماعة فقد كان صلى الله عليه وسلم يغلس بالصبح (5) ولا ينبغي أن يدع الجماعة في الصلاة عامة وفي الصبح والعشاء خاصة فلهما زيادة فضل
فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في صلاة الصبح من توضأ ثم توجه إلى المسجد ليصلي فيه الصلاة كان له بكل خطوة حسنة ومحي عنه سيئة والحسنة بعشر أمثالها فإذا صلى ثم انصراف عند طلوع الشمس كتب له بكل شعرة في جسده حسنة وانقلب بحجة مبرورة فإن جلس حتى يركع الضحى كتب له بكل ركعة ألفا ألف حسنة ومن صلى العتمة فله مثل ذلك وانقلب بعمرة مبرورة (6) وكان من عادة السلف دخول المسجد قبل طلوع الفجر
قال رجل من التابعين دخلت المسجد قبل طلوع الفجر فلقيت أبا هريرة قد سبقني فقال لي يا ابن أخي لأي شيء خرجت من منزلك في هذه الساعة فقلت لصلاة الغداة فقال أبشر فإنا كنا نعد خروجنا وقعودنا في المسجد في هذه الساعة بمنزلة غزوة في سبيل الله تعالى (7) أو قال مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان فقال ألا تصليان قال علي فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو منصرف يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً (8) ثم ينبغي أن يشتغل بعد ركعتي الفجر ودعائه بالاستغفار والتسبيح إلى أن تقام الصلاة فيقول أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه سبعين مرة
_________
(1) حديث صلاة ركعتي الصبح في المنزل متفق عليه من حديث حفصة
(2) حديث الدعاء بعد ركعتي الصبح اللهم إني أسألك رحمة من عندك الحديث تقدم
(3) حديث المشي إلى الصلاة وعليه السكينة متفق عليه من حديث أبي هريرة
(4) حديث الدعاء المأثور لدخول المسجد تقدم في الباب الخامس من الأذكار
(5) حديث التغليس في الصبح متفق عليه من حديث عائشة
(6) حديث أنس في صلاة الصبح من توضأ ثم توجه إلى المسجد يصلي فيه الصلاة كان له بكل خطوة حسنة ومحي عنه سيئة والحسنة بعشر أمثالها وإذا صلى ثم انصرف عند طلوع الشمس كتب له بكل شعرة في جسده حسنة وانقلب بحجة مبرورة فإن جلس حتى يركع كتب له بكل ركعة ألفا ألف حسنة ومن صلى العتمة فله مثل ذلك وانقلب بحجة مبرورة لم أجد له أصلا بهذا السياق وفي شعب الإيمان للبيهقي من حديث أنس بسند ضعيف ومن صلى المغرب في جماعة كان له كحجة مبرورة وعمرة متقبلة
(7) حديث أبي هريرة كنا نعد خروجنا وقعودنا في المجلس في هذه الساعة بمنزلة غزوة في سبيل الله لم أقف له على أصل
(8) حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة وهما نائمان فقال ألا تصليان قال علي فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله الحديث متفق عليه(1/332)
وسبحان اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر مائة مرة ثم يصلي الفريضة مراعياً جميع ما ذكرناه من الآداب الباطنة والظاهرة في الصلاة والقدوة فإذا فرغ منها قعد في المسجد إلى طلوع الشمس في ذكر الله تعالى كما سنرتبه فقد قال صلى الله عليه وسلم لأن أقعد في مجلسي أذكر الله تعالى فيه من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب (1) وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس وفي بعضها ويصلي ركعتين (2) أي بعد الطلوع وقد ورد في فضل ذلك ما لا يحصى وروى الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما يذكره من رحمة ربه يقول إنه قال يا ابن آدم اذكرني بعد صلاة الفجر ساعة وبعد صلاة العصر ساعة أكفك ما بينهما (3) وإذا ظهر فضل ذلك فليقعد ولا يتكلم إلى طلوع الشمس بل ينبغي أن تكون وظيفته إلى الطلوع أربعة أنواع أدعية وأذكار ويكررها في سبحة وقراءة قرآن وتفكر
أما الأدعية فكلما يفرغ من صلاته فليبدأ وليقل اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وسلم اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام حينا ربنا بالسلام وأدخلنا دار السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ثم يفتتح الدعاء بما كان يفتتح به رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قوله سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (4) ثم يبدأ بالأدعية التي أوردناها في الباب الثالث والرابع من كتاب الأدعية فيدعو بجميعها إن قدر عليه أو يحفظ من جملتها ما يراه أوفق بحاله وأرق لقلبه وأخف على لسانه
وأما الأذكار المكررة فهي كلمات ورد في تكرارها فضائل لم نطول بإيرادها وأقل ما ينبغي أن يكرر كل واحد منها ثلاثاً أو سبعاً وأكثره مائة أو سبعون وأوسطه عشر فليكررها بقدر فراغه وسعة وقته وفضل الأكثر أكثروالأوسط الأقصد أن يكررها عشر مرات فهو أجدر بأن يدوم عليه خير الأمور أدومها وإن قل وكل وظيفة لا يمكن المواظبة على كثيرها فقليلها مع المداومة أفضل وأشد تأثيراً في القلب مع كثيرها مع الفترة ومثال القليل الدائم كقطرات ماء تتقاطر على الأرض على التوالي فتحدث فيها حفيرة ولو وقع ذلك على الحجر ومثال الكثير المتفرق ماء يصب دفعة أو دفعات متفرقة متباعدة الأوقات فلا يبين لها أثر ظاهر وهذه الكلمات عشرة الأولى قوله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير (5)
الثانية قوله سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله
_________
(1) حديث لأن أقعد في مجلس أذكر الله فيه من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب أخرجه أبو داود من حديث أنس وتقدم في الباب الثالث من العلم
(2) حديث كان إذا صلى الغداة قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس وفي بعضها ويصلي ركعتين أي بعد الطلوع أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة دون ذكر الركعتين والترمذي من حديث أنس وحسنه من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة
(3) حديث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما يذكر من رحمة ربه إنه قال يا ابن آدم اذكرني من بعد صلاة الفجر ساعة وبعد صلاة العصر ساعة أكفك ما بينهما أخرجه ابن المبارك في الزهد هكذا مرسلا
(4) حديث كان يفتتح الدعاء بسبحان ربي العلي الأعلى الوهاب تقدم
(5) حديث الفضل في تكرار لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير تقدم من حديث أبي أيوب تكرارها عشرا دون قوله يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير فإنها في اليوم والليلة للنسائي من حديث أبي ذر دون قوله وهو حي لا يموت وهي كلها عند البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف فيما يقال عند الصباح والمساء وتقدم تكرارها مائة ومائتين وللطبراني الدعاء من حديث عبد الله بن عمر وتكرارها ألف مرة وإسناد ضعيف(1/333)
العلي العظيم (1) الثالثة قوله سبوح قدوس رب الملائكة والروح (2) الرابعة قوله سبحان الله العظيم وبحمده (3) الخامسة قوله أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة (4) السادسة قوله اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (5) السابعة قوله لا إله إلا الله الملك الحق المبين (6) الثامنة قوله بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (7) التاسعة اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم (8) العاشرة قوله أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون (9) فهذه العشر كلمات إذا كرر كل واحدة عشر مرات حصل له مائة مرة فهو أفضل من أن يكرر ذكراً واحداً مائة مرة لأن لكل واحدة من هؤلاء الكلمات فضلاً على حياله وللقلب بكل واحد نوع تنبه وتلذذ وللنفس في الانتقال من كلمة إلى كلمة نوع استراحة وأمن من الملل
فأما القراءة فيستحب له قراءة جملة من الآيات
_________
(1) حديث الفضل في تكرار سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله أخرجه النسائي في اليوم والليلة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري استكثروا من الباقيات الصالحات فذكرها
(2) حديث تكرار سبوح قدوس رب الملائكة والروح لم أجد ذكرها مكررة ولكن عند مسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولها في ركوعه وسجوده وقد تقدم ولأني الشيخ في الثواب من حديث البراء أكثر من أن تقول سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح
(3) حديث تكرار سبحان الله وبحمده متفق عليه من حديث أبي هريرة من قال ذلك في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر
(4) حديث تكرار أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة أخرجه المستغفري في الدعوات من حديث معاذ أن من قالها بعد الفجر وبعد العصر ثلاث مرات كفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ولفظه وأنوب إليه وفيه ضعف وهكذا رواه الترمذي من حديث أبي سعيد في قولها ثلاثا وللبخاري من حديث أبي هريرة إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ولم يقل الطبراني أكثر ولمسلم من حديث الأعرابي لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة تقدمت هذه الأحاديث في الباب الثاني من الأذكار
(5) حديث تكرار اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد لم أجد تكرارها في حديث وإنما وردت مطلقة عقب الصلوات وفي الرفع من الركوع
(6) حديث تكرار لا إله إلا الله الملك الحق المبين أخرجه المستغفري في الدعوات والخطيب في الرواة عن مالك من حديث علي من قالها في يوم مائة مرة كان له أمان من الفقر وأمان من وحشة القبر واستجلب به الغنى واستقرع باب الجنة وفيه الفضل بن غانم ضعيف ولأبي نعيم في الحلية من قال ذلك في كل يوم وليلة مائتى مرة لم يسأل الله فيهما حاجة الا قضاها وفيه سليم الخواص وقال فيه أظنه عن علي
(7) حديث تكرار بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه من حديث عثمان من قال ذلك ثلاث مرات حين يمسي لم يصبه فجأة بلاء حتى يصبح ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم يصبه فجأة بلاء حتى يمسي قال الترمذي حسن صحيح غريب
(8) حديث تكرار اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد ذكره أبو القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي في فضائل القرآن من حديث ابن أبي أوفى من أراد أن يموت في السماء الرابعة فليقل كل يوم ثلاث مرات فذكره وهو منكر قلت ورد التكرار عند الصباح والمساء من غير تعبير لهذه الصبغة رواه الطبراني من حديث أبي الدرداء بلفظ من صلى علي حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة وفيه انقطاع
(9) حديث تكرار أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم أعوذ بالله من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون أخرجه الترمذي من حديث معقل بن يسار من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك الحديث ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة وقال حسن غريب ولابن أبي الدنيا من حديث أنس مثل حديث مقطوع قبله من قالها حين يصبح عشر مرات أجير من الشيطان إلى الصبح الحديث ولأبي الشيخ في الثواب من حديث عائشة ألا أعلمك يا خالد كلمات تقولها ثلاث مرات قل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون والحديث عند أبي داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه فيما يقال عند الفزع دون تكرارها ثلاثا من حديث عبد الله بن عمرو(1/334)
وردت الأخبار بفضلها وهو أن يقرأ سورة الحمد (1) وآية الكرسي (2) وخاتمة البقرة (3) من قوله آمن الرسول وشهد الله (4) وقل اللهم مالك الملك الآيتين (5) وقوله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخرها (6) وقوله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} إلى آخرها (7) وقوله سبحانه الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً (8) الآية وخمس آيات من أول الحديد (9) وثلاثاً من آخر سورة الحشر (10) وإن قرأ المسبعات العشر التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي رحمه الله ووصاه أن يقولها غدوة وعشية فقد استكمل الفضل وجمع له ذلك فضيلة جملة الأدعية المذكورة
فقد روي عن كرز بن وبرة رحمه الله وكان من الأبدال قال أتاني أخ لي من أهل الشام فأهدى لي هدية وقال يا كرز اقبل مني هذه الهدية فإنها نعمت الهدية فقلت يا أخي ومن أهدى لك هذه الهدية قال أعطانيها إبراهيم التيمي قلت أفلم تسأل إبراهيم من أعطاه إياها قال كنت جالساً في فناء الكعبة وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد والتمجيد فجاءني رجل فسلم علي وجلس عن يميني فلم أر في زماني أحسن منه وجهاً ولا أحسن منه ثياباً ولا أشد بياضاً ولا أطيب ريحاً منه فقلت يا عبد الله من أنت ومن أين جئت فقال أنا الخضر فقلت في أي شيء جئتني فقال جئتك للسلام عليك وحباً لك في الله وعندي هدية أريد أن أهديها لك فقلت ما هي قال أن تقول
_________
(1) حديث فضل سورة الحمد أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنها أعظم السور في القرآن ومسلم من حديث ابن عباس في الملك الذي نزل إلى الأرض وقال للنبي صلى الله عليه وسلم أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته
(2) حديث فضل آية الكرسي أخرجه مسلم من حديث أبي بن كعب يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم الحديث والبخاري من حديث أبي هريرة في توكيله بحفظ تمر الصدقة ومجيء الشيطان إليه وقوله إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ الحديث {وفيه} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما إنه قد صدقك وهو كذوب
(3) حديث فضل خاتمة البقرة متفق عليه من حديث أبي مسعود من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وتقدم حديث ابن عباس قبله بحديث
(4) حديث فضل شهد الله أخرجه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثواب من حديث ابن مسعود من قرأ شهد الله إلى قوله الإسلام ثم قال وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عنده وديعة جيء به يوم القيامة فقيل له عبدي هذا عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة وفيه عمر بن المختار روى الأباطيل قاله ابن عدي وسيأتي حديث علي بعده
(5) حديث فضل قل اللهم مالك الملك الآيتين أخرجه المستغفري في الدعوات من حديث علي أن فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله الإسلام وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب معلقات ما بينهن وبين الله حجاب الحديث وفيه فقال الله لا يقرأ كل أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه الحديث وفيه الحارث بن عمير وفي ترجمته ذكره ابن حبان في الضعفاء وقال موضوع لا أصل له والحارث يروي عن الأثبات الموضوعات قلت وثقه حماد بن زيد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وروى له البخاري تعليقا
(6) حديث فضل {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخرها أخرجه الطبراني في الدعاء من حديث أنس بسند ضعيف علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحترز به من كل شيطان رجيم ومن كل جبار عنيد فذكر حديثا وفي آخره فقل حسبي الله إلى آخر السورة وذكر أبو القاسم الغافقي في فضائل القرآن في رغائب القرآن لعبد الملك بن حبيب من رواية محمد بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لزم قراءة لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة لم يمت هدما ولا غرقا ولا حرقا ولا ضربا بحديدة وهو ضعيف
(7) حديث فضل {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} لم أجد فيه حديثا يخصها لكن في فضل سورة الفتح ما رواه أبو الشيخ في كتاب من حديث أبي بن كعب من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث موضوع
(8) حديث فضل {الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} الآية أخرجه أحمد والطبراني من حديث معاذ بن أنس آية العز الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية كلها وإسناده ضعيف
(9) حديث فضل خمس آيات من أول الحديد ذكر أبو القاسم الغافقي في فضائل القرآن من حديث علي إذا أردت أن تسأل الله حاجة فاقرأ خمس آيات من أول سورة الحديد إلى قوله عليم بذات الصدور ومن آخر سورة الحشر من قوله لو أنزلنا هذا القرآن على جبل إلى آخر السورة ثم تقول يا من هو كذا افعل بي كذا وتدعو بما تريد
(10) حديث فضل ثلاث آيات من آخر سورة الحشر أخرجه الترمذي من حديث معقل بن يسار وقد تقدم قبل هذا وللبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة بسند ضعيف من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته فقد أوجب الله له الجنة(1/335)
قبل طلوع الشمس وقبل انبساطها على الأرض وقبل الغروب سورة الحمد وقل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق وقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وآية الكرسي كل واحدة سبع مرات وتقول سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر سبعاً وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً وتستغفر لنفسك ولوالديك والمؤمنين وللمؤمنات سبعاً وتقول اللهم افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رءوف رحيم سبع مرات وانظر أن لا تدع ذلك غدوة وعشية فقلت أحب أن تخبرني من أعطاك هذه العطية العظيمة فقال أعطانيها محمد صلى الله عليه وسلم (1) فقلت أخبرني بثواب ذلك فقال إذا لقيت محمداً صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ثوابه فإنه يخبرك بذلك فذكر إبراهيم التيمي أنه رأى ذات يوم في منامه كأن الملائكة جاءته فاحتملته حتى أدخلوه الجنة فرأى ما فيها ووصف أموراً عظيمة مما رآه في الجنة قال فسألت الملائكة فقلت لمن هذا فقالوا للذي يعمل مثل عملك وذكر أنه أكل من ثمرها وسقوه من شرابها قال قال فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعون نبياً وسبعون صفاً من الملائكة كل صف مثل ما بين المشرق والمغرب فسلم علي وأخذ بيدي فقلت يا رسول الله الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث فقال صدق الخضر صدق الخضر وكل ما يحكيه فهو حق وهو عالم أهل الأرض وهو رئيس الأبدال وهو من جنود الله تعالى في الأرض فقلت يا رسول الله فمن فعل هذا أو عمله ولم ير مثل الذي رأيت في منامي هل يعطى شيئاً مما أعطيته فقال والذي بعثني بالحق نبياً إنه ليعطى العامل بهذا وإن لم يرني ولم ير الجنة إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومقته ويأمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه خطيئة من السيئات إلى سنة والذي بعثني بالحق نبياً ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيداً ولا يتركه إلا من خلقه الله شقياً وكان إبراهيم التيمي يمكث أربعة أشهر لم يطعم ولم يشرب فلعله كان بعد هذه الرؤيا فهذه وظيفة القراءة فإن أضاف إليها شيئاً مما انتهى إليه ورده من القرآن أو اقتصر عليه فهو حسن فإن القرآن جامع لفضل الذكر والفكر والدعاء مهما كان بتدبر كما ذكرنا فضله وآدابه في باب التلاوة وأما الأفكار فليكن ذلك إحدى وظائفه وسيأتي تفصيل ما يتفكر فيه وكيفيته في كتاب التفكر من ربع المنجيات ولكن مجامعة ترجع إلى فنين أحدهما أن يتفكر فيما ينفعه من المعاملة بأن يحاسب نفسه فيما سبق من تقصيره ويرتب وظائفه في يومه الذي بين يديه ويدبر في دفع الصوارف والعوائق الشاغلة له عن الخير ويتذكر تقصيره وما يتطرق إليه الخلل من أعماله ليصلحه ويحضر في قلبه النيات الصالحة من أعماله في نفسه وفي معاملته للمسلمين والفن الثاني فيما ينفعه في علم المكاشفة وذلك بأن يتفكر مرة في نعم الله تعالى وتواتر آلاته الظاهرة والباطنة لتزيد معرفته بها ويكثر شكره عليها أو في عقوباته ونقماته لتزيد معرفته بقدرة الإله واستغنائه ويزيد خوفه منها ولكل واحد من هذه الأمور شعب كثيرة يتسع التفكر فيها على بعض الخلق دون البعض وإنما نستقضي ذلك في كتاب التفكر ومهما تيسر الفكر فهو أشرف العبادات إذ فيه معنى الذكر لله تعالى وزيادة أمرين أحدهما زيادة المعرفة إذ الفكر مفتاح المعرفة والكشف والثاني زيادة المحبة إذ لا يحب القلب إلا من اعتقد تعظيمه ولا تنكشف عظمة الله سبحانه وجلاله إلا بمعرفة صفاته ومعرفة قدرته وعجائب أفعاله فيحصل من الفكر المعرفة ومن المعرفة التعظيم ومن التعظيم المحبة والذكر أيضاً يورث الأنس وهو نوع من المحبة ولكن المحبة التي سببها المعرفة
_________
(1) حديث كرز بن وبرة من أهل الشام عن إبراهيم التيمي أن الخضر علمه المسبعات العشرة وقال في آخرها أعطانيها محمد صلى الله عليه وسلم ليس له أصل ولم يصح في حديث قط اجتماع الخضر بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا عدم اجتماعه ولا حياته ولا موته(1/336)
أقوى وأثبت وأعظم ونسبة محبة العارف إلى أنس الذاكر من غير تمام الاستبصار كنسبة عشق من شاهد جمال شخص بالعين واطلع على حسن أخلاقه وأفعاله وفضائله وخصاله الحميدة بالتجربة إلى أنس من كرر على سمعه وصف شخص غائب عن عينه بالحسن في الخلق والخلق مطلقاً من غير تفصيل وجوه الحسن فيهما فليس محبته له كمحبة المشاهد وليس الخبر كالمعاينة فالعباد المواظبون على ذكر الله بالقلب واللسان الذين يصدقون بما جاءت به الرسل بالإيمان التقليدي ليس معهم من محاسن صفات الله تعالى إلا أمور جميلة اعتقدوها بتصديق عن وصفها لهم والعارفون هم الذين شاهدوا ذلك الجلال والجمال بعين البصيرة الباطنة التي هي أقوى من البصر الظاهر لأن أحداً لم يحط بكنه جلاله وجماله فإن ذلك غير مقدور لأحد من الخلق ولكن كل واحد شاهد بقدر ما رفع له من الحجاب ولا نهاية لجمال حضرة الربوبية ولا لحجبها وإنما عدد حجبها التي استحقت أن تسمى نوراً وكاد يظن الواصل إليها أنه قد تم وصوله إلى الأصل سبعون حجاباً
قال صلى الله عليه وسلم إن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره (1) وتلك الحجب أيضاً مترتبة وتلك الأنوار متفاوتة في الرتب تفاوت الشمس والقمر والكواكب ويبدو في الأول أصغرها ثم ما يليه وعليه أول بعض الصوفية درجات ما كان يظهر لإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في ترقيه وقال {فلما جن عليه الليل} أي أظلم عليه الأمر {رأى كوكباً} أي وصل إلى حجاب من حجب النور فعبر عنه بالكوكب وما أريد به هذه الأجسام المضيئة فإن آحاد العوام لا يخفى عليهم أن الربوبية لا تليق بالأجسام بل يدركون ذلك بأوائل نظرهم فما لا يضلل العوام لا يضلل الخليل عليه السلام والحجب المسماة أنواراً ما أريد بها الضوء المحسوس بالبصر بل أريد بها ما أريد بقوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية ولنتجاوز هذه المعاني فإنها خارجة عن علم المعاملة ولا يوصل إلى حقائقها إلا الكشف التابع للفكر الصافي وقل من ينفتح له بابه والمتيسر على جماهير الخلائق الفكر فيما يفيد في علم المعاملة وذلك أيضاً مما تغزر فائدته ويعظم نفعه فهذه الوظائف الأربعة أعني الدعاء والذكر والقراءة والفكر ينبغي أن تكون وظيفة المريد بعد صلاة الصبح بل في كل ورد بعد الفراغ من وظيفة الصلاة فليس بعد الصلاة وظيفة سوى هذه الأربع ويقوى على ذلك بأن يأخذ سلاحه ومجنته والصوم هو الجنة التي تضيق مجاري الشيطان المعادي الصارف له على سبيل الرشاد وليس بعد طلوع الصبح صلاة سوى ركعتي الفجر وفرض الصبح إلى طلوع الشمس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يشتغلون في هذا الوقت بالأذكار (2) وهو الأولى إلى أن يغلبه النوم قبل الفرض ولم يندفع إلا بالصلاة فلو صلى لذلك فلا بأس به
الورد الثاني ما بين طلوع الشمس إلى ضحوة النهار وأعني بالضحوة منتصف ما بين طلوع الشمس إلى الزوال وذلك بمضي ثلاث ساعات من النهار إذا فرض النهار اثنتي عشرة ساعة وهو الربع وفي هذا الربع من النهار وظيفتان زائدتان إحداهما صلاة الضحى وقد ذكرناها في كتاب الصلاة وأن الأولى أن يصلي ركعتين عند الإشراق وذلك إذا انبسطت الشمس وارتفعت قدر نصف رمح ويصلي أربعاً أو ستاً أو ثمانياً إذا رمضت الفصال وضحيت الأقدام بحر الشمس فوقت الركعتين هو الذي أراد الله تعالى بقوله {يسبحن بالعشي والإشراق} فإنه وقت إشراق الشمس وهو ظهور تمام نورها بارتفاعها عن موازات البخارات والغبارات التي على وجه الأرض
_________
(1) حديث إن لله سبعين حجاباً من نور الحديث تقدم في قواعد العقائد
(2) حديث اشتغاله بالأذكار من الصبح إلى طلوع الشمس تقدم حديث جابر بن سمرة عند مسلم في جلوسه صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر في مجلسه حتى تطلع الشمس وليس فيه ذكر اشتغاله بالذكر وإنما هو من قوله عما تقدم من حديث أنس(1/337)
فإنها تمنع إشرافها التام ووقت الركعات الأربع هو الضحى الأعلى الذي أقسم الله تعالى به فقال {والضحى والليل إذا سجى} وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون عند الإشراق فنادى بأعلى صوته ألا إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال (1) فلذلك نقول إذا كان يقتصر على مرة واحدة في الصلاة فهذا الوقت أفضل لصلاة الضحى وإن كان أصل الفضل يحصل بالصلاة بين طرفي وقتي الكراهة وهو ما بين ارتفاع الشمس بطلوع نصف رمح بالتقريب إلى ما قبل الزوال في ساعة الاستواء واسم الضحى ينطلق على الكل وكأن ركعتي الإشراق تقع في مبتدأ وقت الإذن في الصلاة وانقضاء الكراهة إذ قال صلى الله عليه وسلم إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها (2) فأقل ارتفاعها أن ترتفع عن بخارات الأرض وغبارها وهذا يراعى بالتقريب
الوظيفة الثانية في هذا الوقت الخيرات المتعلقة بالناس التي جرت بها العادات بكرة من عيادة مريض وتشييع جنازة ومعاونة على بر وتقوى وحضور مجلس علم وما يجري مجراه من قضاء حاجة لمسلم وغيرها فإن لم يكن شيء من ذلك عاد إلى الوظائف الأربع التي قدمناها من الأدعية والذكر والقراءة والفكر والصلوات المتطوع بها إن شاء فإنها مكروهة بعد صلاة الصبح وليست مكروهة الآن فتصير الصلاة قسماً خامساً من جملة وظائف هذا الوقت لمن أراده أما بعد فريضة الصبح فتكره كل صلاة لا سبب لها وبعد الصبح الأحب أن يقتصر على ركعتي الفجر وتحية المسجد ولا يشتغل بالصلاة بل بالأذكار والقراءة والدعاء والفكر
الورد الثالث من ضحوة النهار إلى الزوال ونعني بالضحوة المنتصف وما قبله بقليل وإن كان بعد كل ثلاث ساعات أمر بصلاة فإذا انقضى ثلاث ساعات بعد الطلوع فعندها وقبل مضيها صلاة الضحى فإذا مضت ثلاث ساعات أخرى فالظهر فإذا مضت ثلاث ساعات أخرى فالعصر فإذا مضت ثلاث أخرى فالمغرب ومنزلة الضحى بين الزوال والطلوع كمنزلة العصر بين الزوال والغروب إلا أن الضحى لم تفرض لأنه وقت انكباب الناس على أشغالهم فخفف عنهم الوظيفة الرابعة في هذا الوقت الأقسام الأربعة وزيد أمران أحدهما الاشتغال بالكسب وتدبير المعيشة وحضور السوق فإن كان تاجراً فينبغي أن يتجر بصدق وأمانة وإن كان صاحب صناعة فبنصح وشفقة ولا ينسى ذكر الله تعالى في جميع أشغاله ويقتصر من الكسب على قدر حاجته ليومه مهما قدر على أن يكتسب في كل يوم لقوته فإذا حصل كفاية يومه فليرجع إلى بيت ربه وليتزود لآخرته فإن الحاجة إلى زاد الآخرة أشد والتمتع به أدوم فاشتغاله بكسبه أهم من طلب الزيادة على حاجة الوقت فقد قيل لا يوجد المؤمن إلا في ثلاث مواطن مسجد يعمره أو بيت يستره أو حاجة لا بد له منها وقل من يعرف القدر فيما لا بد منه بل أكثر الناس يقدرون فيما عنه بد أنه لا بد لهم منه وذلك لأن الشيطان يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فيصغون إليه ويجمعون ما لا يأكلون خيفة الفقر والله يعدهم مغفرة منه وفضلاً فيعرضون عنه ولا يرغبون فيه الأمر الثاني القيلولة وهي سنة يستعان بها على قيام الليل كما أن التسحر سنة يستعان به على صيام النهار فإن كان لا يقوم بالليل لكن لو لم ينم لم يشتغل بخير وربما خالط أهل الغفلة وتحدث معهم فالنوم أحب له إذا كان لا ينبعث نشاطه للرجوع إلى الأذكار والوظائف المذكورة إذ في النوم الصمت والسلامة وقد قال بعضهم يأتي على الناس زمان الصمت والنوم فيه أفضل أعمالهم وكم من عابد أحسن أحواله النوم وذلك إذا كان يرائي بعبادته ولا يخلص فيها فكيف بالغافل
_________
(1) حديث خرج على أصحابه وهم يصلون عند الإشراق فنادى بأعلى صوته ألا إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال أخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم دون قوله فنادى بأعلى صوته وهو عند مسلم دون ذكر الإشراق
(2) حديث إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها تقدم في الصلاة(1/338)
الفاسق قال سفيان الثوري رحمه الله كان يعجبهم إذا تفرغوا أن يناموا طلباً للسلامة فإذا كان نومه على قصد طلب السلامة ونية قيام الليل كان نومه قربة ولكن ينبغي أن يتنبه قبل الزوال بقدر الاستعداد للصلاة بالوضوء وحضور المسجد قبل دخول وقت الصلاة فإن ذلك من فضائل الأعمال وإن لم ينم ولم يشتغل بالكسب واشتغل بالصلاة والذكر فهو أفضل أعمال النهار لأنه وقت غفلة الناس عن الله عز وجل واشتغالهم بهموم الدنيا فالقلب المتفرغ لخدمة ربه عند إعراض العبيد عن بابه جدير بأن يزكيه الله تعالى ويصطفيه لقربه ومعرفته وفضل ذلك كفضل إحياء الليل فإن الليل وقت الغفلة بالنوم وهذا وقت الغفلة باتباع الهوى والاشتغال بهموم الدنيا وأحد معنى قوله تعالى {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر} أي يخلف أحدهما الآخر في الفضل والثاني أنه يخلفه فيتدارك فيه ما فات في أحدهما
الورد الرابع ما بين الزوال إلى الفراغ من صلاة الظهر وراتبته وهذا أقصر أوراد النهار وأفضلها فإذا كان قد توضأ قبل الزوال وحضر المسجد فمهما زالت الشمس وابتدأ المؤذن الأذان فليصبر إلى الفراغ من جواب أذانه ثم ليقم إلى إحياء ما بين الأذان والإقامة فهو وقت الإظهار الذي أراده الله تعالى بقوله {وحين تظهرون} وليصل في هذا الوقت أربع ركعات لا يفصل بينهن بتسليمة واحدة (1) وهذه الصلاة وحدها من بين سائر صلوات النهار نقل بعض العلماء أنه يصليها بتسليمة واحدة ولكن طعن في تلك الرواية ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يصلي مثنى مثنى كسائر النوافل ويفصل بتسليمة (2) وهو الذي صحت به الأخبار وليطول هذه الركعات إذ فيها تفتح أبواب السماء كما أوردنا الخبر فيه في باب صلاة التطوع وليقرأ فيها سورة البقرة أو سورة من المئين أو أربعاً من المثاني فهذه ساعات يستجاب فيها الدعاء وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتفع له فيها عمل ثم يصلي الظهر بجماعة بعد أربع ركعات طويلة كما سبق أو قصيرة لا ينبغي أن يدعها ثم ليصل بعد الظهر ركعتين ثم أربعاً فقد كره ابن مسعود أن تتبع الفريضة بمثلها من غير فاصل ويستحب أن يقرأ في هذه النافلة آية الكرسي وآخر سورة البقرة والآيات التي أوردناها في الورد الأول ليكون ذلك جامعاً له بين الدعاء والذكر والقراءة والصلاة والتحميد والتسبيح مع شرف الوقت
الورد الخامس ما بعد ذلك إلى العصر ويستحب فيه العكوف في المسجد مشتغلاً بالذكر والصلاة أو فنون الخير ويكون في انتظار الصلاة معتكفاً فمن فضائل الأعمال انتظار الصلاة بعد الصلاة وكان ذلك سنة السلف كان الداخل يدخل المسجد بين الظهر والعصر فيسمع للمصلين دوياً كدوي النحل من التلاوة فإن كان بيته أسلم لدينه وأجمع لهمه فالبيت أفضل في حقه فإحياء هذا الورد وهو أيضاً وقت غفلة الناس كإحياء الورد الثالث في الفضل وفي هذا الوقت يكره النوم لمن نام قبل الزوال إذ يكره نومتان بالنهار قال بعض العلماء ثلاث يمقت الله عليها الضحك بغير عجب والأكل من غير جوع والنوم بالنهار من غير سهر بالليل والحد في النوم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة فالاعتدال في نومه ثمان ساعات في الليل والنهار جميعاً فإن نام هذا القدر بالليل فلا معنى للنوم بالنهار وإن نقص منه مقداراً استوفاه بالنهار فحسب ابن آدم إن عاش ستين سنة أن ينقص من عمره عشرون سنة ومهما نام ثمان ساعات وهو الثلث فقد نقص من عمره الثلث ولكن لما كان النوم غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الأبدان
_________
(1) حديث صلاة أربع بعد الزوال بتسليمة واحدة وفيه أنها فيها تفتح أبواب السماء وأنها ساعة يستجاب فيها الدعاء فأحب أن يرفع لي فيها عمل صالح أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي أيوب وقد تقدم في الصلاة في الباب السادس
(2) حديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى أخرجه أبو داود وابن حبان من حديث ابن عمر(1/339)
وكما أن العلم والذكر غذاء القلب لم يمكن قطعه عنه وقدر الاعتدال هذا والنقصان منه ربما يفضي إلى اضطراب البدن إلا من يتعود السهر تدريجاً فقد يمرن نفسه عليه من غير اضطراب وهذا الورد من أطول الأوراد وأمتعها للعباد وهو أحد والآصال التي ذكرها الله تعالى إذ قال ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال وإذا سجد لله عز وجل الجمادات فكيف يجوز أن يغفل العبد العاقل عن أنواع العبادات
الورد السادس إذا دخل وقت العصر دخل وقت الورد السادس وهو الذي أقسم الله تعالى به فقال تعالى {والعصر} هذا أحد معنيي الآية وهو المراد بالآصال في أحد التفسيرين وهو العشي المذكور في قوله {وعشياً} وفي قوله {بالعشي والإشراق} وليس في هذا الورد صلاة إلا أربع ركعات بين الأذان والإقامة كما سبق في الظهر ثم يصلي الفرض ويشتغل بالأقسام الأربعة المذكورة في الورد الأول إلى أن ترتفع الشمس إلى رءوس الحيطان وتصفر والأفضل فيه إذ منع عن الصلاة تلاوة القرآن بتدبر وتفهم إذ يجمع ذلك بين الذكر والدعاء والفكر فيندرج في هذا القسم أكثر مقاصد الأقسام الثلاثة
الورد السابع إذا اصفرت الشمس بأن تقرب من الأرض بحيث يغطي نورها العبارات والبخارات التي على وجه الأرض ويرى صفرة في ضوئها دخل وقت هذا الورد وهو مثل الورد الأول من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأنه قبل الغروب كما أن ذلك قبل الطلوع وهو المراد بقوله تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} وهذا هو الطرف الثاني المراد بقوله تعالى {فسبح وأطراف النهار} قال الحسن كانوا أشد تعظيماً للعشي منهم لأول النهار وقال بعض السلف كانوا يجعلون أول النهار للدنيا وآخره للآخرة فيستحب في هذا الوقت التسبيح والاستغفار خاصة وسائر ما ذكرناه في الورد الأول مثل أن يقول أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة وسبحان الله العظيم وبحمده مأخوذ من قوله تعالى {واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} والاستغفار على الأسماء التي في القرآن أحب كقوله أستغفر الله إنه كان غفاراً أستغفر الله إنه كان تواباً رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ويستحب أن يقرأ قبل غروب الشمس والشمس وضحاها والليل إذا يغشى والمعوذتين ولتغرب الشمس عليه وهو في الاستغفار فإذا سمع الأذان قال اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك كما سبق ثم يجيب المؤذن ويشتغل بصلاة المغرب وبالغروب قد انتهت أوراد النهار فينبغي أن يلاحظ العبد أحواله ويحاسب نفسه فقد انقضى من طريقه مرحلة فإن ساوى يومه أمسه فيكون مغبوناً وإن كان شراً منه فيكون معلونا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بورك لي في يوم لا أزداد فيه خيراً (1) فإن رأى نفسه متوفراً على الخير جميع نهاره مترفهاً عن التجشم كانت بشارة فليشكر الله تعالى على توفيقه وتسديده إياه لطريقه وإن تكن الأخرى فالليل خلفه النهار فليعزم على تلافي ما سبق من تفريطه فإن الحسنات يذهبن السيئات وليشكر الله تعالى على صحة جسمه وبقاء بقية من عمره طول ليله ليشتغل بتدارك تقصيره وليحضر في قلبه أن نهار العمر له آخر تغرب فيه شمس الحياة فلا يكون لها بعدها طلوع وعند ذلك يغلق باب التدارك والاعتذار فليس العمر إلا أياماً معدودة تنقضي لا محالة جملتها بانقضاء آحادها
_________
(1) حديث لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه خيرا تقدم في العلم في الباب الأول إلا أنه قال علما بدل خيرا(1/340)
بيان أوراد الليل وهي خمسة
الأول إذا غربت الشمس صلى المغرب واشتغل بإحياء ما بين العشاءين فآخر هذا الورد عند غيبوبة الشفق أعني الحمرة التي بغيبوبتها يدخل وقت العتمة وقد أقسم الله تعالى به فقال {فلا أقسم بالشفق} والصلاة فيه هي ناشئة الليل لأنه أول نشوء ساعاته وهو آن من الآناء المذكورة في قوله تعالى {ومن آناء الليل فسبح} وهي صلاة الأوابين وهي المراد بقوله تعالى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} روي ذلك عن الحسن وأسنده ابن أبي زياد إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم الصلاة بين العشاءين ثم قال صلى الله عليه وسلم عليكم بالصلاة بين العشاءين فإنها تذهب بملاغات النهار وتهذب آخره (1) والملاغات جمع ملغاة من اللغو وسئل أنس رحمه الله عمن ينام بين العشاءين فقال لا تفعل فإنها الساعة المعنية بقوله تعالى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} وسيأتي فضل إحياء ما بين العشاءين في الباب الثاني وترتيب هذا الورد أن يصلي بعد المغرب ركعتين أولاً يقرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ويصليهما عقيب المغرب من غير تخلل كلام ولا شغل ثم يصلي أربعاً يطيلها ثم يصلي إلى غيبوبة الشفق ما تيسر له وإن كان المسجد قريباً من المنزل فلا بأس أن يصليها في بيته إن لم يكن عزمه العكوف في المسجد وإن عزم على العكوف في انتظار العتمة فهو الأفضل إذا كان آمناً من التصنع والرياء
والورد الثاني يدخل بدخول وقت العشاء الآخرة إلى حد نومة الناس وهو أول استحكام الظلام وقد أقسم الله تعالى به إذ قال {والليل وما وسق} أي وما جمع من ظلمته وقال {إلى غسق الليل} فهناك يغسق الليل وتستوسق ظلمته وترتيب هذا الورد بمراءة ثلاثة أمور الأول أن يصلي سوى فرض العشاء عشر ركعات أربعاً قبل الفرض إحياء لما بين الأذانين وستاً بعد الفرض ركعتين ثم أربعاً ويقرأ فيها من القرآن الآيات المخصوصة كآخر البقرة وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر وغيرها والثاني أن يصلي ثلاث عشرة ركعة آخرهن الوتر فإنه أكثر مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلى بها من الليل (2) والأكياس يأخذون أوقاتهم من أول الليل والأقوياء من آخره والحزم التقديم فإنه ربما لا يستيقظ أو يثقل عليه القيام إلا إذا صار ذلك عادة له فآخر الليل أفضل ثم ليقرأ في هذه الصلاة قدر ثلثمائة آية من السور المخصوصة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر قراءتها مثل يس وسجدة لقمان وسورة الدخان وتبارك الملك والزمر والواقعة (3) فإن لم يصل فلا يدع قراءة هذه السور أو بعضها
_________
(1) حديث سئل عن قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع {فقال} الصلاة بين العشاءين {ثم قال} عليكم بالصلاة بين العشاءين فإنها تذهب بملاغات النهار وتهذب آخره قال المصنف أسنده ابن أبي الزناد إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت إنما هو إسماعيل بن أبي زياد بالياء المثناة من تحت رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من رواية إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن الأعمش حدثنا أبو العلاء العنبري عن سلمان قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليكم بالصلاة بين العشاءين فإنها تذهب بملاغات أول النهار ومهذبة آخره وإسماعيل هذا متروك يضع الحديث قاله الدارقطني واسم أبي زياد مسلم وقد اختلف فيه على الأعمش ولابن مردويه من حديث أنس أنها نزلت في الصلاة بين المغرب والعشاء والحديث عند الترمذي وحسنه بلفظ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة
(2) حديث الوتر ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل وأنه أكثر ما صلى به النبي صلى الله عليه وسلم من الليل أخرجه أبو داود من حديث عائشة لم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة ركعة والبخاري من حديث ابن عباس وكانت صلاته ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل ومسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة وفي رواية للشيخين منها ركعتا الفجر ولهما أيضا ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة
(3) حديث إكثار صلى الله عليه وسلم من قراءة يس وسجدة لقمان وسورة الدخان وتبارك الملك والزمر والواقعة غريب لم أقف على ذكر الإكثار فيه وابن حبان من حديث جندب من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له والترمذي من حديث جابر كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك وله من حديث عائشة كان لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر وقال حسن غريب وله من حديث أبي هريرة من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك قال غريب ولأبي الشيخ في الثواب من حديث عائشة من قرأ في ليلة الم تنزيل ويس وتبارك الذي بيده الملك واقتربت كن له نورا الحديث ولأبي منصور المظفر بن الحسين الغزنوي في فضائل القرآن من حديث علي يا علي أكثر من قراءة يس الحديث وهو منكر وللحارث بن أبي أسامة من حديث ابن مسعود بسند ضعيف من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا والترمذي من حديث ابن عباس شيبتني هود والواقعة الحديث وقال حسن غريب(1/341)
قبل النوم فقد روي في ثلاث أحاديث ما كان يقرؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة أشهرها السجدة وتبارك الملك (1) والزمر والواقعة وفي رواية الزمر وبني إسرائيل (2) وكان العلماء يجعلونها ستاً فيزيدون سبح اسم ربك الأعلى إذ في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب سبح اسم ربك الأعلى وكان يقرأ في ثلاث ركعات الوتر ثلاث سور سبح اسم ربك الأعلى (3) وقل يا أيها الكافرون والإخلاص (4) فإذا فرغ قال سبحان الملك القدوس ثلاث مرات
الثالث الوتر وليوتر قبل النوم إن لم يكن عادته القيام قال أبو هريرة رضي الله عنه أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا أنام إلا على وتر (5) وإن كان معتاداً صلاة الليل فالتأخير أفضل قال صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة (6) وقالت عائشة رضي الله عنها أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر (7) وقال علي رضي الله عنه الوتر على ثلاثة أنحاء إن شئت أوترت أول الليل ثم صليت ركعتين ركعتين يعني أنه يصير وتراً بما مضى وإن شئت أوترت بركعة فإذا استيقظت شفعت إليها أخرى ثم أوترت من آخر الليل وإن شئت أخرت الوتر ليكون آخر صلاتك هذا ما روي عنه والطريق الأول والثالث لا بأس به وأما نقض الوتر فقد صح فيه نهي فلا ينبغي أن ينقض (8) وروي مطلقاً أنه صلى الله عليه وسلم قال لا وتران في ليلة (9) ولمن يتردد في استيقاظه تلطف استحسنه بعض العلماء وهو أن يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً على فراشه عند النوم كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزحف إلى فراشه ويصليهما ويقرأ فيهما إذا زلزلت وألهاكم (10) لما فيهما من التحذير والوعيد وفي رواية قل يا أيها الكافرون لما فيها من التبرئة وإفراد العبادة لله تعالى فقيل إن استيقظ قامتا مقام ركعة واحدة وكان له أن يوتر بواحدة في آخر صلاة الليل وكأنه صار ما مضى شفعا بهما وحسن استئناف الوتر واستحسن هذا أبو طالب المكي وقال فيه ثلاثة أعمال قصر الأمل وتحصيل الوتر والوتر آخر الليل وهو كما
_________
(1) حديث كان يقرأ في كل ليلة الزمر وبني إسرائيل أخرجه الترمذي وتقدم في حديث قبله
(2) حديث كان يقرأ المسبحات في كل ليلة ويقول فيهن آية أفضل من ألف آية أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن والنسائي في الكبرى من حديث عرباض بن سارية
(3) حديث كان يحب سبح اسم ربك الأعلى أخرجه أحمد والبزار من حديث علي بسند ضعيف
(4) حديث كان يقرأ في ثلاث ركعات الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون والإخلاص أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح وتقدم في الصلاة من حديث أنس
(5) حديث أبي هريرة أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا أنام إلا على وتر متفق عليه بلفظ أن أوتر قبل أن أنام
(6) حديث صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة متفق عليه من حديث ابن عمر
(7) حديث عائشة أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر متفق عليه
(8) حديث النهي عن نقض الوتر قال المصنف صح فيه نهي قلت وإنما صح من قول عابد بن عمرو وله صحبة كما رواه البخاري ومن قول ابن عباس كما رواه البيهقي ولم يصرح بأنه مرفوع فالظاهر أنه إنما أراد ما ذكرناه من الصحابة
(9) حديث لا وتران في ليلة أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي من حديث طلق بن علي
(10) حديث الركعتين بعد الوتر جالسا تقدم في الصلاة رواه مسلم من حديث عائشة(1/342)
ذكره لكن ربما يخطر أنهما لو شفعتا ما مضى لكان كذلك وإن لم يستيقظ وأبطل وتره الأول فكونه شافعاً إن استيقظ غير مشفع إن نام فبه نظر إلا أن يصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيتاره قبلهما وإعادته الوتر فيفهم منه أن الركعتين شفع بصورتهما وتر بمعناهما فيحسب وتراً إن لم يستيقظ وشفعا إن استيقط
ثم يستحب بعد التسليم من الوتر أن يقول سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح جللت السموات والأرض بالعظمة والجبروت وتعززت بالقدرة وقهرت العباد بالموت روي أنه صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كان أكثر صلاته جالساً إلا المكتوبة (1) وقد قال للقاعد نصف أجر القائم وللنائم نصف أجر القاعد (2) وذلك يدل على صحة النافلة دائماً
الورد الثالث النوم ولا بأس أن يعد ذلك في الأوراد فإنه إذا روعيت آدابه احتسب عبادة فقد قيل إن للعبد إذا نام على طهارة وذكر الله تعالى يكتب مصلياً حتى يستيقظ ويدخل في شعاره ملك فإن تحرك في نومه فذكر الله تعالى دعا له الملك واستغفر له الله (3) وفي الخبر إذا نام على طهارة رفع روحه إلى العرش (4) هو ضعيف (5) حديث نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح قلت المعروف فيه الصائم دون العالم وقد تقدم في الصوم (6) حديث قال معاذ لأبي موسى كيف تصنع في قيام الليل فقال أقوم الليل أجمع لا أنام منه شيئاً وأتفوق القرآن تفوقاً قال معاذ لكني أنام ثم أقوم واحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال معاذ أفقه منك متفق عليه بنحوه من حديث أبي سعيد وليس فيه أنهما ذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ولا قوله معاذ أفقه منك وإنما زاد فيه الطبراني فكان معاذ أفضل منه (7) حديث إذا نام العبد على طهارة عرج بروحه إلى العرش فكانت رؤياه صادقة الحديث تقدم (8) حديث أنه كان يستاك في كل ليلة مراراً عند كل نومة وعند التنبه منها تقدم في الطهارة (9) حديث من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة من الله عليه أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي الدرداء (10) الثَّالِثُ أَنْ لَا يَبِيتَ مَنْ لَهُ وَصِيَّةٌ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يأمن
_________
(1) حديث ما مات حتى كان أكثر صلاته جالساً إلا المكتوبة متفق عليه من حديث عائشة لما بدن النبي صلى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالساً
(2) حديث للقاعد نصف أجر القائم وللنائم نصف أجر القاعد أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين
(3) حديث قيل إنه إذا نام على طهارة ذاكرا لله تعالى يكتب مصليا ويدخل في شعاره ملك الحديث أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر من بات طاهرا بات في شعاره ملك فلم يستيقظ إلا قال الملك اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرا
(4) حديث إذا نام على الطهارة رفع روحه إلى العرش أخرجه ابن المبارك في الزهد موقوفاً على أبي الدرداء والبيهقي في الشعب موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص وروى الطبراني في الأوسط من حديث علي ما من عبد ولا أمة تنام فتثقل نوما إلا عرج بروحه إلى العرش فالذي لا يستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق والذي يستيقظ دون العرش فهي الرؤيا التي تكتب
(5) هذا في العوام فكيف بالخواص والعلماء وأرباب القلوب الصافية فإنهم يكاشفون بالأسرار في النوم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح
(6) وقال معاذ لأبي موسى كيف تصنع في قيام الليل فقال أقوم الليل أجمع لا أنام منه شيئا واتفوق في القرآن فيه تفوقاً قال معاذ لكني أنا أنام ثم أقوم واحتسب في نومتي ما أحتسب من قومتي فذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معاذ أفقه منك
(7) وآداب النوم عشرة الأول الطهارة والسواك قال صلى الله عليه وسلم إذا نام العبد على طهرة عرج بروحه إلى العرش فكانت رؤياه صادقة وإن لم ينم على طهارة قصرت روحه عن البلوغ فتلك المنامات أضغاث أحلام لا تصدق
(8) وهذا أريد به طهارة الظاهر والباطن جميعاً وطهارة الباطن هي المؤثرة في انكشاف حجب الغيب الثاني أن يعد عنه رأسه سواكه وطهوره وينوي القيام للعبادة عند التيقظ وكلما يتنبه يستاك كذلك كان يفعله بعض السلف وروي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يستاك في كل ليلة مراراً عند كل نومة وعند التنبه منها
(9) وإن لم يتيسر له الطهارة يستحب له مسح الأعضاء بالماء فإن لم يجد فليقعد وليستقبل القبله وليشتغل بالذكر والدعاء والتفكر في آلاء الله تعالى وقدرته فذلك يقوم مقام قيام الليل وقال صلى الله عليه وسلم من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من الله تعالى
(10) بسند صحيح(1/343)
القبض في النوم فإن من مات من غير وصية لم يؤذن له في الكلام بالبرزخ إلى يوم القيامة يتزاوره الأموات ويتحدثون وهو لا يتكلم فيقول بعضهم لبعض هذا المسكين مات من غير وصية وذلك مستحب خوف موت الفجأة وموت الفجأة تخفيف إلا لمن ليس مستعداً للموت بكونه مثقل الظهر بالمظالم الرَّابِعُ أَنْ يَنَامَ تَائِبًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ سَلِيمَ الْقَلْبِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِظُلْمِ أَحَدٍ وَلَا يَعْزِمَ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِنِ استيقظ قال صلى الله عليه وسلم من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم (1) الخامس أن لا يتنعم بتمهيد الفرش الناعمة بل يترك ذلك أو يقتصد فيه كان بعض السلف يكره التمهيد للنوم ويرى ذلك تكلفاً وكان أهل الصفة لا يجعلون بينهم وبين التراب حاجزاً ويقولون منها خلقنا وإليها نرد وكانوا يرون ذلك أرق لقلوبهم وأجدر بتواضع نفوسهم فمن لم تسمح بذلك نفسه فليقتصد السَّادِسُ أَنْ لَا يَنَامَ مَا لَمْ يَغْلِبْهُ النَّوْمُ وَلَا يَتَكَلَّفَ اسْتِجْلَابَهُ إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فقد كان نومهم غلبة وأكلهم فاقة وكلامهم ضرورة ولذلك وصفوا بأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وإن غلبة النوم عن الصلاة والذكر وصار لا يدري ما يقول فلينم حتى يعقل ما يقول وكان ابن عباس رضي الله عنه يكره النوم قاعداً وفي الخبر لا تكابدوا الليل (2) وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن فلانة تصلي بالليل فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل فنهى عن ذلك وقال ليصل أحدكم من الليل ما تيسر له فإذا غلبه النوم فليرقد (3) وقال صلى الله عليه وسلم تكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا (4) وقال صلى الله عليه وسلم خير هذا الذين أيسره (5) وقيل له صلى الله عليه وسلم إن فلانا يصلي فلا ينام ويصوم فلا يفطر فقال لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر هذه سنتي فمن رغب عنها فليس مني (6) وقال صلى الله عليه وسلم لا تشادوا هذا الدين فإنه متين فمن يشاده يغلبه فلا تبغض إلى نفسك عبادة الله (7) السابع أن ينام مستقبل القبلة والاستقبال على ضربين أحدهما استقبال المحتضر وهو المستلقي على قفاه فاستقباله أن يكون وجهه وأخمصاه إلى القبلة والثاني استقبال اللحد وهو أن ينام على جنب بأن يكون وجهه إليها مع قبالة بدنه إذا نام على شقه الأيمن الثامن الدعاء عند النوم فيقول باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إلى آخر الدعوات المأثورة التي أوردناها في كتاب الدعوات (8) ويستحب أن يقرأ الآيات المخصوصة مثل آية الكرسي وآخر البقرة وغيرهما وقوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو إلى قوله لقوم يعقلون يقال إن من قرأها عند النوم حفظ الله عليه القرآن فلم ينسه ويقرأ من سورة الأعراف هذه الآية إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام إلى قوله
_________
(1) حديث من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب النية من حديث أنس من أسبع ولم يهم بظلم أحد غفر له ما اجترم وسنده ضعيف
(2) حديث لا تكابدوا الليل أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بسند ضعيف وفي جامع سفيان الثوري موقوفا على ابن مسعود لا تعالوا هذا الليل
(3) حديث قيل له إن فلانة تصلي فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل فنهاهن عن ذلك الحديث متفق عليه من حديث أنس
(4) حديث تكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا متفق عليه من حديث عائشة بلفظ اكلفوا
(5) حديث خير هذا الدين أيسره أخرجه أحمد من حديث محجن بن الأدرع وتقدم في العلم
(6) حديث قيل له إن فلاناً يصلي ولا ينام ويصوم ولا يفطر فقال لكنني أصلي وأنام وأصوم وأفطر هذه سنتي فمن رغب عنها فليس مني أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو دون قوله هذه سنتي الخ وهذه الزيادة لابن خزيمة من رغب عن سنتي فليس مني وهي متفق عليها من حديث أنس
(7) حديث لا تشادوا هذا الدين فإنه متين فمن يشاده يغلبه ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة لن يشاد هذا الدين أحدا إلا غلبه فسددوا وقاربوا وللبيهقي من حديث جابر إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ولا يصح إسناده
(8) حديث الدعاء المأثور عند النوم باسمك اللهم رب وضعت جنبي الحديث إلى آخر الدعوات المأثورة التي أوردناها في الدعوات تقدم هناك وبقية الدعوات(1/344)
قريب من المحسنين وآخر بني آسرائيل قل ادعوا الله الآيتين فإنه يدخل في شعاره ملك يوكل بحفظه فيستغفر له ويقرأ المعوذتين وَيَنْفُثُ بِهِنَّ فِي يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وسائر جسده كذلك روي من فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وليقرأ عشراً من أول الكهف وعشراً من آخرها وهذه الآي للاستيقاظ لقيام الليل وكان علي كرم الله وجهه يقول ما أرى أن رجلاً مستكملاً عقله ينام قبل أن يقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة وليقل خمساً وعشرين مرة سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر ليكون مجموع هذه الكلمات الأربع مائة مرة التَّاسِعُ أَنْ يَتَذَكَّرَ عِنْدَ النَّوْمِ أَنَّ النَّوْمَ نوع وفاة والتيقظ نوع بعث قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها {وقال} وهو الذي يتوفاكم بالليل فسماه توفياً وكما أن المستيقظ تنكشف له مشاهدات لا تناسب أحواله في النوم فكذلك المبعوث يرى ما لم يخطر قط بباله ولا شاهده حسه ومثل النوم بين الحياة والموت مثل البزخ بين الدنيا والآخرة وقال لقمان لابنه يا بني إن كنت تشك في الموت فلا تنم فكما أنك تنام كذلك تموت وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه فكما أنك تنتبه بعد نومك فكذلك تبعث بعد موتك وقال كعب الأحبار إذا نمت فاضطجع على شقك الأيمن واستقبل القبلة بوجهك فإنها وفاة وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ما يقول حين ينام وهو واضع خده على يده اليمنى وهو يرى أنه ميت في ليلته تلك اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ومليكه (2) الدعاء إلى آخره كما ذكرناه في كتاب الدعوات فحق على العبد أن يفتش عن ثلاثة عند نومه أنه على ماذا ينام وما الغالب عليه حب الله تعالى وحب لقائه أو حب الدنيا وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّهُ يُتَوَفَّى عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ عليه ويحشر على ما يتوفى عليه فإن المرء مع من أحب ومع ما أحب
العاشر الدعاء عن التنبه فليقل في تيقظاته وتقلباته مهما تنبه ما كان يقوله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إله إلا الله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (3) وليجتهد أن يكون آخر ما يجري على قلبه عند النوم ذكر الله تعالى وأول ما يرد على قلبه عند التيقظ ذكر الله تعالى فهو علامة الحب ولا يلازم القلب في هاتين الحالتين إلا ما هو الغالب عليه فليجرب قلبه به فهو علامة الحب فإنها علامة تكشف من باطن القلب وإنما استحبت هذه الأذكار لتستجر القلب إلى ذكر الله تعالى فإذا استيقظ ليقوم قال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وإليه النشور إلى آخر ما أوردناه من أدعية التيقظ
الورد الرابع يدخل بمضي النصف الأول من الليل إلى أن يبقى من الليل سدسه وعند ذلك يقوم العبد للتهجد فاسم التهجد يختص بما بعد الهجود والهجوع وهو النوم وهذا وسط الليل ويشبه الورد الذي بعد الزوال وهو وسط النهار وبه أقسم الله تعالى فقال والليل إذا سجى أي إذا سكن وسكونه هدوه في هذا الوقت فلا تبقى عين إلا نائمة سوى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وقيل إذا سجى إذا امتد وطال وقيل إذا أظلم وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الليل أسمع فقال جوف الليل (4) وقال داود صلى الله عليه وسلم إلهي إني أحب أن أتعبد لك فأي وقت أفضل فأوحى الله تعالى إليه يا داود لا تقم أول الليل ولا آخره فإن من قام
_________
(1) حديث قراءة المعوذتين عند النوم ينفث بِهِنَّ فِي يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَسَائِرَ جسده متفق عليه من حديث عائشة
(2) حديث عائشة كان آخر ما يقول حين ينام وهو واضع خده على يده اليمنى اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم الحديث تقدم في الدعوات دون وضع الخد على اليد وتقدم من حديث حفصة
(3) حديث كان يقول عند تيقظه لا إله إلا الله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار أخرجه ابن السني وأبو نعيم في كتابيهما عمل اليوم والليلة من حديث عائشة
(4) حديث سئل أي الليل أسمع قال جوف الليل أخرجه أبو داود والترمذي وصححه من حديث عمرو بن عنبسه(1/345)
أوله نام آخره ومن قام آخره لم يقم أوله ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك وارفع إلي جوائجك وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الليل أفضل فقال نصف الليل الغابر (1) يعني الباقي وفي آخر الليل وردت الأخبار باهتزاز العرش وانتشار الرياح من جنات عدن ومن نزول الجبار تعالى إلى سماء الدنيا (2) وغير ذلك من الأخبار وترتيب هذا الورد أنه بعد الفراغ من الأدعية التي للاستيقاظ يتوضأ وضوءاً كما سبق بسننه وآدابه وأدعيته ثم يتوجه إلى مصلاه ويقوم مستقبلا القبلة ويقول اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ الله بكرة وأصيلاً ثم يسبح عشراً وليحمد الله عشراً ويهلل عشراً وليقل الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة والجلال والقدرة وليقل هذه الكلمات فإنها مأثورة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيامه للتهجد اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت بهاء السموات والأرض ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن أنت الحق ومنك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنشور حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وما أعلنت وأسرفت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت (3) اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها (4) اللهم اهدني لأحسن الأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت (5) أسألك مسألة البائس المسكين وأدعوك دعاء المفتقر الذليل فلا تجعلني بدعائك رب شقياً وكن بي رءوفاً رحيماً يا خير المسئولين وأكرم المعطين (6) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي من تشاء إلى صراط مستقيما (7) ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى مَا تَيَسَّرَ لَهُ وَيَخْتِمُ بِالْوِتْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى الْوِتْرَ ويستحب أن يفصل بين الصلاتين عند تسليمه بمائة تسبيحة ليستريح ويزيد نشاطه للصلاة وقد صح في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل أنه صلى أولاً ركعتين خفيفتين ثم ركعتين طويلتين ثم ركعتين دون اللتين قبلهما ثم لم يزل يقصر بالتدريج إلى ثلاث عشرة
_________
(1) حديث سئل أي الليل أفضل قال نصف الليل الغابر أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أبي ذر دون قوله 2 الغابر وهي في بعض طرق حديث عمرو بن عنبسة
(2) الأخبار الواردة في اهتزاز العرش وانتشار الرياح من جنات عدن في آخر الليل ونزول الجبار إلى سماء الدنيا أما حديث النزول فقد تقدم وأما الباقي فهي آثار رواها محمد بن نصر في قيام الليل من رواية سعيد الجريري قال قال داود يا جبريل أي الليل أفضل قال ما أدري غير أن العرش يهتز من السحر وفي رواية له عن الجريري عن سعيد بن أبي الحسن قال إذا كان من السحر ألا ترى كيف تفوح ريح كل شجر وله من حديث أبي الدرداء مرفوعا أن الله تبارك وتعالى لينزل في ثلاث ساعات بقين من الليل يفتتح الذكر في الساعة الأولى {وفيه} ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن الحديث وهو مثله
(3) حديث القول في قيامه للتهجد اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس دون قوله أنت بهاء السموات والأرض ولك الحمد أنت زين السموات والأرض ودون قوله ومن عليهن ومنك الحق
(4) حديث اللهم آت نفسي تقرأها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها أخرجه أحمد بإسناد جيد من حديث عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول رب أعط نفسي تقواها الحديث
(5) حديث اللهم اهدني لأحسن الأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت أخرجه مسلم من حديث علي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قام إلى الصلاة فذكره بلفظ لأحسن الأخلاق وفيه زيادة في أوله
(6) حديث أسألك مسألة البائس المسكين وأدعوك دعاء المضطر الذليل الحديث أخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن عباس أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة تقدم في الحج
(7) حديث عائشة كان إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ قَالَ اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض الحديث رواه مسلم(1/346)
ركعة (1) وسئلت عائشة رضي الله عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في قيام الليل أم يسر فقالت ربما جهر وربما أسر (2) وقال صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة (3) وقال صلاة المغرب أوترت صلاة النهار فأوتروا صلاة الليل (4) وأكثر ما صح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام الليل ثلاث عشرة ركعة (5) ويقرأ في هذه الركعات من ورده من القرآن أو من السور المخصوصة ما خف عليه وهو في حكم هذا الورد قريب من السدس الأخير من الليل
الورد الخامس السدس الأخير من الليل وهو وقت السحر فإن الله تعالى قال {وبالأسحار هم يستغفرون} قيل يصلون لما فيها من الاستغفار وهو مقارب للفجر الذي هو وقت انصراف ملائكة الليل وإقبال ملائكة النهار وقد أمر بهذا الورد سلمان أخاه أبا الدرداء رضي الله عنهما ليلة زاره (6) في حديث طويل قال في آخره فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان نم فنام ثم ذهب ليقوم فقال له نم فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان قم الآن فقاما فصليا فقال إن لنفسك عليك حقاً وإن لضيفك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه وذلك أن امرأة أبي الدرداء أخبرت سلمان أنه لا ينام الليل قال فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال صدق سلمان وهذا هو الورد الخامس وفيه يستحب السحور وذلك عند خوف طلوع الفجر والوظيفة في هذين الوردين الصلاة فإذا طلع الفجر انقضت أوراد الليل ودخلت أوراد النهار فيقوم ويصلي ركعتي الفجر وهو المراد بقوله تعالى ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم ثم يقرأ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة إلى آخرها ثم يقول وأنا أشهد بما شهد الله به لنفسه وشهدت به ملائكته وأولو العلم من خلقه وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله تعالى وديعة وأسأله حفظها حتى يتوفاني عليها اللهم احطط عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً واحفظها علي وتوفني عليها حتى ألقاك بها غير مبدل تبديلاً فهذا ترتيب الأوراد للعباد وقد كانوا يستحبون أن يجمعوا مع ذلك في كل يوم بين أربعة أمور صوم وصدقة وإن قلت وعيادة مريض وشهود جنازة ففي الخبر من جمع بين هذه الأربع في يوم غفر له (7) وفي رواية دخل الجنة فإن أنفق بعضها وعجز عن الآخر كان له أجر الجميع بحسب نيته وكانوا يكرهون أن ينقضي اليوم ولم يتصدقوا فيه بصدقة ولو بتمرة أو بصلة أو كسرة خبز لقوله صلى الله عليه وسلم الرجل فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ (8) ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشق تمرة (9) ودفعت عائشة رضي الله عنها إلى سائل عنبة واحدة فأخذها فنظر من كان عندها بعضهم إلى بعض فقالت ما لكم إن فيها لمثاقيل ذر كثير وكانوا لا يستحبون رد السائل إذ كان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
_________
(1) حديث أنه صلى بالليل أولاً ركعتين خفيفتين ثم ركعتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم لم يزل يقصر بالتدريج إلى ثلاث عشرة ركعة أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني
(2) حديث سئلت عائشة أكان يجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أم يسر فقالت ربما جهر وربما أسر أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح
(3) حديث صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة متفق عليه وقد تقدم
(4) حديث صلاة المغرب أوترت صلاة النهار فأوتروا صلاة الليل أخرجه أحمد من حديث ابن عمر بإسناد صحيح
(5) حديث القيام من الليل ثلاث عشرة ركعة فإنه أكثر ما صح عنه تقدم
(6) حديث زار سلمان أبا الدرداء فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان نم فنام الحديث وفي آخره فقال صدق سلمان أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة
(7) حديث من جمع بين صوم وصدقة وعيادة مريض وشهود جنازة في يوم غفر له وفي رواية دخل الجنة أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة
(8) حديث الرجل فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ تقدم في الزكاة
(9) حديث اتقوا النار ولو بشق تمرة تقدم في الزكاة(1/347)
ما سأله أحد شيئاً فقال لا ولكنه إن لم يقدر عليه سكت (1) وفي الخبر يصبح ابن آدم وعلى كل سلامى من جسده صدقة يعني المفصل وفي جسده ثلثمائة وستون مفصلاً فأمرك بالمعروف صدقة ونهيك عن المنكر صدقة وحملك عن الضعيف صدقة وهدايتك إلى الطريق صدقة وإماطتك الأذى صدقة حتى ذكر التسبيح والتهليل ثم قال وركعتا الضحى تأتي على ذلك كله أو تجمعن لك ذلك كله (2)
بيان اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال
اعلم أن المريد لحرث الآخرة السالك لطريقها لا يخلو عن ستة أحوال فإنه إما عابد وإما عالم وإما متعلم وإما وال وإما محترف وإما موحد مستغرق بالواحد الصمد عن غيره الأول العابد وهو المتجرد لِلْعِبَادَةِ الَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ غَيْرُهَا أَصْلًا ولو ترك العبادة لجلس بطالاً فترتيب أوراده ما ذكرناه نعم لا يبعد أن تختلف وظائفه بأن يستغرق أكثر أوقاته إما في الصلاة أو القراءة أو في التسبيحات فقد كان في الصحابة رضي الله عنهم من ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحة وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفاً وكان فيهم من ورده ثلثمائة ركعة إلى ستمائة وإلى ألف ركعة وأقل ما نقل في أورادهم من الصلاة مائة ركعة في اليوم والليلة وكان بعضهم أكثر ورده القرآن وكان يختم الواحد منهم في اليوم مرة وروى مرتين عن بعضهم وكان بعضهم يقضي اليوم أو الليل في التفكر في آية واحدة يرددها وكان كرز بن وبرة مقيماً بمكة فكان يطوف في كل يوم سبعين أسبوعاً وفي كل ليلة سبعين أسبوعاً وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ ويكون مع كل أسبوع ركعتان فهو مائتان وثمانون ركعة وختمتان وعشرة فراسخ فإن قلت فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائماً مع التدبر يجمع الجميع ولكن ربما تعسر المواظبة عليه فالأفضل يختلف باختلاف حال الشخص ومقصود الأوراد تزكية القلب وتطهيره وتحليته بذكر الله تعالى وإيناسه به فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيراً فيه فليواظب عليه فإذا أحس بملالة منه فلينتقل إلى غيره ولذلك نرى الأصوب لأكثر الخلق توزيع هذه الخيرات المختلفة على الأوقات كما سبق والانتقال فيها من نوع إلى نوع لأن الملال هو الغالب على الطبع وأحوال الشخص الواحد في ذلك أيضاً تختلف ولكن إذا فهم فقه الأوراد وسرها فليتبع المعنى فإن سمع تسبيحة مثلاً وأحس لها بوقع قلبه فليواظب على تكرارها ما دام يجد لها وقعاً وقد روي عن إبراهيم بن أدهم عن بعض الأبدال أنه قام ذات ليلة يصلي على شاطىء البحر فسمع صوتاً عالياً بالتسبيح ولم ير أحداً فقال من أنت أسمع صوتك ولا أرى شخصك فقال أنا ملك من الملائكة موكل بهذا البحر أسبح الله تعالى بهذا التسبيح منذ خلقت قلت فما اسمك قال مهلهيائيل قلت فما ثواب من قاله قال من قاله مائة مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له والتسبيح هو قوله سبحان الله العلي الديان سبحان الله الشديد الأركان سبحان من يذهب بالليل ويأتي بالنهار سبحان من لا يشغله شأن عن شأن سبحان الله الحنان المنان سبحان الله المسبح في كل مكان فهذا وأمثاله إذا سمعه المريد ووجد له في قلبه وقعا فليلازمه وأياً ما وجد القلب عنده وفتح له فيه خير فليواظب عليه الثاني الْعَالِمُ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ بِعِلْمِهِ فِي فَتْوَى أَوْ تَدْرِيسٍ أَوْ تَصْنِيفٍ فَتَرْتِيبُهُ الْأَوْرَادَ يُخَالِفُ تَرْتِيبَ الْعَابِدِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُطَالَعَةِ لِلْكُتُبِ وَإِلَى التَّصْنِيفِ وَالْإِفَادَةِ وَيَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةٍ لَهَا لَا مَحَالَةَ فَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ فِيهِ فهو أفضل ما يشتغل
_________
(1) حديث ما سأله أحد شيئاً فقال لا إن لم يقدر عليه سكت أخرجه مسلم من حديث جابر وللبزار من حديث أنس أو يسكت
(2) حديث يصبح ابن آدم وعلى كل سلامى من جسده صدقة الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي ذر(1/348)
بِهِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ وَرَوَاتِبِهَا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جميع مَا ذَكَرْنَاهُ فِي فَضِيلَةِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَفِي الْعِلْمِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأَمُّلُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ رَسُولُهُ وَفِيهِ مَنْفَعَةُ الْخَلْقِ وَهِدَايَتُهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَرُبَّ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَعَلَّمُهَا الْمُتَعَلِّمُ فَيُصْلِحُ بِهَا عِبَادَةَ عُمْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّمْهَا لَكَانَ سَعْيُهُ ضَائِعًا وإنما نعني بالعلم المقدم على العبادة العلم الذي يرغب الناس في الآخرة ويزهدهم في الدنيا أو العلم الذي يعينهم على سلوك طريق الآخرة إذا تعلموه على قصد الاستعانة به على السلوك دون العلوم التي تزيد بها الرغبة في المال والجاه وقبول الخلق والأولى بالعالم أن يقسم أوقاته أيضاً فإن استغراق الأوقات في ترتيب العلم لا يحتمله الطبع فينبغي أن يخصص ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس بالأذكار والأوراد كما ذكرناه في الورد الأول وبعد الطلوع إلى ضحوة النهار في الإفادة والتعليم إن كان عنده من يستفيد علماً لأجل الآخرة وإن لم يكن فيصرفه إلى الفكر ويتفكر فيما يشكل عليه من علوم الدين فإن صفاء القلب بعد الفراغ من الذكر وقبل الاشتغال بهموم الدنيا يعين على التفطن للمشكلات ومن ضحوة النهار إلى العصر للتصنيف والمطالعة لا يتركها إلا في وقت أكل وطهارة ومكتوبة وقيلولة خفيفة إن طال النهار ومن العصر إلى الاصفرار يشتغل بسماع ما يقرأ بين يديه من تفسير أو حديث أو علم نافع ومن الاصفرار إلى الغروب يشتغل بالذكر والاستغفار والتسبيح فيكون ورده الأول قبل طلوع الشمس في عمل اللسان وورده الثاني في عمل القلب بالفكر إلى الضحوة وورده الثالث إلى العصر في عمل العين واليد بالمطالعة والكتابة وورده الرابع بعد العصر في عمل السمع ليروح فيه العين واليد فإن المطالعة والكتابة بعد العصر ربما أضرا بالعين وعند الاصفرار يعود إلى ذكر اللسان فلا يخلو جزء من النهار عن عمل له بالجوارح مع حضور القلب في الجميع وأما الليل فأحسن قسم فيه قسمة الشافعي رضي الله عنه إذ كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء ثلثاً للمطالعة وترتيب العلم وهو الأول وثلثاً للصلاة وهو الوسط وثلثاً للنوم وهو الأخير وهذا يتيسر في ليالي الشتاء والصيف ربما لا يحتمل ذلك إلا إذا كان أكثر النوم بالنهار فهذا ما نستحبه من ترتيب أوراد العالم الثالث المتعلم والاشتغال بالتعلم أفضل من الاشتغال بالأذكار والنوافل فحكمه حكم العالم في ترتيب الأوراد ولكن يشتغل بالاستفادة حيث يشتغل العالم بالإفادة وبالتعليق والنسخ حيث يشتغل العالم بالتصنيف ويرتب أوقاته كما ذكرنا وكل ما ذكرناه في فضيلة التعلم والعلم من كتاب العلم يدل على أن ذلك أفضل بل إن لم يكن متعلماً على معنى أنه يعلق ويحصل ليصير عالماً بل كان من العوام فحضوره مجالس الذكر والوعظ والعلم أفضل من اشتغاله بالأوراد التي ذكرناها بعد الصبح وبعد الطلوع وفي سائر الأوقات ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة وشهود ألف جنازة وعيادة ألف مريض (1) وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا فيها فقيل يا رسول الله وما رياض الجنة قال حلق الذكر (2) وقال كعب الأحبار رضي الله عنه لو أن ثواب مجالس العلماء بدا للناس لاقتتلوا عليه حتى يترك كل ذي إمارة إمارته وكل ذي سوق سوقه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة فإذا سمع العالم خاف واسترجع عن ذنوبه وانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله عز وجل لم يخلق على وجه الأرض تربة أكرم من مجالس العلماء وقال رجل للحسن رحمه الله أشكو إليك قساوة قلبي فقال أدنه من مجالس الذكر
_________
(1) حديث أبي ذر حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة الحديث تقدم في العلم
(2) حديث إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا فيها الحديث تقدم في العلم(1/349)
ورأى عمار الزاهدي مسكينة الطفاوية في المنام وكانت من المواظبات على حلق الذكر فقال مرحباً يا مسكينة فقالت هيهات هيهات ذهبت المسكنة وجاء الغنى فقال هيه فقالت ما تسأل عمن أبيح لها الجنة بحذافيراها قال وبم ذلك قالت بمجالسة أهل الذكر وعلى الجملة فما ينحل عن القلب من عقد حب الدنيا بقول واعظ حسن الكلام زكي السيرة أشرف وأنفع من ركعات كثيرة مع اشتمال القلب على حب الدنيا الرابع الْمُحْتَرِفُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الْكَسْبِ لِعِيَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ الْعِيَالَ وَيَسْتَغْرِقَ الْأَوْقَاتَ فِي الْعِبَادَاتِ بَلْ وِرْدُهُ فِي وَقْتِ الصِّنَاعَةِ حُضُورُ السُّوقِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا ينسى ذكر الله تعالى في صناعته بل يواظب على التسبيحات الأذكار وقراءة القرآن فإن ذلك يمكن أن يجمع إلى العمل وإنما لا يتيسر مع العمل الصلاة إلا أن يكون ناظوراً فإنه لا يعجز عن إقامة أوراد الصلاة معه ثم مهما فرغ من كفايته ينبغي أن يعود إلى ترتيب الأوراد وإن داوم على الكسب وتصدق بما فضل عن حاجته فهو أفضل من سائر الأوراد التي ذكرناها لأن العبادات المتعدية فائدتها أنفع من اللازمة والصدقة والكسب على هذه النية عبادة له في نفسه تقربه إلى الله تعالى ثم يحصل به فائدة للغير وتتجذب إليه بركات دعوات المسلمين ويتضاعف به الأجر الخامس الوالي مثل الإمام والقاضي والمتولي في أمور المسلمين فقيامه بحاجات المسلمين وأغراضهم على وفق الشرع وقصد الإخلاص أفضل من الأوراد المذكورة فحقه أن يشتغل بحقوق الناس نهاراً ويقتصر على المكتوبة ويقيم الأوراد المذكورة بالليل كما كان عمر رضي الله عنه يفعله إذ قال مالي وللنوم فلو نمت بالنهار ضيعت المسلمين ولو نمت بالليل ضيعت نفسي وقد فهمت بما ذكرناه أنه يقدم على العبادات البدنية أمران أحدهما العلم والآخر الرفق بالمسلمين لأن كل واحد من العلم وفعل المعروف عمل في نفسه وعبادة تفضل سائر العبادات يتعدى فائدته وانتشار جدواه فكانا مقدمين عليه السادس الموحد المستغرق بالواحد الصمد الذي أصبح وهمومه هم واحد فلا يحب إلا الله تعالى ولا يخاف إلا منه ولا يتوقع الرزق من غيره ولا ينظر في شيء إلا ويرى الله تعالى فيه فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة لم يفتقر إلى تنويع الأوراد واختلافها بل كان ورده بعد المكتوبات واحد وهو حضور القلب مع الله تعالى في كل حال فلا يخطر بقلوبهم أمر ولا يقرع سمعهم قارع ولا يلوح لأبصارهم لائح إلا كان لهم فيه عبرة وفكر ومزيد فلا محرك لهم ولا مسكن إلا الله تعالى فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سببا لازيادهم فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة وهم الذين فروا إلى الله عز وجل كما قال تعالى لعلكم تذكرون ففروا إلى الله وتحقق فيهم قوله تعالى وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته وإليه الإشارة بقوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين وهذه منتهى درجات الصديقين ولا وصول إليها إلا بعد ترتيب الأوراد والمواظبة عليها دهراً طويلاً فلا ينبغي أن يغتر المريد بما سمعه من ذلك فيدعيه لنفسه ويفتر عن وظائف عبادته فذلك علامته أن لا يهجس في قلبه وسواس ولا يخطر في قلبه معصية ولا ترعجه هواجم الأهوال ولا تستفزه عظائم الأشغال وأنى ترزق هذه الرتبة لكل أحد فيتعين على الكافة ترتيب الأوراد كما ذكرناه وجميع ما ذكرناه طرق إلى الله تعالى قال تعالى قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً فكلهم مهتدون وبعضهم أهدى من بعض وفي الخبر الإيمان ثلاث وثلاثون وثلثمائة طريقة من لقي الله تعالى بالشهادة على طريق منها دخل الجنة (1) وقال بعض العلماء الإيمان ثلثمائة وثلاثة عشر خلقا
_________
(1) حديث الإيمان ثلاث وثلاثون وثلثمائة طريقة من لقي الله بالشهادة على طريق منها دخل الجنة أخرجه ابن شاهين واللالكائي في السنة والطبراني والبيهقي في الشعب من رواية المغيرة بن عبد الرحمن بن عبيد عن أبيه عن جده االإيمان ثلثمائة وثلاثة وثلاثون شريعة من وافى شريعة منهن دخل الجنة وقال الطبراني والبيهقي ثلثمائة وثلاثون وفي إسناده جهالة(1/350)
بعدد الرسل فكل مؤمن على خلق منها فهو سألك الطريق إلى الله
فإذن الناس وإن اختلفت طرقهم في العبادة فكلهم على الصواب أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب وإنما يتفاوتون في درجات القرب لا في أصله وأقربهم إلى الله تعالى أعرفهم به وأعرفهم به لا بد وأن يكون أعبدهم له فمن عرفه لم يعبد غيره والأصل في الأوراد في حق كل صنف من الناس المداومة فإن المراد منه تغيير الصفات الباطنة وآحاد الأعمال يقل آثارها بل لا يحس بآثارها وإنما يترتب الأثر على المجموع فإذا لم يعقب العمل الواحد أثراً محسوساً ولم يردف بثان وثالث على القرب انمحى الأثر الأول وكان كالفقيه يريد أن يكون فقيه النفس فإنه لا يصير فقيه النفس إلا بتكرار كثير فلو بالغ ليلة في التكرار وترك شهراً أو أسبوعاً ثم عاد وبالغ ليلة لم يؤثر هذا فيه ولو وزع ذلك القدر على الليالي المتواصلة لأثر فيه ولهذا السر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل (1) وسئلت عائشة رضي الله عنها عن عمل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملاً أثبته (2) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم من عوده الله عبادة فتركها ملالة مقته الله (3) وهذا كان السبب في صلاته بعد العصر تداركاً لما فاته من ركعتين شغله عنهما الوفد ثم لم يزل بعد ذلك يصليهما بعد العصر ولكن في منزله لا في المسجد كيلا يقتدى به (4) روته عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فإن قلت فهل لغيره أن يقتدي به في ذلك مع أن الوقت وقت كراهية فاعلم أن المعاني الثلاثة التي ذكرناها في الكراهية من الاحتراز عن التشبه بعبدة الشمس أو السجود وقت ظهور قرن الشيطان أو الاستراحة عن العبادة حذراً من الملال لا يتحقق في حقه فلا يقاس عليه في ذلك غيره ويشهد لذلك فعله في المنزل حتى لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم
الباب الثاني في الأسباب الميسرة لقيام الليل وفي الليالي التي يستحب إحياؤها وفي فضيلة إحياء الليل وما بين العشاءين وكيفية قسمة الليل
فضيلة إحياء ما بين العشاءين
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روت عائشة رضي الله عنها إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا عن مقيم فتح بها فقضى صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصر في الجنة
الباب الثاني في الأسباب الميسرة لقيام الليل حديث عائشة إن أفضل
الصلاة عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا عن مقيم الحديث رواه أبو الوليد يونس بن عبيد الله الصفار في كتاب الصلاة ورواه الطبراني في الأوسط مختصرا وإسناده ضعيف (5) حديث أم سلمة عن أبي هريرة من صلى ست ركعات بعد المغرب عدلت له عبادة سنة أو كأنه صلى ليلة القدر أخرجه الترمذي وابن ماجه بلفظ اثنتي عشرة سنة وضعفه الترمذي وأما قوله كأنه صلى ليلة القدر فهو من قول كعب الأحبار كما رواه أبو الوليد الصفار ولأبي منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس من صلى أربع ركعات بعد المغرب قبل أن يكلم أحدا وضعت له في عليين وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى وسنده ضعيف // وعن سعيد بن جبير عن ثوبان
_________
(1) حديث أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل متفق عليه من حديث عائشة
(2) حديث سئلت عائشة عن عمل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملاً أثبته رواه مسلم
(3) حديث من عوده الله عبادة فتركها ملالا مقته الله تقدم في الصلاة وهو موقوف على عائشة
(4) حديث شغله الوفد عن ركعتين فصلاهما بعد العصر ثم لم يزل يصليهما بعد العصر في منزله متفق عليه من حديث أم سلمة أنه صلى بعد العصر ركعتين وقال شغلني ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر ولهما من حديث عائشة ما تركهما حتى لقي الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته والله الموفق للصواب
(5) قال الراوي لا أدري من ذهب أو فضة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر له ذنب عشرين سنة أو قال أربعين سنة وروت أم سلمة وأبو هريرة رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال من صلى ست ركعات بعد المغرب عدلت له عبادة سنة كاملة أو كأنه صلى ليلة القدر(1/351)
قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عكف نفسه فيما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة أو قرآن كان حقاً على الله أن يبني له قصرين في الجنة مسيرة كل قصر منهما مائة عام ويغرس له بينهما غراساً لو طافه أهل الدنيا لوسعهم (1) وقال صلى الله عليه وسلم من ركع عشر ركعات ما بين المغرب والعشاء بنى الله له قصراً في الجنة فقال عمر رضي الله عنه إذاً تكثر قصورنا يا رسول الله فقال الله أكثر وأفضل أو قال أطيب (2) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلى المغرب في جماعة ثم صلى بعدها ركعتين ولم يتكلم بشيء فيما بين ذلك من أمر الدنيا ويقرأ في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وعشر آيات من أول سورة البقرة وآيتين من وسطها وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السموات والأرض إلى آخر الآية وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة ثم يركع ويسجد فإذا قام في الركعة الثانية قرأ فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين بعدها إلى قوله أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وثلاث آيات من آخر سورة البقرة من قوله لله ما في السموات وما في الأرض إلى آخرها وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة (3) وصف من ثوابه في الحديث ما يخرج عن الحصر وقال كرز بن وبرة وهو من الأبدال قلت للخضر عليه السلام علمني شيئاً أعمله في كل ليلة فقال إذا صليت المغرب فقم إلى وقت صلاة العشاء مصلياً من غير أن تكلم أحداً وأقبل على صلاتك التي أنت فيها وسلم من كل ركعتين واقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد ثلاثاً فإن فرغت من صلاتك انصرف إلى منزلك ولا تكلم أحداً وصل ركعتين واقرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد سبع مرات في كل ركعة ثم اسجد بعد تسليمك واستغفر الله تعالى سبع مرات وقل سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ سبع مرات ثم ارفع رأسك من السجود واستو جالساً وارفع يديك وقل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا إله الأولين والآخرين يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يا رب يا رب يا رب يا الله يا الله يا الله ثم قم وأنت رافع يديك وادع بهذا الدعاء ثم نم حيث شئت مستقبل القبلة على يمينك وصل على النبي صلى الله عليه وسلم وأدم الصلاة عليه حتى يذهب بك النوم فقلت له أحب أن تعلمني ممن سمعت هذا فقال إني حضرت محمداً صلى الله عليه وسلم حيث علم هذا الدعاء وأوحي إليه به فكنت عنده وكان ذلك بمحضر مني فتعلمته ممن علمه إياه (4) ويقال إن هذا الدعاء وهذه الصلاة من داوم عليهما بحسن يقين وصدق نية رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه قبل أن يخرج من الدنيا وقد فعل ذلك بعض الناس فرأى أنه أدخل الجنة ورأى فيها الأنبياء ورأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وعلمه وعلى الجملة ما ورد في فضل إحياء ما بين العشاءين كثير حتى قيل لعبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بصلاة غير المكتوبة قال ما بين المغرب والعشاء (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى ما بين المغرب والعشاء تلك
_________
(1) حديث سعيد بن جبير عن ثوبان من عكف نفسه ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة أو قرآن كان حقاً على الله أن يبني له قصرين في الجنة لم أجد له أصلا من هذا الوجه وقد تقدم في الصلاة من حديث ابن عمر
(2) حديث من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بنى الله له قصراً في الجنة فقال عمر إذاً تكثر قصورنا يا رسول الله الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد من حديث عبد الكريم ابن الحارث مرسلا
(3) حديث أنس من صلى المغرب في جماعة ثم صلى بعدها ركعتين ولا يتكلم بشيء فيما بين ذلك من أمر الدنيا ويقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وعشر آيات من أول البقرة وآيتين من وسطها وإلهكم إله واحد الحديث أخرجه أبو الشيخ في الثواب من رواية زياد بن ميمون عنه مع اختلاف يسير وهو ضعيف
(4) حديث كرز بن وبرة أن الخضر علمه صلاة بين المغرب والعشاء وفيه أن كرزا سأل الخضر ممن سمعت هذا قال إني حضرت محمداً صلى الله عليه وسلم حين علم هذا الدعاء الحديث وهذا باطل لا أصل له
(5) حديث عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له هل كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بصلاة غير المكتوبة قال ما بين المغرب والعشاء رواه أحمد وفيه رجل لم يسم(1/352)
صلاة الأوابين (1) وقال الأسود ما أتيت ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الوقت إلا ورأيته يصلي فسألته فقال نعم هي ساعة الغفلة وكان أنس رضي الله عنه يواظب عليها ويقول هي ناشئة الليل ويقول فيها نزل قوله تعالى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} وقال أحمد بن أبي الحواري قلت لأبي سليمان الداراني أصوم النهار وأتعشى بين المغرب والعشاء أحب إليك أو أفطر بالنهار وأحيي ما بينهما فقال اجمع بينهما فقلت إن لم يتيسر قال أفطر وصل ما بينهما
فضيلة قيام الليل
أما من الآيات فقوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثلثي الليل} الآية وقوله تعالى {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً} وقوله سبحانه وتعالى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} وقوله تعالى أمن هو قانت آناء الليل الآية وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقياماً} وقوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} قيل هي قيام الليل يستعان بالصبر عليه على مجاهدة النفس وَمِنَ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان (2) وفي الخبر أنه ذكر عنده رجل ينام كل الليل حتى يصبح فقال ذاك رجل بال الشيطان في ادنه (3) وفي الخبر إن للشيطان سعوطاً ولعوقاً وذروراً فإذا أسعط العبد ساء خلقه وإذا ألعقه ذرب لسانه بالشر وإذا ذره نام الليل حتى يصبح (4) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا الْعَبْدُ في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ولولا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم (5) وفي الصحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إياه وفي رواية يسأل الله تعالى خيراً من الدنيا والآخرة وذلك في كل ليلة وقال المغيرة بن شعبة قام رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تفطرت قدماه فقيل له أما قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبداً شكوراً (6) ويظهر من معناه أن ذلك كناية عن زيادة الرتبة فإن الشكر سبب المزيد قال تعالى {لئن شكرتم لأزيدنكم} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هريرة أتريد أن تكون رحمة الله عليك حياً وميتاً ومقبوراً ومبعوثا قم من الليل فصل وأنت تريد رضا ربك يا أبا هريرة صل في زوايا بيتك يكن نور بيتك في السماء كنور الكواكب والنجم عند أهل الدنيا (7) وقال صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ فإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل وتكفير للذنوب
_________
(1) حديث من صلى ما بين المغرب والعشاء فذلك صلاة الأوابين تقدم في الصلاة
(2) حديث يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(3) حديث ذكر عنده رجل نام حتى أصبح ذاك رجل بال الشيطان في أذنه متفق عليه من حديث ابن مسعود
(4) حديث إن للشيطان سعوطاً ولعوقاً وذرورا الحديث أخرجه الطبراني من حديث أنس إن للشيطان لعوقا وكحلا فإذا لعق الإنسان من لعوقه ذرب لسانه بالشر وإذا كحله من كحله نامت عيناه عن الذكر ورواه البزار من حديث سمرة بن جندب وسندهما ضعيف
(5) حديث رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا الْعَبْدُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ خَيْرٌ له من الدنيا وما فيها ولولا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم أخرجه آدم بن أبي إياس في الثواب ومحمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل من رواية حسان بن عطية مرسلا ووصله أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر ولا يصح
(6) حديث المغيرة بن شعبة قام رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تفطرت قدماه الحديث متفق عليه
(7) حديث يا أبا هريرة أتريد أن تكون رحمة الله عليك حياً وميتاً ومقبوراً قم من الليل فصل وأنت تريد رضا ربك يا أبا هريرة صل في زوايا بيتك يكن نور بيتك في السماء كنور الكواكب والنجوم عند أهل الدنيا باطل لا أصل له(1/353)
ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الإثم (1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها النوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه صدقة عليه (2) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لو أردت سفراً أعددت له عدة قال نعم قال فكيف سفر طريق القيامة ألا أنبئك يا أبا ذر بما ينفعك ذلك اليوم قال بلى بأبي أنت وأمي قال صم يوماً شديد الحر ليوم النشور وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور وحج حجة لعظائم الأمور وتصدق بصدقة على مسكين أو كلمة حق تقولها أو كلمة شر تسكت عنها (3) وروي أنه كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجل إذا أخذ الناس مضاجعهم وهدأت العيون قام يصلي ويقرأ القرآن ويقول يا رب النار أجرني منها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا كان ذلك فآذنوني فأتاه فاستمع فلما أصبح قال يا فلان هلا سألت الله الجنة قال يا رسول الله إني لست هناك ولا يبلغ عملي ذاك فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزل جبرائيل عليه السلام وقال أخبر فلاناً أن الله قد أجاره من النار وأدخله الجنة (4) ويروى أن جبرائيل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم نعم الرجل ابن عمر لو كان يصلي بالليل فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فكان يداوم بعده على قيام الليل (5) قال نافع كان يصلي بالليل ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيقوم لصلاته ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول نعم فيقعد فيستغفر الله تعالى حتى يطلع الفجر وقال علي بن أبي طالب شبع يحيى بن زكريا عليهما السلام من خبز شعير فنام عن ورده حتى أصبح فأوحى الله تعالى إليه يا يحيى أوجدت داراً خيراً لك من داري أم وجدت جواراً خيراً لك من جواري فوعزتي وجلالي يا يحيى لو اطلعت إلى الفردوس اطلاعه لذاب شحمك ولزهقت نفسك اشتياقاً ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعة لذاب شحمك ولبكيت الصديد بعد الدموع ولبست الجلد بعد المسوح وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق فقال سينهاه ما يعمل (6) وقال صلى الله عليه وسلم رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء (7) وقال صلى الله عليه وسلم رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء وقال صلى الله عليه وسلم من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات (8) وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل (9) وقال
_________
(1) حديث عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ الحديث أخرجه الترمذي من حديث بلال وقال غريب ولا يصح ورواه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة بسند حسن وقال الترمذي إنه أصح
(2) حديث ما من امرىء يكون له صلاة بالليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه صدقة عليه أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة وفيه رجل لم يسم سماه النسائي في رواية الأسود بن يزيد لكن في طريقه ابن جعفر الرازي قال النسائي ليس بالقوي ورواه النسائي وابن ماجه من حديث أبي الدرداء نحوه بسند صحيح وتقدم في الباب قبله
(3) حديث إنه قال لأبي ذر لو أردت سفراً أعددت له عدة فكيف بسفر طريق القيامة ألا أنبئك يا أبا ذر بما ينفعك ذلك اليوم قال بلى بأبي وأمي قال صم يوماً شديد الحر ليوم النشور وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التهجد من رواية السري بن مخلد مرسلا والسري ضعفه الأزدي
(4) حديث أنه كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رجل إذا أخذ الناس مضاجعهم وهدأت العيون قام يصلي ويقرأ القرآن ويقول يا رب النار أجرني منها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا كان ذلك فآذنوني الحديثلم أقف له على أصل
(5) حديث أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نعم الرجل ابن عمر لو كان يصلي بالليل الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وليس فيه ذكر لجبريل
(6) حديث قيل له إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما يعمل أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة
(7) حديث رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة
(8) حديث من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد بسند صحيح
(9) حديث أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة(1/354)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم من نام عن حزبه أو عن شيء منه بالليل فقرأه بين صلاة الفجر والظهر كتب له كأنما قرأه من الليل (1) الآثار روي أن عمر رضي الله عنه كان يمر بالآية من ورده بالليل فيسقط حتى يعاد منها أياماً كثيرة كما يعاد المريض وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح ويقال إن سفيان الثوري رحمه الله شبع ليلة فقال إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله فقام تلك الليلة حتى أصبح وكان طاوس رحمه الله إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة ثم يثب ويصلي إلى الصباح ثم يقول طير ذكر جهنم نوم العابدين وقال الحسن رحمه الله ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال فقيل له ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً قال لأنهم خلوا بالرحمن بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره وقدم بعض الصالحين من سفره فمهد له فراش فنام عليه حتى فاته ورده فحلف أن لا ينام بعدها على فراش أبداً وكان عبد العزيز بن رواد إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمو يده عليه ويقول إنك للين ووالله إن في الجنة لألين منك ولا يزال يصلي الليل كله وقال الفضيل إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأصبح وما قضيت نهمتي وقال الحسن إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وقال الفضيل إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك وكان صلة بن أشيم رحمه الله يصلي الليل كله فإذا كان في السحر قال إلهي ليس مثلي يطلب الجنة ولكن أجرني برحمتك من النار وقال رجل لبعض الحكماء إني لأضعف عن قيام الليل فقال له يا أخي لا تعص الله تعالى ولا تقم بالليل وكان للحسن بن صالح جارية فباعها من قوم فلما كان في جوف الليل قامت الجارية فقالت يا أهل الدار الصلاة الصلاة فقالوا أصبحنا أطلع الفجر فقالت وما تصلون إلا المكتوبة قالوا نعم فرجعت إلى الحسن فقالت يا مولاي بعتني من قوم لا يصلون إلا المكتوبة ردني فردها وقال الربيع بت في منزل الشافعي رضي الله عنه ليالي كثيرة فلم يكن ينام من الليل إلا يسيراً وقال أبو الجويرية لقد صحبت أبا حنيفة رضي الله عنه ستة أشهر فما فيها ليلة وضع جنبه على الأرض وكان أبو حنيفة يحيي نصف الليل فمر بقوم فقالوا إن هذا يحيي الليل كله فقال إني أستحي أن أوصف بما لا أفعل فكان بعد ذلك يحيى الليل كله ويروى أنه ما كان له فراش بالليل ويقال إن مالك بن دينار رضي الله عنه بات يردد هذه الآية ليلة حتى أصبح أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية وقال المغيرة بن حبيب رمقت مالك بن دينار فتوضأ بعد العشاء ثم قام إلى مصلاه فقبض على لحيته فخنقته العبرة فجعل يقول حرم شيبة مالك على النار إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار فأي الرجلين مالك وأي الدارين دار مالك فلم يزل ذلك قوله حتى طلع الفجر وقال مالك بن دينار شهوت ليلة عن وردي ونمت فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وفي يدها رقعة فقالت لي أتحسن تقرأ فقلت نعم فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها
أألهتك اللذائذ والأماني ... عن البيض الأوانس في الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها ... وتلهو في الجنان مع الحسان
تنبه من منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقران
وقيل حج مسروق فما بات ليلة إلا ساجداً ويروى عن أزهر بن مغيث وكان من القوامين أنه قال رأيت في
_________
(1) حديث عمر من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه بين صلاة والفجر والظهر كتب له كأنه قرأه من الليل رواه مسلم(1/355)
المنام امرأة لا تشبه نساء أهل الدنيا فقلت لها من أنت قالت حوراء فقلت زوجيني نفسك فقالت اخطبني إلى سيدي وأمهرني فقلت وما مهرك قالت طول التهجد وقال يوسف بن مهران بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك براثنه من لؤلؤ وصئصئه من زبرجد أخضر فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه وزقا وقال ليقم القائمون فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال ليقم المتهجدون فإذا مضى ثلثا الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال ليقم المصلون فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقا وقال ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم وقبل أن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إلي من أن أرى في بيتي وسادة لأنها تدعو إلى النوم وكانت له مسورة من أدم إذا غلبه النوم وضع صدره عليها وخفق خفقات ثم يفزع إلى الصلاة وقال بعضهم رأيت رب العزة في النوم فسمعته يقول وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلى لي الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة ويقال كان مذهبه أن النوم إذا خامر القلب بطل الوضوء وروي في بعض الكتب القديمة عن الله تعالى أنه قال إن عبدي الذي هو عبدي حقاً الذي لا ينتظر بقيامه صياح الديكة
بيان الأسباب التي بها يتيسر قيام الليل
اعلم أن قيام الليل عسير على الخلق إلا على من وفق للقيام بشروطه الميسرة له ظاهراً وباطناً فأما الظاهرة فأربعة أمور الأول أَنْ لَا يُكْثِرَ الْأَكْلَ فَيُكْثِرَ الشُّرْبَ فَيَغْلِبَهُ النوم ويثقل عليه القيام كان بعض الشيوخ يقف على المائدة كل ليلة ويقول معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتتحسروا عند الموت كثيراً وهذا هو الأصل الكبير وهو تخفيف المعدة عن ثقل الطعام الثاني أن لا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح وتضعف بها الأعصاب فإن ذلك أيضاً مجلبة للنوم الثالث أَنْ لَا يَتْرُكَ الْقَيْلُولَةَ بِالنَّهَارِ فَإِنَّهَا سُنَّةُ للاستعانة على قيام الليل (1) الرابع أن لا يحتقب الأوزار بالنهار فإن ذلك مما يقسي القلب ويحول بينه وبين أسباب الرحمة قال رجل للحسن يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري فما بالي لا أقوم فقال ذنوبك قيدتك وكان الحسن رحمة الله إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم يقول أظن أن ليل هؤلاء ليل سوء فإنهم لا يقيلون وقال الثوري حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته قيل وما ذاك الذنب قال رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي هذا مراء وقال بعضهم دخلت على كرز بن وبرة وهو يبكي فقلت أتاك نعي بعض أهلك فقال اشد فقلت وجع يؤلمك قال أشد قلت فما ذاك قال بابي مغلق وستري مسبل ولم أقرأ حزبي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثته وهذا لأن الخير يدعو إلى الخير والشر يدعو إلى الشر والقليل من كل واحد منهما يجر إلى الكثير ولذلك قال أبو سليمان الداراني لا تفوت أحداً صلاة الجماعة إلا بذنب وكان يقول الاحتلام بالليل عقوبة والجنابة بعد وقال بعض العلماء إذا صمت يا مسكين فانظر عند من تفطر وعلى أي شيء تفطر فإن العبد ليأكل أكلة فينقلب قلبه عما كان عليه ولا يعود إلى حالته الأولى فالذنوب كلها تورث قساوة القلب وتمنع من قيام الليل وأخصها بالتأثير تناول الحرام وتؤثر اللقمة الحلال في تصفية القلب وتحريكه إلى الخير ما لا يؤثر غيرها ويعرف ذلك أهل المراقبة للقلوب بالتجربة بعد شهادة الشرع له ولذلك قال بعضهم كم من أكلة منعت قيام ليلة وكم من نظرة منعت قراءة سورة وإن العبد ليأكل أكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة وكما إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فكذلك الفحشاء تنهى عن الصلاة وسائر الخيرات وقال بعض السجانين
_________
(1) حديث الاستعانة بقيلولة النهار على قيام الليل أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وقد تقدم(1/356)
كنت سجاناً نيفاً وثلاثين سنة أسأل كل مأخوذ بالليل أنه هل صلى العشاء في جماعة فكانوا يقولون لا وهذا تنبيه على أن بركة الجماعة تنهى عن تعاطي الفحشاء والمنكر
وأما الميسرات الباطنة فأربعة أمور الأول سلامة القلب عن الحقد على المسلمين وعن البدع وعن فضول هموم الدنيا فالمستغرق الهم بتدبير الدنيا لا يتيسر له القيام وإن قام فلا يتفكر في صلاته إلا في مهماته ولا يجول إلا في وساوسه وفي مثل ذلك يقال
يخبرني البواب أنك نائم ... وأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم
الثاني خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل فإنه إذا تفكر في أهوال الآخرة ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره كما قال طاوس إن ذكر جهنم طير نوم العابدين وكما حكي أن غلاماً بالبصرة اسمه صهيب كان يقوم الليل كله فقالت له سيدته إن قيامك بالليل يضر بعملك بالنهار فقال إن صهيباً إذا ذكر النار لا يأتيه النوم وقيل لغلام آخر وهو يقوم كل الليل فقال إذا ذكرت النار اشتد خوفي وإذا ذكرت الجنة اشتد شوقي فلا أقدر أن أنام وقال ذو النون المصري رحمه الله
منع القرآن بوعده ووعيده ... مقل العيون بليلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الجليل كلامه ... فرقابهم ذلت إليه تخضعا
وأنشدوا أيضاً
يا طويل الرقاد والغفلات ... كثرة النوم تورث الحسرات
إن في القبر إن نزلت إليه ... لرقاداً يطول بعد الممات
ومهاداً ممهداً لك فيه ... بذنوب عملت أو حسنات
أأمنت البيات من ملك المو ... ت وكم نال آمناً ببيات
وقال ابن المبارك
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
الثالث أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار حَتَّى يَسْتَحْكِمَ بِهِ رَجَاؤُهُ وَشَوْقُهُ إِلَى ثَوَابِهِ فَيُهَيِّجُهُ الشَّوْقُ لِطَلَبِ الْمَزِيدِ وَالرَّغْبَةِ فِي دَرَجَاتِ الجنان كما حكي أن بعض الصالحين رجع من غزوته فمهدت امرأته فراشها وجلست تنتظره فدخل المسجد ولم يزل يصلي حتى أصبح فقالت له زوجته كنا ننتظرك مدة فلما قدمت صليت إلى الصبح قال والله إني كنت أتفكر في حوراء من حور الجنة طول الليل فنسيت الزوجة والمنزل فقمت طول ليلتي شوقاً إليها
الرابع وهو أشرف البواعث الحب لله وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ فِي قِيَامِهِ لَا يَتَكَلَّمُ بحرف إلا وهو مناج رَبَّهُ وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مَعَ مُشَاهَدَةِ مَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ وَأَنَّ تِلْكَ الْخَطَرَاتِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِطَابٌ مَعَهُ فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ لَا مَحَالَةَ الْخَلْوَةَ بِهِ وَتَلَذَّذَ بِالْمُنَاجَاةِ فَتَحْمِلُهُ لَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ بِالْحَبِيبِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ ولا ينبغي أن يستبعد هَذِهِ اللَّذَّةُ إِذْ يَشْهَدُ لَهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ فَأَمَّا الْعَقْلُ فَلْيَعْتَبِرْ حَالَ الْمُحِبِّ لِشَخْصٍ بِسَبَبِ جَمَالِهِ أَوْ لِمَلِكٍ بِسَبَبِ إِنْعَامِهِ وَأَمْوَالِهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَتَلَذَّذُ بِهِ فِي الْخَلْوَةِ وَمُنَاجَاتِهِ حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ النَّوْمُ طُولَ لَيْلِهِ فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ الْجَمِيلَ يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فَاعْلَمْ(1/357)
أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَمِيلُ الْمَحْبُوبُ وَرَاءَ سِتْرٍ أَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَكَانَ الْمُحِبُّ يتلذذ بمجاورته المجردة دون النظر ودون الطمع في أمر آخر سواه وكان يتنعم بإظهار حبه عليه وذكره بلسانه بِمَسْمَعٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مَعْلُومًا عنده فإن قلت إنه ينتظر جوابه فليتلذذ بِسَمَاعِ جَوَابِهِ وَلَيْسَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يجيبه ويسكت عنه فقد بقيت له أَيْضًا لَذَّةٌ فِي عَرْضِ أَحْوَالِهِ عَلَيْهِ وَرَفْعِ سَرِيرَتِهِ إِلَيْهِ كَيْفَ وَالْمُوقِنُ يَسْمَعُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَى خَاطِرِهِ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ فَيَتَلَذَّذُ بِهِ وَكَذَا الَّذِي يَخْلُو بِالْمَلِكِ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ حَاجَاتِهِ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ يَتَلَذَّذُ بِهِ فِي رَجَاءِ إِنْعَامِهِ وَالرَّجَاءُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَصْدَقُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خير وأبقى وأنفع مما عند غيره فكيف لَا يَتَلَذَّذُ بِعَرْضِ الْحَاجَاتِ عَلَيْهِ فِي الْخَلَوَاتِ وَأَمَّا النَّقْلُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَحْوَالُ قُوَّامِ اللَّيْلِ فِي تَلَذُّذِهِمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَاسْتِقْصَارِهِمْ لَهُ كَمَا يَسْتَقْصِرُ الْمُحِبُّ لَيْلَةَ وِصَالِ الْحَبِيبِ حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِهِمْ كَيْفَ أَنْتَ وَاللَّيْلُ قَالَ مَا رَاعَيْتُهُ قَطُّ يُرِينِي وَجْهَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَمَا تَأَمَّلْتُهُ بعد وقال آخر أنا والليل فرسا رهان مرة يسبقني إلى الفجر ومرة يقطعني عن الفكر وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ كَيْفَ اللَّيْلُ عَلَيْكَ فَقَالَ سَاعَةٌ أَنَا فِيهَا بَيْنَ حَالَتَيْنِ أَفْرَحُ بِظُلْمَتِهِ إِذَا جَاءَ وَأَغْتَمُّ بِفَجْرِهِ إِذَا طَلَعَ مَا تَمَّ فرحي به قط وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ بَكَّارٍ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَحْزَنَنِي شَيْءٌ سِوَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَرِحْتُ بِالظَّلَامِ لِخَلْوَتِي بِرَبِّي وَإِذَا طَلَعَتْ حَزِنْتُ لِدُخُولِ النَّاسِ عَلَيَّ وَقَالَ أبو سليمان أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ وَلَوْلَا اللَّيْلُ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدنيا وقال أيضاً لو عوض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللذة لكان ذلك أكثر من ثواب أعمالهم وقال بعض العلماء لَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَقْتٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا يَجِدُهُ أَهْلُ التَّمَلُّقِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاللَّيْلِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ لَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا إِنَّمَا هِيَ مِنَ الْجَنَّةِ أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ لَا يَجِدُهَا سِوَاهُمْ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ مَا بَقِيَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا إِلَّا ثَلَاثٌ قِيَامُ اللَّيْلِ ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة وقال بعض العارفين إن الله تعالى ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنواراً فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين وقال بعض العلماء من القدماء أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لي عباداً من عبادي أحبهم ويحبونني ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك قال يا رب وما علامتهم قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباكي وبين متأوه وشاكي بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي أول ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم والثانية لو كانت السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما من موازينهم لاستقللتها لهم والثالثة أقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه وقال مالك بن دينار رحمه الله إذا قام العبد يتهجد من الليل قرب منه الجبار عز وجل وكانوا يرون ما يجدون من الرقة والحلاوة في قلوبهم والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب وهذا له سر وتحقيق ستأتي الإشارة إليه في كتاب المحبة وفي الأخبار عن الله عز وجل أي عبدي أنا الله الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري وشكا بعض المريدين إلى أستاذه طول سهر الليل وطلب حيلة يجلب بها النوم فقال أستاذه يا بني إن لله نفحات في الليل والنهار تصيب القلوب المتيقظة تحظىء القلوب النائمة فتعرض لتلك النفحات فقال يا سيدي تركتني لا أنام بالليل ولا بالنهار(1/358)
واعلم أن هذه النفحات بالليل أرجى لما في قيام الليل من صفاء القلب واندفاع الشواغل وفي الخبر الصحيح عن جابر بن عبد الله عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إياه (1) وفي رواية أخرى يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه وذلك كل ليلة ومطلوب القائمين تلك الساعة وهي مهمة في جملة الليل كليلة القدر في شهر رمضان وكساعة يوم الجمعة وهي ساعة النفحات المذكورة والله أعلم
بيان طرق القسمة لأجزاء الليل
اعلم أن إحياء الليل من حيث المقدار لَهُ سَبْعُ مَرَاتِبَ الْأُولَى إِحْيَاءُ كُلِّ اللَّيْلِ وهذا شأن الأقوياء الذين تجردوا لعبادة الليل وَتَلَذَّذُوا بِمُنَاجَاتِهِ وَصَارَ ذَلِكَ غِذَاءً لَهُمْ وَحَيَاةً لِقُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَتْعَبُوا بِطُولِ الْقِيَامِ وَرَدُّوا الْمَنَامَ إلى النهار وفي وقت اشتغال الناس وقد كان ذلك طريق جماعة من السلف كانوا يصلون الصبح بوضوء العشاء حكى أبو طالب المكي أن ذلك حكي على سبيل التواتر والاشتهار عن أربعين من التابعين وكان فيهم من واظب عليه أربعين سنة قال منهم سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم المدنيان وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان وطاوس ووهب بن منبه اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم الكوفيان وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان وحبيب أبو محمد وأبو جابر السلماني الفارسيان ومالك بن دينار سليمان التيمي ويزيد الرقاشي وحبيب بن أبي ثابت ويحيى البكاء البصريون وكهمس بن المنهال وكان يختم في الشهر تسعين ختمة وما لم يفهمه رجع وقرأه مرة أخرى وأيضاً من أهل المدينة أبو حازم ومحمد بن المنكدر في جماعة يكثر عددهم المرتبة الثانية أن يقوم نصف الليل وهذا لا ينحصر عدد المواظبين عليه من السلف وأحسن فيه أن ينام الثلث الأول من الليل والسدس الأخير منه حتى يقع قيامه في جوف الليل ووسطه فهو الأفضل المرتبة الثالثة أن يقوم ثلث الليل فينبغي أن ينام النصف الأول والسدس الأخير وبالجملة نوم آخر الليل محبوب لأنه يذهب النعاس بالغداة وكانوا يكرهون ذلك ويقلل صفرة الوجه والشهرة به فلو قام أكثر الليل ونام سحراً قلت صفرة وجهه وقل نعاسه وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر من آخر الليل فإن كانت له حاجة إلى أهله دنا منهن وإلا اضطجع في مصلاه حتى يأتيه بلال فيؤذنه للصلاة (2) وقالت أيضاً رضي الله عنها ما ألفيته بعد السحر إلا نائماً (3) حتى قال بعض السلف هذه الضجعة قبل الصبح سنة منهم أبو هريرة رضي الله عنه وكان نوم هذا الوقت سبباً للمكاشفة والمشاهدة من وراء حجب الغيب وذلك لأرباب القلوب وفيه استراحة
_________
(1) حديث جابر إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة رواه مسلم
(2) حديث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل فإن كانت له حاجة إلى أهله دنا منهن وإلا اضطجع في مصلاه حتى يأتيه بلال فيؤذن بالصلاة أخرجه مسلم من حديث عائشة كان ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام وقال النسائي فإذا كان من السحر أوتر ثم أتى فراشه فإذا كان له حاجة إلى أهله ولأبي داود كان إذا قضى صلاته من آخر الليل نظر فإن كنت مستيقظة حدثني وإن كنت نائمة أيقظني وصلى الركعتين ثم اضطجع حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بصلاة الصبح فيصلي ركعتين خفيفتين ثم يخرج إلى الصلاة وهو متفق عليه بلفظ كان إذا صلى فإن كنت مستيقظه حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة وقال مسلم إذا صلى ركعتي الفجر
(3) حديث عائشة ما ألقيته بعد السحر الأعلى إلا نائما متفق عليه بلفظ ما ألفى رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر الأعلى في بيتي أو عندي إلا نائما لم يقل البخاري الأعلى وقال ابن ماجه ما كنت ألقى أو ألفى النبي صلى الله عليه وسلم من آخر الليل إلا وهو نائم عندي(1/359)
تعين على الورد الأول من أوراد النهار وقيام ثلث الليل من النصف الأخير ونوم السدس الأخير قيام داود صلى الله عليه وسلم المرتبة الرابعة أن يقوم سدس الليل أو خمسه وأفضله أن يكون في النصف الأخير وقبل السدس الأخير منه المرتبة الخامسة أن لا يراعي التقدير فإن ذلك إنما يتيسر لنبي يوحى إليه أو لمن يعرف منازل القمر ويوكل به من يراقبه ويواظبه ويوقظه ثم ربما يضطرب في ليالي الغيم ولكنه يقوم من أول الليل إلى أن يغلبه النوم فإذا انتبه قام فإذا غلبه النوم عاد إلى النوم فيكون له في الليل نومتان وقومتان وهو من مكابدة الليل وأشد الأعمال وأفضلها وقد كان هذا من أخلاق رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَهُوَ طريقة ابن عمر وأولي العزم من الصحابة وجماعة من التابعين رضي الله عنهم وكان بعض السلف يقول هي أول نومة فإذا انتبهت ثم عدت إلى النوم فلا أنام الله لي عيناً فأما قِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ بَلْ رُبَّمَا كَانَ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ أو ثلثه أو سدسه (2) يختلف ذلك في اللَّيَالِي وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ من سورة المزمل إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثلثي الليل ونصفه وثلثه فأدنى من ثلثي الليل كأنه بصفه وَنِصْفُ سُدُسِهِ فَإِنْ كُسِرَ قَوْلُهُ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ كان نصف الثلثين فَيَقْرُبُ مِنَ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَإِنْ نُصِبَ كَانَ نصف الليل وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ (3) يَعْنِي الدِّيكَ وَهَذَا يَكُونُ السُّدُسَ فَمَا دُونَهُ وروى غير واحد أنه قال راعيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ليلاً فنام بعد العشاء زماناً ثم استيقظ فنظر في الأفق فقال ربنا ما خلقت هذا باطلاً حتى بلغ إنك لا تخلف الميعاد ثم استل من فراشه سواكاً فاستاك به وتوضأ وصلى حتى قلت صلى مثل الذي نام ثم اضطجع حتى قلت نام مثل ما صلى ثم استيقظ فقال ما قال أول مرة وفعل ما فعل أول مرة (4) المرتبة السادسة وهي الأقل أَنْ يَقُومَ مِقْدَارَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ أو تتعذر عليه الطهارة فيجلس مستقبل القبلة ساعة مشتغلاً بالذكر والدعاء فيكتب في جملة قوام الليل برحمة الله وفضله وقد جاء في الأثر صل من الليل ولو قدر حلب شاة (5) فهذه طرق القسمة فليختر المريد لنفسه ما يراه أيسر عليه وَحَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ فلا ينبغي أن يهمل إحياء ما بين العشاءين والورد الذي بعد العشاء ثم يقوم قبل الصبح وقت السحر فلا يدركه الصبح
_________
(1) حديث قيامه أول الليل إلى أن يغلبه النوم فإذا انتبه قام فإذا غلبه عاد إلى النوم فيكون له في الليل نومتان أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث أم سلمة كان يصلي وينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح وللبخاري من حديث ابن عباس صلى العشاء ثم جاء فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام وفيه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه الحديث
(2) حديث ربما كان يقوم نصف الليل أوثلثه أو ثلثيه أو سدسه أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس قام رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ الحديث وفي رواية للبخاري فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء الحديث ولأبي داود قام حتى إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه استيقظ الحديث لمسلم من حديث عائشة فيبعثه الله بما شاء أن يبعثه من الليل
(3) حديث عائشة كان يقوم إذا سمع الصارخ متفق عليه
(4) حديث غير واحد قال راعيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ليلاً فنام بعد العشاء زماناً ثم استيقظ فنظر في الأفق فقال ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك حتى بلغ إنك لا تخلف الميعاد ثم استل من فراشه سواكاً فاستاك وتوضأ وصلى حتى قلت صلى مثل ما نام الحديث أخرجه النسائي من رواية حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قلت وأنا في سفر مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله لأرقبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه وروى أبو الوليد بن مغيث في كتاب الصلاة من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رجلا قال لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه أنه أخذ سواكه من مؤخر الرجل وهذا يدل أنه أيضا كان في سفر
(5) حديث صل من الليل ولو قدر حلب شاة أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس في صلاة الليل مرفوعا نصفه ثلثه ربعه فواق حلب ناقة فواق حلب شاة ولأبي الوليد بن مغيث من رواية إياس بن معاوية مرسلا لا بد من صلاة الليل ولو حلبة ناقة أو حلبة شاه(1/360)
نائماً ويقوم بطرفي الليل وهذه هي المرتبة السابعة ومهما كان النظر إلى المقدار فترتيب هذه المراتب بحسب طول الوقت وقصره وأما في الرتبة الخامسة والسابعة لم ينظر فيهما إلى القدر فليس يجري أمرهما في التقدم والتأخر على الترتيب المذكور إذ السابعة ليست دون ما ذكرناه في السادسة ولا الخامسة دون الرابعة
بيان الليالي والأيام الفاضلة
اعلم أن الليالي المخصوصة بمزيد الفضل التي يتأكد فيها استحباب الإحياء في السنة خمس عشرة ليلة لا ينبغي أن يغفل المريد عنها فإنها مواسم الخيرات ومظان التجارات ومتى غفل التاجر عن المواسم لم يربح ومتى غفل المريد عن فضائل الأوقات لم ينجح فستة من هذه الليالي في شهر رمضان خمس في أوتار العشر الأخير إذ فيها يطلب ليلة القدر وليلة سبع عشرة من رمضان فهي ليلة صبيحتها يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فيه كانت وقعة بدر وقال ابن الزبير رحمه الله هي ليلة القدر وأما التسع الأخر فأول ليلة من المحرم وليلة عاشوراء وأول ليلة من رجب وليلة النصف منه وليلة سبع وعشرين منه وهي ليلة المعراج وفيها صلاة مأثورة فقد قال صلى الله عليه وسلم للعامل في هذه الليلة حسنات مائة سنة (1) فمن صلى في هذه الليلة اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة من القرآن ويتشهد في كل ركعتين ويسلم في آخرهن ثم يقول سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله والله أكبر مائة مرة ثم يستغفر الله مائة مرة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة ويدعو لنفسه بما شاء من أمر دنياه وآخرته ويصبح صائماً فإن الله يستجيب دعاءه كله إلا أن يدعو في معصية وليلة النصف من شعبان ففيها مائة ركعة يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص عشر مرات كانوا لا يتركونها كما أوردناه في صلاة التطوع وليلة عرفة وليلتا العيدين قال صلى الله عليه وسلم من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب (2) وأما الأيام الفاضلة فتسعة عشر يستحب مواصلة الأوراد فيها يوم عرفة ويوم عاشوراء ويوم سبعة وعشرين من رجب له شرف عظيم روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله له صيام ستين شهراً (3) وهو اليوم الذي أهبط الله فيه جبرائيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ويوم سبعة عشر من رمضان وهو يوم وقعة بدر ويوم النصف من شعبان ويوم الجمعة ويوما العيدين والأيام المعلومات وهي عشر من ذي الحجة والأيام المعدودات وهي أيام التشريق وقد روى أنس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم شهر رمضان سلمت السنة (4) وقال بعض العلماء من أخذه مهناة في الأيام الخمسة في الدنيا لم ينل مهناة في الآخرة وأراد به العيدين والجمعة وعرفة وعاشوراء ومن فواضل الأيام في الأسبوع يوم الخميس والاثنين ترفع فيهما الأعمال إلى الله تعالى وقد ذكرنا فضائل الأشهر والأيام للصيام في كتاب الصوم فلا حاجة إلى الإعادة والله أعلم وصلى الله على كل عبد مصطفى من كل العالمين
_________
(1) حديث الصلاة المأثورة في ليلة السابع والعشرين من رجب ذكر أبو موسى المديني في كتاب فضائل والأيام الليالي أن أبا محمد الحباري رواه من طريق الحاكم أبي عبد الله من رواية محمد بن الفضل عن أبان عن أنس مرفوعا ومحمد بن الفضل وأبان ضعيفان جدا والحديث منكر
(2) حديث من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب أخرجه بإسناد ضعيف من حديث أبي أمامة
(3) حديث أبي هريرة من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله له صيام ستين شهراً وهو اليوم الذي هبط فيه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو موسى المديني في كتاب فضائل الليالي والأيام من رواية شهر بن حوشب عنه
(4) حديث أنس إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم شهر رمضان سلمت السنة تقدم في الباب الخامس من الصلاة فذكر يوم الجمعة فقط وقد رواه بجملته ابن حبان في الضعفاء وأبو نعيم في الحلية من حديث عائشة وهو ضعيف(1/361)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب آداب الأكل وهو الكتاب الأول من ربع العادات من كتاب إحياء
العلوم
الحمد لله الذي أَحْسَنَ تَدْبِيرَ الْكَائِنَاتِ فَخَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ
وَأَنْزَلَ الْمَاءَ الْفُرَاتَ مِنَ الْمُعْصِرَاتِ فَأَخْرَجَ بِهِ الْحَبَّ والنبات
وقدر الأرزاق والأفوات
وَحَفِظَ بِالْمَأْكُولَاتِ قُوَى الْحَيَوَانَاتِ وَأَعَانَ عَلَى الطَّاعَاتِ والأعمال الصالحات بأكل الطيبات والصلاة على محمد ذي المعجزات الباهرات وعلى آله وأصحابه صلاة تتوالى على ممر الأوقات وتتضاعف بتعاقب الساعات وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فإن مَقْصِدُ ذَوِي الْأَلْبَابِ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فِي دار الثواب ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلى بالعلم والعمل ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن ولا تصفو سَلَامَةُ الْبَدَنِ إِلَّا بِالْأَطْعِمَةِ وَالْأَقْوَاتِ وَالتَّنَاوُلِ مِنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الْأَوْقَاتِ فَمِنْ هَذَا الوجه قال بعض السلف الصالحين إن الأكل من الدين وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين كلوا من الطيبات واعملوا صالحا فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل ويقوي به على التقوى فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملاً سدى يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه
وإنما أنوار الدين آدابه وسننه التي يزم العبد بزمامها ويلجم المتقي بلجامها حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها فيصير بسببها مدفعة للوزر ومجلبة للأجر وإن كان فيها أوفى حظ للنفس
قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليؤجر حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه والى في امعليه السلام رأته (1)
وإنما ذلك إذا رفعها بالدين وللدين مراعياً فيه آدابه ووظائفه
وَهَا نَحْنُ نُرْشِدُ إِلَى وَظَائِفِ الدِّينِ فِي الأكل فرائضها وسننها وآدابها ومروءاتها وهيئاتها في أربعة أبواب وفصل في آخرها
الباب الأول فيما لا بد للآكل من مراعاته وإن انفرد بالأكل
الباب الثاني فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع على الأكل
الباب الثالث فيما يخص تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين
الباب الرابع فيما يخص الدعوة والضيافة وأشباهها
_________
(1) حديث إن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى فيه وإلى في امرأته أخرجه البخاري من حديث لسعد بن أبي وقاص وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك(2/2)
الباب الأول فيما لابد للمنفرد منه
وهو ثلاثة أقسام قسم قبل الأكل وقسم مع الأكل وقسم بعد الفراغ منه القسم الأول في الآداب التي تتقدم على الأكل وهي
الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ بَعْدَ كَوْنِهِ حَلَالًا فِي نَفْسِهِ طَيِّبًا فِي جِهَةِ مَكْسَبِهِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ وَالْوَرَعِ لَمْ يُكْتَسَبْ بِسَبَبٍ مَكْرُوهٍ فِي الشَّرْعِ وَلَا بِحُكْمِ هَوًى وَمُدَاهَنَةٍ فِي دِينٍ على ما سيأتي في معنى الطيب المطلق في كتاب الحلال والحرام وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْلِ الطَّيِّبِ وَهُوَ الْحَلَالُ وَقَدَّمَ النَّهْيَ عَنِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ عَلَى الْقَتْلِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْحَرَامِ وَتَعْظِيمًا لِبَرَكَةِ الْحَلَالِ فَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَا تقتلوا أنفسكم الآية فالأصل في الطعام كونه طيباً وهو من الفرائض وأصول الدين
الثاني غسل اليد قال صلى الله عليه وسلم الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم (1)
وفي رواية ينفي الفقر قبل الطعام وبعده ولأن اليد لَا تَخْلُو عَنْ لَوْثٍ فِي تَعَاطِي الْأَعْمَالِ فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة
ولأن الأكل لقصد الاستعانة على الدين عبادة فهو جدير بأن يقدم عليه ما يجري منه مجرى الطهارة من الصلاة
الثالث أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض فهو أقرب إلى فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رفعه على المائدة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى بطعام وضعه على الأرض (2) حديث أنس ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة الحديث رواه البخاري //
قيل فعلى ماذا كنتم تأكلون قال على السفرة وقيل أربع أحدثت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموائد والمناخل والأشنان والشبع واعلم أنا وإن قلنا الأكل على السفرة أولى فلسنا نقول الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم إذا لم يثبت فيه نهي
وما يقال إنه أبدع بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس كُلُّ مَا أُبْدِعَ مَنْهِيًّا بَلِ الْمَنْهِيُّ بِدْعَةٌ تُضَادُّ سُنَّةً ثَابِتَةً وَتَرْفَعُ أَمْرًا مِنَ الشَّرْعِ مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب وَلَيْسَ فِي الْمَائِدَةِ إِلَّا رَفْعُ الطَّعَامِ عَنِ الأرض لتيسير الأكل وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه
والأربع التي جمعت في أنها مبدعة ليست متساوية بل الأشنان حسن لما فيه من النظافة فإن الغسل مستحب للنظافة والأشنان أتم في التنظيف وكانوا لا يستعملونه لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم أو لا يتيسر أو كانوا مشغولين بأمور أهم من المبالغة في النظافة فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضاً وكانت مناديلهم أخمص أقدامهم وذلك لا يمنع كون الغسل
_________
(1) حديث الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم وفي رواية ينفي الفقر قبل الطعام وبعده أخرجه القضاعي في مسند الشهاب من رواية موسى الرضا عن آبائه متصلا باللفظ الأول وللطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفى الفقر ولأبي داود والترمذي من حديث سلمان بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده وكلها ضعيفة
(2) حديث كان إذا أتى بطعام وضعه على الأرض أخرجه أحمد في كتاب الزهد من رواية الحسن مرسلا ورواه البزار من حديث أبي هريرة نحوه وفيه جماعة وثقة أحمد وضعفه الدارقطني
فهذا أقرب إلى التواضع فإن لم يكن فعلى السفرة فإنها تذكر السفر ويتذكر من السفر سفر الآخرة وحاجته إلى زاد التقوى
وقال أنس بن مالك رحمه الله ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة(2/3)
مستحباً
وأما المنخل فالمقصود منه تطييب الطعام وذلك مباح ما لم ينته إلى التنعم المفرط
وأما المائدة فتيسير للأكل وهو أيضاً مُبَاحٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْكِبْرِ وَالتَّعَاظُمِ
وأما الشبع فهو أشد هذه الأربعة فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات وتحريك الأدواء في البدن فلتدرك التفرقة بين هذه المبدعات
الرابع أن يحسن الجلسة على السفرة في أول جلوسه ويستديمها كذلك كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدميه وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى (1)
وكان يقول لا آكل متكئا
حديث كان يقول لا آكل متكئاً أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة
إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد
حديث إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد تقدم قبله من حديث أنس بلفظ وأفعل بدل وأجلس ورواه البزار من حديث ابن عمر دون قوله وأجلس (2) حديث ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن والنسائي وابن ماجه من حديث المقداد بن معد يكرب
وَمِنْ ضَرُورَةِ هَذِهِ النِّيَّةِ أَنْ لَا يَمُدَّ الْيَدَ إِلَى الطَّعَامِ إِلَّا وَهُوَ جَائِعٌ فَيَكُونُ الْجُوعُ أَحَدَ مَا لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْأَكْلِ
ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ الْيَدَ قَبْلَ الشِّبَعِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنِ الطبيب وسيأتي فائدة قلة الأكل وكيفية التدريج في التقليل منه في كتاب كسر شهوة الطعام من ربع المهلكات
السادس أَنْ يَرْضَى بِالْمَوْجُودِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْحَاضِرِ مِنَ الطعام ولا يجتهد في التنعم وطلب الزيادة وانتظار الأدم بل من كرامة الخبز أن لا ينتظر به الأدم وقد ورد الأمر بإكرام الخبز (3)
فكل ما يديم الرمق ويقوي على العبادة فهو خير كثير لا ينبغي أن يستحقر بل لا ينتظر بالخبز الصلاة إن حضر وقتها إذا كان في الوقت متسع
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ والعشاء فابدءوا بِالْعَشَاءِ (4)
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رُبَّمَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَلَا يَقُومُ مِنْ عشائه
ومهما كَانَتِ النَّفْسُ لَا تَتُوقُ إِلَى الطَّعَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِ الطَّعَامِ ضَرَرٌ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الصلاة
فأما إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة وكان في التأخير ما يبرد الطعام أو يشوش أمره فتقديمه أحب عند اتساع الوقت تاقت النفس أو لم تتق لعموم الخبر ولأن القلب لا يخلو عن الإلتفات إلى الطعام الموضوع وإن لم يكن الجوع غالبا
_________
(1) حديث ربما جثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدميه وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن بشير في أثناء حديث أتوا القصعة فالتفوا عليها فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وله وللنسائي من حديث أنس رأيته يأكل وهو مقنع من الجوع وروى أبو الحسن بن المقري في الشمائل من حديثه كان إذا قعد على الطعام استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى ثم قال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأفعل كما يفعل العبد وإسناده ضعيف
(2) والشرب متكئاً مكروه للمعدة أيضاً ويكره الأكل نائماً ومتكئاً إلا ما يتنقل به من الحبوب
روي عن علي كرم الله وجهه أنه أكل كعكا على ترس وهو مضطجع ويقال منبطح على بطنه والعرب قد تفعله
الخامس أَنْ يَنْوِيَ بِأَكْلِهِ أَنْ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طاعة الله تعالى ليكون مطيعاً بالأكل ولا يقصد التلذذ والتنعم بالأكل
قال إبراهيم بن شيبان منذ ثمانين سنة ما أكلت شيئاً لشهوتي
ويعزم مع ذلك على تقليل الأكل فإنه إذا أكل لأجل قوة العبادة لم تصدق نيته إلا بأكل ما دون الشبع فإن الشبع يمنع من العبادة ولا يقوى عليها فمن ضرورة هذه النية كسر الشهوة وإيثار القناعة على الإتساع
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس
(3) حديث أكرموا الخبز أخرجه البزار والطبراني وابن قانع من حديث عبد الله بن أم حرام بإسناد ضعيف جدا وذكره ابن الجوزي في الموضوعات
(4) حديث إذا حضر العشا والعشاء فابدءوا بالعشاء تقدم في الصلاة والمعروف وأقيمت الصلاة(2/4)
السابع أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَكْثِيرِ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ ولو من أهله وولده
قال صلى الله عليه وسلم اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه (1)
وقال أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لا يأكل وحده (2)
وقال صلى الله عليه وسلم خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي القسم الثاني في آداب حَالَةُ الْأَكْلِ
وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَبِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أخره
ولو قال مع كل لقمة بسم الله فهو حسن حتى لا يشغله الشره عن ذكر الله تعالى ويقول مع اللقمة الأولى بسم الله ومع الثانية بسم الله الرحمن ومع الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم ويجهر به ليذكر غيره
ويأكل باليمنى ويبدأ بالملح ويختم به وَيُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ وَيُجَوِّدَ مَضْغَهَا وَمَا لَمْ يَبْتَلِعْهَا لم يَمُدُّ الْيَدَ إِلَى الْأُخْرَى فَإِنَّ ذَلِكَ عَجَلَةٌ فِي الْأَكْلِ وَأَنْ لَا يَذُمَّ مَأْكُولًا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعِيبُ مَأْكُولًا كَانَ إِذَا أَعْجَبَهُ أَكْلُهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ (3)
وَأَنْ يأكل مما يليه إلا الفاكهة فإن له أن يجيل يده فيها قال صلى الله عليه وسلم كل مما يليك (4) حديث كان يدور على الفاكهة وقال ليس هو نوعاً واحداً أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عكراش بن دويب وفيه وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد قال الترمذي غريب ورواه ابن حبان في الضعفاء (5) حديث النهي عن قطع الخبز بالسكين رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي هريرة وفيه نوح ابن أبي مريم وهو كذاب ورواه البيهقي في الشعب من حديث أم سلمة بسند ضعيف (6)
ولا يوضع عَلَى الْخُبْزِ قَصْعَةً وَلَا غَيْرَهَا إِلَّا مَا يأكل به قال صلى الله عليه وسلم أكرموا الخبز فإن الله تعالى أنزله من بركات السماء ولا يمسح يده بالخبز
وقال صلى الله عليه وسلم إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة (7)
ولا ينفخ في الطعام الحار (8)
فهو منهي عنه بل يصبر إلى إن يسهل أكله ويأكل من التمر وتراً سبعاً أو إحدى عشرة أو إحدى وعشرين أو ما اتفق وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالنَّوَى فِي طَبَقٍ وَلَا يَجْمَعَ فِي كَفِّهِ بَلْ يَضَعَ النَّوَاةَ مِنْ فِيهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ ثُمَّ يُلْقِيهَا وكذا كل ماله عَجَمٌ وَثُفْلٌ
وَأَنْ لَا يَتْرُكَ مَا اسْتَرْذَلَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَيَطْرَحَهُ فِي الْقَصْعَةِ بَلْ يَتْرُكَهُ مَعَ الثُّفْلِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَى غَيْرِهِ فَيَأْكُلَهُ
وَأَنْ لَا يُكْثِرَ الشُّرْبَ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ إِلَّا إِذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ صَدَقَ عطشه فقد قيل إن ذلك مستحب في الطب وإنه دباغ المعدة
وَأَمَّا الشُّرْبُ فَأَدَبُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُوزَ بِيَمِينِهِ وَيَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَيَشْرَبَهُ مَصًّا لَا عَبًّا قال صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث وحشي بن حرب بإسناد حسن
(2) حديث أنس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأكل وحده رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق بسند ضعيف
(3) حديث أنس كان لا يعيب مأكولا إن أعجبه أكله وإلا تركه متفق عليه من حديث أبي هريرة
(4) حديث كل مما يليك متفق عليه من حديث عمر بن أبي سلمة
ثم كان صلى الله عليه وسلم يدور على الفاكهة فقيل له في ذلك فقال ليس هو نوعاً واحداً
(5) وأن لا يأكل من دورة القصعة ولا من وسط الطعام بل يأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكسر الخبز ولا يقطع بالسكين
(6) ولا يقطع اللحم أيضاً فقد نهى عنه وقال انهشوه نهشاً
حديث النهي عن قطع اللحم بالسكين أخرجه أبو داود من حديث عائشة وقال فانهشوه نهشا قال النسائي منكر وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث صفوان بن أمية وانهشوا اللحم نهشا وسنده ضعيف
(7) حديث إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة أخرجه مسلم من حديث أنس وجابر
(8) حديث النهي عن النفخ في الطعام والشراب أخرجه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس وهو عند أبي داود والترمذي وصححه ابن ماجه إلا أنهم قالوا في الإناء وأخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي سعيد نهي عن النفخ في الشراب(2/5)
مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عبا فإنه الكباد من العب (1)
ولا يشرب قائماً ولا مضطجعاً فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً (2)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما (3)
ولعله كان لعذر
ويراعي أسفل الكوز حتى لا يقطر عليه وَيَنْظُرَ فِي الْكُوزِ قَبْلَ الشُّرْبِ وَلَا يَتَجَشَّأَ وَلَا يَتَنَفَّسَ فِي الْكُوزِ بَلْ يُنَحِّيَهُ عَنْ فمه بالحمد ويرده بالتسمية
وقد قال صلى الله عليه وسلم بعد الشرب الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا (4)
وَالْكُوزُ وَكُلُّ مَا يُدَارُ عَلَى الْقَوْمِ يُدَارُ يَمْنَةً وَقَدْ شَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَنًا وأبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عنه عن شماله وأعرابي عن يمينه وعمر ناحيته فقال عمر رضي الله عنه أعط أبا بكر فَنَاوَلَ الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ وَيَشْرَبَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ يَحْمَدُ اللَّهَ فِي أَوَاخِرِهَا وَيُسَمِّي الله في أوائلها ويقول في آخر النفس الأول الحمد لله وفي الثاني رب العالمين وفي الثالث يزيد الرحمن الرحيم فهذا قريب من عشرين أدباً في حالة الأكل والشرب دلت عليها الأخبار والآثار الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا يُسْتَحَبُّ بَعْدَ الطَّعَامِ
وَهُوَ أن يمسك قبل الشبع ويلعق أصابعه ثم يمسح بالمنديل ثم يغسلها ويلتقط فتات الطعام قال صلى الله عليه وسلم من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده (5)
ويتخلل ولا يبتلع كل ما يخرج من بين أسنانه بالخلال إلا ما يجمع من أصول أسنانه بلسانه أما المخرج بالخلال فيرميه وليتمضمض بعد الخلال ففيه أثر عن أهل البيت عليهم السلام
وأن يلعق القصعة ويشرب ماءها
ويقال من لعق القصعة وغسلها وشرب ماءها كان له عتق رقبة
وأن التقاط الفتات مهور الحور العين وَأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ عَلَى مَا أَطْعَمَهُ فَيَرَى الطَّعَامَ نِعْمَةً مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله ومهما أكل حلالاً قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات اللهم أطعمنا طيباً واستعملنا صالحاً
وإن أكل شبهة فليقل الحمد لله على كل حال اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك ويقرأ بعد الطعام قل هو الله أحد ولإيلاف قريش
ولا يقوم عن المائدة حتى ترفع أولاً فَإِنْ أَكَلَ طَعَامَ الْغَيْرِ فَلْيَدْعُ لَهُ وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ خَيْرَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا رَزَقْتَهُ ويسر له أن يفعل فيه خيراً وقنعه بما أعطيته وَاجْعَلْنَا وَإِيَّاهُ مِنَ الشَّاكِرِينَ
وَإِنْ أَفْطَرَ عِنْدَ قَوْمٍ فَلْيَقُلْ أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ
وَلْيُكْثِرِ الِاسْتِغْفَارَ وَالْحُزْنَ على ما أكل من شبهة ليطفيء بدموعه وحزنه حر النار التي تعرض لها لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ من حرام فالنار أولى به (6) حديث القوم عند أكل اللبن اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عباس إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه //
فإن أكل غيره قال اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا
_________
(1) حديث مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عبا أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بالشطر الأول ولأبي داود في المراسيل من رواية عطاء بن أبي رباح إذا شربتم فاشربوا مصا
(2) حديث النهي عن الشراب قائما أخرجه مسلم من حديث أنس وأبي سعيد وأبي هريرة
(3) حديث أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما متفق عليه من حديث ابن عباس وذلك من زمزم
(4) حديث كان يقول بعد الشرب الحمد لله الذي جعل الماء عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا أخرجه الطبراني في الدعاء مرسلا من رواية أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين
(5) حديث من أكل ما سقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث جابر بلفظ أمن من الفقر والبرص والجذام وصرف عن ولده الحمق وله من حديث الحجاج بن علاط أعطى سعة من الرزق ووقى في ولده وكلاهما منكر جدا
(6) حديث كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى به هو في شعب الإيمان من حديث كعب بن عجرة بلفظ سحت وهو عند الترمذي وحسنه بلفظ لا يربوا لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به
وليس من يأكل ويبكي كمن يأكل ويلهو
وليقل إذا أكل لبناً اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه(2/6)
منه فذلك الدعاء مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن لعموم نفعه
وَيُسْتَحَبُّ عَقِيبَ الطَّعَامِ أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا سيدنا ومولانا يا كافي من كل شيء ولا يكفى منه شيء أطعمت من جوع وآمنت من خوف فلك الحمد آويت من يتم وهديت من ضلالة وأغنيت من عيلة فلك الحمد حمداً كثيراً دائماً طيباً نافعاً مباركاً فيه كما أنت أهله ومستحقه اللهم أطعمتنا طيباً فاستعملنا صالحاً واجعله عوناً لنا عن طاعتك ونعوذ بك أن نستعين به على معصيتك وأما غسل اليدين بالأشنان فكيفيته أن يجعل الأشنان في كفه اليسرى ويغسل الأصابع الثلاث من اليد اليمنى أولا ويضرب أصابعه على الأشنان اليابس فيمسح به شفتيه ثم ينعم غسل الفم بإصبعه ويدلك ظاهر أسنانه وباطنها والحنك واللسان ثم يغسل أصابعه من ذلك بالماء ثم يدلك ببقية الأشنان اليابس أصابعه ظهراً وبطناً ويستغني بذلك عن إعادة الأشنان إلى الفم وإعادة غسله
الباب الثاني فيما يزيد بسبب الاجتماع والمشاركة في الْأَكْلِ وَهِيَ سَبْعَةٌ
الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَبْتَدِئَ بِالطَّعَامِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ بِكِبَرِ سَنٍّ أَوْ زِيَادَةِ فَضْلٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَتْبُوعَ وَالْمُقْتَدَى بِهِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطَوِّلَ عَلَيْهِمُ الِانْتِظَارَ إِذَا اشْرَأَبُّوا لِلْأَكْلِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ
الثَّانِي أَنْ لَا يَسْكُتُوا عَلَى الطَّعَامِ فإن ذلك من سيرة العجم ولكن يتكلمون بالمعروف ويتحدثون بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها
الثَّالِثُ أَنْ يَرْفُقَ بِرَفِيقِهِ فِي الْقَصْعَةِ فَلَا يقصد أن يأكل زيادة على ما يَأْكُلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِرِضَا رَفِيقِهِ مَهْمَا كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا
بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ الْإِيثَارَ وَلَا يَأْكُلَ تَمْرَتَيْنِ فِي دُفْعَةٍ إِلَّا إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوِ اسْتَأْذَنَهُمْ
فَإِنْ قَلَّلَ رَفِيقُهُ نَشَّطَهُ وَرَغَّبَهُ فِي الْأَكْلِ وَقَالَ لَهُ كُلْ وَلَا يَزِيدُ في قوله كل على ثلاث مرات فإن ذلك إلحاح وإفراط
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خوطب في شيء ثلاثاً لم يراجع بعد ثلاث
حديث كان إذا خوطب في شيء ثلاثاً لم يراجع بعد ثلاث أخرجه أحمد من حديث جابر في حديث طويل ومن حديث أبي حدرد أيضا وإسنادهما حسن (1) حديث كان يكرر الكلمة ثلاثا أخرجه البخاري من حديث أنس كان يعيد الكلمة ثلاثاً //
فليس من الأدب الزيادة عليه
فَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَيْهِ بِالْأَكْلِ فَمَمْنُوعٌ قَالَ الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الطَّعَامُ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يُحْلَفَ عَلَيْهِ
الرَّابِعُ أَنْ لَا يُحْوِجَ رَفِيقَهُ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ كُلْ
قال بعض الأدباء أحسن الآكلين أكلاً من لا يحوج صاحبه إلى أن يتفقده في الأكل وحمل عن أخيه مؤنة القول
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِمَّا يَشْتَهِيهِ لِأَجْلِ نَظَرِ الْغَيْرِ إِلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصَنُّعٌ بَلْ يَجْرِي عَلَى الْمُعْتَادِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ عَادَتِهِ شَيْئًا فِي الْوَحْدَةِ وَلَكِنْ يُعَوِّدُ نَفْسَهُ حُسْنَ الْأَدَبِ فِي الْوَحْدَةِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى التَّصَنُّعِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ
نَعَمْ لَوْ قَلَّلَ مِنْ أَكْلِهِ إِيثَارًا لِإِخْوَانِهِ وَنَظَرًا لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ زَادَ فِي الْأَكْلِ عَلَى نِيَّةِ الْمُسَاعَدَةِ وَتَحْرِيكِ نَشَاطِ القوم في الأكل فلا بأس به بل هو حسن وكان ابن المبارك يقدم فاخر الرطب إلى إخوانه ويقول من أكل أكثر أعطيته بكل نواة درهماً
وكان يعد النوى ويعطي كل من له فضل نوى بعدده دراهم وذلك لدفع الحياء وزيادة النشاط في الإنبساط وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما
أحب إخواني إلي أكثرهم أكلاً وأعظمهم لقمةً وأثقلهم على من يحوجني إلى تعهده في الأكل
وكل هذا إشارة إلى الجري على المعتاد وترك التصنع
وقال جعفر رحمه الله أيضاً تتبين جودة محبة الرجل لأخيه بجودة أكله في منزله
الْخَامِسُ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ فِي الطَّسْتِ لَا بأس به وله أن يتنخم فيه
_________
(1) وكان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام ثلاثاً(2/7)
إن أكل وحده وإن أكل مع غيره فلا ينبغي أن يفعل ذلك
فإذا قدم الطست إليه غيره إكراماً له فليقبله
اجتمع أنس بن مالك وثابت البناني رضي الله عنهما على طعام فقدم أنس الطست إليه فامتنع ثابت فقال أنس إِذَا أَكْرَمَكَ أَخُوكَ فَاقْبَلْ كَرَامَتَهُ وَلَا تردها فإنما يكرم الله عز وجل وروي أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ دَعَا أَبَا مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرَ فَصَبَّ الرشيد عَلَى يَدِهِ فِي الطَّسْتِ فَلَمَّا فرغ قال يا أبا معاوية تدري مَنْ صَبَّ عَلَى يَدِكَ فَقَالَ لَا قَالَ صَبَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا أَكْرَمْتَ الْعِلْمَ وَأَجْلَلْتَهُ فَأَجَلَّكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَكَ كما أجللت العلم وأهله
ولا بأس أن يجتمعوا على غسل اليد في الطست في حالة واحدة فهو أقرب إلى التواضع وأبعد عن طول الإنتظار
فإن لم يفعلوه فلا ينبغي أن يصب ماء كل واحد بل يجمع الماء في الطست قال صلى الله عليه وسلم أجمعوا وضوءكم جمع الله شملكم (1)
قيل إن المراد هذا
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار لا يرفع الطست من بين يدي قوم إلا مملوءة ولا تشبهوا بالعجم
وقال ابن مسعود اجتمعوا على غسل اليد في طست واحد ولا تستنوا بسنة الأعاجم
والخادم الذي يصب الماء على اليد كره بعضهم أن يكون قائماً وأحب أن يكون جالساً لأنه أقرب إلى التواضع وكره بعضهم جلوسه فروي أنه صب الماء على يد واحد خادم جالساً فقام المصبوب عليه فقيل له لم قمت فقال أحدنا لا بد وأن يكون قائماً
وهذا أولى لأنه أيسر للصب وللغسل وأقرب إلى تواضع الذي يصب وإذا كان له نية فيه فتمكينه من الخدمة ليس فيه تكبر فإن العادة جارية بذلك ففي الطست إذاً سبعة آداب أن لا يبزق فيه وأن يقدم به المتبوع وأن يقبل الإكرام بالتقديم وأن يدار يمنة وأن يجتمع فيه جماعة وأن يجمع الماء فيه وأن يكون الخادم قائماً وأن يمج الماء من فيه ويرسله من يده برفق حتى لا يرش على الفراش وعلى أصحابه وَلْيَصُبَّ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بِنَفْسِهِ الْمَاءَ عَلَى يَدِ ضَيْفِهِ هَكَذَا فَعَلَ مالك بالشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَوَّلِ نُزُولِهِ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا يَرُوعُكَ مَا رَأَيْتَ مِنِّي فَخِدْمَةُ الضَّيْفِ فَرْضٌ
السَّادِسُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَلَا يُرَاقِبَ أَكْلَهُمْ فَيَسْتَحْيُونَ بَلْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْهُمْ وَيَشْتَغِلَ بِنَفْسِهِ وَلَا يُمْسِكَ قَبْلَ إِخْوَانِهِ إِذَا كَانُوا يَحْتَشِمُونَ الْأَكْلَ بَعْدَهُ بَلْ يَمُدَّ الْيَدَ وَيَقْبِضَهَا وَيَتَنَاوَلَ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَسْتَوْفُوا فإن كان قليل الأكل توقف في الابتداء وقلل الأكل حتى إذا توسعوا في الطعام أكل معهم أخيراً فقد فعل ذلك كثير من الصحابة رضي الله عنهم فَإِنِ امْتَنَعَ لِسَبَبٍ فَلْيَعْتَذِرْ إِلَيْهِمْ دَفْعًا لِلْخَجْلَةِ عَنْهُمْ
السَّابِعُ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَسْتَقْذِرُهُ غيره فلا ينفض يده في القصعة وَلَا يُقَدِّمَ إِلَيْهَا رَأْسَهُ عِنْدَ وَضْعِ اللُّقْمَةِ في فيه وإن أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ فِيهِ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنِ الطعام وأخذه بِيَسَارِهِ وَلَا يَغْمِسَ اللُّقْمَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْخَلِّ ولا الخل في الدسومة فَقَدْ يَكْرَهُهُ غَيْرُهُ وَاللُّقْمَةُ الَّتِي قَطَعَهَا بِسِنِّهِ لا يغمس بقيتها فِي الْمَرَقَةِ وَالْخَلِّ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُذْكَرُ المستقذرات
الباب الثالث في آداب تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين
تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إِلَى الْإِخْوَانِ فِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما إذا قعدتم مع الإخوان على المائدة فأطيلوا الجلوس فإنها ساعة لا تحسب عليكم من أعماركم
وقال الحسن رحمه الله كل نفقة ينفقها الرجل على نفسه وأبويه فمن دونهم يحاسب عليها البتة إلا نفقة الرجل على إخوانه في الطعام فإن الله يستحي أن يسأل عن ذلك
هذا مع ما ورد من الأخبار في الإطعام قال صلى الله عليه وسلم لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة
_________
(1) حديث أجمعوا وضوءكم جمع الله شملكم رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به وجعل ابن طاهر مكان أبي هريرة إبراهيم وقال إنه معضل وفيه نظر(2/8)
بين يديه حتى ترفع (1)
وروي عن بعض علماء خراسان أنه كان يقدم إلى إخوانه طعاماً كثيراً لا يقدرون على أكل جميعه وكان يقول بلغنا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال إن الإخوان إذا رفعوا أيديهم عن الطعام لم يحاسب من أكل فضل ذلك (2)
فأنا أحب أن أستكثر مما أقدمه إليكم لنأكل فضل ذلك
وفي الخبر لا يحاسب العبد على ما يأكله مع إخوانه (3)
وكان بعضهم يكثر الأكل مع الجماعة لذلك ويقلل إذا أكل وحده وفي الخبر ثلاثة لا يحاسب عليها العبد أكلة السحور وما أفطر عليه وما أكل مع الإخوان (4)
وَقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ أَجْمَعَ إِخْوَانِي عَلَى صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مِنْ كَرَمِ الْمَرْءِ طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه وكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون الاجتماع على الطعام من مكارم الأخلاق وَكَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِرَاءَةِ القرآن ولا يتفرقون إلا عن ذواق
وقيل اجتماع الإخوان على الكفاية مع الأنس والألفة ليس هو من الدنيا
وفي الخبر يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة يا ابن آدم جعت فلم تطعمني فيقول كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول جاع أخوك المسلم فلم تطعمه ولو أطعمته كنت أطعمتني (5)
وقال صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم الزائر فأكرموه (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها هي لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام (7)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ مَنْ أطعم الطعام (8)
وقال صلى الله عليه وسلم من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه حتى يرويه بعده الله من النار بسبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام (9)
وَأَمَّا آدَابُهُ فَبَعْضُهَا فِي الدُّخُولِ وَبَعْضُهَا فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ
أَمَّا الدُّخُولُ فَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْصِدَ قَوْمًا مُتَرَبِّصًا لِوَقْتِ طَعَامِهِمْ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ وَقْتَ الْأَكْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُفَاجَأَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طعام غير ناظرين إناه} يعني منتظرين حينه ونضجه
وفي الخبر من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقاً وأكل حراما (10)
ولكن حق الداخل إذا لم يتربص وأتفق أن صادفهم على طعام أن لا يأكل ما لم يؤذن له فإذا قيل له كل
نظر فإن علم أنهم يقولونه على محبة لمساعدته فليساعد وإن
_________
(1) حديث لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة بين يديه حتى يرفع أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة بسند ضعيف
(2) حديث إن الإخوان إذا رفعوا أيديهم عن الطعام لا يحاسب من أكل من فضل ذلك الطعام لم أقف له على أصل
(3) حديث لا يحاسب العبد بما يأكله مع إخوانه هو في الحديث الذي بعده بمعناه
(4) حديث ثلاثة لا يحاسب عليها العبد أكلة السحور وما أفطر عليه وما أكل مع الإخوان أخرجه الأزدي في الضعفاء من حديث جابر ثلاثة لا يسألون عن النعيم الصائم والمتسحر والرجل يأكل مع ضيفه أورده في ترجمة سليمان بن داود الجزري وقال فيه منكر الحديث ولأبي منصور الديلمي في مسند الفردوس نحوه من حديث أبي هريرة
(5) حديث يقول الله للعبد يوم القيامة يا ابن آدم جعت فلم تطعمني: الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ استطعمتك فلم تطعمني
(6) حديث إذا جاءكم الزائر فأكرموه أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث أنس وهو حديث منكر قاله ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه
(7) حديث إن في الجنة غرفاً يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها هي لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام أخرجه الترمذي من حديث علي وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن ابن إسحاق وقد تكلم فيه من قبل حفظه
(8) حديث خيركم من أطعم الطعام أخرجه أحمد والحاكم من حديث صهيب وقال صحيح الإسناد
(9) حديث من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه حتى يرويه بعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر وقال ابن حبان ليس من حديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الذهبي غريب منكر
(10) حديث من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقا وأكل حراما أخرجه البيهقي من حديث عائشة نحوه وضعفه ولأبي داود من حديث ابن عمر من دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا إسناده ضعيف(2/9)
كانوا يقولونه حياء منه فلا ينبغي أن يأكل بل ينبغي أن يتعلل أَمَّا إِذَا كَانَ جَائِعًا فَقَصَدَ بَعْضَ إِخْوَانِهِ لِيُطْعِمَهُ وَلَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِ وَقْتَ أَكْلِهِ فَلَا بأس به
قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منزل أبي الهيثم بن التيهان وأبي أيوب الأنصاري لأجل طعام يأكلونه وكانوا جياعاً (1)
والدخول على مثل هذه الحالة إعانة لذلك المسلم عَلَى حِيَازَةِ ثَوَابِ الْإِطْعَامِ وَهِيَ عَادَةُ السَّلَفِ
وكان عون بن عبد الله المسعودي له ثلاثمائة وستون صديقاً يدور عليهم في السنة
ولآخر ثلاثون يدور عليهم في الشهر
ولآخرة سبعة يدور عليهم في الجمعة
فكان إخوانهم معلومهم بدلاً عن كسبهم وكان قيام أولئك بهم على قصد التبرك عبادة لهم فَإِنْ دَخَلَ وَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَ الدَّارِ وَكَانَ وَاثِقًا بِصَدَاقَتِهِ عَالِمًا بِفَرَحِهِ إِذَا أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذِ المراد من الإذن الرضا لَا سِيَّمَا فِي الْأَطْعِمَةِ وَأَمْرُهَا عَلَى السَّعَةِ
فَرُبَّ رَجُلٍ يُصَرِّحُ بِالْإِذْنِ وَيَحْلِفُ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ فَأَكْلُ طَعَامِهِ مَكْرُوهٌ
وَرُبَّ غَائِبٍ لَمْ يَأْذَنْ وَأَكْلُ طَعَامِهِ مَحْبُوبٌ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أو صديقكم} ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار بريرة وأكل طعامها وهي غائبة وكان الطعام من الصدقة فقال بلغت الصدقة محلها (2)
وذلك لعلمه بسرورها بذلك
لذلك يجوز أن يدخل الدار بغير استئذان اكتفاء بعلمه بالإذن فإن لم يعلم فلا بد من الاستئذان أولاً ثم الدخول
وكان مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ وَأَصْحَابُهُ يَدْخُلُونَ مَنْزِلَ الحسن فيأكلون ما يجدون بغير إذن
وكان الحسن يَدْخُلُ وَيَرَى ذَلِكَ فَيُسَرُّ بِهِ وَيَقُولُ هكذا كنا
وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه كان قائماً يأكل من متاع بقالٍ في السوق يأخذ من هذه الجونة تينةً ومن هذه قسبةً فقال له هشام ما بدا لك يا أبا سعيدٍ في الورع تأكل متاع الرجل بغير إذنه فقال
يا لكع اتل علي آية الأكل فتلا إلى قوله تعالى {أو صديقكم} فقال
فمن الصديق يا أبا سعيد قال مَنِ اسْتَرْوَحَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ
وَمَشَى قَوْمٌ إِلَى مَنْزِلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَفَتَحُوا الْبَابَ وَأَنْزَلُوا السُّفْرَةَ وَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ فَدَخَلَ الثَّوْرِيُّ وَجَعَلَ يَقُولُ ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ السَّلَفِ هكذا كانوا
وزار قوم بعض التابعين ولم يكن عنده ما يقدمه إليهم فذهب إلى منزل بعض إخوانه فلم يصادفه في المنزل فدخل فنظر إلى قدر قد طبخها وإلى خبز قد خبزه وغير ذلك فحمله كله فقدمه إلى أصحابه وقال
كلوا فجاء رب المنزل فلم ير شيئاً فقيل له
قد أخذ فلان فقال قد أحسن فلما لقيه قال يا أخي إن عادوا فعد
فهذه آداب الدخول
وَأَمَّا آدَابُ التَّقْدِيمِ فَتَرْكُ التَّكَلُّفِ أَوَّلًا وَتَقْدِيمُ ما حضر فإن لم يحضره شيء ولم يملك فلا يستقرض لأجل ذلك فيشوش على نفسه
وإن حضره ما هو محتاج إليه لقوته ولم تسمح نفسه بالتقديم فلا ينبغي أن يقدم
دخل بعضهم على زاهد وهو يأكل فقال لولا أني أخذته بدين لأطعمتك منه وقال بعض السلف في تفسير التكلف
أن تطعم أخاك مالا تأكله أنت بل تقصد زيادة عليه في الجودة والقيمة
وكان الفضيل يَقُولُ إِنَّمَا تَقَاطَعَ النَّاسُ بِالتَّكَلُّفِ يَدْعُو أَحَدُهُمْ أَخَاهُ فَيَتَكَلَّفُ لَهُ فَيَقْطَعُهُ عَنِ الرُّجُوعِ إليه
وقال بعضهم
ما أبالي بمن أتاني من إخواني فإني لا أتكلف له إنما أقرب ما عندي ولو تكلفت له لكرهت مجيئه ومللته وقال بعضهم كنت أدخل على أخ لي فيتكلف لي فقلت له إنك لا تأكل وحدك هذا ولا أنا فما بالنا إذا اجتمعنا أكلناه فإما أن تقطع هذا التكلف أو أقطع المجيء فقطع
_________
(1) حديث قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منزل أبو الهيثم بن التيهان وأبي أيوب الأنصاري لأجل طعام يأكلونه أما قصة أبي الهيثم فرواها الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن غريب صحيح والقصة عند مسلم لكن ليس فيها ذكر لأبي الهيثم وإنما قال رجل من الأنصار وأما حديث قصدهم منزل أبي أيوب فرواها الطبراني في المعجم الصغير من حديث ابن عباس بسند ضعيف
(2) حديث دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار بريرة وأكل طعامها وهي غائبة وكان من الصدقة فقال بلغت الصدقة مكانها متفق عليه من حديث عائشة أهدى لبريرة لحم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو لها صدقة ولنا هدية وأما قوله بلغت محلها فقاله في الشاة التي أعطيتها نسيبة من الصدقة وهو متفق عليه أيضا من حديث أم عطية(2/10)
التكلف ودام اجتماعنا بسببه وَمِنَ التَّكَلُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ فيجحف بعياله ويؤذي قلوبهم
روي أن رجلاً دعا علياً رضي الله عنه فقال علي أجيبك على ثلاث شرائط لا تدخل من السوق شيئا ولا تدخر ما في البيت ولا تجحف بعيالك
وكان بعضهم يقدم من كل ما في البيت فلا يترك نوعا إلا ويحضر شيئا منه
وقال بعضهم دخلنا على جابر بن عبد الله فقدم إلينا خُبْزًا وَخَلًّا وَقَالَ لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا عَنِ التكلف لتكلفت لكم (1)
وقال بعضهم إذا قصدت للزيارة فقدم ما حضر وإن استزرت فلا تبق ولا تذر
وقال سلمان أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا نتكلف للضيف ما ليس عندنا وأن نقدم إليه ما حضرنا (2)
وفي حديث يونس النبي صلى الله عليه وسلم أنه زاره إخوانه فقدم إليهم كسرا وجز لهم بقلاً كان يزرعه ثم قال لهم كلوا لولا أن الله لعن المتكلفين لتكلفت لكم
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وغيره من الصحابة أنهم كانوا يقدمون ما حضر من الكسر اليابسة وحشف التمر ويقولون لا ندري أيهما أعظم وزراً الذي يحتقر ما يقدم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه
الْأَدَبُ الثَّانِي وَهُوَ لِلزَّائِرِ أَنْ لَا يَقْتَرِحَ وَلَا يَتَحَكَّمَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَرُبَّمَا يَشُقُّ عَلَى الْمَزُورِ إِحْضَارُهُ فَإِنْ خَيَّرَهُ أَخُوهُ بَيْنَ طَعَامَيْنِ فليتخير أيسرهما عليه كذلك السنة ففيالخبر أنه ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما (3)
وروى الأعمش عن أبي وائلٍ أنه قال مضيت مع صاحبٍ لي نزور سلمان فقدم إلينا خبز شعيرٍ وملحاً جريشاً فقال صاحبي لو كان في هذا الملح سعتراً كان أطيب فخرج سلمان فرهن مطهرته وأخذ سعتراً فلما أكلنا قال صاحبي الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا فقال سلمان لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة
هذا إذا توهم تعذر ذلك على أخيه أو كراهته له فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُسَرُّ بِاقْتِرَاحِهِ وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ ذلك فلا يكره له الاقتراح فعل الشافعي رضي الله عنه ذلك مع الزعفراني إذ كان نازلاً عنده ببغداد وكان الزعفراني يكتب كل يوم رقعة بما يطبخ من الألوان ويسلمها إلى الجارية فأخذ الشافعي الرقعة في بعض الأيام وألحق بها لوناً آخر بخطه فلما رأى الزعفراني ذلك اللون أنكر وقال ما أمرت بهذا فعرضت عليه الرقعة ملحقاً فيها خط الشافعي فلما وقعت عينه على خطه فرح بذلك وأعتق الجارية سروراً باقتراح الشافعي عليه
وقال أبو بكر الكتاني دخلت على السري فجاء بفتيت وأخذ يجعل نصفه في القدح فقلت له أي شيءٍ تعمل وأنا أشربه كله في مرةٍ واحدةٍ فضحك وقال هذا أفضل لك من حجة
وقال بَعْضُهُمْ الْأَكْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مَعَ الْفُقَرَاءِ بِالْإِيثَارِ وَمَعَ الْإِخْوَانِ بِالِانْبِسَاطِ وَمَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَدَبِ
الْأَدَبُ الثَّالِثُ أَنْ يُشَهِّيَ الْمَزُورُ أَخَاهُ الزَّائِرَ وَيَلْتَمِسَ مِنْهُ الِاقْتِرَاحَ مَهْمَا كَانَتْ نَفْسُهُ طَيِّبَةً بِفِعْلِ مَا يَقْتَرِحُ فَذَلِكَ حَسَنٌ وَفِيهِ أجر وفضلٌ جزيلٌ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صادف من أخيه شهوة غفر له ومن سر أخاه المؤمن فقد سر اللَّهُ تَعَالَى (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه جابر من لذذ أخاه بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنةٍ ومحى عنه ألف ألف سيئة
_________
(1) حديث دخلنا على جابر بن عبد الله فقدم إلينا خُبْزًا وَخَلًّا وَقَالَ لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا عَنِ التكلف لتكلفت لكم رواه أحمد دون قوله لولا أنا نهينا وهو من حديث سلمان الفارسي وسيأتي بعده وكلاهما ضعيف وللبخاري عن عمر بن الخطاب نهينا عن التكلف
(2) حديث سلمان أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا نتكلف للضيف ما ليس عندنا وأن نقدم إليه ما حضرنا أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق ولأحمد لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أو لولا أنا نهينا أن يتكلف أحدنا لصاحبه لتكلفنا لك وللطبراني نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا
(3) حديث ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما متفق عليه من حديث عائشة وزاد ما لم يكن إثماً ولم يذكرها مسلم في بعض طرقه
(4) حديث من صادف من أخيه شهوة غفر الله له ومن سر أخاه المؤمن فقد سر الله عز وجل أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء من وافق من أخيه شهوة غفر له قال ابن الجوزي حديث موضوع وروى ابن حبان والعقيلي في الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق من سر مؤمنا فإنما سر الله الحديث قال العقيلي باطل لا أصل له(2/11)
ورفع له ألف ألف درجةٍ وأطعمه الله من ثلاث جناتٍ جنة الفردوس وجنة عدنٍ وجنة الخلد (1)
الْأَدَبُ الرَّابِعُ أَنْ لَا يَقُولَ لَهُ هَلْ أُقَدِّمُ لَكَ طَعَامًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ إن كان
قال الثوري إذا زارك أخوك فلا تقل له أتأكل أو أقدم إليك ولكن قدم فإن أكل وإلا فارفع
وإن كان يريد أن يطعمهم طعاماً فلا ينبغي أن يظهرهم عليه أو يصفه لهم
قال الثوري إذا أردت أن لا تطعم عيالك مما تأكله فلا تحدثهم به ولا يرونه معك
وقال بعض الصوفية إذا دخل عليكم الفقراء فقدموا إليهم طعاماً وإذا دخل الفقهاء فسلوهم عن مسألةٍ فإذا دخل القراء فدلوهم على المحراب
الباب الرابع في آداب الضيافة
ومظان الآداب فيها ستةٌ الدعوة أولاً ثم الإجابة ثم الحضور ثم تقديم الطعام ثم الأكل ثم الانصراف ولنقدم على شرحها إن شاء الله تعالى
فَضِيلَةُ الضِّيَافَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تكلفوا للضيف فتبغضوه فإنه من أبغض الضيف فقد أبغض الله ومن أبغض الله أبغضه الله (2)
وقال صلى الله عليه وسلم لا خير فيمن لا يضيف (3)
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل له إبل وبقر كثيرة فلم يضيفه ومر بامرأة لها شويهات فذبحت له
فقال صلى الله عليه وسلم انظروا إليهما إنما هذه الأخلاق بيد الله فمن شاء أن يمنحه خلقاً حسناً فعل (4)
وقال أبو رافع مولى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نزل به صلى الله عليه وسلم ضيف فقال
قل لفلان اليهودي نزل بي ضيف فأسلفني شيئاً من الدقيق إلى رجب فقال اليهودي والله ما أسلفه إلا برهن فأخبرته فقال والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني لأديته فاذهب بدرعي وارهنه عنده (5)
وكان إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه إذا أراد ان يأكل خرج ميلاً أو ميلين يلتمس من يتغدى معه وكان يكنى أبا الضيفان ولصدق نيته فيه دامت ضيافته في مشهده إلى يومنا هذا فلا تنقضي ليلة إلا ويأكل عنده جماعة من بين ثلاثة إلى عشرة إلى مائة
وقال قوام الموضع إنه لن يخل إلى الآن ليلة عن ضيف وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الإيمان فقال إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ والصلاة بالليل والناس نيام (7)
_________
(1) حديث جابر من لذذ أخاه بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من رواية محمد بن نعيم عن ابن الزبير عن جابر وقال أحمد بن حنبل هذا باطل كذب
(2) حديث لا تتكلفوا للضيف فتبغضوه فإنه من أبغض الضيف فقد أبغض الله ومن أبغض الله أبغضه الله أخرجه أبو بكر ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث سلمان لا يتكلفن أحد لضيفه ما لا يقدر عليه وفيه محمد بن الفرج الأزرق متكلم فيه
(3) حديث لا خير فيمن لا يضيف أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعة
(4) حديث مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل له إبل وبقر كثيرة فلم يضفه ومر بامرأة لها شويهات فذبحت لهالحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من رواية أبي المنهال مرسلا
(5) حديث أبي رافع أَنَّهُ نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ضيف فقال قل لفلان اليهودي نزل بي ضيف فأسلفني شيئاً من الدقيق إلى رجبالحديث رواه إسحاق بن راهويه في مسنده والخرائطي في مكارم الأخلاق وابن مردويه في النفير بإسناد ضعيف
(6) حديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان قال إطعام الطعام وبذل السلام متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقري السلام على من عرفت ومن لم تعرف
(7) حديث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام أخرجه الترمذي وصححه والحاكم من حديث معاذ وقد تقدم بعضه في الباب الرابع من الأذكار وهو حديث اللهم إني أسألك فعل الخيرات(2/12)
وسئل عن الحج المبرور فقال إطعام الطعام وطيب الكلام (1)
وقال أنس رضي الله عنه كل بيت لا يدخله ضيف لا تدخله الملائكة
والأخبار الواردة في فضل الضيافة والإطعام لا تحصى فلنذكر آدابها
أَمَّا الدَّعْوَةُ فَيَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يَعْمِدَ بِدَعْوَتِهِ الْأَتْقِيَاءَ دُونَ الْفُسَّاقِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أكل طعامك الأبرار (2)
في دعائه لبعض من دعا له وقال صلى الله عليه وسلم لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ وَلَا يَأْكُلْ طعامك إلا تقي (3)
ويقصد الفقراء دون الأغنياء على الخصوص
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرُّ الطَّعَامِ طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء دون الْفُقَرَاءُ (4)
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْمِلَ أَقَارِبَهُ فِي ضِيَافَتِهِ فَإِنَّ إِهْمَالَهُمْ إِيحَاشٌ وَقَطْعُ رَحِمٍ وَكَذَلِكَ يُرَاعِي التَّرْتِيبَ فِي أَصْدِقَائِهِ وَمَعَارِفِهِ فَإِنَّ فِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ إِيحَاشًا لِقُلُوبِ الْبَاقِينَ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْصِدَ بِدَعْوَتِهِ الْمُبَاهَاةَ وَالتَّفَاخُرَ بَلِ اسْتِمَالَةَ قلوب الإخوان والتسنن بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إطعام الطعام وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْعُوَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَإِذَا حَضَرَ تَأَذَّى بِالْحَاضِرِينَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْعُوَ إِلَّا مَنْ يحب إجابته قال سفيان من دعا أحدا إلى طعام وهو يكره الإجابة فعليه خطيئة فإن أجاب المدعو فعليه خطيئتان
لأنه حمله على الأكل مع كراهة ولو علم ذلك لما كان يأكله
وإطعام التقي إعانة على الطاعة وإطعام الفاسق تقوية على الفسق
قال رجل خياط لابن المبارك أنا أخيط ثياب السلاطين فهل تخاف أن أكون من أعوان الظلمة قال لا إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الخيط والإبرة أما أنت فمن الظلمة نفسهم
وَأَمَّا الْإِجَابَةُ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَقَدْ قِيلَ بوجوبها في بعض المواضع
قال صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت (5)
وللإجابة خَمْسَةُ آدَابٍ
الْأَوَّلُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ الْغَنِيَّ بِالْإِجَابَةِ عَنِ الْفَقِيرِ فَذَلِكَ هُوَ التَّكَبُّرُ الْمَنْهِيُّ عنه ولأجل ذلك امتنع بعضهم عن أصل الإجابة وقال انْتِظَارُ الْمَرَقَةِ ذُلٌّ وَقَالَ آخَرُ إِذَا وُضِعَتْ يَدِي فِي قَصْعَةِ غَيْرِي فَقَدْ ذَلَّتْ لَهُ رقبتي ومن المتكبرين من يجيب الأغنياء دون الفقراء وهو خلاف السنة
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجيب دعوة العبد ودعوة المسكين (6)
ومر الحسن بن علي رضي الله عنهما بقوم من المساكين الذين يسألون الناس على الطريق وقد نشروا كسراً على الأرض في الرمل وهم يأكلون وهو على بغلته فسلم عليهم فقالوا له هلم إلى الغداء يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم إن الله لا يحب المستكبرين فنزل وقعد معهم على الأرض وأكل ثم سلم عليهم وركب وقال قد أجبتكم فأجيبوني قالوا نعم فوعدهم وقتاً معلوماً فحضروا فقدم إليهم فاخر الطعام وجلس يأكل معهم
وأما قول القائل إن من وضعت يدي في قصعته فقد ذلت له رقبتي فقد قال بعضهم هذا خلاف السنة وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ ذُلٌّ إِذَا كَانَ الدَّاعِي لا يفرح بالإجابة ولا يتقلد مِنَّةً وَكَانَ يَرَى ذَلِكَ يَدًا لَهُ عَلَى الْمَدْعُوِّ
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْضُرُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الدَّاعِيَ لَهُ يَتَقَلَّدُ مِنَّةً وَيَرَى ذَلِكَ شَرَفًا وَذُخْرًا لِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَمَنْ ظن به أنه يستثقل الإطعام وإنما يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَاهَاةً أَوْ تَكَلُّفًا فَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ إِجَابَتُهُ (7)
بَلِ الْأَوْلَى التَّعَلُّلُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ
لَا تُجِبْ إِلَّا دَعْوَةَ مَنْ يرى أنك أكلت رزقك وأنه
_________
(1) حديث سئل عن الحج المبرور فقال إطعام الطعام وطيب الكلام تقدم في الحج
(2) حديث أكل طعامكم الأبرار أخرجه أبو داود من حديث أنس بإسناد صحيح
(3) حديث لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ وَلَا يَأْكُلْ طعامك إلا تقي تقدم في الزكاة
(4) حديث شر الطعام طعام الوليمة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(5) حديث لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
(6) حديث كان يجيب دعوة العبد ودعوة المسكين أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أنس دون ذكر المسكين ضعفه الترمذي وصححه الحاكم
(7) حديث ليس من السنة إجابة من يطعم مباهاة أو تكلفا أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتبارين قال أبو داود من رواه عن جرير لم يذكر فيه ابن عباس وللعقيلي في الضعفاء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباهيين والمتباريان المتعارضان بفعلهما للمباهاة والرياء قاله أبو موسى المديني(2/13)
سَلَّمَ إِلَيْكَ وَدِيعَةً كَانَتْ لَكَ عِنْدَهُ وَيَرَى لَكَ الْفَضْلَ عَلَيْهِ فِي قَبُولِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ منه
وقال سري السقطي رحمه الله آه على لقمة ليس على الله فيها تبعة ولا لمخلوق فيها مِنْهُ
فَإِذَا عَلِمَ الْمَدْعُوُّ أَنَّهُ لَا مِنَّةَ في ذلك فلا ينبغي أن يرد
وقال أبو تراب النخشي رحمة الله عليه عرض علي طعام فامتنعت فابتليت بالجوع أربعة عشر يوماً فعلمت أنه عقوبته
وقيل لمعروف الكرخي رضي الله عنه كل من دعاك تمر إليه فقال أنا ضيف أنزل حيث أنزلوني
الثاني أنه لا ينبغي أن يَمْتَنِعَ عَنِ الْإِجَابَةِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ لِفَقْرِ الدَّاعِي وَعَدَمِ جَاهِهِ بَلْ كُلُّ مَسَافَةٍ يُمْكِنُ احْتِمَالُهَا فِي الْعَادَةِ لَا يَنْبَغِي أن يمتنع لأجل ذلك
يقال في التوراة أو بعض الكتب سر ميلاً عد مريضاً سر ميلين شيع جنازة سر ثلاثة أميال أجب دعوة سر أربعة أميال زر أخاً في الله
ولإنما قدم إجابة الدعوة والزيارة لأن فيه قضاء حق الحي فهو أولى من الميت وقال صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى كراع بالغميم لأجبت (1)
وهو موضع على أميال من المدينة أفطر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان (2)
لما بلغه وقصر عنده في سفره (3)
الثَّالِثُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ لِكَوْنِهِ صَائِمًا بَلْ يَحْضُرُ فَإِنْ كَانَ يَسُرُّ أَخَاهُ إِفْطَارُهُ فَلْيُفْطِرْ وَلْيَحْتَسِبْ فِي إِفْطَارِهِ بِنِيَّةِ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ أَخِيهِ مَا يَحْتَسِبُ فِي الصَّوْمِ وَأَفْضَلَ وذلك في صوم التطوع وإن لم يتحقق سرور قلبه فليصدقه بالظاهر وليفطر وَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ فَلْيَتَعَلَّلْ
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لمن امتنع بعذر الصوم تكلف لك أخوك وتقول إني صائم (4)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْحَسَنَاتِ إِكْرَامُ الْجُلَسَاءِ بِالْإِفْطَارِ فَالْإِفْطَارُ عِبَادَةٌ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَحُسْنُ خُلُقٍ فَثَوَابُهُ فَوْقَ ثَوَابِ الصَّوْمِ
وَمَهْمَا لَمْ يُفْطِرْ فَضِيَافَتُهُ الطِّيبُ والمجمرة والحديث الطيب
وقد قيل الكحل والدهن أحد القراءين
الرابع أن يمتنع من الْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ الطَّعَامُ طَعَامَ شُبْهَةٍ أَوْ الموضع أو البساط المفروش من غير حلال أو كان يقام في الموضع منكر من فرش ديباج أو إناء فضة أو تصوير حيوان على سقف أو حائط أو سماع شيء من المزامير والملاهي أو التشاغل بنوع من اللهو والعزف والهزل واللعب واستماع الغيبة والنميمة والزور والبهتان والكذب وشبه ذلك مما يمنع الإجابة واستحبابها ويوجب تحريمها أو كراهيتها وكذلك إذا كان الداعي ظالماً أو مبتدعاً أو فاسقاً أو شريراً أَوْ مُتَكَلِّفًا طَلَبًا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ
الْخَامِسُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالْإِجَابَةِ قَضَاءَ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَيَكُونَ عَامِلًا فِي أَبْوَابِ الدُّنْيَا بَلْ يُحَسِّنُ نِيَّتَهُ ليصير بالإجابة عاملاً للآخرة وذلك بأن تكون نيته الِاقْتِدَاءَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله لو دعيت إلى كراع لأجبت وينوي الحذر من معصية الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم من لم يجب الداعي فقد عصى الله ورسوله (5)
وينوي إكرام أخيه المؤمن اتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم الله (6)
وينوي إدخال السرور على قلبه امتثالاً لقوله
_________
(1) حديث لو دعيت إلى كراع بالغميم لأجبت ذكر الغميم فيه ليعرف والمعروف لو دعيت إلى كراع كما تقدم قبله بثلاثة أحاديث ويرد هذه الزيادة ما رواه الترمذي من حديث أنس لو أهدي إلي كراع لقبلت
(2) حديث إفطاره صلى الله عليه وسلم في رمضان لما بلغ كراع الغميم رواه مسلم من حديث جابر في عام الفتح
(3) حديث قصره صلى الله عليه وسلم في سفره عند كراع الغميم لم أقف له على أصل وللطبراني في الصغير من حديث ابن عمر كان يقصر الصلاة بالعقيق يريد إذا بلغه وهذا يرد الأول لأن بين العقيق وبين المدينة ثلاثة أميال أو أكثر وكراع الغميم بين مكة وعسفان والله أعلم
(4) حديث وقال لمن امتنع بعذر الصوم تكلف لك أخوك وتقول إني صائم أخرجه البيهقي من حديث أبي سعيد الخدري صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وأتاني هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم إني صائم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاكم أخوكم وتكلف لكمالحديث وللدارقطني نحوه من حديث جابر
(5) حديث من لم يجب الداعي فقد عصى الله ورسوله متفق عليه من حديث أبي هريرة
(6) حديث من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم الله تعالى ذكره الأصفهاني في الترغيب والترهيب من حديث جابر والعقيلي في الضعفاء من حديث أبي بكر وإسنادهما ضعيف(2/14)
صلى الله عليه وسلم من سر مؤمناً فقد سر الله (1)
وينوي مع ذلك زيارته ليكون من المتاحبين في الله إذ شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه التزاور والتباذل لله (2)
وقد حصل البذل من أحد الجانبين فتحصل الزيارة من جانبه أيضاوينوي صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يُسَاءَ بِهِ الظَّنُّ فِي امْتِنَاعِهِ وَيُطْلَقَ اللِّسَانُ فِيهِ بِأَنْ يُحْمَلَ على تكبر أو سوء خلق أو اسحتقار أخ مسلم أو ما يجري مجراه
فهذه ست نيات تلحق إجابته بالقربات آحادها فكيف مجموعها وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يَقُولُ أَنَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ عَمَلٍ نِيَّةٌ حَتَّى في الطعام والشراب وفي مثل هذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنما لكل امريء مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (3)
والنية إنما تؤثر في المباحات والطاعات أما المنهيات فلا
فإنه لو نوى أن يسر إخوانه بمساعدتهم على شرب الخمر أو حرام آخر لم تنفع النية ولم يجز أن يقال الأعمال بالنيات
بل لو قصد بالغزو الذي هو طاعة المباهاة وطلب المال انصرف عن جهة الطاعة
وكذلك المباح المردد بين وجوه الخيرات وغيرها يلتحق بوجوه الخيرات بالنية فتؤثر النية في هذين القسمين لا في القسم الثالث
وَأَمَّا الْحُضُورُ فَأَدَبُهُ أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ وَلَا يَتَصَدَّرَ فَيَأْخُذَ أَحْسَنَ الْأَمَاكِنِ بَلْ يَتَوَاضَعَ وَلَا يُطَوِّلَ الِانْتِظَارَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُعَجِّلَ بِحَيْثُ يُفَاجِئُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِعْدَادِ وَلَا يُضَيِّقَ الْمَكَانَ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِالزَّحْمَةِ بَلْ إِنْ أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَكَانِ بِمَوْضِعٍ لَا يُخَالِفُهُ الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَتَّبَ فِي نَفْسِهِ مَوْضِعَ كُلِّ وَاحِدٍ فمخالفته تشوش عليه وإن أشار إليه بعض الضيفان بالارتفاع إكراماً فليتواضع قال صلى الله عليه وسلم إن من التواضع لله الرضا بالدون من المجلس (4)
ولا ينبغي أن يجلس في مقابلة باب الحجرة التي لِلنِّسَاءِ وَسِتْرِهِمْ
وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الطَّعَامُ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الشَّرَهِ
وَيَخُصَّ بِالتَّحِيَّةِ وَالسُّؤَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ إِذَا جَلَسَ
وَإِذَا دَخَلَ ضَيْفٌ لِلْمَبِيتِ فَلْيُعَرِّفْهُ صاحب المنزل عند الدخول القبلة وبيت الماء وموضع الوضوء كذلك فعل مالك بالشافعي رضي الله عنهما
وغسل مالك يده قبل الطعام قبل القوم وقال الغسل قبل الطعام لرب البيت أول لأنه يدعو الناس إلى كرمه فحكمه أن يتقدم بالغسل وفي آخر الطعام يتأخر بالغسل لينتظر أن يدخل من يأكل فيأكل معه
وإذا دخل فرأى منكراً غيره إن قدر وإلا أنكر بلسانه وانصرف
والمنكر فرش الديباج واستعمال أواني الفضة والذهب والتصوير على الحيطان وسماع الملاهي والمزامير وحضور النسوة المتكشفات الوجوه وغير ذلك من المحرمات حتى قال أحمد رحمه الله إذا رأى مكحلةً رأسها مفضض ينبغي أن يخرج ولم يأذن في الجلوس إلا في ضبة وقال إذا رأى كلةً فينبغي أن يخرج فإن ذلك تكلف لا فائدة فيه ولا تدفع حراً ولا برداً ولا تستر شيئاً وكذلك قال يخرج إذا رأى حيطان البيت مستورة بالديباج كما تستر الكعبة
وقال إذا اكترى بيتاً فيه صورة أو دخل الحمام ورأى صورة فينبغي أن يحكها فإن لم يقدر خرج
وكل ما ذكره صحيح وإنما النظر في الكلة وتزيين الحيطان بالديباج فإن ذلك لا ينتهي إلى التحريم إذ الحرير يحرم على الرجال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها (5)
وما على
_________
(1) حديث من سر مؤمناً فقد سر الله تقدم في الباب قبله
(2) حديث وجبت محبتي للمتزاورين في والمتباذلين في أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ولم يذكر المصنف هذاالحديث وإنما أشار إليه
(3) حديث الأعمال بالنيات متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب
(4) حديث إن من التواضع لله الرضا بالدون من المجلس أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث طلحة بن عبيد بسند جيد
(5) حديث هذان حرامان على ذكور أمتي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث علي وفيه أبو أفلح الهمداني جهله ابن القطان والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى بنحوه قلت الظاهر انقطاعه بين سعيد بن أبي هند وأبي موسى فأدخل أحمد بينهما رجلا لم يسم(2/15)
الحائط ليس منسوباً إلى الذكور ولو حرم هذا لحرم تزيين الكعبة بل الأولى إباحته لموجب قوله {قل من حرم زينة الله} لا سيما في وقت الزينة إذا لم يتخذ عادة للتفاخر
وإن تخيل أن الرجال ينتفعون بالنظر إليه ولا يحرم على الرجال الانتفاع بالنظر إلى الديباج مهما لبسه الجواري والنساء
والحيطان في معنى النساء إذ لسن موصوفات بالذكورة
وَأَمَّا إِحْضَارُ الطَّعَامِ فَلَهُ آدَابٌ خَمْسَةٌ
الْأَوَّلُ تعجيل الطعام فذلك من إكرام الضيف وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ (1)
وَمَهْمَا حَضَرَ الْأَكْثَرُونَ وَغَابَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ وتأخروا عن الوقت الموعود فحق الحاضر فِي التَّعْجِيلِ أَوْلَى مِنْ حَقِّ أُولَئِكَ فِي التأخير إلا أن يكون المتأخر فقيراً أو ينكسر قلبه بذلك فلا بأس فِي التَّأْخِيرِ وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} أَنَّهُمْ أُكْرِمُوا بِتَعْجِيلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حنيذ} وَقَوْلُهُ {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} والروغان الذهاب بسرعة وقيل في خفية وقيل جاء بفخذ من لحم وإنما سمي عجلاً لأنه عجله ولم يلبث
قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا فِي خَمْسَةٍ فَإِنَّهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِطْعَامِ الضَّيْفِ وَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَزْوِيجِ الْبِكْرِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذنب (2)
ويستحب التعجيل في الوليمة قيل الوليمة في أول يوم سنة وفي الثاني معروف وفي الثالث رياء
الثَّانِي تَرْتِيبُ الْأَطْعِمَةِ بِتَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ أَوَّلًا إِنْ كَانَتْ فَذَلِكَ أَوْفَقُ فِي الطِّبِّ فَإِنَّهَا أَسْرَعُ اسْتِحَالَةً فَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ فِي أَسْفَلِ الْمَعِدَةِ
وَفِي الْقُرْآنِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ فِي قوله تعالى وفاكهة مما يتخيرون {ثم قال} ولحم طير مما يشتهون ثُمَّ أَفْضَلُ مَا يُقَدَّمُ بَعْدَ الْفَاكِهَةِ اللَّحْمُ والثريد فقد قال صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فَإِنْ جَمَعَ إِلَيْهِ حَلَاوَةً بَعْدَهُ فَقَدْ جَمَعَ الطَّيِّبَاتِ
وَدَلَّ عَلَى حُصُولِ الْإِكْرَامِ بِاللَّحْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ أَحْضَرَ الْعِجْلَ الْحَنِيذَ أَيِ الْمَحْنُوذَ وَهُوَ الَّذِي أُجِيدَ نُضْجُهُ وهو أحد معنى الإكرام أعني تقديم اللحم
وقال تعالى في وصف الطيبات وأنزلنا عليكم المن والسلوى المن العسل والسلوى اللحم سمي سلوى لأنه يتسلى به عن جميع الإدام ولا يقوم غيره مقامه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم سيد الإدام اللحم ثم قال بعد ذكر المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم فاللحم والحلاوة من الطيبات
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ يُورِثُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ
وَتَتِمُّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتُ بِشُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَصَبِّ الْمَاءِ الْفَاتِرِ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْغَسْلِ
قَالَ الْمَأْمُونُ شرب الماء بثلج يخلص الشكر
وقال بعض الأدباء إذا دعوت إخوانك فأطعمتهم حصرمية وبورانية وسقيتهم ماءً بارداً فقد أكملت الضيافة
وأنفق بعضهم دراهم في ضيافة فقال بعض الحكماء لم نكن نحتاج إلى هذا إذا كان خبزك جيداً وماؤك بارداً وخلك حامضاً فهو كفاية
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحَلَاوَةُ بَعْدَ الطَّعَامِ خَيْرٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَلْوَانِ وَالتَّمَكُّنُ عَلَى الْمَائِدَةِ خَيْرٌ مِنْ زيادة لونين
_________
(1) حديث مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضيفه متفق عليه من حديث أبي سريج
(2) حديث حَاتِمٌ الْأَصَمُّ الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا فِي خَمْسَةٍ فَإِنَّهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إطعام الطعام وَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَزْوِيجِ الْبِكْرِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّوْبَةِ من الذنب أخرجه الترمذي من حديث سهل بن سعد الأناة من الله والعجلة من الشيطان وسنده ضعيف وأما الاستثناء فروى أبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة قال الأعمش لا أعلم إلا أنه رفعه وروى المزي في التهذيب في ترجمة محمد بن موسى بن نفيع عن مشيخة من قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأناة في كل شيء إلا في ثلاث إذا صيح في خيل الله وإذا نودي بالصلاة وإذا كانت الجنازة الحديث مرس والترمذي من حديث علي ثلاثة لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا وسنده حسن(2/16)
ويقال أن الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل فذلك أيضاً مستحب ولما فيه من التزين بالخضرة
وفي الخبر إن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل كان عليها من كل البقول إلا الكراث
وكان عليها سمكة عند رأسها خل وعند ذنبها ملح وسبعة أرغفة على كل رغيف زيتون وحب رمان فهذا إذا اجتمع حسن للموافقة
الثَّالِثُ أَنْ يُقَدِّمَ مِنَ الْأَلْوَانِ أَلْطَفَهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا مَنْ يُرِيدُ وَلَا يُكْثِرَ الْأَكْلَ بَعْدَهُ وَعَادَةُ الْمُتْرَفِينَ تَقْدِيمُ الْغَلِيظِ لِيَسْتَأْنِفَ حَرَكَةَ الشَّهْوَةِ بِمُصَادَفَةِ اللَّطِيفِ بَعْدَهُ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فإنه حيلة في استكثار الأكل
وكان من سنة المتقدمين أن يقوموا جملة الألوان دفعة واحدة ويصففون القصاع من الطعام على المائدة ليأكل كل واحد مما يشتهي
وإن لم يكن عنده إلا لون واحد ذكره ليستوفوا منه ولا ينتظروا أطيب منه
ويحكى عن بعض أصحاب المروءات أنه كان يكتب نسخة بما يستحضر من الألوان ويعرض على الضيفان
وقال بعض الشيوخ قدم إلى بعض المشايخ لوناً بالشام فقلت عندنا بالعراق إنما يقدم هذا آخراً فقال وكذا عندنا بالشام ولم يكن له لون غيره فخجلت منه
وقال آخر كنا جماعة في ضيافة فقدم إلينا ألوان من الرءوس المشوية طبيخاً وقديداً فكنا لا نأكل ننتظر بعدها لونا أو حملا فجاءنا بالطست ولم يقدم غيرها فنظر بعضنا إلى بعض فقال بعض الشيوخ وكان مزاحاً إن الله تعالى يقدر أن يخلق رءوسا بلا أبدان قال وبتنا تلك الليلة جياعاً نطلب فتيتاً إلى السحور
فلهذا يستحب أن يقدم الجميع أَوْ يُخْبِرَ بِمَا عِنْدَهُ
الرَّابِعُ أَنْ لَا يُبَادِرَ إِلَى رَفْعِ الْأَلْوَانِ قَبْلَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَرْفَعُوا الْأَيْدِيَ عَنْهَا فَلَعَلَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَقِيَّةُ ذَلِكَ اللَّوْنِ أَشْهَى عِنْدَهُ مِمَّا اسْتَحْضَرُوهُ أَوْ بَقِيَتْ فِيهِ حَاجَةٌ إِلَى الأكل فيتنغض عليه بالمبادرة وهي من التمكن على المائدة التي يقال إنها خير من لونين فيحتمل أن يكون المراد به قطع الاستعجال ويحتمل أن يكون أراد به سعة المكان
حكى عن الستوري وكان صوفياً مزاحاً فحضر عند واحد من أبناء الدنيا على مائدة فقدم إليهم حمل وكان صاحب المائدة بخل فلما رأى القوم مزقوا الحمل كل ممزق ضاق صدره وقال يا غلام ارفع إلى الصبيان فرفع الحمل إلى داخل الدار فقام الستوري يعدو خلف الحمل فقيل له إلى أين فقال آكل مع الصبيان فاستحيا الرجل وأمر برد الحمل
ومن هذا الفن أن لا يرفع صاحب المائدة يده قبل القوم فإنهم يستحيون بل ينبغي أن يكون آخرهم أكلاً
كان بعض الكرام يخبر القوم بجميع الألوان ويتركهم يستوفون فإذا قاربوا الفراغ جثا على ركبتيه ومد يده إلى الطعام وأكل وقال
بسم الله ساعدوني بارك الله فيكم وعليكم وكان السلف يستحسنون ذلك منه
الْخَامِسُ أَنْ يُقَدِّمَ مِنَ الطَّعَامِ قَدْرَ الْكِفَايَةِ فَإِنَّ التَّقْلِيلَ عَنِ الْكِفَايَةِ نَقْصٌ فِي الْمُرُوءَةِ والزيادة عليه تصنع ومراءاة لا سيما إذا كانت نفسه لا تسمح بأن يأكلوا الكل إلا أن يقدم الكثير وهو طيب النفس لو أخذوا الجميع ونوى أن يتبرك بفضلة طعامهم إذ في الحديث لا يحاسب عليه
أحضر إبراهيم بن أدهم رحمه الله طعاماً كثيراً على مائدته فقال له سفيان يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا سرفاً فقال إبراهيم ليس في الطعام سرف
فإن لم تكن هذه النية فالتكثير تكلف
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُهِينَا أَنْ نُجِيبَ دَعْوَةَ مَنْ يُبَاهِي بِطَعَامِهِ وَكَرِهَ جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة
ومن ذلك كان لا يرفع من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلة طعام قط لأنهم كانوا لا يقدمون إلا قدر الحاجة ولا يأكلون تمام الشبع
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْزِلَ أَوَّلًا نَصِيبَ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى لَا تَكُونَ أَعْيُنُهُمْ طَامِحَةً إِلَى رُجُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَعَلَّهُ لَا يَرْجِعُ فَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ وتنطلق في الضيفان ألسنتهم ويكون قد أطعم الضيفان ما يتبعه كراهية قوم وذلك خيانة في حقهم
وما بقي من الأطعمة فليس للضيفان أخذه وهو الذي تسميه الصوفية الزلة إلا إذا صرح(2/17)
صاحب الطعام بالإذن فيه عن قلب راض أو علم ذلك بقرينة حاله وأنه يفرح به فإن كان يظن كراهيته
فلا ينبغي أن يؤخذ وإذا علم رضاه فينبغي مراعاة العدل والنصفة مع الرفقاء فلا ينبغي أن يأخذ الواحد إلا ما يخصه أو ما يرضى به رفيقه عن طوع لا عن حياء
فَأَمَّا الِانْصِرَافُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ آدَابٍ
الْأَوَّلُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الضَّيْفِ إِلَى بَابِ الدَّارِ وَهُوَ سنة وذلك من إكرام الضيف وقد أمر بإكرامه قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إن من سنة الضيف أن يشيع إلى باب الدار قال أبو قتادة قدم وفد النجاشي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه نحن نكفيك يا رسول الله فقال كلا إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم وَتَمَامُ الْإِكْرَامِ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَطَيِّبُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الدخول والخروج وعلى المائدة
قيل للأوزاعي رضي الله عنه ما كرامة الضيف قال طلاقة الوجه وطيب الحديث
وقال يزيد بن أبي زياد ما دخلت على عبد الرحمن بن أبي ليلى إلا حدثنا حديثا حسنا وأطعمنا طعاما حسناً
الثَّانِي أَنْ يَنْصَرِفَ الضَّيْفُ طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِنْ جَرَى فِي حَقِّهِ تَقْصِيرٌ فَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الخلق والتواضع قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ودعي بعض السلف برسول فلم يصادفه الرسول فلما سمع حضر وكانوا قد تفرقوا وفرغوا وخرجوا فخرج إليه صاحب المنزل وقال قد خرج القوم فقال هل بقي بقية قال لا قال فكسرة إن بقيت قال لم تبق قال فالقدر أمسحها قال قد غسلتها فانصرف يحمد الله تعالى فقيل له في ذلك فقال قد أحسن الرجل دعانا بنية وردنا بنية فهذا هو معنى التواضع وحسن الخلق
وحكى أن أستاذ أبى القاسم الجنيد دعاه صبي إلى دعوة أبيه أربع مرات فرده الأب في المرات الأربع وهو يرجع في كل مرة تطييبا لقلب الصبي بالحضور ولقلب الأب بالانصراف فهذه نفوس قد ذللت بالتواضع لله تعالى واطمأنت بالتوحيد وصارت تشاهد في كل رد وقبول عبرة فيما بينها وبين ربها فلا تنكسر بما يجري من العباد من الإذلال كما لا تستبشر بما يجري منهم من الإكرام بل يرون الكل من الواحد القهار
ولذلك قال بعضهم أنا لا أجيب الدعوة إلا لأني أتذكر بها طعام الجنة أي هو طعام طيب يحمل عنا كده ومؤنته وحسابه
الثالث أن لا يخرج إلا برضا صَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَإِذْنِهِ وَيُرَاعِيَ قَلْبَهُ فِي قَدْرِ الْإِقَامَةِ وَإِذَا نَزَلَ ضَيْفًا فَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَرُبَّمَا يَتَبَرَّمُ بِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى إخراجه قال صلى الله عليه وسلم الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فصدفة (1)
نَعَمْ لَوْ أَلَحَّ رَبُّ الْبَيْتِ عَلَيْهِ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ فَلَهُ الْمُقَامُ إِذْ ذَاكَ وَيُسْتَحَبُّ أن يكون عنده فراش للضيف النازل قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان (2)
فصل يجمع آدابا ومناهي طيبة وشرعية مُتَفَرِّقَةٌ
الْأَوَّلُ حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قال الأكل في السوق دناءة (3)
وأسنده إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإسناده قريب
وقد نقل ضده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال كنا نأكل عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فصدفة متفق عليه من حديث أبي شريح الخزاعي
(2) حديث فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان أخرجه مسلم من حديث جابر
(3) حديث الأكل في السوق دناءة أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة وهو ضعيف ورواه ابن عدي في الكامل من حديثه وحديث أبي هريرة(2/18)
ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام (1)
ورؤي بعض المشايخ من المتصوفة المعروفين يأكل في السوق فقيل له في ذلك فقال ويحك أجوع في السوق وآكل في البيت فقيل تدخل المسجد قال أستحي أن أدخل بيته للأكل فيه
ووجه الجمع أن الأكل في السوق تواضع وترك تكلف من بعض الناس فهو حسن وخرق مروءة من بعضهم فهو مكروه وهو مختلف بِعَادَاتِ الْبِلَادِ وَأَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فَمَنْ لَا يَلِيقُ ذلك بسائر أعماله حمل ذلك على قلة المروءة وفرط الشره ويقدح ذلك في الشهادة ومن يليق ذلك بجميع أحواله وأعمالهفي ترك التكلف كان ذلك منه تواضعاً
الثاني قال علي رضي الله عنه من ابتدأ غذاءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعاً من البلاء ومن أكل في يوم سبع تمرات عجوة قتلت كل دابة في بطنه ومن أكل كل يوم إحدى وعشرين زبيبة حمرا لم ير في جسده شيئاً يكرهه واللحم ينبت اللحم والثريد طعام العرب والبسقارجات تعظم البطن وترخي الأليتين ولحم البقر داء ولبنها شفاء وسمنها دواء والشحم يخرج مثله من الداء ولن تستشفي النفساء بشيء أفضل من الرطب والسمك يذيب الجسد وقراءة القرآن والسواك يذهبان البلغم ومن أراد البقاء ولا بقاء فليباكر بالغداء وليكرر العشاء وليلبس الحذاء ولن يتداوى الناس بشيء مثل السمن وليقل غشيان النساء وليخف الرداء وهو الدين
الثالث قال الحجاج لبعض الأطباء صف لي صفةً آخذ بها ولا أعدوها قال
لَا تَنْكِحْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا فَتَاةً وَلَا تَأْكُلْ مِنَ اللَّحْمِ إِلَّا فَتِيًّا وَلَا تَأْكُلِ الْمَطْبُوخَ حَتَّى يَتِمَّ نُضْجُهُ وَلَا تَشْرَبَنَّ دَوَاءً إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ وَلَا تَأْكُلْ مِنَ الْفَاكِهَةِ إِلَّا نَضِيجَهَا وَلَا تَأْكُلَنَّ طَعَامًا إِلَّا أَجَدْتَ مضغه وكل ما أحببت من الطعام ولا تشربن عليه فإذا شربت فلا تأكلن عليه شيئاً ولا تحبس الغائط والبول وَإِذَا أَكَلْتَ بِالنَّهَارِ فَنَمْ وَإِذَا أَكَلْتَ بِاللَّيْلِ فَامْشِ قَبْلَ أَنْ تَنَامَ وَلَوْ مِائَةَ خُطْوَةٍ
وفي معناه قول العرب تغد تمد تعش تمش يعني تمدد كما قال الله تعال ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتمطط
ويقال إن حبس البول يفسد الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سد مجراه
الرابع في الخبر قطع العروق مسقمة وترك العشاء مهرمة (2)
والعرب تقول ترك الغداء يذهب بشحم الكاذة يعني الآلية وقال بعض الحكماء لابنه يا بني لا تخرج من منزلك حتى تأخذ حلمك أي تتغذى إذ به يبقى الحلم ويزول الطيش وهو أيضاً أقل لشهوته لما يرى في السوق
وقال حكيم لسمين أرى عليك قطيفةً من نسج أضراسك فمم هي قال من أكل لباب البر وصغار المعز وأدهن بجام بنفسج وألبس الكتان
الخامس الحمية تضر بالصحيح كما يضر تركها بالمريض هكذا قيل
وقال بعضهم من احتمى فهو على يقين من المكروه وعلى شك من العوافي وهذا حسن في حال الصحة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيباً يأكل تمراً وإحدى عينيه رمداء فقال
أتأكل التمر وأنت رمد فقال يا رسول الله إنما آكل بالشق الآخر (3)
يعني جانب السليمة فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم
السادس أنه يستحب أن يحمل طعام إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَلَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بن أبي طالب قال صلى الله عليه وسلم إِنَّ آلَ جَعْفَرٍ شُغِلُوا بِمَيِّتِهِمْ عَنْ صُنْعِ طَعَامِهِمْ فَاحْمِلُوا إِلَيْهِمْ مَا يَأْكُلُونَ (4)
فَذَلِكَ سُنَّةٌ
وَإِذَا قُدِّمَ ذَلِكَ إِلَى الْجَمْعِ حَلَّ الْأَكْلُ منه ما يهيأ للنوائح والمعينات عليه بالبكاء والجزع
_________
(1) حديث ابن عمر كنا نأكل عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان
(2) حديث قطع العروق مسقمة وترك العشاء مهرمة أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث عبد الله بن جراد بالشطر الأول والترمذي من حديث أنس بالشطر الثاني وكلاهما ضعيف وروى ابن ماجه الشطر الثاني من حديث جابر
(3) حديث رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صهيباً يأكل تمراً وإحدى عينيه رمدة فقال له أتأكل التمر وأنت رمد فقال إنما أمضغ بالشق الآخر فضحك صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب بإسناد جيد
(4) حديث لما جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم إن آل جعفر شغلوا بميتهم عن طعامهم فاحملوا إليهم ما يأكلون أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن جعفر نحوه بسند حسن ولابن ماجه نحوه من حديث أسماء بنت عميس(2/19)
فلا ينبغي أن يؤكل معهم
السابع لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ طَعَامَ ظَالِمٍ فَإِنْ أكره فليقلل الأكل ولا يقصد الطعام الأطيب رد بعض المزكين شهادة من حضر طعام سلطان فقال كنت مكرهاً فقال رأيتك تقصد الأطيب وتكبر اللقمة وما كنت مكرهاً عليه وأجبر السلطان هذا المزكي على الأكل فقال إما أن آكل وأخلي التزكية أو أزكي ولا آكل فلم يجدوا بداً من تزكيته فتركوه
وحكي أن ذا النون المصري حبس ولم يأكل أياماً في السجن فكانت له أخت في الله فبعثت إليه طعاماً من مغزلها على يد السجان فامتنع فلم يأكل فعاتبته المرأة بعد ذلك فقال كان حلالا ولكن جاءني على طبق ظالم وأشار به إلى يد السجان وهذا غاية الورع
الثامن حكي عن فتح الموصلي رحمه الله أنه دخل على بشر الحافي زائراً فأخرج بشر درهماً فدفعه لأحمد الجلاء خادمه وقال اشتر به طعاماً جيداً وأدماً طيباً قال فاشتريت خبزاً نظيفاً وقلت لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه (1)
سوى اللبن فاشتريت اللبن واشتريت تمراً جيداً فقدمت إليه فأكل وأخذ الباقي
فقال بشر أتدرون لم قلت اشتر طعاما طيبا لأن الطعام الطيب يستخرج خالص الشكر أتدرون لم لم يقل لي كل لأنه ليس للضيف أن يقول لصاحب الدار كل أتدرون لم حمل ما بقي لأنه إذا صح التوكل لم يضر الحمل
وحكى أبو علي الروذباري رحمه الله تعالى أنه اتخذ ضيافة فأوقد فيها ألف سراج فقال له رجل قد أسرفت فقال له ادخل فكل ما أوقدته لغير الله فأطفئه فدخل الرجل فلم يقدر على إطفاء واحد منها فانقطع
واشترى أبو علي الروذباري أحمالاً من السكر وأمر الحلاويين حتى بنوا جداراً من السكر عليه شرف وَمحاريب على أعمدة منقوشة كلها من سكر ثم دعا الصوفية حتى هدموها وانتهبوها
التاسع قال الشافعي رضي الله عنه الأكل على أربعة أنحاء: الأكل بإصبع من المقت وبإصبعين من الكبر وبثلاث أصابع من السنة (2)
وبأربع وخمس من الشره وأربعة أشياء تقوي البدن: أكل اللحم وشم الطيب وكثرة الغسل من غير جماع ولبس الكتان
وأربعة توهن البدن: كثرة الجماع وكثرة الهم وكثرة شرب الماء على الريق وكثرة أكل الحموضة
وأربعة تقوي البصر: الجلوس تجاه القبلة والكحل عند النوم والنظر إلى الخضرة وتنظيف الملبس
وأربعة توهن البصر: النظر إلى القذر والنظر إلى المصلوب والنظر إلى فرج المرأة والقعود في استدبار القبلة
وأربعة تزيد في الجماع: أكل العصافير وأكل الإطريفل الأكبر وأكل الفستق وأكل الجرجير
والنوم على أربعة أنحاء
فنوم على القفا وهو نوم الأنبياء عليهم السلام يتفكرون في خلق السموات والأرض ونوم على اليمين وهو نوم العلماء والعباد ونوم على الشمال وهو نوم الملوك ليهضمهم طعامهم ونوم على الوجه وهو نوم الشياطين
وأربعة تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام والسواك ومجالسة الصالحين والعلماء
وأربعة هن من العبادة: لا يخطو خطوةً إلا على وضوء وكثرة السجود ولزوم المساجد وكثرة قراءة القرآن وقال أيضاً عجبت لمن يدخل الحمام على الريق ثم يؤخر الأكل بعد أن يخرج كيف لا يموت وعجبت لمن احتجم ثم يبادر الأكل كيف لا يموت وقال: لم أر شيئاانفع في الوباء من البنفسج يدهن به ويشرب
والله اعلم بالصواب
_________
(1) حديث اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه قاله عند شرب اللبن تقدم في آخر الباب الأول من آداب الأكل
(2) حديث الأكل بثلاث أصابع من السنة أخرجه مسلم من حديث كعب بن مالك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع وروى ابن الجوزي في العلل من حديث ابن عباس موقوفا كل بثلاث أصابع فإنه من السنة(2/20)
كتاب آداب النكاح وهو الكتاب الثاني من ربع العادات من كتاب إحياء
علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا تصادف سهام الأوهام في عجائب صنعه مجرى ولا ترجع العقول عن أوائل بدائعها إلا والهة حيرى ولا تزال لطائف نعمه على العالمين تترى فهي تتوالى عليهم اختياراً وقهراً
ومن بدائع ألطافه أن خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وسلط على الخلق شهوةً اضطرهم بها الحراثة جبرا واستبقى بهم نسلهم إقهاراً وقسراً
ثم عظم أمر الأنساب وجعل لها قدراً فحرم بسببها السفاح وبالغ في تقبيحه ردعاً وزجراً وجعل اقتحامه جريمةً فاحشةً وأمر إمراً وندب إلى النكاح وحث عليه استحباباً وأمراً فسبحان من كتب الموت على عباده فأذلهم به هدماً وكسراً ثم بث بذور النطف في أراضي الأرحام وأنشأ منها خلقاً وجعله لكسر الموت جبراً تنبيهاً على أن بحار المقادير فياضة على العالمين نفعاً وضراً وخيراً وشراً وعسراً ويسراً وطياً ونشراً والصلاة والسلام على محمد المبعوث بالإنذار والبشرى وعلى آله وأصحابه صلاةً لا يستطيع لها الحساب عداً ولا حصراً وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فإن النكاح معين على الدين ومهين للشياطين وحصن دون عدو الله حصين وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين فما أحراه بأن تتحرى أسبابه وتحفظ سننه وآدابه وتشرح مقاصده وآرابه وتفصل فصوله وأبوابه
والقدر المهم من أحكامه ينكشف في ثلاثة أبواب
الباب الأول في الترغيب فيه وعنه
الباب الثاني في الآداب المرعية في العقد والعاقدين
الباب الثالث في آداب المعاشرة بعد العقد إلى الفراق
الباب الأول في الترغيب في النكاح والترغيب عنه
اعلم أن العلماء قد اختلفوا في فضل النكاح فبالغ بعضهم فيه حتى زعم أنه أفضل من التخلي لعبادة الله واعترف آخرون بفضله ولكن قدموا عليه التخلي لعبادة الله مهما لم تتق النفس إلى النكاح توقاناً يشوش الحال ويدعو إلى الوقاع
وقال آخرون الأفضل تركه في زماننا هذا وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة
ولا ينكشف الحق فيه إلا بان نقدم أولاً ما ورد من الأخبار والآثار في الترغيب فيه والترغيب عنه ثم نشرح فوائد النكاح وغوائله حتى يتضح منها فضيلة النكاح وتركه في حق كل من سلم من غوائله أو لم يسلم منها الترغيب في النكاح
أما من الآيات فقد قال تعالى وانكحوا الأيامى منكم وَهَذَا أَمْرٌ وَقَالَ تَعَالَى فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ ينكحن أزواجهن وَهَذَا مَنْعٌ مِنَ الْعَضْلِ وَنَهْيٌ عَنْهُ
وَقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرُّسُلِ وَمَدْحِهِمْ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَإِظْهَارِ الْفَضْلِ
وَمَدَحَ أَوْلِيَاءَهُ بِسُؤَالِ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ فَقَالَ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذرياتنا قرة أعين الآية ويقال أن الله تعالى لم يذكر(2/21)
في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين فقالوا إن يحيى صلى الله عليه وسلم قد تزوج ولم يجامع قيل إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السنة وقيل لغض البصر وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَقَدْ رغب عني وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ أحب فطرتي فليستن بسنتي (1)
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط (2)
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم من رغب عن سنتي فليس مني وإن من سنتي النكاح فمن أحبني فليستن بسنتي (3)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا (4)
وهذا ذم لعلة الامتناع لا لأصل الترك وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ ذا طول فليتزوج (5)
وَقَالَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لا فليصم فإن الصوم له وجاء (6)
وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّرْغِيبِ فِيهِ خَوْفُ الْفَسَادِ فِي الْعَيْنِ وَالْفَرْجِ
وَالْوِجَاءُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رَضِّ الْخُصْيَتَيْنِ لِلْفَحْلِ حَتَّى تَزُولَ فُحُولَتُهُ فهو مستعار للضعف عن الوقاع في الصوم
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (7)
وَهَذَا أَيْضًا تَعْلِيلُ التَّرْغِيبِ لِخَوْفِ الْفَسَادِ
وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله (8)
وقال صلى الله عليه وسلم من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني (9)
وهذا أيضاً إشارةً إلى أن فضيلته لأجل التحرز من المخالفة تحصناً من الفساد فكأن المفسد لدين المرء في الأغلب فرجه وبطنه وقد كفى بالتزويج أحدهما
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ عَمَلِ ابن آدم ينقطع إلا ثلاث ولد صالح يَدْعُو لَهُ (10)
الْحَدِيثَ
وَلَا يُوصَلُ إِلَى هَذَا إلا بالنكاح
_________
(1) حديث النكاح سنتي فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي أخرجه أبو يعلى في مسنده مع تقديم وتأخير من حديث ابن عباس بسند حسن
(2) حديث تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط أخرجه أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر دون قوله حتى بالسقط وإسناده ضعيف وذكره بهذه الزيادة البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه بلغه
(3) حديث من رغب عن سنتي فليس مني وإن من سنتي النكاح فمن أحبني فليستن بسنتي متفق على أوله من حديث أنس من رغب عن سنتي فليس مني وباقيه تقدم قبله بحديث
(4) حديث من ترك التزويج خوف العيلة فليس منا رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف وللدارمي في مسنده والبغوي في معجمه وأبي داود في المراسيل من حديث أبي نجيح من قدر على أن ينكح فلم ينكح فليس منا وأبو نجيح اختلف في صحبته
(5) حديث من كان ذا طول فليتزوج أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة بسند ضعيف
(6) حديث من استطاع منكم الباءة فليتزوج الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود
(7) حديث إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كبير أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ونقل عن البخاري أنه لم يعده محفوظا وقال أبو داود إنه خطأ ورواه الترمذي أيضا من حديث أبي حاتم المزني وحسنه ورواه أبو داود في المراسيل وأعله ابن القطان بإرساله وضعف رواته
(8) حديث من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله عز وجل أخرجه أحمد بسند ضعيف من حديث معاذ بن أنس من أعطى لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل إيمانه
(9) حديث من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الآخر أخرجه ابن الجوزي في العلل من حديث أنس بسند ضعيف وهو عند الطبراني في الأوسط بلفظ فقد استكمل نصف الإيمان وفي المستدرك وصحح إسناده بلفظ من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينهالحديث
(10) حديث كل عمل ابن آدم ينقطع إلا ثلاثة فذكر فيه وولد صالح يدعو له أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بنحوه(2/22)
وأما الآثار فقال عمر رضي الله عنه لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور
فبين أن الدين غير مانع منه وحصر المانع في أمرين مذمومين
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لَا يَتِمُّ نُسُكُ النَّاسِكِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ
يَحْتَمِلُ أن جعله من النسك وتتمة له
ولكن الظاهر أنه أراد به أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ قَلْبُهُ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ إِلَّا بالتزويج ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب ولذلك كان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريبا وغيرهما وَيَقُولُ إِنْ أَرَدْتُمُ النِّكَاحَ أَنْكَحْتُكُمْ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذا زنى نزع الإيمان من قلبه
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزباً ومات امرأتان لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون وكان هو أيضاً مطعوناً فقال زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً
وهذا منهما يدل على أنهما رأيا في النكاح فضلاً لا من حيث التحرز عن غائلة الشهوة
وكان عمر رضي الله عنه يكثر النكاح ويقول ما أتزوج إلا لأجل الولد وكان بعض الصحابة قد انقطع إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخدمه ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تتزوج فقال يا رسول الله إني فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك فسكت
ثم عاد ثانياً فأعاد الجواب
ثم تفكر الصحابي وقال والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي وما يقربني إلى الله مني ولئن قال لي الثالثة لأفعلن
فقال له الثالثة ألا تتزوج قال فقلت يا رسول الله زوجني قال
اذهب إلى بني فلان فقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني فتاتكم قال فقلت يا رسول الله لا شيء لي فقال لأصحابه اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب فجمعوا له فذهبوا به إلى القوم فأنكحوه فقال له أولم وجمعوا له من الأصحاب شاة للوليمة (1)
وهذا التكرير يدل على فضل في نفس النكاح ويحتمل أنه توسم فيه الحاجة إلى النكاح
وحكى أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة فذكر لنبي زمانه حسن عبادته فقال نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة فاغتم العابد لما سمع ذلك فسأل النبي عن ذلك فقال أنت تارك للتزويج فقال لست أحرمه ولكني فقير وأنا عيال على الناس قال أنا أزوجك ابنتي فزوجه النبي عليه السلام ابنته
وقال بشر بن الحرث فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث بطلب الحلال لنفسه ولغيره وأنا أطلبه لنفسي فقط ولاتساعه في النكاح وضيقي عنه ولأنه نصب إماماً للعامة
ويقال إن أحمد رحمه الله تزوج في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله وقال أكره أن أبيت عزباً
وأما بشر فإنه لما قيل له
إن الناس يتكلمون فيك لتركك النكاح ويقولون هو تارك للسنة فقال قولوا لهم هو مشغول بالفرض عن السنة
وعوتب مرة أخرى فقال ما يمنعني من التزويج إلا قوله تعالى {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} فذكر ذلك لأحمد فقال وأين مثل بشر إنه قعد على مثل حد السنان
ومع ذلك فقد روي انه رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال رفعت منازلي في الجنة وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين
وفي رواية قال لي ما كنت أحب أن تلقاني عزباً قال فقلنا له ما فعل أبو نصر التمار فقال رفع فوقي بسبعين درجة قلنا بماذا فقد كنا نراك فوقه قال بصبره على بنياته والعيال
وقال سفيان بن عيينة كثرة النساء ليست من الدنيا لأن علياً رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية
فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة فقال لروعة منك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه قال فما الذي
_________
(1) حديث كان بعض الصحابة قد انقطع إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تتزوج الحديث أخرجه أحمد من حديث ربيعة الأسلمي في حديث طويل وهو صاحب القصة بإسناد حسن(2/23)
يمنعك من النكاح فقال مالي حاجة في إمرأة وما أريد أن أغر امرأة بنفسي
وقد قيل فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد
وركعة من متأهل افضل من سبعين ركعة من عزب
وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح فقد قال صلى الله عليه وسلم خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي عَلَى الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك (2)
وفي الخبر قلة العيال أحد اليسارين وكثرتهم أحد الفقرين (3)
وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال الصبر عنهن خير من الصبر عليهن والصبر عليهن خير من الصبر على النار
وقال أيضاً الوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل
وقال مرة ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى
وقال أيضاً ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا من طلب معاشاً أو تزوج امرأةً أو كتب الحديث
وقال الحسن رحمه الله إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال وقال ابن أبي الحواري تناظر جماعة في هذا الحديث فاستقر رأيهم على أنه ليس معناه أن لا يكونا له بل أن يكونا له ولا يشغلانه وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشئوم وبالجملة لم ينقل عن أحد الترغيب عن النكاح مطلقاً إلا مقروناً بشرط
وأما الترغيب في النكاح فقد ورد مطلقاً ومقروناً بشرط فلنكشف الغطاء عنه بحصر آفات النكاح وفوائده
آفات النكاح وفوائده وفيه فوائد خمسة الْوَلَدُ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَتَدْبِيرُ الْمَنْزِلِ
وَكَثْرَةُ الْعَشِيرَةِ ومجاهدة النفس بالقيام بهن
الفائدة الأولى الولد وهو الأصل وله وضع النكاح
والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس
وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل بالفحل في إخراج البذر وبالأنثى في التمكين من الحرث تلطفاً بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداءً من غير حراثة وازدواج ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها إظهاراً للقدرة وإتماماً لعجائب الصنعة وتحقيقاً لما سبقت به المشيئة وحقت به الكلمة وجرى به القلم
وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزباً
الأول موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان
والثاني طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكثير من مباهاته
والثالث طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده
والرابع طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله
أما الوجه الأول فهو أدق الوجوه وأبعدها عن إفهام الجماهير وهو أحقها وأقواها عند ذوي البصائر النافذة في عجائب صنع الله تعالى ومجاري حكمه
وبيانه أن السيد إذا سلم إلى عبده البذر وآلات الحرث وهيأ له أرضاً مهيأة للحراثة وكان العبد قادراً على الحراثة ووكل به من يتقاضاه عليها فإن تكاسل وعطل آلة الحرث وترك البذر ضائعا
_________
(1) حديث خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد أخرجه أبو يعلى من حديث حذيفة ورواه الخطابي في العزلة من حديثه وحديث أبي أمامة وكلاهما ضعيف
(2) حديث يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطبق فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك أخرجه الخطابي في العزلة من حديث ابن مسعود نحوه وللبيهقي في الزهد نحوه في حديث أبي هريرة وكلاهما ضعيف
(3) حديث قلة العيال أحد اليسارين وكثرتهم أحد الفقرين أخرجه القضاعي في مسند الشهاب من حديث علي وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن عمر وابن هلال المزني كلاهما بالشطر الأول بسندين ضعيفين(2/24)
حتى فسد ودفع الموكل عن نفسه بنوع من الحيلة كان مستحقاً للمقت والعتاب من سيده
والله تعالى خلق الزوجين وخلق الذكر والأنثيين وخلق النطفة في الفقار وهيأ لها في الأنثيين عروقاً ومجاري وخلق الرحم قراراً ومستودعاً للنطفة وسلط متقاضى الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقها وتنادى أرباب الألباب بتعريف ما أعدت له
هذا إن لم يصرح به الخالق تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالمراد حيث قال تناكحوا تناسلوا فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر فكل ممتنع عن النكاح معرض عن الحراثة مضيع للبذر معطل لما خلق الله من الآلات المعدة وجان على مقصود الفطرة والحكمة المفهومة من شواهد الخلقة المكتوبة على هذه الأعضاء بخط إلهي ليس برقم حروف وأصوات يقرؤه كل من له بصيرة ربانية نافذة في إدراك دقائق الحكمة الأزلية ولذلك عظم الشرع الأمر في القتل للأولاد وفي الوأد لأنه منع لتمام الوجود وإليه أشار من قال العزل أحد الوأدين فالناكح ساع في إتمام ما أحب الله تعالى تمامه والمعرض معطل ومضيع لما كره الله ضياعه ولأجل محبة الله تعالى لبقاء النفوس أمر بالإطعام وحث عليه وعبر عنه بعبادة القرض فقال من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فإن قلت قولك إن بقاء النسل والنفس محبوب يوهم أن فناءها مكروه عند الله وهو فرق بين الموت والحياة بالإضافة إلى إرادة الله تعالى ومعلوم أن الكل بمشيئة الله وأن الله غني عن العالمين فمن أين يتميز عنده موتهم عن حياتهم أو بقاؤهم عن فنائهم فأعلم أن هذه الكلمة حق أريد بها باطل فإن ما ذكرناه لا ينافي إضافة الكائنات كلها إلى إرادة الله خيرها وشرها ونفعها وضرها ولكن المحبة والكراهية يتضادان وكلاهما لا يضادان الإرادة فرب مراد مكروه ورب مراد محبوب فالمعاصي مكروهة وهي مع الكراهة مرادة والطاعات مرادة ومزمع كونها مرادة محبوبة ومرضية أما الكفر والشر فلا نقول إنه مرضي ومحبوب بل هو مراد
وقد قال الله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر فكيف يكون الفناء بالإضافة إلى محبة الله وكراهته كالبقاء فإنه تعالى يقول ما ترددت في شيء كترددي في قبض روح عبدي المسلم هو يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من الموت (1)
فقوله لا بد له من الموت إشارة إلى سبق الإرادة والتقدير المذكور في قوله تعالى نحن قدرنا بينكم الموت وفي قوله تعالى الذي خلق الموت والحياة ولا مناقضة بين قوله تعالى نحن قدرنا بينكم الموت وبين قوله وأنا أكره مساءته ولكن إيضاح الحق في هذا يستدعي تحقيق معنى الإرادة والمحبة والكراهة وبيان حقائقها فإن السابق إلى الإفهام منها أمور تناسب إرادة الخلق ومحبتهم وكراهتهم وهيهات فبين صفات الله تعالى وصفات الخلق من البعد ما بين ذاته العزيز وذاتهم وكما أن ذوات الخلق جوهر وعرض وذات الله مقدس عنه ولا يناسب ما ليس بجوهر وعرض الجوهر والعرض فكذا صفاته لا تناسب صفات الخلق وهذه الحقائق داخلة في علم المكاشفة ووراء سر القدر الذي منع من إفشائه فلنقصر عن ذكره ولنقتصر على ما نبهنا عليه من الفرق بين الإقدام على النكاح والإحجام عنه فإن أحدهما مضيع نسلاً أدام الله وجوده من آدم صلى الله عليه وسلم عقباً بعد عقب إلى أن انتهى إليه فالممتنع عن النكاح قد حسم الوجود المستدام من لدن وجود آدم عليه السلام على نفسه فمات أبتر لا عقب له ولو كان الباعث على النكاح مجرد دفع الشهوة لما قال معاذ في الطاعون زوجوني لا ألقى الله عزباً فإن قلت فما كان معاذ يتوقع ولداً في ذلك الوقت فما وجه رغبته فيه فأقول الولد يحصل بالوقاع
_________
(1) حديث أنه تعالى يقول ما ترددت في شيء كترددي في قبض روح عبدي المسلم يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد منه أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة انفرد به مخلد القطواني وهو متكلم فيه(2/25)
بباعث الشهوة وذلك أمر لا يدخل في الاختيار وإنما المعلق باختيار العبد إحضار المحرك للشهوة وذلك متوقع في كل حال فمن عقد فقد أدى ما عليه وفعل ما إليه والباقي خارج عن اختياره ولذلك يستحب النكاح للعنين أيضاً فإن نهضات الشهوة خفية لا يطلع عليها حتى إن الممسوح الذي لا يتوقع له ولد لا ينقطع الاستحباب أيضاً في حقه على الوجه الذي يستحب للأصلع إمرار الموسى على رأسه إقتداءً بغيره وتشبهاً بالسلف الصالحين وكما يستحب الرمل والاضطباع في الحج الآن وقد كان المراد منه أولاً إظهار الجلد للكفار
فصار الاقتداء والتشبه بالذين أظهروا الجلد سنة في حق من بعدهم ويضعف هذا الاستحباب بالإضافة إلى الاستحباب في حق القادر على الحرث وربما يزداد ضعفاً بما يقابله من كراهة تعطيل المرأة وتضييعها فيما يرجع إلى قضاء الوطر فإن ذلك لا يخلو عن نوع من الخطر فهذا المعنى هو الذي ينبه على شدة إنكارهم لترك النكاح مع فتور الشهوة
الوجه الثاني السعي في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه بتكثير ما به مباهاته إذ قد صرح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ويدل على مراعاة أمر الولد جملة بالوجوه كلها ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينكح كثيراً ويقول إنما أنكح للولد
وما روي من الأخبار في مذمة المرأة العقيم إذ قال عليه السلام لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد (1)
وقال خير نسائكم الولود الودود (2)
وقال سوداء ولود خير من حسناء لا تلد (3)
وهذا يدل على أن طلب الولد أدخل في اقتضاء فضل النكاح من طلب دفع غائلة الشهوة لأن الحسناء أصلح للتحصين وغض البصر وقطع الشهوة
الوجه الثالث أن يبقى بعده ولدا صالحاً يدعو له كما ورد في الخبر أن جميع عمل إبن آدم منقطع إلا ثلاثاً فذكر الولد الصالح
وفي الخبر إن الأدعية تعرض على الموتى على أطباق من نور (4)
وقول القائل إن الولد ربما لم يكن صالحاً لا يؤثر فإنه مؤمن والصلاح هو الغالب على أولاد ذوي الدين لا سيما إذا عزم على تربيته وحمله على الصلاح وبالجملة دعاء المؤمن لأبويه مفيد براً كان أو فاجراً فهو مثاب على دعواته وحسناته فإنه من كسبه وغير مؤاخذ بسيئاته فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى ولذلك قال تعالى ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء أي ما نقصناهم من أعمالهم وجعلنا أولادهم مزيداً في إحسانهم
الوجه الرابع أن يموت الولد قبله فيكون له شفيعاً فقد روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال إن الطفل يجر بأبويه إلى الجنة (5)
وفي بعض الأخبار يأخذ بثوبه كما أنا الآن آخذ بثوبك (6)
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم إن المولود يقال ادخل الجنة فيقف على باب الجنة فيظل محبنطئا أي ممتلئاً غيظا وغضباً ويقول لا أدخل الجنة إلا وأبواي معي فيقال أدخلوا أبويه معه الجنة (7)
وفي خبر آخر إن الأطفال
_________
(1) حديث لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد أخرجه أبو عمر النوقاني في كتاب معاشرة الأهلين موقوفا على عمر بن الخطاب ولم أجده مرفوعا
(2) حديث خير نسائكم الولود الودود أخرجه البيهقي من حديث ابن أبي أدية الصدفي وقال البيهقي وروي بإسناد صحيح عن سعيد بن يسار مرسلا
(3) حديث سوداء ولود خير من حسناء لا تلد أخرجه ابن حبان في الضعفاء من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولا يصح
(4) حديث إن الأدعية تعرض على الموتى على أطباق من نور رويناه في الأربعين المشهورة من رواية أبي هدية عن أنس في الصدقة عن الميت وأبو هدية كذاب
(5) حديث إن الطفل يجر أبويه إلى الجنة أخرجه ابن ماجه من حديث علي وقال السقط {بدل} الطفل وله من حديث معاذ إن الطفل ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا هي احتسبته وكلاهما ضعيف
(6) حديث إنه يأخذ بثوبه كما أنا الآن آخذ بثوبك أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(7) حديث إن المولود يقال له ادخل الجنة فيقف على باب الجنة فيظل محبنطئا أي ممتلئاً غيظا وغضباً ويقول لا أدخل إلا وأبواي معي الحديث أخرجه ابن حبان في الضعفاء من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولا يصح وللنسائي من حديث أبي هريرة يقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون حتى يدخل آباؤنا فيقال ادخلوا الجنة انتم وآباؤكم وإسناده جيد(2/26)
يجتمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة اذهبوا بهؤلاء إلى الجنة فيقفون على باب الجنة فيقال لهم مرحباً بذراري المسلمين ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون فأين آباؤنا وأمهاتنا فيقول الخزنة إن آباءكم وأمهاتكم ليسوا مثلكم إنه كانت لهم ذنوب وسيئات فهم يحاسبون عليها ويطالبون
قال فيتضاغون ويضجون على أبواب الجنة ضجةً واحدةً فيقول الله سبحانه وهو أعلم بهم ما هذه الضجة فيقولون ربنا أطفال المسلمين قالوا لا ندخل الجنة إلا مع آبائنا فيقول الله تعالى تخللوا الجمع فخذوا بأيدي آبائهم فأدخلوهم الجنة (1)
وقال صلى الله عليه وسلم من مات له اثنان من الولد فقد احتظر بحظار من النار (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم قيل يا رسول الله واثنان قال واثنان (3)
وحكي أن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج فيأبى برهةً من دهره قال فانتبه من نومه ذات يوم وقال زوجوني زوجوني فزوجوه فسئل عن ذلك فقال لعل الله يرزقني ولداً ويقبضه فيكون لي مقدمةً في الآخرة ثم قال رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وكأني في جملة الخلائق في الموقف وبي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي وكذا الخلائق في شدة العطش والكرب فنحن كذلك إذ ولدان يتخللون الجمع عليهم مناديل من نور وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب وهم يسقون الواحد بعد الواحد يتخللون الجمع ويتجاوزون أكثر الناس فمددت يدي إلى أحدهم وقلت اسقني فقد أجهدني العطش فقال ليس لك فينا ولد إنما نسقي آباءنا فقلت ومن أنتم فقالوا نحن من مات من أطفال المسلمين
وأحد المعاني المذكورة في قوله تعالى {فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم} تقديم الأطفال إلى الآخرة فقد ظهر بهذه الوجوه الأربعة أن أكثر فضل النكاح لأجل كونه سبباً للولد
الفائدة الثانية التحصن من الشيطان وكسر التوقان ودفع غوائل الشهوة وغض البصر وحفظ الفرج وإليه الإشارة بقوله عليه السلام من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر وإليه الإشارة بقوله عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء وأكثر ما نقلناه من الآثار والأخبار إشارةً إلى هذا المعنى وهذا المعنى دون الأول لأن الشهوة موكلة بتقاضي تحصيل الولد فالنكاح كاف لشغله دافع لجعله وصارف لشر سطوته وليس من يجيب مولاه رغبةً في تحصيل رضاه كمن يجيب لطلب الخلاص عن غائلة التوكيل فالشهوة والولد مقدران وبينهما ارتباط وليس يجوز أن يقال المقصود اللذة والولد لازم منها كما يلزم مثلاً قضاء الحاجة منالأكل وليس مقصوداً في ذاته بل الولد هو المقصود بالفطرة والحكمة والشهوة باعثة عليه ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق إلى الإيلاد وهو ما في قضائها من اللذة التي لا توازيها لذة لو دامت فهي منبهه على اللذات الموعودة في الجنان إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقاً لا ينفع فلو رغب العنين في لذة الجماع أو الصبي في لذة
_________
(1) حديث إن الأطفال يجتمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة اذهبوا بهؤلاء إلى الجنة فيقفون على باب الجنة فيقال لهم مرحباً بذراري المسلمين ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون أين آباؤنا وأمهاتنا الحديث بطوله لم أجد له أصلا يعتمد عليه
(2) حديث من مات له اثنان من الولد احتظر بحظار من النار أخرجه البزار والطبراني من حديث زهير بن أبي علقمة جاءت امرأة من الأنصار إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يا رسول الله إنه مات لي ابنان سوى هذا فقال لقد احتظرت من دون النار بحظار شديد ولمسلم من حديث أبي هريرة في المرأة التي قالت دفنت ثلاثة لقد احتظرت بحظار شديد من النار
(3) حديث من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم قيل يا رسول الله واثنان قال واثنان أخرجه البخاري من حديث أنس دون ذكر الاثنين وهو عند أحمد بهذه الزيادة من حديث معاذ وهو متفق عليه من حديث أبي سعيد بلفظ أيما امرأة بنحو منه(2/27)
الملك والسلطنة لم ينفع الترغيب وإحدى فوائد لذات الدنيا الرغبة في دوامها في الجنة ليكون باعثاً على عبادة الله
فانظر إلى الحكمة ثم إلى الرحمة ثم إلى التعبية الإلهية كيف عبيت تحت شهوة واحدة حياتان حياةً ظاهرةً وحياةً باطنةً فالحياة الظاهرة حياة المرء ببقاء نسله فإنه نوع من دوام الوجود والحياة الباطنة هي الحياة الأخروية فإن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام فيستحث على العبادة الموصلة إليها فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة على ما يوصله إلى نعيم الجنان وما من ذرة من ذرات بدن الإنسان باطناً وظاهراً بل ذرات ملكوت السموات والأرض إلا وتحتها من لطائف الحكمة وعجائبها ما تحار العقول فيها ولكن إنما ينكشف للقلوب الطاهرة بقدر صفائها بقدر رغبتها عن زهرة الدنيا وغرورها وغوائلها فالنكاح بسبب دفع غائلة الشهوة مهم في الدين لكل من لا يؤتى عن عجز وعنة وهم غالب الخلق فإن الشهوة إذا غلبت ولم يقاومها قوة التقوى جرت إلى اقتحام الفواحش وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كبير} وإن كان ملجماً بلجام التقوى فغايته أن يكف الجوارح عن إجابة الشهوة فيغض البصر ويحفظ الفرج فأما حفظ القلب عن الوسواس والفكر فلا يدخل تحت اختياره بل لا تزال النفس تجاذبه وتحدثه بأمور الوقاع ولا يفتر عنه الشيطان الموسوس إليه في أكثر الأوقات وقد يعرض له ذلك في أثناء الصلاة حتى يجري على خاطره من أمور الوقاع ما لو صرح به بين يدي أخس الخلق لاستحى منه والله مطلع على قلبه والقلب في حق الله كاللسان في حق الخلق ورأس الأمور للمريد في سلوك طريق الآخرة قلبه والمواظبة على الصوم لا تقطع مادة الوسوسة في حق أكثر الخلق إلا أن ينضاف إليه ضعف في البدن وفساد في المزاج ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما لا يتم نسك الناسك إلا بالنكاح
وهذه محنة عامة قل من يتخلص منها
قال قتادة في معنى قوله تعالى {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} هو الغلمة
وعن عكرمة ومجاهد أنهما قالا في معنى قوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفا} أنه لا يصبر عن النساء وقال فياض بن نجيح
إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله
وبعضهم يقول ذهب ثلث دينه
وفي نوادر التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما {ومن شر غاسق إذا وقب} قال قيام الذكر وهذه يلية غالبة إذا هاجت لا يقاومها عقل ولا دين وهي مع أنها صالحة لأن تكون باعثة على الحياتين كما سبق فهي أقوى آلة الشيطان على بني آدم وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب منكن (1)
وإنما ذلك لهيجان الشهوة وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وشر مني (2)
وقال أسألك أن تطهر قلبي وتحفظ فرجي (3)
فما يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجوز التساهل فيه لغيره وكان بعض الصالحين يكثر النكاح حتى لا يكاد يخلو من اثنتين وثلاث فأنكر عليه بعض الصوفية فقال هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي الله تعالى جلسة أو وقف بين يديه موقفاً في معاملة فخطر على قلبه خاطر شهوة فقالوا يصيبنا من ذلك كثير فقال لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد لما تزوجت لكني ما خطر على قلبي خاطر يشغلني عن حالي إلا نفذته فأستريح وأرجع إلى شغلي ومنذ أربعين سنة ما خطر على قلبي معصية
وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له
_________
(1) حديث ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب منكن أخرجه مسلم من حديث ابن عمر واتفقا عليه من حديث أبي سعيد ولم يسق مسلم لفظه
(2) حديث اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وشر مني تقدم في الدعوات
(3) حديث أسألك أن تطهر قلبي وتحفظ فرجي أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث أم سلمة بإسناد فيه لين(2/28)
بعض ذوي الدين ما الذي تنكر منهم قال يأكلون كثيراً
قال وأنت أيضا لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون قال ينكحون كثيراً
قال وأنت أيضاً لو حفظت عينيك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون
وكان الجنيد يقول أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت فالزوجة على التحقيق قوت وسبب لطهارة القلب ولذلك أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل من وقع نظره على امرأة فتاقت إليها نفسه أن يجامع أهله (1)
لأن ذلك يدفع الوسواس عن النفس
وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إمرأة فدخل على زينب فقضى حاجته وخرج
وقال صلى الله عليه وسلم إن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأت أهله معها مثل الذي معها (2)
وقال عليه السلام لا تدخلوا على المغيبات وهي التي غاب زوجها عنها فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك قال ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم (3)
قال سفيان بن عيينة فأسلم معناه فأسلم أنا منه هذا معناه فإن الشيطان لا يسلم وكذلك حكى على ابن عمر رضي الله عنهما وكان من زهاد الصحابة وعلمائهم أنه كان يفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل وربما أنه جامع ثلاثاً من جواريه في شهر رمضان قبل العشاء الأخير
وقال ابن عباس خير هذه الأمة أكثرها نساءً (4)
ولما كانت الشهوة أغلب على مزاج العرب كان استكثار الصالحين منهم لنكاح أشد ولأجل فراغ القلب أبيح نكاح الأمة عند خوف العنت مع أن فيه إرقاق الولد وهو نوع إهلاك وهو محرم على كل من قدر على حرة ولكن إرقاق الولد أهون من إهلاك الدين وليس فيه إلا تنغيص الحياة على الولد مدة وفي اقتحام الفاحشة تفويت الحياة الأخروية التي تستحقر الأعمار الطويلة بالإضافة إلى يوم من أيامها
وروي أنه انصرف الناس ذات يوم من مجلس ابن عباس وبقي شاب لم يبرح فقال له ابن عباس هل لك من حاجة قال نعم أردت أن اسأل مسألة فاستحييت من الناس وأنا الآن أهابك وأجلك فقال ابن عباس إن العالم بمنزلة الوالد فما كنت أفضيت به إلى أبيك فأفض إلي به فقال إني شاب لا زوجة لي وربما خشيت العنت على نفسي فربما استمنيت بيدي فهل في ذلك معصية فأعرض عنه ابن عباس ثم قال أف وتف نكاح الأمة خير منه وهو خير من الزنا فهذا تنبيه على أن العزب المغتلم مردد بين ثلاثة شرور أدناها نكاح الأمة وفيه إرقاق الولد وأشد منه الاستمناء باليد وأفحشه الزنا ولم يطلق ابن عباس الإباحة في شيء منه لأنهما محذوران يفزع إليهما حذراً من الوقوع في محذور أشد منه كما يفزع إلى تناول الميتة حذراً من هلاك النفس فليس ترجيح أهون الشرين في معنى الإباحة المطلقة ولا في معنى الخير المطلق وليس قطع اليد المتآكلة من الخيرات وإن كان يؤذن فيه عند إشراف النفس على الهلاك فإذاً في النكاح فضل من هذا الوجه ولكن هذا لا يعم الكل بل الأكثر فرب شخص فترت شهوته لكبر سن أو مرض أو غيره فينعدم هذا الباعث في حقه ويبقى ما سبق من أمر الولد
فإن ذلك عام إلا للممسوح
_________
(1) حديث أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل من وقع بصره على امرأة فتاقت نفسه إليها أن يجامع أهله أخرجه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري حين مرت به امرأة فوقع في قلبه شهوة النساء فدخل فأتى بعض أزواجه وقال فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أفعالكم إتيان الحلال وإسناده جيد
(2) حديث جابر رأى إمرأة فدخل على زينب فقضى حاجته الحديث رواه مسلم والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح
(3) حديث لا تدخلوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم الحديث أخرجه الترمذي من حديث جابر وقال غريب ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر ولا يدخل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان
(4) حديث ابن عباس خير هذه الأمة أكثرها نساء يعني النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري(2/29)
وهو نادر ومن الطباع ما تغلب عليها الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة فيستحب لصاحبها الزيادة على الواحدة إلى الأربع فإن يسر الله له مودة ورحمة واطمأن قلبه بهن وإلا فيستحب له الاستبدال فقد نكح علي رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة عليها السلام بسبع ليال ويقال إن الحسن بن علي كان منكاحاً حتى نكح زيادة على مائتي امرأة وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد وربما طلق أربعاً في وقت واحد واستبدل بهن وقد قال صلى الله عليه وسلم للحسن أشبهت خلقي وخلقي (1)
وقال صلى الله عليه وسلم حسن مني وحسين من علي (2)
فقال إن كثرة نكاحه أحد ما أشبه به خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة وكان في الصحابة من له الثلاث والأربع ومن كان له اثنتان لا يحصى ومهما كان الباعث معلوماً فينبغي أن يكون العلاج بقدر العلة فالمراد تسكين النفس فلينظر إليه في الكثرة والقلة
الفائدة الثالثة ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة إراحة للقلب وتقوية له على العبادة فإن النفس ملول وهي عن الحق نفور لأنه على خلاف طبعها فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات ولذلك قال الله تعالى {ليسكن إليها} وقال علي رضي الله عنه روحوا القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت
وفي الخبر على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها مطعمه ومشربه فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات (3)
ومثله بلفظ آخر لا يكون العاقل ظاعناً إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم (4)
وقال صلى الله عليه وسلم لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى (5)
والشرة الجد والمكابدة بحدة وقوة وذلك في ابتداء الإرادة والفترة الوقوف للإستراحة وكان أبو الدرداء يقول إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو لأتقوى بذلك فيما بعد على الحق
وفي بعض الأخبار عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال شكوت إلى جبريل عليه السلام ضعفي عن الوقاع فدلني على الهريسة حديث شكوت إلى جبريل ضعفي عن الوقاع فدلني على الهريسة أخرجه ابن عدي من حديث حذيفة وابن عباس والعقيلي من حديث معاذ وجابر بن سمرة وابن حبان في الضعفاء من حديث حذيفة والأزدي في الضعفاء من حديث أبي هريرة بطرق كلها ضعيفة قال ابن عدي موضوع وقال العقيلي باطل (6) حديث حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة رواه النسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد جيد وضعفه العقيلي //
فهذه أيضاً فائدة لا ينكرها من جرب إتعاب نفسه في الأفكار والأذكار وصنوف الأعمال وهي خارجة عن
_________
(1) حديث أنه قال للحسن بن علي أشبهت خلقي وخلقي قلت المعروف أنه قال هذا اللفظ لجعفر بن أبي طالب كما هو متفق عليه من حديث البراء ولكن الحسن أيضا كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كما هو متفق عليه من حديث أبي جحيفة والترمذي وصححه وابن حبان من حديث أنس لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسن
(2) حديث حسن مني وحسين من علي رواه أحمد من حديث المقداد بن معد يكرب بسند جيد
(3) حديث على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بمطعمه ومشربه رواه ابن حبان من حديث أبي ذر في حديث طويل أن ذلك في صحف إبراهيم
(4) حديث لا يكون العاقل ظاعناً إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم رواه ابن حبان من حديث أبي ذر الطويل أن ذلك في صحف إبراهيم
(5) حديث لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى رواه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وللترمذي نحو من هذا من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح
(6) هذا إن صح لا محمل له إلا الاستعداد للاستراحة ولا يمكن تعليله بدفع الشهوة فإنه استثارة للشهوة ومن عدم الشهوة عدم الأكثر من هذا الأنس
وقال صلى الله عليه وسلم حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة(2/30)
الفائدتين السابقتين حتى إنها تطرد في حق الممسوح ومن لا شهوة له إلا أن هذه الفائدة تجعل للنكاح فضيلة بالإضافة إلى هذه النية وقل من يقصد بالنكاح ذلك
وأما قصد الولد وقصد دفع الشهوة وأمثالها فهو مما يكثر ثم رب شخص يستأنس بالنظر إلى الماء الجاري والخضرة وأمثالها ولا يحتاج إلى ترويح النفس بمحادثة النساء وملاعبتهن
فيختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص فليتنبه له
الفائدة الرابعة تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكفل بشغل الطبخ والكنس والفرش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته ولم يتفرغ للعلم والعمل فالمرأة الصالحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله الزوجة الصالحة ليست من الدنيا فإنها تفرغك للآخرة وإنما تفريغها بتدبير المنزل وبقضاء الشهوة جميعاً
وقال محمد بن كعب القرظي في معنى قوله تعالى ربنا آتنا في الدنيا حسنة قال المرأة الصالحة
وقال صلى الله عليه وسلم ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة صالحة تعينه على آخرته (1)
فانظر كيف جمع بينها وبين الذكر والشكر
وفي بعض التفاسير في قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة قال الزوجة الصالحة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول ما أعطى العبد بعد الإيمان بالله خيراً من امرأة صالحة وإن منهن غنماً لا يحذى منه ومنهن غلالا يفدى منه
وقوله لا يحذى أن يعتاض عنه بعطاء
وقال صلى الله عليه وسلم فضلت على آدم بخصلتين كانت زوجته عوناً له على المعصية وأزواجي أعوان لي على الطاعة وكان شيطانه كافراً وشيطاني مسلم لا يأمر إلا بخير (2)
فعد معاونتها على الطاعة فضيلة فهذه أيضاً من الفوائد التي يقصدها الصالحون إلا أنها تخص بعض الأشخاص الذين لا كافل لهم ولا مدبر ولا تدعو إلى امرأتين بل الجمع ربما ينغص المعيشة ويضطرب به أمور المنزل ويدخل في هذه الفائدة قصد الاستكثار بعشيرتها وما يحصل من القوة بسبب تداخل العشائر فإن ذلك مما يحتاج إليه في دفع الشرور وطلب السلامة ولذلك قيل ذل من لا ناصر له ومن وجد من يدفع عنه الشرور سلم حاله وفرغ قلبه للعبادة فإن الذل مشوش للقلب والعز بالكثرة دافع بالذل
الفائدة الخامسة مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل والصبر على أخلاقهن واحتمال الأذى منهن والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن والقيام بتربيته لأولاده فكل هذه أعمال عظيمة الفضل فإنها رعاية وولاية والأهل والولد رعية وفضل الرعاية عظيم إنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم يوم من وال عادل أفضل من عبادة سبعين سنة {ثم قال} ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (3)
وليس من اشتغل
_________
(1) حديث ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على آخرته أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة واللفظ له من حديث وفيه انقطاع
(2) حديث فضلت على آدم صلى الله عليه وسلم بخصلتين كانت زوجته عوناً له على المعصية وأزواجي أعوان لي على الطاعة وكان شيطانه كافراً وشيطاني مسلم لا يأمر إلا بخير رواه الخطيب في التاريخ من حديث ابن عمر وفيه محمد بن وليد بن أبان بن القلانسي قال ابن عدي كان يضع الحديث ولمسلم من حديث ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ولا يأمرني إلا بخير
(3) حديث يوم وال عادل أفضل من عبادة سبعين سنة {ثم قال} ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته رواه الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وقد تقدم بلفظ ستين سنة دون ما بعده فإنه متفق عليه من حديث ابن عمر(2/31)
بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط ولا من صبر على الأذى كمن رفه نفسه وأراحها فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله ولذلك قال بشر فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث إحداها أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره وقد قال صلى الله عليه وسلم ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة وإن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلي في امرأته (1)
وقال بعضهم لبعض العلماء من كل عمل أعطاني الله نصيباً حتى ذكر الحج والجهاد وغيرهما فقال له أين أنت من عمل الأبدان قال وما هو قال كسب الحلال والنفقة على العيال
وقال ابن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو تعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه قالوا ما نعلم ذلك
قال أنا أعلم قالوا فما هو قال رجل متعفف ذو عائلة قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه فعمله أفضل مما نحن فيه
وقال صلى الله عليه وسلم من حسنت صلاته وكثر عياله وقل ماله ولم يغتب المسلمين كان معي في الجنة كهاتين (2)
وفي حديث آخر إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال (3)
وفي الحديث إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بهم العيال ليكفرها عنه (4)
وقال بعض السلف
من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال وفيه أثر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة (5)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ له ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يغنيهن الله عنه أوجب الله له الجنة ألبتة ألبتة إلا أن يعمل عملاً لا يغفر له (6)
وكان ابن عباس إذا حدث بهذا قال
والله هو من غرائب الحديث وغرره
وروي أن بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته إلى أن ماتت
فعرض عليه التزويج فامتنع وقال الوحدة أروح لقلبي وأجمع لهمي ثم قال رأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها كأن أبواب السماء فتحت وكأن رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضاً فكلما نزل واحد نظر إلي وقال لمن وراءه هذا هو المشئوم فيقول الآخر نعم ويقول الثالث كذلك ويقول الرابع نعم فخفت أن أسألهم هيبة من ذلك إلى أن مر بي آخرهم وكان غلاماً فقلت له يا هذا من هذا المشئوم الذي تؤمئون إليه فقال أنت
فقلت ولم ذاك قال كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله فمنذ جمعة أمرنا أن نضع عملك مع الخالفين فما ندري ما أحدثت فقال لإخوانه زوجوني زوجوني فلم يكن تفارقه زوجتان أو ثلاث
وفي أخبار الأنبياء عليهم السلام أن قوماً دخلوا على يونس النبي عليه السلام فأضافهم فكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه وهو ساكت فتعجبوا من ذلك فقال لا تعجبوا فإني سألت الله تعالى وقلت ما أنت معاقب لي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال إن عقوبتك بنت فلان تتزوج بها فتزوجت بها وأنا صابر على ما ترون منها وفي الصبر على ذلك رياضة النفس وكسر الغضب
_________
(1) حديث ما أنفق الرجل على أهله فهو صدقة وإن الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى في امرأته متفق عليه من حديث ابن مسعود إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة ولهما من حديث سعد بن أبي وقاص ومهما أنفقت فهو لك صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في امراتك
(2) حديث من حسنت صلاته وكثر عياله وقل ماله ولم يغتب المسلمين كان معي في الجنة كهاتين أخرجه أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري بسند ضعيف
(3) حديث إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال أخرجه ابن ماجه من حديث عمران بن حصين بسند ضعيف
(4) حديث إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بهم العيال ليكفرها رواه أحمد عن حديث عائشة إلا أنه قال بالحزن وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه
(5) حديث من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والخطيب في التلخيص المتشابه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف
(6) حديث من كان له ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يغنيهن الله عنه أوجب الله له الجنة ألبتة إلا أن يعمل عملاً لا يغفر له رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن عباس بسند ضعيف وهو عنده بلفظ آخر ولأبي داود واللفظ له والترمذي من حديث أبي سعيد من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة ورجاله ثقات وفي سنده اختلاف(2/32)
وتحسين الخلق فإن المنفرد بنفسه أو المشارك لمن حسن خلقه لا تترشح منه خبائث النفس الباطنة ولا تنكشف بواطن عيوبه فحق على سالك الطريق الآخرة أن يجرب نفسه بالتعرض لأمثال هذه المحركات واعتياد الصبر عليها لتعتدل أخلاقه وترتاض نفسه ويصفو عن الصفات الذميمة باطنه والصبر على العيال مع أنه رياضة ومجاهدة تكفل لهم وقيام بهم وعبادة في نفسها فهذه أيضاً من الفوائد ولكنه لا ينتفع بها إلا أحد رجلين إما رجل قصد المجاهدة والرياضة وتهذيب الأخلاق لكونه في بداية الطريق فلا يبعد أن يرى هذا طريقاً في المجاهدة وترتاض به نفسه
وإما رجل من العابدين ليس له سير بالباطن وحركة بالفكر والقلب وإنما عمله عمل الجوارح بالصلاة أو حج أو غيره فعمله لأهله وأولاده بكسب الحلال لهم والقيام بتربيتهم أفضل له من العبادات اللازمة لبدنه التي لا يتعدى خيرها إلى غيرها فأما الرجل المهذب الأخلاق إما بكفاية في أصل الخلقة أو بمجاهدة سابقة إذا كان له سير في الباطن وحركة بفكر القلب في العلوم والمكاشفات فلا ينبغي أن يتزوج لهذا الغرض فإن الرياضة هو مكفي فيها
وأما العبادة في العمل بالكسب لهم فالعلم أفضل من ذلك لأنه أيضاً عمل وفائدته أكثر من ذلك وأعم وأشمل لسائر الخلق من فائدة الكسب على العيال فهذه فوائد النكاح في الدين التي بها يحكم له بالفضيلة
أما آفات النكاح فثلاث
الأولى وهي أقواها العجز عن طلب الحلال فإن ذلك لا يتيسر لكل أحد لا سيما في هذه الأوقات مع اضطراب المعايش فيكون النكاح سبباً في التوسع للطلب والإطعام من الحرام وفيه هلاكه وهلاك أهله والمتعزب في أمن من ذلك وأما المتزوج ففي الأكثر يدخل في مداخل السوء فيتبع هوى زوجته ويبيع آخرته بدنياه
وفي الخبر إن العبد ليوقف عند الميزان وله من الحسنات أمثال الجبال فيسأل عن رعاية عائلته والقيام بهم وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه حتى يستغرق بتلك المطالبات كل أعماله فلا تبقى له حسنة فتنادي الملائكة هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا وارتهن اليوم بأعماله (1)
ويقال إن أول ما يتعلق بالرجل في القيامة أهله وولده فيوقفونه بين يدي الله تعالى ويقولون يا ربنا خذ لنا بحقنا منه فإنه ما علمنا ما نجهل وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم فيقتص لهم منه
وقال بعض السلف إذا أراد الله بعبد شراً سلط عليه في الدنيا أنياباً تنهشه يعني العيال
وقال صلى الله عليه وسلم لا يلقى الله أحد بذنب أعظم من جهالة أهله (2)
فهذه آفة عامة قل من يتخلص منها إلا من له مال موروث أو مكتسب من حلال يفي به وبأهله وكان له من القناعة ما يمنعه من الزيادة فإن ذاك يتخلص من هذه الآفة أو من هو محترف ومقتد على كسب حلال من المباحات باحتطاب أو اصطياد أو كان في صناعة لا تتعلق بالسلاطين ويقدر على أن يعامل به أهل الخير ومن ظاهره السلامة وغالب ماله الحلال وقال ابن سالم رحمه الله وقد سئل عن التزويج فقال هو أفضل في زماننا هذا لمن أدركه شبق غالب مثل الحماريري الأتان فلا ينتهي عنها بالضرب ولا يملك نفسه فإن ملك نفسه فتركه أولى
الآفة الثانية القصور عن القيام بحقهن والصبر على أخلاقهن واحتمال الأذى منهن وهذه دون الأولى في العموم فإن القدرة على هذا أيسر من القدرة على الأولى وتحسين الخلق مع النساء والقيام بحظوظهن أهون من طلب الحلال وفي هذا أيضاً خطر لأنه راع ومسئول عن رعيته
وقال صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول (3)
_________
(1) حديث إن العبد ليوقف عند الميزان وله من الحسنات أمثال الجبال ويسأل عن رعاية عياله والقيام بهنالحديث لم أقف له على أصل
(2) حديث لا يلقى الله أحد بذنب أعظم من جهالة أهله ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي سعيد ولم يجده ولده أبو منصور في مسنده
(3) حديث كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول رواه أبو داود والنسائي بلفظ من يقوت وهو عند مسلم بلفظ آخر(2/33)
وروي أن الهارب من عياله بمنزلة العبد الهارب الآبق لا تقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم ومن يقصر عن القيام بحقهن وإن كان حاضراً فهو بمنزلة هارب فقد قال تعالى {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} أمرنا أن نقيهم النار كما نقي أنفسنا والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه وإذا تزوج تضاعف عليه الحق وانضافت إلى نفسه نفس أخرى والنفس أمارة بالسوء إن كثرت عليها الحقوق كثر الأمر بالسوء غالباً ولذلك اعتذر بعضهم من التزويج وقال أنا مبتلي بنفسي وكيف أضيف إليها نفساً أخرى كما قيل
لن يسع الفأرة جحرها ... علقت المكنس في دبرها
وكذلك اعتذر إبراهيم بن أدهم رحمه الله وقال لا أغر امرأة بنفسي ولا حاجة لي فيهن أي من القيام بحقهن وتحصينهن وإمتاعهن وأنا عاجز عنه وكذلك اعتذر بشر وقال يمنعني من النكاح قوله تعالى {ولهن مثل الذي عليهن} وكان يقول لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أصير جلادا على الجسر
ورؤي سفيان ابن عيينة رحمه الله على باب السلطان فقيل له ما هذا موقفك فقال وهل رأيت ذا عيال أفلح وكان سفيان يقول
يا حبذا العزبة والمفتاح ... ومسكن تخرقه الرياح ... لا صخب فيه ولا صياح
فهذه آفة عامة أيضاً وإن كانت دون عموم الأولى لا يسلم منها إلا حكيم عاقل حسن الأخلاق بصير بعادات النساء صبور على لسانهن وقاف عن اتباع شهواتهن حريص على الوفاء بحقهن يتغافل عن زللهن ويداري بعقله أخلاقهن والأغلب على الناس السفه والفظاظة والحدة والطيش وسوء الخلق وعدم الإنصاف مع طلب تمام الإنصاف ومثل هذا يزداد بالنكاح فساداً من هذا الوجه لا محالة فالوحدة أسلم له
الآفة الثالثة وهي دون الأولى والثانية أن يكون الأهل والولد شاغلاً له عن الله تعالى وجاذباً له إلى طلب الدنيا وحسن تدبير المعيشة للأولاد بكثرة جمع المال وادخاره لهم وطلب التفاخر والتكاثر بهم وكل ما شغل عن الله من أهل ومال وولد فهو مشئوم على صاحبه ولست أعني بهذا أن يدعو إلى محظور فإن ذلك مما اندرج تحت تحت الآفة الأولى والثانية بل أن يدعوه إلى التنعم بالمباح بل إلى الإغراق في ملاعبة النساء ومؤانستهن والإمعان في التمتع بهن ويثور من النكاح أنواع من الشواغل من هذا الجنس تستغرق القلب فينقضي الليل والنهار ولا يتفرغ المرء فيهما للتفكر في الآخرة والاستعداد لها ولذلك قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله من تعود أفخاد النساء لم يجيء منه شيء
وقال أبو سليمان رحمه الله
من تزوج فقد ركن إلى الدنيا أي يدعوه ذلك إلى الركون إلى الدنيا فهذه مجامع الآفات والفوائد فالحكم على شخص واحد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقا قصور عن الإحاطة بمجامع هذه الأمور بل تتخذ هذه الفوائد والآفات معتبراً ومحكماً ويعرض المريد عليه نفسه فإن انتفت في حقه الآفات واجتمعت الفوائد بأن كان له مال حلال وخلق حسن وجد في الدين تام لا يشغله النكاح عن الله وهو مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل والتحصن بالعشيرة فلا يماري في أن النكاح أفضل له مع ما فيه من السعي في تحصيل الولد فإن انتفت الفوائد واجتمعت الآفات فالعزوبة أفضل له وإن تقابل الأمران وهو الغالب فينبغي أن يوزن بالميزان القسط حظ تلك الفائدة في الزيادة من دينه وحظ تلك الآفات في النقصان منه فإذا غلب على الظن رجحان أحدهما حكم به وأظهر الفوائد الولد وتسكين الشهوة وأظهر الآفات الحاجة إلى كسب الحرام والاشتغال عن الله فلنفرض تقابل هذه الأمور فنقول من لم يكن في أذية من الشهوة وكانت فائدة نكاحه في السعي لتحصيل(2/34)
الولد وكانت الآفة الحاجة إلى كسب الحرام والاشتغال عن الله فالعزوبة له أولى فلا خير فيما يشغل عن الله ولا خير في كسب الحرام ولا يفي بنقصان هذين الأمرين أمر الولد فإن النكاح للولد سعي في طلب حياة للولد موهومة وهذا نقصان في الدين ناجز فحفظه لحياة نفسه وصونها عن الهلاك أهم من السعي في الولد وذلك ربح والدين رأس مال
وفي فساد الدين بطلان الحياة الأخروية وذهاب رأس المال ولا تقاوم هذه الفائدة إحدى هاتين الآفتين
وأما إذا انضاف إلى أمر الولد حاجة كسر الشهوة لتوقان النفس إلى النكاح نظر فإن لم يقو لجام التقوى في رأسه وخاف على نفسه الزنا فالنكاح له أولى لأنه متردد بين أن يقتحم الزنا أو يأكل الحرام والكسب الحرام أهون الشرين وإن كان يثق بنفسه أنه لا يزني ولكن لا يقدر مع ذلك على غض البصر عن الحرام فترك النكاح أولى لأن النظر حرام والكسب من غير وجهه حرام والكسب يقع دائماً وفيه عصيانه وعصيان أهله والنظر يقع أحياناً وهو يخصه وينصرم على قرب والنظر زنا العين ولكن إذا لم يصدقه الفرج فهو إلى العفو أقرب من أكل الحرام إلا أن يخاف إفضاء النظر إلى معصية الفرج فيرجع ذلك إلى خوف العنت وإذا ثبت هذا فالحالة الثالثة وهو أن يقوى على غض البصر ولكن لا يقوى على دفع الأفكار الشاغلة للقلب فذلك أولى بترك النكاح لأن عمل القلب إلى العفو أقرب إنما يراد فراغ القلب للعبادة ولا تتم عبادة مع الكسب الحرام وأكله وإطعامه فهكذا ينبغي أن توزن هذه الآفات بالفوائد ويحكم بحسبها ومن أحاط بهذا لم يشكل عليه شيء مما نقلنا عن السلف من ترغيب في النكاح مرة ورغبة عنه أخرى إذ ذلك بحسب الأحوال صحيح
فإن قلت فمن أمن الآفات فما الأفضل له التخلي لعبادة الله أو النكاح فأقول يجمع بينهما لأن النكاح ليس مانعاً من التخلي لعبادة الله من حيث إنه عقد ولكن من حيث الحاجة إلى الكسب فإن قدر على الكسب الحلال فالنكاح أيضاً أفضل لأن الليل وسائر أوقات النهار يمكن التخلي فيه للعبادة والمواظبة على العبادة من غير استراحة غير ممكن فإن فرض كونه مستغرقاً بالكسب حتى لا يبقى له وقت سوى أوقات المكتوبة والنوم والأكل وقضاء الحاجة فإن كان الرجل ممن لا يسلك سبيل الآخرة إلا بالصلاة النافلة أو الحج وما يجري مجراه من الأعمال البدنية فالنكاح له أفضل لأن في كسب الحلال والقيام بالأهل والسعي في تحصيل الولد والصبر على أخلاق النساء أنواعاً من العبادات لا يقصر فضلها عن نوافل العبادات وإن كان عبادته بالعلم والفكر وسير الباطن والكسب يشوش عليه ذلك فترك النكاح أفضل
فإن قلت فلم ترك عيسى عليه السلام النكاح مع فضله وإن كان الأفضل التخلي لعبادة الله فلم استكثر رسولنا صلى الله عليه وسلم من الأزواج فاعلم أن الأفضل الجمع بينهما في حق من قدر ومن قويت منته وعلت همته فلا يشغله عن الله شاغل ورسولنا صلى الله عليه وسلم أخذ بالقوة وجمع بين فضل العبادة والنكاح ولقد كان مع تسع من النسوة (1)
متخلياً لعبادة الله وكان قضاء الوطر بالنكاح في حقه غير مانع كما لا يكون قضاء الحاجة في حق المشغولين بتدبيرات الدنيا مانعاً لهم عن التدبير حتى يشتغلون في الظاهر بقضاء الحاجة وقلوبهم مشغوفة بهممهم غير غافلة عن مهماتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلو درجته لا يمنعه أمر هذا العالم عن حضور القلب مع الله تعالى فكان ينزل عليه الوحي وهو في فراش امرأته (2)
ومتى سلم مثل هذا المنصب لغيره فلا يبعد أن يغير السواقي
_________
(1) حديث جمعه صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة أخرجه البخاري من حديث أنس وله من حديثه أيضا وهن إحدى عشرة
(2) حديث كان ينزل عليه الوحي وهو في فراش امرأته أخرجه البخاري من حديث أنس يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها(2/35)
ما لا يغير البحر الخضم فلا ينبغي أن يقاس عليه غيره
وأما عيسى صلى الله عليه وسلم فإنه أخذ بالحزم لا بالقوة واحتاط لنفسه ولعل حالته كانت حالة يؤثر فيها الاشتغال بالأهل أو يتعذر معها طلب الحلال أو لا يتيسر فيها الجمع بين النكاح والتخلي للعبادة فآثر التخلي للعبادة وهم أعلم بأسرار أحوالهم وأحكام أعصارهم في طيب المكاسب وأخلاق النساء وما على الناكح من غوائل النكاح وما له فيه ومهما كانت الأحوال منقسمة حتى يكون النكاح في بعضها أفضل وتركه في بعضها أفضل فحقنا أن ننزل أفعال الأنبياء على الأفضل في كل حال والله أعلم
الباب الثاني فيما يراعى حالة العقد من أحوال المرأة وشروط العقد
أما العقد فأركانه وشروطه لينعقد ويفيد الحل أربعة
الأول إذن الولي فإن لم يكن فالسلطان
الثاني رضا المرأة إن كانت ثيباً بالغاً أو كانت بكراً بالغاً ولكن يزوجها غير الأب والحد
الثالث حضور شاهدين ظاهري العدالة فإن كانا مستورين حكمنا بالانعقاد للحاجة
الرابع إيجاب وقبول متصل به بلفظ الإنكاح أو التزويج أو معناهما الخاص بكل لسان من شخصين مكلفين ليس فيهما امرأة سواء كان هو الزوج أو الولي أو وكيلهما
وأما آدابه
فتقديم الخطبة مع الولي لا في حال عدة المرأة بل بعد انقضائها إن كانت معتدة ولا في حال سبق غيره بالخطبة إذ نهى عن الخطبة على الخطبة (1) حديث عائشة تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال رواه مسلم //
وأما المنكوحة فيعتبر فيها نوعان أحدهما للحل
والثاني لطيب المعيشة وحصول المقاصد
النوع الأول ما يعتبر فيها للحل وهو أن تكون خلية عن موانع النكاح والموانع تسعة عشر الأول أن
تكون منكوحة للغير
الثاني أن تكون معتدة للغير سواء كانت عدة وفاة أو طلاق أو وطء شبهة أو كانت في استبراء وطء عن ملك يمين
الثالث أن تكون مرتدة عن الدين لجريان كلمة على لسانها من كلمات الكفر
الرابع أن تكون مجوسية
الخامس أن تكون وثنية أو زنديقة لا تنسب إلى نبي وكتاب ومنهن المعتقدات لمذهب الإباحة فلا يحل نكاحهن وكذلك كل معتقدة مذهباً فاسداً يحكم بكفر معتقده
السادس أن تكون كتابية قد دانت بدينهم بعد التبديل أو بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فليست من نسب بني إسرائيل فإذا عدمت كلتا الخصلتين
_________
(1) حديث النهي عن الخطبة على الخطبة متفق عليه من حديث ابن عمر ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبل ويأذن له
ومن آدابه
الخطبة قبل النكاح ومزج التحميد بالإيجاب والقبول فيقول المزوج الحمد لله والصلاة على رسول الله زوجتك ابنتي فلانة
ويقول الزوج الحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت نكاحها على هذا الصداق
وليكن الصداق معلوماً خفيفاً والتحميد قبل الخطبة أيضاً مستحب ومن آدابه
أن يلقى أمر الزوج إلى سمع الزوجة وإن كانت بكراً فذلك أحرى وأولى بالألفة ولذلك يستحب النظر إليها قبل النكاح فإنه أحرى أن يؤدم بينهما
ومن الآداب إحضار جمع من أهل الصلاح زيادة على الشاهدين اللذين هما ركنان للصحة ومنها أن ينوي بالنكاح إقامة السنة وغض البصر وطلب الولد وسائر الفوائد التي ذكرناها ولا يكون قصده مجرد الهوى والتمتع فيصير عمله من أعمال الدنيا ولا يمنع ذلك هذه النيات فرب حق يوافق الهوى
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذا وافق الحق الهوى فهو الزبد بالنرسيان ولا يستحيل أن يكون كل واحد من حظ النفس وحق الدين باعثاً معاً ويستحب أن يعقد في المسجد وفي شهر شوال
قالت عائشة رضي الله عنها تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال(2/36)
لم يحل نكاحها وإن عدمت النسب فقط ففيه خلاف
السابع أن تكون رقيقة والناكح حراً قادراً على طول الحرة أو غير خائف من العنت
الثامن أن تكون كلها أو بعضها مملوكاً للناكح ملك يمين
التاسع أن تكون قريبة للزوج بأن تكون من أصوله أو فصوله أو فصول أول أصوله أو من أول فصل من كل أصل بعده أصل وأعني بالأصول الأمهات والجدات وبفصوله الأولاد والأحفاد وبفصول أول أصوله الإخوة وأولادهم وبأول فصل من كل أصل بعده أصل العمات والخالات دون أولادهن
العاشر أن تكون محرمة بالرضاع ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب من الأصول والفصول كما سبق ولكن المحرم خمس رضعات وما دون ذلك لا يحرم
الحادي عشر المحرم بالمصاهرة وهو أن يكون الناكح قد نكح ابنتها أو جدتها أو ملك بعقد أو شبهة عقد من قبل أو وطئهن بالشبهة في عقد أو وطيء أمها أو إحدى جداتها بعقد أو شبهة عقد فمجرد العقد على المرأة يحرم أمهاتها ولا يحرم فروعها إلا بالوطء أو يكون قد نكحها أبوه أو ابنه قبل
الثاني عشر أن تكون المنكوحة خامسة أي يكون تحت الناكح أربع سواها إما في نفس النكاح أو في عدة الرجعة فإن كانت في عدة بينونة لم تمنع الخامسة
الثالث عشر أن يكون تحت الناكح أختها أو عمتها أو خالتها فيكون بالنكاح جامعاً بينهما وكل شخصين بينهما قرابة لو كان أحدهما ذكراً والآخرة أنثى لم يجز بينهما النكاح فلا يجوز أن يجمع بينهما
الرابع عشر أن يكون هذا الناكح قد طلقها ثلاثاً فهي لا تحل له ما لم يطأها زوج غيره في نكاح صحيح
الخامس عشر أن يكون الناكح قد لاعنها فإنها تحرم عليه أبداً بعد اللعان
السادس عشر أن تكون محرمة بحج أو عمرة أو كان الزوج كذلك فلا ينعقد النكاح إلا بعد تمام التحلل
السابع عشر أن تكون ثيباً صغيرة فلا يصح نكاحها إلا بعد البلوغ
الثامن عشر أن تكون يتيمة فلا يصح نكاحها إلا بعد البلوغ
التاسع عشر أن تكون من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن توفى عنها أو دخل بها فإنهن أمهات المؤمنين وذلك لا يوجد في زماننا فهذه هي الموانع المحرمة
أما الْخِصَالُ الْمُطَيِّبَةُ لِلْعَيْشِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا فِي الْمَرْأَةِ لِيَدُومَ الْعَقْدُ وَتَتَوَفَّرَ مَقَاصِدُهُ ثمانية الدِّينُ وَالْخُلُقُ وَالْحُسْنُ وَخِفَّةُ الْمَهْرِ وَالْوِلَادَةُ وَالْبَكَارَةُ وَالنَّسَبُ وَأَنْ لَا تَكُونَ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ
الْأُولَى أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً ذَاتَ دِينٍ فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الِاعْتِنَاءُ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الدِّينِ فِي صِيَانَةِ نَفْسِهَا وَفَرْجِهَا أَزْرَتْ بِزَوْجِهَا وَسَوَّدَتْ بَيْنَ النَّاسِ وَجْهَهُ وشوشت بالغيرة قلبه وتتغص بِذَلِكَ عَيْشُهُ فَإِنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْحَمِيَّةِ وَالْغَيْرَةِ لم يزل في بلاء ومحنة وَإِنْ سَلَكَ سَبِيلَ التَّسَاهُلِ كَانَ مُتَهَاوِنًا بِدِينِهِ وعرضه ومنسوبا إلى قلة الحمية والأنفة وإذا كانت مع الفساد جميلةً كان بلاؤها أشد إذ يشق على الزوج مفارقتها فلا يصبر عنها ولا يصبر عليها ويكون كالذي جاء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال يا رسول الله إن لي امرأة لا ترد يد لامس
قال طلقها فقال إني أحبها
قال أمسكها (1)
وإنما أمره بإمساكها خوفاً عليه بأنه إذا طلقها أتبعها نفسه وفسد هو أيضاً معها فرأى ما في دوام نكاحه من دفع الفساد عنه من ضيق قلبه أولى وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةَ الدِّينِ بِاسْتِهْلَاكِ مَالِهِ أَوْ بِوَجْهٍ آخَرَ لَمْ يَزَلِ الْعَيْشُ مُشَوَّشًا مَعَهُ
فَإِنْ سَكَتَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَعْصِيَةِ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَإِنْ أَنْكَرَ وَخَاصَمَ تَنَغَّصَ الْعُمْرُ وَلِهَذَا بَالَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التَّحْرِيضِ عَلَى ذَاتِ الدِّينِ فَقَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لمالها وجمالها وحسبها
_________
(1) حديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي امرأة لا ترد يد لامس قال طلقها الحديث رواه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال النسائي ليس بثابت والمرسل أولى بالصواب وقال أحمد حديث منكر وذكره ابن الجوزي في الموضوعات(2/37)
ودينها فعليك بذات الدين تربت يداك (1)
وفي حديث آخر من نكح المرأة لمالها وجمالها حرم جمالها ومالها ومن نكحها لدينها رزقه الله مالها وجمالها (2) وقال صلى الله عليه وسلم لا تنكح المرأة لجمالها فلعل جمالها يرديها ولا لمالها فلعل مالها يطغيها وانكح المرأة لدينها 3 حديث لا تنكح المرأة لجمالها فلعل جمالها يرديهاأخرجه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بسند ضعيف
وإنما بالغ في الحث على الدين لأن مثل هذه المرأة تكون عوناً على الدين فأما إذا لم تكن متدينة كانت شاغلة عن الدين ومشوشة له
الثانية حسن الخلق وذلك أصل مهم في طلب الفراغة والاستعانة على الدين فإنها إذا كانت سليطة بذية اللسان سيئة الخلق كَافِرَةً لِلنِّعَمِ كَانَ الضَّرَرُ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ النَّفْعِ وَالصَّبْرُ عَلَى لِسَانِ النِّسَاءِ مِمَّا يُمْتَحَنُ به الأولياء
قال بعض العرب
لا تنكحوا من النساء ستة لا أنانة ولا منانة ولا حنانة ولا تنكحوا حداقة ولا براقة ولا شداقة
أما الأنانة فهي التي تكثر الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة فنكاح الممراضة أو نكاح المتمارضة لا خير فيه والمنانة التي تمن على زوجها فتقول فعلت لأجلك كذا وكذا والحنانة التي تحن إلى زوج آخر أو ولدها من زوج آخر وهذا أيضا مما يجب اجتنابه والحداقة التي ترمي إلى كل شيء بحدقتها فتشتهيه وتكلف الزوج شراءه والبراقة تحتمل معنيين
أحدهما أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه ليكون لوجهها بريق محصل بالصنع
والثاني أن تغضب على الطعام فلا تأكل إلا وحدها وتستقل نصيبها من كل شيء وهذه لغة يمانية يقولون برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عنده والشداقة المتشدقة الكثيرة الكلام ومنه قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تعالى يبغض الثرثارين المتشدقين (3)
وحكي أن السائح الأزدي لقي إلياس عليه السلام في سياحته فأمره بالتزوج ونهاه عن التبتل ثم قال لا تنكح أربعا المختلعة والمبارية والعاهرة والناشز فأما المختلعة فهي التي تطلب الخلع كل ساعة من غير سبب والمبارية المباهية بغيرها المفاخرة بأسباب الدنيا والعاهرة الفاسقة التي تعرف بخليل وخدن وهي التي قال الله تعالى {ولا متخذات أخدان} والناشز التي تعلو على زوجها بالفعال والمقال
والنشز العالي من الأرض وكان علي رضي الله عنه يقول شر خصال الرجال خير خصال النساء
البخل والزهو والجبن فإن المرأة إذا كانت بخيلةً حفظت مالها ومال زوجها وإذا كانت مزهوة استنكفت أن تكلم كل أحد بكلام لين مريب وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء فلم تخرج من بيتها واتقت مواضع التهمة خيفةً من زوجها فهذه الحكايات ترشد إلى مجامع الأخلاق المطلوبة في النكاح
الثَّالِثَةُ حُسْنُ الْوَجْهِ فَذَلِكَ أَيْضًا مَطْلُوبٌ إِذْ بِهِ يَحْصُلُ التَّحَصُّنُ وَالطَّبْعُ لَا يَكْتَفِي بِالدَّمِيمَةِ غالباً كيف والغالب أن حسن الخلق والخلق لا يفترقان
وما نقلناه من الحث على الدين وأن المرأة لا تنكح لجمالها ليس زاجر عَنْ رِعَايَةِ الْجَمَالِ بَلْ هُوَ زَجْرٌ عَنِ النِّكَاحِ لِأَجْلِ الْجَمَالِ الْمَحْضِ مَعَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الْجَمَالَ وَحْدَهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ يُرَغِّبُ فِي النِّكَاحِ وَيُهَوِّنُ أَمْرَ الدِّينِ وَيَدُلُّ على الالتفات إلى معنى الجمال أن الألفة والمودة تحصل بِهِ غَالِبًا وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى مُرَاعَاةِ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ النَّظَرَ فَقَالَ إِذَا أوقع الله في نفس
_________
(1) حديث تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَدِينِهَا فَعَلَيْكَ بذات الدين متفق عليه من حديث أبي هريرة
(2) حديث من نكح المرأة لمالها وجمالها حرم مالها وجم الها الحديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه ورواه ابن حبان في الضعفاء
(3) حديث إن الله يبغض الثرثارين المتشدقين رواه الترمذي وحسنه من حديث جابر وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتفيهقون ولأبي داود والترمذي وحسنه من حديث عبد الله بن عمرو إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخال بلسانه تخلل الباقرة بلسانها(2/38)
أَحَدِكُمْ مِنِ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أن يؤدم بينهما (1)
أي يؤلف بينهما من وقوع الأدمة على الأدمة وهي الجلدة الباطنة
والبشرة الجلدة الظاهرة وإنما ذكر ذلك للمبالغة في الائتلاف
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي أعين الأنصار شيئاً فإذا أراد أحدكم أن يتزوج منهن فلينظر إليهن (2)
قيل كان في أعينهن عمش
وقيل صغر وَكَانَ بَعْضُ الْوَرِعِينَ لَا يَنْكِحُونَ كَرَائِمَهُمْ إِلَّا بعد النظر احترازاً من الغرور
قال الْأَعْمَشُ
كُلُّ تَزْوِيجٍ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ نَظَرٍ فآخره هم وغم
ومعلوم أن النظر لا يعرف الخلق والدين والمال وإنما يعرف الجمال من القبح
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ عَلَى عَهْدِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ خَضَبَ فَنَصَلَ خِضَابُهُ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَرْأَةِ إِلَى عمر وَقَالُوا حَسِبْنَاهُ شَابًّا فَأَوْجَعَهُ عمر ضَرْبًا وَقَالَ غررت القوم وروي أن بلالاً وصهيباً أتيا أهل بيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما من أنتما فقال بلال أنا بلال وهذا أخي صهيب كنا ضالين فهدانا الله وكنا مملوكين فأعتقنا الله وكنا عائلين فأغنانا الله فإن تزوجونا فالحمد لله وإن تردونا فسبحان الله فقالوا بل تزوجان والحمد لله
فقال صهيب لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال اسكت فقد صدقت فأنكحك الصدق
وَالْغُرُورُ يَقَعُ فِي الْجَمَالِ وَالْخُلُقِ جَمِيعًا فَيُسْتَحَبُّ إِزَالَةُ الْغُرُورِ فِي الْجَمَالِ بِالنَّظَرِ وَفِي الْخُلُقِ بالوصف والإستيصاف فينبغي أن يقدم ذلك على النكاح وَلَا يَسْتَوْصِفُ فِي أَخْلَاقِهَا وَجَمَالِهَا إِلَّا مَنْ هو بصير صادق خبير بالظاهر والباطن ولا يَمِيلُ إِلَيْهَا فَيُفْرِطَ فِي الثَّنَاءِ وَلَا يَحْسُدُهَا فيقصر فالطباع مائلة في مبادي النكاح ووصف المنكوحات إلى الإفراط والتفريط وقل من يصدق فيه ويقتصد بَلِ الْخِدَاعُ وَالْإِغْرَاءُ أَغْلَبُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ مُهِمٌّ لمن يخشى على نفسه التشوف إلى غير زوجته
فأما من أراد من الزوجة مجرد السنة أو الولد أو تدبير المنزل فلو رغب عن الجمال فهو إلى الزهد أقرب لأنه على الجملة باب من الدنيا وإن كان قد يعين على الدين في حق بعض الأشخاص
قال أبو سليمان الداراني الزهد في كل شيء حتى في المرأة يتزوج الرجل العجوز إيثاراً للزهد في الدنيا
وقد كان مالك بن دينار رحمه الله يقول
يترك أحدكم أن يتزوج يتيمة فيؤجر فيها إن أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤنة ترضى باليسير ويتزوج بنت فلان وفلان يعني أبناء الدنيا فتشتهي عليه الشهوات وتقول اكسني كذا وكذا واختار أحمد بن حنبل عوراء على أختها وكانت أختها جميلة فسأل من أعقلهما فقيل العوراء فقال زوجوني إياها فهذا دأب من لم يقصد التمتع فأما من لا يأمن على دينه ما لم يكن له مستمتع فليطلب الجمال فالتلذذ بالمباح حصن للدين
وقد قيل إذا كانت المرأة حسناء خيرة الأخلاق سوداء الحدقة والشعر كبيرة العين شديدة بيضاء اللون محبةً لزوجها قاصرة الطرف عليه فهي على صورة الحور العين فإن الله تعالى وصف نساء أهل الجنة بهذه الصفة في قوله {خيرات حسان} أراد بالخيرات حسنات الأخلاق وفي قوله {قاصرات الطرف} وفي قوله {عرباً أتراباً} العروب هي العاشقة لزوجها المشتهية للوقاع وبه تتم اللذة والحور البياض والحوراء شديدة بياض العين شديدة سوادها في سواد الشعر والعيناء الواسعة العين
وقال صلى الله عليه وسلم خير نسائكم من إذا نظر إليها زوجها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله (3)
وإنما يسر بالنظر إليها إذا كانت محبة للزوج
الرابعة أن تكون خفيفة المهر
_________
(1) حديث إِذَا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي نَفْسِ أَحَدِكُمْ مِنِ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بينهما أخرجه ابن ماجة بسند ضعيف من حديث أحمد بن مسلمة دون قوله فإنه أحرى وللترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة من حديث المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما
(2) حديث إن في أعين الأنصار شيئاً فإذا أراد أحدكم أن يتزوج منهن فلينظر إليهن رواه مسلم من حديث أبي هريرة نحوه
(3) حديث خير نسائكم التي إذا نظر إليها زوجها سرته وإن أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله أخرج النسائي من حديث أبي هريرة نحوه بسند صحيح وقال ولا تخالفه في نفسها ولا مالها وعند أحمد في نفسها وماله ولأبي داود نحوه من حديث ابن عباس بسند صحيح(2/39)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير النساء أحسنهن وجوهاً وأرخصهن مهوراً (1)
وقد نهى عن المغالاة في المهر (2)
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث بيت وكان رحى يد وجرة ووسادة من أدم حشوها ليف (3)
وعلى وأولم على بعض نسائه بمدين من شعير (4)
وعلى أخرى بمدين من تمر ومدين من سويق (5)
وكان عمر رضي الله عنه ينهي عن المغالاة في الصداق ويقول ما تزوج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا زوج بناته بأكثر من أربعمائة درهم (6)
ولو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوج بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على نواة من ذهب قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (7)
وَزَوَّجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى دِرْهَمَيْنِ ثُمَّ حَمَلَهَا هُوَ إِلَيْهِ لَيْلًا فأدخلها هو مِنَ الْبَابِ ثُمَّ انْصَرَفَ ثُمَّ جَاءَهَا بَعْدَ سبعة أيام فسلم عليها ولو تزوج على عشرة دراهم للخروج من خلاف العلماء فلا بأس به
وفي الخبر مِنْ بَرَكَةِ الْمَرْأَةِ سُرْعَةُ تَزْوِيجِهَا وَسُرْعَةُ رَحِمِهَا أي الولادة ويسر مهرها (8)
وقال أيضاً أبركهن أقلهن مهراً (9)
وَكَمَا تُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِي الْمَهْرِ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَيُكْرَهُ السُّؤَالُ عَنْ مَالِهَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ طَمَعًا فِي المال
قال النوري إذا تزوج وقال أي شيء للمرأة فأعلم أنه لص وَإِذَا أَهْدَى إِلَيْهِمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْدِيَ لِيَضْطَرَّهُمْ إِلَى الْمُقَابَلَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إِذَا أَهْدَوْا إِلَيْهِ فَنِيَّةُ طَلَبِ الزِّيَادَةِ نِيَّةٌ فَاسِدَةٌ فأما التهادي فمستحب وهو سبب المودة
قال صلى الله عليه وسلم تهادوا تحابوا (10)
وأما طلب الزيادة فداخل في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر أي تعطي لتطلب أكثر وتحت قوله تعالى وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فإن الربا هو الزيادة وهذا طلب زيادة على الجملة وإن لم يكن في الأموال الربوية فكل ذلك مكروه وبدعة في النكاح يشبه التجارة والقمار ويفسد مقاصد النكاح
الْخَامِسَةُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَلُودًا فَإِنْ عُرِفَتْ بالعقر فليمتنع عن تزوجها
قال صلى الله عليه وسلم عليكم
_________
(1) حديث خير النساء أحسنهن وجوهاً وأرخصهن مهورا أخرجه ابن حبان من حديث ابن عباس خيرهن أيسرهن صداقا وله من حديث عائشة من يمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها وروى أبو عمر التوقاني في كتاب معاشرة الأهلين إن أعظم النساء بركة أصبحهن وجوها وأقلهن مهرا وصححه
(2) حديث النهي عن المغالاة في المهر رواه أصحاب السنن الأربعة موقوفا على عمر وصححه الترمذي
(3) حديث تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث بيت وكان رحى يد وجرة ووسادة من أدم حشوها ليف رواه أبو داود الطيالسي والبزار من حديث أنس تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة على متاع بيت قيمته عشرة دراهم قال البزار ورأيته في موضع آخر تزوجها على متاع بيت ورحى قيمته أربعون درهما ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد وكلاهما ضعيف ولأحمد من حديث علي لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين ورواه الحاكم وصحح إسناده وابن حبان مختصرا
(4) حديث أولم على بعض نسائه بمدين من شعير أخرجه البخاري من حديث عائشة
(5) حديث وأولم على أخرى بمدي تمر ومدي سويق رواه الأربعة من حديث أنس أولم على صفية بسويق وتمر ولمسلم فجعل الرجل يجيء بفضل التمر وفضل السويق وفي الصحيحين التمر والأقط والسمن وليس في شيء من الأصول تقييد التمر والسويق بمدين
(6) حديث كان عمر ينهى عن المغالاة ويقول ما تزوج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا زوج بناته بأكثر من أربعمائة درهم رواه الأربعة من حديث عمر قال الترمذي حسن صحيح
(7) حديث تزوج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على وزن نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ يُقَالُ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ متفق عليه من حديث أنس أن عبد الرحمن بن عوف تزوج على ذلك وتقويمها بخمسة دراهم رواه البيهقي
(8) حديث مِنْ بَرَكَةِ الْمَرْأَةِ سُرْعَةُ تَزْوِيجِهَا وَسُرْعَةُ رَحِمِهَا أي الولادة وتيسير مهرها رواه أحمد والبيهقي من حديث عائشة من يمن المرأة أن تتيسر خطبتها وأن يتيسر صداقها وان يتيسر رحمها قال عروة يعني الولادة وإسناده جيد
(9) حديث أبركهن أقلهن مهرا رواه أبو عمر التوقاني في معاشرة الأهلين من حديث عائشة إن أعظم النساء بركة أصبحهن وجوها وأقلهن مهرا وقد تقدم ولأحمد والبيهقي إن أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا وإسناده جيد
(10) حديث تهادوا تحابوا أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد والبيهقي من حديث أبي هريرة بسند جيد(2/40)
بالولود الودود (1)
فإن لم يكن لها زوج ولم يعرف حالها فيراعي صحتها وشبابها فإنها تكون ولوداً في الغالب مع هذين الوصفين
السادسة أن تكون بكرا قال صلى الله عليه وسلم لجابر وَقَدْ نَكَحَ ثَيِّبًا هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وتلاعبك (2)
في البكارة ثلاث فوائد
إحداها أن تحب الزوج وتألفه فيؤثر في معنى الود وقد قال صلى الله عليه وسلم عليكم بالودود والطباع مجبولة على الأنس بأول مألوف
وأما التي اختبرت الرجال ومارست الأحوال فربما لا ترضى بعض الأوصاف التي تخالف ما ألفته فتقلي الزوج
الثانية أن ذلك أكمل في مودته لها فإن الطبع ينفر عن التي مسها غير الزوج نفرة ما وذلك يثقل على الطبع مهما يذكر وبعض الطباع في هذا أشد نفوراً
الثالثة أنها لا تحن إلى الزوج الأول وآكد الحب ما يقع مع الحبيب الأول غالباً
السَّابِعَةُ أَنْ تَكُونَ نَسِيبَةً أَعْنِي أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ فَإِنَّهَا سَتُرَبِّي بَنَاتِهَا وَبَنِيهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤَدَّبَةً لَمْ تحسن التأديب والتربية ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فقيل ما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في المنبت السوء (3)
وقال صلى الله عليه وسلم تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ الْعِرْقَ نَزَّاعٌ (4)
الثَّامِنَةُ أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يقلل الشهوة قال صلى الله عليه وسلم لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاوياً (5)
أي نحيفاً وذلك لتأثيره في تضعيف الشهوة فإن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر واللمس وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد فأما المعهود الذي دام النظر إليه مدة فإنه يضعف الحس عن تمام إدراكه والتأثر به ولا تنبعث به الشَّهْوَةَ فَهَذِهِ هِيَ الْخِصَالُ الْمُرَغِّبَةُ فِي النِّسَاءِ وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا أَنْ يُرَاعِيَ خِصَالَ الزَّوْجِ وَلْيَنْظُرْ لِكَرِيمَتِهِ فَلَا يُزَوِّجْهَا مِمَّنْ سَاءَ خُلُقُهُ أَوْ خَلْقُهُ أَوْ ضَعُفَ دَيْنُهُ أَوْ قَصَّرَ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا أَوْ كَانَ لَا يكافئها في نسبها قال صلى الله عليه وسلم النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته (6)
والاحتياط في حقها أهم لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها والزوج قادر على الطلاق بكل حال وَمَهْمَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ فَقَدْ جَنَى عَلَى دِينِهِ وَتَعَرَّضَ لِسُخْطِ اللَّهِ لِمَا قَطَعَ مِنْ حق الرحم وسوء الاختيار
وقال رجل للحسن قد خطب ابنتي جماعة فمن أُزَوِّجُهَا قَالَ مِمَّنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَإِنْ أَحَبَّهَا أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها
وقال صلى الله عليه وسلم من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها (7)
_________
(1) حديث عليكم بالودود الولود أخرجه أبو داود والنسائي من حديث معقل بن يسار تزوجوا الودود الولود وإسناده صحيح
(2) حديث قال لجابر وَقَدْ نَكَحَ ثَيِّبًا هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وتلاعبك متفق عليه من حديث جابر
(3) حديث إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في المنبت السوء رواه الدارقطني في الأفراد والرامهرمزي في الأمثال من حديث أبي سعيد الخدري قال الدارقطني تفرد به الواقدي وهو ضعيف
(4) حديث تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس رواه ابن ماجه من حديث عائشة مختصرا دون قوله فإن العرق وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس وروى أبو موسى المديني في كتاب تضييع العمر والأيام من حديث ابن عمر وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس وكلاهما ضعيف
(5) حديث لا تنكحوا القرابة فإن الولد يخلق ضاوياً قال ابن الصلاح لم أجد له أصلا معتمدا قلت إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب قد أضويتم فانكحوا في النوابغ رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث وقال معناه تزوجوا الغرائب قال ويقال اغربوا لا تضووا
(6) حديث النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته رواه أبو عمر التوقاني في معاشرة الأهلين موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر قال البيهقي وروى ذلك مرفوعا والموقوف أصح
(7) حديث من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أنس ورواه في الثقات من قول الشعبي بإسناد صحيح(2/41)
الباب الثالث في آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح
والنظر فيما على الزوج وفيما على الزوجة
أما الزوج فعليه مراعاة الاعتدال والأدب فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَمْرًا فِي الْوَلِيمَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالدُّعَابَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْغَيْرَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْقَسْمِ وَالتَّأْدِيبِ فِي النُّشُوزِ وَالْوِقَاعِ وَالْوِلَادَةِ وَالْمُفَارَقَةِ بِالطَّلَاقِ
الْأَدَبُ الْأَوَّلُ الْوَلِيمَةُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ قَالَ أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ {مَا هَذَا} فَقَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ
فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (1)
وَأَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على صفية بتمر وسويق (2)
وقال صلى الله عليه وسلم طعام أول يوم حق وطعام الثاني سنة وطعام الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به (3)
ولم يرفعه إلا زياد بن عبد الله وهو غريب
وَتُسْتَحَبُّ تَهْنِئَتُهُ فَيَقُولُ مَنْ دَخَلَ عَلَى الزَّوْجِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا في خير (4)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ويستحب إظهار النكاح
قال صلى الله عليه وسلم فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ (5)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف (6)
وعن الربيع بنت معوذ قالت جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل غداة بنى بي فجلس على فراشي وجويريات لنا يضربن بدفهن ويندبن من قتل من آبائي إلى أن قالت إحداهن وفينا نبي يعلم ما في غد فقال لها اسكتي عن هذه وقولي الذي كنت تقولين قبلها (7)
الْأَدَبُ الثَّانِي حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَهُنَّ وَاحْتِمَالُ الْأَذَى منهن ترحماً عليهن لقصور عقلهن
وقال الله تعالى وعاشروهن بالمعروف وَقَالَ فِي تَعْظِيمِ حَقِّهِنَّ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غليظاً {وقال} والصاحب بالجنب قيل هي المرأة وآخر ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث كان يتكلم بهم حتى تلجلج لسانه وخفي كلامه جعل يقول الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون
الله الله فإنهن عوان في أيديكم يعني أسراء أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله (8)
وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على سوء خلق امرأته
_________
(1) حديث أنس رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عبد الرحمن بن عوف أثر الصفرة فقال {ما هذا} قال تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ متفق عليه
(2) حديث أولم على صفية بسويق وتمر رواه الأربعة من حديث أنس ولمسلم نحوه وقد تقدم
(3) حديث طعام أول يوم حق وطعام الثاني سنة وطعام الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به قال المصنف لم يرفعه إلا زياد بن عبد الله قلت هكذا قال الترمذي بعد أن أخرجه من حديث ابن مسعود وضعفه
(4) حديث أبي هريرة في تهنئة الزَّوْجِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بينكما في خير رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة وتقدم في الدعوات
(5) حديث فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ رواه الترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث محمد بن حاطب
(6) حديث أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدف رواه الترمذي من حديث عائشة وحسنه وضعفه البيهقي
(7) حديث الربيع بنت معوذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على غداة بنى بي فجلس على فراشي وجويريات لنا يضربن بدفوفهن الحديث رواه البخاري وقال يوم بدر وقع في بعض نسخ الإحياء يوم بعاث وهو وهم
(8) حديث آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث كان يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه وخفي كلامه جعل يقول الصلاة وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون الله الله في النساء فإنهن عوان عندكمالحديث أخرجه النسائي في الكبرى وابن ماجة من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموت جعل يقول الصلاة وما ملكت أيمانكم فما زال يقولها وما يقبض بها لسانه واما الوصية بالنساء فالمعروف أن ذلك كان في حجة الوداع رواه مسلم من حديث جابر الطويل وفيه فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله الحديث(2/42)
أعطاه الله من الأجر مثل ما أعطى أيوب على بلائه ومن صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله مثل ثواب آسية امرأة فرعون (1) حديث كان أزواجه صلى الله عليه وسلم يراجعنه الحديث وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل متفق عليه من حديث عمر في الحديث الطويل في قوله تعالى فان تظاهرا عليه
وراجعت امرأة عمر رضي الله عنه عمر في الكلام فقال أتراجعيني يالكعاء فقالت إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك (2) حديث دفعت إحداهن في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فزبرتها أمها فقال صلى الله عليه وسلم دعيها فنهن يصنعن أكثر من ذلك لم اقف له على أصل (3) حديث جرى بينه وبين عائشة كلام حتى أدخل بينهما أبا بكر حكماالحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والخطيب في التاريخ من حديث عائشة بسند ضعيف (4) حديث قالت له عائشة مرة غضبت عنده وأنت الذي تزعم أنك نبي فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو يعلى في مسنده وأبو الشيخ في كتاب الأمثال من حديث عائشة وفيه ابن اسحق وقد عنعنه (5) حديث كان يقول لعائشة إني لأعرف غضبك من رضاك الحديث متفق عليه سن حديثها (6) حديث أول حب وقع في الإسلام حب النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رواه الشيخان من حديث عمرو بن العاص أنه قال أي الناس أحب إليك يا رسول الله قال عائشة الحديث وأما كونه أول فرواه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أنس ولعله أراد بالمدينة كما في الحديث الآخر أن ابن الزبير أول مولود ولد في الإسلام يريد بالمدينة وإلا فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة أمر معروف تشهد له الأحاديث الصحيحة (7) حديث كان يقول لعائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك متفق عليه من حديث عائشة دون الاستثناء ورواه بهذه الزيادة الزبير بن بكار والخطيب (8) حديث لا تؤذوني في عائشة فإنه والله ما أنزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها رواه البخاري من حديث عائشة (9) حديث أنس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرحم الناس بالنساء والصبيان رواه مسلم بلفظ ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد علي بن عبد العزيز والبغوي والصبيان //
_________
(1) حديث من صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله من الأجر مثل ما أعطى أيوب على بلائه الحديث لم أقف له على أصل
واعلم أنه ليس حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَهَا كَفَّ الْأَذَى عَنْهَا بَلِ احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْهَا وَالْحِلْمَ عِنْدَ طَيْشِهَا وَغَضَبِهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كانت أزواجه تراجعنه الْكَلَامَ وَتَهْجُرُهُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ
(2) حديث وراجعت امرأة عمر عمر في الكلام فقال أتراجعيني يالكعاء قالت إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك الحديث هو الحديث الذي قبله وليس فيه قوله بالكعاء ولا قولها هو خير منك
فقال عمر خابت حفصة وخسرت إن راجعته ثم قال لحفصة
لا تغتري بابنة ابن أبي قحافة فإنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوفها من المراجعة
وروي أنه دفعت إحداهن في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فزبرتها أمها فقال صلى الله عليه وسلم دعيها فإنهن يصنعن أكثر من ذلك
(3) وجرى بينه وبين عائشة كلام حتى أدخلا بينهما أبا بكر رضي الله عنه حكماً واستشهده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمين أو أتكلم فقالت بل تكلم أنت ولا تقل إلا حقاً فلطمها أبو بكر حتى دمى فوها وقال يا عدية نفسها أو يقول غير الحق فاستجارت برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت خلف ظهره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لم ندعك لهذا ولا أردنا منك هذا
(4) وقالت له مرة في كلام غضبت عنده أنت الذي تزعم أنك نبي الله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل ذلك حلماً وكرماً
(5) وكان يقول لها إني لأعرف غضبك من رضاك قالت وكيف تعرفه قال إذا رضيت قلت لا وإله محمد وإذا غضبت قلت لا وإله إبراهيم قالت صدقت إنما أهجر اسمك
(6) ويقال إن أول حب وقع في الإسلام حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها
(7) وكان يقول لها كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك
(8) وكان يقول لنسائه لا تؤذوني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها
(9) وقال أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أرحم الناس بالنساء والصبيان(2/43)
الثَّالِثُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى احْتِمَالِ الْأَذَى بِالْمُدَاعَبَةِ وَالْمَزْحِ وَالْمُلَاعَبَةِ فَهِيَ الَّتِي تُطَيِّبُ قُلُوبَ النِّسَاءِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ مَعَهُنَّ وَيَنْزِلُ إِلَى دَرَجَاتِ عُقُولِهِنَّ في الأعمال والأخلاق حتى روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوماً وسبقها في بعض الأيام فقال صلى الله عليه وسلم هذه بتلك (1)
وفي الخبر أنه كان صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع نسائه (2)
وقالت عائشة رضي الله عنها سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عاشوراء فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحبين أن تري لعبهم قالت قلت نعم فأرسل إليهم فجاؤا وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البابين فوضع كفه على الباب ومد يده ووضعت ذقني على يده وجعلوا يلعبون وأنظر وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول {حسبك} وأقول اسكت مرتين أو ثلاثاً ثم قال يا عائشة حسبك فقلت نعم فأشار إليهم فانصرفوا (3)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لنسائه وأنا خيركم لنسائي (5)
وقال عمر رضي الله عنه مع خشونته ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلاً
وقال لقمان رحمه الله ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي وإذا كان في القوم وجد رجلاً
وفي تفسير الخبر المروي إن الله يبغض الجعظري الجواظ (6)
قيل هو الشديد على أهله المتكبر في نفسه وهو أحد ما قيل في معنى قوله تعالى عتل قيل العتل هو اللفظ اللسان الغليظ القلب على أهله
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ (7)
وَوَصَفَتْ أَعْرَابِيَّةٌ زَوْجَهَا وَقَدْ مَاتَ فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ ضَحُوكًا إِذَا وَلَجَ سِكِّيتًا إِذَا خَرَجَ آكِلًا مَا وَجَدَ
غير مسائل عما فقد
الرابع أن لا يتبسط فِي الدُّعَابَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالْمُوَافَقَةِ بِاتِّبَاعِ هَوَاهَا إِلَى حَدٍّ يُفْسِدُ خُلُقَهَا وَيُسْقِطُ بِالْكُلِّيَّةِ هَيْبَتَهُ عِنْدَهَا بَلْ يُرَاعِي الِاعْتِدَالَ فِيهِ فَلَا يَدَعُ الْهَيْبَةَ وَالِانْقِبَاضَ مَهْمَا رَأَى مُنْكَرًا وَلَا يَفْتَحُ بَابَ الْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ الْبَتَّةَ بَلْ مَهْمَا رَأَى مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْمُرُوءَةَ تَنَمَّرَ وَامْتَعَضَ
قال الحسن والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار
وقال عمر رضي الله عنه خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة
وقد قيل شاوروهن وخالفوهن
وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعِسَ عَبْدُ الزوجة (8)
وإنما قال ذلك لأنه إذا أطاعها في هواها فهو عبدها
_________
(1) حديث مسابقته صلى الله عليه وسلم لعائشة فسبقته ثم سبقها وقال هذه بتلك رواه أبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجه من حديث عائشة بسند صحيح
(2) حديث كان من أفكه الناس مع نسائه رواه الحسن بن سفيان في مسنده من حديث أنس دون قوله مع نسائه ورواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط فقالا مع صبي وفي إسناده ابن لهيعة
(3) حديث عائشة سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون يوم عاشوراء فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحبين أن تري لعبهم الحديث متفق عليه مع اختلاف دون ذكر يوم عاشوراء وإنما قال يوم عيد ودون قولها اسكت وفي رواية للنسائي في الكبرى قلت لا تعجل مرتين وفيه فقال يا حميراء وسنده صحيح
(4) حديث أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله رواه الترمذي والنسائي واللفظ له والحاكم وقال رواته ثقات على شرط الشيخين
(5) حديث خياركم خيركم لنسائه وأنا خيركم لنسائي أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة دون قوله وأنا خيركم لنسائي وله من حديث عائشة وصححه خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي
(6) حديث إن الله يبغض الجعظري الجواظ رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وهو في الصحيحين من حديث جارية بن وهب الخزاعي بلفظ ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر ولأبي داود لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري
(7) حديث قال لجابر هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك متفق عليه من حديثه وقد تقدم
(8) حديث تعس عبد الزوجة لم أقف له على أصل والمعروف تعس عبد الدينار وعبد الدرهمالحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة(2/44)
وقد تعس فإن الله ملكه المرأة فملكها نفسه فقد عكس الأمر وقلب القضية وأطاع الشيطان لما قال ولآمرنهم فليغيرن خلق الله إذ حق الرجل أن يكون متبوعاً لا تابعاً وقد سمى الله الرجال قوامين على النساء وسمى الزوج سيداً فقال تعالى وألفيا سيدها لدى الباب فإذا انقلب السيد مسخراً فقد بدل نعمة الله كفراً ونفس المرأة على مثال نفسك إن أرسلت عنانها قليلاً جمحت بك طويلاً وإن أرخيت عذارها فتراً جذبتك ذراعاً وإن كبحتها وشددت يدك عليها في محل الشدة ملكتها
قال الشافعي رضي الله عنه ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك المرأة والخادم والنبطي أراد به إن محضت الإكرام ولم تمزج غلظك بلينك وفظاظتك برفقك
وكانت نساء العرب يعلمن بناتهن اختبار الأزواج وكانت المرأة تقول لابنتها اختبري زوجك قبل الإقدام والجراءة عليه انزعي زج رمحه فإن سكت فقطعي اللحم على ترسه فإن سكت فكسري العظام بسيفه فإن سكت فاجعلي الإكاف على ظهره وامتطيه فإنما هو حمارك
وعلى الجملة فبالعدل قامت السموات وَالْأَرْضُ فَكُلُّ مَا جَاوَزَ حَدَّهُ انْعَكَسَ عَلَى ضده فينبغي أن تسلك سبيل الاقتصاد في المخالفة والموافقة وتتبع الحق في جميع ذلك لتسلم من شرهن فإن كيدهن عظيم وشرهن فاش والغالب عليهن سوء الخلق وركاكة العقل وَلَا يَعْتَدِلُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ إِلَّا بِنَوْعِ لُطْفٍ ممزوج بسياسة
وقال صلى الله عليه وسلم مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم بين مائة غراب (1)
والأعصم يعني الأبيض البطن
وفي وصية لقمان لابنه يا بني اتق المرأة السوء فإنها تشيبك قبل الشيب واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير وكن من خيارهن على حذر
وقال صلى الله عليه وسلم استعيذوا من الفواقر الثلاث (2)
وعد منهن المرأة السوء فإنها المشيبة قبل الشيب
وفي لفظ آخر إن دخلت عليها سبتك وإن غبت عنها خانتك وقد قال صلى الله عليه وسلم في خيرات النساء إنكن صواحبات يوسف (3)
يعني إن صرفكن أبا بكر عن التقدم في الصلاة ميل منكن عن الحق إلى الهوى
قال الله تعالى حين أفشين سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما أي مالت وقال ذلك في خير أزواجه (4)
وقال صلى الله عليه وسلم لا يفلح قوم تملكهم امرأة (5) حَدِيثِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن تتبع عورات النساء رواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر نهى أن تتطلب عثرات النساء والحديث عند مسلم بلفظ نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا يخونهم أو يطلب عثراتهم واقتصر البخاري منه على ذكر النهي عن الطروق ليلا
وفي لفظ آخر
_________
(1) حديث مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم بين مائة غراب رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف ولأحمد من حديث عمرو بن العاص كنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمر الظهران فإذا بغربان كثيرة فيها غراب أعصم أحمر المنقار فقال لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب في هذه الغربان وإسناده صحيح وهو في السنن الكبرى للنسائي
(2) حديث استعيذوا من الفواقر الثلاث وعد منهن المرأة السوء فإنها المشيبة قبل الشيب وفي لفظ آخر إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها خانتك رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف واللفظ الآخر رواه الطبراني من حديث فضالة بن عبيد ثلاث من الفواقر وذكر منها وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك وسنده حسن
(3) حديث إنكن صواحبات يوسف متفق عليه من حديث عائشة
(4) حديث نزول قوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما في خير أزواجه متفق عليه من حديث عمر والمرأتان عائشة وحفصة
(5) حديث لا يفلح قوم تملكهم امرأة رواه البخاري من حديث أبي بكرة نحوه
وقد زبر عمر رضي الله عنه امرأته لما راجعته وقال ما أنت إلا لعبة في جانب البيت إن كانت لنا إليك حاجة وإلا جلست كما أنت فإذن فيهن شر وفيهن ضعف فالسياسة والخشونة علاج الشر والمطايبة والرحمة علاج الضعف فالطبيب الحاذق هو الذي يقدر العلاج بقدر الداء فلينظر الرجل أولاإلى أخلاقها بالتجربة ثم ليعاملها بما يصلحها كما يقتضيه حَالُهَا
الْخَامِسُ الِاعْتِدَالُ فِي الْغَيْرَةِ وَهُوَ أَنْ لا يتغافل عن مبادي الْأُمُورِ الَّتِي تُخْشَى غَوَائِلُهَا وَلَا يُبَالِغَ فِي إِسَاءَةِ الظَّنِّ وَالتَّعَنُّتِ وَتَجَسُّسِ الْبَوَاطِنِ فَقَدَ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتبع عورات النساء(2/45)
أَنْ تُبْغَتَ النِّسَاءُ
وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرِهِ قَالَ قَبْلَ دُخُولِ الْمَدِينَةِ لَا تَطْرُقُوا النِّسَاءَ لَيْلًا فَخَالَفَهُ رَجُلَانِ فَسَبَقَا فَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي منزله ما يكره (1)
وفي الخبر المشهور المرأة كالضلع إن قومته كسرته فدعه تستمتع به على عوج (2)
وهذا في تهذيب أخلاقها
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ غَيْرَةً يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ غَيْرَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ (3)
لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ الَّذِي نُهِينَا عنه فإن بعض الظن إثم
وقال علي رضي الله عنه لا تكثر الغيرة على أهلك فترمي بالسوء من أجلك
وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فِي مَحَلِّهَا فَلَا بُدَّ مِنْهَا وهي محمودة
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله تعالى يغار والمؤمن يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي الرجل المؤمن ما حرم الله عليه (4)
وقال صلى الله عليه وسلم أتعجبون من غيرة سعد أنا والله أغير منه والله أغير مني (5)
ولأجل غيرة الله تعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله ولذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولأجل ذلك وعد الجنة
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيت ليلةً أسري بي في الجنة قصراً وبفنائه جارية فقلت لمن هذا القصر فقيل لعمر فأردت أن أنظر إليها فذكرت غيرتك يا عمر فبكى عمر وقال أعليك أغار يا رسول الله (6)
وكان الحسن يقول أتدعون نساءكم ليزاحمن العلوج في الأسواق قبح الله من لا يغار وقال عليه الصلاة والسلام إن من الغيرة ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله ومن الخيلاء ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة والغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة والاختيال الذي يحبه الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدمة والاختيال الذي يبغضه الله الاختيال في الباطل (7)
وقال صلى الله عليه وسلم إني لغيور وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب (8)
والطريق المغني عن الغيرة أن لا يدخل عليها الرجال وهي لا تخرج إلى الأسواق
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنته فاطمة عليها السلام أي شيء خير للمرأة قالت أن لا ترى رجلا ولا يراها رجل فضمها إليه وقال ذرية بعضها من بعض (9)
فاستحسن قولها
وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يسدون الكوى والثقب في الحيطان لئلا تطلع النسوان إلى الرجال
ورأى معاذ امرأته تطلع في الكوة فضربها ورأى امرأته قد دفعت إلى غلامه تفاحة قد أكلت منها فضربها
وقال عمر رضي الله عنه أعروا النساء يلزمن الحجال وإنما قال ذلك لأنهن لا يرغبن في
_________
(1) حديث أنه قال قبل دخول المدينة لا تطرقوا أهلكم ليلا فخالفه رجلان فسعيا إلى منازلهما فرأى كل واحد في بيته ما يكره رواه أحمد من حديث ابن عمر بسند جيد
(2) حديث المرأة كالضلع إن أردت تقيمه كسرتهالحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(3) حديث غيرة يبغضها الله وَهِيَ غَيْرَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ ريبة رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث جابر بن عتيك
(4) حديث الله يغار والمؤمن يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي الرجل المؤمن ما حرم الله عليه متفق عليه من حديث أبي هريرة ولم يقل البخاري والمؤمن يغار
(5) حديث أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغيره منيالحديث متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة
(6) حديث رأيت ليلةً أسري بي في الجنة قصراً وبفنائه جارية فقلت لمن هذا القصر فقيل لعمرالحديث متفق عليه من حديث جابر دون ذكر ليلة أسري بي ولم يذكر الجارية وذكر الجارية في آخر متفق عليه من حديث أبي هريرة بينما أنا نائم رأيتني في الجنة الحديث
(7) حديث إن من الغيرة ما يحبه الله تعالى ومنها ما يبغضه الله تعالى الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث جابر بن عتيك وهو الذي تقدم قبله بأربعة أحاديث
(8) حديث إني لغيور وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب تقدم أوله وأما آخره فرواه أبو عمر التوقاني في كتاب معاشرة الأهلين من رواية عبد الله بن محمد مرسلا والظاهر أنه عبد الله بن الحنفية
(9) حديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنته فاطمة أي شيء خير للمرأة فقالت أن لا ترى رجلاالحديث رواه البزار والدارقطني في الأفراد من حديث علي بسند ضعيف(2/46)
الخروج في الهيئة الرثة
وقال عودوا نساءكم لا وَكَانَ قَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم للنساء في حضور المسجد (1)
والصواب الآن المنع إلا العجائز بل استصوب ذلك في زمان الصحابة حتى قالت عائشة رضي الله عنها لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن من الخروج (2)
ولما قال ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لاتمنعوا إماء الله مساجد الله فقال بعض ولده بلى والله لنمنعهن فضربه وغضب عليه وقال تسمعني أقول قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تمنعوا فتقول بلى (3)
وإنما استجرأ على المخالفة لعلمه بتغير الزمان وإنما غضب عليه لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهراً من غير إظهار العذر وكذلك كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أذن لهن في الأعياد خاصة أن يخرجن (4)
ولكن لا يخرجن إلا برضا أزواجهن والخروج الآن مباح للمرأة العفيفة برضا زَوْجِهَا وَلَكِنَّ الْقُعُودَ أَسْلَمُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا لِمُهِمٍّ فَإِنَّ الْخُرُوجَ لِلنِّظَارَاتِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مُهِمَّةً تَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فَإِذَا خَرَجَتْ فَيَنْبَغِي أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا عَنِ الرِّجَالِ وَلَسْنَا نَقُولُ إِنَّ وَجْهَ الرَّجُلِ فِي حَقِّهَا عَوْرَةٌ كَوَجْهِ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّهِ بَلْ هُوَ كَوَجْهِ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَيَحْرُمُ النَّظَرُ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَقَطْ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فَلَا إِذْ لَمْ يَزَلِ الرِّجَالُ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَانِ مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات وَلَوْ كَانَ وُجُوهُ الرِّجَالِ عَوْرَةً فِي حَقِّ النساء لأمروا بالتنقب أَوْ مُنِعْنَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ
السَّادِسُ الِاعْتِدَالُ فِي النَّفَقَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَتِّرَ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِنْفَاقِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرِفَ بَلْ يَقْتَصِدَ
قَالَ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عنقك ولا تبسطها كل البسط} وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيركم خيركم لأهله (5)
وقال صلى الله عليه وسلم دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك (6)
وقيل كان لعلي رضي الله عنه أربع نسوة فكان يشتري لكل واحدة في كل أربعة أيام لحماً بدرهم وقال الحسن رضي الله عنه كانوا في الرجال مخاصيب والإناث والثياب مجاديب
وقال ابْنُ سِيرِينَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْمَلَ لِأَهْلِهِ في كل جمعة فالوذجة وكأن الحلاوة وإن لم تكن من المهمات ولكن تركها بالكلية تقتير في العادة وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهَا بِالتَّصَدُّقِ بِبَقَايَا الطَّعَامِ وَمَا يَفْسُدُ لَوْ تُرِكَ فَهَذَا أَقَلُّ دَرَجَاتِ الْخَيْرِ وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَالِ مِنْ غير صريح إِذْنٍ مِنَ الزَّوْجِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَنْ أَهْلِهِ بِمَأْكُولٍ طَيِّبٍ فَلَا يُطْعِمُهُمْ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوغِرُ الصُّدُورَ وَيَبْعُدُ عَنِ المعاشرة بالمعروف فإن كان مزمعاً على ذلك فليأكله بخفية بحيث لا يعرف أهله وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِفَ عِنْدَهُمْ طَعَامًا لَيْسَ يُرِيدُ إِطْعَامَهُمْ إِيَّاهُ وَإِذَا أَكَلَ فَيُقْعِدُ الْعِيَالَ كلهم على مائدته فقد قال سفيان رضي الله عنه بلغنا أن الله وملائكته يصلون على أهل بيت يأكلون جماعة وَأَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاتُهُ فِي الْإِنْفَاقِ أَنْ يُطْعِمَهَا مِنَ الْحَلَالِ وَلَا يَدْخُلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ لِأَجْلِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا لَا مراعاة لها وقد أوردنا الأخبار الواردة في ذلك عند ذكر آفات النكاح
_________
(1) حديث الإذن للنساء في حضور المساجد متفق عليه من حديث ابن عمر ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد
(2) حديث قالت عائشة لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن من الخروج متفق عليه قال البخاري لمنعهن من المساجد
(3) حديث ابن عمر لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فقال بعض ولده بلى والله الحديث متفق عليه
(4) حديث الإذن لهن في الخروج في الأعياد متفق عليه من حديث أم عطية
(5) حديث خيركم خيركم لأهله أخرجه الترمذي من حديث عائشة وصححه وقد تقدم
(6) حديث دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الدينار الذي أنفقته على أهلك أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة(2/47)
السَّابِعُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُتَزَوِّجُ مِنْ عِلْمِ الْحَيْضِ وَأَحْكَامِهِ مَا يَحْتَرِزُ بِهِ الِاحْتِرَازَ الْوَاجِبَ وَيُعَلِّمَ زوجته أحكام الصلاة وما يقضى منها في الحيض وما لا يقضى فإنه أمر بأن يقيها النار بقوله تعالى {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} فعليه أن يلقنها اعتقاد أهل السنة ويزيل عن قلبها كل بدعة إن استمعت إليها ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة ما تحتاج إليه وعلم الاستحاضة يطول فأما الذي لا بد من إرشاد النساء إليه في أمر الحيض بيان الصلوات التي تقضيها فإنها مهما انقطع دمها قبيل المغرب بمقدار ركعة فعليها قضاء الظهر والعصر وإذا انقطع قبل الصبح بمقدار ركعة فعليها قضاء المغرب والعشاء وهذا أقل ما يراعيه النساء فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ قَائِمًا بِتَعْلِيمِهَا فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ لِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَصُرَ عِلْمُ الرَّجُلِ وَلَكِنْ نَابَ عَنْهَا فِي السُّؤَالِ فَأَخْبَرَهَا بِجَوَابِ المفتي فليس لها خروج فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَهَا الْخُرُوجُ لِلسُّؤَالِ بل عليها ذلك ويعصي الرجل بمنعها ومهما تعلمت ما هو من الفرائض عليها فليس لها أن تخرج إلى مجلس ذكر ولا إلى تعلم فضل إلا برضاه ومهما أهملت المرأة حكماً من أحكام الحيض والاستحاضة ولم يعلمها الرجل حرج الرجل معها وشاركها في الإثم
الثَّامِنُ إِذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ وَلَا يَمِيلَ إِلَى بَعْضِهِنَّ فَإِنْ خَرَجَ إِلَى سَفَرٍ وَأَرَادَ اسْتِصْحَابَ وَاحِدَةٍ أَقْرَعَ بينهن (1)
كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنْ ظَلَمَ امْرَأَةً بِلَيْلَتِهَا قَضَى لَهَا فَإِنَّ القضاء واجب عليه وعند ذلك يحتاج إلى معرفة أحكام القسم وذلك يطول ذكره وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى وفي لفظ ولم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل (2)
وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْعَدْلُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَبِيتِ وَأَمَّا فِي الْحُبِّ وَالْوِقَاعِ فَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الاختيار
قال الله تعالى {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} أي أن تعدلوا في شهوة القلب وميل النفس ويتبع ذلك التفاوت في الوقاع
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بينهن في العطاء والبيتوتة في الليالي ويقول اللهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك (3)
يعني الحب
وقد كانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه (4)
وسائر نسائه يعرفن ذلك
وكان يُطَافُ بِهِ مَحْمُولًا فِي مَرَضِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَكُلِّ لَيْلَةٍ فَيَبِيتُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهن ويقول أين أنا غداً ففطنت لذلك امرأة منهن فقالت إنما يسأل عن يوم عائشة فقلن يا رسول الله قد أذنا لك أن تكون في بيت عائشة فإنه يشق عليك أن تحمل في كل ليلة فقال وقد رضيتن بذلك فقلن نعم قال فحولوني إلى بيت عائشة (5)
ومهما وهبت واحدة ليلتها لصاحبتها ورضي الزوج بذلك ثبت الحق لها
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بين نسائه فقصد أن يطلق سودة بنت زمعة لما كبرت
_________
(1) حديث القرعة بين أزواجه إذا أراد سفرا متفق عليه من حديث عائشة
(2) حديث من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى وفي لفظ آخر لم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل أخرجه أصحاب السنن وابن حبان من حديث أبي هريرة قال أبو داود وابن حبان فمال مع إحداهما وقال الترمذي فلم يعدل بينهما
(3) حديث كان يعدل بينهن ويقول اللهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك أخرجه أصحاب السنن وابن حبان من حديث عائشة نحوه
(4) حديث كانت عائشة أحب نسائه إليه متفق عليه من حديث عمرو بن العاص أنه قال أي الناس أحب إليك يا رسول الله قال عائشة وقد تقدم
(5) حديث كان يطاف به محمولاً في مرضه كل يوم وليلة فيبيت عند كل واحدة ويقول أين أنا غداالحديث رواه ابن سعد في الطبقات من رواية محمد بن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه وهو مريض يقسم بينهن وفي مرسل آخر له لما ثقل قال أين أنا غدا قالوا عند فلانة قال فأين أنا بعد غد قالوا عند فلانة فعرف أزواجه أنه يريد عائشة الحديث وللبخاري من حديث عائشة كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء وفي الصحيحين لما ثقل استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له(2/48)
فوهبت ليلتها لعائشة وسألته أن يقرها على الزوجية حتى تحشر في زمرة نسائه فتركها وكان لا يقسم لها ويقسم لعائشة ليلتين ولسائر أزواجه ليلةً ليلةً (1)
ولكنه صلى الله عليه وسلم عدله وقوته كان إذا تاقت نفسه إلى واحدة من النساء في غير نوبتها فجامعها طاف في يومه أو ليلته على سائر نسائه فمن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة واحدة (2)
وعن أنس أنه صلى الله عليه وسلم طاف على تسع نسوة في ضحوة نهار (3)
التاسع فِي النُّشُوزِ وَمَهْمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا خِصَامٌ وَلَمْ يَلْتَئِمْ أَمْرُهُمَا فَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِهِمَا جَمِيعًا أَوْ مِنَ الرَّجُلِ فَلَا تُسَلِّطُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ حَكَمَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِهِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِهَا لِيَنْظُرَا بَيْنَهُمَا وَيُصْلِحَا أَمْرَهُمَا {إِنْ يُرِيدَا إصلاحاً يوفق الله بينهما} وقد بعث عمر رضي الله عنه حكما إلى زوجين فعاد ولم يصلح أمرهما فعلاه بالدرة وقال إن الله تعالى يقول {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} فعاد الرجل وأحسن النية وتلطف بهما فأصلح بينهما
وَأَمَّا إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنَ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً فالرجال قوامون على النِّسَاءِ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا وَيَحْمِلَهَا عَلَى الطَّاعَةِ قهراً وكذا إذا كانت تاركة للصلاة فله حملها على الصلاة قَهْرًا وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَدَرَّجَ فِي تَأْدِيبِهَا وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ أَوَّلًا الْوَعْظَ وَالتَّحْذِيرَ وَالتَّخْوِيفَ فَإِنْ لَمْ يَنْجَحْ وَلَّاهَا ظَهْرَهُ فِي الْمَضْجَعِ أَوِ انْفَرَدَ عَنْهَا بِالْفِرَاشِ وَهَجَرَهَا وَهُوَ فِي الْبَيْتِ مَعَهَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَى ثَلَاثِ لَيَالٍ
فَإِنْ لَمْ يَنْجَحْ ذَلِكَ فِيهَا ضَرَبَهَا ضَرْبًا غير مبرح بحيث يؤلمها ولا يكسر لها عظماً ولا يدمي لها جسم
ولا يضرب وجهها فذلك منهي عنه
وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الرجل قال يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى ولا يقبح الوجه ولا يضرب إلا ضرباً غير مبرح ولا يهجرها إلا في المبيت (4)
وله أن يغضب عليها ويهجرها في أمر من أمور الدين إلى عشر وإلى عشرين وإلى شهر
فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إلى زينب بهدية فردتها عليه
فقالت له التي هو في بيتها لقد أقمأتك إذ ردت عليك هديتك (5)
أي أذلتك واستصغرتك
فقال صلى الله عليه وسلم أنتن أهون على الله أن تقمئنني ثم غضب عليهن كلهن شهراً إلى أن عاد إليهن
العاشر في آداب الجماع
ويستحب أن يبدأ باسم الله تعالى ويقرأ قل هو الله أحد أولاً ويكبر ويهلل ويقول بسم الله العلي العظيم
اللهم اجعلها ذريةً طيبةً إن كنت قدرت أن تخرج ذلك من صلبي
وقال صلى الله عليه وسلم لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا
فإن كان بينهما ولد لم يضره
_________
(1) حديث كان يقسم بين نسائه فقصد أن يطلق سودة بنت زمعة لما كبرت فوهبت ليلتها لعائشة الحديث رواه أبو داود من حديث عائشة قالت سودة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله يومي لعائشة الحديث وللطبراني فأراد أن يفارقها وهو عند البخاري بلفظ لما كبرت سودة وهبت يومها لعائشة وكان يقسم لها بيوم سودة وللبيهقي مرسلا طلق سودة فقالت أريد أن أحشر في أزواجكالحديث
(2) حديث عائشة طاف على نسائه في ليلة واحدة متفق عليه بلفظ كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه ثم يصبح يمما ينضح طيبا
(3) حديث أنس انه طاف على تسع نسوة في ضحوة نهار رواه ابن عدي في الكامل وللبخاري كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة
(4) حديث قيل له ما حق المرأة على الرجل فقال يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى ولا يقبح الوجه ولا يضرب إلا ضرباً غير مبرح ولا يهجرها إلا في البيت رواه أبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجه من رواية معاوية بن حيدة بسند جيد وقال ولا يضرب الوجه ولا يقبح وفي رواية لأبي داود ولا تقبح الوجه ولا تضرب
(5) حديث هجره صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا لما أرسل بهدية إلى زينب فردتها فقالت له التي في بيتها لقد أقمأتك الحديث ذكره ابن الجوزي في الوفاء بغير إسناد وفي الصحيحين من حديث عمر كان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن وفي رواية من حديث جابر ثم اعتزلهن شهرا(2/49)
{الشيطان} (1)
وإذا قربت من الإنزال فقل في نفسك ولا تحرك شفتيك الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً
وكان بعض أصحاب الحديث يكبر حتى يسمع أهل الدار صوته ثم ينحرف عن القبلة ولا يستقبل القبلة بالوقاع إكراماً للقبلة وليغط نفسه وأهله بثوب كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغطي رأسه ويغض صوته ويقول للمرأة عليك بالسكينة (2)
وفي الخبر إذا جامع أحدكم أهله فلا يتجردان تجرد العيرين (3)
أي الحمارين وليقدم التلطف بالكلام والتقبيل قال صلى الله عليه وسلم لا يقعن أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة وليكن بينهما رسول قيل وما الرسول يا رسول الله قال القبلة والكلام (4)
وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث من العجز في الرجل أن يلقى من يحب معرفته فيفارقه قبل أن يعلم اسمه ونسبه والثاني أن يكرمه أحد فيرد عليه كرامته والثالث أن يقارب الرجل جاريته أو زوجته فيصيبها قبل أن يحدثها ويؤانسها ويضاجعها فيقضي حاجته منها قبل أن تقضي حاجتها منه (5)
ويكره له الجماع في ثلاث ليال من الشهر الأول والآخر والنصف
يقال إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي ويقال إن الشياطين يجامعون فيها وروي كراهة ذلك عن علي ومعاوية وأبي هريرة رضي الله عنهم
ومن العلماء من استحب الجماع يوم الجمعة وليلته تحقيقاً لأحد التأويلين من قوله صلى الله عليه وسلم رحم الله من غسل واغتسل (6)
الحديث
ثُمَّ إِذَا قَضَى وَطَرَهُ فَلْيَتَمَهَّلْ عَلَى أَهْلِهِ حتى تقضي هي أيضاً نهمتها فإن إنزالها ربما يتأخر فيهيج شهوتها ثم القعود عنها إيذاء لها والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافر مهما كان الزوج سابقاً إلى الإنزال والتوافق في وقت الإنزال ألذ عندها ليشتغل الرجل بنفسه عنها فإنها ربما تستحي
وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة فهو أعدل إذ عدد النساء أربعة فجاز التأخير إلى هذا الحد نعم ينبغي أن يزيد أو ينقص بحسب حاجتها في التحصين فإن تحصينها واجب عليه وإن كان لا يثبت المطالبة بالوطء فذلك لعسر المطالبة والوفاء بها ولا يأتيها في المحيض ولا بعد انقضائه وقبل الغسل فهو محرم بنص الكتاب وقيل إن ذلك يورث الجذام في الولد وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِجَمِيعِ بَدَنِ الْحَائِضِ وَلَا يَأْتِيَهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى إِذْ حَرُمَ غَشَيَانُ الحائض لأجل الأذى والأذى غَيْرِ الْمَأْتَى دَائِمٌ فَهُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ إِتْيَانِ الْحَائِضِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شئتم أي أَيِّ وَقْتٍ شِئْتُمْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْنِيَ بِيَدِيهَا وَأَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ بِمَا يَشْتَهِي سوى الوقاع
وينبغي أن تتزر المرأة بإزار من حقوها إلى فوق الركبة في حال الحيض فهذا من الأدب وَلَهُ أَنْ يُؤَاكِلَ الْحَائِضَ وَيُخَالِطَهَا فِي الْمُضَاجَعَةِ وغيرها وليس عليه اجتنابها وإن أراد أن يجامع ثانياً بعد أخرى فليغسل فرجه أولاً وإن احتلم فلا يجامع حتى يغسل فرجه أو يبول ويكره الجماع في أول الليل حتى لا ينام على غير طهارة فإن أراد النوم أو الأكل فليتوضأ أولا وضوء الصلاة فذلك سنة
قال ابن عمر قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب قال نعم إذا توضأ (7)
ولكن قد وردت فيه رخصة قالت عائشة رضي الله
_________
(1) حديث لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنبنا الشيطان الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس
(2) حديث كان يغطي رأسه ويغض صوته ويقول للمرأة عليك بالسكينة رواه الخطيب من حديث أم سلمة بسند ضعيف
(3) حديث إذا جامع أحدكم امرأته فلا يتجردان تجرد العيرين أخرجه ابن ماجة من حديث عتبة بن عبد بسند ضعيف
(4) حديث ولا يقعن أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة الحديث رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس وهو منكر
(5) حديث ثلاث من العجز في الرجل أن يلقى من يحب معرفته فيفارقه قبل أن يعرف اسمه الحديث رواه أبو منصور الديلمي من حديث أخصر منه وهو بعض الحديث الذي قبله
(6) حديث رحم الله من غسل واغتسل تقدم في الباب الخامس من الصلاة
(7) حديث ابن عمر قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب قال نعم إذا توضأ متفق عليه من حديثه أن عمر سأل لا أن عبد الله هو السائل(2/50)
عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام جنباً لم يمس ماء (1)
ومهما عاد إلى فراشه فليمسح وجه فراشه أو لينفضه فإنه لا يدري ما حدث عليه بعده ولا ينبغي أن يحلق أو يقلم أو يستحد أو يخرج الدم أو يبين من نفسه جزءاً وهو جنب إذ ترد إليه سائر أجزائه في الآخرة فيعود جنباً ويقال إن كل شعرة تطالبه بجنابتها ومن الآداب أن لا يعزل بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث وهو الرحم فَمَا مِنْ نَسَمَةٍ قَدَّرَ اللَّهُ كَوْنَهَا إِلَّا وهي كائنة (2)
هكذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن عزل فقد اختلف العلماء في إباحته وكراهته على أربع مذاهب فمن مبيح مطلقاً بكل حال ومن محرم بكل حال ومن قائل يحل برضاها ولا يحل دون رضاها وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل ومن قائل يباح في المملوكة دون الحرة
والصحيح عندنا أن ذلك مباح وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة فهو مكروه بالمعنى الثالث أي فيه ترك فضيلة كما يقال يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغاً لا يشتغل بذكر أو صلاة ويكره للحاضر في مكة مقيماً بها أن لا يحج كل سنة والمراد بهذه الكراهية ترك الأولى والفضيلة فقط وهذا ثابت لما بيناه من الفضيلة في الولد ولما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الرجل ليجامع أهله فيكتب له بجماعه أجر ولد ذكر قاتل في سبيل الله فقتل (3)
وإنما قال ذلك لأنه لو ولد له مثل هذا الولد لكان له أجر التسبب إليه مع أن الله تعالى خالقه ومحييه ومقويه على الجهاد والذي إليه من التسبب فقد فعله وهو الوقاع وذلك عند الإمناء في الرحم
وإنما قلنا لا كراهة بمعنى التحريم والتنزيه لأن إثبات النهي إنما يمكن بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا أصل يقاس عليه بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلاً أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي ولا فرق إذ الولد يتكون بوقوع النطفة في الرحم ولها أربعة أسباب النكاح ثم الوقاع ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع ثم الوقوف لينصب المني في الرحم وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض فالامتناع عن الرابع كالامتناع عن الثالث وكذا الثالث كالثاني والثاني كالأول وليس هذا كالإجهاض والوأد لأن ذلك جناية على موجود حاصل وله أيضاً مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية فإن صارت مضغةً وعلقةً كانت الجناية أفحش وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حياً
وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم لا من حيث الخروج من الإحليل لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده بل من الزوجين جميعاً إما من مائه ومائها أو من مائه ودم الحيض قال بعض أهل التشريح إن المضغة تخلق بتقدير الله من دم الحيض وإن الدم منها كاللبن من الرائب وإن النطفة من الرجل شرط في خثور دم الحيض وانعقاده كالأنفحة للبن إذ بها ينعقد الرائب وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانياً على العقد بالنقض والفسخ ومهما اجتمع الإيجاب والقبول كان الرجوع بعده رفعاً وفسخاً وقطعاً وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يمتزج بماء المرأة ودمها فهذا هو القياس الجلي
_________
(1) حديث عائشة كان ينام جنباً لم يمس ماء رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال يزيد بن هارون إنه وهم ونقل البيهقي عن الحافظ الطعن فيه قال وهو صحيح من جهة الرواية
(2) حديث ما مِنْ نَسَمَةٍ قَدَّرَ اللَّهُ كَوْنَهَا إِلَّا وَهِيَ كائنة متفق عليه من حديث أبي سعيد
(3) حديث إن الرجل ليجامع أهله فيكتب له من جماعة أجر ولد ذكر يقاتل في سبيل الله لم أجد له أصلا(2/51)
فإن قلت فإن لم يكن العزل مكروهاً من حيث أنه دفع لوجود الولد فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي فأقول النيات الباعثة على العزل خمس
الأولى في السراري وهو حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق ودفع أسبابه ليس بمنهي عنه
الثانية اسْتِبْقَاءُ جَمَالِ الْمَرْأَةِ وَسِمَنِهَا لِدَوَامِ التَّمَتُّعِ وَاسْتِبْقَاءُ حياتها خوفاً من خطر الطلق وهذا أيضاً ليس منهياً عنه
الثالثة الْخَوْفُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَجِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْأَوْلَادِ وَالِاحْتِرَازُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّعَبِ فِي الْكَسْبِ ودخول مداخل السوء وهذا أيضاً غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضاً للتوكل لا نقول إنه منهي عنه
الرابعة الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث فهذه نية فاسدة لو ترك بسببها أصل النكاح أو أصل الوقاع أثم بها لا بترك النكاح والوطء فكذا في العزل والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافاً من أن يعلوها رجل فكانت تتشبه بالرجال ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح
الخامسة أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع وكان ذلك عادة نساء الخوارج لمبالغتهن في استعمال المياه حتى كن يقضين صلوات أيام الحيض ولا يدخلن الخلاء إلا عراة فهذه بدعة تخالف السنة فهي نية فاسدة واستأذنت واحدة منهن على عائشة رضي الله عنها لما قدمت البصرة فلم تأذن لها فيكون القصد هو الفاسد دون منع الولادة
فإن قلت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا ثلاثاً (1)
قلت فالعزل كترك النكاح
وقوله ليس منا أي ليس موافقاً لنا على سنتنا وطريقتنا وسنتنا فعل الأفضل
فإن قلت فقد قال صلى الله عليه وسلم في العزل ذاك الوأد الخفي وقرأ وإذا الموءودة سئلت (2)
وهذا في الصحيح
قلنا وفي الصحيح أيضا أخبار صحيحة (3)
في الإباحة وقوله الوأد الخفي كقوله الشرك الخفي وذلك يوجب كراهة لا تحريماً
فإن قلت فقد قال ابن عباس العزل هو الوأد الأصغر فإن الممنوع وجوده به هو الموءودة الصغرى
قلنا هذا قياس منه لدفع الوجود على قطعه وهو قياس ضعيف ولذلك أنكره عليه علي رضي الله عنه لما سمعه قال ولا تكون موءودة إلا بعد سبع أي بعد الأخرى سبعة أطوار وتلا الآية الواردة في أطوار الخلقة وهي قوله تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إلى قوله ثم أنشأناه خلقاً آخر أي نفخنا فيه الروح ثم تلا قوله تعالى في الآية وإذا الموءودة سئلت وإذا نظرت إلى ما قدمناه في طريق القياس والاعتبار ظهر لك تفاوت منصب علي وابن عباس رضي الله عنهما في الغوص على المعاني ودرك
_________
(1) حديث من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا تقدم في أوائل النكاح
(2) حديث قال صلى الله عليه وسلم في العزل ذاك الوأد الخفي أخرجه مسلم من حديث جذامة بنت وهب
(3) أحاديث إباحة العزل رواها مسلم من حديث أبي سعيد أنهم سألوه عن العزل فقال لا عليكم أن لا تفعلوه ورواه النسائي من حديث أبي صرمة وللشيخين من حديث جابر كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم زاد مسلم فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فلم ينهنا وللنسائي من حديث أبي هريرة سئل عن العزل فقيل اليهود تزعم أنها الموءودة الصغرى فقال كذبت يهود قال البيهقي رواة الإباحة أكثر وأحفظ(2/52)
العلوم كيف وفي المتفق عليه في الصحيحين على جابر أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ كُنَّا نَعْزِلُ فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ ينهنا (1)
وفيه أيضاً عن جابر أنه قال إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية خادمتنا وساقيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال صلى الله عليه وسلم اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها فلبث الرجل ما شاء الله ثم أتاه فقال إن الجارية قد حملت فقال قد قلت سيأتيها ما قدر لها (2)
كل ذلك في الصحيحين
الْحَادِيَ عَشَرَ فِي آدَابِ الْوِلَادَةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ
الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكْثُرَ فَرَحُهُ بِالذَّكَرِ وَحُزْنُهُ بالأنثى فإنه لا يدري الخيرة فِي أَيِّهِمَا فَكَمْ مِنْ صَاحِبِ ابْنٍ يَتَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَوْ يَتَمَنَّى أَنْ يكون بنتاً بل السلامة منهن أكثر والثواب فيهن اجزل قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها وغذاها فأحسن غذائها وأسبغ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه كانت له ميمنة وميسرة من النار إلى الجنة (3)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من أحد يدرك ابنتين فيحسن إليهما ما صحبتاه إلا أدخلتاه الجنة (4)
وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ أَوْ أُخْتَانِ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ في الجنة كهاتين (5)
وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من خرج إلى سوق من أسواق المسلمين فاشترى شيئاً فحمله إلى بيته فخص به الإناث دون الذكور نظر الله إليه ومن نظر الله إليه لم يعذبه (6)
وعن أنس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حمل طرفة من السوق إلى عياله فكأنما حمل إليهم صدقة حتى يضعها فيهم وليبدأ بالإناث قبل الذكور فإنه من فرح أنثى فكأنما بكى من خشية الله ومن بكى من خشيته حرم الله بدنه على النار (7)
وقال أبو هريرة قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ ثلاث بنات أو أخوات فصبر على لأوائهن وضرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن فقال رجل وثنتان يا رسول الله قال وثنتان فقال رجل أو واحدة فقال وواحدة (8)
الأدب الثاني أن يؤذن في أذن الولد روى رافع عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة رضي الله عنها (9)
وروي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى دفعت عنه أم الصبيان (10)
ويستحب أن يلقنوه أول انطلاق لسانه
_________
(1) حديث جابر المتفق عليه في الصحيحين كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فلم ينهنا هو كما ذكر متفق عليه إلا أن قوله فلم ينهنا انفرد بها مسلم
(2) حديث جابر أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية وهي خادمتنا وساقيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال اعزل عنها إن شئتالحديث ذكر المصنف أنه في الصحيحين وليس كذلك وإنما انفرد به مسلم
(3) حديث من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وغذاها فأحسن غذاءهاالحديث أخرجه الطبراني في الكبير والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
(4) حديث ابن عباس ما من أحد يدرك ابنتين فيحسن إليهما ما صحبتاه إلا أدخلتاه الجنة أخرجه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد
(5) حديث أنس مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ أَوْ أُخْتَانِ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الجنة كهاتين رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق بسند ضعيف ورواه الترمذي بلفظ من عال جاريتين وقال حسن غريب
(6) حديث أنس من خرج إلى سوق من أسواق المسلمين فاشترى شيئاً فحمله إلى بيته فخص به الإناث دون الذكور نظر الله إليه ومن نظر الله إليه لم يعذبه أخرجه الخرائطي بسند ضعيف
(7) حديث أنس من حمل طرفة من السوق إلى عياله فكأنما حمل إليهم صدقة أخرجه الخرائطي بسند ضعيف جدا وأخرجه ابن عدي في الكامل وقال ابن الجوزي حديث موضوع
(8) حديث أبي هريرة من كانت له ثلاث بنات أو أخوات فصبر على لأوائهن الحديث رواه الخرائطي واللفظ له والحاكم ولم يقل أو أخوات وقال صحيح الإسناد
(9) حديث أبي رافع رأيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ في أذن الحسين حين ولدته فاطمة أخرجه أحمد واللفظ له وأبو داود والترمذي وصححه إلا أنهما قالا الحسن مكبرا وضعفه ابن القطان
(10) حديث من ولد له مولود وأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى رفعت عنه أم الصبيان أبو يعلى الموصلي وابن السني في اليوم والليلة والبيهقي في شعب الإيمان من حديث الحسين بن علي بسند ضعيف(2/53)
لا إله إلا الله ليكون أول حديثه والختان في اليوم السابع ورد به خبر (1)
الأدب الثالث أن تسميه اسماً حسناً فذلك من حق الولد
وقال صلى الله عليه وسلم إذا سميتم فعبدوا (2)
وقال صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن (3)
وقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي (4) قال العلماء كان ذلك في عصره صلى الله عليه وسلم إذ كان ينادى يا أبا القاسم والآن فلا بأس نعم لا يجمع بين اسمه وكنيته وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تجمعوا بين اسمي وكنيتي
وقيل إن هذا أيضاً كان في حياته وتسمى رجل أبا عيسى فقال صلى الله عليه وسلم إن عيسى لا أب له (5)
فيكره ذلك والسقط ينبغي أن يسمى
قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بلغني أن السقط يصرخ يوم القيامة وراء أبيه فيقول أنت ضيعتني وتركتني لا اسم لي فقال عمر بن عبد العزيز كيف وقد لا يدري إنه غلام أو جارية فقال عبد الرحمن من الأسماء ما يجمعهما كحمزة وعمارة وطلحة وعتبة وقال صلى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم (6)
ومن كان له اسم يكره يستحب تبديله أبدل رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم العاص بعبد الله (7)
وكان اسم زينب برة فقال صلى الله عليه وسلم تزكي نفسها فسماها زينب (8)
وكذلك ورد النهي في تسمية أفلح ويسار ونافع وبركة (9)
لأنه يقال أثم بركة فيقال لا
الرَّابِعُ الْعَقِيقَةُ عَنِ الذَّكَرِ بِشَاتَيْنِ وَعَنِ الْأُنْثَى بشاة ذكراً كان أو أنثى
وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في الغلام أن يعق بشاتين مكافئتين وفي الجارية بشاة (10)
وروي أنه عق عن الحسن بشاة (11)
وهذا رخصة في الاقتصار على واحدة وقال صلى الله عليه وسلم مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى (12)
ومن السنة أن يتصدق بوزن شعره ذهباً أو فضةً فقد ورد فيه خبر أنه صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها يوم سابع حسين أن تحلق شعره وتتصدق بزنة شعره فضة (13)
_________
(1) حديث الختان في اليوم السابع رواه الطبراني في الصغير من حديث جابر بسند ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام وإسناده ضعيف واختلف في إسناده فقيل عبد الملك بن إبراهيم بن زهير عن أبيه عن جده
(2) حديث إذا سميتم فعبدوا رواه الطبراني من حديث عبد الملك ابن أبي زهير عن أبيه معاذ وصحح إسناده والبيهقي من حديث عائشة
(3) حديث أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن أخرجه مسلم من حديث ابن عمر
(4) حديث سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي متفق عليه من حديث جابر وفي لفظ تسموا
(5) حديث لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي رواه أحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة ولأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان من حديث جابر من سمى باسمى فلا يتكنى بكنيتي ومن تكنى بكنيتى فلا يتسمى باسمي حديث إن عيسى لا أب له أخرجه أبو عمر التوقاني في كتاب معاشرة الأهلين من حديث ابن عمر بسند ضعيف ولأبي داود أن عمر ضرب ابنا له تكنى أبا عيسى وأنكر على المنيرة بن شعبة تكنيه بأبي عيسى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كناني وإسناده صحيح
(6) حديث إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء قال النووي بإسناد جيد وقال البيهقي أنه مرسل
(7) حديث بدل رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم العاص بعبد الله رواه البيهقي من حديث عبد الله بن الحارث ابن جزء الزبيدي بسند صحيح
(8) حديث قال صلى الله عليه وسلم لزينب وكان اسمها برة تزكي نفسها فسماها زينب متفق عليه من حديث أبي هريرة
(9) حديث النهي في تسمية أفلح ويسار ونافع وبركة أخرجه مسلم من حديث سمرة بن جندب إلا أنه جعل مكان بركة رباحا وله من حديث جابر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بيعلى وبركة الحديث
(10) حديث عائشة أمر في الغلام بشاتين مكافئتين وفي الجارية بشاة أخرجه الترمذي وصححه
(11) حديث عق عن الحسن بشاة أخرجه الترمذي من حديث علي وقال ليس إسناده بمتصل ووصله الحاكم إلا أنه قال حسين ورواه أبو داود من حديث ابن عباس إلا أنه قال كبشا
(12) حديث مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى أخرجه البخاري من حديث سلمان بن عامر الضبي
(13) حديث أمر فاطمة يوم سابع حسين أن يحلق شعره ويتصدق بزنة شعره فضة أخرجه الحاكم وصححه من حديث علي وهو عند الترمذي منقطع بلفظ {حسن} وقال ليس إسناده بمتصل ورواه أحمد من حديث أبي رافع(2/54)
قالت عائشة رضي الله عنهما لا يكسر للعقيقة عظم
الخامس أن يحنكه بتمرة أو حلاوة وروي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت ولدت عبد الله بن الزبير بقباء ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه (1)
فكان أول شيء دخل جوفه ربق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حنكه بتمرة ثم دعا له وبرك عليه وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم
الثاني عشر في الطلاق وليعلم أنه مباح ولكنه أَبْغَضُ الْمُبَاحَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَكُونُ مباحاً إذا لم يكن فيه إِيذَاءٌ بِالْبَاطِلِ وَمَهْمَا طَلَّقَهَا فَقَدْ آذَاهَا وَلَا يُبَاحُ إِيذَاءُ الْغَيْرِ إِلَّا بِجِنَايَةٍ مِنْ جَانِبِهَا أو بضرورة من جانبه قال الله تَعَالَى {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أَيْ لَا تَطْلُبُوا حِيلَةً لِلْفِرَاقِ وَإِنْ كَرِهَهَا أبوه فليطلقها
قال ابن عمر رضي الله عنهما كان تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها ويأمرني بطلاقها فراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن عمر طلق امرأتك (2)
فهذا يدل على أن حق الوالد مقدم ولكن والد يكرهها لا لغرض فاسد مثل عمر وَمَهْمَا آذَتْ زَوْجَهَا وَبَذَتْ عَلَى أَهْلِهِ فَهِيَ جَانِيَةٌ وَكَذَلِكَ مَهْمَا كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ أَوْ فاسدة الدين
قال ابن مسعود في قوله تعالى {ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} مهما بذت على أهله وآذت زوجها فهو فاحشة وهذا أريد به في العدة ولكنه تنبيه على المقصود
وَإِنْ كَانَ الْأَذَى مِنَ الزَّوْجِ فَلَهَا أَنْ تفتدي ببذل مال يكره لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى فَإِنَّ ذَلِكَ إِجْحَافٌ بِهَا وَتَحَامُلٌ عَلَيْهَا وَتِجَارَةٌ عَلَى الْبُضْعِ
قَالَ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فيما افتدت به} فَرَدُّ مَا أَخَذَتْهُ فَمَا دُونَهُ لَائِقٌ بِالْفِدَاءِ فَإِنْ سَأَلَتِ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ مَا بَأْسٍ فَهِيَ آثمة قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس لم ترح رائحة الجنة (3)
وفي لفظ آخر فالجنة عليها حرام وفي لفظ آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال المختلعات هن المنافقات (4)
ثُمَّ لِيُرَاعِ الزَّوْجُ فِي الطَّلَاقِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ
الْأَوَّلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ الذي جامع يدعى حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُرَاجِعْهَا طلق ابن عمر زوجته في الحيض فقال صلى الله عليه وسلم لعمر مره فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (5)
وإنما أمره بالصبر بعد الرجعة طهرين لئلا يكون مقصود الرجعة الطلاق فقط
الثاني أن يقتصر على طلقة واحدة فلا يجمع بين الثلاث لأن الطلقة الواحدة بعد العدة تُفِيدُ الْمَقْصُودَ وَيَسْتَفِيدُ بِهَا الرَّجْعَةَ إِنْ نَدِمَ في العدة وتجديد النكاح إن أراد بعد الْعِدَّةِ وَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا رُبَّمَا نَدِمَ فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مُحَلِّلٌ وَإِلَى الصَّبْرِ مُدَّةً وَعَقْدُ الْمُحَلِّلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَكُونُ هُوَ السَّاعِيَ فيه ثم يكون قلبه معلقاً بزوجة الغير وتطليقه أعني زوجة المحلل بعد أن زوج منه ثم يورث ذلك تنفيراً من الزوجة وكل ذلك ثمرة الجمع وفي الواحدة
_________
(1) حديث أسماء ولدت عبد الله بن الزبير بقباء ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة ثم تفل في فيهالحديث متفق عليه
(2) حديث ابن عمر كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني بطلاقها الحديث رواه أصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح
(3) حديث أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس لم ترح رائحة الجنة وفي لفظ فالجنة عليها حرام رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان من حديث ثوبان
(4) حديث المختلعات هن المنافقات رواه النسائي من حديث أبي هريرة وقال لم يسمع الحسن من أبي هريرة قال ومع هذا لم أسمعه إلا من حديث أبي هريرة قلت رواه الطبراني من حديث عقبة بن عامر بسند ضعيف
(5) حديث طلق ابن عمر زوجته في الحيض فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر مره فليراجعها الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر(2/55)
كفاية في المقصود من غير محذور ولست أقول الجمع حرام لكنه مكروه بهذه المعاني وأعني بالكراهة تركه النظر لنفسه
الثَّالِثُ أَنْ يَتَلَطَّفَ فِي التَّعَلُّلِ بِتَطْلِيقِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ وَاسْتِخْفَافٍ وَتَطْيِيبِ قَلْبِهَا بِهَدِيَّةٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِمْتَاعِ وَالْجَبْرِ لِمَا فَجَعَهَا بِهِ مِنْ أذى الفراق
قال تعالى {ومتعوهن} وذلك واجب مهما لم يسم لها مهر في أصل النكاح
كان الحسن بن علي رضي الله عنهما مطلاقاً ومنكاحاً ووجه ذات يوم بَعْضَ أَصْحَابِهِ لِطَلَاقِ امْرَأَتَيْنِ مِنْ نِسَائِهِ وَقَالَ قُلْ لَهُمَا اعْتَدَّا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى كل واحدةً عشرة آلاف درهم ففعل فلما رجع إليه قال ماذا فعلتا قال أما إحداهما فنكست رأسها وتنكست وأما الأخرى فبكت وانتحبت وسمعتها تقول متاع قليل من حبيب مفارق فأطرق الحسن وترحم لها وقال لو كنت مراجعاً امرأةً بعد ما فارقتها لراجعتها ودخل الحسن ذات يوم على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقيه المدينة ورئيسها ولم يكن له بالمدينة نظير وبه ضربت المثل عائشة رضي الله عنها حيث قالت لو لم أسر مسيري ذلك لكان أحب إلي من أن يكون لي ستة عشراً ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فدخل عليه الحسن في بيته فعظمه عبد الرحمن وأجلسه في مجلسه وقال ألا أرسلت إلي فكنت أجيئك فقال الحاجة لنا
قال وما هي قال جئتك خاطباً ابنتك فأطرق عبد الرحمن ثم رفع رأسه وقال والله ما على وجه الأرض أحد يمشي عليها أعز علي منك ولكنك تعلم أن ابنتي بضعة مني يسوءني ما ساءها ويسرني ما سرها وأنت مطلاق فأخاف أن تطلقها وإن فعلت خشيت أن يتغير قلبي في محبتك وأكره أن يتغير قلبي عليك فأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شرطت أن لا تطلقها زوجتك فسكت الحسن وقام وخرج وقال بعض أهل بيته
سمعته وهو يمشي ويقول ما أراد عبد الرحمن إلا أن يجعل ابنته طوقاً في عنقي
وكان علي رضي الله عنه يضجر من كثرة تطليقه فكان يعتذر منه على المنبر ويقول في خطبته إن حسناً مطلاقاً فلا تنكحوه حتى قام رجل من همدان فقال والله يا أمير المؤمنين لننكحنه ما شاء فإن أحب أمسك وإن شاء ترك فسر ذلك علياً وقال
لو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام
وهذا تنبيه على أن من طعن في حبيبه من أهل وولد بنوع حياء فلا ينبغي أن يوافق عليه فهذه الموافقة قبيحة بل الأدب المخالفة ما أمكن فإن ذلك أسر لقلبه وأوفق لباطن ذاته والقصد من هذا بيان أن الطلاق مباح وقد وعد الله الغنى في الفراق والنكاح جميعاً فقال {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وقال سبحانه وتعالى {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته}
الرَّابِعُ أَنْ لَا يُفْشِيَ سِرَّهَا لَا فِي الطَّلَاقِ وَلَا عِنْدَ النِّكَاحِ فَقَدْ وَرَدَ فِي إفشاء سر النساء في الخبر الصحيح وعيد عظيم (1)
ويروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأة فقيل له ما الذي يريبك فيها فقال العاقل لا يهتك ستر امرأته فلما طلقها قيل له
لم طلقتها فقال مالي ولا مرأة غيري فهذا بيان ما على الزوج القسم الثاني من هذا الباب النظر في حقوق الزوج عليها
والقول الشافي فيه أن النكاح نوع رق فهي رقيقة له فعليها طاعة الزوج مطلقاً في كل ما طلب منها في نفسها مما لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْظِيمِ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ قَالَ صَلَّى الله عليه وسلم أيما امرأة
_________
(1) حديث الوعيد في إفشاء سر المرأة رواه مسلم من حديث أبي سعيد قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أعظم الخيانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم يفشي سرها(2/56)
ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة (1)
وكان رجل قد خرج إلى سفر وعهد إلى امرأته أن لا تنزل من العلو إلى السفل وكان أبوها في الأسفل فمرض فأرسلت المرأة إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستأذن في النزول إلى أبيها فقال صلى الله عليه وسلم أطيعي زوجك فمات فاستأمرته فقال أطيعي زوجك فدفن أبوها فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها يخبرها أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زوجها دخلت جنة ربها (3)
وأضاف طاعة الزوج إلى مباني الإسلام وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء فقال حاملات والدات مرضعات رحيمات بأولادهن لولا ما يأتين إلى أزواجهن دخل مصلياتهن الجنة (4)
وقال صلى الله عليه وسلم اطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء فقلن لم يا رسول الله قال يكثرن اللعن ويكفرن العشير (5)
يعني الزوج المعاشر
وفي خبر آخر اطلعت في الجنة فإذا أقل أهلها النساء فقلت أين النساء قال شغلهن الأحمران الذهب والزعفران (6)
يعني الحلي ومصبغات الثياب وقالت عائشة رضي الله عنها أتت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني فتاة أخطب فأكره التزويج فما حق الزوج على المرأة قال لو كان من فرقه إلى قدمه صديد فلحسته ما أدت شكره قالت أفلا أتزوج قال بلى تزوجي فإنه خير (7)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت إني امرأة أيم وأريد أن تزوج فَمَا حَقُّ الزَّوْجِ قَالَ إِنَّ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِذَا أَرَادَهَا فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ لَا تَمْنَعُهُ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا تُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ كَانَ الْوِزْرُ عَلَيْهَا وَالْأَجْرُ لَهُ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا تَصُومَ تَطَوُّعًا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى ترجع إلى بيته أو تتوب (8)
وقال صلى الله عليه وسلم لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها (9)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَبُ مَا تكون المرأة من وجه ربها إذا كانت في قعر بيتها وإن صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها وصلاتها
_________
(1) حديث أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الجنة أخرجه الترمذي وقال حسن غريب وابن ماجه من حديث أم سلمة
(2) حديث كان رجل خرج إلى سفر وعهد إلى امرأته أن لا تنزل من العلو إلى السفل وكان أبوها في السفل فمرضالحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند ضعيف إلا أنه قال غفر لأبيها
(3) حديث إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرهاالحديث أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة
(4) حديث ذكر النساء فقال حاملات والدات مرضعاتالحديث أخرج ابن ماجة والحاكم وصححه من حديث أبي أمامة دون قوله مرضعات وهي عند الطبراني في الصغير
(5) حديث اطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساءالحديث متفق عليه من حديث ابن عباس
(6) حديث اطلعت في الجنة فإذا أقل أهلها النساء فقلت أين النساء قال شغلهن الأحمران الذهب والزعفران أخرجه أحمد من حديث أبي أمامة بسند ضعيف وقال الحرير {بدل} الزعفران ولمسلم من حديث عزة الأشجعية ويل للنساء من الأحمرين الذهب والزعفران وسنده ضعيف
(7) حديث عائشة أتت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله إني فتاة أخطب وإني أكره التزويج فما حق الزوج على المرأة الحديث أخرجه الحاكم وصحح إسناده من حديث أبي هريرة دون قوله بلى فتزوجي فإنه خير ولم أره من حديث عائشة
(8) حديث ابْنُ عَبَّاسٍ أَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي امْرَأَةٌ أَيِّمٌ وَأُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَمَا حق الزوج الحديث أخرجه البيهقي مقتصرا على شطر الحديث ورواه بتمامه من حديث ابن عمر وفيه ضعف
(9) حديث لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والولد لأبيه من عظم حقهما عليهما أخرجه الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة دون قوله والولد لأبيه فلم أرها وكذلك رواه أبو داود من حديث قيس بن سعد وابن ماجه من حديث عائشة وابن حبان من حديث ابن أبي أوفى(2/57)
في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها (1)
والمخدع بيت في بيت وذلك للستر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم والمرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان (2)
وقال أيضاً للمرأة عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات (3)
فَحُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ كَثِيرَةٌ وَأَهَمُّهَا أَمْرَانِ أحدهما الصيانة والستر
والآخر ترك المطالبة بما وَرَاءَ الْحَاجَةِ وَالتَّعَفُّفُ عَنْ كَسْبِهِ إِذَا كَانَ حراماً وهكذا كانت عادة النساء في السلف كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته أو ابنته إياك وكسب الحرام فإنا نصبر على الجوع والضر ولا نصبر على النار
وهم رجل من السلف بالسفر فكره جيرانه سفره فقالوا لزوجته لم ترضين بسفره ولم يدع لك نفقة فقالت زوجي منذ عرفته عرفته أكالاً وما عرفته رزاقا ولي رب رزاق يذهب الأكال ويبقى الرزاق
وخطبت رابعة بنت إسماعيل أحمد بن أبي الحواري فكره ذلك لما كان فيه من العبادة وقال لها والله مالي همة في النساء لشغلي بحالي فقالت إني لأشغل بحالي منك ومالي شهوة ولكن ورثت مالاً جزيلاً من زوجي فأردت أن تنفقه على إخوانك وأعرف بك الصالحين فيكون لي طريقاً إلى الله عز وجل فقال حتى استأذن أستاذي فرجع إلى أبي سليمان الداراني قال وكان ينهاني عن التزويج ويقول ما تزوج أحد من أصحابنا إلا تغير فلما سمع كلامها قال تزوج بها فإنها ولية لله هذا كلام الصديقين قال فتزوجتها فكان في منزلنا كن من جص ففني من غسل أيدي المستعجلين للخروج بعد الأكل فضلاً عمن غسل بالأشنان
قال وتزوجت عليها ثلاث نسوة فكانت تطعمني الطيبات وتطيبني وتقول اذهب بنشاطك وقوتك إلى أزواجك وكانت رابعة هذه تشبه في أهل الشام برابعة العدوية بالبصرة
ومن الواجبات عليها أن لا تفرط في ماله بل تحفظه عليه
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحل لها أن تطعم من بيته إلا بإذنه إلا الرطب من الطعام الذي يخاف فساده فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر (4)
وَمِنْ حَقِّهَا عَلَى الْوَالِدَيْنِ تَعْلِيمُهَا حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ وَآدَابَ الْعِشْرَةِ مَعَ الزَّوْجِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ أسماء بنت خارجة الفزاري قالت لأبنتها عِنْدَ التَّزَوُّجِ إِنَّكِ خَرَجْتِ مِنَ الْعُشِّ الَّذِي فيه درجت فصرت إلى فراش لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فَكُونِي لَهُ أَرْضًا يَكُنْ لَكِ سَمَاءً وَكُونِي لَهُ مِهَادًا يَكُنْ لَكِ عِمَادًا وَكُونِي لَهُ أَمَةً يَكُنْ لَكِ عَبْدًا لَا تُلْحِفِي بِهِ فَيَقْلَاكِ وَلَا تَبَاعَدِي عَنْهُ فَيَنْسَاكِ إِنْ دَنَا مِنْكِ فَاقْرَبِي مِنْهُ وَإِنْ نَأَى فَابْعُدِي عَنْهُ وَاحْفَظِي أَنْفَهُ وَسَمْعَهُ وَعَيْنَهُ فَلَا يَشُمَّنَّ مِنْكِ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا حُسْنًا وَلَا ينظر إلا جميلاً
وقال رجل لزوجته
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
_________
(1) حديث أقرب ما تكون المرأة من ربها إذا كانت في قعر بيتها فإن صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجدالحديث أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود بأول الحديث دون آخره وآخره رواه أبو داود مختصرا من حديثه دون ذكر صحن الدار ورواه البيهقي من حديث عائشة بلفظ ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد وإسناده حسن ولابن حبان من حديث أم حميد نحوه
(2) حديث المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن حبان من حديث ابن مسعود
(3) حديث للمرأة عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزوج عورة الحديث أخرجه الحافظ أبو بكر محمد بن عمر الجعابي في تاريخ الطالبيين من حديث علي بسند ضعيف وللطبراني في الصغير من حديث ابن عباس للمرأة ستران قيل وما هما قال الزوج والقبر
(4) حديث لا يحل لها أن تطعم من بيته إلا بإذنه إلا الرطب من الطعامالحديث أخرجه أبو داود الطيالسي والبيهقي من حديث ابن عمر في حديث فيه ولا تعطي من بيته شيئا إلا بإذنه فإن فعلت ذلك كان له الأجر وعليها الوزر ولأبي داود من حديث سعد قالت امرأة يا رسول الله إنا كل على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم قال الرطب تأكله وتهديه وصحح الدارقطني في العلل أن سعدا هذا رجل من الأنصار ليس ابن أبي وقاص واختاره ابن القطان ولمسلم من حديث عائشة إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب(2/58)
ولا تنقريني نقرك الدف مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغيب
ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى ... ويأباك قلبي والقلوب تقلب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
فَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي آدَابِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلٍ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَةً فِي قَعْرِ بَيْتِهَا لَازِمَةً لِمِغْزَلِهَا لَا يَكْثُرَ صُعُودُهَا وَاطِّلَاعُهَا قَلِيلَةَ الْكَلَامِ لِجِيرَانِهَا لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي حَالٍ يُوجِبُ الدُّخُولَ تَحْفَظَ بَعْلَهَا فِي غَيْبَتِهِ وَتَطْلُبَ مَسَرَّتَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا وَلَا تَخُونَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ وَلَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَمُخْتَفِيَةً فِي هيئة رئة تَطْلُبُ الْمَوَاضِعَ الْخَالِيَةَ دُونَ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ مُحْتَرِزَةً مِنْ أَنْ يَسْمَعَ غَرِيبٌ صَوْتَهَا أَوْ يَعْرِفَهَا بِشَخْصِهَا لَا تَتَعَرَّفَ إِلَى صَدِيقِ بَعْلِهَا فِي حَاجَاتِهَا بَلْ تَتَنَكَّرَ عَلَى مَنْ تَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُهَا أَوْ تَعْرِفُهُ هَمُّهَا صَلَاحُ شَأْنِهَا وَتَدْبِيرُ بَيْتِهَا مُقْبِلَةٌ عَلَى صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَإِذَا اسْتَأْذَنَ صَدِيقٌ لِبَعْلِهَا عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ الْبَعْلُ حَاضِرًا لَمْ تَسْتَفْهِمْ وَلَمْ تُعَاوِدْهُ فِي الْكَلَامِ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهَا وَبَعْلِهَا وَتَكُونَ قَانِعَةً مِنْ زَوْجِهَا بِمَا رَزَقَ اللَّهُ وَتُقَدِّمَ حَقَّهُ عَلَى حَقِّ نفسها وحق سائر أقاربها منتظفة فِي نَفْسِهَا مُسْتَعِدَّةً فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِلتَّمَتُّعِ بها إِنْ شَاءَ مُشْفِقَةً عَلَى أَوْلَادِهَا حَافِظَةً لِلسِّتْرِ عَلَيْهِمْ قَصِيرَةَ اللِّسَانِ عَنْ سَبِّ الْأَوْلَادِ وَمُرَاجَعَةِ الزوج
وقد قال صلى الله عليه وسلم أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين في الجنة امرأة آمت من زوجها وحبست نفسها على بناتها حتى ثابوا أو ماتوا (1)
وقال صلى الله عليه وسلم حرم الله على كل آدمي الجنة يدخلها قبلي غير أني أنظر عن يميني فإذا امرأة تبادرني إلى باب الجنة فأقول ما لهذه تبادرني فيقال لي يا محمد هذه امرأة كانت حسناء جميلة وكان عندها يتامى لها فصبرت عليهن حتى بلغ أمرهن الذي بلغ فشكر الله لها ذلك (2)
وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ لَا تَتَفَاخَرَ عَلَى الزَّوْجِ بجمالها ولا تزدري زوجها لقبحه فقد روي أن الأصمعي قال دخلت البادية فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس وجهاً تحت رجل من أقبح الناس وجهاً فقلت لها يا هذه أترضين لنفسك أن تكوني تحت مثله فقالت يا هذا اسكت فقد أسأت في قولك لعله أحسن فيما بينه وبين خالقه فجعلني ثوابه أو لعلي أسأت فيما بيني وبين خالقي فجعله عقوبتي أفلا أرضى بما رضي الله لي فأسكتتني
وقال الأصمعي رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر وهي مختضبة وبيدها سبحة فقلت ما أبعد هذا من هذا فقالت
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والبطالة جانب
فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له
ومن آداب المرأة مُلَازَمَةُ الصَّلَاحِ وَالِانْقِبَاضِ فِي غَيْبَةِ زَوْجِهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّعِبِ وَالِانْبِسَاطِ وَأَسْبَابِ اللَّذَّةِ فِي حُضُورِ زوجها ولا ينبغي أن تؤذي زوجها بحال
روي عن معاذ ابن جبل قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا (3)
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ لَا تُحِدَّ عَلَيْهِ أكثر من أربعة أشهر وعشر وتتجنب الطيب والزينة في هذه المدة قالت زينب بنت أبي سلمة دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان بن حرب
_________
(1) حديث أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتينالحديث رواه أبو داود من حديث أبي مالك الأشجعي بسند ضعيف
(2) حديث حرم الله إلى كل آدمي الجنة أن يدخل قبلي غير أني أنظر عن يميني فإذا امرأة تبادرني إلى باب الجنة رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(3) حديث معاذ لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيهالحديث رواه الترمذي وقال حسن غريب وابن ماجة(2/59)
فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت به جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله ما لي بالطيب من حاجة غير إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (1)
وَيَلْزَمُهَا لُزُومُ مَسْكَنِ النِّكَاحِ إِلَى آخِرِ الْعِدَّةِ وَلَيْسَ لَهَا الِانْتِقَالُ إِلَى أَهْلِهَا وَلَا الْخُرُوجُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ تَقُومَ بِكُلِّ خدمة في الدار تقدر عليها فقد روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها قالت تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه وناضحه فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناضحه وأعلفه وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ حتى أرسل إلى أبو بكر بجارية فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني (2)
ولقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ومعه أصحابه والنوى على رأسي فقال صلى الله عليه وسلم أخ أخ لينيخ ناقته ويحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد استحييت فجئت الزبير فحكيت له ما جرى فقال والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه
تم كتاب آداب النكاح بحمد الله ومنه وصلى الله على كل عبد مصطفى كتاب آداب الكسب والمعاش وهو الكتاب الثالث من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله حمد موحد انمحق في توحيده ما سوى الواحد الحق وتلاشر
ونمجده تمجيد من يصرح بأن كل شيء ما سوى الله باطل ولا يتحاشى
وأن كل من في السموات والأرض لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ولا فراشا
ونشكره إذ رفع السماء لعباده سقفاً مبنيا ومهد الأرض بساطا لهم وفراشا
وكور الليل على النهار فجعل الليل لباسا والنهار معاشا
لينتشروا في إبتغاء فضله وينتعشوا به عن ضراعة الحاجات انتعاشا ونصلي على رسوله الذي يصدر المؤمنون عن حوضه رواء بعد ورودهم عليه عطاشاً
وعلى آله وأصحابه الذين لم يدعوا في نصرة دينه تشمراً وانكماشاً
وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فإن رب الأرباب ومسبب الأسباب
جعل الآخرة دار الثواب والعقاب والدنيا دار التمحل والاضطراب
والتشمر والاكتساب
وليس التشمر في الدنيا مقصوراً على المعاد دون المعاش بل المعاش ذريعة إلى المعاد ومعين عليه فالدنيا مزرعة الآخرة ومدرجة إليها
والناس ثلاثة رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الفائزين والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده فهو من المفتصدين
ولن ينال رتبة
_________
(1) حديث أم حبيبة لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا متفق عليه
(2) حديث أسماء تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرس وناضح فكنت أعلف فرسهالحديث متفق عليه(2/60)
الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة وها نحن نورد آداب التجارات والصناعات وضروب الاكتسابات وسننها ونشرحها في خمسة أبواب
الباب الأول فضل الكسب والحث عليه
الباب الثاني في علم صحيح البيع والشراء والمعاملات
الباب الثالث في بيان العدل في المعاملة
الباب الرابع في بيان الإحسان فيها
الباب الخامس في شفقة التاجر على نفسه ودينه
الباب الأول في فَضْلُ الْكَسْبِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ
أَمَّا مِنَ الْكِتَابِ فقوله تعالى وجعلنا النهار معاشاً فَذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ
وَقَالَ تَعَالَى وَجَعَلْنَا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون فَجَعَلَهَا رَبُّكَ نِعْمَةً وَطَلَبَ الشُّكْرَ عَلَيْهَا
وَقَالَ تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقال تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وَقَالَ تَعَالَى فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فضل الله وأما الأخبار فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة (1)
وقال صلى الله عليه وسلم التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من طلب الدنيا حلالا وتعففا عن المسئلة وسعياً على عياله وتعطفاً على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر (3)
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَظَرُوا إِلَى شَابٍّ ذِي جَلَدٍ وَقُوَّةٍ وَقَدْ بَكَّرَ يَسْعَى فَقَالُوا وَيْحَ هَذَا لَوْ كَانَ شَبَابُهُ وَجَلَدُهُ فِي سَبِيلِ الله فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولُوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسئلة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله وإن كان يسعى تفاخراً وتكاثراً فهو في سبيل الشيطان (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحب العبد يتخذ المهنة ليستغني بها عن الناس ويبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة (5)
وفي الخبر إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف (6)
وقال صلى الله عليه وسلم أحل ما أكل الرجل من كسبه وكل بيع مبرور (7)
_________
(1) حديث من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة تقدم في النكاح
(2) حديث التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء أخرجه الترمذي والحاكم من حديث أبي سعيد قال الترمذي حسن وقال الحاكم إنه من مراسيل الحسن ولابن ماجه والحاكم نحوه من حديث ابن عمر
(3) حديث من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة وسعياً على عيالهالحديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(4) حديث كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ ذات يوم فنظر إِلَى شَابٍّ ذِي جَلَدٍ وَقُوَّةٍ وَقَدْ بَكَّرَ يسعى فقالوا ويح هذا لو كان جلده في سبيل اللهالحديث أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاثة من حديث كعب بن عجرة بسند ضعيف
(5) حديث إن الله يحب العبد يتخذ المهنة يستغني بها عن الناسالحديث لم أجده هكذا وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي إن الله يحب أن يرى عبده تعبا في طلب الحلال وفيه محمد بن سهل العطار قال الدارقطني يضع الحديث
(6) حديث إن الله يحب المؤمن المحترف أخرجه الطبراني وابن عدي وضعفه من حديث ابن عمر
(7) حديث أحل ما أكل الرجل من كسبه وكل بيع مبرور أخرجه أحمد من حديث رافع بن خديج قيل يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ قَالَ عمل الرجل بيده وكل عمل مبرور ورواه البزار والحاكم من رواية سعيد بن عمير عن عنه قال الحاكم صحيح الإسناد قال وذكر يحيى بن معين أن عم سعيد البراء بن عازب ورواه البيهقي من رواية سعيد بن عمير مرسلا وقال هذا هو المحفوظ وخطأ قول من قال عن عمه وحكاه عن البخاري ورواه أحمد والحاكم من رواية جميع ابن عمير عن خاله أبي بردة وجميع ضعيف والله أعلم(2/61)
وفي خبر آخر أحل ما أكل العبد كسب يد الصانع إذا نصح (1)
وقال صلى الله عليه وسلم عليكم بالتجارة فإن فيها تسعة أعشار الرزق (2)
وروي أن عيسى عليه السلام رأى رجلاً فقال ما تصنع قال أتعبد قال من يعولك قال أخي
قال أخوك أعبد منك
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم إني لا أعلم شيئاً يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به وإني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه وإن الروح الأمين نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أمر بالإجمال في الطلب ولم يقل اتركوا الطلب ثم قال في آخره ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى فإن الله لا ينال ما عنده بمعصيته (3)
وقال صلى الله عليه وسلم الأسواق موائد الله تعالى فمن أتاها أصاب منها (4)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْأَلَهُ له أعطاه أو منعه (5)
وقال من فتح على نفسه باباً من السؤال فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر (6)
وأما الآثار فقد قال لقمان الحكيم لابنه يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال رقة في دينه وضعف في عقله وذهاب مروءته وأعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به
وَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَقْعُدُ أحدكم عن طلب الرزق يقول اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تمطر ذهباً ولا فضة
وكان زيد بن مسلمة يغرس في أرضه فقال له عمر رضي الله عنه أصبت استغن عن الناس يكن أصون لدينك وأكرم لك عليهم كما قال صاحبكم أحيحة
فلن أزال على الزوراء أغمرها ... إن الكريم على الإخوان ذو المال
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرَى الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي أمر دنياه ولا في أمر آخرته
وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة قال التاجر الصدوق أحب إلي لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده وخالفه الحسن البصري في هذا
وقال عمر رضي الله عنه ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري
وقال الهيثم ربما يبلغني عن الرجل يقع في فأذكر استغنائي عنه فيهون ذلك علي
وقال أيوب كسب فيه شيء أحب إلي من سؤال الناس
وجاءت ريح عاصفة في البحر فقال أهل السفينة لإبراهيم بن أدهم رحمه الله وكان معهم فيها أما ترى هذه الشدة فقال ما هذه الشدة وإنما الشدة الحاجة إلى الناس
وقال أيوب قال لي أبو قلابة الزم السوق فإن الغنى من العافية يعني الغنى عن الناس
وقيل لأحمد ما تقول فيمن جلس في بيته
_________
(1) حديث أحل ما أكل العبد كسب الصانع إذا نصح رواه أحمد من حديث أبي هريرة خير الكسب كسب العامل إذا نصح وإسناده حسن
(2) حديث عليكم بالتجارة فإن فيها تسعة أعشار الرزق رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث من حديث نعيم بن عبد الرحمن تسعة أعشار الرزق في التجارة ورجاله ثقات ونعيم هذا قال فيه ابن مندة ذكر في الصحابة ولا يصح وقال أبو حاتم الرازي وابن حبان أنه تابعي فالحديث مرسل
(3) حديث إني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه فإن الروح الأمين نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقهاالحديث رواه ابن أبي الدنيا في القناعة والحاكم من حديث ابن مسعود وذكره شاهدا لحديث أبي حميد وجابر وصححهما على شرط الشيخين وهما مختصران ورواه البيهقي في شعب الإيمان وقال إنه منقطع
(4) حديث الأسواق موائد الله فمن أتاها أصاب منها رويناه في الطيوريات من قول الحسن البصري ولم أجده مرفوعا
(5) حديث لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خير له من أن يأتي رجلاالحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(6) حديث من فتح على نفسه باباً من السؤال فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر رواه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري ولا فتح عبد باب مسئلة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها وقال حسن صحيح(2/62)
أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَنِي رِزْقِي فَقَالَ أحمد هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظل رمحي (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الطير فقال تغذو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا (2)
فَذَكَرَ أَنَّهَا تَغْدُو فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم
وقال أبو قلابة لرجل لأن أراك تطلب معاشك أحب إلي من أن أراك في زاوية المسجد
وروي أن الأوزاعي لقي إبراهيم بن أدهم رحمهم الله وعلى عنقه حزمة حطب فقال له يا أبا إسحق إلى متى هذا إخوانك يكفونك فقال دعني عن هذا يا أبا عمرو فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة
وقال أبو سليمان الداراني ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يقوت لك ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه ينادي مناد يوم القيامة أين بغضاء الله في أرضه فيقوم سؤال المساجد فهذه مذمة الشرع للسؤال والاتكال على كفاية الأغيار
وَمَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ مَوْرُوثٌ فَلَا يُنْجِيهِ من ذلك إلا الكسب والتجارة
فإن قلت فقد قال صلى الله عليه وسلم ما أوحي إلي أن أجمع المال وكن من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (3)
وقيل لسلمان الفارسي أوصنا فقال من استطاع منكم أن يموت حاجاً أو غازياً أو عامراً لمسجد ربه فليفعل ولا يموتن تاجرا ولا خائناً فالجواب أن وجه الجمع بين هذه الأخبار تفصيل الأحوال فنقول لسنا نقول التجارة أفضل مطلقاً من كل شيء ولكن التجارة إما أن تطلب بها الكفاية أو الثروة أو الزيادة على الكفاية فإن طلب منها الزيادة على الكفاية لاستكثار المال وادخاره لا ليصرف إلى الخيرات والصدقات فهي مذمومة لأنه إقبال على الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة فإن كان مع ذلك ظالماً خائناً فهو ظلم وفسق وهذا ما أراده سلمان بقوله لا تمت تاجراً ولا خائناً وأراد بالتاجر طالب الزيادة فأما إذا طلب بها الكفاية لنفسه وأولاده وكان يقدر على كفايتهم بالسؤال فالتجارة تعففاً عن السؤال أفضل وإن كان لا يحتاج إلى السؤال وكان يعطى عن غير سؤال فالكسب أفضل لأنه إنما يعطى لأنه سائل بلسان حاله ومناد بين الناس بفقره فالتعفف والتستر أوفى من البطالة بل من الاشتغال بالعبادات البدنية وترك الكسب أفضل لأربعة عابد بالعبادات البدنية أو رجل له سير بالباطن وعمل بالقلب في علوم الأحوال والمكاشفات أو عالم مُشْتَغِلٍ بِتَرْبِيَةِ عِلْمِ الظَّاهِرِ مِمَّا يَنْتَفِعُ النَّاسُ به في دينهم كالمفتي وَالْمُفَسِّرِ وَالْمُحَدِّثِ وَأَمْثَالِهِمْ أَوْ رَجُلٍ مُشْتَغِلٍ بِمَصَالِحِ المسلمين وقد تكفل بأمورهم كالسلطان والقاضي والشاهد فهؤلاء إذا كانوا يُكْفَوْنَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُرْصَدَةِ لِلْمَصَالِحِ أَوِ الْأَوْقَافِ الْمُسْبَلَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْعُلَمَاءِ
فَإِقْبَالُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ أَفْضَلُ مِنِ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَسْبِ ولهذا أوحي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ولم يوح إليه أن كن من التاجرين لأنه كان جامعاً لهذه المعاني الأربعة إلى زيادات لا يحيط بها الوصف وَلِهَذَا أَشَارَ الصَّحَابَةُ عَلَى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِتَرْكِ التِّجَارَةِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنِ الْمَصَالِحِ وَكَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَرَأَى ذَلِكَ أَوْلَى ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ أَوْصَى بِرَدِّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ رَآهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى ولهؤلاء الأربعة حالتان أخريان
أحداهما
_________
(1) حديث إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي رواه أحمد من حديث ابن عمر جعل رزقي تحت ظل رمحي وإسناده صحيح
(2) حديث ذكر الطير فقال تغذو خماصا وتروح بطانا أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر قال الترمذي حسن صحيح
(3) حديث ما أوحي إلي أن أجمع المال وكن من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين رواه ابن مردويه في التفسير من حديث ابن مسعود بسند فيه لين(2/63)
أن تكون كفايتهم عند ترك المكسب من أيدي الناس وما يتصدق به عليهم من زكاة أو صدقة من غير حاجة إلى سؤال فترك الكسب والاشتغال بما هم فيه أولى إذ فيه إعانة الناس على الخيرات وقبول منهم لما هو حق عليهم وأفضل لهم
الحالة الثانية الحاجة إلى السؤال وهذا في محل النظر والتشديدات التي رويناها في السؤال وذمه تدل ظاهراً على أن التعفف عن السؤال أولى وإطلاق القول فيه من غير ملاحظة الأحوال والأشخاص عسير بل هو موكول إلى اجتهاد العبد ونظره لنفسه بأن يقابل ما يلقي في السؤال من المذلة وهتك المروءة والحاجة إلى التثقيل والإلحاح بما يحصل من اشتغاله بالعلم والعمل من الفائدة له ولغيره فرب شخصٍ تكثر فائدة الخلق وفائدته في اشتغاله بالعلم أو العمل ويهون عليه بأدنى تعريض في السؤال تحصيل الكفاية وربما يكون بالعكس وربما يتقابل المطلوب والمحذور فينبغي أن يستفتي المريد فيه قلبه وإن أفتاه المفتون فإن الفتاوى لا تحيط بتفاصيل الصور ودقائق الأحوال ولقد كان في السلف من له ثلثمائة وستون صديقا ينزل على كل واحد منهم ليلة ومنهم من له ثلاثون وكانوا يشتغلون بالعبادة لعملهم بأن المتكلفين بهم يتقلدون منة من قبولهم لمبراتهم فكان قبولهم لمبراتهم خيراً مضافاً لهم إلى عباداتهم فينبغي أن يدقق النظر في هذه الأمور فإن أجر الآخذ كأجر المعطي مهما كان الآخذ يستعين به على الدين والمعطي يعطيه عن طيب قلب
ومن اطلع على هذه المعاني أمكنه أن يتعرف حال نفسه ويستوضح من قلبه ما هو الأفضل له بالإضافة إلى حاله ووقته فهذه فضيلة الكسب وليكن العقد الذي به الاكتساب جامعاً لأربعة أمور الصحة والعدل والإحسان والشفقة على الدين
ونحن نعقد في كل واحد باباً ونبتدئ بذكر أسباب الصحة في الباب الثاني
الباب الثاني في علم الكسب بطريق البيع والربا والسلم والإجارة والقراض
والشركة وبيان شروط الشرع في صحة هذه التصرفات التي هي مدار المكاسب في الشرع
اعلم أن تحصيل علم هذا الباب واجب على كل مسلم مكتسب لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم وإنما هو طلب العلم المحتاج إليه والمكتسب يحتاج إلى علم الكسب ومهما حصل علم هذا الباب وقف على مفسدات المعاملة فيتقيها وما شذ عنه من الفروع المشكلة فيقع على سبب إشكالها فيتوقف فيها إلى أن يسأل فإنه إذا لم يعلم أسباب الفساد بعلم جملي فلا يدري متى يجب عليه التوقف والسؤال ولو قال لا أقدم العلم ولكني أصبر إلى أن تقع لي الواقعة فعندها أتعلم وأستفتي فيقال له وبم تعلم وقوع الواقعة مهما لم تعلم جمل مفسدات العقود فإنه يستمر في التصرفات ويظنها صحيحة مباحة فلا بد له من هذا القدر من علم التجارة ليتميز له المباح عن المحظور وموضع الإشكال عن موضع الوضوح ولذلك روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف السوق ويضرب بعض التجار بالدرة ويقول لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى وعلم العقود كثير ولكن هذه العقود الستة لا تنفك المكاسب عنها وهي البيع والربا والسلم والإجارة والشركة والقراض فلنشرح شروطها العقد الأول البيع
وقد أحله الله تعالى وله ثلاثة أركان العاقد والمعقود عليه واللفظ
الركن الأول العاقد ينبغي للتاجر أن لا يعامل بالبيع أربعة الصبي والمجنون والعبد والأعمى لأن الصبي غير مكلف وكذا المجنون وبيعهما باطل فلا يصح بيع الصبي وإن أذن له فيه الولي عند الشافعي وما أخذه منهما مضمون عليه لهما(2/64)
وما سلمه في المعاملة إليهما فضاع في أيديهما فهو المضيع له
وأما العبد العاقل فلا يصح بيعه وشراؤه إلا بإذن سيده فعلى البقال والخباز والقصاب وغيرهم أن لا يعاملوا العبيد ما لم تأذن لهم السادة في معاملتهم وذلك بأن يسمعه صريحاً أو ينتشر في البلد أنه مأذون له في الشراء لسيده وفي البيع له فيعول على الاستفاضة أو على قول عدل يخبره بذلك فإن عامله بغير إذن السيد فعقده باطل وما أخذه منه مضمون عليه لسيده وما تسلمه إن ضاع في يد العبد لا يتعلق برقبته ولا يضمنه سيده بل ليس له إلا المطالبة إذا عتق
وأما الأعمى فإنه يبيع ويشتري ما لا يرى فلا يصح ذلك فليأمره بأن يوكل وكيلاً بصيراً ليشتري له أو يبيع فيصح توكيله ويصح بيع وكيله فإن عامله التاجر بنفسه فالمعاملة فاسدة وما أخذه منه مضمون عليه بقيمته وما سلمه إليه أيضاً مضمون له بقيمته
وأما الكافر فتجوز معاملته لكن لا يباع منه المصحف ولا العبد المسلم ولا يباع منه السلاح إن كان من أهل الحرب فإن فعل فهي معاملات مردودة وهو عاص بها ربه
وأما الجندية من الأتراك والتركمانية والعرب والأكراد والسراق والخونة وأكلة الربا والظلمة وكل من أكثر ماله حرام فلا ينبغي أن يتملك مما في أيديهم شيئاً لأجل أنها حرام إلا إذا عرف شيئاً بعينه أنه حلال وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام
الركن الثاني في المعقود عليه وهو المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الآخر ثمناً كان أو مثمناً فيعتبر فيه ستة شروط
الأول أن لا يكون نجساً في عينه فلا يصح بيع كلب وخنزير ولا بيع زبل وعذرة ولا بيع العاج والأواني المتخذة منه فإن العظم ينجس بالموت ولا يطهر الفيل بالدبح ولا يطهر عظمه بالتذكية ولا يجوز بيع الخمر ولا بيع الودك النجس المستخرج من الحيوانات التي لا تؤكل وإن كان يصلح للاستصباح أو طلاء السفن ولا بأس ببيع الدهن الطاهر في عينه الذي نجس بوقوع نجاسة أو موت فأرة فيه فإنه يجوز الانتفاع به في غير الأكل وهو في عينه ليس بنجس وكذلك لا أرى بأساً ببيع بزر القز فإنه أصل حيوان ينتفع به تشبيهه بالبيض وهو أصل حيوان أولى من تشبيهه بالروث
ويجوز بيع فأرة المسك ويقضى بطهارتها إذا انفصلت من الظبية في حالة الحياة
الثاني أن يكون منتفعاً به فلا يجوز بيع الحشرات ولا الفأرة ولا الحية ولا التفات إلى انتفاع المشعبذ بالحية وكذا لاالتفات إلى انتفاع أصحاب الحلق بإخراجها من السلة وعرضها على الناس ويجوز بيع الهرة والنحل وبيع الفهد والأسد وما يصلح لصيد أو ينتفع بجلده ويجوز بيع الفيل لأجل الحمل ويجوز بيع الطوطي وهي الببغاء والطاوس والطيور المليحة الصور وإن كانت لا تؤكل فإن التفرج بأصواتها والنظر إليها غرض مقصود مباح وإنما الكلب هو الذي لا يجوز أن يقتني إعجاباً بصورته لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه (1)
ولا يجوز بيع العود والصنج والمزامير والملاهي فإنه لا منفعة لها شرعاً وكذا بيع الصور المصنوعة من الطين كالحيوانات التي تباع في الأعياد للعب الصبيان فإن كسرها واجب شرعاً وصور الأشجار متسامح بها وأما الثياب والأطباق وعليها صور الحيوانات فيصح بيعها وكذا الستور وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها اتخذي منها نمارق (2)
ولا يجوز استعمالها منصوبة ويجوز موضوعة وإذا جاز الانتفاع من وجه صح البيع لذلك الوجه
الثالث أن يكون المتصرف فيه مملوكاً للعاقد أو مأذوناً من جهة المالك ولا يجوز أن يشتري من غير المالك انتظاراً للإذن من المالك بل لو رضي بعد ذلك وجب استئناف العقد ولا ينبغي أن يشتري من الزوجة مال
_________
(1) حديث النهي عن اقتناء الكلب متفق عليه من حديث ابن عمر من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاريا نقص من عمله كل يوم قيراطان
(2) حديث اتخذي منها نمارق يقوله لعائشة متفق عليه من حديثها(2/65)
الزوج ولا من الزوج مال الزوجة ولا من الوالد مال الولد ولا من الولد مال الوالد
اعتماداً على أنه لو عرف لرضي فإنه إذا لم يكن الرضا متقدماً لم يصح البيع وأمثال ذلك مما يجري في الأسواق فواجب على العبد المتدين أن يحترز منه
الرابع أن يكون المعقود عليه مقدوراً على تسليمه شرعاً وحساً فما لا يقدر على تسليمه حساً لا يصح بيعه كالآبق والسمك في الماء والجنين في البطن وعسب الفحل وكذلك بيع الصوف على ظهر الحيوان واللبن في الضرع لا يجوز فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير المبيع بالمبيع والمعجوز عن تسليمه شرعاً كالمرهون والموقوف والمستولدة فلا يصح بيعها أيضاً وكذا بيع الأم دون الولد إذا كان الولد صغيرا وكذا بيع الولد دون الأم لأن تسليمه تفريق بينهما وحرام فلا يصح التفريق بينهما بالبيع
الخامس أن يكون المبيع معلوم العين والقدر والوصف أما العلم بالعين فبأن يشير إليه بعينه فلو قال بعتك شاة من هذا القطيع أي شاة أردت أو ثوباً من هذه الثياب التي بين يديك أو ذراعاً من هذا الكرباس وخذه من أي جانب شئت أو عشرة أذرع من هذه الأرض وخذه من أي طرف شئت فالبيع باطل وكل ذلك مما يعتاده المتساهلون في الدين إلا أن يبيع شائعاً مثل أن يبيع نصف الشيء أو عشره فإن ذلك جائز
وأما العلم بالقدر فإنما يحصل بالكيل أو الوزن أو النظر إليه فلو قال بعتك هذا الثوب بما باع به فلان ثوبه وهما لا يدريان ذلك فهو باطل ولو قال بعتك بزنة هذه الصنجة فهو باطل إذا لم تكن الصنجة معلومة ولو قال بعتك هذه الصبرة من الحنطة فهو باطل أو قال بعتك بهذه الصرة من الدراهم أو بهذه القطعة من الذهب وهو يراها
صح البيع وكان تخمينه بالنظر كافياً في معرفة المقدار
وأما العلم بالوصف فيحصل بالرؤية في الأعيان ولا يصح بيع الغائب إلا إذا سبقت رؤيته مذ مدة لا يغلب التغير فيها والوصف لا يقوم مقام العيان هذا أحد المذهبين ولا يجوز بيع الثوب في المنسج اعتماداً على الرقوم ولا بيع الحنطة في سنبلها ويجوز بيع الأرز في قشرته التي يدخر فيها وكذا بيع الجوز واللوز في القشرة السفلى ولا يجوز في القشرتين ويجوز بيع الباقلاء الرطب في قشرته للحاجة ويتسامح ببيع الفقاع لجريان عادة الأولين به ولكن نجعله إباحة بعوض فإن اشتراه ليبيعه فالقياس بطلانه لأنه ليس مستتراً ستر خلقة ولا يبعد أن يتسامح به إذ في إخراجه إفساده كالرمان وما يستر بستر خلق معه
السادس أن يكون المبيع مقبوضاً إن كان قد استفاد ملكه بمعاوضة وهذا شرط خاص وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن بيع ما لم يقبض (1)
ويستوي فيه العقار والمنقول فكل ما اشتراه أو باعه قبل القبض فبيعه باطل وقبض المنقول بالنقل وقبض العقار بالتخلية وقبض ما ابتاعه بشرط الكيل لا يتم إلا بأن يكتاله وأما بيع الميراث والوصية والوديعة وما لم يكن الملك حاصلاً فيه بمعاوضة فهو جائز قبل القبض
الركن الثالث لفظ العقد فلا بد من جريان إيجاب وقبول متصل به بلفظ دال على المقصود مفهم إما صريح أو كناية فلو قال أعطيتك هذا بذاك بدل قوله بعتك فقال قبلته جاز مهما قصدا به البيع لأنه قد يحتمل الإعارة إذا كان في ثوبين أو دابتين والنية تدفع الاحتمال والصريح أقطع للخصومة ولكن الكناية تفيد الملك أيضاً والحل فيما يختاره ولا ينبغي أن يقرر بالبيع شرطاً على خلاف مقتضى العقدة فلو شرط أن يزيد شيئاً آخر وأن يحمل المبيع إلى داره أو اشترى الحطب بشرط النقل إلى داره كل ذلك فاسد إلا إذا أفرد استئجاره على النقل بأجرة معلومة منفردة عن الشراء للمنقول ومهما لم يجر بينهما إلا المعاطاة بالفعل دون التلطف باللسان لم ينعقد البيع
_________
(1) حديث النهي عن بيع ما لم يقبض متفق عليه من حديث ابن عباس(2/66)
عند الشافعي أصلاً وانعقد عند أبي حنيفة إن كان في المحقرات ثم ضبط المحقرات عسير فإن رد الأمر إلى العادات فقد جاوز الناس المحقرات في المعاطاة إذ يتقدم الدلال إلى البزاز يأخذ منه ثوباً ديباجاً قيمته عشرة دنانير مثلاً ويحمله إلى المشتري ويعود إليه بأنه ارتضاه فيقول له خذ عشرة فيأخذ من صاحبه العشرة ويحملها ويسلمها إلى البزاز فيأخذها ويتصرف فيها ومشترى الثوب يقطعه ولم يجر بينهما إيجاب وقبول أصلاً وكذلك يجتمع المجهزون على حانوت البياع فيعرض متاعاً قيمته مائة دينار مثلاً فيمن يزيد فيقول أحدهم هذا علي بتسعين ويقول الآخر هذا علي بخمسة وتسعين ويقول الآخر هذا بمائة فيقال له زن فيزن ويسلم ويأخذ المتاع من غير إيجاب وقبول فقد استمرت به العادات وهذه من المعضلات التي ليست تقبل العلاج إذ الاحتمالات ثلاثة إما فتح باب المعاطاة مطلقاً في الحقير والنفيس وهو محال إذ فيه نقل الملك من غير لفظ دال عليه وقد أحل الله البيع والبيع اسم للإيجاب والقبول ولم يجر ولم ينطلق اسم البيع على مجرد فعل بتسليم وتسلم فبماذا يحكم بانتقال الملك من الجانبين لا سيما في الجواري والعبيد والعقارات والدواب النفيسة وما يكثر التنازع فيه إذ للمسلم أن يرجع ويقول قد ندمت وما بعته إذ لم يصدر مني إلا مجرد تسليم وذلك ليس ببيع
الاحتمال الثاني أن نسد الباب بالكلية كما قال الشافعي رحمه الله من بطلان العقد وفيه إشكال من وجهين
أحدهما أنه يشبه أن يكون ذلك في المحقرات معتاداً في زمن الصحابة ولو كانوا يتكلفون الإيجاب والقبول من البقال والخباز والقصاب لثقل عليهم فعله ولنقل ذلك نقلا منتشرا ولكان يشتهر وقت الإعراض بالكلية عن تلك العادة فإن الأعصار في مثل هذا تتفاوت
والثاني أن الناس الآن قد انهمكوا فيه فلا يشتري الإنسان شيئاً من الأطعمة وغيرها إلى ويعلم أن البائع قد ملكه بالمعاطاة فأي فائدة في تلفظه بالعقد إذا كان الأمر كذلك
الاحتمال الثالث أن يفصل بين المحقرات وغيرها كما قاله أبو حنيفة رحمه الله وعند ذلك يتعسر الضبط في المحقرات ويشكل وجه نقل الملك من غير لفظ يدل عليه وقد ذهب ابن سريج إلى تخريج قول للشافعي رحمه الله على وفقه وهو أقرب الاحتمالات إلا الاعتدال فلا بأس لو ملنا إليه لمسيس الحاجات ولعموم ذلك بين الخلق ولما يغلب على الظن بأن ذلك كان معتاداً في الأعصار الأولى
فأما الجواب عن الإشكالين فهو أن نقول أما الضبط في الفصل بين المحقرات وغيرها فليس علينا تكلفة بالتقدير فإن ذلك غير ممكن بل له طرفان واضحان إذ لا يخفى أن شراء البقل وقليل من الفواكه والخبز واللحم من المعدود من الحقرات التي لا يعتاد فيها إلا المعاطاة وطالب الإيجاب والقبول فيه يعد مستقصياً ويستبرد تكليفه لذلك ويستثقل وينسب إلى أنه يقيم الوزن لأمر حقير ولى وجه له هذا طرف الحقارة والطرف الثاني الدواب والعبيد والعقارات والثياب النفيسة فذلك مما لا يستبعد تكلف الإيجاب والقبول فيها وبينهما أوساط متشابهة يشك فيها هي في محل الشبهة فحق ذي الدين أن يميل فيها إلى الاحتياط وجميع ضوابط الشرع فيما يعلم بالعادة كذلك ينقسم إلى أطراف واضحة وأوساط مشكلة
وأما الثاني وهو طلب سبب لنقل الملك فهو أن يجعل الفعل باليد أخذاً وتسليماً سبباً لعينه بل لدلالته وهذا الفعل قد دل على مقصود البيع دلالة مستمرة في العادة وانضم إليه مسيس الحاجة وعادة الأولين واطراد جميع العادات بقبول الهدايا من غير إيجاب وقبول مع التصرف فيها وأي فرق بين أن يكون فيه عوض أو لا يكون إذ الملك لا بد من نقله في الهبة أيضاً إلا أن العادة السالفة لم تفرق في الهدايا بين الحقير والنفيس بل كان طلب الإيجاب والقبول يستقبح فيه كيف كان وفي المبيع لم يستقبح في غير المحقرات هذا ما نراه أعدل الاحتمالات وحق الورع المتدين أن لا يدع الإيجاب والقبول للخروج عن شبهة الخلاف فلا ينبغي أن يمتنع من ذلك لأجل(2/67)
أن البائع قد تملكه بغير إيجاب وقبول فإن ذلك لا يعرف تحقيقاً فربما اشتراه بقبول وإيجاب فإن كان حاضراً عند شرائه أو أقر البائع به فيمتنع منه وليشتر من غيره فإن كان الشيء محقراً وهو إليه محتاج فليتلفظ بالإيجاب والقبول فإنه يستفيد به قطع الخصومة في المستقبل معه إذ الرجوع من اللفظ الصريح غير ممكن ومن الفعل ممكن
فإن قلت فإن أمكن هذا فيما يشتريه فكيف يفعل إذا حضر في ضيافة أو على مائدة وهو يعلم أن أصحابها يكتفون بالمعاطاة في البيع والشراء أو سمع منهم ذلك أو رآه أيجب عليه الامتناع من الأكل فأقول يجب عليه الامتناع من الشراء إذا كان ذلك الشيء الذي اشتروه مقداراً نفيساً ولم يكن من المحقرات
وأما الأكل فلا يجب الامتناع منه فإني أقول إن ترددنا في جعل الفعل دلالة على نقل الملك فلا ينبغي أن لا نجعله دلالة على الإباحة فإن أمر الإباحة أوسع وأمر نقل الملك أضيق فكل مطعوم جرى فيه بيع معاطاة فتسليم البائع إذن في الأكل يعلم ذلك بقرينة الحال كإذن الحمامي في دخول الحمام والإذن في الإطعام لمن يريده المشتري فينزل منزلة ما لو قال أبحت لك أن تأكل هذا الطعام أو تطعم من أردت فإنه يحل له ولو صرح وقال كل هذا الطعام ثم أغرم لي عوضه لحل الأكل ويلزمه الضمان بعد الأكل هذا قياس الفقه عندي ولكنه بعد المعاطاة آكل ملكه ومتلفاً له فعليه الضمان وذلك في ذمته والثمن الذي سلمه إن كان مثل قيمته فقد ظفر المستحق بمثل حقه فله أن يتملكه مهما عجز عن مطالبة من عليه وإن كان قادراً على مطالبته فإنه لا يتملك ما ظفر به من ملكه لأنه ربما لا يرضى بتلك العين أن يصرفها إلى دينه فعليه المراجعة
وأما ههنا فقد عرف رضاه بقرينة الحال عند التسليم فلا يبعد أن يجعل الفعل دلالة على الرضاء بأن يستوفي دينه مما يسلم إليه فيأخذه بحقه لكن على كل الأحوال جانب البائع أغمض لأن ما أخذه قد يريد المالك ليتصرف فيه ولا يمكنه التملك إلا إذا أتلف عين طعامه في يد المشتري ثم ربما يفتقر إلى استئناف قصد التملك ثم يكون قد تملك بمجرد رضاً استفاده من الفعل دون القول
وأما جانب المشتري للطعام وهو لا يريد إلا الأكل فهين فإن ذلك يباح بالإباحة المفهومة من قرينة الحال ولكن ربما يلزم من مشاورته أن الضيف يضمن ما أتلفه وإنما يسقط الضمان عنه إذا تملك البائع ما أخذه من المشتري فيسقط فيكون كالقاضي دينه والمتحمل عنه فهذا ما نراه في قاعدة المعاطاة على غموضها والعلم عند الله وهذه احتمالات وظنون رددناها ولا يمكن بناء الفتوى إلا على هذه الظنون وأما الورع فإنه ينبغي أن يستفتى قلبه ويتقي مواضع الشبه العقد الثاني عقد الربا
وقد حرمه الله تعالى وشدد الأمر فيه ويجب الاحتراز منه على الصيارفة المتعاملين على النقدين وعلى المتعاملين على الأطعمة إذ لا ربا إلا في نقد أو في طعام
وعلى الصيرفي أن يحترز من النسيئة والفضل
أما النسيئة فأن لا يبيع شيئاً من جواهر النقدين بشيء من جواهر النقدين إلا يداً بيد وهو أن يجري التقابض في المجلس وهذا احتراز من النسيئة وتسليم الصيارفة الذهب إلى دار الضرب وشراء الدنانير المضروبة حرام من حيث النساء ومن حيث إن الغالب أن يجري فيه تفاضل إذ لا يرد المضروب بمثل وزنه
وأما الفضل فيحترز منه في ثلاثة أمور في بيع المكسر بالصحيح فلا تجوز المعاملة فيهما إلا مع المماثلة
وفي بيع الجيد بالرديء فلا ينبغي أن يشتري رديئاً بجيد دونه في الوزن أو يبيع رديئاً بجيد فوقه في الوزن أعني إذا باع الذهب بالذهب والفضة بالفضة فإن اختلف الجنسان فلا حرج في الفضل
والثالث في المركبات من الذهب والفضة كالدنانير المخلوطة من الذهب والفضة إن كان(2/68)
مقدرا الذهب مجهولاً لم تصح المعاملة عليها أصلاً إلا إذا كان ذلك نقداً جارياً في البلد فإنا نرخص في المعاملة عليه إذا لم يقابل بالنقد وكذا الدراهم المغشوشة بالنحاس إن لم تكن رائجة في البلد لم تصح المعاملة عليها لأن المقصود منها النقرة وهي مجهولة وإن كان نقداً رائجاً في البلد رخصنا في المعاملة لأجل الحاجة وخروج النقرة عن أن يقصد استخراجها ولكن لا يقابل بالنقرة أصلاً وكذلك كل حلي مركب من ذهب وفضة فلا يجوز شراؤه لا بالذهب ولا بالفضة بل ينبغي أن يشتري بمتاع آخر إن كان قدر الذهب منه معلوماً إلا إذا كان مموهاً بالذهب تمويهاً لا يحصل منه ذهب مقصود عند العرض على النار فيجوز بيعها بمثلها من النقرة بما أريد من غير النقرة وكذلك لا يجوز للصيرفي أن يشتري قلادة فيها خرز وذهب بذهب ولا أن يبيعه بل بالفضة يداً بيد إن لم يكن فيها فضة ولا يجوز شراء ثوب منسوج بذهب يحصل منه ذهب مقصود عند العرض على النار بذهب ويجوز بالفضة غيرها وأما المتعاملون على الأطعمة فعليهم التقابض في المجلس اختلف جنس الطعام المبيع والمشترى أو لم يختلف فإن اتحد الجنس فعليهم التقابض ومراعاة المماثلة والمعتاد في هذا معاملة القصاب بأن يسلم إليه الغنم ويشتري بها اللحم نقداً أو نسيئة فهو حرام ومعاملة الخباز بأن يسلم إليه الحنطة ويشتري بها الخبز نسيئة أو نقداً فهو حرام ومعاملة العصار بإن يسلم إليه البزر والسمسم والزيتون ليأخذ منه الأدهان فهو حرام وكذا اللبان يعطي اللبن ليؤخذ منه الجبن والسمن والزبد وسائر أجراء اللبن فهو أيضاً حرام ولا يباع الطعام بغير جنسه من الطعام إلا نقداً وبجنسه إلا نقداً ومتماثلاً وكل ما يتخذ من الشيء المطعوم فلا يجوز أن يباع به متماثلاً ولا متفاضلاً فلا يباع بالحنطة دقيق وخبز وسويق ولا بالعنب والتمر دبس وخل وعصير ولا باللبن سمن وزبد ومخيض ومصل وجبن والمماثلة لا تفيد إذا لم يكن الطعام في حال كمال الادخار فلا يباع الرطب بالرطب والعنب بالعنب متفاضلاً ومتماثلاً فهذه جمل مقنعة في تعريف البيع والتنبيه على ما يشعر التاجر بمثارات الفساد حتى يستفتي فيها إذا تشكك والتبس عليه شيء منها وإذا لم يعرف هذا لم يتفطن لمواضع السؤال واقتحم الربا والحرام وهو لا يدري العقد الثالث السلم
وليراع التاجر فيه عشرة شروط
الأول أن يكون رأس المال معلوماً على مثله حتى لو تعذر تسليم المسلم فيه أمكن الرجوع إلى قيمة رأس المال فإن أسلم كفا من الدراهم جزافاً في كر حنطة لم يصح في أحد القولين
الثاني أن يسلم رأس المال في مجلس العقد قبل التفرق فلو تفرقا قبل القبض انفسخ السلم
الثالث أن يكون المسلم فيه مما يمكن تعريف أوصافه كالحبوب والحيوانات والمعادن والقطن والصوف والابريسم والألبان واللحوم ومتاع العطارين وأشباهها ولا يجوز في المعجونات والمركبات وما تختلف أجزاؤه كالقسي المنوعة والنبل المعمول والخفاف والنعال المختلفة أجزاؤها وصنعتها وجلود الحيوانات
ويجوز السلم في الخبز
وما يتطرق إليه من اختلاف قدر الملح والماء بكثرة الطبخ وقلته يعفى عنه ويتسامح فيه
الرابع أن يستقصي وصف هذه الأمور القابلة للوصف حتى لا يبقى وصف تتفاوت به القيمة تفاوتاً لا يتغابن بمثله الناس إلا ذكره
فإن ذلك الوصف هو القائم مقام الرؤية في البيع
الخامس أن يجعل الأجل معلوماً إن كان مؤجلاً فلا يؤجل إلى الحصاد ولا إلى إدراك انثمار بل إلى الأشهر والأيام فإن الإدراك قد يتقدم وقد يتأخر
السادس إن يكون المسلم فيه مما يقدر على تسليمه وقت المحل ويؤمن فيه وجوده غالباً
فلا ينبغي إن يسلم في العنب إلى أجل لا يدرك فيه
وكذا سائر الفواكه فإن كان الغالب وجوده وجاء المحل وعجز عن التسليم بسبب آفة فله أن يمهله إن شاء أو يفسخ ويرجع في رأس المال(2/69)
إن شاء
السابع أن يذكر مكان التسليم فيما يختلف الغرض به كي لا يثير ذلك نزاعاً
الثامن أن لا يعلقه بمعين فيقول من حنطة هذا الزرع أو ثمرة هذا البستان فإن ذلك يبطل كونه ديناً
نعم لو أضاف إلى ثمرة بلد أو قرية كبيرة لم يضر ذلك
التاسع أن لا يسلم في شيء نفيس عزيز الوجود مثل درة موصوفة يعز وجود مثلها أو جارية حسناء معها ولدها أو غير ذلك مما لا يقدر عليه غالباً
العاشر أن لا يسلم في طعام مهما كان رأس المال طعاماً سواء كان من جنسه أو لم يكن ولا يسلم في نقد إذا كان رأس المال نقداً وقد ذكرنا هذا في الربا العقد الرابع الإجارة
وله ركنان الأجرة والمنفعة فأما العاقد واللفظ فيعتبر فيه ما ذكرناه في البيع والأجرة كالثمن فينبغي أن يكون معلوماً وموصوفاً بكل ما شرطناه في المبيع إن كان عيناً فإن كان ديناً فينبغي أن يكون معلوم الصفة والقدر وليحترز فيه عن أمور جرت العادة بها وذلك مثل كراء الدار بعمارتها فذلك باطل إذ قدر العمارة مجهول
ولو قدر دراهم وشرط على المكتري أن يصرفها إلى العمارة لم يجز لأن عمله في الصرف إلى العمارة مجهول
ومنها استئجار السلاخ على أن يأخذ الجلد بعد السلخ واستئجار حمال الجيف بجلد الجيفة واستئجار الطحان بالنخالة أو بعض الدقيق فهو باطل وكذلك كل ما يتوقف حصوله وانفصاله على عمل الأجير فلا يجوز أن يجعل أجرة
ومنها أن يقدر في إجارة الدور والحوانيت مبلغ الأجر فلو قال لكل شهر دينار ولم يقدر أشهر الإجارة كانت المدة مجهولة ولم تنعقد الإجارة
الركن الثاني المنفعة المقصودة بالإجارة وهي العمل وحده إن كان عمل مباح معلوم يلحق العامل فيه كلفة ويتطوع به الغير عن الغير فيجوز الاستئجار عليه وجملة فروع الباب تندرج تحت هذه الرابطة ولكنا لا نطول بشرحها فقد طولنا القول فيها في الفقهيات وإنما نشير إلى ما تعم به البلوى فليراع في العمل المستأجر عليه خمسة أمور
الأول أن يكون متقوما بأن يكون فيه كلفة وتعب
فلو استأجر طعاماً ليزين به الدكان
أو أشجاراً ليجفف عليها الثياب أو دراهم ليزين بها الدكان
لم يجز فإن هذه المنافع تجري مجرى حبة سمسم وحبة بر من الأعيان وذلك لا يجوز بيعه وهي كالنظر في مرآة الغير والشرب من بئره والاستظلال بجداره والاقتباس من ناره ولهذا لو استأجر بياعاً على أن يتكلم بكلمة يروج بها سلعته لم يجز
وما يأخذه البياعون عوضاً عن حشمتهم وجاههم وقبول قولهم في ترويج السلع فهو حرام إذ ليس يصدر منهم إلا كلمة لا تعب فيها ولا قيمة لها وإنما يحل لهم ذلك إذ تعبوا بكثرة التردد أو بكثرة الكلام في تأليف أمر المعاملة
ثم لا يستحقون إلا أجرة المثل فأما ما تواطأ عليه الباعة فهو ظلم وليس مأخوذاً بالحق
الثاني أن لا تتضمن الإجارة استيفاء عين مقصودة فلا يجوز إجارة الكرم لارتفاقه
ولا إجارة المواشي للبنها
ولا إجارة البساتين لثمارها
ويجوز استئجار المرضعة ويكون اللبن تابعاً لأن إفراده غير ممكن
وكذا يتسامح بحبر الورق وخيط الخياط
لأنهما لا يقصدان على حيالهما
الثالث أن يكون العمل مقدورا على تسليمه حسا وشرعا
فلا يصح استئجار الضعيف على عمل لا يقدر عليه
ولا استئجار الأخرس على التعليم ونحوه وما يحرم فعله فالشرع يمنع من تسليمه
كالاستئجار على قلع سن سليمة أو قطع عضو لا يرخص الشرع في قطعه أو استئجار الحائض على كنس المسجد
أو المعلم على تعليم السحر أو الفحش
أو استئجار زوجة الغير على الإرضاع دون إذن زوجها
أو استئجار المصور على تصوير الحيوانات
أو استئجار الصائغ على صيغة الأواني من الذهب والفضة فكل ذلك باطل
الرابع أن لا يكون العمل واجبا على الأجير
أو لا يكون بحيث لا تجري(2/70)
النيابة فيه عن المستأجر
فلا يجوز أخذ الأجرة على الجهاد ولا سائر العبادات التي لا نيابة فيها
إذ لا يقع ذلك عن المستأجر
ويجوز عن الحج وغسل الميت وحفر القبور ودفن الموتى وحمل الجنائز
وفي أخذ الأجرة على إمامة صلاة التراويح وعلى الأذان وعلى التصدي للتدريس وإقراء القرآن خلاف
أما الاستئجار على تعليم مسئلة بعينها أو تعليم سورة بعينها لشخص معين فصحيح
الخامس أن يكون العمل والمنفعة معلوماً
فالخياط يعرف عمله بالثوب
والمعلم يعرف عمله بتعيين السورة ومقدارها
وحمل الدواب يعرف بمقدار المحمول وبمقدار المسافة
وكل ما يثير خصومة في العادة فلا يجوز إهماله
وتفصيل ذلك يطول
وإنما ذكرنا هذا القدر ليعرف به جليات الأحكام ويتفطن به لمواقع الإشكال
فيسأل
فإن الاستقصاء شأن المفتي لا شأن العوام العقد الخامس القراض
وليراع فيه ثلاثة أركان
الركن الأول رأس المال وشرطه أن يكون نقداً معلوماً مسلماً إلى العامل فلا يجوز القراض على الفلوس ولا على العروض فإن التجارة تضيق فيه
ولا يجوز على صرة من الدراهم لأن قدر الربح لا يتبين فيه ولو شرط مالك اليد لنفسه لم يجز لأن فيه تضييق طريق التجارة
الركن الثاني الربح وليكن معلوماً بالجزئية بأن يشترط له الثلث أو النصف أو ما شاء فلو قال على أن لك من الربح مائة والباقي لي لم يجز إذ ربما لا يكون الربح أكثر من مائة فلا يجوز تقديره بمقدار معين بل بمقدار شائع
الثالث العمل الذي على العامل وشرطه أن يكون تجارة غير مضيقة عليه بتعيين وتأقيت فلو شرط أن يشتري بالمال ماشية ليطلب نسلها فيتقاسمان النسل أو حنطة فيخبزها ويتقاسمان الربح لم يصح لأن القراض مأذون فيه في التجارة وهو البيع والشراء وما يقع من ضرورتهما فقط وهذا حرف أعني الخبز ورعاية المواشي ولو ضيق عليه وشرط أن لا يشتري إلا من فلان أو لا يتجر إلا في الخز الأحمر أو شرط ما يضيق باب التجارة فسد العقد ثم مهما انعقد فالعامل وكيل فيتصرف بالغبطة تصرف الوكلاء ومهما أراد المالك الفسخ فله ذلك فإذا فسخ في حالة والمال كله فيها نقد لم يخف وجه القسمة وإن كان عروضاً ولا ربح فيه رد عليه ولم يكن للمالك تكليفه أن يرده إلى النقد لأن العقد قد انفسخ وهو لم يلتزم شيئاً وإن قال العامل أبيعه وأبي المالك فالمتبوع رأى المالك إلا إذا وجد العامل زبوناً يظهر بسببه ربح على رأس المال ومهما كان ربح فعلى العامل بيع مقدار رأس المال بجنس رأس المال لا بنقد آخر حتى يتميز الفاضل ربحاً فيشتركان فيه وليس عليهم بيع الفاضل على رأس المال ومهما كان رأس السنة فعليهم تعرف قيمة المال لأجل الزكاة فإذا كان قد ظهر من الربح شيء فالأقيس أن زكاة نصيب العامل على العامل وأنه يملك الربح بالظهور وليس للعامل أن يسافر بمال القراض دون إذن المالك فإن فعل صحت تصرفاته ولكنه إذا فعل ضمن الأعيان والأثمان جميعاً لأن عدوانه بالنقل يتعدى إلى ثمن المنقول وإن سافر بالإذن جاز ونفقة النقل وحفظ المال على مال القراض كما أن نفقة الوزن والكيل والحمل الذي لا يعتاد التاجر مثله على رأس المال فأما نشر الثوب وطيه والعمل اليسير المعتاد فليس له أن يبذل عليه أجرة
وعلى العامل نفقته وسكناه في البلد وليس عليه أجرة الحانوت
ومهما تجرد في السفر لمال القراض فنفقته في السفر على مال القراض فإذا رجع فعليه أن يرد بقايا آلات السفر من المطهرة والسفرة وغيرها(2/71)
العقد السادس الشركة
وهي أربعة أنواع ثلاثة منها باطلة
الأول شركة المفاوضة وهو أن يقولا تفاوضنا لنشترك في كل مالنا وعلينا ومالاهما ممتازان فهي باطلة
الثاني شركة الأبدان وهو أن يتشارطا الاشتراك في أجرة العمل فهي باطلة
الثالث شركة الوجوه وهو أن يكون لأحدهما حشمة وقول مقبول فيكون من جهته التنفيل ومن جهة غيره العمل فهذا أيضاً باطل
وإنما الصحيح العقد الرابع المسمى شركة العنان وهو أن يختلط مالاهما بحيث يتعذر التمييز بينهما إلا بقسمه ويأذن كل منهما لصاحبه في التصرف ثم حكمهما توزيع الربح والخسران على قدر المالين ولا يجوز أن يغير ذلك بالشرط ثم بالعزل يمتنع التصرف عن المعزول وبالقسمة ينفصل الملك عن الملك والصحيح أنه يجوز عقد الشركة على العروض المشتراة ولا يشترط النقد بخلاف القراض
فهذا القدر من علم الفقه يجب تعلمه على كل مكتسب وإلا اقتحم الحرام من حيث لا يدري
وأما معاملة القصاب والخباز والبقال فلا يستغني عنها المكتسب وغير المكتسب والخلل فيها من ثلاثة وجوه من إهمال شروط البيع أو إهمال شروط السلم أو الاقتصار على المعاطاة إذ العادات جارية بكتبه الخطوط على هؤلاء بحاجات كل يوم ثم المحاسبة في كل مدة ثم التقويم بحسب ما يقع عليه التراضي وذلك مما نرى القضاء بإباحته للحاجة ويحمل تسليمهم على إباحة التناول مع انتظار العوض فيحل أكله ولكن يجب الضمان بأكله وتلزم قيمته يوم الإتلاف فتجتمع في الذمة تلك القيم فإذا وقع التراضي على مقدار ما فينبغي أن يلتمس منهم الإبراء المطلق لا تبقي عليه عهدة إن تطرق إليه تفاوت في التقويم فهذا ما تجب القناعة به فإن تكليف وزن الثمن لكل حاجة من الحوائج في كل يوم وكل ساعة تكليف شطط وكذا تكليف الإيجاب والقبول وتقدير ثمن كل قدر يسير منه فيه عسر وإذا كثر كل نوع سهل تقويمه والله الموفق
الباب الثالث في بَيَانُ الْعَدْلِ وَاجْتِنَابُ الظُّلْمِ فِي الْمُعَامَلَةِ
اعْلَمْ أن المعاملة قد تجري على وجه يحكم المفتي بصحتها وانعقادها ولكنها تشتمل عَلَى ظُلْمٍ يَتَعَرَّضُ بِهِ الْمُعَامِلُ لِسُخْطِ اللَّهِ تعالى إذ ليس كل نهي يقتضي فساد العقد وَهَذَا الظُّلْمُ يَعْنِي بِهِ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْغَيْرُ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ وَإِلَى مَا يَخُصُّ الْمُعَامِلَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يعم ضرره وهو أنواع
النوع الْأَوَّلُ الِاحْتِكَارُ فَبَائِعُ الطَّعَامِ يَدَّخِرُ الطَّعَامَ يَنْتَظِرُ بِهِ غَلَاءَ الْأَسْعَارِ وَهُوَ ظُلْمٌ عَامٌّ وَصَاحِبُهُ مذموم في الشرع
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من احتكر الطعام أربعين يوماً ثم تصدق به لم تكن صدقته كفارة لاحتكاره (1)
وروى ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من احتكر الطعام أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه (2)
وقيل فكأنما قتل الناس جميعاً وعن علي رضي الله عنه من احتكر الطعام أربعين يوما
_________
(1) حديث من احتكر الطعام أربعين يوماً ثم تصدق به لم تكن صدقته كفارة لاحتكاره رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي والخطيب في التاريخ من حديث أنس بسندين ضعيفين
(2) حديث ابن عمر من احتكر الطعام أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه رواه أحمد والحاكم بسند جيد وقال ابن عدي ليس بمحفوظ من حديث ابن عمر(2/72)
قسا قلبه
وعنه أيضاً أنه أحرق طعام محتكر بالنار
وروي في فضل ترك الاحتكار عنه صلى الله عليه وسلم من جلب طعاماً فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به وفي لفظ آخر فكأنما أعتق رقبة (1)
وقيل في قوله تعالى {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} إن الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد
وعن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة ولا تؤخره إلى غد فوافق سعة في السعر فقال له التجار لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه فأخره جمعة فربح فيه أمثاله وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام يا هذا إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين فقد جنيت علينا جناية فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله فتصدق به على فقراء البصرة وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافاً لا علي ولا لي
واعلم أن النهي مطلق ويتعلق النظر به في الوقت والجنس أما الجنس فيطرد النهي في أجناس الأقوات أما ما ليس بقوت ولا هو معين على القوت كالأدوية والعقاقير والزعفران وأمثاله فلا يتعدى النهي إليه وإن كان مطعوما
وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسداً يغني عن القوت في بعض الأحوال وأن كان لا يمكن المداومة عليه فهذا في محل النظر فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت وما يجري مجراه وأما الوقت فيحتمل أيضاً طرد النهي في جميع الأوقات وعليه تدل الحكاية التي ذكرنا في الطعام الذي صادف بالبصرة سعة في السعر ويحتمل أن يخصص بوقت قِلَّةِ الْأَطْعِمَةِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ في تأخير بيعه ضر ما فأما إِذَا اتَّسَعَتِ الْأَطْعِمَةُ وَكَثُرَتْ وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهَا وَلَمْ يَرْغَبُوا فِيهَا إِلَّا بِقِيمَةٍ قَلِيلَةٍ فَانْتَظَرَ صَاحِبُ الطَّعَامِ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ قَحْطًا فَلَيْسَ في هذا إضرار
وإذا كان الزمان زمان قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار فينبغي أن يقضى بتحريمه ويعول في نفي التحريم وإثباته على الضرار فإنه مفهوم قطعاً من تخصيص الطعام وإذا لم يكن ضرار فلا يَخْلُو احْتِكَارُ الْأَقْوَاتِ عَنْ كَرَاهِيَةٍ فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ مَبَادِئَ الضِّرَارِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْأَسْعَارِ وَانْتِظَارُ مَبَادِئِ الضِّرَارِ مَحْذُورٌ كَانْتِظَارِ عَيْنِ الضِّرَارِ وَلَكِنَّهُ دُونَهُ وَانْتِظَارُ عَيْنِ الضِّرَارِ أَيْضًا هُوَ دُونَ الْإِضْرَارِ فَبِقَدْرِ دَرَجَاتِ الْإِضْرَارِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّحْرِيمِ
وبالجملة التجارة في الأقوات مما لا يستحب لأنه طلب ربح والأقوات أصول خلقت قواماً والربح من المزايا فينبغي أن يطلب الربح فيما خلق من جملة المزايا التي لا ضرورة للخلق إليها ولذلك أوصى بعض التابعين رجلاً وقال لا تسلم ولدك في بيعتين ولا في صنعتين بيع الطعام وبيع الأكفان فإنه يتمنى الغلاء وموت الناس
والصنعتان أن يكون جزاراً فإنها صنعة تقسي القلب أو صواغاً فإنه يزخرف الدنيا بالذهب والفضة
النوع الثَّانِي تَرْوِيجُ الزَّيْفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ فِي أَثْنَاءِ النَّقْدِ فَهُوَ ظُلْمٌ إِذْ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمُعَامِلُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ وَإِنْ عَرَفَ فَسَيُرَوِّجُهُ عَلَى غيره فكذلك الثالث والرابع ولا يزال يتردد في الأيدي ويعمم الضَّرَرُ وَيَتَّسِعُ الْفَسَادُ وَيَكُونُ وِزْرُ الْكُلِّ وَوَبَالُهُ راجعاً عليه فإنه هو الذي فتح هذا الباب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سن سنة سيئةً فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ومثل وزر مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقِصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شيئاً (2)
وقال بعضهم إنفاق درهم
_________
(1) حديث من جلب طعاماً فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به وفي لفظ آخر فكأنما أعتق رقبة أخرجه ابن مردويه في التفسير من حديث ابن مسعود بسند ضعيف ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد وللحاكم من حديث اليسع بن المغيرة إن الجالب إلى سوقا كالمجاهد في سبيل الله وهو مرسل
(2) حديث من سن سنة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقِصُ من أوزارهم شيء أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله(2/73)
زَيْفٍ أَشَدُّ مِنْ سَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَمَّتْ وَانْقَطَعَتْ وَإِنْفَاقُ الزيف بدعة أظهرها في الدين وسنة سيئة يعمل بها من بعده فيكون عَلَيْهِ وِزْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ مِائَتَيْ سَنَةٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى ذَلِكَ الدرهم ويكون عليه ما فسد من أموال الناس بسنته وَطُوبَى لِمَنْ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ وَالْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِمَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِائَةَ سنة ومائتي سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يُعَذَّبُ بِهَا فِي قَبْرِهِ ويسئل عنها إلى آخر انقراضها وقال تعالى {ونكتب ما قدموا وآثارهم} أَيْ نَكْتُبُ أَيْضًا مَا أَخَّرُوهُ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوهُ وَفِي مِثْلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وأخر} وَإِنَّمَا أَخَّرَ آثَارَ أَعْمَالِهِ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ عمل بها غيره
وليعلم أن في الزيف خمسة أمور
الأول أَنَّهُ إِذَا رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرَحَهُ فِي بِئْرٍ بِحَيْثُ لَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْيَدُ وَإِيَّاهُ أَنْ يُرَوِّجَهُ فِي بَيْعٍ آخر
وإن أفسده بحيث لا يمكن التعامل به جاز
الثاني أنه يجب على التاجر تعلم النقد لا ليستقصي لنفسه ولكن لئلا يسلم إلى مسلم زَيْفًا وَهُوَ لَا يَدْرِي فَيَكُونَ آثِمًا بِتَقْصِيرِهِ في تعلم ذلك العلم
فكل علم عمل به يتم نصح المسلمين
فيجب تحصيله ولمثل هذا كان السلف يتعلمون علامات النقد نظراً لدينهم لا لدنياهم
الثالث أنه إن سلم وعرف المعامل أنه زيف لم يخرج عن الإثم
لأنه ليس يأخذه إلا ليروجه على غيره ولا يخبره ولو لم يعزم على ذلك لكان لا يرغب في أخذه أصلاً
فإنما يتخلص من إثم الضرر الذي يخص معامله فقط
الرابع أن يأخذ الزيف ليعمل بقوله صلى الله عليه وسلم رحم الله امرأً سهل البيع سهل الشراء سهل القضاء سهل الاقتضاء (1)
فهو داخل في بركة هذا الدعاء إن عزم على طرحه في بئر
وإن كان عازماً على أن يروجه في معاملة فهذا شر روجه الشيطان عليه في معرض الخير فلا يدخل تحت من تساهل في الاقتضاء
الخامس أن الزيف نعني به ما لا نقره فيه أصلاً بل هو مموه
أو ما لا ذهب فيه أعني في الدنانير
أما ما فيه نقرة فإن كان مخلوطاً بالنحاس وهو نقد البلد فقد اختلف العلماء في المعاملة عليه وجل رأينا الرخصة فيه إذا كان ذلك نقد البلد سواء علم مقدار النقرة أو لم يعلم وإن لم يكن هو نقد البلد لم يجز إلا إذا علم قدر النقرة فإن كَانَ فِي مَالِهِ قِطْعَةٌ نَقْرَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ مُعَامِلَهُ وَأَنْ لَا يُعَامِلَ بِهِ إِلَّا مَنْ لَا يَسْتَحِلُّ التَّرْوِيجَ فِي جُمْلَةِ النَّقْدِ بِطَرِيقِ التَّلْبِيسِ فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ فَتَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى الْفَسَادِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَذَلِكَ مَحْظُورٌ وَإِعَانَةٌ عَلَى الشَّرِّ وَمُشَارَكَةٌ فِيهِ وَسُلُوكُ طَرِيقِ الْحَقِّ بِمِثَالِ هَذَا فِي التِّجَارَةِ أَشَدُّ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ على نوافل العبادات والتخلي لها ولذلك قال بعضهم التاجر الصدوق أفضل عند الله من المتعبد وقد كان السلف يحتاطون في مثل ذلك حتى روي عن بعض الغزاة في سبيل الله أنه قال حملت على فرسي لأقتل علجاً فقصر بي فرسي فرجعت ثم دنا مني العلج فحملت ثانية فقصر فرسي فرجعت ثم حملت الثالثة فنفر مني فرسي وكنت لا أعتاد ذلك منه فرجعت حزيناً وجلست منكس الرأس منكسر القلب لما فاتني من العلج وما ظهر لي من خلق الفرس فوضعت رأسي على عمود الفسطاط وفرسي قائم فرأيت في النوم كأن الفرس يخاطبني ويقول لي بالله عليك أردت أن تأخذ على العلج ثلاث مرات وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً لا يكون هذا أبداً
قال فانتبهت فزعاً فذهبت إلى العلاف وأبدلت ذلك الدرهم فهذا مثال ما يعم ضرره وليقس عليه أمثاله الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَخُصُّ ضَرَرُهُ الْمُعَامِلَ
فَكُلُّ مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمُعَامِلُ فَهُوَ ظُلْمٌ وَإِنَّمَا العدل لَا يَضُرَّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَالضَّابِطُ الْكُلِّيُّ فِيهِ أن لا يحب
_________
(1) حديث رحم الله امرءا سهل البيع سهل الشراء سهل القضاء سهل الاقتضاء أخرجه البخاري من حديث جابر(2/74)
لِأَخِيهِ إِلَّا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَكُلُّ مَا لو عومل به شق عَلَيْهِ وَثَقُلَ عَلَى قَلْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَامِلَ غَيْرَهُ بِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَ عنده درهمه ودرهم غيره
قال بعضهم من باع أخاه شيئا بدرهم وليس يصلح له لو اشتراه لنفسه إلا بخمسة دوانق فإنه قد ترك النصح المأمور به في المعاملة ولم يحب لأخيه ما يحب لنفسه هذه جملته
فأما تفصيله ففي أربعة أمور
أَنْ لَا يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فيها وأن لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئاً أصلاً وأن لا يكتم في وزنها ومقدارها شيئاً وأن لا يكتم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه
أما الأول فهو ترك الثناء فإن وصفه للسلعة إن كان بما ليس فيها فهو كَذِبٌ فَإِنْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَهُوَ تَلْبِيسٌ وظلم مع كونه كذباً وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ كَذِبٌ وَإِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ إذ الكذب الذي لا يروج قد لا يقدح في ظاهر المروءة وإن أثنى على السلعة بما فيها فهو هذيان وتكلم بكلام لا يعنيه وهو محاسب على كل كلمة تصدر منه أنه لم تكلم بها
قال الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد} إلا أن يثني على السلعة بما فيها مما لا يعرفه المشتري ما لم يذكره كما يصفه من خفى أخلاق العبيد والجواري والدواب فلا بأس بذكر القدر الموجود منه من غير مبالغة وإطناب وليكن قصده منه أن يعرفه أخوه المسلم فيرغب فيه وتنقضي بسببه حاجته ولا ينبغي أن يحلف عليه الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ جَاءَ باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِ وَقَدْ أَسَاءَ فِيهِ إِذِ الدُّنْيَا أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ تَرْوِيجَهَا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَفِي الْخَبَرِ وَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ بَلَى وَاللَّهِ وَلَا وَاللَّهِ وَوَيْلٌ للصانع من غد وبعد (1)
وَفِي الْخَبَرِ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مُنْفِقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ للبركة (2)
وروى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عتل مستكبر ومنان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه (3)
فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروهاً من حيث إنه فضول لا يزيد في الرزق فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين وقد روي عن يونس بن عبيد وكان خزازاً أنه طلب منه خز للشراء فأخرج غلامه سقط الخز ونشره ونظر إليه وقال اللهم ارزقنا الجنة فقال لغلامه رده إلى موضعه ولم يبعه وخاف أن يكون ذلك تعريضاً بالثناء على السلعة فمثل هؤلاء الذين اتجروا في الدنيا ولم يضيعوا دينهم في تجاراتهم بل علموا أن ربح الآخرة أولى بالطلب من ربح الدنيا
الثَّانِي أَنْ يُظْهِرَ جَمِيعَ عُيُوبِ الْمَبِيعِ خَفِيِّهَا وَجَلِيِّهَا وَلَا يَكْتُمُ مِنْهَا شَيْئًا فَذَلِكَ وَاجِبٌ فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا وَالْغِشُّ حَرَامٌ وَكَانَ تَارِكًا لِلنُّصْحِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالنُّصْحُ وَاجِبٌ وَمَهْمَا أَظْهَرَ أَحْسَنَ وَجْهَيِ الثَّوْبِ وَأَخْفَى الثَّانِيَ كَانَ غَاشًّا وَكَذَلِكَ إِذَا عَرَضَ الثِّيَابَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُظْلِمَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا عَرَضَ أَحْسَنَ فَرْدَيِ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ وَأَمْثَالِهِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الغش ما روي أنه مر صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاماً فأعجبه فأدخل يده فيه فَرَأَى بَلَلًا فَقَالَ {مَا هَذَا} قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ فَقَالَ فَهَلَّا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (4)
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النُّصْحِ بِإِظْهَارِ الْعُيُوبِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بايع جريراً على الإسلام ذهب
_________
(1) حديث وَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ بَلَى وَاللَّهِ وَلَا وَاللَّهِ وويل للصانع من غد وبعد غد لم أقف له على أصل وذكر صاحب مسند الفردوس من حديث أنس بغير إسناد نحوه
(2) حديث اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ الحلف وهو عند البيهقي بلفظ المصنف
(3) حديث أبي هريرة ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عائل مستكبر ومنان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه أخرجه مسلم من حديثه إلا أنه لم يذكر فيها إلا عائل مستكبر ولهما ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطى فيها أكثر مما أعطى وهو كاذبالحديث ولمسلم من حديث أبي ذر المنان والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب
(4) حديث مر بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَرَأَى بللاً فقال ما هذاالحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة(2/75)
لِيَنْصَرِفَ فَجَذَبَ ثَوْبَهُ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ (1)
فَكَانَ جرير إِذَا قَامَ إِلَى السِّلْعَةِ يَبِيعُهَا بَصَّرَ عُيُوبَهَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَخُذْ وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَنْفُذْ لَكَ بَيْعٌ فَقَالَ إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
وَكَانَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَاقِفًا فَبَاعَ رَجُلٌ نَاقَةً لَهُ بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَغَفَلَ واثلة وَقَدْ ذَهَبَ الرَّجُلُ بِالنَّاقَةِ فَسَعَى وَرَاءَهُ وَجَعَلَ يَصِيحُ بِهِ يَا هَذَا أَشْتَرَيْتَهَا لِلَّحْمِ أَوْ لِلظَّهْرِ فَقَالَ بَلْ لِلظَّهْرِ فَقَالَ إِنَّ بِخُفِّهَا نَقْبًا قَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهَا لَا تُتَابِعُ السَّيْرَ فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم وقال لواثلة رَحِمَكَ اللَّهُ أَفْسَدْتَ عَلَيَّ بَيْعِي فَقَالَ إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَقَالَ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ بَيْعًا إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ آفَتَهُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا تَبْيِينُهُ (2)
فَقَدْ فَهِمُوا مِنَ النُّصْحِ أَنْ لَا يَرْضَى لِأَخِيهِ إِلَّا مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَزِيَادَةِ الْمَقَامَاتِ بَلِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ الداخلة تحت بيعتهم وهذا أمر يشق على أكثر الخلق فلذلك يختارون التخلي للعبادة والاعتزال عن الناس لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة مجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون ولن يتيسر ذلك على العبد إلا بأن يعتقد أَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ تَلْبِيسَهُ الْعُيُوبَ وَتَرْوِيجَهُ السِّلَعَ لَا يَزِيدُ فِي رِزْقِهِ بَلْ يَمْحَقُهُ وَيَذْهَبُ ببركته وما يجمعه من مفرقات التلبيسات يهلكه الله دَفْعَةً وَاحِدَةً فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ وَاحِدًا كَانَ له بقرة يحلبها ويخلط بلبنها الماء ويبيعه فَجَاءَ سَيْلٌ فَغَرَّقَ الْبَقَرَةَ فَقَالَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ إِنَّ تِلْكَ الْمِيَاهَ الْمُتَفَرِّقَةَ الَّتِي صَبَبْنَاهَا فِي اللَّبَنِ اجْتَمَعَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَأَخَذَتِ الْبَقَرَةَ
كَيْفَ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّعَانِ إِذَا صَدَقَا وَنَصَحَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِذَا كَتَمَا وَكَذَبَا نُزِعَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا (3)
وَفِي الْحَدِيثِ يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا فَإِذَا تَخَاوَنَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُمَا (4)
فَإِذًا لَا يَزِيدُ مَالٌ مِنْ خِيَانَةٍ كَمَا لَا ينقص من صدقة من لا يعرف الزيادة والنقصان إلا بالميزان لم يصدق بهذا الحديث
ومن عرف أن الدرهم الواحد قد يبارك فيه حتى يكون سبباً لسعادة الإنسان في الدنيا والدين والآلاف المؤلفة قد ينزع الله البركة منها حتى تكون سبباً لهلاك مالكها بحيث يتمنى الإفلاس منها ويراه أصلح له في بعض أحواله فيعرف معنى قولنا إن الخيانة لا تزيد في المال والصدقة لا تنقص منه
وَالْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ لِيَتِمَّ لَهُ النُّصْحُ وَيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رِبْحَ الْآخِرَةِ وَغِنَاهَا خَيْرٌ مِنْ رِبْحِ الدُّنْيَا وَأَنَّ فَوَائِدَ أَمْوَالِ الدُّنْيَا تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ العمر وتبقى مظالمها وأوزارها فكيف يستجيز الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي سَلَامَةِ الدِّينِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن الخلق سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم (5)
وفي لفظ آخر ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم بسلامة دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا لا إله إلا الله قال الله تعالى كذبتم لستم بها صادقين وفي حديث آخر من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة
قيل
وما إخلاصه قال
أن يحرزه عما حرم الله (6)
وقال أيضاً
مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ وَمَنْ علم
_________
(1) حديث جرير بن عبد الله بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النصح لكل مسلم متفق عليه
(2) حديث واثلة لا يحل لأحد يبيع بيعا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد والبيهقي
(3) حديث الْبَيِّعَانِ إِذَا صَدَقَا وَنَصَحَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بيعهماالحديث متفق عليه من حديث حكيم بن حزام
(4) حديث يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا فإذا تخاونا رفع يده عنهما رواه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح الإسناد
(5) حديث لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن الخلق سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على أخراهمالحديث رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب من حديث أنس بسند ضعيف وفي رواية للترمذي الحكيم في النوادر حتى إذا نزلوا بالمنزل الذي لا يبالون ما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهمالحديث وللطبراني في الأوسط نحوه من حديث عائشة وهو ضعيف أيضا
(6) حديث من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة قيل وما إخلاصها قال تحجزه عما حرم الله أخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم في معجمه الكبير والأوسط بإسناد حسن(2/76)
أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَادِحَةٌ فِي إِيمَانِهِ وَأَنَّ إيمانه رأس ماله فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُضَيِّعْ رَأْسَ مَالِهِ الْمُعَدَّ لِعُمْرٍ لَا آخِرَ لَهُ بِسَبَبِ رِبْحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً
وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قال لو دخلت الجامع ومع وَهُوَ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ وَقِيلَ لِي مَنْ خَيْرُ هؤلاء لقلت من أنصحهم لهم فإذا قالوا هذا قلت هو خيرهم
ولو قيل لي من شرهم قلت من أغشهم لهم فإذا قيل هذا قلت هو شرهم
وَالْغِشُّ حَرَامٌ فِي الْبُيُوعِ وَالصَّنَائِعِ جَمِيعًا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَهَاوَنَ الصَّانِعُ بِعَمَلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ عَامَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ لَمَا ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْسِنَ الصَّنْعَةَ وَيُحْكِمَهَا ثُمَّ يُبَيِّنَ عَيْبَهَا إِنْ كَانَ فِيهَا عَيْبٌ فَبِذَلِكَ يتخلص
وسأل رجل حداء بن سالم فَقَالَ كَيْفَ لِي أَنْ أَسْلَمَ فِي بَيْعِ النِّعَالِ فَقَالَ اجْعَلِ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءً وَلَا تُفَضِّلِ الْيُمْنَى عَلَى الْأُخْرَى وَجَوِّدِ الْحَشْوَ وَلْيَكُنْ شَيْئًا وَاحِدًا تَامًّا وَقَارِبْ بَيْنَ الْخُرُزِ وَلَا تطبق إحدى النعلين على الأخرى
ومن هذا الفن مَا سُئِلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الرَّفْوِ بِحَيْثُ لَا يَتَبَيَّنُ قَالَ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَبِيعُهُ أَنْ يُخْفِيَهُ وَإِنَّمَا يحل للرفا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُظْهِرُهُ أَوْ أَنَّهُ لَا يريده لِلْبَيْعِ
فَإِنْ قُلْتَ فَلَا تَتِمُّ الْمُعَامَلَةُ مَهْمَا وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَذْكُرَ عُيُوبَ الْمَبِيعِ فَأَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ شَرْطُ التَّاجِرِ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ لِلْبَيْعِ إِلَّا الْجِيِّدَ الَّذِي يَرْتَضِيهِ لنفسه لو أمسكه ثم يقنع في بيعه بربح يسير فيبارك الله له فيه ولا يحتاج إلى تلبيس وإنما تعذر هذا لأنهم لا يقنعون بالربح اليسير وليس يسلم الكثير إلا بتلبيس فَمَنْ تَعَوَّدَ هَذَا لَمْ يَشْتَرِ الْمَعِيبَ فَإِنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ مَعِيبٌ نَادِرًا فَلْيَذْكُرْهُ وَلْيَقْنَعْ بِقِيمَتِهِ
بَاعَ ابْنُ سِيرِينَ شَاةً فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ عَيْبٍ فِيهَا أَنَّهَا تَقْلِبُ العلف برجلها
وباع الحسن بن صالح جارية فقال للمشتري إنها تنخمت مرة عندنا دماً فهكذا كانت سيرة أهل الدين فمن لا يقدر عليه فليترك المعاملة أو ليوطن نفسه على عذاب الآخرة
الثالث إلا يكتم في المقدار شيئاً وَذَلِكَ بِتَعْدِيلِ الْمِيزَانِ وَالِاحْتِيَاطِ فِيهِ وَفِي الْكَيْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكِيلَ كَمَا يَكْتَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ولا يخلص من هذا إلا بأن يرجع إِذَا أَعْطَى وَيَنْقُصَ إِذَا أَخَذَ إِذِ الْعَدْلُ الْحَقِيقِيُّ قَلَّمَا يُتَصَوَّرُ فَلْيُسْتَظْهَرْ بِظُهُورِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِنَّ مَنِ اسْتَقْصَى حَقَّهُ بِكَمَالِهِ يُوشِكُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لَا أَشْتَرِي الْوَيْلَ من الله بحبة فكان إذا أخذ نقص نصف حبة وإذا أعطى زاد حبة وكان يقول ويل لمن باع بحبة جنة عرضها السموات والأرض وما أخسر من باع طوبى بويل
وإنما بالغوا في الاحتراز من هذا وشبهه لأنها مظالم لا يمكن التوبة منها إذ لا يعرف أصحاب الحبات حتى يجمعهم ويؤدى حقوقهم ولذلك لما اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قال للوزان لما كان يزن ثمنه زن وأرجح (1)
ونظر فضيل إلى ابنه وهو يغسل دينارا يريد أن يصرفه ويزيل تكحيله وينقيه حتى لا يزيد وزنه بسبب ذلك فقال يا بني فعلك هذا أفضل من حجتين وعشرين عمرة
وقال بعض السلف عجبت للتاجر والبائع كيف ينجو يزن ويحلف بالنهار وينام بالليل
وقال سليمان عليه السلام لابنه يا بني كما تدخل الحبة بين الحجرين كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين
وصلى بعض الصالحين على مخنث فقيل له إنه كان فاسقاً فسكت فأعيد عليه فقال كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين يعطي بأحدهما ويأخذ بالأخر أشار به إلى أن فسقه مظلمة بينه وبين الله تعالى وهذا من مظالم العباد والمسامحة والعفو فيه أبعد والتشديد في أمر الميزان عظيم والخلاص منه يحصل بحبة ونصف حبة
وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن باللسان ولا تخسروا الميزان أي لسان الميزان فإن النقصان والرجحان
_________
(1) حديث قال للوزان زن وأرجح رواه أصحاب السنن والحاكم من حديث سويد بن قيس قال الترمذي حسن صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم(2/77)
يظهر بميله وبالجملة كل من ينتصف لنفسه من غيره ولو في كلمة ولا ينصف بمثل ما ينتصف فهو داخل تحت قوله تَعَالَى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى الناس يستوفون الآيات فإن تحريم ذلك في المكيل ليس لكونه مكيلاً بل لكونه أمراً مقصوداً ترك العدل والنصفة فيه فهو جار في جميع الأعمال فصاحب الميزان في خطر الويل وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته فالويل له إن عدل عن العدل ومال عن الاستقامة ولولا تعذر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حتماً مقضياً فلا ينفك عبد ليس معصوماً عن الميل عن الاستقامة إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتاً عظيماً فلذلك تتفاوت مدة مقامهم في النار إلى أوان الخلاص حتى لا يبقى بعضهم إلا بقدر تحلة القسم ويبقى بعضهم ألفاً وألوف سنين فنسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل فإن الاشتداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه فإنه أدق من الشعرة وأحد من السيف ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار الذي من صفته أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف وبقدر الاستقامة على هذا الصراط المستقيم يخف العبد يوم القيامة على الصراط وَكُلُّ مَنْ خَلَطَ بِالطَّعَامِ تُرَابًا أَوْ غَيْرَهُ ثم كاله فهو من المطففين في الكيل وكل قصاب وزن مع اللحم عظماً لم تجر العادة بمثله فَهُوَ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ فِي الْوَزْنِ وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ التَّقْدِيرَاتِ حَتَّى فِي الذَّرْعِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ الْبَزَّازُ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَرَى أَرْسَلَ الثَّوْبَ في وقت الذرع ولم يمده مداً وإذا بَاعَهُ مَدَّهُ فِي الذَّرْعِ لِيُظْهِرَ تَفَاوُتًا فِي الْقَدْرِ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّطْفِيفِ الْمُعَرِّضِ صَاحِبَهُ لِلْوَيْلِ
الرَّابِعُ أَنْ يَصْدُقَ فِي سِعْرِ الْوَقْتِ وَلَا يُخْفِيَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ (1)
وَنَهَى عَنِ النَّجْشِ (2)
أَمَّا تَلَقِّي الرُّكْبَانِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرُّفْقَةَ وَيَتَلَقَّى الْمَتَاعَ وَيَكْذِبَ فِي سِعْرِ الْبَلَدِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ وَمَنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يَقْدَمَ السُّوقَ وهذا الشراء منعقد ولكنه إن ظهر كذبه ثبت للبائع الخيار وإن كان صادقاً ففي الخيار خلاف لتعارض عموم الخبر مع زوال التلبيس وَنَهَى أَيْضًا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ (3)
وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ الْبَدَوِيُّ الْبَلَدَ وَمَعَهُ قُوتٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَسَارَعَ إِلَى بَيْعِهِ فَيَقُولَ لَهُ الْحَضَرِيُّ اتْرُكْهُ عِنْدِي حَتَّى أُغَالِيَ فِي ثَمَنِهِ وَأَنْتَظِرَ ارتفاع سعره وهذا في القوت محرم وفي سائر السلع خلاف والأظهر تحريمه لعموم النهي ولأنه تأخير للتضييق على الناس على الجملة من غير فائدة للفضولي المضيق ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَّجْشِ
وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْبَائِعِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّاغِبِ الْمُشْتَرِي وَيَطْلُبَ السِّلْعَةَ بِزِيَادَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَحْرِيكَ رَغْبَةِ الْمُشْتَرِي فيها فهذا إن لم تجر مواطأة مع البائع فهو فعل حرام من صاحبه والبيع منعقد وإن جرى مواطأةً ففي ثبوت الخيار خلاف والأولى إثبات الخيار لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة وتلقي الركبان فَهَذِهِ الْمَنَاهِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَبِّسَ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي سِعْرِ الْوَقْتِ وَيَكْتُمَ مِنْهُ أَمْرًا لَوْ عَلِمَهُ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ فَفِعْلُ هَذَا مِنَ الْغِشِّ الحرام المضاد للنصح الواجب فقد حكي عن رجل من التابعين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر فكتب إليه غلامه إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة فاشتر السكر قال فاشترى سكراً كثيراً فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفاً فانصرف إلى منزله فأفكر
_________
(1) حديث النهي عن تلقي الركبان متفق عليه من حديث ابن عباس وأبي هريرة
(2) حديث النهي عن النجش متفق عليه من حديث ابن عمر وأبي هريرة
(3) حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي متفق عليه من حديث ابن عباس وأبي هريرة وأنس(2/78)
ليلته وقال ربحت ثلاثين ألفاً وخسرت نصح رجل من المسلمين فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفاً وقال بارك الله لك فيها فقال ومن أين صارت لي فقال إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت فقال رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك قال فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهراً وقال ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد وقال عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي فاخذ منه ثلاثين ألفاً
فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْتَنِمَ فُرْصَةً وَيَنْتَهِزَ غَفْلَةَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ وَيُخْفِيَ مِنَ الْبَائِعِ غَلَاءَ السِّعْرِ أَوْ مِنَ الْمُشْتَرِي تَرَاجُعَ الْأَسْعَارِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ظَالِمًا تَارِكًا لِلْعَدْلِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَهْمَا بَاعَ مُرَابَحَةً بِأَنْ يَقُولَ بِعْتُ بِمَا قَامَ عَلَيَّ أَوْ بِمَا اشْتَرَيْتُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْدُقَ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ عَيْبٍ أَوْ نقصان ولو اشترى إلى أجل وجب ذكره ولو اشترى مسامحةً من صديقه أو ولده يجب ذكره
لأن المعامل يعول على عادته في الاستقصاء أنه لا يترك النظر لنفسه فإذا تركه بسبب من الأسباب فيجب إخباره إذ الاعتماد فيه على أمانته
الباب الرابع في الإحسان في المعاملة
وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ جَمِيعًا وَالْعَدْلُ سَبَبُ النَّجَاةِ فَقَطْ وَهُوَ يَجْرِي مِنَ التِّجَارَةِ مجرى رَأْسِ الْمَالِ
وَالْإِحْسَانُ سَبَبُ الْفَوْزِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ وَهُوَ يَجْرِي مِنَ التِّجَارَةِ مَجْرَى الرِّبْحِ وَلَا يعد من الغفلاء مَنْ قَنَعَ فِي مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا بِرَأْسِ مَالِهِ فكذا في معاملات الآخرة فلا يَنْبَغِي لِلْمُتَدَيِّنِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ وَيَدَعَ أَبْوَابَ الْإِحْسَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ وأحسن كما أحسن الله إليك وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وقال سبحانه إن رحمت الله قريب من المحسنين ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به المعامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضل منه فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم وقد ذكرناه وتنال رُتْبَةَ الْإِحْسَانِ بِوَاحِدٍ مِنْ سِتَّةِ أُمُورٍ
الْأَوَّلُ فِي الْمُغَابَنَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغِبْنَ صَاحِبَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ فِي الْعَادَةِ فَأَمَّا أَصْلُ الْمُغَابَنَةِ فَمَأْذُونٌ فِيهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِلرِّبْحِ ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما ولكن يراعي فيه التقريب فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه فينبغي أن يمتنع من قبوله فذلك من الإحسان
ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلماً وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار ولسنا نرى ذلك ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن
يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة وضرب كل حلة قيمتها مائتان فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضى بها وهي على يديه فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي بكم اشتريت فقال بأربعمائة فقال لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها فقال هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها فقال له يونس انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين فقال والله ما أخذها إلا وهو راض بها
قال فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس فهو من(2/79)
باب الظلم وقد سبق وفي الحديث غبن المسترسل حرام (1)
وكان الزبير بن عدي يقول أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحماً بدرهم فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم إن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت
وإنما الإحسان المحض ما نقل عن السري السقطي أنه اشترى كر لوز بستين ديناراً وكتب في روزنامجه ثلاثة دنانير ربحه وكأنه رأى أن يربح على العشرة نصف دينار فصار اللوز بتسعين فأتاه الدلال وطلب اللوز فقال خذه قال بكم فقال
بثلاثة وستين فقال الدلال وكان من الصالحين فقد صار اللوز بتسعين فقال السري قد عقدت عقداً لا أحله لست أبيعه إلا بثلاثة وستين فقال الدلال وأنا عقدت بيني وبين الله أن لا أغش مسلماً لست آخذ منك إلا بتسعين
قال فلا الدلال اشترى منه ولا السري باعه فهذا محض الإحسان من الجانبين فإنه مع العلم بحقيقة الحال
وروي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده فقال له إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة فقال يا هذا قد رضيت فقال وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك وإما أن نرد عليك خمسة وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك فقال أعطني خمسة فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي يسأل ويقول من هذا الشيخ فقيل له هذا محمد بن المنكدر فقال لا إله إلا الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا
فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفاً أو واحد على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان وَمَنْ قَنِعَ بِرِبْحٍ قَلِيلٍ كَثُرَتْ مُعَامَلَاتُهُ وَاسْتَفَادَ مِنْ تَكَرُّرِهَا رِبْحًا كَثِيرًا وَبِهِ تَظْهَرُ الْبَرَكَةُ
كان علي رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول معاشر التجار خذوا الحق تسلموا لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره
قيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما سبب يسارك قال ثلاث ما رددت ربحاً قط ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه ولا بعت بنسيئة
ويقال إنه باع ألف ناقة فما ربح إلا عقلها باع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفاً وربح من نفقته عليها ليومه ألفاً
الثَّانِي فِي احْتِمَالِ الْغَبْنِ وَالْمُشْتَرِي إِنِ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ فَقِيرٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْغَبْنَ وَيَتَسَاهَلَ وَيَكُونَ به محسناً وداخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم رحم الله امرءا سهل البيع سهل الشراء فأما إذا اشترى من غني تاجر يطلب الربح زيادة على حاجته فاحتمال الغبن منه ليس مَحْمُودًا بَلْ هُوَ تَضْيِيعُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أجر ولا حمد فقد ورد في حديث من طريق أهل البيت المغبون في الشراء لا محمود ولا مأجور (2)
وكان إياس ابن معاوية بن قرة قاضي البصرة وكان من عقلاء التابعين يقول لست بخب والخب لا يغبنني ولا يغبن ابن سيرين ولكن يغبن الحسن ويغبن أبي يعني معاوية بن قرة والكمال في أن لا يغبن ولا يغبن كما وصف بعضهم عمر
_________
(1) حديث غبن المسترسل حرام أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف والبيهقي من حديث جابر بسند جيد وقال ربا {بدل} حرام
(2) حديث المغبون في الشراء لا محمود ولا مأجور أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من رواية عبيد الله بن الحسن عن أبيه عن جده ورواه أبو يعلى من حديث الحسين بن علي يرفعه قال الذهبي هو منكر(2/80)
رضي الله عنه فقال كان أكرم من أن يخدع وأعقل من أن يخدع
وكان الحسن والحسين وغيرهما من خيار السلف يستقصون في الشراء ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال فقيل لبعضهم تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ولا تبالي فَقَالَ إِنَّ الْوَاهِبَ يُعْطِي فَضْلَهُ وَإِنَّ الْمَغْبُونَ يغبن عقله
وقال بعضهم إنما أغبن عقلي وبصري فلا أمكن الغابن منه وإذا وهبت أعطي لله ولا أستكثر منه شيئاً
الثَّالِثُ فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ وَالْإِحْسَانِ فِيهِ مَرَّةً بِالْمُسَامَحَةِ وَحَطِّ الْبَعْضِ وَمَرَّةً بِالْإِمْهَالِ وَالتَّأْخِيرِ وَمَرَّةً بِالْمُسَاهَلَةِ فِي طَلَبِ جَوْدَةِ النَّقْدِ وكل ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله امرءا سهل البيع سهل الشراء سهل الاقتضاء (1) فليغتنم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال صلى الله عليه وسلم اسمح يسمح لك (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه الله حساباً يسيراً وفي لفظ آخر أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله (3)
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يوجد له حسنة فقيل له هل عملت خيراً قط فقال لا إلا أني كنت رجلاً أداين الناس فأقول لفتياني
سامحوا الموسر وانظروا المعسر (4)
وفي لفظ آخر وتجاوزوا عن المعسر فقال الله تعالى نحن أحق بذلك منه فتجاوز الله عنه وغفر لَهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَقْرَضَ دِينَارًا إِلَى أَجَلٍ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ إِلَى أَجَلِهِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَأَنْظَرَهُ بَعْدَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّيْنِ صدقةً (5)
وقد كان من السلف من لا يحب أن يقضي غريمه الدين لأجل هذا الخبر حتى يكون كالمتصدق بجميعه في كل يوم
وقال صلى الله عليه وسلم رأيت على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمان عشرة (6)
فقيل في معناه إن الصدقة تقع في يد المحتاج وغير المحتاج ولا يحتمل ذل الاستقراض إلا محتاج
وَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُلَازِمُ رَجُلًا بَدَيْنٍ فَأَوْمَأَ إِلَى صَاحِبِ الدين بيده أن ضَعِ الشَّطْرَ فَفَعَلَ فَقَالَ لِلْمَدْيُونِ قُمْ فَأَعْطِهِ (7)
وكل من باع شيئاً وترك ثمنه في الحال ولم يرهق إلى طلبه فهو في معنى المقرض
وروي أن الحسن البصري باع بغلة له بأربعمائة درهم فلما استوجب المال قال له المشتري اسمح يا أبا سعيد
قال قد أسقطت عنك مائة قال له فأحسن يا أبا سعيد فقال قد وهبت لك مائة أخرى فقبض من حقه مائتي درهم
فقيل له يا أبا سعيد هذا نصف الثمن فقال هكذا يكون الإحسان وإلا فلا
وفي الخبر خذ حقك في كفاف وعفاف واف أو غير واف يحاسبك الله حساباً يسيرا (8)
_________
(1) حديث رحم الله امرءا سهل البيع سهل الشراء تقدم في الباب قبله
(2) حديث اسمح يسمح لك أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس ورجاله ثقات
(3) حديث من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه الله حساباً يسيراً وفي لفظ آخر أظله الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله رواه مسلم باللفظ الثاني من حديث أبي اليسر كعب بن عمرو
(4) حديث ذكر رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يوجد له حسنة فقيل له هل عملت خيراً قط فقال لا إلا أني كنت رجلاً أداين الناس فأقول لفتياني سامحوا الموسرالحديث رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري وهو متفق عليه بنحوه من حديث حذيفة
(5) حديث مَنْ أَقْرَضَ دِينَارًا إِلَى أَجَلٍ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ إِلَى أَجَلِهِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَأَنْظَرَهُ بَعْدَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُ ذَلِكَ الدين صدقة أخرجه ابن ماجة من حديث بريدة من أنظر معسرا كان له كل يوم صدقة ومن أنظره بعد أجله كان له مثله في كل يوم صدقة وسنده ضعيف ورواه أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين
(6) حديث رأيت على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمان عشرة أخرجه ابن ماجة من حديث أنس بإسناد ضعيف
(7) حديث أومأ إلى صاحب الدين بيده ضع الشطرالحديث متفق عليه من حديث كعب بن مالك
(8) حديث خذ حقك في عفافالحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن دون قوله يحاسبك الله حساباً يسيرا وله ولابن حبان والحاكم وصححه نحوه من حديث ابن عمر وعائشة(2/81)
الرَّابِعُ فِي تَوْفِيَةِ الدَّيْنِ
وَمِنَ الْإِحْسَانِ فِيهِ حُسْنُ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْشِيَ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا يُكَلِّفَهُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهِ يَتَقَاضَاهُ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً (1)
وَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فليبادر إليه ولو قبل وقته وليسلم أجود مما شرط عليه وأحسن وإن عجز فلينو قضاءه مهما قدر
قال صلى الله عليه وسلم من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكل الله به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه (2)
وكان جماعة من السلف يستقرضون من غير حاجة لهذا الخبر ومهما كلمه صاحب الحق بكلام خشن فليحتمله وَلْيُقَابِلْهُ بِاللُّطْفِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إذ جاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ولم يكن قد اتفق قضاؤه فجعل الرجل يشدد الكلام عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحق مقالاً (3)
ومهما دار الكلام بين المستقرض والمقرض فالإحسان أن يكون الميل الأكثر للمتوسطين إلى من عليه الدين فإن المقرض يقرض عن غنى والمستقرض يستقرض عن حاجة وكذلك ينبغي أن تكون الإعانة للمشتري أكثر فإن البائع راغب عن السلعة يبغي ترويجها والمشتري محتاج إليها هذا هو الأحسن إلا أن يتعدى من عليه الدين حده فعند ذلك نصرته في منعه عن تعد به وإعانة صاحبه إذ قال صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقيل كيف ننصره ظالماً فقال منعك إياه من الظلم نصرة له (4)
الْخَامِسُ أَنْ يُقِيلَ مَنْ يَسْتَقِيلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيلُ إِلَّا مُتَنَدِّمٌ مُسْتَضِرٌّ بِالْبَيْعِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ اسْتِضْرَارِ أخيه قال صلى الله عليه وسلم مَنْ أَقَالَ نَادِمًا صَفْقَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يوم القيامة (5)
أو كما قال
السَّادِسُ أَنْ يَقْصِدَ فِي مُعَامَلَتِهِ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ وَهُوَ فِي الْحَالِ عَازِمٌ عَلَى أن لا يطالبهم إن لم تظهر لهم ميسرة فقد كان في صالحي السلف من له دفتران للحساب أحدهما ترجمته مجهولة فيه أسماء من لا يعرفه من الضعفاء والفقراء وذلك أن الفقير كان يرى الطعام أو الفاكهة فيشتهيه فيقول أحتاج إلى خمسة أرطال مثلاً من هذا وليس معي ثمنه فكان يقول خذه واقض ثمنه عند الميسرة ولم يكن يعد هذا من الخيار بل عد من الخيار من لم يكن يثبت اسمه في الدفتر أصلاً ولا يجعله ديناً لكن يقول خُذْ مَا تُرِيدُ فَإِنْ يُسِّرَ لَكَ فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ وَسَعَةٍ فَهَذِهِ طرق تجارات السلف وقد اندرست والقائم به محي لهذه السنة وبالجملة التجارة مَحَكُّ الرِّجَالِ وَبِهَا يُمْتَحَنُ دِينُ الرَّجُلِ وَوَرَعُهُ ولذلك قيل
لا يغرنك من المرء قميص رقعه ... أو إزارا فوق كعب الساق منه رفعه
أو جبين لاح فيه أثر قد قلعه ... ولدى الدرهم فانظر غيه أو ورعه
ولذلك قيل إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكوا في صلاحه
وشهد عند عمر رضي الله عنه شاهد فقال ائتني بمن يعرفك فأتاه برجل فأثنى عليه خيراً فقال عمر أنت
_________
(1) حديث خيركم أحسنكم قضاء متفق عليه من حديث أبي هريرة
(2) حديث من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه أخرجه أحمد من حديث عائشة ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان معه من الله عون وحافظ وفي رواية له لم يزل معه من الله حارس وفي رواية للطبراني في الأوسط إلا كان معه عون من الله عليه حتى يقضيه عنه
(3) حديث دعوه فإن لصاحب الحق مقالا متفق عليه من حديث أبي هريرة
(4) حديث انصر أخاك ظالماً أو مظلوماالحديث متفق عليه من حديث أنس
(5) حديث مَنْ أَقَالَ نَادِمًا صَفْقَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يوم القيامة أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط مسلم(2/82)
جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه قال لا فقال كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق فقال لا قال فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل قال لا قال أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه طوراً ويرفعه أخرى قال نعم فقال اذهب فلست تعرفه
وقال للرجل
اذهب فائتني بمن يعرفك
الباب الخامس في شفقة التاجر على دينه فيما يخصه ويعم آخرته
ولا يَنْبَغِي لِلتَّاجِرِ أَنْ يَشْغَلَهُ مَعَاشُهُ عَنْ مَعَادِهِ فَيَكُونَ عُمْرُهُ ضَائِعًا وَصَفْقَتُهُ خَاسِرَةً وَمَا يَفُوتُهُ مِنَ الرِّبْحِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَفِي بِهِ ما ينال في الدنيا فيكون اشْتَرَى الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ بَلِ الْعَاقِلُ يَنْبَغِي أَنْ يُشْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَشَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ يحفظ رَأْسِ مَالِهِ وَرَأْسُ مَالِهِ دِينُهُ وَتِجَارَتُهُ فِيهِ
قال بعض السلف أولي الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته إنه لا بد لك من نصيبك في الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتنظمه
قال الله تعالى ولا تنس نصيبك من الدنيا أي لا تنس في الدنيا نصيبك منها للآخرة فإنها مزرعة الآخرة وفيها تكتسب الحسنات
وإنما تتم شفقة التاجر عَلَى دِينِهِ بِمُرَاعَاةِ سَبْعَةِ أُمُورٍ
الْأَوَّلُ حُسْنُ النية والعقيدة فِي ابْتِدَاءِ التِّجَارَةِ فَلْيَنْوِ بِهَا الِاسْتِعْفَافَ عَنِ السُّؤَالِ وَكَفَّ الطَّمَعِ عَنِ النَّاسِ اسْتِغْنَاءً بِالْحَلَالِ عَنْهُمْ وَاسْتِعَانَةً بِمَا يَكْسِبُهُ عَلَى الدِّينِ وَقِيَامًا بِكِفَايَةِ الْعِيَالِ لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بِهِ وَلْيَنْوِ النُّصْحَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يُحِبَّ لِسَائِرِ الْخَلْقِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَلْيَنْوِ اتِّبَاعَ طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلْيَنْوِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ مَا يراه في السوق فإذا أضمر هذه العقائد والنيات كَانَ عَامِلًا فِي طَرِيقِ الْآخِرَةِ فَإِنِ اسْتَفَادَ مَالًا فَهُوَ مَزِيدٌ وَإِنْ خَسِرَ فِي الدُّنْيَا رَبِحَ فِي الْآخِرَةِ
الثَّانِي أَنْ يَقْصِدَ الْقِيَامَ فِي صَنْعَتِهِ أَوْ تِجَارَتِهِ بِفَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَإِنَّ الصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ لَوْ تُرِكَتْ بَطَلَتِ الْمَعَايِشُ وَهَلَكَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ
فَانْتِظَامُ أَمْرِ الْكُلِّ بتعاون الكل وتكفل كل فريق بعمل ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا وعلى هذا حمل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة (1)
أي اختلاف همهم في الصناعات والحرف
وَمِنَ الصِّنَاعَاتِ مَا هِيَ مُهِمَّةٌ وَمِنْهَا مَا يستغنى عنها لرجوعها إلى طلب النعم وَالتَّزَيُّنِ فِي الدُّنْيَا فَلْيَشْتَغِلْ بِصِنَاعَةٍ مُهِمَّةٍ لِيَكُونَ في قيامه بِهَا كَافِيًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ مُهِمًّا فِي الدِّينِ وليجتنب صناعة النقش والصياغة وتشييد البنيان بالجص وجميع ما تزخرف به الدنيا فكل ذلك كرهه ذوو الدين فأما عمل الملاهي والآلات التي يحرم استعمالها فاجتناب ذلك من قبيل ترك الظلم ومن جملة ذلك خياطة الخياط القباء من الإبر يسم للرجال وصياغة الصائغ مراكب الذهب أو خواتيم الذهب للرجال فكل ذلك من المعاصي والأجرة المأخوذة عليه حرام ولذلك أوجبنا الزكاة فيها وإن كنا لا نوجب الزكاة في الحلي لأنها إذا قصدت للرجال فهي محرمة وكونها مهيأة للنساء لا يلحقها بالحلي المباح ما لم يقصد ذلك بها فيكتسب حكمها من القصد
وقد ذكرنا أن بيع الطعام وبيع الأكفان مكروه لأنه يوجب انتظار موت الناس وحاجتهم بغلاء السعر
_________
(1) حديث اختلاف أمتي رحمة تقدم في العلم(2/83)
ويكره أن يكون جزاراً لما فيه من قساوة القلب وأن يكون حجاماً أو كناساً لما فيه من مخامرة النجاسة وكذا الدباغ وما في معناه وكره ابن سيرين الدلالة وكره قتادة أجرة الدلال ولعل السبب فيه قلة استغناء الدلال عن الكذب والإفراط في الثناء على السلعة لترويجها ولأن العمل فيه لا يتقدر فقد يقل وقد يكثر ولا ينظر في مقدار الأجرة إلى عمله بل إلى قدر قيمة الثوب هذا هو العادة وهو ظلم بل ينبغي أن ينظر إلى قدر التعب وكرهوا شراء الحيوان للتجارة لأن المشتري يكره قضاء الله فيه وهو الموت الذي بصدده لا محالة وحلوله
وقيل بع الحيوان واشتر الموتان وكرهوا الصرف لأن الاحتراز فيه عن دقائق الربا عسير ولأنه طلب لدقائق الصفات فيما لا يقصد أعيانها وإنما يقصد رواجها وقلما يتم للصيرفي ربح إلا باعتماد جهالة معامله بدقائق النقد فقلما يسلم الصيرفي وإن احتاط ويكره للصيرفي وغيره كسر الصحيح والدنانير إلا عند الشك في جودته أو عند ضرورة
قال أحمد بن حنبل رحمة الله ورد نهي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
وعن أصحابه في الصياغة من الصحاح وأنا أكره الكسر وقال يشتري بالدنانير دراهم ثم يشتري بالدرهم ذهباً ويصوغه واستحبوا تجارة البز
قال سعيد بن المسيب ما من تجارة أحب إلي من البز ما لم يكن فيها أيمان
وقد روي خير تجارتكم البز وخير صنائعكم الخرز (2)
وفي حديث آخر لو اتجر أهل الجنة لاتجروا في البز ولو اتجر أهل النار لاتجروا في الصرف (3)
وقد كان غالب أعمال الأخيار من السلف عشر صنائع الخرز والتجارة والحمل والخياطة والحذو والقصارة وعمل الخفاف وعمل الحديد وعمل المغازل ومعالجة صيد البر والبحر والوراقة قال عبد الوهاب الوراق
قال لي أحمد بن حنبل ما صنعتك قلت الوراقة قال كسب طيب ولو كنت صانعاً بيدي لصنعت صنعتك ثم قال لي لا تكتب إلا مواسطة واستبق الحواشي وظهور الأجزاء
وأربعة من الصناع موسومون عند الناس بضعف الرأي الحاكة والقطانون والمغازليون والمعلمون
ولعل ذلك لأن أكثر مخالطتهم مع النساء والصبيان ومخالطة ضعفاء العقول تضعف العقل كما أن مخالطة العقلاء تزيد في العقل
وعن مجاهد أن مريم عليها السلام مرت في طلبها لعيسى عليه السلام بحاكة فطلبت الطريق فأرشدوها غير الطريق فقالت اللهم انزع البركة من كسبهم وأمتهم فقراء وحقرهم في أعين الناس فاستجيب دعاؤها
وكره السلف أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات وفروض الكفايات كغسل الموتى ودفنهم وكذا الأذان وصلاة التراويح وإن حكم بصحة الاستئجار عليه وكذا تعليم القرآن وتعليم علم الشرع فإن هذه أعمال حقها أن يتجر فيها للآخرة وأخذ الأجرة عليها استبدال بالدنيا عن الآخرة ولا يستحب ذلك
الثالث أن يَمْنَعَهُ سُوقُ الدُّنْيَا عَنْ سُوقِ الْآخِرَةِ وَأَسْوَاقُ الْآخِرَةِ الْمَسَاجِدُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته فيلازم المسجد ويواظب على الأوراد
كان عمر رضي الله عنه يقول للتجار اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم وما بعده لدنياكم
وكان صالحو السلف يجعلون أول
_________
(1) حديث النهي عن كسر الدينار والدرهم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم من رواية علقمة بن عبد الله عن أبيه قال نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس زاد الحاكم أن يكسر الدرهم فيجعل فضة ويكسر الدينار فيجعل ذهبا وضعفه ابن حبان
(2) حديث خير تجارتكم البز وخير صنائعكم الخرز لم أقف له على إسناد وذكره صاحب الفردوس من حديث علي بن أبي طالب
(3) حديث لو اتجر أهل الجنة لاتجروا في البز ولو اتجر أهل النار لاتجروا في الصرف رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف وروى أبو يعلى والعقيلي في الضعفاء الشطر الأول من حديث أبي بكر الصديق(2/84)
النهار وآخره للآخرة والوسط للتجارة ولم يكن يبيع الهريسة والرءوس بكرة إلا الصبيان وأهل الذمة لأنهم كانوا في المساجد بعد
وفي الخبر إن الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد وفيها في أول النهار وفي آخره ذكر الله وخير كفر الله عنهما ما بينهما من سيئ الأعمال (1)
وفي الخبر تلتقي ملائكة الليل والنهار عند طلوع الفجر وعند صلاة العصر فيقول الله تعالى وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهو يصلون وجئناهم وهم يصلون فيقول الله سبحانه وتعالى أشهدكم أني قد غفرت لهم (2)
ثم مهما سمع الأذان في وسط النهار للأولى والعصر فينبغي أن لا يعرج على شغل وينزعج عن مكانه ويدع كل ما كان فيه فما يفوته من فضيلة التكبيرة الأولى مع الإمام في أول الوقت لا توازيها الدنيا بما فيها ومهما لم يحضر الجماعة عصى عند بعض العلماء
وقد كان السلف يبتدرون عند الأذان ويخلون الأسواق للصبيان وأهل الذمة وكانوا يستأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت في أوقات الصلوات وكان ذلك معيشةً لهم
وقد جاء في تفسير قوله تعالى {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله} أنهم كانوا حدادين وخرازين فكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الإشفى فسمع الأذان لم يخرج الإشفى من المغرز ولم يوقع المطرقة ورمى بها وقام إلى الصلاة
الرَّابِعُ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا بَلْ يُلَازِمَ ذِكْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي السُّوقِ وَيَشْتَغِلَ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ فَذِكْرُ اللَّهِ فِي السُّوقِ بَيْنَ الغافلين أفضل
قال صلى الله عليه وسلم ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين وكالحي بين الأموات وفي لفظ آخر كالشجرة الخضراء بين الهشيم وقال صلى الله عليه وسلم من دخل السوق فقال لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة (3)
وكان ابن عمر وسالم بن عبد الله ومحمد بن واسع وغيرهم يدخلون السوق قاصدين لنيل فضيلة هذا الذكر
وقال الحسن ذاكر الله في السوق يجيء يوم القيامة له ضوء كضوء القمر وبرهان كبرهان الشمس ومن استغفر الله في السوق غفر الله له بعدد أهلها
وكان عمر رضي الله عنه إذا دخل السوق قال اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفسوق ومن شر ما أحاطت به السوق اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة وصفقة خاسرة
وقال أبو جعفر الفرغاني كنا يوماً عند الجنيد فجرى ذكر ناس يجلسون في المساجد ويتشبهون بالصوفية ويقصرون عما يجب عليهم من حق الجلوس ويعيبون من يدخل السوق فقال الجنيد كم ممن هو في السوق حكمه أن يدخل المسجد ويأخذ بإذن بعض من فيه فيخرجه ويجلس مكانه وإني لأعرف رجلا يدخل السوق ورده كل يوم ثلثمائة ركعة وثلاثون ألف تسبيحة
قال فسبق إلى وهمي أنه يعني نفسه فهكذا كانت تجارة من يتجر لطلب الكفاية لا للتنعم في الدنيا فإن من يطلب الدنيا للاستعانة بها على الآخرة كيف يدع ربح الآخرة والسوق والمسجد والبيت له حكم واحد وإنما النجاة بالتقوى
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كنت (4)
فوظيفة التقوى لا تنقطع عن المتجردين للدين كيفما تقلبت بهم الأحوال وبه تكون حياتهم وعيشتهم إذ فيه يرون تجارتهم وربحهم وقد قيل من أحب الآخرة عاش ومن أحب الدنيا طاش والأحمق يغدو ويروح في لاش والعاقل عن عيوب نفسه فتاش
_________
(1) حديث إن الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد وفي أول النهار وآخره ذكر وخير كفر الله ما بينهما من سيئ الأعمال أخرجه أبو يعلى من حديث أنس بسند ضعيف بمعناه
(2) حديث تلتقي ملائكة الليل وملائكة النهار عند طلوع الفجر وعند صلاة العصر فيقول الله وهو أعلم كيف تركتم عباديالحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الغداة وصلاة العصرالحديث
(3) حديث من دخل السوق فقال لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهالحديث تقدم في الأذكار
(4) حديث اتق الله حيثما كنت أخرجه الترمذي من حديث أبي ذر وصححه(2/85)
الْخَامِسُ أَنْ لَا يَكُونَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى السُّوقِ وَالتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ دَاخِلٍ وآخر خارج وبأن يركب البحر في التجارة فهما مكروهان يقال إن من ركب البحر فقد استقصى في طلب الرزق
وفي الخبر لا يركب البحر إلا لحج أو عمرة أو غزو (1)
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول لا تكن أول داخل في السوق ولا آخر خارج منها فإن بها باض الشيطان وفرخ
روي عن معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر إن إبليس يقول لولده زلنبور سر بكتائبك فأت أصحاب الأسواق زين لهم الكذب والحلف والخديعة والمكر والخيانة وكن مع أول داخل وآخر خارج منها
وفي الخبر شر البقاع الأسواق وشر أهلها أولهم دخولاً وآخرهم خروجاً (2)
وتمام هذا الاحتراز أن يراقب وقت كفايته فإذا حصل كفاية وقته انصرف واشتغل بتجارة الآخرة هكذا كان صالحو السلف فقد كان منهم من إذا ربح دانقاً انصرف قناعة به
وكان حماد بن سلمة يبيع الخز في سفط بين يديه فكان إذا ربح حبتين رفع سفطه وانصرف
وقال إبراهيم بن بشار قلت لإبراهيم بن أدهم رحمه الله أمر اليوم أعمل في الطين فقال يا ابن بشار إنك طالب ومطلوب يطلبك من لا تفوته وتطلب ما قد كفيته أما رأيت حريصاً محروماً وضعيفاً مرزوقاً فقلت إن لي دانقاً عند البقال فقال عز علي بك تملك دانقاً وتطلب العمل وقد كان فيهم من ينصرف بعد الظهر ومنهم بعد العصر ومنهم من لا يعمل في الأسبوع إلا يوماً أو يومين وكانوا يكتفون به
السَّادِسُ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى اجْتِنَابِ الْحَرَامِ بل يتقي مواقع الشبهات ومظان الريب ولا ينظر إلى الفتاوى بل يستفتي قَلْبَهُ فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ حَزَازَةً اجْتَنَبَهُ وَإِذَا حُمِلَ إِلَيْهِ سِلْعَةٌ رَابَهُ أَمْرُهَا سَأَلَ عَنْهَا حتى يعرف وإلا أكل الشبهة وقد حمل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبن فقال من أين لكم هذا فقالوا من الشاة فقال ومن أين لكم هذه الشاة فقيل من موضع كذا فشرب منه ثم قال إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن لا نأكل إلا طيباً ولا نعمل إلا صالحاً (3)
وقال إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} (4) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (5) حديث كان لا يسأل عن كل ما يحمل إليه رواه أحمد من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مروا بامرأة فذبحت لهم شاة الحديث فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة فلم يستطع أن يسيغها فقال هذه شاة ذبحت بغير إذن أهلهاالحديث وله من حديث أبي هريرة كان إذا أتى بطعام من غير أهله سأل عنهالحديث وإسنادهما جيد وفي هذا أنه كان لا يسأل عما أتي به من عند أهله والله أعلم //
وإنما الواجب أن ينظر التاجر إلى من يعامله فكل مَنْسُوبٍ إِلَى ظُلْمٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أو ربا فلا يعامله وكذا الأجناد والظلمة لا يعاملهم البتة ولا يعامل أصحابهم وأعوانهم لأنه معين بذلك على الظلم
وحكي عن رجل أنه تولى عمارة سور لثغر من الثغور
قال فوقع في نفسي من ذلك شيء وإن كان ذلك العمل من الخيرات بل من فرائض الإسلام ولكن كان الأمير الذي تولى في محلته من الظلمة
قال فسألت سفيان رضي الله
_________
(1) حديث لا تركب البحر إلا لحجة أو عمرة أو غزو أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو وقيل إنه منقطع
(2) حديث شر البقاع الأسواق وشر أهلها أولهم دخولاً وآخرهم خروجا تقدم صدر الحديث في الباب السادس من العلم وروى أبو نعيم في كتاب حرمة المساجد من حديث ابن عباس أبغض البقاع إلى الله الأسواق وأبغض أهلها إلى الله أولهم دخولاً وآخرهم خروجاً
(3) حديث سؤاله عن اللبن والشاة وقوله إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن لا نأكل إلا طيباً ولا نعمل إلا صالحا رواه الطبراني من حديث أم عبد الله أخت شداد بن أوس بسند ضعيف
(4) حديث إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث
(5) فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أصل الشيء وأصل أصله ولم يزد لأن ما وراء ذلك يتعذر
وسنبين في كتاب الحلال والحرام موضع وجوب هذا السؤال فإنه كان صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن كل ما يحمل إليه(2/86)
عنه فقال لا تكن عوناً لهم على قليل ولا كثير فقلت هذا سور في سبيل الله للمسلمين فقال نعم ولكن أقل ما يدخل عليك أن تحب بقاءهم ليوفوك أجرك فتكون قد أحببت بقاء من يعصي الله
وقد جاء في الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه (1)
وفي الحديث إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق (2)
وفي حديث آخر من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام (3)
ودخل سفيان على المهدي وبيده درج أبيض فقال يا سفيان أعطني الدواة حتى أكتب فقال أخبرني أي شيء تكتب فإن كان حقاً أعطيتك
وطلب بعض الأمراء من بعض العلماء المحبوسين عنده أن يناوله طيناً ليختم به الكتاب فقال ناولني الكتاب أولاً حتى أنظر ما فيه فهكذا كانوا يحترزون عن معاونة الظلمة ومعاملتهم أشد أنواع الإعانة فينبغي أن يجتنبها ذوو الدين ما وجدوا إليه سبيلاً
وبالجملة فينبغي أن ينقسم الناس عنده إلى من يعامل ومن لا يعامل وليكن من يعامله أقل ممن لا يعامله في هذا الزمان قال بعضهم أتى على الناس زمان كان الرجل يدخل السوق ويقول من ترون لي أن أعامل من الناس فيقال له عامل من شئت
ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً ثم أتى زمان آخر فكان يقال لا تعامل أحداً إلا فلاناً وفلانا وأخشى أن يأتي زمان يذهب هذا أيضاً
وكأنه قد كان الذي كان يحذر أن يكون إنا لله وإنا إليه راجعون
السَّابِعُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَ جَمِيعَ مَجَارِيَ مُعَامَلَتِهِ مع وَاحِدٍ مِنْ مُعَامِلِيهِ فَإِنَّهُ مُرَاقَبٌ وَمُحَاسَبٌ فَلْيَعُدَّ الجواب ليوم الحساب والعقاب في كل فعلة وقولة إنه لم أقدم عليها ولأجل ماذا فإنه يقال إنه يوقف التاجر يوم القيامة مع كل رجل كان باعه شيئاً وقفة ويحاسب عن كل واحد فهو محاسب على عدد من عامله
قال بعضهم رأيت بعض التجار في النوم فقلت ماذا فعل الله بك فقال نشر علي خمسين ألف صحيفة فقلت هذه كلها ذنوب فقال هذه معاملات الناس بعدد كل إنسان عاملته في الدنيا لكل إنسان صحيفة مفردة فيما بيني وبينه من أول معاملته إلى آخرها فهذا ما على المكتسب في عمله من العدل والإحسان والشفقة على الدين فإن اقتصر على العدل كان من الصالحين وإن أضاف إليه الإحسان كان من المقربين وإن راعى مع ذلك وظائف الدين كما ذكر في الباب الخامس كان من الصديقين والله أعلم بالصواب
تم كتاب الكسب والمعيشة بحمد الله ومنه
_________
(1) حديث من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه لم أجده مرفوعا وإنما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت من قول الحسن وقد ذكره المصنف هكذا على الصواب في آفات اللسان
(2) حديث إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت وابن عدي في الكامل وأبو يعلى والبيهقي في الشعب من حديث أنس بسند ضعيف
(3) حديث من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام غريب بهذا اللفظ والمعروف من وقر صاحب بدعة الحديث رواه ابن عدي من حديث عائشة والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن يسر بأسانيد ضعيفة قال ابن الجوزي كلها موضوعة(2/87)
كتاب الحلال والحرام وهو الكتاب الرابع من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين لازب وصلصال ثم ركب صورته في أحسن تقويم وأتم اعتدال ثم غذاه في أول نشوه بلبن استصفاه من بين فرث ودم سائغاً كالماء الزلال ثم حماه بما آتاه من طيبات الرزق عن دواعي الضعف والانحلال ثم قيد شهوته المعادية له عن السطوة والصيال وقهرها بما افترضه عليه من طلب القوت الحلال وهزم بكسرها جند الشيطان المتشمر للإضلال ولقد كان يجري من ابن آدم مجرى الدم السيال فضيق عليه عزة الحلال المجرى والمجال إذ كان لا يبذرقه إلى أعماق العروق إلا الشهوة الماثلة إلى الغلبة والاسترسال فبقي لما زمت بزمام الحلال خائباً خاسراً ما له من ناصر ولا وال
والصلاة على محمد الهادي من الضلال وعلى آله خير آل وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فقد قال صلى الله عليه وسلم طلب الحلال فريضة على كل مسلم (1)
رواه ابن مسعود رضي الله عنه وهذه الفريضة من بين سائر الفرائض أعصاها على العقول فهماً وأثقلها على الجوارح فعلاً ولذلك اندرس بالكلية علماً وعملاً وصار غموض علمه سبباً لاندراس عمله إذ ظن الجهال أن الحلال مفقود وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود وانه لم يبق من الطيبات إلا الماء الفرات والحشيش النابت في الموات وما عداه فقد أخبثته الأيدي العادية وأفسدته المعاملات الفاسدة وإذا تعذرت القناعة بالحشيش من النبات لم يبق وجه سوى الاتساع في المحرمات فرفضوا هذا القطب من الدين أصلاً ولم يدركوا بين الأموال فرقاً وفصلاً وهيهات هيهات فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ولا تزال هذه الثلاثة مقترنات كيفما تقلبت الحالات
ولما كانت هذه بدعة عم في الدين ضررها واستطار في الخلق شررها وجب كشف الغطاء عن فسادها بالإرشاد إلى مدرك الفرق بين الحلال والحرام والشبهة على وجه التحقيق والبيان ولا يخرجه التضييق عن حيز الإمكان
ونحن نوضح ذلك في سبعة أبواب
الباب الأول في فضيلة طلب الحلال ومذمة الحرام ودرجات الحلال والحرام
الباب الثاني في مراتب الشبهات ومثاراتها وتمييزها عن الحلال والحرام
الباب الثالث في البحث والسؤال والهجوم والإهمال ومظانها في الحلال والحرام
الباب الرابع في كيفية خروج التائب عن المظالم المالية
الباب الخامس في إدرارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم
الباب السادس في الدخول على السلاطين ومخالطتهم
الباب السابع في مسائل متفرقة
_________
(1) حديث ابن مسعود طلب الحلال فريضة على كل مسلم تقدم في الزكاة دون قوله على كل مسلم وللطبراني في الأوسط من حديث أنس واجب على كل مسلم وإسناده ضعيف(2/88)
الباب الأول في فضيلة الحلال ومذمة الحرام
وبيان أصناف الحلال ودرجاته وأصناف الحرام ودرجات الورع فيه فَضِيلَةُ الْحَلَالِ وَمَذَمَّةُ الْحَرَامِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كلوا من الطيبات واعملوا صالحا أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ قَبْلَ الْعَمَلِ
وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَلَالُ
وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظلماً الآية
وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كنتم مؤمنين {ثُمَّ قَالَ} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله ورسوله {ثُمَّ قَالَ} وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ {ثُمَّ قَالَ} وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فيها خالدون جعل آكل الربا أَوَّلِ الْأَمْرِ مُؤْذِنًا بِمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَفِي آخِرِهِ مُتَعَرِّضًا لِلنَّارِ وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَا تُحْصَى
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مسلم ولما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ على كل مسلم (1)
قال بعض العلماء أراد بِهِ طَلَبُ عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَجَعَلَ الْمُرَادَ بالحديثين واحداً
وقال صلى الله عليه وسلم من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من أكل الحلال أربعين يوماً نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (3)
وفي رواية زهده الله في الدنيا وروي أن سعداً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله تعالى أن يجعله مجاب الدعوة فقال له أطب طعمتك تستجب دعوتك (4)
وَلَمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرِيصَ عَلَى الدُّنْيَا قَالَ رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مُشَرَّدٍ فِي الْأَسْفَارِ مَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بالحرام يرفع يديه فيقول يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك (5)
وفي حديث ابن عباس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لله ملكاً على بيت المقدس ينادي كل ليلة من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل (6)
فقيل الصرف النافلة والعدل الفريضة
وقال صلى الله عليه وسلم من اشترى ثوباً
_________
(1) حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم تقدم في العلم
(2) حديث من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله ومن طلب الدنيا في عفاف كان في درجة الشهداء أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة من سعى على عياله ففي سبيل الله ولأبي منصور في مسند الفردوس من طلب مكسبة من باب حلال يكف بها وجهه عن مسئلة الناس وولده وعياله جاء يوم القيامة مع النبيين والصديقين وإسنادهما ضعيف
(3) حديث من أكل الحلال أربعين يوماً نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أيوب من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ولابن عدي نحوه من حديث أبي موسى وقال حديث منكر
(4) حديث أن سعدا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله أن يجعله مجاب الدعوة فقال له أطب طعمتك تستجب دعوتك أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس وفيه من لا أعرفه
(5) حديث رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مُشَرَّدٍ فِي الْأَسْفَارِ مَطْعَمُهُ حرام وملبسه حرامالحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبرالحديث
(6) حديث ابن عباس إن لله ملكاً على بيت المقدس ينادي كل ليلة من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل لم أقف له على أصل ولأبي منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن مسعود من أكل لقمة من حرام لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة الحديث وهو منكر(2/89)
بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم حرام لم يقبل الله صلاته ما دام عليه منه شيء (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ لَحْمٍ نبت من حرام فالنار أولى بِهِ (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار (3)
وقال صلى الله عليه وسلم العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال (4)
روي هذا مرفوعاً وموقوفاً على بعض الصحابة أيضاً
وقال صلى الله عليه وسلم من أمسى وانيا من طلب الحلال بات مغفورا له وأصبح والله عنه راض (5)
وقال صلى الله عليه وسلم من أصاب مالاً من مأثم فوصل به رحماً أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع الله ذلك جميعاً ثم قذفه في النار (6)
وقال عليه السلام خير دينكم الورع (7)
وقال صلى الله عليه وسلم من لقي الله ورعاً أعطاه الله ثواب الإسلام كله (8)
ويروى أن الله تعالى قال في بعض كتبه وأما الورعون فأنا أستحي أن أحاسبهم
وقال صلى الله عليه وسلم درهم من ربا أشد عند الله من ثلاثين زنية في الإسلام (9)
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة وإذا سقمت صدرت بالسقم (10)
ومثل الطعمة من الدين مثل الأساس من البنيان فإذا ثبت الأساس وقوي استقام البنيان وارتفع وإذا ضعف الأساس واعوج انهار البنيان ووقع
وقال الله عز وجل أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله الآية
وفي الحديث من اكتسب مالاً من حرام فإن تصدق به لم يقبل منه وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار (11)
وقد ذكرنا جملة من الأخبار في كتاب آداب الكسب تكشف عن فضيلة الكسب الحلال
وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرِبَ لَبَنًا مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ ثُمَّ سَأَلَ عَبْدَهُ فَقَالَ تَكَهَّنْتُ لِقَوْمٍ فَأَعْطَوْنِي فَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي فِيهِ وَجَعَلَ يَقِيءُ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسَهُ سَتَخْرُجُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا حَمَلَتِ الْعُرُوقُ وَخَالَطَ الأمعاء (12)
وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال أو علمتم
أن الصديق
_________
(1) حديث من اشترى ثوباً بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام لم يقبل الله صلاته وعليه منه شيء رواه أحمد من حديث ابن عمر بسند ضعيف
(2) حديث كل لحم نبت من الحرام فالنار أولى به أخرجه الترمذي من حديث كعب بن عجرة وحسنه وقد تقدم
(3) حديث من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله عز وجل من أين أدخله النار أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر قال ابن العربي في عارضة الأحوذى شرح الترمذي انه باطل لم يصح ولا يصح
(4) حديث العبادة عشرة أجزاء فتسعة منها في طلب الحلال رواه أبو منصور الديلمي من حديث أنس إلا أنه قال تسعة منها في الصمت والعاشرة كسب اليد من الحلال وهو منكر
(5) حديث من أمسى وانيا من طلب الحلال بات مغفورا له وأصبح والله عنه راض أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له وفيه ضعف
(6) حديث من أصاب مالاً من مأثم فوصل به رحماً أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع الله ذلك جميعاً ثم قذفه في النار رواه أبو داود في المراسيل من رواية القاسم بن مخيمرة مرسلا
(7) حديث خير دينكم الورع تقدم في العلم
(8) حديث من لقي الله ورعاً أعطاه ثواب الإسلام كله لم أقف له على أصل
(9) حديث درهم من ربا أشد عند الله من ثلاثين زنية في الإسلام رواه أحمد والدارقطني من حديث عبد الله بن حنظلة وقال ستة وثلاثين ورجاله ثقات وقيل عن حنظلة الزاهد عن كعب مرفوعا وللطبراني في الصغير من حديث ابن عباس ثلاثة وثلاثين وسنده ضعيف
(10) حديث أبو هريرة المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والعقيلي في الضعفاء وقال باطل لا أصل له
(11) حديث من اكتسب مالاً من حرام فإن تصدق به لم يقبل منه وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار رواه أحمد من حديث ابن مسعود بسند ضعيف ولأبن حبان من حديث أبي هريرة من جمع مالاً من حرام ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه
(12) حديث إن أبا بكر شرب لبنا من كسب عبده ثم سأله فقال تكهنت لقوم فأعطوبي فأدخل إصبعه في فيه وجعل يقىء وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك قال أو ما علمتم أن الصديق لا يدخل جوفه إلا طيبا رواه البخاري من حديث عائشة كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدرى ما هذا فقال وما هو قال كنت تكهنت لأنسان في الجاهلية فذكره دون المرفوع عنه فلم أجده(2/90)
لا يدخل جوفه إلا طيباً وَكَذَلِكَ شَرِبَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ لبن إبل الصدقة غلطاً فأدخل إصبعه وتقيأ وقالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة هو الورع وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار لم يقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه
وقال الفضيل من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صديقاً فانظر عند من تفطر يا مسكين وقيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله لم لا تشرب من ماء زمزم فقال لو كان لي دلو شربت منه
وقال سفيان الثوري رضي الله عنه من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهر الثوب النجس بالبول والثوب النجس لا يطهره إلا الماء والذنب لا يكفره إلا الحلال
وقال يحيى بن معاذ الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء وأسنانه لقم الحلال
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يقبل الله صلاة امرىء في جوفه حرام وَقَالَ سهل التستري لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ أَرْبَعُ خِصَالٍ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِالسُّنَّةِ وَأَكْلُ الْحَلَالِ بِالْوَرَعِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ من الظاهر والباطن والصبر على ذلك إلى الموت
وقال من أحب أن يكاشف بآيات الصديقين فلا يأكل إلا حلالاً ولا يعمل إلا في سنة أو ضرورة
ويقال من أكل الشبهة أربعين يوماً أظلم قلبه وهو تأويل قوله تَعَالَى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كانوا يكسبون} وقال ابن المبارك رد درهم من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف حتى بلغ إلى ستمائة ألف
وقال بعض السلف إن العبد يأكل أكله فيتقلب قلبه فينغل كما ينغل الأديم ولا يعود إلى حاله أبداً
وقال سهل رضي الله عنه من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى علم أو لم يعلم
ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات وقال بعض السلف إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر
وروي في آثار السلف أن الواعظ كان إذا جلس للناس قال العلماء تفقدوا منه ثلاثاً فإن كان معتقداً لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق وإن كان سيء الطعمة فعن الهوى ينطق فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه
وفي الأخبار المشهورة عن على عليه السلام وغيره إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب
وزاد آخرون وشبهتها عتاب
وروي أن بعض الصالحين دفع طعاماً إلى بعض الأبدال فلم يأكل فسأله عن ذلك فقال نحن لا نأكل إلا حلالاً فلذلك تستقيم قلوبنا ويدوم حالنا ونكاشف الملكوت ونشاهد الآخرة ولو أكلنا مما تأكلون ثلاثة أيام لما رجعنا إلى شيء من علم اليقين ولذهب الخوف والمشاهدة من قلوبنا فقال له الرجل فإني أصوم الدهر وأختم القرآن في كل شهر ثلاثين مرة فقال له البدل هذه الشربة التي رأيتني شربتها من الليل أحب إلى من ثلاثين ختمة في ثلثمائة ركعة من أعمالك وكانت شربته من لبن ظبية وحشية
وقد كان بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صحبة طويلة فهجره أحمد إذ سمعه يقول إني لا أسأل أحداً شيئاً ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته حتى اعتذر يحيى وقال كنت أمزح فقال تمزح بالدين أما علمت أن الأكل من الدين قدمه الله تعالى على العمل الصالح فقال {كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} وفي الخبر أنه مكتوب في التوراة من لم يبال من أين مطعمه لم يبال الله من أي أبواب النيران أدخله وعن علي رضي الله عنه أنه لم يأكل بعد قد قتل عثمان ونهب الدار طعاماً إلا مختوماً حذراً من الشبهة
واجتمع الفضيل بن عياض وابن عيينة وابن المبارك عند وهيب بن الورد بمكة فذكروا الرطب فقال وهيب هو من أحب الطعام إلي إلا أني لا آكله لاختلاط رطب مكة ببساتين زبيدة وغيرها فقال له(2/91)
ابن المبارك إن نظرت في مثل هذا ضاق عليك الخبز
قال وما سببه قال إن أصول الضياع قد اختلط بالصوافي فغشي على وهيب فقال سفيان قتلت الرجل فقال ابن المبارك ما أردت إلا أن أهون عليه فلما أفاق قال لله على أن لا آكل خبزاً أبداً حتى ألقاه
قال فكان يشرب اللبن قال فأتته أمه بلبن فسألها فقالت هو من شاة بني فلان فسأل عن ثمنها وأنه من أين كان لهم فذكرت فلما أدناه من فيه قال بقي أنها من أين كانت ترعى فسكتت فلم يشرب لأنها كانت ترعى من موضع فيه حق للمسلمين فقالت أمه اشرب فإن الله يغفر لك فقال ما أحب أن يغفر لي وقد شربته فأنال مغفرته بمعصيته
وَكَانَ بِشْرٌ الْحَافِي رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَرِعِينَ فَقِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ فَقَالَ مِنْ حَيْثُ تَأْكُلُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ مَنْ يَأْكُلُ وَهُوَ يَبْكِي كَمَنْ يَأْكُلُ وَهُوَ يَضْحَكُ
وَقَالَ يَدٌ أَقْصَرُ مِنْ يَدٍ وَلُقْمَةٌ أَصْغَرُ مِنْ لُقْمَةٍ وَهَكَذَا كَانُوا يَحْتَرِزُونَ مِنَ الشُّبُهَاتِ أَصْنَافُ الْحَلَالِ وَمَدَاخِلُهُ
اعْلَمْ أَنَّ تَفْصِيلَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِنَّمَا يَتَوَلَّى بَيَانَهُ كُتُبُ الْفِقْهِ وَيَسْتَغْنِي الْمُرِيدُ عَنْ تَطْوِيلِهِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ طُعْمَةٌ مُعِينَةٌ يَعْرِفُ بالفتوى حلها لَا يَأْكُلُ مِنْ غَيْرِهَا فَأَمَّا مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الْأَكْلِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَيَفْتَقِرُ إِلَى علم الحلال والحرام كله كما فصلناه في كتب الفقه
وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إِلَى مَجَامِعِهِ فِي سِيَاقٍ تقسيم وهو أَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يَحْرُمُ إِمَّا لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ أَوْ لِخَلَلٍ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْحَرَامُ لِصِفَةٍ فِي عَيْنِهِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِمَا
وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَأْكُولَةَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا تَعْدُو ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَعَادِنِ كَالْمِلْحِ وَالطِّينِ وَغَيْرِهِمَا أو من النبات أو من الحيوانات
أما الْمَعَادِنُ فَهِيَ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ وَجَمِيعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ أنه يضر بالآكل وفي بَعْضِهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى السُّمِّ وَالْخُبْزُ لَوْ كَانَ مُضِرًّا لَحَرُمَ أَكْلُهُ وَالطِّينُ الَّذِي يُعْتَادُ أَكْلُهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الضَّرَرُ
وفائدة قولنا إنه لا يحرم مع أنه لا يؤكل أنه لو وقع شيء منها في مرقة أو طعام مائع لم يصر به محرماً
وَأَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا مَا يزيل العقل أو يزيل الْحَيَاةَ أَوِ الصِّحَّةَ فَمُزِيلُ الْعَقْلِ الْبِنْجُ وَالْخَمْرُ وَسَائِرُ الْمُسْكِرَاتِ وَمُزِيلُ الْحَيَاةِ السُّمُومُ وَمُزِيلُ الصِّحَّةِ الْأَدْوِيَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا وَكَأَنَّ مَجْمُوعَ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الضَّرَرِ إِلَّا الْخَمْرَ وَالْمُسْكِرَاتِ فَإِنَّ الَّذِي لَا يُسْكِرُ مِنْهَا أَيْضًا حَرَامٌ مَعَ قلته لعينه ولصفته وهي الشدة المطربة
وأما السم فإذا خرج عن كونه مضراً لقلته أو لعجنه بغيره فلا يحرم
وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ فَتَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُؤْكَلُ وَإِلَى ما لا يؤكل وتفصيله في كتاب الأطعمة والنظر يطول في تفصيله لا سيما في الطيور الغريبة وحيوانات البر والبحر وما يحل أكله منها فَإِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا ذُبِحَ ذَبْحًا شَرْعِيًّا رُوعِيَ فيه شروط الذابح والآلة والذبح وذلك مذكور في
كتاب الصيد والذبائح وَمَا لَمْ يُذْبَحْ ذَبْحًا شَرْعِيًّا أَوْ مَاتَ فَهُوَ حَرَامٌ وَلَا يَحِلُّ
إِلَّا مِيتَتَانِ السَّمَكُ والجراد وفي معناهما ما يستحيل من الأطعمة كدود التفاح والخل والجبن فإن الاحتراز منهما غير ممكن فأما إذا أفردت وأكلت فحكمها حكم الذباب والخنفساء والعقرب وكل ما ليس له نفس سائلة لا سبب في تحريمها إلا الاستقذار ولو لم يكن لكان لا يكره فإن وجد شخص لا يستقذره لم يلتفت إلى خصوص طبعه فإنه التحق بالخبائث لعموم الاستقذار فيكره أكله كما لو جمع المخاط وشربه كره(2/92)
ذلك وليست الكراهة لنجاستها فإن الصحيح أنها لا تنجس بالموت إذ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يمقل الذباب في الطعام إذا وقع فيه (1)
وربما يكون حاراً ويكون ذلك سبب موته ولم تهرت نملة أو ذبابة في قدر لم يجب إراقتها إذ المستقذر هو جرمه إذا بقي له جرم ولم ينجس حتى يحرم بالنجاسة وهذا يدل على أن تحريمه للاستقذار ولذلك نقول لو وقع جزء من آدمي ميت في قدر ولو وزن دانق حرم الكل لا لنجاسته فإن الصحيح أن الآدمي لا ينجس بالموت ولكن لأن أكله محرم احتراماً لا استقذاراً
وأما الحيوانات المأكولة إذا ذبحت بشرط الشرع فلا تحل جميع أجزائها بل يحرم منها الدم والفرث وكل ما يقضى بنجاسته منها بل تناول النجاسة مطلقاً محرم ولكن ليس في الأعيان شيء محرم نجس إلا من الحيوانات
وأما من النبات فالمسكرات فقط دون ما يزيل العقل ولا يسكر كالبنج فإن نجاسة المسكر تغليظ للذجر عنه لكونه في مظنة التشوف ومهما وقعت قطرة من النجاسة أو جزء من نجاسة جامدة في مرقة أو طعام أو دهن حرم أكل جميعه ولا يحرم الانتفاع به لغير الأكل فيجوز الاستصباح بالدهن النجس وكذا طلاء السفن والحيوانات وغيرها فهذه مجامع ما يحرم لصفة في ذاته الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَحْرُمُ لِخَلَلٍ فِي جِهَةِ إثبات اليد عليه
وفيه يتسع النظر فنقول أخذ المال إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره فالذي يكون بغير اختياره كالإرث والذي يكون باختياره إما أن لا يكون من مالك كنيل المعادن أو يكون من مالك والذي أخذ من مالك فإما أن يؤخذ قهراً أو يؤخذ تراضياً والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكاة الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا السياق ستة أَقْسَامٌ
الْأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَنَيْلِ الْمَعَادِنِ وَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِاسْتِقَاءِ من الأنهار والاحتشاش فهذا حلال بشرط أَنْ لَا يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مُخْتَصًّا بِذِي حُرْمَةٍ من الآدميين فإذا انفك من الاختصاصات ملكها آخذها
وتفصيل ذلك في كتاب إحياء الموات
الثاني المأخوذة قَهْرًا مِمَّنْ لَا حُرْمَةَ لَهُ وَهُوَ الْفَيْءُ والغنيمة وسائر أموال الكفار والمحاربين وَذَلِكَ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا أَخْرَجُوا مِنْهَا الْخُمْسَ وَقَسَّمُوهَا بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يَأْخُذُوهَا مِنْ كافر له حرمة وأمان وعهد
وتفصيل هذه الشروط في كتاب السير من كتاب الفيء والغنيمة وكتاب الجزية
الثالث ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من وجب عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق الذي به استحقاقه واقتصر على القدر المستحق واستوفاه ممن يملك الاستيفاء من قاض أو سلطان أو مستحق وتفصيل ذلك في
كتاب تفريق الصدقات وكتاب الوقف وكتاب النفقات إذ فيها النظر في صفة
المستحقين للزكاة والوقف والنفقة وغيرها من الحقوق فإذا استوفيت شرائطها كان المأخوذ حلالاً
الرابع مَا يُؤْخَذُ تَرَاضِيًا بِمُعَاوَضَةٍ وَذَلِكَ حَلَالٌ إِذَا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين أعني الإيجاب والقبول مَعَ مَا تَعَبَّدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الشروط المفسدة
وبيان ذلك في كتاب البيع والسلم والإجارة والحوالة والضمان والقراض والشركة والمساقاة والشفعة والصلح والخلع والكتابة والصداق
_________
(1) حديث الأمر بأن يمقل الذباب في الطعام إذا وقع فيه رواه البخاري من حديث أبي هريرة(2/93)
وسائر المعاوضات
الخامس ما يؤخذ عن رضا من غير عوض وهو حلال إذا روعي فيه شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره وذلك مذكور في كتاب الهبات والوصايا والصدقات
السادس
مَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ كَالْمِيرَاثِ وَهُوَ حَلَالٌ إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وَجْهٍ حَلَالٍ ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا وَتَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كان واجباً وذلك مذكور في كتاب الوصايا والفرائض فهذه مجامع مداخل الحلال والحرام أومأنا إلى جملتها ليعلم المريد أنه إن كانت طعمته متفرقة لا من جهة معينة فلا يستغني عن علم هذه الأمور فكل ما يأكله من جهة من الجهات يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَلَا يُقْدِمَ عَلَيْهِ بِالْجَهْلِ فَإِنَّهُ كَمَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ لِمَ خَالَفْتَ عِلْمَكَ يُقَالُ لِلْجَاهِلِ لِمَ لَازَمْتَ جهلك ولم تتعلم بعد أن قبل لك طلب فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دَرَجَاتُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
اعْلَمْ أَنَّ الْحَرَامَ كُلَّهُ خَبِيثٌ لَكِنَّ بَعْضَهُ أَخْبَثُ مِنْ بَعْضٍ وَالْحَلَالَ كُلَّهُ طَيِّبٌ وَلَكِنَّ بَعْضَهُ أَطْيَبُ مِنْ بَعْضٍ وَأَصْفَى مِنْ بَعْضٍ وكما أن الطبيب يحكم على كل حلو بالحرارة ولكن يقول بعضها حار في الدرجة الأولى كالسكر وبعضها حار في الثانية كالفانيذ وبعضها حار في الثالثة كالدبس وبعضها حار في الرابعة كالعسل
كذلك الحرام بعضه خبيث حار في الدرجة الأولى وبعضه الثانية أو الثالثة أو الرابعة وكذا الحلال تتفاوت درجات صفاته وطيبه فلنقتد بأهل الطب في الاصطلاح على أربع درجات تقريباً
وإن كان التحقيق لا يوجب هذا الحصر إذ يتطرق إلى كل درجة من الدرجات أيضاً تفاوت لا ينحصر فإن من السكر ما هو أشد حرارة من سكر آخر وكذا غيره فلذلك نقول الورع عن الحرام على أربع درجات
الأولى ورع العدول وهو الذي يجب الفسق باقتحامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان والتعرض للنار بسببه وهو الْوَرَعُ عَنْ كُلِّ مَا تُحَرِّمُهُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ
الثانية ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر فهو من مواقع الشبهة على الجملة فلنسم التحرج عن ذلك ورع الصالحين وهو في الدرجة الثانية
الثالثة مالا تحرمه الفتوى ولا شُبْهَةَ فِي حِلِّهِ وَلَكِنْ يُخَافُ مِنْهُ أَدَاؤُهُ إِلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ به مخافة مما به باس وهذا ورع المتيقن
قال صلى الله عليه وسلم لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع مالا بأس به مخافة ما به بأس (1)
الرابعة ما لا بأس به أصلاً ولا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى مَا بِهِ بأس ولكنه يتناول لغير الله وعلى غير نِيَّةِ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ تَتَطَرَّقُ إِلَى أَسْبَابِهِ الْمُسَهِّلَةِ لَهُ كَرَاهِيَةٌ أَوْ معصية والامتناع منه ورع الصديقين فهذه درجات الحلال جملة إلى أن نفصلها بالأمثلة والشواهد
وأما الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى هو الذي يشترط التورع عنه في العدالة وإطراح سمة الفسق فهو أيضاً على درجات في الخبث فالمأخوذ بعقد فاسد كالمعاطاة مثلاً فيما لا يجوز فيه المعاطاة حرام ولكن ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر بل المغصوب أغلظ إذ فيه ترك طريق الشرع في الاكتساب وإيذاء الغير
_________
(1) حديث لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع مالا بأس به مخافة ما به بأس رواه ابن ماجه وقد تقدم(2/94)
وليس في المعاطاة إيذاء وإنما فيه ترك طريق التعبد فقط ثم ترك طريق التعبد بالمعاطاة أهون من تركه بالربا وهذا التفاوت يدرك بتشديد الشرع ووعيده وتأكيده في بعض المناهى على ما سيأتي في كتاب التوبة عند ذكر الفرق بين الكبيرة والصغيرة بل المأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو من يتيم أخبث وأعظم من المأخوذ من قوي أو غني أو فاسق لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذي فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث لا ينبغي أن يذهل عنها فلولا اختلاف درجات العصاة لما اختلفت درجات النار وإذا عرفت مثارات التغليظ فلا حاجة إلى حصره في ثلاث درجات أو أربعة فإن ذلك جار مجرى التحكم والتشهي وهو طلب حصر فيما لا حاصر له ويدلك على اختلاف درجات الحرام في الخبث ما سيأتي في تعارض المحذورات وترجيح بعضها على بعض حتى إذا اضطر إلى أكل ميتة أو أكل طعام الغير أو أكل صيد الحرم فإنا نقدم بعض هذا على بعض أمثلة الدرجات الأربع في الورع وشواهدها
أما الدرجة الأولى وهي ورع العدول فكل ما اقتضى الفتوى تحريمه مما يدخل في المداخل الستة التي ذكرناها من مداخل الحرام لفقد شرط من الشروط فهو الحرام المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق والمعصية وهو الذي نريده بالحرام المطلق ولا يحتاج إلى أمثلة وشواهد
وأما الدرجة الثانية فأمثلتها كل شبهة لا توجب اجتنابها ولكن يستجب اجتنابها كما سيأتي في باب الشبهات إذ من الشبهات ما يجب اجتنابها فتلحق بالحرام ومنها ما يكره اجتنابها فالورع عنها ورع الموسوسين كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت من إنسان أخذه وملكه وهذا وسواس
ومنها
ما يستحب اجتنابها ولا يجب وهو الذي ينزل عليه قوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى مالا يريبك (1)
ونحمله على نهي التنزيه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم كل ما أصميت ودع ما أنميت (2)
والإنماء أن يجري الصيد فيغيب عنه ثم يدركه ميتاً إذ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَقْطَةٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ والذي نختاره كما سيأتي أن هذا ليس بحرام ولكن تركه من ورع الصالحين
وقوله دع ما يريبك أمر تنزيه إذ ورد في بعض الروايات كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثراً غير سهمك ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه على سبيل التنزيه لأجل الخوف
إذ قال لأبي ثعلبة الخشني كل منه فقال وإن أكل منه فقال وإن أكل (3)
وذلك لأن حالة أبي ثعلبة وهو فقير مكتسب لا تحتمل هذا الورع وحال عدي كان يحتمله
يحكى عن ابن سيرين أنه ترك لشريك له أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ حَاكَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا بأس به فأمثلة هذه الدرجة نذكرها في التعرض لدرجات الشبهة فكل ما هو شبهة لا يجب اجتنابه فهو مثال هذه الدرجة
أما الدرجة الثالثة وهي ورع المتقين فيشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس وقال عمر رضي الله عنه
كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام
_________
(1) حديث دع ما يريبك إلى مالا يريبك أخرجه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه من حديث الحسن بن علي
(2) حديث كل ما أصميت ودع ما أنميت أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس والبيهقي موقوفا عليه وقال إن المرفوع ضعيف
(3) حديث قال لأبي ثعلبة كل منه فقال وإن أكل قال وإن أكل رواه أبو داود من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ومن حديث أبي ثعلبة أيضا مختصرا وإسنادهما جيد والبيهقي موقوفا عليه وقال إن المرفوع ضعيف(2/95)
وقيل إن هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما
وقال أبو الدرداء إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حتى يكون حجاباً بينه وبين النار ولهذا كان لِبَعْضِهِمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى إِنْسَانٍ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ فَأَخَذَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَتَوَرَّعَ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ خيفة الزيادة
وكان بعضهم يتحرز فكل ما يستوفيه يأخذه ينقصان حبة وما يعطيه يوفيه بزيادة حبة ليكون ذلك حاجزاً من النار ومن هذه الدرجة الِاحْتِرَازُ عَمَّا يَتَسَامَحُ بِهِ النَّاسُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ فِي الْفَتْوَى وَلَكِنْ يُخَافُ مِنْ فَتْحِ بَابِهِ أَنْ يَنْجَرَّ إِلَى غَيْرِهِ وَتَأْلَفَ النَّفْسُ الاسترسال وتترك الورع فمن ذلك ما روي عن علي بن معبد أنه قال كنت ساكناً في بيت بكراء فكتبت كتاباً وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه ثم قلت الحائط ليس لي فقالت لي نفسي وما قدر تراب من حائط فأخذت من التراب حاجتي فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول يا علي بن معبد سيعلم غداً الذي يقول وما قدر تراب من حائط ولعل معنى ذلك انه يرى كيف يحط من منزلته فإن للتقوى درجة تفوت بفوات ورع المتقين وليس المراد به أن يستحق عقوبة على فعله
ومن ذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه وصله مسك من البحرين فقال وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة أنا أجيد الوزن فسكت عنها ثم أعاد القول فأعادت الجواب فقال لا أحببت أن تضعيه بكفة ثم تقولين فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلاً على المسلمين
وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مِسْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ
فَأَخَذَ بِأَنْفِهِ حَتَّى لَا تُصِيبَهُ الرائحة وقال وهل ينتفع منه إلا بريحه لما استعبد ذلك منه
وَأَخَذَ الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَمْرَةً مِنْ تمر الصدقة وكان صغيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ // حديث أخذ الحسن بن علي تمرة من الصدقة وكان ضغيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ ألقها أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
أي ألقها
ومن ذلك ما روي بعضهم أنه كَانَ عِنْدَ مُحْتَضَرٍ فَمَاتَ لَيْلًا فَقَالَ أَطْفِئُوا السراج قد حدث للورثة حق في الدهن
وروى سليمان التيمي عن نعيمة العطارة قالت كان عمر رضي الله عنه يدفع إلى امرأته طيباً من طيب المسلمين لتبيعه فباعتني طيباً فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسر بأسنانها فتعلق بإصبعها شيء منه فقالت به هكذا بإصبعها ثم مسحت به خمارها فدخل عمر رضي الله عنه فقال ما هذه الرائحة فأخبرته فقال طيب المسلمين تأخذينه فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرة من الماء فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ثم يصب الماء ثم يدلكه في التراب ويشمه حتى لم يبق له ريح قالت ثم أتيتها مرة أخرى فلما وزنت علق منه شيء بإصبعها فأدخلت إصبعها في فيها ثم مسحت به التراب فهذا من عمر رضي الله عنه ورع التقوى لخوف أداء ذلك إلى غيره وإلا فغسل الخمار ما كان يعيد الطبيب إلى المسلمين ولكن أتلفه عليها زجراً وردعاً واتقاء من أن يتعدى الأمر إلى غيره
ومن ذلك ما سئل أحمد بن حنبل رحمة الله عن رجل يكون في المسجد يحمل مجمرة لبعض السلاطين ويبخر المسجد بالعود فقال ينبغي أن يخرج من المسجد فإنه لا ينتفع من العود إلا برائحته وهذا قد يقارب الحرام فإن القدر الذي يعبق بثوبه من رائحة الطيب قد يقصد وقد يبخل به فلان يدري أنه يتسامح به أم لا
وسئل أحمد بن حنبل عمن سقطت منه ورقة فيها أحاديث فهل لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها فقال لا بل يستأذن ثم يكتب وهذا أيضاً قد يشك في أن صاحبها هل يرضى به أم لا فما هو في محل الشك والأصل تحريمه فهو حرام وتركه من الدرجة الأولى
ومن ذلك التورع عن الزينة لأنه يخاف منها أن تدعو إلى غيرها وإن كانت الزينة مباحة في نفسها
وقد سئل أحمد بن حنبل عن النعال السبتية فقال أما أنا فلا استعملها ولكن إن كان للطين فأرجو وأما من أراد الزينة فلا ومن ذلك أن عمر(2/96)
رضي الله عنه لما ولى الخلافة له زوجة يحبها فطلقها خفية أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيعطيها ويطلب رضاها وهذا من ترك مالا بأس به مخافة مما به البأس أي مخافة من أن يفضي إليه وأكثر المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمتعزب فإنه يحرك الشهوة ثم الشهوة تدعو إلى الفكر والفكر يدعو إلى النظر والنظر يدعو إلى غيره وكذلك النظر إلى دور الأغنياء وتجملهم مباح في نفسه ولكن يهيج الحرص ويدعوا إلى طلب مثله ويلزم منه ارتكاب ما لا يحل في تحصيله وهكذا المباحات كلها إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائها بالمعرفة أولا ثم ثانياً فقلما تخلو عاقبتها عن خطر وكذا كل ما أخذ بالشهوة فقلما يخلو عن خطر حتى كره احمد بن حنبل تجصيص الحيطان وقال أما تجصيص الأرض فيمنع التراب وأما تجصيص الحيطان فزينة لا فائدة فيه حتى أنكر تجصيص المساجد وتزيينها واستدل بما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل أن يكحل المسجد فقال لاعريش كعريش موسى (1)
وإنما هو شيء مثل الكحل يطلى به فلم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وكره السلف الثوب الرقيق وقالوا من رق ثوبه رق دينه وكل ذلك خوفاً من سريان اتباع الشهوات في المباحات إلى غيرها فإن المحظور والمباح تشتهيهما النفس بشهوة واحدة وإذا تعودت الشهوة المسامحة استرسلت فاقتضى خوف التقوى الورع عن هذا كله فكل حلال انفك عن مثل هذه المخافة فهو الحلال الطيب في الدرجة الثالثة وهو كل ما لا يخاف أداؤه إلى معصية البتة
أما الدرجة الرابعة وهو ورع الصديقين فالحلال عندهم كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية ولا يستعان به على معصية ولا يقصد منه في الحال والمال قضاء وطر بل يتناول لله تعالى فقد وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله وهؤلاء هم الذين يرون كل ما ليس لله حراماً امتثالاً لقوله تعالى {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} وهذه رتبة الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم المنفردين لله تعالى بالقصد ولا شك في أن من يتورع عما يوصل إليه أو يستعان عليه بمعصية ليتورع عما يقترن بسبب اكتسابه معصية أو كراهية فمن ذلك ما روي عن يحيى بن كثير أنه شرب الدواء فقالت له امرأته لو تمشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء فقال هذه مشية لا أعرفها وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة فكأنه لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين فلم يجز الإقدام عليها
وعن سري رحمه الله أنه قال انتهيت إلى حشيش في جبل وماء يخرج منه فتناولت من الحشيش وشربت من الماء وقلت في نفسي إن كنت قد أكلت يوما حلالاً طيباً فهو هذا اليوم فهتف بي هاتف إن القوة التي أوصلتك إلى هذا الموضع من أين هي فرجعت وندمت
ومن هذا ما روي عن ذي النون المصري أنه كان جائعاً محبوساً فبعثت إليه امرأة صالحة طعاماً على يد السجان فلم يأكل ثم اعتذر وقال جاءني على طبق ظالم يعني أن القوة التي أوصلت الطعام إلي لم تكن طيبة وهذه الغاية القصوى في الورع
ومن ذلك أن بشراً رحمه الله كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء فإن النهر سبب لجريان الماء ووصوله إليه وإن كان الماء مباحاً في نفسه فيكون كالمنتفع بالنهر المحفور بأعمال الأجراء وقد أعطوا الأجرة من الحرام ولذلك امتنع بعضهم من العنب الحلال من كرم حلال وقال لصاحبه
أفسدته إذ سقيته من الماء الذي يجري في النهر الذي حفرته الظلمة وهذا أبعد عن الظلم من شرب نفس الماء لأنه احتراز من استمداد العنب من ذلك الماء
وكان بعضهم إذا مر في طريق الحج لم يشرب من المصانع التي عملتها الظلمة مع أن الماء مباح ولكنه بقي محفوظا
_________
(1) حديث أنه سئل أن يكحل المسجد فقال لا عريش كعريش موسى أخرجه الدارقطني في الأفراد من حديث أبي الدرداء وقال غريب(2/97)
بالمصنع الذي عمل به بمال حرام فكأنه انتفاع به
وامتناع ذي النون من تناول الطعام من يد السجان أعظم من هذا كله لأن يد السجان لا توصف بأنها حرام بخلاف الطبق المغصوب إذا حمل عليه ولكنه وصل إليه بقوة اكتسبت بالغذاء الحرام ولذلك تقيأ الصديق رضي الله عنه من اللبن خِيفَةً مِنْ أَنْ يُحْدِثَ الْحَرَامُ فِيهِ قُوَّةً مَعَ أَنَّهُ شَرِبَهُ عَنْ جَهْلٍ وَكَانَ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ وَلَكِنَّ تَخْلِيَةَ الْبَطْنِ عَنِ الْخَبِيثِ من ورع الصديقين ومن ذلك التورع من كسب حلال اكتسبه خياط يخيط في المسجد فإن أحمد رحمه الله كره جلوس الخياط في المسجد
وسئل عن المغازلي يجلس في قبة في المقابر وفي وقت يخاف من المطر فقال
إنما هي من أمر الآخرة وكره جلوسه فيها
وأطفأ بعضهم سراجاً أسرجه غلامه من قوم يكره ما لهم
وامتنع من تسجير تنور للخبز وقد بقي فيه جمر من حطب مكروه
وامتنع بعضهم من أن يحكم شسع نعله في مشعل السلطان فهذه دقائق الورع عند سالكي طريق الآخرة
والتحقيق فيه أن الورع له أول وهو الامتناع عما حرمته الفتوى وهو ورع العدول وله غاية وهو ورع الصديقين وذلك هو الامتناع من كل ما ليس له مما أخذ بشهوة أو توصل إليه بمكروه أو اتصل بسببه مكروه وبينهما درجات في الاحتياط فَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ تَشْدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ كان أخف ظهراً يوم القيامة وأسرع جوازاً على الصراط وَأَبْعَدَ عَنْ أَنْ تَتَرَجَّحَ كِفَّةُ سَيِّئَاتِهِ عَلَى كفة حسناته وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع كما تتفاوت درجات النار في حق الظلمة بحسب تفاوت درجات الحرام في الخبث وَإِذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَإِلَيْكَ الْخِيَارُ فَإِنْ شِئْتَ فَاسْتَكْثِرْ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَإِنْ شِئْتَ فَرَخِّصْ فلنفسك تحتاط وعلى نفسك ترخص والسلام
الباب الثاني في مراتب الشبهات ومثاراتها وتمييزها عن الحلال والحرام
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ في الشبهات واقع الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ (1)
فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُشْكِلُ مِنْهَا الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ الشُّبْهَةُ فَلَا بد من بيانها وكشف الغطاء عنها فإن ما لا يعرفه الكثير فقد يعرف القليل فنقول
الحلال المطلق هو الذي خَلَا عَنْ ذَاتِهِ الصِّفَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْرِيمِ فِي عينه وانحل عن أسبابه ما تطرق إليه تحريم أو كراهية ومثاله الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد يكون هو واقفاً عند جمعه وأخذه من الهواء في ملك نفسه أو في أرض مباحة
وَالْحَرَامُ الْمَحْضُ هُوَ مَا فِيهِ صِفَةٌ مُحَرَّمَةٌ لا يشك فيها كالشدة المطربة في الخمر والنجاسة في البول
أَوْ حَصَلَ بِسَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ قَطْعًا كَالْمُحَصَّلِ بالظلم والربا ونظائره فهذان طَرَفَانِ ظَاهِرَانِ وَيَلْتَحِقُ بِالطَّرَفَيْنِ مَا تَحَقَّقَ أَمْرُهُ وَلَكِنَّهُ احْتَمَلَ تَغَيُّرَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ سبب يدل عليه فإن صيد البر والبحر حلال ومن أخذ ظبية فيحتمل أن يكون قد ملكها صياد ثم أفلتت منه وكذلك السمك يحتمل أن يكون قد تزلق من الصياد بعد وقوعه في يده وخريطته فمثل هذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر المختطف من الهواء ولكنه في معنى ماء المطر
_________
(1) حديث الحلال بين والحرام بين الحديث متفق عليه من حديث النعمان بن بشير(2/98)
والاحتراز منه وسواس ولنسم هذا الفن ورع الموسوسين حتى تلتحق به أمثاله وذلك لأن هذا وهم مجرد لا دلالة عليه نعم لو دل عليه دليل فإن كان قاطعاً كما لو وجد حلقة في أذن السمكة أو كان محتملاً كما لو وجد على الظبية جراحة يحتمل أن يكون كياً لا يقدر عليه إلا بعد الضبط
ويحتمل أن يكون جرحاً فهذا موضع الورع وإذا انتفت الدلالة من كل وجه فالاحتمال المعدوم دلالته كإحتمال المعدوم في نفسه ومن هذا الجنس من يستعير داراً فيغيب عنه المعير فيخرج ويقول لعله مات وصار الحق للوارث فهذا وسواس إذ لم يدل على موته سبب قاطع أو مشكك إذ الشبهة المحذورة ما تنشأ من الشك والشك عبارة عن اعتقادين متقابلين نشآ عن سببين فما لا سبب له لا يثبت عقده في النفس حتى يساوي العقد المقابل له فيصير شكاً ولهذا نقول من شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً أخذ بالثلاث إذ الأصل عدم الزيادة
ولو سئل إنسان أن صلاة الظهر التي أداها قبل هذا بعشر سنين كانت ثلاثاً أو أربعاً لم يتحقق قطعاً أنها أربعة وإذا لم يقطع جوز أن تكون ثلاثة وهذا التجويز لا يكون شكا إذ لم يحضره سبب أوجب اعتقاد كونها ثلاثاً فلتفهم حقيقة الشك حتى لا يشتبه الوهم والتجويز بغير سبب فهذا يلتحق بالحلال المطلق
ويلتحق بالحرام المحض ما تحقق تحريمه وإن أمكن طريان محلل ولكن لم يدل عليه سبب كمن في يدل طعام لمورثه الذي لا وارث له سواه فغاب عنه فقال يحتمل أنه مات وقد انتقل الملك إلي فآكله فإقدامه عليه إقدام على حرام محض لأنه احتمال لا مستند له فلا ينبغي أن يعد هذا النمط من أقسام الشبهات وإنما الشبهة نعني بها ما اشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ بِأَنْ تَعَارَضَ لَنَا فِيهِ اعتقادان صدرا عن سببين مقتضيين للاعتقادين
ومثارات الشبهة خمسة المثار الأول الشك في السبب المحلل والمحرم
وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلاً أو غلب أحد الاحتمالين فَإِنْ تَعَادَلَ الِاحْتِمَالَانِ كَانَ الْحُكْمُ لِمَا عُرِفَ قَبْلَهُ فَيُسْتَصْحَبُ وَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ وَإِنْ غَلَبَ أحد الاحتمالين عليه بأن صدر عن دَلَالَةٌ مُعْتَبَرَةٌ كَانَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَلَا يَتَبَيَّنُ هَذَا إِلَّا بِالْأَمْثَالِ وَالشَّوَاهِدِ فَلْنُقَسِّمْهُ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ مَعْلُومًا من قبل ثم يقع الشك في المحل فَهَذِهِ شُبْهَةٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا وَيَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا
مثاله أن يرمي إلى صيد فيجرحه ويقع في الماء فيصادفه ميتاً ولا يدري أنه مات بالغرق أو بالجرح فهذا حرام لأن الأصل التحريم إلا إذ مات بطريق معين وقد وقع الشك في الطريق فلا يترك اليقين بالشك كما في الأحداث والنجاسات وركعات الصلاة وغيرها وعلى هذا ينزل قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لا تأكله فلعله قتله غير كلبك (1)
فلذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء اشتبه عليه أنه صدقة أو هدية سأل عنه حتى يعلم أيهما هو (2)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم أرق ليلة فقالت له بعض نسائه أرقت يا رسول الله فقال أجل وجدت تمرة فخشيت أن تكون من الصدقة (3)
وفي رواية فأكلتها فخشيت أن تكون من الصدقة ومن ذلك ما روي عن بعضهم أنه قال كنا في سفر مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصابنا الجوع فنزلنا منزلا
_________
(1) حديث لا تأكله فلعله قتله غير كلبك قاله لعدي بن حاتم متفق عليه من حديثه
(2) حديث كان إذا أتي بشيء اشتبه عليه أنه صدقة أو هبة يسأل عنه أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
(3) حديث انه أرق ليلة فقال له بعض نسائه أرقت يا رسول الله فقال {أجل} وجدت تمرة فأكلتها فخشيت أن تكون من الصدقة أخرجه احمد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد حسن(2/99)
كثير الضباب فبينا القدور تغلي بها إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمة مسخت من بني إسرائيل أخشى أن تكون هذه فأكفأنا القدور (1)
ثم أعمله الله بعد ذلك أنه لم يمسخ الله خلقاً فجعل له نسلاً (2)
وكان امتناعه أولاً لأن الأصل عدم الحل وشك في كون الذبح محللاً
الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يُعْرَفَ الْحِلُّ وَيُشَكَّ فِي المحرم فالأصل الحل وله الحكم
كما إذا نكح امرأتين رجلان وطار طائر فقال أحدهما إن كان هذا غراباً فامرأتي طالق وقال الآخر إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق
والتبس أمر الطائر فلا يقضى بالتحريم في واحدة منهما ولا يلزمهما اجتنابهما ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما حتى يحلا لسائر الأزواج وقد أمر مكحول بالاجتناب في هذه المسئلة وأفتى الشعبي بالاجتناب في رجلين كانا قد تنازعا فقال أحدهما للآخر أنت حسود فقال الآخر أحسدنا زوجته طالق ثلاثاً فقال الآخر نعم وأشكل الأمر وهذا إن أراد به اجتناب الورع فصحيح وإن أراد التحريم المحقق فلا وجه له إذ ثبت في المياه والنجاسات والأحداث والصلوات أن اليقين لا يجب تركه بالشك وهذا في معناه
فإن قلت وأي مناسبة بين هذا وبين ذلك فاعلم أنه لا يحتاج إلى المناسبة فإنه لازم من غير ذلك في بعض الصور فإنه مهما تيقن طهارة الماء ثم شك في نجاسته جاز له أن يتوضأ به فكيف لا يجوز أن يشربه وإذا جوز الشرب فقد سلم أن اليقين لا يزال بالشك إلا أن ههنا دقيقة وهو أن وزان الماء أن يشك في أنه طلق زوجته أم لا فيقال الأصل أنه ما طلق ووزان مسئلة الطائر أن يتحقق نجاسة أحد الإناءين ويشتبه عينه فلا يجوز أن يستعمل أحدهما بغير اجتهاد لأنه قابل يقين النجاسة بيقين الطهارة فيبطل الاستصحاب فكذلك ههنا قد وقع الطلاق على إحدى الزوجين قطعاً والتبس عين المطلقة بغير المطلقة فنقول اختلف أصحاب الشافعي في الإناءين على ثلاثة أوجه فقال قوم يستصحب بغير اجتهاد وقال قوم بعد حصول يقين النجاسة في مقابلة يقين الطهارة يجب الاجتناب ولا يغني الاجتهاد
وقال المقتصدون يجتهد وهو الصحيح ولكن وزانه أن تكون له زوجتان فيقول إن كان غرابا فزينب طلق وإن لم يكن فعمرة طالق فلا جرم لا يجوز له غشيانهما بالاستصحاب ولا يجوز الاجتهاد إذ لا علامة ونحرمهما عليه لأنه لو وطئهما كان مقتحماً للحرام قطعاً وإن وطيء إحداهما وقال أقتصر على هذه كان متحكماً بتعيينها من غير ترجيح
ففي هذا افترق حكم شخص واحد أو شخصين لأن التحريم على شخص واحد متحقق بخلاف الشخصين
إذ كل واحد شك في التحريم في حق نفسه
فإن قيل فلو كان الإناء أن لشخصين فينبغي أن يستغني عن الاجتهاد ويتوضأ كل واحد بإنائه لأنه تيقن طهارته وقد شك الآن فيه فنقول هذا محتمل في الفقه والأرجح في ظني المنع وأن تعدد الشخصين ههنا كاتحاده لأن صحة الوضوء لا تستدعي ملكاً بل وضوء الإنسان بماء غيره في رفع الحدث كوضوئه بماء نفسه فلا يتبين لاختلاف الملك واتحاده أثر بخلاف الوطء لزوجة الغير فإنه لا يحل ولأن للعلامات مدخلاً في النجاسات والاجتهاد فيه ممكن بخلاف الطلاق فوجب تقوية الاستصحاب بعلامة ليدفع بها قوة يقين النجاسة المقابلة ليقين الطهارة وأبواب الاستصحاب والترجيحات من غوامض الفقه ودقائقه وقد استقصيناه في كتب الفقه ولسنا نقصد الآن إلا التنبيه على قواعدها
_________
(1) حديث كنا في سفر مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصابنا الجوع فنزلنا منزلاً كثير الضباب فبينا القدور تغلي بها إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمة من بني إسرائيل مسخت فأخاف أن تكون هذه فأكفأنا القدور أخرجه ابن حبان والبيهقي من حديث عبد الرحمن وحسنه وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه حديث ثابت بن زيد نحوه مع اختلاف قال البخاري وحديث ثابت أصح
(2) حديث أنه لم يمسخ الله خلقاً فجعل له نسلاً أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود(2/100)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ التَّحْرِيمُ وَلَكِنْ طَرَأَ مَا أَوْجَبَ تَحْلِيلَهُ بِظَنٍّ غَالِبٍ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالْغَالِبُ حِلُّهُ فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنِ اسْتَنَدَ غَلَبَةُ الظَّنِّ إِلَى سَبَبٍ مُعْتَبَرٍ شرعا فالذي نختاره فيه أنه يحل واجتنابه مِنَ الْوَرَعِ
مِثَالُهُ أَنْ يَرْمِيَ إِلَى صَيْدٍ فَيَغِيبَ ثُمَّ يُدْرِكَهُ مَيِّتًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرٌ سِوَى سَهْمِهِ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَقْطَةٍ أو بسبب آخر فإن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالقسم الأول
وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في هذا القسم والمختار أَنَّهُ حَلَالٌ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَقَدْ تحقق والأصل أنه لم يطرأ غيره عليه فطريانه مشكوك فيه فلا يدع اليقين بالشك
فإن قيل فقد قال ابن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت
وروت عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب فقال رميتى فعرفت فيها سمهي فقال أصميت أو أنميت فقال بل أنميت قال إن الليل خلق من خلق الله لا يقدر قدره إلا الذي خلقه فلعله أعان على قتله شيء (1)
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في كلبه المعلم وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه (2)
والغالب أن الكلب المعلم لا يسئ خلقه ولا يمسك إلا على صاحبه ومع ذلك نهى عنه وهذا التحقيق وهو أن الحل إنما يتحقق إذا تحقق تمام السبب وتمام السبب بأن يفضي إلى الموت سليماً من طريان غيره عليه وقد شك فيه فهو شك في تمام السبب حتى اشتبه أن موته على الحل أو على الحرمة فلا يكون هذا في معنى ما تحقق موته على الحل في ساعته ثم شك فيما يطرأ عليه فالجواب أن نهي ابن عباس ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على الورع والتنزيه بدليل ما روي في بعض الروايات أنه قال كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثراً غير سهمك (3)
وهذا تنبيه على المعنى الذي ذكرناه وهو أنه إن وجد أثراً آخر فقد تعارض السببان بتعارض الظن وإن لم يجد سوى جرحه حصل غلبة الظن فيحكم به على الاستصحاب كما يحكم على الاستصحاب بخبر الواحد والقياس المظنون والعمومات المظنونة وغيرها
وأما قول القائل إنه لم يتحقق موته على الحل في ساعة فيكون شكاً في السبب فليس كذلك بل السبب قد تحقق إذ الجرح سبب الموت فطربان الغير شك فيه ويدل على صحة هذا الإجماع على أن من جرح وغاب فوجد ميتاً فيجب القصاص على جارحه بل إن لم يغب يحتمل أن يكون موته بيهجان خلط في باطنه كما يموت الإنسان فجأة فينبغي أن لا يجب القصاص إلا بحز الرقبة والجرح المذفف لأن العلل القاتلة في الباطن لا تؤمن ولأجلها يموت الصحيح فجأة ولا قائل بذلك مع أن القصاص مبناه على الشبهة وكذلك جنين المذكاة حلال ولعله مات قبل ذبح الأصل لا بسبب ذبحه أو لم ينفخ فيه الروح وغرة الجنين تجب ولعل الروح لم ينفخ فيه أو كان قد مات قبل الجناية بسبب آخر ولكن يبني على الأسباب الظاهرة فإن الاحتمال الآخر إذا لم يستند إلى دلالة تدل عليه التحق بالوهم والوسواس كما ذكرناه فكذلك هذا
وأما قوله صلى الله عليه وسلم أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه فللشافعي رحمه الله
_________
(1) حديث عائشة أن رجلاً أتى النبي بأرنب فقال رميتي عرفت فيها سهمي فقال أصميت أو أنميت قال بل أنميت قال إن الليل خلق من خلق الله لا يقدر قدره إلا الذي خلقه لعله أعان على قتله شيء ليس هذا من حديث عائشة وإنما رواه موسى بن أبي عائشة عن أبي رزين قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصيد فقال إني رميته من الليل فأعياني ووجدت سهمى فيه من الغد وعرفت سهمى فقال الليل خلق من خلق الله عظيم لعله أعانك عليها شيء رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي وقال أبو رزين اسمه مسعود والحديث مرسل قاله البخاري
(2) حديث قال لعدي في كلبه المعلم وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه متفق عليه من حديثه
(3) حديث كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثر سهم غيرك متفق عليه من حديث عدي بن حاتم(2/101)
في هذه الصورة قولان والذي نختاره الحكم بالتحريم لأن السبب قد تعارض إذ الكلب المعلم كالآلة والوكيل يمسك على صاحبه فيحل ولو استرسل المعلم بنفسه فأخذ لم يحل لأنه يتصور منه أن يصطاد لنفسه ومهما انبعث بإشارته ثم أكل دل ابتداء انبعاثه على أنه نازل منزلة آلته وأنه يسعى في وكالته ونيابته ودل أكله آخراً على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه فقد تعارض السبب الدال فيتعارض الاحتمال والأصل التحريم فيستصحب ولا يزال بالشك وهو كما لو وكل رجلاً بأن يشتري له جارية فاشترى له جارية ومات قبل أن يبين أنه اشتراها لنفسه أو لموكله يحل للموكل وطؤها لأن للوكيل قدرة على الشراء لنفسه ولموكله جميعاً ولا دليل مرجح والأصل التحريم فهذا يلتحق بالقسم الأول لا بالقسم الثالث
الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْحِلُّ مَعْلُومًا وَلَكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ طَرَيَانٌ مُحَرِّمٌ بِسَبَبٍ مُعْتَبَرٍ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ شَرْعًا فَيَرْفَعُ الِاسْتِصْحَابَ وَيَقْضِي بالتحريم إذ بان لنا أن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع غالب الظن ومثاله أَنْ يُؤَدِّيَ اجْتِهَادُهُ إِلَى نَجَاسَةِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَلَامَةٍ مُعَيَّنَةٍ تُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فتوجب تحريم شربه كما أوجبت منع الوضوء به وكذا إذا قال إن قتل زيد عمراً أو قتل زيد صيداً منفرداً بقتله فامرأتي طالق فجرحه وغاب عنه فوجد ميتاً حرمت زوجته لأن الظاهر أنه منفرد بقتله كما سبق وقد نص الشافعي رحمه الله أن من وجد في الغدران ماء متغيرا احتمل أن يكون تغيره بطول المكث أو بالنجاسة فيستعمله ولو رأى ظبية بالت فيه ثم وجده متغيراً واحتمل أن يكون بالبول أو بطول المكث لم يجز استعماله إذ صار البول المشاهد دلالة مغلبة لاحتمال النجاسة وهو مثال ما ذكرناه وهذا في غلبة ظن استند إلى علامة متعلقة بعين الشيء فأما غلبة الظن لا من جهة علامة تتعلق بعين الشيء فقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن أصل الحل هل يزال به إذا اختلف قوله في التوضؤ من أواني المشركين ومدمن الخمر والصلاة في المقابر المنبوشة والصلاة مع طين الشوارع أعنى المقدار الزائد على ما يتعذر الاحتراز عنه وعبر الأصحاب عنه بأنه إذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يعتبر وهذا جار في حل الشرب من أواني مدمن الخمر والمشركين لأن النجس لا يحل شربه فإذن مأخذ النجاسة والحل واحد فالتردد في أحدهما يوجب التردد في الآخر والذي أختاره أن الأصل هو المعتبر وأن العلامة إذا لم تتعلق بعين المتناول لم توجب رفع الأصل وسيأتي بيان ذلك وبرهانه في المثار الثاني للشبهة وهي شبهة الخلط فقد اتضح من هذا حكم حلال شك في طريان محرم عليه أو ظن وحكم حرام شك في طريان محلل عليه أو ظن وبان الفرق بين ظن يستند إلى علامة في عين الشيء وبين ما لا يستند إليه وكل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى والاحتياط تركه فالمقدم عليه لا يكون من زمرة المتقين والصالحين بل من زمرة العدول الذين لا يقضى في فتوى الشرع بفسقهم وعصيانهم واستحقاقهم العقوبة إلا ما ألحقناه برتبة الوسواس فإن الاحتراز عنه ليس من الورع أصلاً المثار الثاني للشبهة شَكٌّ مَنْشَؤُهُ الِاخْتِلَاطُ
وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْتَلِطَ الْحَرَامُ بالحلال ويشتبه الأمر ولا يتميز والخلط لا يخلو إما أن يقع بعدد لا يحصر من الجانبين أو من أحدهما أو بعدد محصور فإن اختلط بمحصور فلا يخلو إما أن يكون اختلاط امتزاج بحيث لا يتميز بالإشارة كاختلاط المائعات
أو يكون اختلاط استبهام مع التميز للأعيان كاختلاط الأعبد والدور والأفراس والذي يختلط بالاستيهام فلا يخلو إما أن يكون مما يقصد عينه كالعروض أو لا يقصد كالنقود(2/102)
فيخرج من هذا التقسيم ثلاثة أقسام
القسم الأول أن تستبهم العين بعدد محصور كما لو اختلطت الميتة بمذكاة أو بعشر مذكيات أو اختلطت رضيعة بعشر نسوة أو يتزوج إحدى الأختين ثم تلتبس فَهَذِهِ شُبْهَةٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْعَلَامَاتِ فِي هَذَا وَإِذَا اخْتَلَطَتْ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ صَارَتِ الْجُمْلَةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَتَقَابَلَ فيه يقين التحريم والتحليل ولا فرق في هذا بين أن يثبت حل فيطرأ اختلاط بمحرم كما لو أوقع الطلاق على إحدى زوجتين في مسئلة الطائر أو يختلط قبل الاستحلال كما لو اختلطت رضيعة بأجنبية فأراد استحلال واحدة وهذا قد يشكل في طريان التحريم كطلاق إحدى الزوجتين لما سبق من الاستصحاب
وقد نبهنا على وجه الجواب وهو أن يقين التحريم قابل يقين الحل فَضَعُفَ الِاسْتِصْحَابُ وَجَانِبُ الْحَظْرِ أَغْلَبُ فِي نَظَرِ الشرع فلذلك ترجح وهذا إذا اختلط حلال محصور بحرام محصور
فإن اختلط حلال محصور بحرام غير محصور فلا يخفى أن وجوب الاجتناب أولى
القسم الثاني حَرَامٌ مَحْصُورٌ بِحَلَالٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ رَضِيعَةٌ أَوْ عَشْرُ رَضَائِعَ بِنِسْوَةِ بَلَدٍ كبير فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح نساء أَهْلِ الْبَلَدِ بَلْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شاء منهن وهذا لا يجوز أن يعلل بكثرة الحلال إذ يلزم عليه أن يجوز النكاح إذا اختلطت واحدة حرام بتسع حلال ولا قائل به بل العلة الغلبة وَالْحَاجَةِ جَمِيعًا إِذْ كُلُّ مَنْ ضَاعَ لَهُ رَضِيعٌ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ بِمُصَاهَرَةٍ أَوْ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَدَّ عليه باب النكاح وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَالَ الدُّنْيَا خَالَطَهُ حَرَامٌ قَطْعًا لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الشِّرَاءِ وَالْأَكْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَجٍ وَمَا فِي الدِّينِ مِنْ حرج
وَيُعْلَمُ هَذَا بِأَنَّهُ لَمَّا سُرِقَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِجَنٌّ (1)
وَغَلَّ وَاحِدٌ فِي الْغَنِيمَةِ عَبَاءَةً (2)
لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ شِرَاءِ الْمَجَانِّ وَالْعَبَاءِ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا سُرِقَ وَكَذَلِكَ كَانَ يُعْرَفُ أن في الناس من يربي فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا النَّاسُ الدَّرَاهِمَ والدنانير بالكلية (3)
وبالجملة إنما تنفك الدنيا عن الحرام إذا عصم الخلق كلهم عن المعاصي وهو محال
وإذا لم يشترط هذا في الدنيا لم يشترط أيضاً في بلد إلا إذا وقع بين جماعة محصورين بل اجتناب هذا من ورع الموسوسين إذا لم ينقل ذلك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أحد من الصحابة ولا يتصور الوفاء به في ملة من الملل ولا في عصر من الأعصار
فإن قلت فكل عدد محصور في علم الله
فما حد المحصور ولو أراد الإنسان أن يحصر أهل بلد لقدر عليه أيضاً إن تمكن منه فاعلم أن تحديد أمثال هذه الأمور غير ممكن وإنما يضبط بالتقريب
فنقول كل عدد لو اجتمع على صعيد واحد لعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر كالألف والألفين فهو غير محصور وما سهل كالعشرة والعشرين فهو محصور وبين الطرفين أوساط متشابهة تحلق بأحد الطرفين بالظن وما وقع الشك فيه استفتى فيه القلب فإن الإثم حزاز القلوب
وفي مثل هذا المقام قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوابصة استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك (4)
وكذا الأقسام الأربعة التي ذكرناها في المثال الأول يقع فيها أطراف متقابلة واضحة في النفي والإثبات وأوساط متشابهة فالمفتي يفتي بالظن وعلى المستفتي أن يستفتي
_________
(1) حديث سرقه المجن فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم متفق عليه من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم
(2) حديث غل واحد من الغنائم عباءة رواه البخاري من حديث عبد الله ابن عمر واسم الغال كركرة
(3) حديث أن في الناس من كان يربي فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا النَّاسُ الدَّرَاهِمَ بالكلية هذا معروف وسيأتي حديث جابر بعده بحديث وهو يدل على ذلك
(4) حديث استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك قاله لوابصة تقدم(2/103)
قلبه فإن حاك في صدره شيء فهو الآثم بينه وبين الله فلا ينجيه في الآخرة فتوى المفتي فإنه يفتي بالظاهر والله يتولى السرائر
القسم الثالث أن يختلط حَرَامٌ لَا يُحْصَرُ بِحَلَالٍ لَا يُحْصَرُ كَحُكْمِ الأموال في زماننا هذا فالذي يأخذ الأحكام من الصور قد يظن أن نسبة غير المحصور إلى غير المحصور كنسبة المحصور إلى المحصور وقد حكمنا ثم بالتحريم فلنحكم هنا به والذي نختاره خلاف ذلك وهو أنه لَا يَحْرُمُ بِهَذَا الِاخْتِلَاطِ أَنْ يُتَنَاوَلَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ احْتَمَلَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِتِلْكَ الْعَيْنِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى أنه من الحرام فإن لم يكن في الْعَيْنِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ فتركه ورع وأخذه حلال لا يفسق به آكله
ومن العلامات أن يأخذه من يد سلطان ظالم إلى غير ذلك من العلامات التي سيأتي ذكرها ويدل عليه الأثر والقياس فأما الأثر
فما علم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده إذ كانت أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدي أهل الذمة مختلطة بالأموال وكذا غلول الأموال وكذا غلول الغنيمة ومن الوقت الذي نهى صلى الله عليه وسلم عن الربا إذ قال أول ربا أضعه ربا العباس (1)
ما ترك الناس الربا بأجمعهم كما لم يتركوا شرب الخمور وسائر المعاصي حتى روي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باع الخمر فقال عمر رضي الله عنه
لعن الله فلاناهو أول من سن بيع الخمر إذ لم يكن قد فهم أن تحريم الخمر تحريم لثمنها
وقال صلى الله عليه وسلم إن فلاناً يجر في النار عباءة قد غلها (2)
وقتل رجل ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزات من خرز اليهود لا تساوي درهمين قد غلها (3)
وكذلك أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع في السوق بسبب نهب المدينة وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام وكان من يمتنع من تلك الأموال مشاراً إليه في الورع والأكثرون لم يمتنعوا مع الاخلاط وكثرة الأموال المنهوبة في أيام الظلمة
ومن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح وزعم أنه تفطن من الشر ما لم يتفطنوا له فهو موسوس مختل العقل ولو جاز أن يزاد عليهم في أمثال هذا لجاز مخالفتهم في مسائل لا مستند فيها سوى اتفاقهم كقولهم إن الجدة كالأم في التحريم وابن الابن كالابن وشعر الخنزير وشحمه كاللحم المذكور تحريمه في القرآن والربا جار فيما عدا الأشياء الستة وذلك محال فإنهم أولى بفهم الشرع من غيرهم وأما القياس فهو أنه لو فتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات وخرب العالم إذ الفسق يغلب على الناس ويتساهلون بسببه في شروط الشرع في العقود ويؤدي ذلك لا محالة إلى الاختلاط
فإن قيل قد نقلتم أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الضب وقال أخشى أن يكون مما مسخه الله وهو في اختلاط غير المحصور قلنا يحمل ذلك على التنزه والورع أو نقول الضب شكل غريب ربما يدل على أنه من المسخ فهي دلالة في عين المتناول
فإن قيل هذا معلوم فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وزمان الصحابة بسبب الربا والسرقة والنهب وغلوك الغنيمة وغيرها ولكن كانت هي الأقل بالإضافة إلى الحلال فما تقول في زماننا وقد صار الحرام أكثر ما في أيدي الناس لفساد المعاملات وإهمال شروطها وكثرة الربا وأموال السلاطين الظلمة فمن أخذ مالاً لم يشهد
_________
(1) حديث أول ربا أضعه ربا العباس أخرجه مسلم من حديث جابر
(2) حديث إن فلانا في النار يجر عباءة قد غلها رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر وتقدم قبله بثلاثة أحاديث
(3) حديث قتل رجل ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين قد غله رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن خالد الجهني(2/104)
عليه علامة معينة في عينة للتحريم فهل هو حرام أم لا
فأقول ليس ذلك حراما وإنما الورع تركه وهذا الورع أهم من الورع إذا كان قليلا
ولكن الجواب عن هذا أن قول الْقَائِلِ أَكْثَرُ الْأَمْوَالِ حَرَامٌ فِي زَمَانِنَا غَلَطٌ محض ومنشؤه الغفلة عن الفرق بين الكثير والأكثر فأكثر الناس بل أكثر الفقهاء يظنون أن ما ليس بنادر فهو الأكثر ويتوهمون أنهما قسمان متقابلان ليس بينهما ثالث وليس كذلك بل الأقسام ثلاثة قليل وهو النادر وكثير وأكثر ومثاله أن الخنثى فيما بين الخلق نادر وإذا أضيف إليه المريض وجد كثيراً وكذا السفر حتى يقال المرض والسفر من الأعذار العامة والاستحاضة من الأعذار النادرة ومعلوم أن المرض ليس بنادر وليس بالأكثر أيضابل هو كثير والفقيه إذا تساهل وقال المرض والسفر غالب وهو عذر عام أراد به أنه ليس بنادر فإن لم يرد هذا فهو غلط والصحيح والمقيم هو الأكثر والمسافر والمريض كثير والمستحاضة والخنثى نادر فإذا فهم هذا فنقول: قول القائل الحرام أكثر باطل لأن مستند هذا القائل إما أن يكون كثرة الظلمة والجندية أو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة أو كثرة الأيدي التي تكررت من أول الإسلام إلى زماننا هذا على أصول الأموال الموجودة اليوم أما المستند الأول فباطل فإن الظالم كثير وليس هو بالأكثر فإنهم الجندية إذ لا يظلم إلا ذو غلبة وشوكة وهم إذا أضيفوا إلى كل العالم لم يبلغوا عشر عشيرهم فكل سلطان يجتمع عليه من الجنود مائة ألف مثلا فيملك إقليمايجمع ألف ألف وزيادة ولعل بلدة واحدة من بلاد مملكته يزيد عددها على جميع عسكره ولو كان عدد السلاطين أكثر من عدد الرعايا لهلك الكل إذ كان يجب على كل واحد من الرعية أن يقوم بعشرة منهم مثلاً مع تنعمهم في المعيشة ولا يتصور ذلك بل كفاية الواحد كان منهم تجمع من ألف من الرعية وزيادة وكذا القول في السراق فإن البلدة الكبيرة تشتمل منهم على قدر قليل
وأما المستند الثاني وهو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة فهي أيضاً كثيرة وليست بالأكثر إذ أكثر المسلمين يتعاملون بشروط الشرع فعدد هؤلاء أكثر والذي يعامل بالربا أو غيره فلو عددت معاملاته وحده لكان عدد الصحيح منها يزيد على الفاسد إلا أن يطلب الإنسان بوهمه في البلد مخصوصاً بالمجانة والخبث وقلة الدين حتى يتصور أن يقال معاملاته الفاسدة أكثر ومثل ذلك المخصوص نادر وإن كان كثيراً فليس بالأكثر لو كان كل معاملاته فاسدة كيف ولا يخلو هو أيضا عن معاملات صحيحة تساوي الفاسدة أو تزيد عليها وهذا مقطوع به لمن تأمله وإنما غلب هذا على النفوس لاستكثار النفوس الفساد واستبعادها إياه واستعظامها له وإن كان نادراحتى ربما يظن أن الربا وَشُرْبَ الْخَمْرِ قَدْ شَاعَ كَمَا شَاعَ الْحَرَامُ فَيَتَخَيَّلُ أَنَّهُمُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّهُمُ الْأَقَلُّونَ وإن كان فيهم كثرة
وأما المستند الثالث وهو أخيلها أن يقال الأموال إنما تحصل من المعادن والنبات والحيوان والنبات والحيوان حاصلان بالتوالد فإذا نظرنا إلى شاة مثلاً وهي تلد في كل سنة فيكون عدد أصولها إلى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريباً من خمسمائة ولا يخلو هذا أن يتطرق إلى أصل من تلك الأصول غصب أو معاملة فاسدة فكيف يقدر أن تسلم أصولها عن تصرف باطل إلى زماننا هذا وكذا بذور الحبوب والفواكه تحتاج إلى خمسمائة أصل أو ألف أصل مثلاً إلى أول زمان الشرع ولا يكون هذا حلالاً ما لم يكن أصله وأصل أصله كذلك إلى أول زمان النبوة حلالاً وأما المعادن فهي التي يمكن نيلها على سبيل الابتداء وهي أقل الأموال وأكثر ما يستعمل منها الدراهم والدنانير ولا تخرج إلا من دار الضرب وهي في أيدي الظلمة مثل المعادن في أيديهم يمنعون الناس منها ويلزمون الفقراء استخراجها بالأعمال الشاقة ثم يأخذونها منهم غصباً فإذا نظر إلى هذا علم أن بقاء دينار واحد بحيث لا يتطرق إليه عقد فاسد(2/105)
ولا ظلم وقت النيل ولا وقت الضرب في دار الضرب ولا بعده في معاملات الصرف والربا بعيد نادر أو محال فلا يبقى إذن حلال إلا الصيد والحشيش في الصحاري الموات والمفاوز والحطب المباح ثم من يحصله لا يقدر على أكله فيفتقر إلى أن يشتري به الحبوب والحيوانات التي لا تحصل إلا بالاستنبات والتوالد فيكون قد بذل حلالاً في مقابلة حرام فهذا هو أشد الطرق تخيلاً
والجواب أن هذه الغلبة لم تنشأ من كثرة الحرام المخلوط بالحلال فخرج عن النمط الذي نحن فيه والتحق بما ذكرناه من قبل وهو تعارض الأصل والغالب إذ الأصل في هذه الأموال قبولها للتصرفات وجواز التراضي عليها وقد عارضه سبب غالب يخرجه عن الصلاح له فيصاهي هذا محل القولين للشافعي رضي الله عنه في حكم النجاسات والصحيح عندنا أنه تجوز الصلاة في الشوارع إذا لم يجد فيها نجاسة فإن طين الشوارع طاهر وأن الوضوء من أواني المشركين جائز وأن الصلاة في المقابر المنبوشة جائزة فثبت هذا أولاثم نقيس ما نحن فيه عليه ويدل على ذلك توضؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة وتوضؤ عمر رضي الله عنه من جرة نصرانية مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون عما نجسه شرعنا فكيف تسلم أوانيهم من أيديهم بل نقول نعلم قطعاً أنهم كانوا يلبسون الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة والمقصورة ومن تأمل أحول الدباغين والقصارين والصباغين علم أن الغالب عليهم النجاسة وأن الطهارة في تلك الثياب محال أو نادر بل نقول نعلم أنهم كانوا يأكلون خبز البر والشعير ولا يغسلونه مع أنه يداس بالبقر والحيوانات وهي تبول عليه وتروث وقلما يخلص منها وكانوا يركبون الدواب وهي تعرق وما كانوا يغسلون ظهورها مع كثرة تمرغها في النجاسات بل كل دابة تخرج من بطن أمها وعليها رطوبات نجسة قد تزيلها الأمطار وقد لا تزيلها وما كان يحترز عنها وكانوا يمشون حفاة في الطرق وبالنعال ويصلون معها ويجلسون على التراب ويمشون في الطين من غير حاجة وكانوا لا يمشون في البول والعذرة ولا يجلسون عليهما ويستنزهون منه ومتى تسلم الشوارع عن النجاسات مع كثرة الكلاب وأبوالها وكثرة الدواب وأرواثها ولا ينبغي أن نظن أن الأعصار أو الأمصار تختلف في مثل هذا حتى يظن أن الشوارع كانت تغسل في عصرهم أو كانت تحرس من الدواب هيهات فذلك معلوم استحالته بالعادة قطعاً فدل على أنهم لم يحترزوا إلا من نجاسة مشاهدة أو علامة على النجاسة دالة على العين
فأما الظن الغالب الذي يستثار من رد الدراهم إلى مجاري الأحوال فلم يعتبروه وهذا عند الشافعي رحمه الله وهو يرى أن الماء القليل ينجس من غير تغير واقع إذ لم يزل الصحابة يدخلون الحمامات ويتوضئون من الحياض وفيها المياه القليلة والأيدي المختلفة تغمس فيها على الدوام وهذا قاطع في هذا الغرض ومهما ثبت جواز التوضؤ من جرة نصرانية ثبت جواز شربه والتحق حكم الحل بحكم النجاسة
فإن قيل لا يجوز قياس الحل على النجاسة إذ كانوا يتوسعون في أمور الطهارات ويحترزون من شبهات الحرام غاية التحرز فكيف يقاس عليها قلنا إن أريد به أنهم صلوا معها مع النجاسة والصلاة معصية وهي عماد الدين فبئس الظن بل يجب أن نعتقد فيهم أنهم احترزوا عن كل نجاسة وجب اجتنابها وإنما تسامحوا حيث لم يجب وكان في محل تسامحهم هذه الصورة التي تعارض فيها الأصل والغالب فبان أن الغالب الذي لا يستند إلى علامة تتعلق بعين ما فيه النظر مطرح وأما تورعهم في الحلال فكان بطريق التقوى وهو ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس لأن أمر الأموال مخوف والنفس تميل إليها إن لم تضبط عنها وأمر الطهارة ليس كذلك فقد امتنع طائفة منهم عن الحلال المحض خيفة أن يشغل قلبه وقد حكي عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر وهو الطهور المحض فالافتراق في ذلك لا يقدح في الغرض الذي أجمعنا فيه على أنا نجري في هذا المستند(2/106)
على الجواب الذي قدمنا في المستندين السابقين ولا نسلم ما ذكروه من أن الأكثر هو الحرام لأن المال وإن كثرت أصوله فليس بواجب أن يكون في أصوله حرام بل الأموال الموجودة اليوم مما تطرق الظلم إلى أصول بعضها دون بعض وكما أن الذي يبتدأ غصبه اليوم هو الأقل بالإضافة إلى ما لا يغصب ولا يسرق فهكذا كل مال في كل عصر وفي كل أصل فالمغصوب من مال الدنيا والمتناول في كل زمان بالفساد بالإضافة إلى غيره أقل ولسنا ندري أن هذا الفرع بعينه من أي القسمين فلا نسلم أن الغالب تحريمه فإنه كما يزيد المغصوب بالتوالد يزيد غير المغصوب بالتوالد فيكون فرع الأكثر لا محالة في كل عصر وزمان أكثر بل الغالب أن الحبوب المغصوبة تغصب للأكل لا للبذر وكذا الحيوانات المغصوبة أكثرها يؤكل ولا يقتنى للتوالد فكيف يقال إن فروع الحرام أكثر ولم تزل أصول الحلال أكثر من أصول الحرام وليتفهم المسترشد من هذا طريق معرفة الأكثر فإنه مزلة قدم وأكثر العلماء يغلطون فيه فكيف العوام هذا في المتولدات من الحيوانات والحبوب فأما المعادن فإنها مخلاة مسبلة يأخذها في بلاد الترك وغيرها من شاء ولكن قد يأخذ السلاطين بعضها منهم أو يأخذون الأقل لا محالة لا الأكثر ومن حاز من السلاطين معدناً فظلمه يمنع الناس منه فأما ما يأخذه الآخذ منه فيأخذه من السلطان بأجرة والصحيح أنه يجوز الاستنابة في إثبات اليد على المباحات والاستئجار عليها فالمستأجر على الاستقاء إذا حاز الماء دخل في ملك المستقي له واستحق الأجرة فكذلك النيل فإذا فرعنا على هذا لم تحرم عين الذهب إلا أن يقدر ظلمه بنقصان أجرة العمل وذلك قليل بالإضافة ثم لا يوجب تحريم عين الذهب بل يكون ظالماً ببقاء الأجرة في ذمته وأما دار الضرب فليس الذهب الخارج منها من أعيان ذهب السلطان الذي غصبه وظلم به الناس بل التجار يحملون إليهم الذهب المسبوك أو النقد الرديء ويستأجرونهم على السبك والضرب ويأخذون مثل وزن ما سلموه إليهم إلا شيئاً قليلا ًيتركونه أجرة لهم على العمل وذلك جائز وإن فرض دنانير مضروبة من دنانير السلطان فهو بالإضافة إلى مال التجار أقل لا محالة نعم السلطان يظلم أجراء دار الضرب بأن يأخذ منهم ضريبة لأنه خصصهم بها من بين سائر الناس حتى توفر عليهم مال بحشمة السلطان فما يأخذه السلطان عوض من حشمته وذلك من باب الظلم وهو قليل بالإضافة إلى ما يخرج من دار الضرب فلا يسلم لأهل دار الضرب والسلطان من جملة ما يخرج منه من المائة واحد وهو عشر العشير فكيف يكون هو الأكثر فهذه أغاليط سبقت إلى القلوب بالوهم وتشمر لتزيينها جماعة ممن رق دينهم حتى قبحوا الورع وسدوا بابه واستقبحوا تمييز من يميز بين مال ومال وذلك عين البدعة والضلال
فإن قيل: فلو قدر غلبة الحرام وقد اختلط غير محصور بغير محصور فماذا تقولون فيه إذا لم يكن في العين المتناولة علامة خاصة فنقول الذي نراه أن تركه ورع وأن أخذه ليس بحرام لأن الأصل الحل ولا يرفع إلا بعلامة معينة كما في طين الشوارع ونظائرها بل أزيد وأقول لو طبق الحرام الدنيا حتى علم يقيناً أنه لم يبق في الدنيا حلال لكنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف ونقول ما جاوز حده انعكس إلى ضده فمهما حرم الكل حل الكل وبرهانه أنه إذا وقعت هذه الواقعة فالاحتمالات خمسة أحدها أن يقال يدع الناس الأكل حتى يموتوا من عند آخرهم
الثاني أن يقتصروا منها على قدر الضرورة وسد الرمق يزجون عليها أياماً إلى الموت
الثالث أن يقال يتناولون قدر الحاجة كيف شاءوا سرقة وغصبا وتراضياً من غير تمييز بين مال ومال وجهة وجهة
الرابع أن يتبعوا شروط الشرع ويستأنفوا قواعده من غير اقتصار على قدر الحاجة
الخامس(2/107)
أن يقتصروا مع شروط الشرع على قدر الحاجة
أما الأول فلا يخفى بطلانه
وأما الثاني فباطل قطعاً لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق وزجوا أوقاتهم على الضعف فشا فيهم الموتان وبطلت الأعمال والصناعات وخربت الدنيا بالكلية وفي خراب الدنيا خراب الدين لأنها مزرعة الآخرة وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين
وأما الثالث وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة عليه مع التسوية بين مال ومال بالغضب والسرقة والتراضي وكيفما اتفق فهو رفع لسد الشرع بين المفسدين وبين أنواع الفساد فتمتد الأيدي بالغصب والسرقة وأنواع الظلم ولا يمكن زجرهم منه إذ يقولون ليس يتميز صاحب اليد باستحقاق عنا فإنه حرام عليه وعلينا وذو اليد له قدر الحاجة فقط فإن كان هو محتاجا فإنا أيضاً محتاجون وإن كان الذي أخذته في حقي زائداً على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائد على حاجته يومه وإذا لم يراع حاجة اليوم والسنة فما الذي نراعي وكيف يضبط وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع وإغراء أهل الفساد بالفساد فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن يقال كل ذي يد على ما في يده وهو أولى به لا يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغصبا بل يؤخذ برضاه والتراضي هو طريق الشرع وإذ لم يجز إلا بالتراضي فللتراضي أيضاً منهاج في الشرع تتعلق به المصالح فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي وتعطل تفصيله وأما الاحتمال الخامس وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي فهو الذي نراه لائقاً بالورع لمن يريد سلوك طريق الآخر ولكن لا وجه لإيجابه على الكافة ولا لإدخاله في فتوى العامة لأن أيدي الظلمة تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس وكذا أيدي السراق وكل من غلب سلب وكل من وجد فرصة سرق ويقول لا حق له إلا في قدر الحاجة وأنا محتاج ولا يبقى إلا أن يجب على السلطان أن يخرج كل زيادة على قدر الحاجة من أيدي الملاك ويستوعب بها أهل الحاجة ويدر على الكل الأموال يوما فيوما أو سنة فسنة وفيه تكليف شطط وتضييع أموال أما تكليف الشطط فهو أن السلطان لا يقدر على القيام بهذا مع كثرة الخلق بل لا يتصور ذلك أصلاً وأما التضييع فهو أن ما فضل عن الحاجة من الفواكه واللحوم والحبوب ينبغي أن يلقى في البحر أو يترك حتى يتعفن فإن الذي خلقه الله من الفواكه والحبوب زائد عن قدر توسع الخلق وترفههم فكيف على قدر حاجتهم ثم يؤدي ذلك إلى سقوط الحج والزكاة والكفارات المالية وكل عبادة نيطت بالغنى عن الناس إذا أصبح الناس لا يملكون إلا قدر حاجتهم وهو في غاية القبح بل أقول لو ورد نبي في مثل هذا الزمان لوجب عليه أن يستأنف الأمر ويمهد تفصيل أسباب الأملاك بالتراضي وسائر الطرق ويفعل ما يفعله لو وجد جميع الأموال حلالاً من غير فرق
وأعني بقولي يجب عليه إذا كان النبي ممن بعث لمصلحة الخلق في دينهم ودنياهم إذ لا يتم الصلاح برد الكافة إلى قدر الضرورة والحاجة إليه فإن لم يبعث للصلاح لم يجب هذا
ونحن نجوز أن يقدر الله سبباً يهلك به الخلق عن آخرهم فيفوت دنياهم ويضلون في دينهم فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويميت من يشاء ويحيي من يشاء ولكنا نقدر الأمر جارياً على ما ألف من سنة الله تعالى في بعثة الأنبياء لصلاح الدين والدنيا
وما لي أقدر هذا وقد كان ما أقدره فلقد بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وكان شرع عيسى عليه السلام قد مضى عليه قريب من ستمائة سنة والناس منقسمون إلى مكذبين له من اليهود وعبدة الأوثان وإلى مصدقين له قد شاع الفسق فيهم كما شاع في زماننا الآن والكفار مخاطبون بفروع الشريعة
والأموال كانت في أيدي المكذبين له والمصدقين أما المكذبون فكانوا يتعاملون بغير شرع عيسى عليه السلام وأما المصدقون فكان يتساهلون مع أصل التصديق(2/108)
كما يتساهل الآن المسلمون مع أن العهد بالنبوة أقرب فكانت الأموال كلها أو أكثرها أو كثير منها حراماً وعفا صلى الله عليه وسلم عما سلف ولم يتعرض له وخصص أصحاب الأيدي بالأموال ومهد الشرع وما ثبت تحريمه في شرع لا ينقلب حلالاً لبعثة رسول ولا ينقلب حلالاً بأن بسلم الذي في يده الحرام فإنا لا نأخذ في الجزية من أهل الذمة ما نعرفه بعينه أنه ثمن خمر أو مال ربا فقد كانت أموالهم في ذلك الزمان كأموالنا الآن وأمر العرب كان أشد لعموم النهب والغارة فيهم
فبان أن الاحتمال الرابع متعين في الفتوى والاحتمال الخامس هو طريق الورع بل تمام الورع الاقتصار في المباح على قدر الحاجة وترك التوسع في الدنيا بالكلية وذلك طريق الآخرة
ونحن الآن نتكلم في الفقه المنوط بمصالح الخلق وفتوى الظاهر له حكم ومنهاج على حسب مقتضى المصالح وطريق الدين الذي لا يقدر على سلوكه إلا الآحاد ولو اشتغل الخلق كلهم به لبطل النظام وخرب العالم فإن ذلك طلب ملك كبير في الآخرة ولو اشتغل كل الخلق بطلب ملك الدنيا وتركوا الحرف الدنيئة والصناعات الخسيسة لبطل النظام ثم يبطل ببطلانه الملك أيضاً
فالمحترفون إنما سخروا لينتظم الملك للملوك وكذلك المقبلون على الدنيا سخروا ليسلم طريق الدين لذوي الدين وهو ملك الآخرة ولولاه لما سلم لذوي الدين أيضاً دينهم فشرط سلامة الدين لهم أن يعرض الأكثرون عن طريقهم ويشتغلوا بأمور الدنيا وذلك قسمة سبقت بها المشيئة الأزلية وإليه الإشارة بقوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً}
فإن قيل: لا حاجة إلى تقدير عموم التحريم حتى لا يبقى حلال فإن ذلك غير واقع وهو معلوم ولا شك في أن البعض حرام وذلك البعض هو الأقل أو الأكثر فيه نظر وما ذكرتموه من أنه الأقل بالإضافة إلى الكل جلي ولكن لا بد من دليل محصل على تجويزه ليس من المصالح المرسلة وما ذكرتموه من التقسيمات كلها مصالح مرسلة فلا بد لها من شاهد معين تقاس عليه حتى يكون الدليل مقبولاً بالاتفاق فإن بعض العلماء لا يقبل المصالح المرسلة
فأقول: إن سلم أن الحرام هو الأقل فيكفينا برهاناً عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة مع وجود الربا والسرقة والغلول والنهب وإن قدر زمان يكون الأكثر الحرام هو فيحل التناول أيضاً فبرهانه ثلاثة أمور:
{الأول} التقسيم الذي حصرناه وأبطلنا منه أربعة وأثبتنا القسم الخامس فإن ذلك إذا أجرى فيما إذا كان الكل حراماً كان أحرى فيما إذا كان الحرام هو الأكثر أو الأقل وقول القائل هو مصلحة مرسلة: هوس فإن ذلك إنما تخيل من تخيله في أمور مظنونة وهذا مقطوع به فإنا لا نشك في أن مصلحة الدين والدنيا مراد الشرع وهو معلوم بالضرورة إلى وليس بمظنون ولا شك في أن رد كافة الناس إلى قدر الضرورة أو الحاجة أو الحشيش والصيد مخرب للدنيا أولاً وللدين بواسطة الدنيا ثانياً فما لا يشك فيه لا يحتاج إلى أصل يشهد له وإنما يستشهد على الخيالات المظنونة المتعلقة بآحاد الأشخاص
البرهان الثاني أن يعلل بقياس محرر مردود إلى أصل يتفق الفقهاء الآنسون بالأقيسة الجزئية عليه وإن كانت الجزئيات مستحقرة عند المحصلين بالإضافة إلى مثل ما ذكرناه من الأمر الكلي الذي هو ضرورة النبي لو بعث في زمان عم التحريم فيه حتى لو حكم بغيره لخرب العالم والقياس المحرر الجزئي هو أنه قد تعارض أصل وغالب فيما انقطعت فيه العلامات المعينة من الأمور التي ليس محصورة فيحكم بالأصل لا بالغالب قياساً على طين الشوارع وجرة النصرانية وأواني المشركين وذلك قد أثبتناه من قبل بفعل الصحابة وقولنا انقطعت العلامات المعينة احتراز عن الأواني التي يتطرق الاجتهاد إليها وقولنا ليست محصورة احتراز عن التباس الميتة والرضيعة بالذكية والأجنبية(2/109)
فإن قيل: كون الماء طهوراً مستيقن وهو الأصل ومن يسلم أن الأصل في الأموال الحل بل الأصل فيها التحريم
فنقول: الأمور لا تحرم لصفة في عينها حرمة الخمر والخنزير خلقت على صفة تستعد لقبول المعاملات بالتراضي كما خلق الماء مستعدا للوضوء وقد وقع الشك في بطلان هذا الاستعداد منهما فلا فرق بين الأمرين فإنها تخرج عن قبول المعاملة بالتراضي بدخول الظلم عليها كما يخرج الماء عن قبول الوضوء بدخول النجاسة عليه ولا فرق بين الأمرين
والجواب الثاني: أن اليد دلالة ظاهرة دالة على الملك نازلة منزلة الاستصحاب وأقوى منه بدليل ان الشرع ألحقه به إذ من ادعى عليه دين فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته وهذا استصحاب
ومن ادعى عليه ملك في يده فالقول أيضاً قوله إقامة لليد مقام الاستصحاب فكل ما وجد في يد إنسان فالأصل أنه ملكه ما لم يدل على خلافه علامة معينة
البرهان الثالث هو أن كل ما دل على جنس لا يحصر ولا يدل على معين لم يعتبر وإن كان قطعاً فبأن لا يعتبر إذا دل بطريق الظن أولى وبيانه أن ما علم أنه ملك زيد فحقه يمنع من التصرف فيه بغير إذنه ولو علم أن له مالكاً في العالم ولكن وقع اليأس عن الوقوف عليه وعلى وارثه فهو مال مرصد لمصالح المسلمين يجوز التصرف فيه بحكم المصلحة ولو دل على أن له مالكاً محصوراً في عشرة مثلاً أو عشرين امتنع التصرف فيه بحكم المصلحة فالذي يشك في أن له مالكاً سوى صاحب اليد أم لا لا يزيد على الذي يتيقن قطعاً أن له مالكاً ولكن لا يعرف عينه فليجز التصرف فيه بالمصلحة والمصلحة ما ذكرناه في الأقسام الخمسة فيكون هذا الأصل شاهداً له وكيف لا وكل مال ضائع فقد مالكه يصرفه السلطان إلى المصالح ومن المصالح الفقراء وغيرهم فلو صرف إلى فقير ملكه ونفذ فيه تصرفه فلو سرقه منه سارق قطعت يده فكيف نفذ تصرفه في ملك الغير ليس ذلك إلا لحكمنا بأن المصلحة تقتضي أن ينتقل الملك إليه ويحل له فقضينا بموجب المصلحة
فإن قيل: ذلك يختص بالتصرف فيه السلطان
فنقول: والسلطان لم يجوز له التصرف في ملك غيره بغير إذنه لا سبب له إلا المصلحة وهو أنه لو ترك لضاع فهو مردد بين تضييعه وصرفه إلى مهم والصرف إلى مهم أصلح من التضييع فرجح عليه والمصلحة فيما يشك فيه ولا يعلم تحريمه أن يحكم فيه بدلالة اليد ويترك على أرباب الأيدي إذ انتزاعها بالشك وتكليفهم الاقتصار على الحاجة يؤدي إلى الضرر الذي ذكرناه وجهات المصلحة تختلف فإن السلطان تارة يرى أن المصلحة أن يبني بذلك المال قنطرة وتارة أن يصرفه إلى جند الإسلام وتارة إلى الفقراء ويدور مع المصلحة كيفما دارت وكذلك الفتوى في مثل هذا تدور على المصلحة وقد خرج من هذا أن الخلق غير مأخوذين في أعيان الأموال بظنون لا تستند إلى خصوص دلالة في ملك الأعيان كما لم يؤاخذ السلطان والفقراء الآخذون منه بعلمهم أن المال له مالك حيث لم يتعلق العلم بعين مالك مشار إليه ولا فرق بين عين المالك وبين عين الأملاك في هذا المعنى فهذا بيان شبهة الاختلاط ولم يبق إلا النظر في امتزاج المائعات والدراهم والعروض في يد مالك واحد وسيأتي بيانه في باب تفصيل طريق الخروج من المظالم الْمَثَارُ الثَّالِثُ لِلشُّبْهَةِ أَنْ يَتَّصِلَ بِالسَّبَبِ الْمُحَلِّلِ معصية
إما في قرائنه وإما في لواحقه وإما في سوابقه أو في عوضه وكانت من المعاصي التي لا توجب فساد العقد وإبطال السبب المحلل
مثال المعصية في القرائن: البيع فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ المغصوبة والاحتطاب بالقدوم المغصوب(2/110)
وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ الْغَيْرِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِهِ فَكُلُّ نَهْيٍ وَرَدَ فِي الْعُقُودِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ فَإِنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ جَمِيعِ ذلك ورع وإن لم يكن المستفاد بهذه الأساليب محكوماً بتحريمه
وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه والجهل ولا اشتباه ههنا بل العصيان بالذبح بسكين الغير معلوم وحل الذبيحة أيضاً معلوم ولكن قد تشتق الشبهة من المشابهة وتناول الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَكْرُوهٌ وَالْكَرَاهَةَ تُشْبِهُ التحريم فإن أريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجه وإلا فينبغي أن يسمى هذا كراهة لا شبهة وإذا عرف المعنى فلا مشاحة في الأسامي فعادة الفقهاء التسامح في الإطلاقات
ثم اعلم أن هذه الكراهة لها ثلاث درجات: الأولى منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة تكاد تلتحق بورع الموسوسين وبينهما أوساط نازعة إلى الطرفين فالكراهة في صيد كلب مغصوب أشد منها في الذبيحة بسكين مغصوب أو المقتنص بسهم مغصوب إذ الكلب له اختيار وقد اختلف في أن الحاصل به لمالك الكلب أو للصياد ويليه شبه البذر المزروع في الأرض المغصوبة فإن الزرع لمالك البذر ولكن فيه شبهة ولو أثبتنا حق الحبس لمالك الأرض في الزرع لكان كالثمن الحرام ولكن الأقيس أن لا يثبت حق حبس كما لو طحن بطاحونة مغصوبة واقتنص بشبكة مغصوبة إذا لا يتعلق حق صاحب الشبكة في منفعتها بالصيد ويليه الاحتطاب بالقدوم المغصوب ثم ذبحه ملك نفسه بالسكين المغصوب إذ لم يذهب أحد إلى تحريم الذبيحة ويليه البيع في وقت النداء فإنه ضعيف التعلق بمقصود العقد وإن ذهب قوم إلى فساد العقد إذ ليس فيه إلا أنه اشتغل بالبيع عن واجب آخر كان عليه ولو أفسد البيع بمثله لأفسد بيع كل من عليه درهم زكاة أو صلاة فائتة وجوبها على الفور أو في ذمته مظلمة دانق فإن الاشتغال بالبيع مانع له عن القيام بالواجبات فليس للجمعة إلا الوجوب بعد النداء وينجر ذلك إلى أن لا يصح نكاح أولاد الظلمة وكل من في ذمته درهم لأنه اشتغل بقوله عن الفعل الواجب عليه إلا من حيث ورد في يوم الجمعة نهي على الخصوص ربما سبق إلى الأفهام خصوصية فيه فتكون الكراهة أشد ولا بأس بالحذر منه ولكن قد ينجر إلى الوسواس حتى يتحرج عن نكاح بنات أرباب المظالم وسائر معاملاتهم
وقد حكي عن بعضهم أنه اشترى شيئاً من رجل فسمع أنه اشتراه يوم الجمعة فرده خيفة أن يكون ذلك مما اشتراه وقت النداء وهذا غاية المبالغة أنه رد بالشك
ومثل هذا الوهم في تقدير المناهي أو المفسدات لا ينقطع عن يوم السبت وسائر الأيام والورع حسن والمبالغة فيه أحسن ولكن إلى حد معلوم فقد قال صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون (1) فليحذر من أمثال هذه المبالغات فإنها وإن كانت لا تضر صاحبها ربما أوهم عند الغير أن مثل ذلك مهم ثم يعجز عما هو أيسر منه فيترك أصل الورع وهو مستند أكثر الناس في زماننا هذا إذ ضيق عليهم الطريق فأيسوا عن القيام به فاطرحوه فكما أن الموسوس في الطهارة قد يعجز عن الطهارة فيتركها فكذا بعض الموسوسين في الحلال سبق إلى أوهامهم أن مال الدنيا كله حرام فتوسعوا فتركوا التمييز وهو عين الضلال
وأما مثال اللواحق: فهو كُلُّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي فِي سِيَاقِهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ وأعلاه بيع العنب من الخمار وبيع الغلام من المعروف بالفجور بالغلمان وبيع السيف مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَفِي حِلِّ الثَّمَنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ
وَالْأَقْيَسُ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْمَأْخُوذَ حَلَالٌ وَالرَّجُلَ عَاصٍ بِعَقْدِهِ كَمَا يُعْصَى بِالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبِ والذبيحة حلال ولكنه يعصى عصيان الإعانة على المعصية إذ لا يتعلق ذلك بعين العقد فالمأخوذ مِنْ هَذَا مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً وَتَرْكُهُ مِنَ الورع المهم وليس بحرام ويليه في الرتبة بيع العنب ممن يشرب الخمر ولم يكن خماراً وبيع السيف ممن
_________
(1) حديث هلك المتنطعون أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود وتقدم في قواعد العقائد(2/111)
يغزو ويظلم أيضاً لأن الاحتمال قد تعارض
وقد كره السلف بيع السيف في وقت الفتنة خيفة أن يشتريه ظالم فهذا ورع فوق الأول والكراهية فيه أخف ويليه ما هو مبالغة ويكاد يلتحق بالوسواس وهو قول جماعة أنه لا تجوز معاملة الفلاحين بآلات الحارث لأنهم يستعينون بها على الحراثة ويبيعون الطعام من الظلمة ولا يباع منهم البقر والفدان وآلات الحرث وهذا ورع الوسوسة إذ ينجر إلى أن لا يباع من الفلاح طعام لأنه يتقوى به على الحراثة ولا يسقى من الماء العام لذلك وينتهي هذا حد التنطع المنهي عنه وكل متوجه إلى شيء على قصد خير لا بد وأن يسرف إن لم يذمه العلم المحقق وربما يقدم على ما يكون بدعة في الدين ليستضر الناس بعده بها وهو يظن أنه مشغول بالخير وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ من أصحابي (1) وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ الَّذِينَ يُخْشَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا ممن قيل فيهم الذي ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنهم يحسنون صنعاً وبالجملة لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِدَقَائِقِ الْوَرِعِ إِلَّا بِحَضْرَةِ عَالِمٍ مُتْقِنٍ فَإِنَّهُ إِذَا جَاوَزَ ما رسم وَتَصَرَّفَ بِذِهْنِهِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ كَانَ مَا يفسده أكثر مما يصلحه وقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أحرق كرمه خوفاً من أن يباع العنب ممن يتخذه خمراً وهذا لا أعرف له وجهاً إن لم يعرف هو سبباً خاصاً يوجب الإحراق إذا ما أحرق كرمه ونخله من كان أرفع قدرامنه من الصحابة
ولو جاز هذا لجاز قطع الذكر خيفة من الزنا وقطع اللسان خيفة من الكذب إلى غير ذلك من الإتلافات
وأما المقدمات: فلتطرق المعصية إليها ثلاث درجات: الدرجة العليا التي يشتد الكراهة فيها: ما بقي أثره في المتناول كالأكل من شاة علفت بعلف مغصوب أو رعت في مرعى حرام فإن ذلك معصية وقد كان سبباً لبقائها وربما يكون الباقي من دمها ولحمها وأجزائها من ذلك العلف وهذا الورع مهم وإن لم يكن واجبا ونقل ذلك عن جماعة من السلف
وكان لأبي عبد الله الطوسي التروغندي شاة يحملها على رقبته كل يوم إلى الصحراء ويرعاها وهو يصلي وكان يأكل من لبنها فغفل عنها ساعة فتناولت من ورق كرم على طرف بستان فتركها في البستان ولم يستحل أخذها
فإن قيل: فقد روي عن عبد الله بن عمر وعبيد الله أنهما اشتريا إبلاً فبعثاها إلى الحمى فرعته إبلهما حتى سمنت فقال عمر رضي الله عنه: أرعيتماها في الحمى فقالا: نعم فشاطرهما
وفهذا يدل على أنه رأى اللحم الحاصل من العلف لصاحب العلف فليوجب هذا تحريماً
قلنا: ليس كذلك فإن العلف يفسد بالأكل واللحم خلق جديد وليس عين العلف فلا شركة لصاحب العلف شرعاً ولكن عمر غرمهما قيمة الكلأ ورأى ذلك مثل شطر الإبل فأخذ الشطر بالاجتهاد كما شاطر سعد بن أبي وقاص ماله لما أن قدم من الكوفة وكذلك شاطر أبا هريرة رضي الله عنه إذ رأى أن كل ذلك لا يستحقه العامل ورأى شطر ذلك كافياً على حق عملهم وقدره بالشطر اجتهاداً
الرتبة الوسطى ما نقل عن بشر بن الحارث من امتناعه عن الماء المساق في نهر احتفره الظلمة لأن النهر موصل إليه وقد عصى الله بحفره
وامتنع آخر عن عنب كرم يسقى بماء يجري في نهر حفر ظلماً وهو أرفع منه وأبلغ في الورع
وامتنع آخر من الشرب من مصانع السلاطين في الطرق
وأعلى من ذلك امتناع ذي النون من طعام حلال أوصل إليه على يد سجان وقوله: إنه جاءني على يد ظالم ودرجات هذه الرتب لا تنحصر
الرتبة الثالثة وهي قريب من الوسواس والمبالغة أن يمتنع من حلال وصل على يد رجل عصى الله بالزنا أو القذف وليس هو كما لو عصى بأكل
_________
(1) حديث فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رجل من أصحابي تقدم في العلم(2/112)
الحرام فإن الموصل قوته الحاصلة من الغذاء الحرام والزنا والقذف لا يوجب قوة يستعان بها على الحمل بل الامتناع من أخذ حلال وصل على يد كافر وسواس بخلاف أكل الحرام إذ الكفر لا يتعلق بحمل الطعام وينجر هذا إلى أن لا يؤخذ من يد من عصى الله ولو بغيبة أو كذبة وهو غاية التنطع والإسراف فليضبط ما عرف من ورع ذي النون وبشر بالمعصية في السبب الموصل كالنهر وقوة اليد المستفادة بالغذاء الحرام
ولو امتنع عن الشرب بالكوز لأن صانع الفخار الذي عمل الكوز كان قد عصى الله يوماً بضرب إنسان أو شتمه لكان هذا وسواساً
ولو امتنع من لحم شاة ساقها آكل حرام فهذا أبعد من يد السجان لأن الطعام يسوقه قوة السجان والشاة تمشي بنفسها والسائق يمنعها عن العدول في الطريق فقط فهذا قريب من الوسواس
فانظر كيف تدرجنا في بيان ما تتداعى إليه هذه الأمور
واعلم أن كل هذا خارج عن فتوى علماء الظاهر فإن فتوى الفقيه تختص بالدرجة الأولى التي يمكن تكليف عامة الخلق بها ولو اجتمعوا عليه لم يخرب العالم دون ما عداه من ورع المتقين والصالحين
والفتوى في هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم لوابصة إذ قال: استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك وعرف ذلك إذ قال الإثم حزاز القلوب (1)
وكل ما حاك في صدر المريد من هذه الأسباب فلو أقدم عليه مع حزازة القلب استضربه وأظلم قلبه بقدر الحزازة التي يجدها بل لو أقدم على حرام في علم الله وهو يظن أنه حلال لم يؤثر ذلك في قساواة قلبه ولو أقدم على ما هو حلال في فتوى علماء الظاهر ولكنه يجد حزازة في قلبه فذلك يضره
وإنما الذي ذكرناه في النهي عن المبالغة أردنا به أن القلب الصافي المعتدل هو الذي لا يجد حزاز في مثل تلك الأمور فإن مال قلب موسوس عن الاعتدال ووجد الحزازة فأقدم مع ما يجد في قلبه فذلك يضره لأنه مأخوذ في حق نفسه بينه وبين الله تعالى بفتوى قلبه
وكذلك يشدد على الموسوس في الطهارة ونية الصلاة فإنه إذا غلب على قلبه أن الماء لم يصل إلى جميع أجزائه بثلاث مرات لغلبة الوسوسة عليه فيجب عليه أن يستعمل الرابعة وصار ذلك حكماً في حقه وإن كان مخطئاً في نفسه أولئك قوم شددوا فشدد الله عليهم ولذلك شدد على قوم موسى عليه السلام لما استقصوا في السؤال عن البقرة ولو أخذوا أولاً بعموم لفظ البقرة وكل ما ينطلق عليه الاسم لأجزأهم ذلك
فلا تغفل عن هذه الدقائق التي رددناها نفياً وإثباتاً فإن من لا يطلع على كنه الكلام ولا يحيط بمجامعه يوشك أن يزل في درك مقاصده
وأما المعصية في العوض فله أيضاً درجات الدرجة العليا التي تشتد الكراهة فيها أن يشتري شيئاً في الذمة ويقضي ثمنه من غصب أو مال حرام فينظر فإن سلم إليه البائع الطعام قبل قبض الثمن بطيب قلبه فأكله قبل قضاء الثمن فهو حلال وتركه ليس بواجب بالإجماع أعني قبل قضاء الثمن ولا هو أيضاً من الورع المؤكد فإن قضى الثمن بعد الأكل من الحرام فكأنه لم يقض الثمن ولو لم يقضه أصلاً لكان متقلداً للمظلمة بترك ذمته مرتهنة بالدين ولا ينقلب ذلك حراماً
فإن قضى الثمن من الحرام وأبرأه البائع مع العلم بأنه حرام فقد برئت ذمته ولم يبق عليه إلا مظلمة تصرفه في الدراهم الحرام بصرفها إلى البائع وإن أبرأه على ظن أن الثمن حلال فلا تحصل البراءة لأنه يبرئه مما أخذه إبراء استيفاء ولا يصلح ذلك للإيفاء
هذا حكم المشتري والأكل منه وحكم الذمة وإن لم يسلم إليه بطيب قلب ولكن أخذه فأكله حرام سواء أكله قبل توفية الثمن من الحرام أو بعده لأن الذي تومئ الفتوى به ثبوت حق الحبس للبائع حتى يتعين ملكه بإقباض النقد كما تعين ملك المشتري وإنما يبطل حق حبسه إما بالإبراء
_________
(1) حديث الإثم حزاز القلوب تقدم في العلم(2/113)
أو الاستيفاء ولم يجر شيء منهما ولكنه أكل ملك نفسه وهو عاص به عصيان الراهن للطعام إذا أكله بغير إذن المرتهن وبينه وبين أكل طعام الغير فرق ولكن أصل التحريم شامل هذا كله إذا قبض قبل توفية الثمن إما بطيبة قلب البائع أو من غير طيبة قلبه
فأما إذا وفى الثمن الحرام أولاً ثم قبض فإن كان البائع عالماً بأن الثمن حرام ومع هذا أقبض المبيع بطل حق حبسه وبقي له الثمن في ذمته إذ ما أخذه ليس بثمن ولا يصير أكل المبيع حراماً بسبب بقاء الثمن فأما إذا لم يعلم أنه حرام وكانت بحيث لو علم لما رضي به ولا أقبض المبيع فحق حبسه لا يبطل بهذا التلبيس فأكله حرام تحريم أكله المرهون إلى أن يبرئه أو يوفى من حلال أو يرضى هو بالحرام ويبرئ فيصح إبراؤه ولا يصح رضاه بالحرام فهذا مقتضى الفقه وبيان الحكم في الدرجة الأولى من الحلل والحرمة فأما الامتناع عنه فمن الورع المهم لأن المعصية إذا تمكنت من السبب الموصل إلى الشيء تشتد الكراهية فيه كما سبق وأقوى الأسباب الموصلة الثمن ولولا الثمن الحرام لما رضي الله البائع بتسلميه إليه فرضاه لا يخرجه عن كونه مكروهاً كراهية شديدة ولكن العدالة لا تنخرم به وتزول به درجة التقوى والورع
ولو اشترى سلطان مثلاً ثوباً أو أرضاً في الذمة وقبضه برضا البائع قبل توفية الثمن وسلمه إلى فقيه أو غيره صلة أو خلعة وهو شاك في أنه سيقضي ثمنه من الحلال أو الحرام فهذا أخف إذ وقع الشك في تطرق المعصية إلى الثمن وتفاوت خفته بتفاوت كثرة الحرام وقلته في مال ذلك السلطان وما يغلب على الظن فيه وبعضه أشد من بعض والرجوع فيه إلى ما ينقدح في القلب
الرتبة الوسطى أن لا يكون العوض غصباً ولا حراماً ولكن يتهيأ لمعصية كما لو سلم عوضاً عن الثمن عنباً والآخذ شارب الخمر أو سيفاً وهو قاطع طريق فهذا لا يوجب تحريماً في مبيع اشتراه في الذمة ولكن يقتضي فيه كراهية دون الكراهية التي في الغصب وتتفاوت درجات هذه الرتبة أيضاً بتفاوت غلبة المعصية على قابض الثمن وندوره ومهما كان العوض حراماً فبذله حرام وإن احتمل تحريمه ولكن أبيح بظن فبذله مكروه وعليه ينزل عندي النهي عن كسب الحجام وكراهته (1)
إذ نهى عنه عليه السلام مرات ثم أمر بأن يعلف الناضح (2)
وما سبق إلى الوهم من أن سببه مباشرة النجاسة والقذر فاسد إذ يجب طرده في الدباغ والكناس ولا قائل به وإن قيل به فلا يمكن طرده في القصاب إذ كيف يكون كسبه مكروهاً وهو بدل عن اللحم واللحم في نفسه غير مكروه ومخامرة القصاب النجاسة أكثر منه للحجام والفصاد فإن الحجام يأخذ الدم بالمحجمة ويمسحه بالقطنة ولكن السبب أن في الحجامة والفصد تخريب بنية الحيوان وإخراجها لدمه وبه قوام حياته والأصل فيه التحريم وإنما يحل بضرورة وتعلم الحاجة والضرورة بحدس واجتهاد وربما يظن نافعاً ويكون ضاراً فيكون حراماً عند الله تعالى ولكن يحكم بحله بالظن والحدس
ولذلك لا يجوز للفصاد فصد صبي وعبد ومعتوه إلا بإذن وليه وقول طبيب ولولا أنه حلال في الظاهر لما أعطي عليه السلام أجرة الحجام (3)
ولولا أنه يحتمل التحريم لما نهى عنه فلا يمكن الجمع بين إعطائه ونهيه إلا باستنباط هذا المعنى
وهذا كان ينبغي أن نذكره في القرائن المقرونة بالسبب فإنه أقرب إليه
الرتبة السفلى وهي درجة الموسوسين وذلك أن يحلف إنسان على
_________
(1) حديث النهي عن كسب الحجام وكراهته: رواه ابن ماجة من حديث أبي مسعود الأنصاري والنسائي من حديث أبي هريرة بإسنادين صحيحين نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كسب الحجام وللبخاري من حديث أبي جحيفة: نهى عن ثمن الدم ولمسلم من حديث رافع بن خديج كسب الحجام خبيث
(2) حديث: نهى عنه مرات ثم أمر بأن يعلف الناضح رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث محيصة أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها فلم يزل يسأل ويستأذن حتى قال: أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك وفي رواية لأحمد أنه زجره عن كسبه فقال: ألا أطعمه أيتاما لي قال لا قال: أفلا أتصدق به قال: لا فرخص له أن يعلفه ناضحه
(3) حديث: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرة الحجام متفق عليه من حديث ابن عباس(2/114)
أن لا يلبس من غزل أمه فباع غزلها واشترى به ثوباً فهذا لا كراهية فيه والورع عنه وسوسة
وروي عن المغيرة أنه قال في هذه الواقعة: لا يجوز واستشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الخمور فباعوها وأكلوا أثمانها (1)
وهذا غلط لأن بيع الخمور باطل إذ لم يبق للخمر منفعة في الشرع وثمن البيع الباطل حرام وليس هذا من ذلك بل مثال هذا أن يملك الرجل جارية هي أخته من الرضاع فتباع بجارية أجنبية فليس لأحد أن يتورع منه وتشبيه ذلك ببيع الخمر غاية السرف في هذا الطرف
وقد عرفنا جميع الدرجات وكيفية التدريج فيها وإن كان تفاوت هذه الدرجات لا ينحصر في ثلاث أو أربع ولا في عدد ولكن المقصود من التعديد التقريب والتفهيم
فإن قيل: فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اشترى ثوباً بعشرة دراهم فيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه (2)
ثم أدخل ابن عمر أصبعيه في أذنيه وقال: صمتاً إن لم أكن سمعته منه قلنا ذلك محمول على ما لو أشترى بعشرة بعينها لا في الذمة وإذا اشترى في الذمة فقد حكمنا بالتحريم في أكثر الصور فليحمل عليها ثم كم من ملك يتوعد عليه بمنع قبول الصلاة لمعصية تطرقت إلى سببه وإن لم يدل ذلك على فساد العقد كالمتشري في الوقت النداء وغيره المثار الرابع الاختلاف في الأدلة
فإن ذلك كالاختلاف في السبب لأن السبب سبب لحكم الحل والحرمة
والدليل سبب لمعرفة الحل والحرمة فهو السبب في حق المعرفة ولم يثبت في معرفة الغير فلا فائدة لثبوته في نفسه وإن جرى سببه في علم الله وهو إما أن يكون لتعارض أدلة الشرع أو لتعارض العلامات الدالة أو لتعارض التشابه
القسم الأول: أن تتعارض أدلة الشرع مثل تعارض عمومين من القرآن أو السنة أو التعارض قياسين أو تعارض قياس وعموم
وكل ذلك يورث الشك ويرجع فيه إلى الاستصحاب أو الأصل المعلوم قبله إن لم يكن ترجيح فإن ظهر ترجيح في جانب الحظر وجب الأخذ به وإن ظهر في جانب الحل جاز الأخذ به ولكن الورع تركه
واتقاء مواضع الخلاف مهم في الورع في حق المفتي والمقلد وإن كان المقلد يجوز له أن يأخذ بما أفتى له مقلده الذي يظن أنه أفضل علماء بلده ويعرف ذلك بالتسامع كما يعرف أفضل أطباء البلد بالتسامع والقرائن وإن كان لا يحسن الطب
وليس للمستفتي أن ينتقد من المذاهب أوسعها عليه بل عليه أن يبحث حتى يغلب على ظنه الأفضل ثم يتبعه فلا يخالفه أصلاً نعم إن أفتى له إمامه بشيء ولإمامه فيه مخالف فالفرار من الخلاف إلى الإجماع من الورع المؤكد وكذا المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة ورجح جانب الحل بحدس وتخمين وظن فالورع له الاجتناب
فلقد كان المفتون يفتون بحل أشياء لا يقدمون عليها قط تورعاً منها وحذراً من الشبهة فيها فلنقسم هذا أيضا على ثلاثة مراتب
الرتبة الأولى ما يتأكد الاستحباب في التورع عنه وهو ما يقوى فيه دليل المخالف ويدق وجه ترجيح المذهب الآخر عليه
فمن المهمات التورع عن فريسة الكلب المعلم إذا أكل منها وإن أفتى المفتي بأنه حلال لأن الترجيح فيه غامض وقد اخترنا أن ذلك حرام وهو أقيس قولي الشافعي رحمه الله
ومهما وجد للشافعي
_________
(1) حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود إذ حرمت عليهم الخمور فباعوها: لم أجده هكذا والمعروف أن ذلك في الشحوم ففي الصحيحين من حديث جابر قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه
(2) حديث من اشترى ثوباً بعشرة دراهمالحديث تقدم في الباب قبله(2/115)
قول جديد موافق لمذهب أبي حنيفة رحمه الله أو غيره من الأئمة كان الورع فيه مهماً وإن أفتى المفتي بالقول الآخر
ومن ذلك الورع عن متروك التسمية وإن لم يختلف فيه قول الشافعي رحمه الله لأن الآية ظاهرة في إيجابها والأخبار متواترة فيه فإنه صلى الله عليه وسلم قال لكل من سأله عن الصيد إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت عليه اسم الله فكل (1)
ونقل ذلك على التكرر وقد شهر الذبح بالبسملة (2)
وكل ذلك يقوي دليل الاشتراط ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم المؤمن يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم (3)
واحتمل أن يكون هذا عاماً موجباً لصرف الآية وسائر الأخبار عن ظواهرها ويحتمل أن يخصص هذا بالناسي ويترك الظواهر ولا تأويل وكان حمله على الناس ممكنا تمهيداً لعذره في ترك التسمية بالنسيان وكان تعميمه وتأويل الآية ممكناً إمكاناً أقرب رجحنا ذلك ولا ننكر رفع الاحتمال المقابل له فالورع عن مثل هذا مهم واقع في الدرجة الأولى
الرتبة الثانية وهي مزاحمة لدرجة الوسواس أن يتورع الإنسان عن أكل الجنين الذي يصادف في بطن الحيوان المذبوح وعن الضب
وقد صح في الصحاح من الأخبار حديث الجنين إن ذكاته ذكاة أمه (4)
صحة لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده وكذلك صح أنه أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)
وقد نقل ذلك في الصحيحين
وأظن أن أبا حنيفة لم تبلغه هذه الأحاديث ولو بلغته لقال بها وإن أنصف وإن لم ينصف منصف فيه كان خلافه غلط لا يعتد به ولا يورث شبهة كما لو لم يخالف وعلم الشيء بخبر الواحد
الرتبة الثالثة أن لا يشتهر في المسألة خلاف أصلاً ولكن يكون الحل معلوماً بخبر الواحد فيقول القائل قد اختلف الناس في خبر الواحد فمنهم من لا يقبله فأنا أتورع
فإن النقلة وإن كانوا عدولاً فالغلط جائز عليهم والكذب لغرض خفي جائز عليهم لأن العدل أيضاً قد يكذب والوهم جائز عليه فإنه قد يسبق إلى سمعهم خلاف ما يقوله القائل وكذا إلى فهمهم فهذا ورع لم ينقل مثله عن الصحابة فيما كانوا يسمعونه من عدل تسكن نفوسهم إليه
وأما إذا تطرقت شبهة بسبب خاص ودلالة معينة في حق الراوي فللتوقف وجه ظاهر وإن كان عدلاً
وخلاف من خالف في أخبار الآحاد غير معتد به وهو كخلاف النظام في أصل الإجماع
وقوله إنه ليس بحجة ولو جاز مثل هذا الورع لكان من الورع أن يمتنع الإنسان من أن يأخذ ميراث الجد أبي الأب ويقول ليس في كتاب الله ذكر إلا للبنين وإلحاق ابن الابن بالابن بإجماع الصحابة وهم غير معصومين والغلط عليهم جائز إذ خالف النظام فيه وهذا هوس ويتداعى إلى أن يترك ما علم بعمومات القرآن إذ من المتكلمين من ذهب إلى أن
_________
(1) حديث إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل متفق عليه من حديث عدي بن حاتم ومن حديث أبي ثعلبة الخشني
(2) حديث التسمية على الذبح: متفق عليه من حديث رافع بن خديج ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلواليس السن والظفر
(3) حديث المؤمن يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم قال المصنف إنه صح قلت: لا يعرف بهذا اللفظ فضلا عن صحته ولأبي داود في المراسيل من رواية الصلت مرفوعا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر وللطبراني في الأوسط والدارقطني وابن عدي والبيهقي من حديث أبي هريرة قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله فقال اسم الله على كل مسلم قال ابن عدي منكر والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم وليذكر اسم الله ثم ليأكل فيه محمد بن سنان ضعفه الجمهور
(4) حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه قال المصنف إنه صح صحة لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده وأخذ هذا من إمام الحرمين فإنه كذا قال في الأساليب والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان من حديث أبي سعيد والحاكم من حديث أبي هريرة وقال: صحيح الإسناد وليس كذلك للطبراني في الصغير من حديث ابن عمر بسند جيد وقال عبد الحق: لا يحتج بأسانيدها كلها
(5) حديث أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المصنف: هو في الصحيحين وهو كما ذكره من حديث ابن عمر وابن عباس وخالد بن الوليد(2/116)
العمومات لا صيغ لها وإنما يحتج بما فهمه الصحابة منها بالقرائن والدلالات وكل ذلك وسواس
فإذن لا طرف من أطراف الشبهات إلا وفيها غلو وإسراف فليفهم ذلك
ومهما أشكل أمر من هذه الأمور فليستفت فيه القلب وليدع الورع ما يريبه إلى ما لا يربيه وليترك حزاز القلوب وحكاكات الصدور وذلك يختلف بالأشخاص والوقائع ولكن ينبغي أن يحفظ قلبه عن دواعي الوسواس حتى لا يحكم إلا بالحق فلا ينطوي على حزازة في مظان الوسواس ولا يخلو عن الحزازة في مظان الكراهة وما أعز مثل هذا القلب ولذلك لم يرد عليه السلام كل أحد إلى فتوى القلب وإنما قال ذلك لوابصة لما كان قد عرف من حاله (1)
القسم الثاني: تعارض العلامات الدالة على الحل والحرمة فإنه قد ينهب نوع من المتاع في وقت ويندر وقوع مثله من غير النهب فيرى مثلاً في يد رجل من أهل الصلاح فيدل صلاحه على أنه حلال ويدل نوع المتاع وندوره من غير المنهوب على أنه حرام فيتعارض الأمران
وكذلك يخبر عدل أنه حرام وآخر أنه حلال أو تتعارض شهادة فاسقين أو قول صبي وبالغ فإن ظهر ترجيح حكم به والورع الاجتناب وإن لم يظهر ترجيح وجب التوقف وسيأتي تفصيله في باب التعرف والبحث والسؤال
القسم الثالث: تعارض الأشباه في الصفات التي تناط بها الأحكام
مثاله أن يوصى بمال للفقهاء فيعلم أن الفاضل في الفقه داخل فيه وأن الذي ابتدأ التعلم من يوم أو شهر لا يدخل فيه وبينهما درجات لا تحصى يقع الشك فيها فالمفتي يفتي بحسب الظن والورع الاجتناب وهذ أغمض مثارات الشبهة فإن فيها صوراً يتحير المفتي فيها تحيراً لازماً لا حيلة له فيه إذ يكون المتصف بصفة في درجة متوسطة بين الدرجتين المتقابلتين لا يظهر له ميله إلى أحدهما
وكذلك الصدقات المصروفة إلى المحتاجين فإن مما لا شيء له معلوم أنه محتاج ومن له مال كثير معلوم أنه غني ويتصد بينهما مسائل غامضة كمن له دار وأثاث وثياب وكتب فإن قدر الحاجة منه لا يمنع من الصرف إليه والفاضل يمنع والحاجة ليست محدودة وإنما تدرك بالتقريب ويتعدى منه النظر في مقدار سعة الدار وأبنيتها ومقدار قيمتها لكونها في وسط البلد ووقوع الاكتفاء بدار دونها وكذلك في نوع أثاث البيت إذا كان من الصفر لا من الخزف وكذلك في عددها وكذلك في قيمتهما وكذلك فيما لا يحتاج إليه كل يوم وما يحتاج إليه كل سنة من آلات الشتاء وما لا يحتاج إليه إلا في سنين وشيء من ذلك لا حد له
والوجه في هذا ما قاله عليه السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2)
كل ذلك في محل الريب إن توقف المفتي فلا وجهه إلا التوقف وهو أهم مواقع الورع
وكذلك ما يجب بقدر الكفاية من نفقة الأقارب وكسوة الزوجات وكفاية الفقهاء والعلماء على بيت المال إذ فيه طرفان يعلم أن أحدهما قاصر وأن الآخر زائد وبينهما أمور متشابهة تختلف باختلاف الشخص والحال
والمطلع على الحاجات هو الله تعالى وليس للبشر وقوف على حدودها فما دون الرطل المكي في اليوم قاصر عن كفاية الرجل الضخم وما فوق ثلاثة أرطال زائد على الكفاية وما بينهما لا يتحقق له حد
فليدع الورع ما يريبه وهذا جار في كل حكم نيط السبب يعرف ذلك بلفظ العرب إذ العرب وسائر أهل اللغات لم يقدروا متضمنات اللغات بحدود محدودة تنقطع أطرافها عن مقابلاتها كلفظ الستة فإنه لا يحتمل ما دونها وما فوقها من الأعداد وسائر ألفاظ الحساب والتقديرات فليست الألفاظ اللغوية كذلك فلا لفظ في كتاب الله وسنة رسول الله
_________
(1) حديث: لم يرد كل أحد إلى فتوى قلبه وإنما قال ذاك لوابصة وتقدم حديث وابصة وروى الطبراني من حديث واثلة أنه قال ذلك لواثلة أيضا وفيه العلاء بن ثعلبة مجهول
(2) حديث: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك تقدم في باب قبله(2/117)
صلى الله عليه وسلم إلا ويتطرق الشك إلى أوساط في مقتضياتها تدور بين أطراف متقابلة فتعظم الحاجة إلى هذا الفن في الوصايا والأوقاف على الصوفية مثلامما يصح ومن الداخل تحت موجب هذا اللفظ هذا من الغوامض فكذلك سائر الألفاظ
وسنشير إلى مقتضى لفظ الصوفي على الخصوص ليعلم به طريق التصرف في الألفاظ وإلا فلا مطمع في استيفائها فهذه اشتباهات تثور من علامات متعارضة تجذب إلى طرفين متقابلين وكل ذلك من الشبهات يجب اجتنابها إذا لم يترجح جانب الحل بدلالة تغلب على الظن أو باستصحاب بموجب قوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وبموجب سائر الأدلة التي سبق ذكرها
فهذه مثارات الشبهات وبعضها أشد من بعض ولو تظاهرت شبهات شتى على شيء واحد كان الأمر أغلظ مثل أن يأخذ طعاماً مختلفاً فيه عوضاً عن عنب باعه من خمار بعد النداء يوم الجمعة والبائع قد خالط ماله حرام وليس هو أكثر ماله ولكنه صار مشتبهاً به فقد يؤدي ترادف الشبهات إلى أن يشتد الأمر في اقتحامها فهذه مراتب عرفنا طريق الوقوف عليها وليس في قوة البشر حصرها فما اتضح من هذا الشرح أخذ به وما التبس فليجتنب فإن الإثم حزاز القلب
وحيث قضينا باستفتاء القلب أردنا به حيث أباح المفتي أما حيث حرمه فيجب الامتناع
ثم لا يعول على كل قلب فرب موسوس ينفر عن كل شيء ورب شره متساهل يطمئن إلى كل شيء ولا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال وهو المحك الذي يمتحن به خفايا الأمور وما أعز هذا القلب في القلوب فمن لم يثق بقلب نفسه فليلتمس النور من قلب هذه الصفة وليعرض عليه واقعته وجاء في الزبور أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: قل لبني إسرائيل إني لا أنظر إلى صلاتكم ولا صيامكم ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي فذاك الذي أنظر إليه وأؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي
الباب الثالث: في البحث والسؤال والهجوم والإهمال ومظانها
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَدَّمَ إِلَيْكَ طَعَامًا أَوْ هَدِيَّةً أَوْ أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ أَوْ تَتَّهِبَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُفَتِّشَ عَنْهُ وَتَسْأَلَ وَتَقُولَ: هَذَا مِمَّا لَا أَتَحَقَّقُ حِلَّهُ فَلَا آخُذُهُ بَلْ أُفَتِّشُ عَنْهُ
وَلَيْسَ لَكَ أيضاً أن تترك البحث فتأخذ كل ما لا تتيقن تحريمه بل السؤال واجب مرة وحرام مرة ومندوب مرة ومكروه مرة فلا بد من تفصيله والقول الشافي فيه هو أن مظنة السؤال مواقع الريبة ومنشأ الريبة ومثارها إما أمر يتعلق بالمال أو يتعلق بصاحب المال المثار الأول: أحوال المالك
وله بالإضافة إلى معرفتك ثلاثة أحوال: إما أن يكون مجهولاً أو مشكوكاً فيه أو معلوماً بنوع ظن يستند إلى دلالة
الحالة الأولى: أن يكون مجهولا والمجهول هو الذي ليس معه قرينة تدل على فساده وظلمه كزي الأجناد ولا ما يدل على صلاحه كثياب أهل التصوف والتجارة والعلم وغيرها من العلامات
فإذا دخلت قرية لا تعرفها فرأيت رجلاً لا تعرف من حاله شيئاً ولا عليه علامة تنسبه إلى أهل صلاح أو أهل فساد فهو مجهول وإذا دخلت بلدة غريبا ودخلت سوقاً ووجدت رجلاً خبازاً أو قصاباً أو غيره ولا علامة تدل على كونه مريباً أو خائناً ولا ما يدل على نفيه فهو مجهول ولا يدرى حاله ولا نقول إنه مشكوك فيه لأن الشك عبارة عن اعتقادين متقابلين لهما سببان متقابلان وأكثر الفقهاء لا يدركون الفرق بين ما لا يدري وبين ما يشك فيه وقد عرفت مما سبق أن الورع ترك ما لا يدرى
قال يوسف بن أسباط منذ ثلاثين سنة ما حاك في قلبي شيء إلا تركته
وتكلم جماعة في أشق الأعمال(2/118)
فقالوا هو الورع فقال لهم حسان بن أبي سنان ما شيء عندي أسهل من الورع إذا حاك في صدري شيء تركته
فهذا شرط الورع وإنما نذكر الآن حكم الظاهر فنقول حكم هذه الحالة أن المجهول إن قدم إليك طعاماً أو حمل إليك هدية أو أردت أن تشتري من دكانه شيئاً فلا يلزمك السؤال بل يده وكونه مسلماً دلالتان كافيتان في الهجوم على أخذه
وليس لك أن تقول الفساد والظلم غالب على الناس فهذه وسوسة وسوء ظن بهذا المسلم بعينه وإن بعض الظن إثم
وهذا المسلم يستحق بإسلامه عليك أن لا تسيء الظن به فإن أسأت الظن به في عينه لأنك رأيت فساداً من غيره فقد جنيت عليه وأثمت به في الحال نقداً من غير شك ولو أخذت المال لكان كونه حراما مشكوكاً فيه
ويدل عليه أنا نعلم ان الصحابة رضي الله عنهم في غزواتهم واسفارهم كانوا ينزلون في القرى ولا يردون القرى ويدخلون البلاد ولا يحترزون من الأسواق وكان الحرام أيضاً موجوداً في زمانهم وما نقل عنهم سؤال إلا عن ريبة إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن كل ما يحمل إليه بل سأل في أول قدومه إلى المدينة عما يحمل إليه أصدقة أم هدية (1)
لأن قرينة الحال تدل وهو دخول المهاجرين المدينة وهم فقراء فغلب على الظن أن ما يحمل إليهم بطريق الصدقة ثم إسلام المعطي ويده لا يدلان على أنه ليس بصدقة
وكان يدعى إلى الضيافات فيجيب ولا يسأل أصدقة أم لا (2) إذ العادة ما جرت بالتصدق بالضيافة
ولذلك دعته أم سليم (3)
ودعاه الخياط (4)
كما في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وقدم إليه طعاماً فيه قرع ودعاه الرجل الفارسي فقال عليه الصلاة والسلام أنا وعائشة فقال: لا فقال: {فلا} ثم أجابه بعد فذهب هو وعائشة يتساوقان فقرب إليهما إهالة (5)
ولم ينقل السؤال في شيء من ذلك وسأل أبو بكر رضي الله عنه عبده عن كسبه لما رابه من أمره وسأل عمر رضي الله عنه الذي سقاه من لبن إبل الصدقة إذ رابه وكان أعجبه طعمه ولم يكن على ما كان يألفه كل مرة
وهذه أسباب الريبة وكل من وجد ضيافة عند رجل مجهول لم يكن عاصياً بإجابته من غير تفتيش بل لو رأى في داره تجملاً ومالاً كثيراً فليس له أن يقول الحلال عزيز وهذا كثير فمن أين يجتمع هذا من الحلال بلى هذا الشخص بعينه يحتمل ان يكون ورث مالاً أو اكتسبه فهو بعينه يستحق إحسان الظن به وأزيد على هذا وأقول: ليس له أن يسأله بل إن كان يتورع فلا يدخل جوفه إلا ما يدري من أين هو فهو حسن فليتلطف في الترك وإن كان لا بدله من أكله فليأكل بغير سؤال إذ السؤال إيذاء وهتك ستر وإيحاش وهو حرا م بلا شك
فإن قلت لعله لا يتأذى فأقول: لعله يتأذى فأنت تسأل حذراً من لعل فإن قنعت فلعل ماله حلال وليس الإثم المحذور في إيذاء مسلم بأقل من الإثم في أكل الشبهة والحرام والغالب على الناس الاستيحاش بالتفتيش ولا يجوز له أن يسأل من غيره من حيث يدري هو به لأن الإيذاء في ذلك اكثر وإن سأل من حيث لا يدري هو ففيه إساءة ظن وهتك ستر وفيه تجسس وفيه تشبث بالغيبة وإن لم يكن ذلك صريحاً
وكل ذلك منهي عنه في آية
_________
(1) حديث سؤاله في أول قدومه إلى المدينة عما يحمل إليه أصدقة أم هدية رواه أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث سلمان أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قدم المدينة أتاه سلمان بطعام فسأله عنه أصدقة أم هدية الحديث تقدم في الباب قبله من حديث أبي هريرة
(2) حديث كان يدعى إلى الضيافات فيجيب ولا يسأل أصدقة أم لا هذا معروف مشهور من ذلك في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري في صنيع أبي شعيب طعاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاء خامس خمسة
(3) حديث دعته أم سليم: متفق عليه من حديث أنس
(4) حديث أنس: أن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم إليه طعاماً فيه قرع متفق عليه
(5) حديث دعاه الرجل الفارسي فقال أنا وعائشة الحديث رواه مسلم عن أنس(2/119)
عليه السلام واحدة قال الله تعالى اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وكم زاهد جاهل يوحش القلوب في التفتيش ويتكلم الكلام الخشن المؤذي وإنما يحسن الشيطان ذلك عنده طلباً للشهرة بأكل الحلال ولو كان باعثه محض الدين لكان خوفه على قلب مسلم أن يتأذى أشد من خوفه على بطنه أن يدخله ما لا يدري وهو غير مؤاخذ بما لا يدري إذ لم يكن ثم علامة توجب الاجتناب فليعلم أن طريق الورع الترك دون التجسس وإذا لم يكن بد من الأكل فالورع الأكل وإحسان الظن
هذا هو المألوف من الصحابة رضي الله عنهم ومن زاد عليهم في الورع فهو ضال مبتدع وليس بمتبع فلن يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه ولو انفق ما في الأرض جميعاً كيف وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام بريرة فقيل: إنه صدقة فقال: هو لها صدقة ولنا هدية (1)
ولم يسأل على المتصدق عليها فكان مجهولاً عنده ولم يمتنع
الح الة الثانية أن يكون مشكوكاً فيه بسبب دلالة أورثت ريبة فلنذكر صورة ريبة ثم حكمها
أما الخلقة فبأن يكون على خلقه الأتراك والبوادي والمعروفين بالظلم وقطع الطريق وأن يكون طويل الشارب وأن يكون الشعر مفرقاً على رأسه على دأب أهل الفساد
وأما الثياب: فالقباء والقلنسوة وزي أهل الظلم والفساد من الأجناد وغيرهم
وأما الفعل والقول: فهو إن يشاهد منه الإقدام على ما لا يحل فإن ذلك يدل على أنه يتساهل أيضاً في المال ويأخذ ما لا يحل فهذه مواضع الريبة
فإذا أراد أن يشتري من مثل هذا شيئاً ويأخذ منه هدية أو يجيبه إلى ضيافة وهو غريب مجهول عنده لم يظهر له منه إلا هذه العلامات فيحتمل أن يقال إن اليد تدل على الملك وهذه الدلالات ضعيفة فالإقدام جائز والترك من الورع
ويحتمل أن يقال إن اليد دلالة ضعيفة وقد قابلها مثل هذه الدلالة فأورثت ريبة فالهجوم غير جائز وهو الذي نختاره ونفتي به لقوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2)
فظاهره أمر وإن كان يحتمل الاستحباب لقوله صلى الله عليه وسلم الإثم حزاز القلوب (3)
وهذا له وقع في القلب لا ينكر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: أصدقة هو أهدية وسأل أبو بكر رضي الله عنه غلامه
وسأل عمر رضي الله عنه
وكل ذلك كان في موضع الريبة وحمله على الورع وإن كان ممكناً ولكن لا يحمل عليه إلا بقياس حكمي والقياس ليس يشهد بتحليل هذا فإن دلالة اليد والإسلام وقد عارضتها هذه الدلالات أورثت ريبة فإذا تقابلا فالاستحلال لا مستند له
وإنما لا يترك حكم اليد والاستصحاب بشك لا يستند إلى علامة كما إذا وجدنا الماء متغيراً واحتمل أن يكون بطول المكث فإن رأينا ظبية بالت فيه ثم احتمل أن التغيير به تركنا الاستصحاب وهذا قريب منه
ولكن بين هذه الدلالات تفاوت فإن طول الشوارب ولبس القباء وهيئة الأجناد يدل على الظلم بالمال
أما القول والفعل المخالفان للشرع إن تعلقا بظلم المال فهو أيضا ًدليل ظاهر كما لو سمعه يأمر بالغصب والظلم أو يعقد عقد الربا
فأما إذا رآه قد شتم غيره في غضبه أو اتبع نظره امرأة مرت به فهذه الدلالة ضعيفة فكم من إنسان يتحرج في طلب المال ولا يكتسب إلا الحلال ومع ذلك فلا يملك نفسه عند هيجان الغضب والشهوة فليتنبه لهذا التفاوت ولا يمكن أن يضبط هذا بحد فليستفت العبد في مثل ذلك قلبه
وأقول إن هذا إن رآه من مجهول فله حكم وإن رآه ممن عرفه بالورع في الطهارة والصلاة وقراءة القرآن فله حكم آخر إذ تعارضت
_________
(1) حديث أكله طعام بريرة فقيل إنها صدقة فقال هو لها صدقة ولنا هدية متفق عليه من حديث أنس
(2) حديث دع ما يريبك تقدم في البابين قبله
(3) حديث الإثم حزاز القلوب تقدم في العلم(2/120)
الدلالات بالإضافة إلى المال وتساقطنا وعاد الرجل كالمجهول إذ ليست إحدى الدلالتين تناسب المال على الخصوص فكم من متحرج في المال لا يتحرج في غيره وكم من محسن للصلاة والوضوء والقراءة ويأكل من حيث يجد فالحكم في هذه المواقع ما يميل إليه القلب فإن هذا أمر بين العبد وبين الله فلا يبعد أن يناط بسبب خفي لا يطلع عليه إلا هو ورب الأرباب وهو حكم حزازة القلب
ثم ليتنبه لدقيقة أخرى وهو أن هذه الدلالة ينبغي أن تكون بحيث تدل على أن أكثر ماله حرام بأن يكون جندياً أو عامل سلطان أو نائحة أو مغنية فإن دل على أن في ماله حراماً قليلاً لم يكن السؤال واجبا بل كان السؤال من الورع
الحالة الثالثة أن تكون الحالة معلومة بنوع خبرة وممارسة بحيث يوجب ذلك ظناً في حل المال أو تحريمه مثل أن يعرف صلاح الرجل وديانته وعدالته في الظاهر وجوز أن يكون الباطن بخلافه فههنا لا يجب السؤال ولا يجوز كما في المجهول فالأولى الإقدام
والإقدام ههنا أبعد عن الشبهة من الإقدام على طعام المجهول فإن ذلك بعيد عن الورع وإن لم يكن حراماً
وأما أكل طعام أهل الصلاح فدأب الأنبياء والأولياء قال صلى الله عليه وسلم لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ وَلَا يَأْكُلْ طعامك إلا تقي (1)
فإما إذا علم بالخبرة أنه جندي أو مغن أو مرب واستغنى عن الاستدلال عليه بالهيئة والشكل والثيابفههنا السؤال واجب لا محالة كما في موضع الريبة بل أولى المثار الثاني ما يستند الشك فيه إلى سبب المال لا في حال المالك
وذلك بأن يختلط الحلال بالحرام كما إذا طرح في سوق أحمال من طعام غصب واشتراها أهل السوق فليس يجب على من يشتري في تلك البلدة وذلك السوق أن يسأل عما يشتريه إلا أن يظهر أن أكثر ما في أيديهم حرام فعند ذلك يجب السؤال فإن لم يكن هو الأكثر فالتفتيش من الورع وليس بواجب
والسوق الكبير حكمه حكم بلد والدليل على أنه لا يجب السؤال والتفتيش إذا لم يكن الأغلب الحرام أن الصحابة رضي الله عنهم لم يمتنعوا من الشراء من الأسواق وفيها دراهم الربا وغلول الغنيمة وغيرها وكانوا لا يسألون في كل عقد وإنما السؤال نقل عن آحادهم نادرافي بعض الأحوال وهي محال الريبة في حق ذلك الشخص المعين وكذلك كانوا يأخذون الغنائم من الكفار الذين كانوا قد قاتلوا المسلمين وربما أخذوا أموالهم واحتمل أن يكون في تلك الغنائم شيء مما أخذوه من المسلمين وذلك لا يحل أخذه مجاناً بالاتفاق بل يرد على صاحبه عند الشافعي رحمه الله وصاحبه أولى به بالثمن عند أبي حنيفة رحمه الله ولم ينقل قط التفتيش عن هذا وكتب عمر رضي الله عنه إلى أذربيجان إنكم في بلاد تذبح فيها الميتة فانظروا ذكيه من ميته أذن في السؤال وأمر به ولم يأمر بالسؤال عن الدراهم التي هي أثمانها لأن أكثر دراهمهم لم تكن أثمان الجلود وإن كانت هي أيضاً تباع وأكثر الجلود كان كذلك وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه إنكم في بلاد أكثر قصابيها المجوس فانظروا الذكي من الميتة فخص بالأكثر الأمر بالسؤال ولا يتضح مقصود هذا الباب إلا بذكر صور وفرض مسائل يكثر وقوعها في العادات فلنفرضها
مسألة شخص معين خالط ماله الحرام مثل أن يباع على دكان طعام مغصوب أو مال منهوب ومثل أن يكون القاضي أو الرئيس أو العامل أو الفقيه الذي له إدرار على سلطان ظالم له أيضاً مال موروث ودهقنة أو تجارة أو رجل
_________
(1) حديث لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ وَلَا يَأْكُلْ طعامك الا تقي تقدم في الزكاة(2/121)
تاجر يعامل بمعاملات صحيحة ويربي أيضا فإن كان الأكثر من ماله حراما لا يجوز الأكل من ضيافته ولا قبول هديته ولا صدقته الا بعد التفتيش فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال فذاك وإلا ترك وإن كان الحرام أقل والمأخوذ مشتبه فهذا في محل النظر لأنه على رتبة بين الرتبتين إذ قضينا بأنه لو اشتبه ذكية بعشر ميتات مثلاً وجب اجتناب الكل وهذا يشبهه من وجه من حيث إن مال الرجل الواحد كالمحصور ولا سيما إذا لم يكن كثير المال مثل السلطان ويخالفه من وجه إذ الميتة يعلم وجودها في الحال يقيناً والحرام الذي خالط ماله يحتمل أن يكون قد خرج من يده وليس موجودأً في الحال وإن كان المال قليلاً وعلم قطعاً أن الحرام موجود في الحال فهو ومسألة اختلاط الميتة واحد وإن كثر المال واحتمل أن يكون الحرام غير موجود في الحال فهذا أخف من ذلك ويشبه من وجه الاختلاط بغير محصور كما في الأسواق والبلاد ولكنه أغلظ منه لاختصاصه بشخص واحد ولا يشك في أن الهجوم عليه بعيد من الورع جداً ولكن النظر في كونه فسقاً مناقض للعدالة وهذا من حيث النقل أيضاً غامض لتجاذب الأشياء ومن حيث النقل أيضاً غامض لأن ما ينقل فيه عن الصحابة من الامتناع في مثل هذا وكذا عن التابعين يمكن حمله على الورع ولا يصادف فيه نص على التحريم وما ينقل من إقدام على الأكل كأكل أبي هريرة رضي الله عنه طعام معاوية مثلاً إن قدر في جملة ما في يده حرام فذلك أيضاً يحتمل أن يكون إقدامه بعد التفتيش واستبانة أن عين ما يأكله من وجه مباح فالأفعال في هذا ضعيفة الدلالة ومذاهب العلماء المتأخرين مختلفة حتى قال بعضهم لو أعطاني السلطان شيئاً لأخذته وطرد الإباحة فيما إذا كان الأكثر أيضاً حراماً مهماً لم يعرف عين المأخوذ واحتمل أن يكون حلالاً واستدل بأخذ بعض السلف جوائز السلاطين كما سيأتي في باب بيان أموال السلاطين فأما إذا كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَقَلُّ وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنِ الْأَكْلُ حراماً وإن تحقق وجوده في الحال كما في مسألة اشتباه الذكية بالميتة فهذا مما لا أدري ما أقول فيه وهو من المتشابهات التي يتحير المفتي فيها لأنها مترددة بين مشابهة المحصور وغير المحصور والرضيعة إذا اشتبهت بقرية فيها عشر نسوة وجب الاجتناب وإن كانت ببلدة فيها عشرة آلاف لم يجب وبينهما أعداد ولو سئلت عنها لكنت لا أدري ما أقول فيها ولقد توقف العلماء في مسائل هي أوضح من هذه إذ سئل أحمد بن حنبل رحمة الله عن رجل رمى صيداً فوقع في ملك غيره أيكون الصيد للرامي أو لمالك الأرض فقال لا أدري فروجع فيه مرات فقال لا أدري وكثيراً من ذلك حكيناه عن السلف في كتاب العلم فليقطع المفتي طمعه عن درك الحكم في جميع الصور وقد سأل ابن المبارك صاحبه من البصرة عن معاملته قوماً يعاملون السلاطين فقال إن لم يعاملوا سوى السلطان فلا تعاملهم وإن عاملوا السلطان وغيره فعاملهم وهذا يدل على المسامحة في الأقل ويحتمل المسامحة في الأكثر أيضاً وبالجملة فلم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يهجرون بالكلية معاملة القصاب والخباز والتاجر لتعاطيه عقداً واحداً فاسداً أو لمعاملة السلطان مرة وتقدير ذلك فيه بعد والمسألة مشكلة في نفسها
فإن قيل فقد روي عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه رخص فيه وقال خذ ما يعطيك السلطان فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر من الحرام وسئل ابن مسعود رضي الله عنه ذلك فقال له السائل إن لي جاراً لا أعلمه إلا خبيثا يدعونا أو نحتاج فنستسلفه فقال إذا دعاك فأجبه وإذا احتجت فاستسلفه فإن لك المهنأ وعليه المأثم وأفتي سلمان بمثل ذلك وقد علل علي الكثرة وعلل ابن مسعود رضي الله عنه بطريق الإشارة بأن عليه المأثم لأنه يعرفه ولك المهنأ أي أنت
لا تعرفه وروي أنه قال رجل لابن مسعود(2/122)
رضي الله عنه أن لي جاراً يأكل الربا فيدعونا إلى طعامه أفنأتيه فقال نعم
وروي في ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه روايات كثيرة مختلفة وأخذ الشافعي ومالك رضي الله عنهما جوائز الخلفاء والسلاطين مع العلم بأنه قد خالط مالهم الحرام قلنا أما ما روي عن علي رضي الله عنه فقد اشتهر من ورعه ما يدل على خلاف ذلك فإنه كان يمتنع من مال بيت المال حتى يبيع سيفه ولا يكون له إلا قميص واحد في وقت واحد في وقت الغسل لا يجد غيره ولست أنكر أن رخصته صريح في الجواز وفعله محتمل للورع ولكنه لو صح فمال السلطان له حكم آخر فإنه بحكم كثرته يكاد يلتحق بما لا يحصر وسيأتي بيان ذلك وكذا فعل الشافعي ومالك رضي الله عنهما متعلق بمال السلطان وسيأتي حكمه وإنما كلامنا في آحاد الخلق وأموالهم قريبة من الحصر وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه فقيل إنه إنما نقله خوات التيمي وإنه ضعيف الحفظ والمشهور عنه ما يدل على توفي الشبهات إذ قال لا يقولن أحدكم أخاف وأرجو فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع مايريبك إلى ما لا يريبك وقال اجتنبوا الحكاكات ففيها الإثم فإن قيل فلم قلتم إذا كان الأكثر حراماً لم يجز الأخذ مع أن المأخوذ ليس فيه علامة تدل على تحريمه على الخصوص واليد علامة على الملك حتى أن من سرق مال مثل هذا الرجل قطعت يده والكثرة توجب ظناً مرسلاً لا يتعلق بالعين فليكن كغالب الظن في طين الشوارع وغالب الظن في الاختلاط بغير محصور إذا كان الأكثر هو الحرام ولايجوز أن يستدل على هذا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم دع مايريبك إلى ما لا يريبك لأنه مخصوص ببعض المواضع بالاتفاق وهو أن يريبه بعلامة في عين الملك بدليل اختلاط القليل بغير المحصور فإن ذلك يوجب ريبة ومع ذلك قطعتم بأنه لا يحرم فالجواب إن اليد دلالة ضعيفة كالاستصحاب وإنما تؤثر إذا سلمت عن معارض قوي
فإذا تحققنا الاختلاط وتحققنا إن الحرام المخالط موجود في الحال والمال غير خال عنه وتحققنا أن الأكثر هو الحرام وذلك في حق شخص معين يقرب ماله من الحصر ظهر وجوب الإعراض عن مقتضى اليد وإن لم يحمل عليه قوله عليه السلام دع مايريبك إلى ما لا يريبك لا يبقى له محمل إذ لا يمكن أن يحمل على اختلاط قليل بحلال غير محصور إذ كان ذلك موجوداً في زمانه وكان لا يدعه وعلى أي موضع حمل هذا كان هذا في معناه
وحمله على التنزيه صرف له عن ظاهره بغير قياس فإن تحريم هذا غير بعيد عن قياس العلامات والاستصحاب وللكثرة تأثير في تحقيق الظن وكذا للحصر وقد اجتمعا حتى قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا تجتهد في الأواني إلا إذا كان الطاهر هو الأكثر فاشترط اجتماع الاستصحاب والاجتهاد بالعلامة وقوة الكثرة ومن قال يأخذ أي آنية أراد بلا اجتهاد بناء على مجرد الاستصحاب فيجوز الشرب أيضاً فيلزمه التجويز ههنا بمجرد علامة اليد ولا يجري ذلك في بول اشتبه بماء إذ لا استصحاب فيه ولا نطرده أيضاً في ميتة اشتبهت بذكية إذ لا استصحاب في الميتة واليد لا تدل على أنه غير ميتة وتدل في الطعام المباح على أنه ملك فههنا أربع متعلقات استصحاب وقلة في المخلوط أو كثرة وانحصار أو اتساع في المخلوط وعلامة خاصة في عين الشيء يتعلق بها الاجتهاد فمن يغفل عن مجموع الأربعة ربما يغلط فيشبه بعض المسائل بما لايشبهه فحصل مما ذكرناه ان المختلط في ملك شخص واحد إما أن يكون الحرام أكثره أو اقله وكل واحد إما أن يعلم بيقين أو بظن عن علامة أو توهم فالسؤال يجب في موضعين وهو أن يكون الحرام أكثر يقيناً أو ظناً كما لو رأى تركياً مجهولاً يحتمل أن يكون كل ماله من غنيمة وإن كان الأقل معلوماً باليقين فهو محل التوقف وتكاد تسير سير أكثر السلف وضرورة الأحوال إلى الميل إلى الرخصة وأما الأقسام الثلاثة الباقية(2/123)
فالسؤال واجب فيها أصلاً مسألة إذا حضر طعام إنسان علم أنه دخل في يده حرام من إدرار كان قد أخذه أو وجه آخر ولا يدري أنه بقي إلى الآن أم لا قله الأكل ولايلزمه التفتيش وإنما التفتيش فيه من الورع ولو علم أنه قد بقي منه شيء ولكن لم يدر أنه الأ قل أو الأكثر فله أن يأخذ بأنه الأقل وقد سبق أن أمر الأقل مشكل وهذا يقرب منه مسألة إذا كان يد المتولى للخيرات أو الأوقاف أو الوصايا مالان يستحق هو أحدهما ولا يستحق الثاني لأنه غير موصوف بتلك الصفة فهل له أن يأخذ ما يسلمه إليه صاحب الوقف نظرفإن كانت تلك الصفة ظاهرة يعرفها المتولي وكان المتولي ظاهر العدالة فله أن يأخذ بغير بحث لأن الظن بالمتولي أنه لا يصرف إليه ما يصرفه إلا من المال الذي يستحقه وإن كانت الصفة خفية وإن كان المتولي ممن عرف حاله أنه يخلط ولا يبالي كيف يفعل فعليه السؤال إذ ليس ههنا يد ولا استصحاب يعول عليه وهو وزان سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة والهدية عند تردده فيهما لأن اليد لا تخصص الهدية عن الصدقة ولا الاستصحاب فلا ينجي منه إلا السؤال فإن السؤال حيث أسقطناه في المجهول أسقطناه بعلامة اليد والإسلام حتى لو لم يعلم أنه مسلم وأراد أن يأخذ من يده لحماً من ذبيحته واحتمل أن يكون مجوسياً لم يجر له ما لم يعرف أنه مسلم إذ اليد لا تدل في الميتة ولا الصورة تدل على الإسلام إلا إذا كان أكثر أهل البلدة مسلمين فيجوز أن يظن بالذي ليس عليه علامة الكفر أنه مسلم وإن كان الخطأ ممكناً فيه فلا ينبغي أن تلتبس المواضع التي تشهد فيها اليد والحال بالتي لا تشهد
مسألة له أن يشتري في البلد دارا وإن علم أنها تشتمل على دور مغصوبة لأن ذلك الاختلاط بغير محصور ولكن السؤال احتياط وورع وإن كان في سكة عشر دور مثلا إحداها مغصوب أو وقف لم يجز الشراء ما لم يتميز ويجب البحث عنه ومن دخل بلدة وفيها رباطات خصص بوقفها أرباب المذاهب وهو على مذهب واحد من جملة تلك المذاهب فليس له أن يسكن أيها شاء ويأكل من وقفها بغير سؤال لأن ذلك من باب اختلاط المحصور فلا بد من التمييز ولا يجوز الهجوم مع الإبهام لأن الرباطات والمدارس في البلد لابد أن تكون محصورة
مسألة حيث جعلنا السؤال من الورع فليس له أن يسأل صاحب الطعام والمال إذا لم يأمن غضبه وإنما أوجبنا السؤال إذا تحقق أن أكثر ماله حرام وعند ذلك لا يبالي بغضب مثله إذ يجب إيذاء الظالم بأكثر من ذلك والغالب أن مثل هذا لا يغضب من السؤال نعم إن كان يأخذ من يد وكيله أو غلامه أو تلميذه أو بعض أهله ممن هو تحت رعايته فله أن يسأل مهما استراب لأنهم لا يغضبون من سؤاله ولأن عليه أن يسأل ليعلمهم طريق الحلال ولذلك سأل أبو بكر رضي الله عنه غلامه وسأل عمر من سقاه من إبل الصدقة وسأل أبا هريرة رضي الله عنه أيضاً لما أن قدم عليه بمال كثير فقال ويحك أكل هذا طيب من حيث إنه تعجب من كثرته وكان هو من رعيته لا سيما وقد رفق في صيغة السؤال وكذك قال علي رضي الله عنه ليس شيء أحب إلى الله تعالى من عدل إمام ورفقه ولا شيء أبغض إليه من جوره وخرقه
مسألة قال الحارث المحاسبي رحمه الله لو كان له صديق أو أخ وهو يأمن غضبه لو سأله فلا ينبغي أن يسأله لأجل الورع لأنه ربما يبدو له ما كان مستوراً عنه فيكون قد حمله على هتك الستر ثم يؤدي ذلك إلى البغضاء وما ذكره حسن لأن السؤال إذا كان من الورع لا من الوجوب فالورع في مثل هذه الأمور الاحتراز عن هتك الستر وإثارة البغضاء أهم وزاد على هذا فقال وإن رابه منه شيء أيضاً لم يسأله ويظن به أنه يطعمه من الطيب(2/124)
ويجنبه الخبيث فإن كان لا يطمئن قلبه إليه فيحترز متلطفاً ولا يهتك ستره بالسؤال قال لأني لم أر أحداً من العلماء فعله فهذا منه مع ما اشتهر به من الزهد يدل على مسامحة فيما إذا خالط المال الحرام القليل ولكن ذلك عند التوهم لا عند التحقيق لأن لفظ الريبة يدل على التوهم بدلالة تدل عليه ولا يوجب اليقين فليراع هذه الدقائق بالسؤال
مسألة ربما يقول القائل أي فائدة في السؤال ممن بعض ماله حرام ومن يستحل المال الحرام ربما يكذب فإن وثق بأمانته فليثق بديانته في الحلال فأقول مهما علم مخالطة الحرام لمال إنسان وكان له غرض في حضورك ضيافته أو قبولك هديته فلا تحصل الثقة بقوله فلا فائدة للسؤال منه فينبغي أن يسأل من غيره وكذا إن كان بياعا وهو يرغب في البيع لطلب الربح فلا تحصل الثقة بقوله إنه حلال ولا فائدة في السؤال منه وإنما يسأل من غيره وَإِنَّمَا يُسْأَلُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ إِذَا لَمْ يكن متهماً كما يسأل المتولي على المال الذي يسلمه أنه من أي جهة وكما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهدية والصدقة فإن ذلك لا يؤذي ولا يتهم القائل فيه وكذلك إذا اتهمه بأنه ليس يدري طريق كسب الحلال فلا يتهم في قوله إذا أخبر عن طريق صحيح وكذلك يسأل عبده وخادمه ليعرف طريق اكتسابه فههنا يفيد السؤال فإذا كان صاحب المال متهماً فَلْيُسْأَلْ مِنْ غَيْرِهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ وَاحِدٌ قبله وإن أخبره فاسق يعلم مِنْ قَرِينَةِ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ حَيْثُ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ جَازَ قَبُولُهُ لِأَنَّ هذا أمر بينه وبين الله تعالى والمطلوب ثقة النفس وقد يحصل من الثقة بقول الفاسق ما لا يحصل بقول عدل في بعض الأحوال وليس كل من فسق يكذب ولا كل من ترى العدالة في ظاهره يصدق وإنما نيطت الشهادة بالعدالة الظاهرة لضرورة الحكم فإن البواطن لا يطلع عليها وقد قبل أبو حنيفة رحمه الله شهادة الفاسق وكم من شخص تعرفه وتعرف أنه قد يقتحم المعاصي ثم إذا أخبرك بشيء وثقت به وكذلك إذا أخبر به صبي مميز ممن عرفته بالتثبت فقد تحصل الثقة بقوله فيحل الاعتماد عليه فأما إذا أخبر به مجهول لا يدري من حاله شيء أصلاً فهذا ممن جوزنا الأكل من يده لأن يده دلالة ظاهرة على ملكه
وربما يقال إسلامه دلالة ظاهرة على صدقه وهذا فيه نظر ولا يخلو قوله عن أثر ما في النفس حتى لو اجتمع منهم جماعة تفيد ظناً قويأ إلا أن أثر الواحد فيه في غاية الضعف فلينظر إلى حد تأثيره في القلب فإن المفتي هو القلب في مثل هذا الموضع وَلِلْقَلْبِ الْتِفَاتَاتٌ إِلَى قَرَائِنَ خَفِيَّةٍ يَضِيقُ عَنْهَا نطاق النطق فليتأمل فيه ويدل على وجوب الالتفات إليه ما روي عن عقبة بن الحارث أنه جاء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة فقال دعها فقال إنها سوداء يصغر من شأنها فقال عليه السلام فكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما لا خير لك فيها دعها عنك (1)
وفي لفظ آخر كيف وقد قيل ومهما لم يعلم كذب المجهول ولم تظهر أمارة غرض له فيه كان له وقع في القلب لا محالة فلذلك يتأكد الأمر بالاحتراز فإن اطمأن إليه القلب كان الاحتراز حتماً واجباً
مسألة حيث يجب السؤال فلو تعارض قول عدلين تساقطا وكذا قول فاسقين ويجوز أن يترجح في قلبه قول أحد العدلين أو أحد الفاسقين ويجوز أن يرجح أحد الجانبين بالكثرة أو بالاختصاص بالخبرة والمعرفة وذلك مما يتشعب تصويره
مسألة لو نهب متاع مخصوص فصادف من ذلك النوع متاعا في يد إنسان وأراد أن يشتريه واحتمل أن لا يكون
_________
(1) حديث عقبة إني تزوجت امرأة فجائتنا أمة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة رواه البخاري من حديث عقبة ابن الحارث(2/125)
من المغصوب فإن كان ذلك الشخص ممن عرفه بالصلاح جاز الشراء وكان تركه من الورع وإن كان الرجل مجهولاً لا يعرف منه شيئاً فإن كان يكثر نوع ذلك المتاع من غير المغصوب فله أن يشتري وإن كان لا يوجد ذلك المتاع في تلك البقعة إلا نادراً وإنما كثر بسبب الغصب فليس بدل على الحل إلا اليد وقد عارضته علامة خاصة من شكل المتاع ونوعه فالامتناع عن شرائه من الورع المهم ولكن الوجوب فيه نظر فإن العلامة متعارضة ولست أقدر على أن أحكم فيه بحكم إلا أرده إلى قلب المستفتي لينظر ما الأقوى في نفسه فإن كان الأقوى أنه مغصوب لزمه تركه وإلا حل له شراؤه وأكثر هذه الوقائع يلتبس الأمر فيها فهي من المتشابهات التي لا يعرفها كثير الناس فمن توقاها فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن اقتحمها فقد حام حول الحمى وخاطر بنفسه
مسألة لو قال قائل قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبن قدم إليه فذكر أنه من شاة فسأل عن الشاة من أين هي فذكر له فسكت عن السؤال (1) فيجب السؤال عن أصل المال أم لا وإن وجب فعن أصل واحد أو اثنين أو ثلاثة وما الضبط فيه فأقول لا ضبط فيه ولا تقدير بل ينظر إلى الريبة المقتضية للسؤال إما وجوباً أو ورعاً ولا غاية للسؤال إلا حيث تنقطع الريبة المقتضية له وذلك يختلف باختلاف الأحوال فإن كانت التهمة من حيث لا يدري صاحب اليد كيف طريق الكسب الحلال فإن قال اشتريت انقطع بسؤال واحد وإن قال من شاتي وقع الشك في الشاة فإذا قال اشتريت انقطع وإن كانت الريبة من الظلم وذلك مما في أيدي العرب ويتوالد في أيديهم المغصوب فلا تنقطع الريبة بقوله إنه من شاتي ولا بقوله إن الشاة ولدتها شاتي فإن أسنده إلى الوراثة من أبيه وحالة أبيه مجهولة انقطع السؤال وإن كان يعلم أن جميع مال أبيه حرام فقد ظهر التحريم وإن كان يعلم أن أكثره حرام فبكثرة التوالد وطول الزمان وتطرق الإرث إليه لا يغير حكمه فلينظر في هذه المعاني
مسألة سئلت عن جماعة من سكان خانقاه الصوفية وفي يد خادمهم الذي يقدم إليهم الطعام وقف على ذلك المسكن ووقف آخر على جهة أخرى غير هؤلاء وهو يخلط الكل وينفق على هؤلاء وهؤلاء فأكل طعامه حلال أو حرام أو شبهة فقلت إن هذا يلتفت إلى سبعة أصول
الأصل الأول أن الطعام الذي يقدم إليهم في الغالب يشتريه بالمعاطاة والذي اخترناه صحة المعاطاة لا سيما في الأطعمة والمستحقرات فليس في هذا إلا شبهة الخلاف
الأصل الثاني أن ينظر أن الخادم هل يشتريه بعين المال الحرام أو في الذمة فإن اشتراه بعين المال الحرام فهو حرام وإن لم يعرف فالغالب أنه يشتري في الذمة ويجوز الأخذ بالغالب ولا ينشأ من هذا تحريم بل شبهة احتمال بعيد وهو شراؤه بعين مال حرام
الأصل الثالث أنه من أين يشتريه فإن اشترى ممن أكثر ماله حرام لم يجز وإن كان أقل ماله ففيه نظر قد سبق وإذا لم يعرف جاز له الأخذ بأنه يشتريه ممن ماله حلال أو ممن لا يدري المشتري حاله بيقين كالمجهول وقد سبق جواز الشراء من المجهول لأن ذلك هو الغالب فلا ينشأ من هذا تحريم بل شبهة احتمال
الأصل الرابع أن يشتريه لنفسه أو للقوم فإن المتولي والخادم كالنائب وله أن يشتري له ولنفسه ولكن يكون ذلك بالنية أو صريح اللفظ وإذا كان الشراء يجري بالمعاطاة فلا يجري اللفظ والغالب أنه لا ينوي عند المعاطاة والقصاب والخباز ومن يعامله يعول عليه ويقصد البيع منه لا ممن لا يحضرون فيقع عن جبهته ويدخل في ملكه وهذا الأصل ليس فيه تحريم ولا شبهة ولكن يثبت أنهم يأكلون من ملك الخادم
_________
(1) حديث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبن قدم إليه الحديث تقدم في الباب الخامس من آداب الكسب والمعاش(2/126)
الأصل الخامس أن الخادم يقدم الطعام إليهم فلا يمكن أن يجعل ضيافة وهدية بغير عوض فإنه لا يرضى بذلك وإنما يقدم اعتماداً على عوضه من الوقف فهو معاوضة ولكن ليس ببيع ولا إقراض لأنه لو انتهض لمطالبتهم بالثمن استبعد ذلك وقرينة الحال لا تدل عليه فأشبه أصل ينزل عليه هذه الحالة الهبة بشرط الثواب أعني هدية لا لفظ فيها من شخص تقتضي قرينة حاله أنه يطمع في ثواب وذلك صحيح والثواب لازم وههنا ما طمع الخادم في أن يأخذ ثوابا فيما قدمه إلا حقهم من الوقف ليقضي به دينه من الخباز والقصاب والبقال فهذا ليس فيه شبهة إذ لا يشترط لفظ في الهدية ولا في تقديم الطعام وإن كان مع انتظار الثواب ولا مبالاة بقول من لا يصحح هدية في انتظار ثواب
الأصل السادس أن الثواب الذي يلزم فيه خلاف فقيل إنه أقل متمول وقيل قدر القيمة وقيل ما يرضى به الواهب حتى له أن لا يرضى بأضعاف القيمة والصحيح أنه يتبع رضاه فإذا لم يرض يرد عليه وههنا الخادم قد رضي بما يأخذ من حق السكان على الوقف فإن كان لهم من الحق بقدر ما أكلوه فقد تم الأمر وإن كان ناقصاً ورضي به الخادم صح أيضاً وإن علم أن الخادم لا يرضى لولا أن في يده الوقف الآخر الذي يأخذه بقوة هؤلاء السكان فكأنه رضي في الثواب بمقدار بعضه حلال وبعضه حرام والحرام لم يدخل في أيدي السكان فهذا كالخلل المتطرق إلى الثمن وقد ذكرنا حكمه من قبل وأنه متى يقتضي التحريم ومتى يقتضي الشبهة وهذا لا يقتضي تحريماً على ما فصلناه فلا تنقلب الهدية حراماً يتوصل المهدي بسبب الهدية إلى حرام
الأصل السابع أنه يقضي دين الخباز والقصاب والبقال من ريع الواقفين فإن وفى ما أخذ من حقهم بقيمة ما أطعمهم فقد صح الأمر وإن قصر عنه فرضي القصاب والخباز بأي ثمن كان حراماً أو حلالاً فهذا خلل تطرق إلى ثمن الطعام أيضاً فليلتفت إلى ما قدمنا من الشراء في الذمة ثم قضاء الثمن من الحرام هذا إذا علم أنه قضاه من حرام فإن احتمل ذلك واحتمل غيره فالشبهة أبعدوقد خرج من هذا أن أكل هذا ليس بحرام ولكنه أكل شبهة وهو بعيد من الورع لأن هذه الأصول إذا كثرت وتطرق إلى كل واحد احتمال صار احتمال الحرام بكثرته أقوى في النفس كما أن الخبر إذا طال إسناده صار احتمال الكذب والغلط فيه أقوى مما إذا قرب إسناده فهذا حكم هذه الواقعة وهي من الفتاوى وإنما أوردناها ليعرف كيفية تخريج الوقائع الملتفة الملتبسة وأنها كيف ترد إلى الأصول فإن ذلك مما يعجز عنه أكثر المفتين
الباب الرابع في كيفة خروج التائب عن المظالم المالية
اعلم أن من تاب وفي يده مُخْتَلِطٌ فَعَلَيْهِ وَظِيفَةٌ فِي تَمْيِيزِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِهِ وَوَظِيفَةٌ أُخْرَى فِي مَصْرِفِ الْمُخْرَجِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا النظر الأول في كيفية التمييز والإخراج اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ وَفِي يَدِهِ ما هو حرام معلوم العين من غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ فَعَلَيْهِ تَمْيِيزُ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ مُلْتَبِسًا مُخْتَلِطًا فلا يخلو إما أن يكون في مال هو من ذوات الأمثال كالحبوب والنقود والأدهان وإما أن يكون في أعيان متمايزة كالعبيد والدور والثياب
فإن كان في المتماثلات أو كان شائعا في كله كمن اكتسب المال بتجارة يعلم أنه قد كذب في بعضها في المرابحة وصدق في بعضها أو من غصب دهناً وخلطه بدهن نفسه أو فعل ذلك في الحبوب أوالدراهم والدنانير فلا يخلو ذلك إما أن يكون معلوم القدر أو مجهولاً فَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ(2/127)
مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ حَرَامٌ فَعَلَيْهِ تَمْيِيزُ النِّصْفِ وَإِنْ شكل فله طريقان أحدهما الأخذ باليقين والآخر الأخذ بغالب الظن وكلاهما قد قال به العلماء في اشتباه ركعات الصلاة ونحن لا نجوز في الصلاة إلا الأخذ باليقين فإن الأصل اشتغال الذمة فيستصحب ولا يغير إلا بعلامة قوية وليس في أعداد الركعات علامات يوثق بها وأما ههنا فلا يمكن أن يقال الأصل أن ما في يده حرام بل هو مشكل فيجوز له الأخذ بغالب الظن اجتهاداً ولكن الورع في الأخذ باليقين فإن أراد الورع فطريق التحري والاجتهاد أن لا يَسْتَبْقِي إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَلَالٌ وإن أراد الأخذ بالظن فطريقه مثلاً أن يكون في يده مال تجارة فسد بعضها فيتيقن أن النصف حلال وأن الثلث مثلاً حرام ويبقى سدس يشك فيه فيحكم فيه بغالب الظن وهكذا طريق التحري في كل مال وهو أن يقتطع القدر المتيقن من الجانبين في الحل والحرمة والقدر المتردد فيه إن غلب على ظنه التحريم أخرجه وإن غلب الحل جاز له الإمساك والورع إخراجه وإن شك فيه جاز الإمساك والورع إخراجه وهذا الورع آكد لأنه صار مشكوكاً فيه وجاز إمساكه اعتماداً على أنه في يده فيكون الحل أغلب عليه وقد صار ضعيفاً بعد يقين اختلاط الحرام ويحتمل أن يقال الأصل التحريم ولا يأخذ إلا ما يغلب على ظنه أنه حلال وليس أحد الجانبين بأولى من الآخر وليس يتبين لي في الحال ترجيح وهو من المشكلات
فإن قيل هب أنه أخذ باليقين لكن الذي يخرجه ليس يدري أنه عين الحرام فلعل الحرام ما بقي في يده فكيف يقدم عليه ولو جاز هذا لجاز أن يقال إذا اختلطت ميتة بتسع مذكاة فهي العشر فله أن يطرح واحدة أي واحدة كانت ويأخذ الباقي ويستحله ولكن يقال لعل الميتة فيما استبقاه بل لو طرح التسع واستبقى واحدة لم تحل لاحتمال أنها الحرام فنقول هذه الموازنة كانت تصح لولا أن المال يحل بإخراج البدل لتطرق المعاوضة إليه وأما الميتة فلا تتطرق المعاوضة إليها فليكشف الغطاء عن هذا الأشكال بالفرض في درهم معين اشتبه بدرهم آخر فيمن له درهمان أحدهما حرام قد اشتبه عينه وقد سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن مثل هذا فقال يدع الكل حتى يتبين وكان قد رهن آنية فلما قضى الدين حمل إليه المرتهن آنيتين وقال لا أدري أيتهما آنيتك فتركهما فقال المرتهن هذا الذي هو لك وإنما كنت أختبرك فقضى دينه ولم يأخذ الرهن وهذا ورع ولكنا نقول إنه غير واجب فلنفرض المسألة في درهم له مالك معين حاضر فنقول إذا رد أحد الدرهمين عليه ورضي به مع العلم بحقيقة الحال حل له الدرهم الآخر لأنه لا يخلو إما أن يكون المردود في علم الله هو المأخوذ فقد حصل المقصود وإن كان غير ذلك فقد حصل لكل واحد درهم في يد صاحبه فالاحتياط أن يتبايعا باللفظ فإن لم يفعلا وقع التقاص والتبادل بمجرد المعاطاة وإن كان المغصوب منه قد فات له درهم في يد الغاصب وعسر الوصول إلى عينه واستحق ضمانه فلما أخذه وقع عن الضمان بمجرد القبض وهذا في جانبه واضح فإن المضمون له يملك الضمان بمجرد القبض من غير لفظ والإشكال في الجانب الآخر أنه لم يدخل في ملكه فنقول لأنه أيضاً إن كان قد تسلم درهم نفسه فقد فات له أيضا درهم في يد الآخر فليس يمكن الوصول إليه فهو كالغائب فيقع هذا بدلاً عنه في علم الله إن كان الأمر كذلك ويقع هذا التبادل في علم الله كما يقع التقاص لو أتلف رجلان كل واحد منهما درهماً على صاحبه بل في عين مسألتنا لو ألقى كل واحد ما في يده في البحر أو أحرقه كأن قد أتلفه ولم يكن عليه عهدة للآخر بطريق التاقص فكذا إذا لم يتلف فإن القول بهذا أولى من المصير إلى ان من يأخذ درهماً حراماً ويطرحه في ألف ألف درهم لرجل آخر يصير كل المال محجوراً عليه لا يجوز التصرف(2/128)
فيه وهذا المذهب يؤدي إليه فانظر ما في هذا من البعد وليس فيما ذكرناه إلا ترك اللفظ والمعاطاة بيع ومن لا يجعلها بيعاً فحيث يتطرق إليها احتمال إذ الفعل يضعف دلالته وحيث يمكن التلفظ وههنا هذا التسليم والتسلم للمبادلة قطعاً والبيع غير ممكن لأن المبيع غير مشار إليه ولا معلوم في عينه وقد يكون مما لا يقبل البيع كما لو خلط رطل دقيق بألف رطل دقيق لغيره وكذا الدبس والرطب وكل ما لا يباع البعض منه بالبعض
فإن قيل فأنتم جوزتم تسليم قدر حقه في مثل هذه الصورة وجعلتموه بيعاً قلنا لا نجعله بيعاً بل نقول هو بدل عما فات في يده فيملكه كما يملك المتلف عليه من الرطب إذا أخذ مثله هذا إذا ساعده صاحب المال فإن لم يساعده واضر به وقال لا آخذ درهماً أصلاً إلا عين ملكي فإن استهم فأتركه ولا أهبه وأعطل عليك مالك
فأقول على القاضي أن ينوب عنه في القبض حتى يطيب للرجل ماله فإن هذا محض التعنت والتضييق والشرع لم يرد به فإن عجز عن القاضي ولم يجده فليحكم رجلاً متديناً ليقبض عنه فإن عجز فيتولى هو بنفسه ويفرد على نية الصرف إليه درهماً ويتعين ذلك له ويطيب له الباقي وهذا في خلط المائعات أظهر وألزم
فإن قيل فينبغي أن يحل له الأخذ وينتقل الحق إلى ذمته فأي حاجة إلى الإخراج أولاً ثم التصرف في الباقي قلنا قال قائلون يحل له أن يأخذ ما دام يبقى قدر الحرام ولا يجوز أن يأخذ الكل ولو أخذ لم يجز له ذلك وقال آخرون ليس له أن يأخذ ما لم يخرج قدر الحرام بالتوبة وقصد الإبدال وقال آخرون يجوز للآخذ في التصرف أن يأخذ منه وأما هو فلا يعطي فإن أعطى عصى هو دون الآخذ منه وما جوز أحد أخذ الكل وذلك لأن المالك لو ظهر فله أن يأخذ حقه من هذه الجملة إذ يقول لعل المصروف إلي يقع عين حقي وبالتعيين وإخراج حق الغير وتمييزه يندفع هذا الاحتمال فهذا المال يترجح بهذا الاحتمال على غيره وما هو أقرب إلى الحق مقدم كما يقدم المثل على القيمة والعين على المثل فكذلك ما يحتمل فيه رجوع المثل مقدم على ما يحتمل فيه رجوع القيمة وما يحتمل فيه رجوع العين يقدم على ما يحتمل فيه رجوع المثل ولو جاز لهذا أن يقول ذلك لجاز لصاحب الدرهم الآخر أن يأخذ الدرهمين ويتصرف فيهما ويقول على قضاء حقك من موضع آخر إذ الاختلاط من الجانبين وليس ملك أحدهما بأن يقدر فائتاً بأولى من الآخر إلا أن ينظر إلى الأقل فيقدر أنه فائت فيه أو ينظر إلى الذي خلط فيجعل بفعله متلفاً لحق غيره وكلاهما بعيدان جداً وهذا واضح في ذوات الأمثال فإنها تقع عوضاً في الإتلافات من غير عقد فأما إذا اشتبه دار بدور أو عبد بعبيد فلا سبيل إلى المصالحة والتراضي فإن أبى أن يأخذ إلا عين حقه ولم يقدر عليه وأراد الآخر أن يعوق عليه جميع ملكه فإن كانت متماثلة القيم فالطريق أن يبيع القاضي جميع الدور ويوزع عليهم الثمن بقدر النسبة وإن كانت متفاوتة أخذ من طالب البيع قيمة أنفس الدور وَصَرَفَ إِلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ مِقْدَارَ قِيمَةِ الْأَقَلِّ ويوقف قدر التفاوت إلى البيان أو الإصلاح لأنه مشكل وإن لم يوجد القاضي فللذي يريد الخلاص وفي يده الكل أن يتولى ذلك بنفسه هذه هي المصلحة وما عداها من الاحتمالات ضعيفة لا نختارها وفيما سبق تنبيه على العلة وهذا في الحنطة ظاهر وفي النقود دونه وفي العروض أغمض إذ لا يقع البعض بدلاً عن البعض فذلك احتيج إلى البيع ولترسم مسائل يتم بها البيان هذا الأصل
مسألة إذا ورث مع جماعة وكان السلطان قد غصب ضيعة لمورثهم فرد عليه قطعة معينة فهي لجميع الورثة ولو رد من الضيعة نصفاً وهو قدر حقه ساهمه الورثة فإن النصف الذي له لا يتميز حتى يقال هو المردود والباقي هو المغصوب ولا يصير مميزاً بنية السلطان وقصده حصر الغصب في نصيب الآخرين(2/129)
مسألة
إذا وقع في يده مال أخذه من سلطان ظالم ثم تاب والمال عقار وكان قد حصل منه انتفاع فينبغي أن يحسب أجر مثله لطول تلك المدة وكذلك كل مغصوب له منفعة أو حصل منه زيادة فلا تصح توبته مالم يخرج أجرة المغصوب وكذلك كل زيادة حصلت منه وتقدير أجرة العبيد والثياب والأواني وأمثال ذلك مما لا يعتاد إجارتها مما يعسر ولا يدرك ذلك إلا باجتهاد وتخمين وهكذا كل التقويمات تقع بالاجتهاد وطريق الورع الأخذ بالأقصى وما ربحه على المال المغصوب في عقود عقدها على الذمة وقضى الثمن منه فهو ملك له ولكن فيه شبهة إذ كان ثمنه حراماً كما سبق حكمه وإن كان بأعيان تلك الأموال فالعقود كانت فاسدة وقد قيل تنفذ بإجازة المغصوب منه للمصلحة فيكون المغصوب منه أولى به والقياس أن تلك العقود تفسخ وتسترد الثمن وترد الأعواض فإن عجز عنه لكثرته فهي أموال حرام حصلت في يده فللمغصوب منه قدر رأس ماله والفضل حرام يجب إخراجه لتتصدق به ولا يحل للغاصب ولا للمغصوب منه بل حكمه حكم كل حرام يقع في يده
مسألة من ورث مالاً ولم يدر أن مُوَرِّثُهُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَلَامَةٌ فَهُوَ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ حَرَامًا وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ أَخْرَجَ مِقْدَارَ الْحَرَامِ بالتحري فإن لم يعلم ذلك ولكن علم أن مورثه كان يتولى أعمالا للسلاطين واحتمل انه لم يكن] خذ في عمله شيئاً أو كان قد أخذ ولم يبق في يده منه شيء لطول المدة فهذه شبهة يحسن التورع عنها ولا يجب وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ مَالِهِ كَانَ مِنَ الظُّلْمِ فَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِالِاجْتِهَادِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ وَالْإِثْمُ عَلَى الْمُوَرِّثِ واستدل بما روي أن رجلا ممن ولي عمل السلطان مات فقال صحابي الآن طاب ماله أي لوارثه وهذا ضعيف لأنه لم يذكر اسم الصحابي ولعله صدر من متساهل فقد كان في الصحابة من يتساهل ولكن لا نذكره لحرمة الصحبة وكيف يكون موت الرجل مبيحاً للحرام المتيقن المختلط ومن أين يؤخذ هذا نعم إذا لم يتيقن يجوز أن يقال هو غير مأخوذ بما لا يدري فيطيب لوارث لا يدري أن فيه حراماً يقيناً النَّظَرُ الثَّانِي فِي الْمَصْرِفِ
فَإِذَا أَخْرَجَ الْحَرَامَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَيَجِبُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَارِثِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَيَنْتَظِرُ حُضُورَهُ أَوِ الْإِيصَالَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زِيَادَةٌ وَمَنْفَعَةٌ فَلِتَجَمُّعِ فَوَائِدِهِ إِلَى وَقْتِ حُضُورِهِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَالِكٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ الوقوف على عيبه وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مَاتَ عَنْ وَارِثٍ أَمْ لَا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ الرَّدُّ فِيهِ لِلْمَالِكِ وَيُوقَفُ حَتَّى يَتَّضِحَ الْأَمْرُ فِيهِ وَرُبَّمَا لَا يمكن الرد لكثرة الملاك كغلول الغنيمة فإنها بعد تفرق الغزاة كيف يقدر على جمعهم وإن قدر فكيف يفرق دينارا واحد مثلاً على ألف أو ألفين فهذا ينبغي أن يتصدق به
وإما من مال الفئ والأموال المرصدة لمصالح المسلمين كافة فيصرف ذلك إلى القناطر والمساجد والرباطات ومصانع طريق مكة وأمثال هذه الأمور التي يشترك في الانتفاع بها كل من يمر بها من المسلمين ليكون عاماً للمسلمين وحكم القسم الأول لا شبهة فيه أما التصدق وبناء القناطر فينبغي أن يتولاه القاضي فيسلم إليه المال إن وجد قاضيا متدينا وإن كان القاضي مستحلاً فهو بالتسليم إليه ضامن لو ابتدأ به فيما لا يضمنه فكيف يسقط عنه به ضمان قد استقر عليه بل يحكم من أهل البلد عالماً متديناً فإن التحكيم أولى من الانفراد فإن عجز فليتول(2/130)
ذلك بنفسه فإن المقصود الصرف
وأما عين الصارف فإنما نطلبه لمصارف دقيقة في المصالح فلا يترك أصل الصرف بسبب العجز عن صارف هو أولى عند القدرة عليه
فإن قيل ما دليل جواز التصدق بما هو حرام وكيف يتصدق بما لا يملك وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز لأنه حرام وحكي عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال لا أتصدق إلا بالطيب ولا أرضى لغيري مالا أرضاه لنفسي فنقول نعم ذلك له وجه واحتمال وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس أما الخير فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت إليه فكلمته بأنها حرام إذ قال صلى الله عليه وسلم أطعموها الأسارى (1)
ولما نزل قوله تعالى {ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} كذبه المشركون وقالوا للصحابة ألا ترون ما يقول صاحبكم يزعم أن الروم ستغلب فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر رضي الله عنه بما قامرهم به قال عليه الصلاة والسلام هذا سحت فتصدق به وفرح المؤمنون بنصر الله وكان قد نزل تحريم القمار بعد أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له في المخاطرة مع الكفار (2)
وأما الأثر فإن ابن مسعود رضي الله عنه اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيراً فلم يجده فتصدق بالثمن وقال اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي
وسئل الحسن رضي الله عنه عن توبة الغال وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش فقال يتصدق به
وروي أن رجلاً سولت له نفسه فغل مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له تفرق الناس فأتى معاوية فأبى أن يقبض فأتى بعض النساك فقال ادفع خمسها إلى معاوية وتصدق بما يبقى فبلغ معاوية قوله فتلهف إذا لم يخطر له ذلك وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارس المحاسبي وجماعة من الورعين إلى ذلك
وأما القياس فهو أن يقال إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير إذ قد وقع اليأس من مالكه وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ولم تحصل منه فائدة وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه وحصل للفقير سد حاجته وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر فإن في الخبر الصحيح إن للزارع والغارس أجراً في كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه (3)
وذلك بغير اختياره وأما قول القائل لا نتصدق إلا بالطيب فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر
_________
(1) حديث أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت بين يديه وكلمته بأنها حرام إذ قال أطعموها الأسارى رواه احمد من حديث رجل من الأنصار قال خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة فلما رجعنا لقينا راعي امرأة من قريش فقال أن فلانة تدعوك ومن معك إلى طعام الحديث وفيه فقال أجد لحم شاة أخذت بغير أذن أهلها وفيه فقال أطعموها الأسارى وإسناده جيد
(2) حديث مخاطرة أبي بكر المشركين بأذنه صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى {الم غلبت الروم} وفيه فقال صلى الله عليه وسلم هذا سحت فتصدق به أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس وليس فيه أن ذلك كان بأذنه صلى الله عليه وسلم والحديث عند الترمذي وحسنه والحاكم وصححه دون قوله أيضا هذا سحت فتصدق به
(3) حديث أجر الزارع والغارس في كل ما يصيب الناس والطيور أخرجه البخاري من حديث انس ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له صدقة(2/131)
وترددنا بين التضييع وبين التصدق ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع
وقول القائل لا نرضى لغيرنا مالا نرضاه لأنفسنا فهو كذلك ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه وللفقير حلال إذ أحله دليل الشرع وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل وإذا حل فقد رضينا له الحلال ونقول إن له أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِذَا كَانَ فقيراً
أما عياله وأهله فلا يخفى لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله بل هم أولى من يتصدق عليهم وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته لأنه أيضاً فقير ولو تصدق به على فقير لجاز وكذا إذا كان هو الفقير ولنرسم في بيان هذا الأصل أيضاً مسائل
مسألة إذا وقع في يده مال من يد سلطان قال قوم يرد إلى السلطان فهو أعلم بما تولاه فيقلده ما تقلده وهو خير من أن يتصدق به واختار المحاسبي ذلك وقال كيف يتصدق به فلعل له مالكاً معيناً ولو جاز ذلك لجاز أن يسرق من السلطان ويتصدق به وقال قوم يتصدق به إذا علم أن السلطان لا يرده إلى المالك لأن ذلك إعانة للظالم وتكثير لأسباب ظلمه فالرد إليه تضييع لحق المالك والمختار أنه إذا علم من عادة السلطان انه لا يرده إلى مالكه فيتصدق به عن مالكه فهو خير للمالك إن كان له مالك معين من أن يرد على السلطان لأنه ربما لا يكون له مالك معين ويكون حق المسلمين فرده على السلطان تضييع فإن كان له مالك معين فالرد على السلطان تضييع وإعانة للسلطان الظالم وتفويت لبركة دعاء الفقير على المالك وهذا ظاهر فإذا وقع في يده من ميراث ولم يتعد هو بالأخذ من للسلطان فإنه شبيه باللقطة التي أيس عن معرفة صاحبها إذا لم يكن له أن يتصرف فيها بالتصدق عن المالك ولكن له أن يتملكها ثم وإن كان غنياً من حيث إنه اكتسبه من وجه مباح وهو الالتقاط وههنا لم يحصل المال من وجه مباح فيؤثر في منعه من التملك ولا يؤثر في المنع من التصدق
مسألة إذا حصل في يده مال لا مالك له وجوزنا له أن يأخذ قدر حاجته لفقره ففي قدر حاجته نظر ذكرناه في كتاب أسرار الزكاة فقد قال قوم يأخذ كفاية سنة لنفسه وعياله وإن قدر على شراء ضيعة أو تجارة يكتسب بها للعائلة فعل وهذا ما اختاره المحاسبي ولكنه قال الأولى أن يتصدق بالكل إن وجد من نفسه قوة التوكل وينتظر لطف الله تعالى في الحلال فإن لم يقدر فله أن يشتري ضيعة أو يتخذ رأس مال يتعيش بالمعروف منه وكل يوم وجد فيه حلالاً أمسك ذلك اليوم عنه فإذا فني عاد إليه فإذا وجد حلالاً معينا تصدق بمثل ما أنفقه من قبل ويكون ذلك قرضاً عنده ثم إنه يأكل الخبز ويترك اللحم إن قوي عليه وإلا أكل اللحم من غير تنعم وتوسع وما ذكره لا مزيد عليه ولكن جعل ما أنفقه قرضاً عنده فيه نظر ولا شك في أن الورع ان يجعله قرضاً فإذا وجد حلالاً تصدق بمثله ولكن مهما لم يجب ذلك على الفقير الذي يتصدق به عليه فلا يبعد ان لا يجب عليه أيضاً إذا أخذه لفقره لا سيما إذا وقع في يده من ميراث ولم يكن متعديا بغصبه وكسبه حتى يغلظ الأمر عليه فيه
مسألة إذا كان في يده حلال وحرام أو شبهة وليس يفضل الكل عن حاجته فإذا كان له عيال فليخص نفسه بالحلال لأن الحجة عليه أوكد في نفسه منه في عبده وعياله وأولاده الصغار والكبار من الأولاد يحرسهم من الحرام إن كان لا يفضي بهم إلى ما هو أشد منه فإن أفضى فيطعمهم بقدر الحاجة
وبالجملة ما يحذره في غيره فهو محذور في نفسه وزيادة وهو أنه يتناول مع العلم والعيال ربما تعذر إذا لم تعلم إذ لم تتول الأمر بنفسها فليبدأ بالحلال بنفسه ثم بمن يعول وإذا تردد في حق نفسه بين ما يخص قوته وكسوته وبين غيره من المؤن كأجرة الحجام والصباغ والقصار والحمال والاطلاء بالنورة والدهن وعمارة المنزل وتعهد الدابة وتسجير التنور وثمن الحطب ودهن السراج فليخص(2/132)
بالحلال قوته ولباسه فإن ما يتعلق ببدنه ولا غنى به عنه هو أولى بأن يكون طيباً وإذا دار الأمر بين القوت واللباس فيحتمل أن يقال يخص القوت بالحلال لأنه ممتزج بلحمه ودمه وكل لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ
وأما الكسوة ففائدتها ستر عورته ودفع الحر والبرد والأبصار عن بشرته وهذا هو الأظهر عندي
وقال الحارث المحاسبي يقدم اللباس لأنه يبقى عليه مدة والطعام لا يبقى عليه لما روي أنه لا يقبل الله صلاة من عليه ثوب اشتراه بعشرة دراهم فيها درهم حرام (1)
وهذا محتمل ولكن أمثال هذا قد ورد فيمن في بطنه حرام ونبت لحمه من حرام (2)
فمراعاة اللحم والعظم أن ينبته من الحلال أولى ولذلك تقيأ الصديق رضي الله عنه ما شربه مع الجهل حتى لا ينبت منه لحم يثبت ويبقى
فإن قيل فإذا كان الكل منصرفاً إلى أغراضه فأي فرق بين نفسه وغيره وبين جهة وجهة وما مدرك هذا الفرق قلنا عرف ذلك بما روي أن رافع بن خديج رحمه الله مات وخلف ناضحاً وعبداً حجاماً فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهى عن كسب الحجام فروجع مرات فمنع منه فقيل إن له أيتاماً فقال أعلفوه الناضح (3)
فهذا يدل على الفرق بين مايأكله هو أو دابته فإذا انفتح سبيل الفرق فقس عليه التفصيل الذي ذكرناه
مسألة الحرام الذي في يده لو تصدق به على الفقراء فله يوسع عليهم وإذا أنفق على نفسه فليضيق ما قدر وما أنفق على عياله فليقتصد وليكن وسطاً بين التوسيع والتضييق فيكون الأمر على ثلاث مراتب فإن أنفق على ضيف قدم عليه وهو فقير فليوسع عليه وإن كان غنياً فلا يطعمه إلا إذا كان في برية أو قدم ليلاً ولم يجد شيئاً فإنه في ذلك الوقت فقير وإن كان الفقير الذي حضر ضيفاً تقياً لو علم ذلك لتورع عنه فليعرض الطعام وليخبره جمعاً بين حق الضيافة وترك الخداع فلا ينبغي أن يكرم أخاه بما يكره ولا ينبغي أن يعول على أنه لا يدري فلا يضره فإن الحرام إذا حصل في المعدة أثر في قساوة القلب وإن لم يعرفه صاحبه ولذلك تقيأ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وكانا قد شربا على جهل وهذا وإن أفتينا بإنه حلال للفقراء أحللناه بحكم الحاجة إليه فهو كالخنزير والخمر إذا أحللناهما بالضرورة فلا يلتحق بالطيبات
مسألة إذا كان الحرام أو الشبهة في يد أبويه فليمتنع عن مؤاكلتهما فإن كانا يسخطان فلا يوافقهما على الحرام المحض بل ينهاهما فلا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى فإن كان شبهة وكان امتناعه للورع فهذا قد عارضه أن الورع طلب رضاهما بل هو واجب فليتلطف في الامتناع فإن لم يقدر فليوافق وليقلل الأكل بأن يصغر اللقمة ويطيل المضغ ولا يتوسع فإن ذلك عدوان والأخ والأخت قريبان من ذلك لأن حقهما أيضاً مؤكد وكذلك إذا ألبسته أمه ثوباً من شبهة وكانت تسخط برده فليقبل وليلبس بين يديها ولينزع في غيبتها وليجتهد أن لا يصلي فيه إلا عند حضورها فيصلي فيه صلاة المضطر وعند تعارض أسباب الورع ينبغي أن يتفقد هذه الدقائق
وقد حكي عن بشر رحمه الله أنه سلمت إليه أمه رطبة وقالت بحقي عليك أن تأكلها وكان يكرهه فأكل ثم صعد غرفة فصعدت
_________
(1) حديث لا تقبل صلاة من عليه ثوب اشتراه بعشرة دارهم وفيها درهم حرام أخرجه احمد من حديث ابن عمر وقد تقدم
(2) حديث الجسد نبت من الحرام تقدم
(3) حديث أن رافع بن خديج مات وخلف ناضحاً وعبداً حجاما الحديث وفيه أعلفوه الناضح أخرجه أحمد والطبراني من رواية عباية بن رفاعة بن خديج أن جده حين مات ترك جارية وناضحا وغلاما حجاما الحديث وليس المراد بجده رافع بن خديج فإنه بقى إلى سنة أربع وسبعين فيحتمل أن المراد جده الأعلى وهو خديج ولم أر له ذكرا في الصحابة وفي رواية للطبراني عن عباية بن رفاعه عن أبيه قال مات أبى وفي رواية له عن عباية قال مات رفاعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وهو مضطرب(2/133)
أمه وراءه فرأته يتقيأ وإنما فعل ذلك لأنه أراد أن يجمع بين رضاها وبين صيانة المعدة
وقد قيل لأحمد بن حنبل سئل بشر هل للوالدين طاعة في الشبهة فقال لا فقال أحمد هذا شديد
فقيل له سئل محمد بن مقاتل العباداني عنها فقال بر والديك فماذا تقول فقال للسائل أحب أن تعفيني فقد سمعت ما قالا ثم قال ما أحسن أن تداريهما
مسألة من في يده مال حرام محض فلا حج عليه ولا يلزمه كفارة مالية لأنه مفلس ولا تجب عليه الزكاة إذ معنى الزكاة وجوب إخراج ربع العشر مثلاً وهذا يجب عليه إخراج الكل إما رداً على المالك إن عرفه أو صرفاً إلى الفقراء إن لم يعرف المالك وأما إذا كان مال شبهة يحتمل أنه حلال فإذا لم يخرجه من يده لزمه الحج لأن كونه حلالاً ممكن ولا يسقط الحج إلا بالفقر ولم يتحقق فقره وقد قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً وإذا وجب عليه التصدق بما يزيد على حاجته حيث يغلب على ظنه تحريمه فالزكاة أولى بالوجوب وإن لزمته كفارة فليجمع بين الصوم والإعتاق ليتخلص بيقين
وقد قال قوم يلزمه الصوم دون الإطعام إذ ليس له يسار معلوم
وقال المحاسبي يكفيه الإطعام
والذي نختاره أن كل شبهة حكمنا بوجوب اجتنابها وألزمناه إخراجها من يده لكون احتمال الحرام أغلب على ما ذكرناه فعليه الجمع بين الصوم والإطعام أما الصوم فلأنه مفلس حكماً وأما الإطعام فلأنه قد وجب عليه التصدق بالجميع ويحتمل أن يكون له فيكون اللزوم من جهة الكفارة
مسألة من في يده مال حرام امسكه للحاجة فأراد أن يتطوع بالحج فإن كان ماشياً فلا بأس له لأنه سيأكل هذا المال في غير عبادة فأكله في عبادة أولى
وإن كان لا يقدر على أن يمشي ويحتاج إلى زيادة للمركوب فلا يجوز الأخذ لمثل هذه الحاجة في الطريق كما لا يجوز شراء المركوب في البلد
وإن كان يتوقع القدرة على حلال لو أقام بحيث يستغني به عن بقية الحرام فالإقامة في انتظاره أولى من الحج ماشياً بالمال الحرام
مسألة من خرج لحج واجب بمال فيه شبهة فليجتهد أن يكون قوته من الطيب فإن لم يقدر في قوت الإحرام إلى التحلل فإن لم يقدر فليجتهد يوم عرفة أن لا يكون قيامه بين يدي الله ودعاؤه في وقت مطعمه حرام وملبسه حرام فليجتهد أن لا يكون في بطنه حرام ولا على ظهره حرام فإنا وإن جوزنا هذا بالحاجة فهو نوع ضرورة وما ألحقناه بالطيبات فإن لم يقدر فليلازم قلبه الخوف والغم لما هو مضطر إليه من تناول ما ليس بطيب فعساه ينظر إليه بعين الرحمة ويتجاوز عنه بسبب حزنه وخوفه وكراهته
مسألة سئل أحمد بن حنبل رحمة الله فقال له قائل مات أبي وترك مالاً وكان يعامل من تكره معاملته فقال تدع من ماله بقدر ما ربح فقال له دين وعليه دين فقال تقضي وتقتضى فقال افترى ذلك فقال أفتدعه محتبساً بدينه وما ذكره صحيح وهو يدل على أنه رأى التحري بإخراج مقدار الحرام إذ قال يخرج قدر الربح وائه رأى أن أعيان أمواله ملك له بدلاً عما بذله في المعاوضات الفاسدة بطريق التقاص والتقابل مهما كثر التصرف وعسر الرد وعول في قضاء دينه على أنه يقين فلا يترك بسبب الشبهة(2/134)
الباب الخامس في إدرارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم
اعلم أن من أخذ مالاً من سلطان فلا بد له من النظر في ثلاثة أمور في مدخل ذلك إلى يد السلطان من أين هو وفي صفته التي بها يستحق الأخذ
وفي المقدار الذي يأخذه هل يستحقه إذا أضيف إلى حاله وحال شركائه في الاستحقاق النظر الأول في جهات الدخل للسلطان
وكل ما يحل للسلطان سوى الإحياء وما يشترك فيه الرعية قسمان
مأخوذ من الكفار وهو الغنيمة المأخوذة بالقهر والفيء وهو الذي حصل من مالهم في يده من غير قتال والجزية وأموال المصالحة وهي التي تؤخذ بالشروط والمعاقدة
والقسم الثاني المأخوذ من المسلمين فلا يحل منه إلا قسمان المواريث وسائر الأمور الضائعة التي لا يتعين لها مالك والأوقاف التي لا متولي لها أما الصدقات فليست توجد في هذا الزمان
وما عدا ذلك من الخراج المضروب على المسلمين والمصادرات وأنواع الرشوة كلها حرام
فإذا كتب لفقيه أو غيره إدرار أو صلة أو خلعة على جهة فلا يخلو من أحوال ثمانية فإنه إما أن يكتب له ذلك على الجزية أو على المواريث أو على الأوقاف أو على ملك أحياء السلطان أو على ملك اشتراه أو على عامل خراج المسلمين أو على بياع من جملة التجار أو على الخزانة
فالأول هو الجزية وأربعة أخماسها للمصالح وخمسها لجهات معينة
فما يكتب على الخمس من تلك الجهات أو على الأخماس الأربعة لما فيه مصلحة وروعي فيه الاحتياط في القدر فهو حلال بشرط أن لا تكون الجزية إلا مضروبة على وجه شرعي ليس فيها زيادة على دينار أو على أربعة دنانير فإنه أيضا في محل الاجتهاد وللسلطان أن يفعل ما هو في محل الاجتهاد وبشرط أن يكون الذمي الذي تؤخذ الجزية منه مكتسباً من وجه لا يعلم تحريمه فلا يكون عامل سلطان ظالما ولا بياع خمر ولا صبياً ولا امرأة إذ لا جزية عليهما
فهذه أمور تراعى في كيفية ضرب الجزية ومقدارها وصفة من تصرف أليه ومقدار ما يصرف فيجب النظر في جميع ذلك
الثاني المواريث والأموال الضائعة فهي للمصالح والنظر أن الذي خلفه هل كان ماله كله حراماً أو أكثره أو أقله وقد سبق حكمه فإن لم يكن حراماً بقي النظر في صفة من يصرف إليه بأن يكون في الصرف إليه مصلحة ثم في المقدار المصروف
الثالث الأوقاف وكذا يجري النظر فيها كما يجري في الميراث مع زيادة أمر وهو شرط المواقف حتى يكون المأخوذ موافقاً له في جميع شرائطه
الرابع ما أحياه السلطان وهذا لا يعتبر فيه شرط إذ له أن يعطى من ملكه لمن شاء أي قدر شاء
وإنما النظر في أن الغالب أنه أحياه بإكراه الأجراء أو بأداء أجرتهم من حرام
فإن الإحياء يحصل بحفر القناة والأنهار وبناء الجدران وتسوية الأرض ولا يتولاه السلطان بنفسه
فإن كانوا مكرهين على الفعل لم يملكه السلطان وهو حرام وإن كانوا مستأجرين ثم قضيت أجورهم من الحرام فهذا يورث شبهة قد نبهنا عليها في تعلق الكرامة بالأعواض(2/135)
الخامس ما اشتراه السلطان في الذمة من أرض أو ثياب خلعة أو فرس أو غيره فهو ملكه وله أن يتصرف فيه ولكنه سيقضي ثمنه من حرام وذلك يوجب التحريم تارة والشبهة أخرى وقد سبق تفصيله
السادس أن يكتب على عامل خراج المسلمين أو من يجمع أمواله القسمة والمصادرة وهو الحرام السحت الذي لا شبهة فيه وهو أكثر الإدرارات في هذا الزمان إلا ما على أراضي العراق فإنها وقف عند الشافعي رحمه الله على مصالح المسلمين
السابع ما يكتب على بياع يعامل السلطان فإن كان لا يعامل غيره فماله له كمال خزانة السلطان
وإن كان يعامل غير السلاطين أكثر فما يعطيه قرض على السلطان وسيأخذ بدله من الخزانة فالخلل يتطرق إلى العوض
وقد سبق حكم الثمن الحرام
الثامن ما يكتب على الخزانة أو على عامل يجتمع عنده من الحلال والحرام فإن لم يعرف للسلطان دخل إلا من الحرام فهو سحت محض وإن عرف يقيناً أن الخزانة تشتمل على مال حلال ومال حرام واحتمل ان يكون ما يسلم إليه بعينه من الحلال احتمالاً قريباً له وقع في النفس واحتمل أن يكون من الحرام وهو الأغلب لأن أغلب أموال السلاطين حرام في هذه الأعصار والحلال في أيديهم معدوم أو عزيز فقد اختلف الناس في هذا فقال قوم كل ما لا أتيقن أنه حرام فلي أن آخذه وقال آخرون لا يحل أن يؤخذ مالم يتحقق أنه حلال فلا تحل شبهة أصلاً
وكلاهما إسراف والاعتدال ما قدمنا ذكره وهو الحكم بأن الأغلب إذا كان حراماً حرم وإن كان الأغلب حلالاً وفيه يقين حرام فهو موضع توقفنا فيه كما سبق
لقد احتج من جوز اخذ أموال السلاطين إذا كان فيها حرام وحلال مهما لم يتحقق أن عين المأخوذ حرام بما روي عن جماعة من الصحابة أنهم أدركوا أيام الأئمة الظلمة وأخذوا الأموال منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وجرير بن عبد الله وجابر وأنس بن مالك والمسور بن مخرمة
فأخذ أبو سعيد وأبو هريرة من مروان ويزيد بن عبد الملك
وأخذ ابن عمر وابن عباس من الحجاج
وأخذ كثير من التابعين منهم كالشعبي وإبراهيم والحسن وابن أبي ليلى
وأخذ الشافعي من هرون الرشيد ألف دينار في دفعة
وأخذ مالك من الخلفاء أموالاً جمة وقال علي رضي الله عنه خذ ما يعطيك السلطان فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر
وإنما ترك من ترك العطاء منهم تورعاً مخافة على دينه أن يحمل على مالا يحل
ألا ترى قول أبي ذر للأحنف بن قيس خذ العطاء ما كان نحلة فإذا كان أثمان دينكم فدعوه وقال أبو هريرة رضي الله عنه إذا أعطينا قبلنا وإذا منعنا لم نسأل
وعن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه كان إذا أعطاه معاوية سكت وإن منعه وقع فيه
وعن الشعبي عن مسروق لا يزال العطاء بأهل العطاء حتى يدخلهم النار أي يحمله ذلك على الحرام لا انه في نفسه حرام وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن المختار كان يبعث إليه المال فيقبله ثم يقول لا أسأل أحداً ولا أرد ما رزقني الله
وأهدى إليه ناقة فقبلها وكان يقال لها ناقة المختار ولكن هذا يعارضه ما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يرد هدية أحد إلا هدية المختار والإسناد في رده أثبت
وعن نافع أنه قال بعث ابن معمر إلى ابن عمر بستين ألفاً فقسمها على الناس ثم جاءه سائل فاستقرض له من بعض من أعطاه وأعطى السائل
ولما قدم الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه فقال لأجيزك بجائزة لم أجزها أحداً قبلك من العرب ولا أجيزها أحداً بعدك من العرب قال فأعطاه أربعمائة ألف درهم فأخذها
وعن حبيب(2/136)
ابن أبي ثابت قال لقد رأيت جائزة المختار لابن عمر وابن عباس فقبلاها فقيل ما هي قال مال وكسوة
وعن الزبير بن عدي أنه قال قال سلمان إذا كان لك صديق عامل أو تاجر يقارف الربا فدعاك إلى طعام أو نحوه أو أعطاك شيئاً فاقبل فإن المهنأ لك وعليه الوزر
فإن ثبت هذا في المربي فالظالم في معناه
وعن جعفر عن أبيه أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يقبلان جوائز معاوية
وقال حكيم بن جبير مررنا على سعيد بن جبير وقد جعل عاملاً على أسفل الفرات فأرسل إلى العشارين أطعمونا مما عندكم فأرسلوا بطعام فأكل وأكلنا معه وقال العلاء بن زهير الأزدي أتى إبراهيم أبي وهو عامل على حلوان فأجازه فقبل وقال إبراهيم لا بأس بجائزة العمال إن للعمال مؤنة ورزقاً
ويدخل بيت ماله الخبيث والطيب فما أعطاك فهو من طيب ماله
فقد أخذ هؤلاء كلهم جوائز السلاطين الظلمة وكلهم طعنوا على من أطاعهم في معصية الله تعالى
وزعمت هذه الفرقة أن ما ينقل من امتناع جماعة من السلف لا يدل على التحريم بل على الورع كالخلفاء الراشدين وأبي ذر وغيرهم من الزهاد فإنهم امتنعوا من الحلال المطلق زهداً ومن الحلال الذي يخاف إفضاؤه إلى محذور ورعاً وتقوى
فإقدام هؤلاء يدل على الجواز وامتناع أولئك لا يدل على التحريم
وما نقل عن سعيد بن المسيب أنه ترك عطاءه في بيت المال حتى اجتمع بضعة وثلاثين ألفاً وما نقل عن الحسن من قوله لا أتوضأ من ماء صيرفي ولو ضاق وقت الصلاة لأني لا أدري أصل ماله كل ذلك ورع لا ينكر واتباعهم عليه أحسن من اتباعهم على الاتساع ولكن لا يحرم اتباعهم على الاتساع أيضاً
فهذه هي شبهة من يجوز أخذ مال السلطان الظالم
والجواب أن ما نقل من أخذ هؤلاء محصور قليل بالإضافة إلى ما نقل من ردهم وإنكارهم وإن كان يتطرق إلى امتناعهم احتمال الورع فيتطرق إلى أخذ من أخذ ثلاثة احتمالات متفاوتة في الدرجة بتفاوتهم في الورع فإن للورع في حق السلاطين أربع درجات
الدرجة الأولى أن لا يأخذ من أموالهم شيئاً أصلاً كما فعله الورعون منهم وكما كان يفعله الخلفاء الراشدون حتى أن أبا بكر رضي الله عنه حسب جميع ما كان أخذه من بيت المال فبلغ ستة آلاف درهم فغرمها لبيت المال وحتى أن عمر رضي الله عنه كان يقسم مال بيت المال يوماً فدخلت ابنة له وأخذت درهماً من المال فنهض عمر في طلبها حتى سقطت الملحفة من أحد منكبيه ودخلت الصبية إلى بيت أهلها تبكي وجعلت الدرهم في فيها فأدخل عمر إصبعه فأخرجه من فيها وطرحه على الخراج وقال أيها الناس ليس لعمر ولا لآل عمر إلا ما للمسلمين قريبهم وبعيدهم
وكسح أبو موسى الأشعري بيت المال فوجد درهماً فمر بني لعمر رضي الله عنه فأعطاه إياه فرأى عمر ذلك في يد الغلام فسأله عنه فقال أعطانيه أبو موسى فقال
يا أبا موسى ما كان في أهل المدينة بيت أهون عليك من آل عمر أردت أن لا يبقى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد إلا طلبنا بمظلمة ورد الدرهم إلى بيت المال
هذا مع أن المال كان حلالاً ولكن خاف أن لا يستحق هو ذلك القدر فكان يستبريء لدينه ويقتصر على الأقل امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1)
ولقوله ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه (2)
ولما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من التشديدات في الأموال السلطانية حتى قال صلى الله عليه وسلم حين
_________
(1) حديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك تقدم في الباب الأول من الحلال والحرام
(2) حديث من تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه متفق عليه من حديث النعمان بن بشير وقد تقدم أوله في أول الباب الثاني من الحلال والحرام(2/137)
بعث عبادة بن الصامت إلى الصدقة اتق الله يا أبا الوليد لا تجيء يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تؤاج فقال يا رسول الله أهكذا يكون قال نعم والذي نفسي بيده إلا من رحم الله
قال فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على شيء أبداً (1)
وقال صلى الله عليه وسلم إني لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي إنما أخاف عليكم أن تنافسوا (2)
وإنما خاف التنافس في المآل
ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث طويل يذكر فيه مال بيت المال إني لم أجد نفسي فيه إلا كالوالى مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف
وروي أن ابناً لطاوس افتعل كتاباً عن لسانه إلى عمر بن عبد العزيز فأعطاه ثلثمائة دينار فباع طاوس ضيعة له وبعث من ثمنها إلى عمر بثلثمائة دينار هذا مع أن السلطان ليس مثل عمر بن عبد العزيز
فهذه الدرجة العليا في الورع
الدرجة الثانية هو أن يأخذ مال السلطان ولكن إنما يأخذ إذا علم أن ما يأخذه من جهة حلال فاشتمال يد السلطان على حرام آخر لا يضره وعلى هذا ينزل جميع ما نقل من الآثار أو أكثرها أو ما اختص منها بأكابر الصحابة والورعين منهم مثل ابن عمر فإنه كان من المبالغين في الورع فكيف يتوسع في مال السلطان وقد كان من أشدهم إنكاراً عليهم وأشدهم ذماً لأموالهم وذلك أنهم اجتمعوا عند ابن عامر وهو في مرضه وأشفق على نفسه من ولايته وكونه مأخوذاً عند الله تعالى بها فقالوا له إنا لنرجو لك الخير حفرت الآبار وسقيت الحاج وصنعت وصنعت وابن عمر ساكت فقال ماذا تقول يا ابن عمر فقال أقول ذلك إذا طاب المكسب وزكت النفقة وسترد فترى
وفي حديث آخر أنه قال إن الخبيث لا يكفر الخبيث وإنك قد وليت البصرة ولا أحسبك إلا قد أصبت منها شراً
فقال له ابن عامر ألا تدعو لي فقال ابن عمر سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا يقبل الله صلاة بغير طهورا ولا صدقة من غلول (3)
وقد وليت البصرة فهذا قوله فيما صرفه إلى الخيرات
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في أيام الحجاج ما شبعت من الطعام منذ انتهبت الدار إلى يومي هذا وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه فقيل أتفعل هذا بالعراق مع كثرة طعامه فقال أما إني لا أختمه بخلابه ولكن أكره أن يجعل فيه ما ليس منه وأكره أن يدخل بطني غير طيب فهذا هو المألوف منهم وكان ابن عمر لا يعجبه شيء إلا خرج عنه فطلب منه نافع بثلاثين ألفاً فقال إني أخاف أن تقتنى دراهم ابن عامر وكان هو الطالب اذهب فأنت حر
وقال أبو سعيد الخدري ما منا أحد إلا مالت به الدنيا إلا ابن عمر فبهذا يتضح أنه لا يظن به وبمن كان في منصبه أنه أخذ مالاً يدري أنه حلال
الدرجة الثالثة أن يأخذ ما أخذه من السلطان ليتصدق به على الفقراء أو يفرقه على المستحقين فإن ما لا يتعين مالكه هذا حكم الشرع فيه
فإذا كان السلطان إن لم يأخذ منه لم يفرقه واستعان به على ظلم فقد نقول أخذه منه وتفرقته أولى من تركه في يده وهذا قد رآه بعض العلماء وسيأتي وجهه
وعلى هذا ينزل ما أخذه أكثرهم ولذلك قال ابن المبارك إن الذين يأخذون الجوائز اليوم ويحتجون بابن عمر وعائشة ما يقتدون بهما لأن ابن عمر فرق ما أخذ حتى استقرض في مجلسه بعد تفرقته ستين ألفاً وعائشة فعلت مثل ذلك وجابر بن زيد جاءه مال فتصدق به وقال رأيت أن آخذه منهم وأتصدق أحب إلي من أن أدعها في أيديهم وهكذا فعل الشافعي رحمه الله بما قبله
_________
(1) حديث قيل العبادة بن الصامت حين بعثه إلى الصدقة اتق الله يا أبا الوليد لا تجيء يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك الحديث أخرجه الشافعي في المسند من حديث طاوس مرسلا ولأبي يعلى في المعجم من حديث ابن عمر مختصرا انه قاله لسعد بن عبادة وإسناده صحيح
(2) حديث إني لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي إنما أخاف عليكم أن تنافسوا متفق عليه من حديث عقبة بن عامر
(3) حديث لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول أخرجه مسلم من حديث ابن عمر(2/138)
من هرون الرشيد فإنه فرقه على قرب حتى لم يمسك لنفسه حبة واحدة
الدرجة الرابعة أن لا يتحقق انه حلال ولا يفرق بل يستبقي ولكن يأخذ من سلطان أكثر ماله حلال وهكذا كان الخلفاء في زمان الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعد الخلفاء الراشدين ولم يكن أكثر مالهم حراماً
ويدل عليه تعليل علي رضي الله عنه حيث قال فإن ما يأخذه من الحلال أكثر
فهذا مما قد جوزه جماعة من العلماء تعويلاً على الأكثر
ونحن إنما توقفنا فيه في حق آحاد الناس ومال السلطان أشبه بالخروج عن الحصر فلا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جواز أخذ ما لم يعلم أنه حرام اعتماداً على الأغلب وإنما منعناه إذا كان الأكثر حراماً فإذا فهمت هذه الدرجات تحققت أن ادرارات الظلمة في زماننا لا تجري مجرى ذلك وأنها تفارقه من وجهين قاطعين
أحدهما أن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها وكيف لا والحلال هو الصدقات والفيء والغنيمة لا وجود لها وليس يدخل منها شيء في يد السلطان ولم يبق إلا الجزية وأنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه والوفاء له بالشرط ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين ومن المصادرات والرشا وصنوف الظلم لم يبلغ عشر معشار عشيره
والوجه الثاني أن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين كانوا مستشعرين من ظلمهم ومتشوفين إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم وكانوا يبعثون إليهم من غير سؤال وإذلال بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم ويفرحون به وكانوا يأخذون منهم ويفرقون ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم ولا يكثرون جمعهم ولا يحبون بقاءهم بل يدعون عليهم ويطلقون اللسان فيهم وينكرون المنكرات منهم عليهم فما كان يحذر أن يصيبوا من دينهم بقدر ما أصابوا من دنياهم ولم يكن يأخذهم بأس فأما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم والتكثر بهم والاستعانة بهم على أغراضهم والتجمل بغشيان مجالسهم وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم
فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً وبالتردد في الخدمة ثانياً وبالثناء والدعاء ثالثاً وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوي أعماله سابعاً لم ينعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلاً فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يعلم أنه حرام أو يشك فيه فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين
ففي أخذ الأموال منهم حاجة إلى مخالطتهم ومراعاتهم وخدمة عمالهم واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم وكل ذلك معصية على ما سنبين في الباب الذي يلي هذا فإذا قد تبين مما تقدم مداخل أموالهم وما يحل منها وما لا يحل
فلو تصور أن يأخذ الإنسان منها ما يحل بقدر استحقاقه وهو جالس في بيته يساق إليه ذلك لا يحتاج فيه إلى تفقد عامل وخدمته ولا إلى الثناء عليهم وتزكيتهم ولا إلى مساعدتهم فلا يحرم الأخذ ولكن يكره لمعان وسننبه عليها في الباب الذي يلي هذا النظر الثاني من هذا الباب في قدر المأخوذ وصفة الآخذ
ولنفرض المال من أموال المصالح كأربعة أخماس الفيء والمواريث فإن ما عداه مما قد تعين مستحقه إن كان من وقف أو صدقة أو خمس فيء أو خمس غنيمة وما كان من ملك السلطان مما أحياه أو اشتراه فله أن يعطي(2/139)
ما شاء لمن شاء
وإنما النظر في الأموال الضائعة ومال المصالح فلا يجوز صرفه إلا إلى من فيه مصلحة عامة أو هو محتاج إليه عاجز عن الكسب فأما الغني الذي لا مصلحة فيه فلا يجوز صرف مال من بيت المال إليه هذا هو الصحيح وإن كان العلماء قد اختلفوا فيه
وفي كلام عمر رضي الله عنه ما يدل على أن لكل مسلم حقاً في بيت المال لكونه مسلماً مكثراً جمع الإسلام ولكنه مع هذا ما كان يقسم المال على المسلمين كافة بل على مخصوصين بصفات
فإذا ثبت هذا فكل من يتولى أمراً يقوم به تتعدى مصلحته إلى المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه فله في بيت المال حق الكفاية
ويدخل فيه العلماء كلهم أعني العلوم التي تتعلق بمصالح الدين من علم الفقه والحديث والتفسير والقراءة حتى يدخل فيه المعلمون والمؤذنون
وطلبة هذه العلوم أيضاً يدخلون فيه فإنهم إن لم يكفوا لم يتمكنوا من الطلب
ويدخل فيه العمال وهم الذين ترتبط مصالح الدنيا بأعمالهم وهم الأجناد المرتزقة الذين يحرسون المملكة بالسيوف عن أهل العداوة وأهل البغي وأعداء الإسلام
ويدخل فيه الكتاب والحساب والوكلاء وكل من يحتاج إليه في ترتيب ديوان الخراج أعني العمال على الأموال الحلال لا على الحرام فإن هذا المال للمصالح
والمصلحة إما أن تتعلق بالدين أو بالدنيا فبالعلماء حراسة الدين وبالأجناد حراسة الدنيا
والدين والملك توأمان فلا يستغني أحدهما عن الآخر
والطبيب وإن كان لا يرتبط بعلمه أمر ديني ولكن يرتبط به صحة الجسد والدين يتبعه فيجوز أن يكون له ولمن يجري مجراه في العلوم المحتاج إليها في مصلحة الأبدان أو مصلحة البلاد إدرار من هذه الأموال ليتفرغوا لمعالجة المسلمين أعني من يعالج منهم بغير أجرة وليس يشترط في هؤلاء الحاجة بل يجوز أن يعطوا مع من الغنى
فإن الخلفاء الراشدين كانوا يعطون المهاجرين والأنصار ولم يعرفوا بالحاجة
وليس يتقدر أيضاً بمقدار بل هو إلى اجتهاد الإمام وله أن يوسع ويغني وله أن يقتصر على الكفاية على ما يقتضيه الحال وسعة المال
فقد أخذ الحسن عليه السلام من معاوية في دفعة واحدة أربعمائة ألف درهم
وقد كان عمر رضي الله عنه يعطي لجماعة اثني عشر ألف درهم نقرة في السنة
وأثبتت عائشة رضي الله عنها في هذه الجريدة ولجماعة عشرة آلاف ولجماعة ستة آلاف وهكذا
فهذا مال هؤلاء فيوزع عليهم حتى لا يبقى منه شيء
فإن خص واحدا منه بمال كثير فلا بأس
وكذلك للسلطان أن يخص من هذا المال ذوي الخصائص بالخلع والجوائز فقد كان يفعل ذلك في السلف ولكن ينبغي أن يلتفت فيه إلى المصلحة
ومهما خص عالم أو شجاع بصلة كان فيه بعث للناس وتحريض على الاشتغال والتشبه به فهذه فائدة الخلع والصلات وضروب التخصيصات وكل ذلك منوط باجتهاد السلطان
وإنما النظر في السلاطين الظلمة في شيئين أحدهما أن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته وهو إما معزول أو واجب العزل فكيف يجوز أن يأخذ من يده وهو على التحقيق ليس بسلطان والثاني أنه ليس يعمم بماله جميع المستحقين فكيف يجوز للآحاد أن يأخذوا أفيجوز لهم الأخذ بقدر حصصهم أم لا يجوز أصلا أم يجوز أن يأخذ كل واحد ما أعطى
أما الأول: فالذي نراه أنه لا يمنع أخذ الحق لأن السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له كما تجب طاعة الأمراء إذ قد ورد في الأمر بطاعة الأمراء (1)
والمنع من سل اليد عن مساعدتهم // حديث المنع من سل اليد عن مساعدتهم أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية ولمسلم من حديث أبي هريرة من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية وله من حديث ابن عمر من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له
أوامر وزواجر
فالذي نراه أن الخلافة منعقدة للمتكفل
_________
(1) حديث الأمر بطاعة الأمراء أخرجه البخاري من حديث انس اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ولمسلم من حديث أبي هريرة عليك بالطاعة في منشطك ومكرهك الحديث وله من حديث أبي ذر أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع ولو لعبد مجدع الأطراف(2/140)
بها من بني العباس رضي الله عنه
وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد والمبايعين للخليفة وقد ذكرنا في كتاب المستظهري المستنبط من كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار تأليف القاضي أبي الطيب في الرد على أصناف الروافض من الباطنية ما يشير إلى وجه المصلحة فيه والقول الوجيز أنا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفاً إلى مزايا المصالح
ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأساً فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة
فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الخليفة
ومن استبد بالشوكة وهو مطيع للخليفة في أصل الخطبة والسكة فهو سلطان نافذ الحكم والقضاء في أقطار الأرض ولاية نافذة الأحكام
وتحقيق هذا قد ذكرناه في أحكام الإمامة من كتاب الاقتصاد في الاعتقاد فلسنا نطول الآن به
وأما الإشكال الآخر وهو أن السلطان إذا لم يعمم بالعطاء كل مستحق فهل يجوز للواحد أن يأخذ منه فهذا مما اختلف العلماء فيه على أربع مراتب فغلا بعضهم
وقال كل ما يأخذه فالمسلمون كلهم فيه شركاء ولا يدري أن حصته منه دانق أو حبة فليترك الكل وقال قوم له أن يأخذ قدر قوت يومه فقط فإن هذا القدر يستحقه لحاجته على المسلمين وقال قوم له قوت سنة فإن أخذ الكفاية كل يوم عسير وهو ذو حق في هذا المال فكيف يتركه وقال قوم
وقال قوم إنه يأخذ ما يعطى والمظلوم هم الباقون
وهذا هو القياس لأن المال ليس مشتركاً بين المسلمين كالغنيمة بين الغانمين ولا كالميراث بين الورثة لأن ذلك صار ملكاً لهم
وهذا لو لم يتفق قسمه حتى مات هؤلاء لم يجب التوزيع على ورثتهم بحكم الميراث
بل هذا الحق غير متعين وإنما يتعين بالقبض
بل هو كالصدقات ومهما أعطي الفقراء حصتهم من الصدقات وقع ذلك ملكاً لهم ولم يمتنع بظلم المالك بقية الأصناف بمنع حقهم هذا إذا لم يصرف إليه كل المال بل صرف إليه من المال ما لو صرف إليه بطريق الإيثار والتفضيل مع تعميم الآخرين لجاز له أن يأخذه والتفضيل جائز في العطاء
سوى أبو بكر رضي الله عنه فراجعه عمر رضي الله عنه فقال إنما فضلهم عند الله وإنما الدنيا بلاغ
وفضل عمر رضي الله عنه في زمانه فأعطى عائشة اثني عشر ألفاً وزينب عشرة آلاف وجويرية ستة آلاف وكذا صفية
وأقطع عمر لعلي خاصة رضي الله عنهما
وأقطع عثمان أيضاً من السواد خمس جنات وآثر عثمان علياً رضي الله عنهما بها فقبل ذلك منه ولم ينكر
وكل ذلك جائز في محل الاجتهاد وهو من المجتهدات التي أقول فيها إن كل مجتهد مصيب وهي كل مسألة لا نص على عينها ولا على مسألة تقرب منها فتكون في معناها بقياس جلي كهذه المسألة ومسألة حد الشرب فإنهم جلدوا أربعين وثمانين والكل سنة وحق وأن كل واحد من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مصيب باتفاق الصحابة رضي الله عنهم إذ المفضول ما رد في زمان عمر شيئاً إلى الفاضل مما قد كان أخذه في زمان أبي بكر ولا الفاضل امتنع من قبول الفضل في زمان عمر واشترك في ذلك كل الصحابة واعتقدوا أن كل واحد من الرأيين حق
فليؤخذ هذا الجنس دستورا للخلافات التي يصوب فيها كل مجتهد
فأما كل مسألة شذ عن مجتهد فيها نص أو قياس جلي بغفلة أو سوء رأي وكان في القوة بحيث ينقض حكم المجتهد فلا نقول فيها إن كل واحد مصيب بل المصيب من أصاب النص أو ما في معنى النص
وقد تحصل من مجموع هذا أن من وجد من أهل الخصوص الموصوفين بصفة تتعلق بها مصالح الدين أو الدنيا وأخذ من السلطان خلعة أو إدراراً على التركات أو الجزية لم يصر فاسقاً بمجرد أخذه وإنما يفسق بخدمته لهم ومعانته إياهم ودخوله(2/141)
عليهم وثنائه وإطرائه لهم إلى غير ذلك من لوازم لا يسلم المال غالباً إلا بها كما سنبينه
الباب السادس فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم وحكم غشيان
مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم
اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال
الحالة الأولى وهي شرها أن تدخل عليهم
والثانية وهي دونها أن يدخلوا عليك والثالثة وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك
أما الحالة الأولى وهي الدخول عليهم فهو مذموم جداً في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار فننقلها لتعرف ذم الشرع له ثم نتعرض لما يحرم منه وما يباح وما يكره على ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم
أما الأخبار فإنه لما وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمراء الظلمة قال فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد أن يسلم ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم (1)
وذلك لأن من اعتزلهم سلم من إممهم ولكن لم يسلم من عذاب يعمه معهم إن نزل بهم لتركه المنابذة والمنازعة
وقال صلى الله عليه وسلم سيكون من بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم يكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولم يرد علي الحوض (2)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء (3)
وفي الخبر خير الأمراء الذين يأتون العلماء وشر العلماء الذين يأتون الأمراء
وفي الخبر العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم (4)
رواه أنس رضي الله عنه
وأما الآثار فقد قال حذيفة إياكم ومواقف الفتن قيل وما هي قال أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه
وقال أبو ذر لسلمة يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه وقال سفيان في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك
وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً
وقال سمنون ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال عند الأمير
وكنت أسمع أنه يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم
وقال عبادة بن الصامت حب القاريء الناسك الأمراء نفاق وحبه الأغنياء رياء
وقال أبو ذر من كثر سواد قوم فهو منهم أي من كثر سواد الظلمة
وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين له قيل له ولم قال لأنه يرضيه بسخط الله
واستعمل عمر بن
_________
(1) حديث فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد يسلم ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بسند ضعيف وقال ومن خالطهم هلك
(2) حديث سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولم يرد على الحوض أخرجه النسائي والترمذي وصححه والحاكم من حديث كعب ابن عجرة
(3) حديث أبي هريرة أبغض القراء إلى الله عز وجل الذين يأتون الأمراء تقدم في العلم
(4) حديث انس العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء في ترجمة حفص الابرى وقال حديثه غير محفوظ تقدم في العلم(2/142)
عبد العزيز رجلاً فقيل كان عاملاً للحجاج فعزله فقال الرجل إنما عملت له شيء يسير فقال له عمر حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً
وقال الفضيل ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً
وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين وقال وهيب هؤلاء الذين يدخلون على الملوك لهم أضر على الأمة من المقامرين
وقال محمد بن سلمة الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء
ولما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه
عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعوا لك الله ويرحمك أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله تعالى {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل البغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى ظلمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالهم ويدخلون بك الشك على العلماء ويصادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} الآية وإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيء رادك فقد حضر سفر بعيد {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} والسلام
فهذه الأخبار والآثار تدل على ما في مخالطة السلاطين من الفتن وأنواع الفساد ولكن نفصل ذلك تفضيلا فقيها تميز فيه المحظور عن المكروه والمباح
فنقول الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى إما بفعله أو بسكوته وإما بقوله وإما باعتقاده فلا ينفك عن أحد هذه الأمور
أما الفعل فالدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى دور مغصوبة وتخطيها والدخول فيها بغير إذن الملاك حرام ولا يغرنك قول القائل إن ذلك مما يتسامح به الناس كتمرة أو فتات خبز ذلك صحيح في غير المغصوب أما المغصوب فلا
لأنه إن قيل إن كل جلسة خفيفة لا تنقص الملك فهي في محل التسامح وكذلك الاجتياز فيجري هذا في كل واحد فيجري أيضاً في المجموع والغصب إنما تم بفعل الجميع وإنما يتسامح به إذا انفرد إذ لو علم المالك به ربما لم يكرهه فأما إذا كان ذلك طريقاً إلى الاستغراق بالاشتراك فحكم التحريم ينسحب على الكل فلا يجوز أن يؤخذ ملك الرجل طريقاً اعتماداً على أن كل واحد من المارين إنما يخطو خطوة لا تنقص الملك لان المجموع مفتوت للملك وهو كضربة خفيفة في التعليم تباح ولكن بشرط الانفراد فلو اجتمع جماعة بضربات توجب القتل وجب القصاص على الجميع مع أن كل واحدة من الضربات لو انفردت لكانت لا توجب قصاصا
فإن فرض كون الظالم في موضع غير مغصوب كالموات مثلاً فإن كان تحت خيمة أو مظلة من ماله فهو حرام والدخول إليه غير جائز لأنه انتفاع بالحرام واستظلال به
فإن فرض كل ذلك حلالاً فلا يعصى بالدخول من حيث إنه دخول ولا بقوله السلام عليكم ولكن إن سجد أو ركع أو مثل قائماً في سلامه وخدمته كان مكرماً للظالم بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه والتواضع للظالم معصية
بل من تواضع لغني ليس يظالم لأجل غناه لا لمعنى آخر اقتضى التواضع نقص ثلثا دينه فكيف إذا تواضع للظالم فلا يباح إلا مجرد السلام فأما تقبيل اليد والانحناء في الخدمة فهو معصية إلا عند الخوف أو الأمام عادل أو لعالم أو لمن يستحق ذلك بأمر ديني
قبل(2/143)
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يد علي كرم الله وجهه لما أن لقيه بالشام فلم ينكر عليه
وقد بالغ بعض السلف حتى امتنع عن رد جوابهم في السلام والإعراض عنهم استحقاراً لهم وعد ذلك من محاسن القربات
فأما السكوت عن رد الجواب ففيه نظر لأن ذلك واجب فلا ينبغي أن يسقط بالظلم
فإن ترك الداخل جميع ذلك واقتصر على السلام فلا يخلو من الجلوس على بساطهم وإذا كان أغلب أموالهم حراماً فلا يجوز الجلوس على فرشهم هذا من حيث الفعل
فأما السكوت فهو أنه سيرى في مجلسهم من الفرش الحرير وأواني الفضة والحرير الملبوس عليهم وعلى غلمانهم ما هو حرام
وكل من رأى سيئة وسكت عليها فهو شريك في تلك السيئة
بل يسمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء والسكوت على جميع لك حرام بل يراهم لابسين الثياب الحرام وآكلين الطعام الحرام وجميع ما في أيديهم حرام والسكوت على ذلك غير جائز فيجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه إن لم يقدر بفعله
فإن قلت إنه يخاف على نفسه فهو معذور في السكوت فهذا حق ولكنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب مالا يباح إلا بعذر فإنه لو لم يدخل ولم يشاهد لم يتوجه عليه الخطاب بالحسبة حتى يسقط عنه بالعذر
وعند هذا أقول من علم فساداً في موضع وعلم أنه لا يقدر على إزالته فلا يجوز له أن يحضر ليجري ذلك بين يديه وهو يشاهده ويسكت بل ينبغي أن يحترز عن مشاهدته
وأما القول فهو أن يدعو للظالم أو يثني عليه أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله أو بتحريك رأسه أو باستبشار في وجهه أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه والحرص على طول عمره وبقائه فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام
أما الدعاء له فلا يحل إلا أن يقول أصلحك الله أو وفقك الله للخيرات أو طول الله عمرك في طاعته أو ما يجري هذا المجرى
فأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة مع الخطاب بالمولى وما في معناه فغير جائز قال صلى الله عليه وسلم من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه (1)
فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فسيذكر ما ليس فيه فيكون به كاذباً ومنافقاً ومكرماً لظالم وهذه ثلاث معاص
وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ ليغضب إذا مدح الفاسق (2)
وفي خبر آخر من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام (3)
فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول والتزكية والثناء على ما يعمل كان عاصيا بالتصديق والإعانة فإن التزكية والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيه كما أن التكذيب والذمة والتقبيح زجر عنه وتضعيف لدواعيه
والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة
ولقد سئل سفيان الثوري رضي الله عنه عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال لا دعه حتى يموت فإن ذلك إعانة له
وقال غيره يسقى إلى أن تثوب إليه نفسه ثم يعرض عنه
فإن جاوز ذلك إلى إظهار الحب والشوق إلى لقائه وطول بقائه فإن كان كاذباً عصى معصية الكذب والنفاق وإن كان صادقاً عصى بحبه بقاء الظالم وحقه أن يبغضه في الله ويمقته
فالبغض في الله واجب ومحب المعصية والراضي بها عاص ومن أحب ظالماً فإن أحبه لظلمه فهو عاص لمحبته وإن احبه لسبب آخر فهو عاص من حيث إنه لم يبغضه وكان الواجب عليه أن يبغضه
وإن اجتمع في شخص خير وشر وجب أن يحب لأجل ذلك الخير ويبغض لأجل ذلك الشر
وسيأتي
_________
(1) حديث من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه تقدم
(2) حديث إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق تقدم
(3) حديث من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام تقدم أيضا(2/144)
في كتاب الإخوة والمتحابين في الله وجه الجمع بين البغض والحب
فإن سلم من ذلك كله وهيهات فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة ويزدري نعم الله عليه ويكون مقتحماً نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا فإنها مسخطة للرزق (1)
وهذا مع ما فيه من اقتداء غيره به في الدخول ومن تكثيره سواد الظلمة بنفسه وتجميله إياهم إن كان ممن يتجمل به وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات
دعي سعيد بن المسيب إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان فقال
لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين (2)
فقال ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر فقال لا والله لا يتقدى بي أحد من الناس فجلد مائة وألبس المسوح
ولا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين أحدهما أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام وعلم أنه لو امتنع أوذى أو فسد عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية
والثاني أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً فهذا حكم الدخول
الحالة الثانية أن يدخل عليك السلطان الظالم زائرا فجواب السلام لا بد منه
وأما القيام والإكرام له فلا يحرم مقابلة له على إكرامه
فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للإحماد كما أنه بالظلم مستحق للإبعاد
فالإكرام بالإكرام والجواب بالسلام
ولكن الأولى أن لا يقوم إن كان معه في خلوة ليظهر له بذلك عز الدين وحقارة الظلم ويظهر غضبه للدين وإعراضه عمن أعرض عن الله فأعرض الله تعالى عنه
وإن كان الداخل عليه في جمع فمراعاة حشمة أرباب الولايات فيما بين الرعايا مهم فلا بأس بالقيام على هذه النية
وإن علم أن ذلك لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه فترك الإكرام بالقيام أولى ثم يجب عليه بعد أن وقع اللقاء أن ينصحه فإن كان قارف ما لا يعرف تحريمه وهو يتوقع أن يتركه إذا عرف فليعرفه فذلك واجب
وأما ذكر تحريم ما يعلم تحريمه من السرف والظلم فلا فائدة فيه بل عليه أن يخوفه فيما يرتكبه من المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر فيه
وعليه أن يرشده إلى طريق المصلحة إن كان يعرف طريقاً على وفق الشرع بحيث يحصل بها غرض الظالم من غير معصية ليصده بذلك عن الوصول إلى غرضه بالظلم
فإذاً يجب عليه التعريف في محل جهله والتخويف فيما هو مستجرئ عليه والإرشاد إلى ما هو غافل عنه مما يغنيه عن الظلم فهذه ثلاثة أمور تلزمه إذا توقع للكلام فيه أثراً وذلك أيضاً لازم على كل من اتفق له دخول على السلطان بعذر أو بغير عذر
وعن محمد بن صالح قال كنت عند حماد بن سلمة وإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ فيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ منها فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فإذا هو محمد بن سليمان فأذن له فدخل وجلس بين يديه ثم قال له مالى إذا رأيتك امتلأت منك رعباً قال حماد لأنه قال عليه السلام إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإن أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء (3)
ثم عرض عليه أربعين ألف درهم وقال تأخذها وتستعين بها قال ارددها على من ظلمته بها
_________
(1) حديث يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا فإنها مسخطة للرزق أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن الشخير أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أجدر أن لا تزدروا نعم الله عز وجل وقال صحيح الإسناد
(2) حديث دعى ابن المسيب إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك فقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيعتين أخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح من رواية يحيى بن سعيد
(3) حديث حماد بن سلمة مرفوعا إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإذا أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء هذا معضل وروى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من حديث واثلة بن الأسقع من خاف الله خوف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله خوفه الله من كل شيء وللعقيلي في الضعفاء نحوه من حديث أبي هريرة وكلاهما منكر(2/145)
قال والله ما أعطيتك إلا مما ورثته قال لا حاجة لي بها فتأخذها فتقسمها قال لعلي إن عدلت في قسمتها أخاف أن يقول بعض من لم يرزق منها إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم فازوها عني
الحالة الثالثة أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه وهو الواجب إذ لا سلامة إلا فيه فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم ولا يتقرب إلى المتصلين بهم ولا يتأسف على ما يفوت بسبب مفارقتهم وذلك إذا خطر بباله أمرهم وإن غفل عنهم فهو الأحسن
وإذا خطر بباله تنعمهم فليذكر ما قاله حاتم الأصم إنما بيني وبين الملوك يوم واحد فأما أمس فلا يجدون لذته وإني وإياهم في غد لعلى وجل وإنما هو اليوم وما عسى أن يكون في اليوم وما قاله أبو الدرداء إذ قال أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب ويلبسون ونلبس ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر معهم إليها وعليهم حسابها ونحن منها براء
وكل من أحاط علمه بظلم ظالم ومعصية عاص فينبغي أن يحط ذلك من درجته في قلبه
فهذا واجب عليه لأن من صدر منه ما يكره نقص ذلك من رتبته في القلب لا محالة
والمعصية ينبغي أن تكره فإنه إما أن يغفل عنها أو يرضى بها أو يكره ولا غفلة مع العلم ولا وجه للرضا فلا بد من الكراهة فليكن جناية كل أحد على حق الله كجنايته على حقك
فإن قلت الكراهة لا تدخل تحت الاختيار فكيف تجب قلنا ليس كذلك فإن المحب يكره بضرورة الطبع ما هو مكروه عند محبوبه ومخالف له فإن من لا يكره معصية الله لا يحب الله وإنما لا يحب الله من لا يعرفه والمعرفة واجبة والمحبة لله واجبة
وإذا أحبه كره ما كرهه واحب ما أحبه وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة والرضا
فإن قلت فقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول نعم تعلم الدخول منهم ثم ادخل كما حكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة فلما دخلها قال ائتوني برجل من الصحابة فقيل يا أمير المؤمنين قد تفانوا فقال من التابعين فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين ولكن قال السلام عليك يا هشام ولم يكنه وجلس بإزائه وقال كيف أنت يا هشام فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله فقيل له أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك فقال يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت قال وما الذي صنعت فازداد غضباً وغيظاً قال خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت كيف أنت يا هشام قال أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة أو ولده من رحمة وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب وأما قولك لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال يا يحيى يا عيسى وكنى أعداءه فقال {تبت يدا أبي لهب} وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام
فقال له هشام عظني فقال سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته
ثم قام وهرب
وعن سفيان الثوري رضي الله عنه قال أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى فقال لي ارفع إلينا حاجتك فقلت له اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً
قال فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال ارفع إلينا(2/146)
حاجتك فقلت إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال ارفع إلينا حاجتك فقلت حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه كم أنفقت قال بضعة عشر درهماً وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها وخرج فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم
ودخل ابن أبي شميلة على عبد الملك بن مروان فقال له تكلم فقال له إن الناس لا ينجون في القيامة من غصصها ومراراتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه فبكى عبد الملك وقال لأجعلن هذه الكلمة مثالاً نصب عيني ما عشت
ولمال استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عامر أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عنه أبو ذر وكان له صديقاً فعاتبه فقال أبو ذر
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول أن الرجل إذا ولى ولايته تباعد الله عنه (1)
ودخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال أيها الأمير قرأت في بعض الكتب إن الله تعالى يقول ما أحمق من سلطان وما أجهل ممن عصاني ومن اعز ممن اعتز بي أيها الراعي السوء دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركها عظاماً تتقعقع فقال له والي البصرة أندري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك قال لا قال قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في أيدينا
وكان عمر بن عبد العزيز واقفاً مع سليمان ابن عبد الملك فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره على مقدمة لرحل فقال له عمر هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه ثم نظر سليمان إلى الناس فقال ما أكثر الناس فقال عمر خصماؤك يا أمير المؤمنين فقال له سليمان ابتلاك الله بهم
وحكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان يا أبا حازم ما لنا نكره الموت فقال لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب فقال يا أبا حازم كيف القدوم على الله قال يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعري ما لي عند الله قال أبو حازم اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جحيم} قال فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين ثم قال سليمان يا أبا حازم أي عباد الله أكرم قال أهل البر والتقوى قال فأي الأعمال أفضل قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال فأي الكلام أسمع قال قول الحق عند من تخاف وترجوا قال فأي المؤمنين أكيس قال رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها قال فأي المؤمنين أخسر قال رجل خطا في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال سليمان ما تقول فيما نحن فيه قال أو تعفيني قال لا بد فإنها نصيحة تلقيها إلي قال يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا فلو شعرت مما قالوا وما قيل لهم فقال له رجل من جلسائه بئسما قلت قال أبو حازم إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه
قال وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد قال أن تأخذه من حله فتضعه في حقه فقال سليمان ومن يقدر على ذلك فقال من يطلب الجنة ويخاف من النار
فقال سليمان ادع لي
فقال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى فقال سليمان أوصني فقال أوصيك وأوجز عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك
وقال عمر
_________
(1) حديث أبي ذر أن الرجل إذا ولي ولاية تباعد الله عز وجل منه لم أقف له على أصل(2/147)
ابن عبد العزيز لأبي حازم عظني فقال اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن فلعل تلك الساعة قريبة
ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال تكلم يا أعرابي فقال يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته فقال يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا تأمن غشه فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه فقال الأعرابي يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال اساءوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأتمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤل عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره فقال له سليمان يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع سيفيك قال أجل يا أمير المؤمنين ولكن لك لا عليك
وحكي أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً ومن الآخرة إلا قرباً وعلى أثرك طالب لا تفوته وقد نصب لك علماً لا تجوزه فما أسرع ما تبلغ العلم وما أوشك ما يلحق بك الطالب وإنا وما نحن فيه زائل وفي الذي نحن إليه صائرون باق إن خيراً فخير وإن شراً فشر
فهكذا كان دخول أهل العلم على السلاطين أعني علماء الآخرة فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص ويستنبطون لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم
وإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في معرض الوعظ لم يكن قصدهم الإصلاح بل اكتساب الجاه والقبول عندهم
وفي هذا غروران يغتر بهم الحمقى أحدهما أن يظهر أن قصدي في الدخول عليهم إصلاحهم بالوعظ
وربما يلبسون على انفسهم بذلك وإنما الباعث لهم شهوة خفية للشهرة وتحصيل المعرفة عندهم وعلامة الصدق في طلب الإصلاح انه لو تولى ذلك الوعظ غيره ممن هو من أقرانه في العلم ووقع موقع القبول وظهر به أثر الصلاح فينبغي أن يفرح به ويشكر الله تعالى على كفايته هذا المهم كمن وجب عليه أن يعالج مريضا ضائعا فقام بمعاجلته غيره فإنه يعظم به فرحه
فإن كان يصادف في قلبه ترجيحاً لكلامه على كلام غيره فهو مغرور الثاني أن يزعم أني أقصد الشفاعة لمسلم في دفع ظلامة
وهذا أيضاً مظنة الغرور ومعياره ما تقدم ذكره
وإذا ظهر طريق الدخول عليهم فلنرسم في الأحوال العارضة في مخالطة السلاطين ومباشرة أموالهم مسائل
مسألة إذا بعث إليك السلطان مالاً لتفرقه على الفقراء فإن كان له مالك معين فلا يحل أخذه وإن لم يكن بل كان حكمه انه يحب التصدق به على المساكين كما سبق فلك أن تأخذه وتتولى التفرقة ولا تعصى بأخذه ولكن من العلماء من امتنع عنه فعند هذا ينظر في الأولى فنقول
الأولى أن تأخذه إن أمنت ثلاث غوائل
الغائلة الأولى أن يظن السلطان بسبب أخذك أن ماله طيب ولولا أنه طيب لما كنت تمد يدك إليه ولا تدخله في ضمانك فإن كان كذلك فلا تأخذه فإن ذلك محذور ولا يفي الخير في مباشرتك التفرقة بما يحصل لك من الجراءة على كسب الحرام
الغائلة الثانية أن ينظر إليك غيرك من العلماء والجهال فيعتقدون أنه حلال فيقتدون بك في الأخذ ويستدلون به(2/148)
على جوازه ثم لا يفرقون فهذا أعظم من الأول فإن جماعة يستدلون بأخذ الشافعي رضي الله عنه على جواز الأخذ ويغفلون عن تفرقته وأخذه على نية التفرقة فالمقتدي والمتشبه به ينبغي أن يحترز عن هذا غاية الاحتراز فإنه يكون فعله سبب ضلال خلق كثير
وقد حكى وهب بن منبه إن رجلاً أتي به إلى ملك بمشهد من الناس ليكرهه على أكل لحم الخنزير فلم يأكل فقدم إليه لحم غنم وأكره بالسيف فلم يأكل فقيل له في ذلك فقال إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير فإذا خرجت سالما وقد أكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون
ودخل وهب ابن منبه وطاوس على محمد بن يوسف أخي الحجاج وكان عاملاً وكان في غداة باردة في مجلس بارز فقال لغلامه هلم ذلك الطيلسان وألقه على أبي عبد الرحمن أي طاوس وكان قد قعد على كرسي فألقي عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه فغضب محمد بن يوسف فقال وهب كنت غنياً عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان وتصدقت به قال نعم لولا أن يقول من بعدي إنه أخذه طاوس ولا يصنع به ما أصنع به إذن لفعلت
الغائلة الثانية أن يتحرك قلبك إلى حبك لتخصيصه إياك وإثاره لك بما أنفذه إليك فإن كان كذلك فلا تقبل ذلك هو السم القاتل والداء الدفين أعني ما يحبب الظلمة إليك فإن من أحببته لا بد أن تحرص عليه وتداهن فيه
قالت عائشة رضي الله عنها جبلت النفوس على حب من أحسن إليها
وقال عليه السلام اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي (1)
بين صلى الله عليه وسلم إن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك
وروي أن بعض الأمراء أرسل إلى مالك بن دينار بعشرة آلاف درهم فأخرجها كلها فأتاه محمد بن واسع فقال ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق قال سل أصحابي فقالوا أخرجه كله فقال
أنشدك الله أقلبك أشد حباً له الآن أم قبل أن أرسل إليك لا بل الآن قال إنما كنت أخاف هذا
وقد صدق فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره وعزله ونكبته وموته وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم
قال سلمان وابن مسعود رضي الله عنهما من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده قال تعالى {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} قيل لا ترضوا بأعمالهم فإن كنت في القوة بحيث لا تزداد حبالهم بذلك فلا بأس بالأخذ
وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ أموالاً ويفرقها فقيل له ألا تخاف أن تحبهم فقال لو أخذ رجل بيدي وأدخلني الجنة ثم عصى ربه ما أحبه قلبي لأن ما الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكرا له على تصخيره إياه
وبهذا تبين أخذ المال الآن منهم وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم لأنه لا ينفك عن هذه الغوائل
مسألة إن قال قائل إذا جاز أخذ ماله وتفرقته فهل يجوز أن يسرق ماله أو تخفى وديعته وتنكر وتفرق على الناس فنقول ذلك غير جائز لأنه ربما يكون له مالك معين وهو على عزم أن يرده عليه وليس هذا كما لو بعثه إليك فإن العاقل لا يظن به أنه يتصدق بما يعلم مالكه فيدل تسليمه على أنه لا يعرف مالكه فإن كان ممن يشكل عليه مثله فلا يجوز أن يقبل منه المال مالم يعرف ذلك ثم كيف يسرق ويحتمل أن يكون ملكه قد حصل له بشراء في ذمته فإن اليد دلالة على الملك
فهذا لا سبيل إليه بل لو وجد لقطة وظهر أن صاحبها جندي واحتمل أن تكون له بشراء في الذمة أو غيره وجب الرد عليه
فإذاً لا يجوز سرقة مالهم لا منهم ولا ممن أودع عنده
ولا يجوز إنكار وديعتهم ويجب الحد على سارق ما لهم إلا إذا ادعى السارق أنه ليس ملكاً لهم فعند ذلك يسقط الحد بالدعوى
_________
(1) حديث اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي أخرجه ابن مردويه في التفسير من رواية كثير بن عطية عن رجل لم يسم ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث معاذ وأبو موسى المديني في كتاب تضييع العمر والأيام مرسلا وأسانيده كلها ضعيفة(2/149)
مسألة المعاملة معهم حرام لأن اكثر ما لهم حرام فما يؤخذ عوضاً فهو حرام فإن أدى الثمن من موضع يعلم حله فيبقى النظر فيما سلم إليهم فإن علم أنهم يعصون الله به كبيع الديباج منهم وهو يعلم أنهم يلبسونه فذلك حرام كبيع العنب من الخمار وإنما الخلاف فى الصحة وإن أمكن ذلك وأمكن أن يلبسها نساءه فهو شبهة مكروهه هذا فيما يعصى في عينه من الأموال
وفي معناه بيع الفرس منهم لا سيما في وقت ركوبهم إلى قتال المسلمين أو جباية أموالهم فإن ذلك إعانة لهم بفرسه وهي محظورة
فأما بيع الدراهم والدنانير منهم وما يجري مجراها مما لا يعصى في عينه بل يتوصل بها فهو مكروه لما فيه من إعانتهم على الظلم لأنهم يستعينون على ظلمهم بالأموال والدواب وسائر الأسباب وهذه الكراهة جارية في الإهداء إليهم وفي العمل لهم من غير أجرة حتى في تعليمهم وتعليم أولادهم الكناية والترسل والحساب وأما تعليم القرآن فلا يكره إلا من حيث أخذ الأجرة فإن ذلك حرام إلا من وجه يعلم حله ولو انتصب وكيلاً لهم يشتري لهم في الأسواق من غير جعل أو أجرة فهو مكروه من حيث الإعانة وإن اشترى لهم ما يعلم أنهم يقصدون به المعصية كالغلام والديباج للعرش واللبس والفرس للركوب إلى الظلم والقتل فذلك حرام
فمهما ظهر قصد المعصية بالمبتاع حصل التحريم ومهما لم يظهر واحتمل بحكم الحال ودلالتها عليه حصلت الكراهة
مسألة الأسواق التي بنوها بالمال الحرام تحرم التجارة فيها ولا يجوز سكناها فإن سكنها تاجر واكتسب بطريق شرعي لم يحرم كسبه وكان عاصياً بسكناه وللناس أن يشتروا منهم ولكن لو وجدوا سوقاً أخرى فالأولى الشراء منها فإن ذلك إعانة لسكناهم وتكثير لكراء حوانيتهم وكذلك معاملة السوق التي لا خراج لهم عليها أحب من معاملة سوق لهم عليها خراج وقد بالغ قوم حتى تحرزوا من معاملة الفلاحين وأصحاب الأراضي التي لهم عليها الخراج فإنهم ربما يصرفون ما يأخذون إلى الخراج فيحصل به الإعانة وهذا غلو في الدين وحرج على المسلمين فإن الخراج قد عم الأراضي ولا غنى بالناس عن إرتفاق الأرض ولا معنى للمنع منه ولو جاز هذا لحرم على المالك زراعة الأرض حتى لا يطلب خراجها
وذلك مما يطول ويتداعى إلى حسم باب المعاش
مسألة معاملة قضاتهم وعمالهم وخدمهم حرام كمعاملتهم بل أشد
أما القضاة فلأنهم يأخذون من أموالهم الحرام الصريح ويكثرون جمعهم ويغرون الخلق يزنهم فإنهم على زي العلماء ويختلطون بهم ويأخذون من أموالهم والطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بذوي الجاه والحشمة
فهم سبب انقياد الخلق إليهم
وأما الخدم والحشم فأكثر أموالهم من الغصب الصريح ولا يقع في أيديهم مال مصلحة وميراث وجزية ولا وجه حلال حتى تضعف الشبهة باختلاط الحلال بمالهم
قال طاوس لا أشهد عندهم وإن تحققت لأني أخاف تعديهم على من شهدت عليه
وبالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه ما يمالئ قراؤها أمراءها (1)
وإنما ذكر القراء لأنهم كانوا هم العلماء وإنما كان علمهم بالقرآن ومعانيه المفهومة بالسنة
وما وراء ذلك من العلوم فهي محدثة بعدهم
وقد قال سفيان لا تخالط السلطان ولا من يخالطه
وقال صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض
وقد صدق فإن رسول الله
_________
(1) حديث لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه مالم يمالئ قراؤها أمراءها أخرجه أبو عمرو الداني في كتاب الفتن من رواية الحسن مرسلا ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي وابن عمر بلفظ مالم يعظم أبرارها فجارها ويداهن خيارها شرارها وإسنادهما ضعيف(2/150)
صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة حتى العاصر والمعتصر (1)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (2)
وكذا رواه جابر وعمر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3)
وقال ابن سيرين لا تحلم للسلطان كتاباً حتى تعلم ما فيه وامتنع سفيان رحمه الله من مناولة الخليفة في زمانه دواة بين يديه وقال حتى أعلم ما تكتب بها فكل من حواليهم من خدمهم وأتباعهم ظلمة مثلهم يجب بغضهم في الله جميعا
روى عن عثمان بن زائدة أنه سأله رجل من الجند وقال أين الطريق فسكت وأظهر الصمم وخاف أن يكون متوجهاً إلى ظلم فيكون هو بإرشاده إلى الطريق معيناً
وهذه المبالغة لم تنقل عن السلف مع الفساق من التجار والحاكة والحجامين وأهل الحمامات والصاغة والصباغين وأرباب الحرف مع غلبة الكذب والفسق عليهم بل مع الكفار من أهل الذمة وإنما هذا في الظلمة خاصة الآكلين لأموال اليتامى والمساكين والمواظبين على إيذاء المسلمين الذين تعاونوا على طمس رسوم الشريعة وشعائرها
وهذا لأن المعصية تنقسم إلى لازمة ومتعدية والفسق لازم لا يتعدى وكذا الكفر وهو جناية على حق الله تعالى وحسابه على الله وأما معصية الولاة بالظلم وهو متعد فإنما يغلظ أمرهم لذلك وبقدر عموم الظلم وعموم التعدي يزدادون عند الله مقتاً فيجب أن يزداد منهم اجتناباً ومن معاملتهم احترازاً فقد قال صلى الله عليه وسلم يقال للشرطي دع سوطك وادخل النار (4)
وقال صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة رجال معهم سياط كأذناب البقر (5)
فهذا حكمهم ومن عرف بذلك منهم فقد عرف ومن لم يعرف فعلامته القباء وطول الشوارب وسائر الهيئات المشهورة
فمن رؤى على تلك الهيئة تعين اجتنابه ولا يكون ذلك من سوء الظن لأنه الذي جنى على نفسه إذ تزيا بزيهم ومساواة الزي تدل على مساواة القلب ولا يتجانن إلا مجنون ولا يتشبه بالفساق إلا فاسق نعم الفاسق قد يلتبس بأهل الصلاح فأما الصالح فليس له أن يتشبه بأهل الفساد لان ذلك تكثير لسوادهم وإنما نزل قوله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة المشركين بالمخالطة وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى يوشع ابن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال ما بال الأخيار قال إنهم لا يغضبون لغضبي فكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم
وبهذا يتبين أن بعض الظلمة والغضب لله عليهم واجب وروى ابن مسعود عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الله لعن علماء بني إسرائيل إذ خالطوا الظالمين في معاشهم (6)
_________
(1) حديث أن النبي صلى الله تعالى وعلى اله وسلم لعن في الخمر عشرة حتى العاصر والمعتصر أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث انس قال الترمذي حديث غريب
(2) حديث ابن مسعود آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم رواه مسلم وأصحاب السنن واللفظ للنسائي دون قوله وشاهده ولأبي داود لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه قال الترمذي وصححه وابن ماجه وشاهديه
(3) حديث جابر لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه قال هم سواء أخرجه مسلم من حديثه وأما حديث عمر فأشار إليه الترمذي بقوله وفي الباب ولابن ماجه من حديثه إن آخر ما أنزلت آية الربا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يفسرها فدعوا الربا والريبة وهو من رواية ابن المسيب عنه والجمهور على أنه لم يسمع منه
(4) حديث يقال للشرطي دع سوطك وادخل النار أخرجه أبو يعلى من حديث انس بسند ضعيف
(5) حديث من أشراط الساعة رجال معهم أسياط كأذناب البقر أخرجه احمد والحاكم وقال صحيح الأسناد من حديث أبي أمامة يكون في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر الحديث ولمسلم من حديث أبي هريرة يوشك أن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر وفي رواية له صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر الحديث
(6) حديث ابن مسعود لعن الله علماء بني إسرائيل إذ خالطوا الظالمين في معايشهم أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم لفظ الترمذي وقال حسن غريب(2/151)
مسألة المواضع التي بناها الظلمة كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة والورع الاحتراز ما أمكن وإن وجد عنه معدلاً تأكد الورع
وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلاً لأنه إذا لم يعرف الأعيان مالكاً كان حكمها أن ترصد للخيرات وهذا خير فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقل من دار معلومة أو مقبرة أو مسجد معين فهذا لا يحل العبور عليه أصلاً إلا لضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه
وأما المسجد فإن بني في أرض مغضوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو ملك معين فلا يجوز دخوله أصلاً ولا للجمعة بل لو وقف الإمام فيه فليصل هو خلف الإمام وليقف خارج المسجد فإن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط الفرض وتنعقد في حق الاقتداء فلذلك جوزنا للمقتدي الاقتداء بمن صلى في الأرض المغصوبة وإن عصى صاحبه بالوقوف في الغصب
وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة به لأنه يحتمل أن يكون من الملك الذي بناه ولو على بعد وإن لم يكن له مالك معين فهو لمصالح المسلمين
ومهما كان في المسجد الكبير بناء لسلطان ظالم فلا عذر لمن يصلي فيه مع اتساع المسجد أعني في الورع قيل لأحمد بن حنبل ما حجتك في ترك الخروج إلى الصلاة في جماعة ونحن بالعسكر فقال
حجتي أن الحسن وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهما الحجاج وأنا أخاف أن أفتن أيضاً
وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به في الصلاة وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه وأما البواري التي فرشوها فإن كان لها مالك معين فيحرم الجلوس عليها وإلا فبعد أن أرصدت لمصلحة عامة جاز افتراشها ولكن الورع العدول عنها فإنها محل شبهة
وأما السقاية فحكمها ما ذكرناه وليس عن الورع الوضوء والشرب منها والدخول إليها إذا كان يخاف فوات الصلاة فيتوضأ وكذا مصانع طريق مكة
وأما الرباطات والمدارس فإن كانت رقبة الأرض مغصوبة أو الآجر منقولاً من موضع معين يمكن الرد إلى مستحقه فلا رخصة للدخول فيه وإن التبس المالك فقد أرصد لجهة من الخير والورع اجتنابه ولكن لا يلزم الفسق بدخوله
وهذه الأبنية إن أرصدت من خدم السلاطين فالأمر فيها أشد إذ ليس لهم صرف الأموال الضائعة إلى المصالح ولأن الحرام أغلب على أموالهم إذ ليس لهم أخذ مال المصالح وإنما يجوز ذلك للولاة وأرباب الأمر
مسألة الأرض المغصوبة إذا جعلت شارعاً لم يجز أن يتخطى فيه البتة وإن لم يكن له مالك معين جاز والورع العدول إن أمكن فإن كان الشارع مباحاً وفوقه ساباط جاز العبور وجاز الجلوس تحت الساباط على وجه لا يحتاج فيه إلى السقف كما يقع في الشارع لشغل فإذا انتفع بالسقف في دفع حر الشمس أو المطر أو غيره فهو حرام لأن السقف لا يراد إلا لذلك وهكذا حكم من يدخل مسجداً أو أرضا مناحة سقف أو حوط بغصب فإنه بمجرد التخطي لا يكون منتفعاً بالحيطان والسقف إلا إذا كان له فائدة في الحيطان والسقف لحر أو برد تستر عن بصر أو غيره فذلك حرام لأنه انتفاع بالحرام إذا لم يحرم الجلوس على الغصب لما فيه من المماسة بل للانتفاع والأرض تراد للاستقرار عليها والسقف للاستظلال به فلا فرق بينهما(2/152)
الباب السابع في مسائل متفرقة يكثر مسيس الحاجة إليها وقد سئل عنها
في الفتاوي
مسألة سئل عن خادم الصوفية يخرج إلى السوق ويجمع طعاماً أو نقداً ويشتري به طعاماً فمن الذي يحل له أن يأكل منه وهل يختص بالصوفية أم لا أما الصوفية فلا شبهة في حقهم إذا أكلوه وأما غيرهم فيحل لهم إذا أكلوه برضا الخادم ولكن لا يخلو عن شبهة أما الحل فلأن ما يعطى خادم الصوفية إنما يعطى بسبب الصوفية وله أن يطعم غير العيال إذ يبعد أن يقال لم يخرج عن ملك المعطي ولا يتسلط الخادم على الشراء به التصرف فيه لأن ذلك مصير إلى أن المعاطاة لا تكفي وهو ضعيف ثم لا صائر إليه في الصدقات والهدايا ويبعد أن يقال زال الملك إلى الصوفية الحاضرين الذين هم وقت سؤاله في الخانقاه إذ لا خلاف أن له يطعم منه من يقدم بعدهم ولو ماتوا كلهم أو واحد منهم لا يجب صرف نصيبه إلى وارثه ولا يمكن أن يقال إنه وقع لجهة التصوف ولا يتعين له مستحق لأن إزالة الملك إلى الجهة لا توجب تسليط الآحاد على التصرف فإن الداخلين فيه لا ينحصرون بل يدخل فيه من يولد إلى يوم القيامة وإنما يتصرف فيه الولاة والخادم لا يجوز له أن ينتصب نائباً عن الجهة فلا وجه إلا أن يقال هو ملكه وإنما يطعم الصوفية بوفاء شرط التصوف والمروءة فإن منعهم عنه منعوه عن أن يظهر نفسه في معرض التكفل بهم حتى ينقطع وقفه كما ينقطع عمن مات عياله
مسألة سئل عن مال أوصى به للصوفية فمن الذي يجوز أن يصرف إليه فقلت التصوف أمر باطن لا يطلع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي والضابط الكلي أن كل من هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكراً عندهم فهو داخل في غمارهم
والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات الصلاح والفقر وزي الصوفية وأن لا يكون مشتغلاً بحرفة وأن يكون مخالطاً لهم بطريق المساكنة في الخانقاه
ثم بعض هذه الصفات مما يوجب زوالها زوال الاسم وبعضها ينجبر بالبعض فالفسق يمنع الاستحقاق لأن الصوفي بالجملة عبارة عن رجل من أهل الصلاح بصفة مخصوصة فالذي يظهر فسقه وإن كان على زيهم لا يستحق ما أوصى به للصوفية ولسنا نعتبر فيه الصغائر
وأما الحرفة والاشتغال بالكسب فإنه يمنع هذا الاستحقاق فالدهقان والعامل والتاجر والصانع في حانوته أو داره والأجير الذي يخدم بأجرة كل هؤلاء لا يستحقون ما أوصى به للصوفية ولا ينجبر هذا بالزي والمخالطة فأما الوراقة والخياطة وما يقرب منهما مما يليق بالصوفية تعاطيها فإذا تعاطاها لا في حانوت ولا على جهة اكتساب وحرفة فذلك لا يمنع الاستحقاق وكان ذلك ينجبر بمساكنته إياهم مع بقية الصفات وأما القدرة على الحرف من غير مباشرة فلا تمنع وأما الوعظ والتدريس فلا ينافى اسم التصوف إذا وجدت بقية الخصال من الزي والمساكنة والفقر إذ لا يتناقض أن يقال صوفي مقرئ وصوفي واعظ وصوفي عالم أو مدرس ويتناقض أن يقال صوفي تاجر وصوفي عامل وأما الفقر فإن زال بغنى مفرط ينسب الرجل إلى الثروة الظاهرة فلا يجوز معه أخذ وصية الصوفية وإن كان له مال ولا يفي دخله بخرجه لم يبطل حقه وكذا إذا كان له مال قاصر عن وجوب الزكاة وإن لم يكن له خرج وهذه أمور لا دليل لها إلا العادات
وأما المخالطة لهم ومساكنتهم فلها أثر ولكن من لا يخالطهم وهو في داره أو في مسجد على زيهم ومتخلق بأخلاقهم فهو شريك في سهمهم وكأن ترك المخالطة يجبرها ملازمة الزي فإن لم يكن على زيهم ووجد فيه بقية الصفات(2/153)
فلا يستحق إلا إذا كان مساكناً لهم في الرباط فينسحب عليه حكمهم بالتبعية
فالمخالطة والزي ينوب كل واحد منهما عن الآخر
والفقيه الذي ليس على زيهم هذا حكمه فإن كان خارجاً لم يعد صوفياً وإن كان ساكناً معهم ووجدت بقية الصفات لم يبعد أن ينسحب بالتبعية عليه حكمهم
وأما لبس المرقعة من يد شيخ من مشايخهم فلا يشترط ذلك في الاستحقاق وعدمه لا يضره مع وجود الشرائط المذكورة
وأما المتأهل المتردد بين الرباط والمسكن فلا يخرج بذلك عن جملتهم
مسألة ما وقف على رباط الصوفية وسكانه فالأمر فيه أوسع مما أوصى لهم به لأن معنى الوقف الصرف إلى مصالحهم فلغير الصوفي أن يأكل معهم برضاهم على مائدتهم مرة أو مرتين فإن أمر الأطعمة مبناه على التسامح حتى جاز الانفراد بها في الغنائم المشتركة وللقوال أن يأكل معهم في دعوتهم من ذلك الوقف وكان ذلك من مصالح معايشهم وما أوصى به للصوفية لا يجوز أن يصرف إلى قوال الصوفية بخلاف الوقف وكذلك من أحضروه من العمال والتجار والقضاة والفقهاء ممن لهم غرض في استمالة قلوبهم يحل لهم الأكل برضاهم فإن الواقف لا يقف إلا معتقداً فيه ما جرت به عادات الصوفية فينزل على العرف ولكن ليس هذا على الدوام فلا يجوز لمن ليس صوفياً أن يسكن معهم على الدوام ويأكل وإن رضوا به إذ ليس لهم تغيير شرط الواقف بمشاركة غير جنسهم
وأما الفقيه إذا كان على زيهم وأخلاقهم فله النزول عليهم وكونه فقيهاً لا ينافي كونه صوفياً والجهل ليس بشرط في التصوف عند من يعرف التصوف ولا يلتفت إلى خرافات بعض الحمقى بقولهم إن العلم حجاب فإن الجهل هو الحجاب
وقد ذكرنا تأويل هذه الكلمة في كتاب العلم وأن الحجاب هو العلم المذموم دون المحمود وذكرنا المحمود والمذموم وشرحهما
وأما الفقيه إذا لم يكن على زيهم وأخلاقهم فلهم منعه من التزول عليهم فإن رضوا بنزوله فيحل له الأكل معهم بطريق التبعية فكان عدم الزي تجبره المساكنة ولكن برضا أهل الزي وهذه أمور تشهد لها العادات وفيها أمور متقابلة لا يخفى أطرافها في النفي والإثبات ومتشابه أوساطها فمن احترز في مواضع الاشتباه فقد استبرأ لدينه كما نبهنا عليه في أيواب الشبهات
مسألة سئل عن الفرق بين الرشوة والهدية مع أن كل واحد منهما يصدر عن الرضا ولا يخلو عن غرض وقد حرمت إحداهما دون الأخرى
فقلت باذل المال لا يبذله قط إلا لغرض ولكن الغرض إما آجل كالثواب وإما عاجل والعاجل إما مال وإما فعل وإعانة على مقصود معين وإما تقرب إلى قلب المهدي إليه بطلب محبته إما للمحبة في عينها وإما للتوصل بالمحبة إلى غرض وراءها فالأقسام الحاصلة من هذه خمسة
الأول ما غرضه الثواب في الآخرة وذلك إما أن يكون لكون المصروف إليه محتاجاً أو عالماً أو منتسباً بنسب ديني أو صالحاً في نفسه متديناً
فما علم الآخذ أنه يعطاه لحاجته لا يحل له أخذه إن لم يكن محتاجاً وما علم أنه يعطاه لشرف نسبه لا يحل له أن علم أنه كاذب في دعوى النسب وما يعطى لعلمه فلا يحل له أن يأخذه إلا أن يكون في العلم كما يعتقده المعطي فإن كان خيل إليه كمالاً في العلم حتى بعثه بذلك على التقرب ولم يكن كاملاً لم يحل له وما يعطى لدينه وصلاحه لا يحل له أن يأخذه إن كان فاسقاً في الباطن فسقاً لو علمه المعطي ما أعطاه
وقلما يكون الصالح بحيث لو انكشف باطنه لبقيت القلوب مائلة إليه وإنما ستر الله الجميل هو الذي يحبب الخلق إلى الخلق
وكان المتورعون يوكلون في الشراء من لا يعرف أنه وكيلهم حتى لا يتسامحوا في المبيع خيفة من أن يكون ذلك أكلاً بالدين فإن ذلك مخطر والتقي خفي لا كالعلم والنسب والفقر فينبغي أن يجتنب الأخذ بالدين ما أمكن(2/154)
القسم الثاني ما يقصد به في العاجل غرض معين كالفقير يهدي إلى الغني طعما في خلعته فهذه هبة بشرط الثواب لا يخفى حكمها وإنما تحل عند الوفاء بالثواب المطموع فيه وعند وجود شروط العقود
الثالث أن يكون المراد إعانة بفعل معين كالمحتاج إلى السلطان يهدي إلى وكيل السلطان وخاصته ومن له مكانة عنده فهذه هدية بشرط ثواب يعرف بقرينة الحال فلينظر في ذلك العمل الذي هو الثواب فإن كان حراماً كالسعي في تنجيز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غيره حرم الأخذ وإن كان واجباً كدفع ظلم متعين على كل من يقدر عليه أو شهادة متعينة فيحرم عليه ما يأخذه وهي الرشوة التي لا يشك في تحريمها وإن كان مباحاً لا واجباً ولا حراماً وكان فيه تعب بحيث لو عرف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال معها وفي الغرض وهو جار مجرى الجعالة كقوله أوصل هذه القصة إلى يد فلان أو يد السلطان ولك دينار وكان بحيث يحتاج إلى تعب وعمل متقوم أو قال اقترح على فلان أن يعينني في غرض كذا أو ينعم علي بكذا وافتقر في تنجيز غرضه إلى كلام طويل فذلك جعل كما يأخذه الوكيل بالخصومة بين يدي القاضي فليس بحرام إذا كان لا يسعى في حرام وان كان مقصود يحصل بكلمة لا تعب فيها ولكن تلك الكلمة من ذي الجاه أو تلك الفعلة من ذي الجاه تفيد كقوله للبواب لا تغلق دونه باب السلطان أو كوضعه قصة بين يدي السلطان فقط فهذا حرام لأنه عوض من الجاه ولم يثبت في الشرع جواز ذلك بل ثبت ما يدل على النهي عنه كما سيأتي في هدايا الملوك وإذا كان لا يجوز العوض عن إسقاط الشفعة والرد بالعيب ودخول الأغصان في هواه الملك وجملة من الأعراض مع كونها مقصودة فكيف يؤخذ عن الجاه ويقرب من هذا أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء ينفرد بمعرفته كواحد ينفرد بالعلم بنبت يقلع البواسير أو غيره فلا يذكره إلا بعوض فإن عمله بالتلفظ غير متقوم كحبة من سمسم فلا يجوز أخذ العوض عليه ولا على علمه
إذ ليس ينتقل علمه إلى غيره وإنما يحصل لغيره مثل علمه ويبقى هو عالماً به ودون هذا الحاذق في الصناعة كالصيقلي مثلاً الذي يزيل اعوجاج السيف أو المرآة بدقة واحدة لحسن معرفته بموضع الخلل ولحذقه بإصابته فقد يزيد بدقة واحدة مال كثير في قيمة السيف والمرآة فهذا لا أرى بأساً بأخذ الأجرة عليه لأن مثل هذه الصناعات يتعب الرجل في تعلمها ليكتسب بها ويخفف عن نفسه كثرة العمل
الرابع ما يقصد به المحبة وجلبها من قبل المهدي إليه لا لغرض معين ولكن طلباً للاستئناس وتأكيد للصحبة وتودداً إلى القلوب فذلك مقصود للعقلاء ومندوب إليه في الشرع قال صلى الله عليه وسلم تهادوا تحابوا // حديث تهادوا تحابوا أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة وضعفه ابن عدي
وعلى الجملة فلا يقصد الإنسان في الغالب أيضاً محبة غيره لعين المحبة بل لفائدة في محبته ولكن إذا لم تتعين تلك الفائدة ولم يتمثل في نفسه غرض معين يبعثه في الحال أو المآل سمي ذلك هدية وحل أخذها
الخامس أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته لا لمحبته ولا للأنس به من حيث إنه أنس فقط بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها وكان لولا جاهه وحشمته لكان لا يهدي إليه فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب فالأمر فيه أخف وأخذه مكروه فإن فيه مشابهة الرشوة ولكنها هدية في ظاهرها فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية حتى ولاية الأوقاف مثلاً وكان لولا تلك الولاية لكان لا يهدي إليه فهذه رشوة عرضت في معرض الهدية إذ القصد(2/155)
بها في الحال طلب التقرب واكتساب المحبة ولكن الأمر ينحصر في جنسه إذ ما يمكن التوصل إليه بالآيات لا يخفى وآية أنه لا يبغي المحبة أنه لو ولى في الحال غيره لسلم المال إلى ذلك الغير فهذا مما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة واختلفوا في كونه حراماً والمعنى فيه متعارضاً فإنه دائر بين الهدية المحصنة وبين الرشوة المبذولة في مقابلة جاه في غرض معين وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحمدهما تعين الميل إليه وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زمان يستحل فيه السحت بالهدية والقتل بالموعظة يقتل البريء لتوعظ به العامة (1) وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت فقال يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية ولعله أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها أو تبرع بها لا على قصد أجرة فلا يجوز أن يأخذ بعده شيئاً في معرض العوض شفع مسروق شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها وسئل طاوس عن هدايا السلطان فقال سحت وأخذ عمر رضي الله عنه ربح مال القراض الذي أخذه ولداه من بيت المال وقال إنما أعطيتما لمكانكما مني إذ علم أنهما أعطيا لأجل جاه الولاية وأهدت امرأة أبي عبيدة بن الجراح إلى خاتون ملكة الروم خلوقاً فكافأتها بجوهر فأخذه عمر رضي الله عنه فباعه وأعطاها ثمن خلوقها ورد باقيه إلى بيت مال المسلمين وقال جابر وأبو هريرة رضي الله عنهما هدايا الملوك غلول ولما رد عمر بن عبد العزيز الهدية قيل له كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل الهدية فقال كان ذلك له هدية وهو لنا رشوة (2) أي كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته ونحن إنما نعطى للولاية وأعظم من ذلك كله ما روى أبو حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث والياً على صدقات الأزد فلما جاء إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك بعض ما معه وقال هذا لكم وهذا لي هدية فقال عليه السلام ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً ثم قال مالي أستعمل الرجل منكم فيقول هذا لكم وهذا لي هدية ألا جلس في بيت أمه ليهدى له والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئاً بغير حقه إلا أتى الله يحمله فلا يأتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت (3) وإذا ثبتت هذه التشديدات فالقاضي والولي ينبغي أن يقدر نفسه في بيت أمه وأبيه فما كان يعطى بعد العزل وهو في بيت أمه يجوز له أن يأخذه في ولايته وما يعلم أنه إنما يعطاه لولايته فحرام أخذه وما أشكل عليه في هدايا أصدقائه أنهم هل كانوا يعطونه لو كان معزولاً فهو شبهة فليجتنبه تم كتاب الحلال والحرام بحمد الله ومنه وحسن توفيقه والله أعلم
_________
(1) حديث يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية والقتل بالموعظة يقتل البريء ليوعظ به العامة لم أقف له على أصل
(2) حديث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل الهدية أخرجه البخاري من حديث عائشة
(3) حديث أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث واليا إلى صدقات الأزد فلما جاء قال مالكم وهذا هدية لي الحديث متفق(2/156)
كِتَابُ آدَابِ الْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ مَعَ أصناف الخلق
وهو الكتاب الخامس من ربع العادات الثاني بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتناناً وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخواناً ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء وأخداناً وفي الآخرة رفقاء وخلاناً
والصلاة والسلام على محمد المصطفى وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً وفعلاً وعدلاً وإحساناً
أما بعد فإن التحاب في الله تعالى والأخوة في دينه من أفضل القربات وألطف ما يستفاد من الطاعات في مجاري العادات ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى وفيها حقوق بمراعاتها تصفو الأخوة عن شوائب الكدورات ونزغات الشيطان فبالقيام بحقوقها يتقرب إلى الله زلفى وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى ونحن نبين مقاصد هذا الكتاب في ثلاثة أبواب
الباب الأول في فضيلة الألفة والأخوة في الله تعالى وشروطها ودرجاتها وفوائدها
الباب الثاني في حقوق الصحبة وآدابها وحقيقتها ولوازمها
الباب الثالث في حق المسلم والرحم والجوار والملك وكيفية المعاشرة مع من قد بلي بهذه الأسباب
الباب الأول في فضيلة الألفة والأخوة وفي شروطها ودرجاتها وفوائدها فَضِيلَةُ الْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ
اعْلَمْ أَنَّ الْأُلْفَةَ ثَمَرَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّفَرُّقَ ثَمَرَةُ سُوءِ الْخُلُقِ فَحُسْنُ الْخُلُقِ يُوجِبُ التَّحَابَّ وَالتَّآلُفَ وَالتَّوَافُقَ وَسُوءُ الْخُلُقِ يثمر التباغض والتحاسد والتدابر ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة وحسن الخلق لا تخفى فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ وَهُوَ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ {وإنك لعلى خلق عظيم} وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ (1) وَقَالَ أسامة بن شريك قلنا يا رسول الله ما خير ما أعطى الإنسان فقال خلق حسن (2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ محاسن الأخلاق (3) وقال صلى الله عليه وسلم أثقل ما يوضع في الميزان خلق حسن (4) وقال صلى الله عليه وسلم ما حسن الله خلق امريء وخلقه فيطعمه النار (5) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هريرة عليك بحسن الخلق
_________
(1) حديث أول ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق أخرجه الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح الإسناد وقد تقدم
(2) حديث أسامة بن شريك يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان قال خلق حسن أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح
(3) حديث بعثت لأتمم مكارم الأخلاق رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة
(4) حديث أثقل ما يوضع في الميزان خلق حسن رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء وقال حسن صحيح
(5) حديث ما حسن الله خلق امريء وخلقه فتطعمه النار أخرجه ابن عدي والطبراني في مكارم الأخلاق وفي الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة قال ابن عدي في إسناده بعض النكرة(2/157)
قال أبو هريرة رضي الله عنه وما حسن الخلق يا رسول الله قال تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك (1)
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ثَمَرَةَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ الْأُلْفَةُ وانقطاع الوحشة ومهما طاب المثمر طابت الثمرة وكيف وَقَدْ وَرَدَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِ الْأُلْفَةِ سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الرَّابِطَةُ هِيَ التَّقْوَى وَالدِّينَ وَحُبَّ اللَّهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُظْهِرًا عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} وقال {فأصبحتم بنعمته إخواناً} أي بالألفة ثم ذم التفرقة وزجر عنها فقال عز من قائل واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا إلى لعلكم تهتدون وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مني مجلساً أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يؤلف حديث والمؤمن آلِفٌ مَأْلُوفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ ولا يؤلف رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد والحاكم من حديث أبي هريرة وصححه (3) حديث من أراد الله به خيرا رزقه أخا صَالِحًا إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ غريب بهذا اللفظ والمعروف أن ذلك في الأمير ورواه أبو داود من حديث عائشة إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه الحديث ضعفه ابن عدي ولأبي عبد الرحمن السلمى في آداب الصحبة من حديث على من سعادة المرء أن يكون إخوانه صالحين (4) حديث مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحدهما الأخرى الحديث رواه السلمى في آداب الصحبة وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث انس وفيه احمد بن محمد بن غالب الباهلي كذاب وهو من قول سلمان الفارسي في الأول من الحزبيات (5) حديث من آخى أخا في الله عز وجل رفعه الله درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان من حديث أنس ما أحدث عبد أخاً في الله إلا أحدث الله له درجة في الجنة وإسناده ضعيف (6) حديث قال أبو إدريس الخولاني لمعاذ إني أحبك في الله فقال أبشر ثم أبشر فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول تنصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة الحديث أخرجه أحمد والحاكم في حديث طويل أن أبا إدريس قال قلت والله إني لأحبك في الله قال فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول أن المتحابين بجلال الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وهو عند الترمذي من رواية أبي مسلم الخولاني عن معاذ بلفظ المتحابون في جلالى لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء قال حديث حسن صحيح ولأحمد من حديث أبي مالك ألاشعري أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على منازلهم وقربهم من الله الحديث {وفيه} تحابوا في الله وتصافوا به يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فتجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفيه شهر بن حوشب مختلف فيه //
ورواه أبو هريرة رضي الله عنه وقال فيه إن حول العرش منابر من نور عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نورا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء فقالوا يا رسول الله صفهم لنا فقال هم المتحابون في الله والمتجالسون في الله
_________
(1) حيث يا أبا هريرة عليك بحسن الخلق قال وما حسن الخلق قال تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك رواه البيهقي في الشعب من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه
(2) حديث إن أقربكم مني مجلساً أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ رواه الطبراني في مكارم الأخلاق من حديث جابر بسند ضعيف
(3) وقال صلى الله عليه وسلم في الثناء على الأخوة في الدين مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ
(4) وقال صلى الله عليه وسلم مثل الأخوين إذ التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً
(5) وقال عليه السلام في الترغيب في الأخوة في الله من آخي أخاً في الله رفعه الله درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله
(6) وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ إني أحبك في الله فقال له أبشر ثم أبشر فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون فقيل من هؤلاء يا رسول الله فقال هم المتحابون في الله تعالى(2/158)
والمتزاورون في الله (1)
وقال صلى الله عليه وسلم مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فِي اللَّهِ إِلَّا كَانَ أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه (2)
ويقال إن الأخوين في الله إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر رفع الآخر معه إلى مقامه وإنه يلتحق به كما تلتحق الذرية بالأبوين والأهل بعضهم ببعض لأن الأخوة إذا اكتسبت في الله لم تكن دون أخوة الولادة
قال عز وجل ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينِ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينِ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينِ يَتَبَاذَلُونَ مِنْ أَجْلِي وَحَقَّتْ محبتي للذين يتناصرون من أجلي (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تعالى يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي (4)
وقال صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله تعالى ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه (5)
وقال صلى الله عليه وسلم ما زار رجل رجلاً في الله شوقاً إليه ورغبة في لقائه إلا ناداه ملك من خلقه طبت وطاب ممشاك وطابت لك الجنة (6)
وقال صلى الله عليه وسلم إن رجلاً زار أخاً له في الله فأرصد الله له ملكاً فقال أين تريد قال أريد أن أزور أخي فلاناً فقال لحاجة لك عنده قال لا قال لقرابة بينك وبينه قال لا قال فبنعمة له عندك قال لا قال فبم قال أحبه في الله قال
فإن الله أرسلني إليك يخبرك بأنه يحبك لحبك إياه وقد أوجب لك الجنة (7)
وقال صلى الله عليه وسلم أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (8)
فلهذا يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء وإخوان يحبهم في الله
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة وأما انقطاعك إلي فقد تعززت بي ولكن هل عاديت في عدواً أو هل واليت في ولياً
وقال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل لفاجر علي منة فترزقه مني محبة (9)
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام لو أنك عبدتني بعبادة أهل السموات والأرض وحب في الله ليس وبغض في الله ليس ما أغنى عنك ذلك شيئاً وقال عيسى عليه السلام تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم والتمسوا رضا الله بسخطهم قالوا يا روح الله فمن نجالس قال جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد في عملكم كلامه ومن يرعبكم في الآخرة عمله
وروي في الأخبار السالفة إن الله عز وجل أوحى إلى موسى
_________
(1) حديث أبي هريرة إن حول العرش منابر من نور عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نورا ليسوا بأنبياء ولا شهداء الحديث أخرجه النسائي في سننه الكبرى ورجاله ثقات
(2) حديث مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فِي اللَّهِ إِلَّا كَانَ أحبهم إلى الله أشدهما حباً لصاحبه أخرجه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح الإسناد
(3) حديث إن الله يَقُولُ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينِ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي الحديث أخرجه احمد من حديث عمرو بن عبسة وحديث عبادة بن الصامت ورواه الحاكم وصححه
(4) حديث أن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي أخرجه مسلم
(5) حديث أبي هريرة سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم
(6) حديث ما زار رجل رجلاً في الله شوقاً إليه ورغبة في لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطابت لك الجنة أخرجه ابن عدي من حديث أنس دون قوله شوقاً إليه ورغبة في لقائه وللترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا قال الترمذي غريب
(7) حديث إن رجلاً زار أخاً له في الله فأرصد الله له ملكاً فقال أين تريد الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(8) حديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله رواه أحمد من حديث البراء بن عازب وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
(9) حديث اللهم لا تجعل لفاجر علي منة الحديث تقدم في الكتاب الذي قبله(2/159)
عليه السلام
يا ابن عمران كن يقظاناً وارتد لنفسك إخواناً وكل خدن وصاحب لا يوازرك على مسرتي فهو لك عدو وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال يا داود مالي أراك منتبذاً وحيداً قال إلهي قليت الخلق من أجلك فقال يا داود كن يقظاناً وارتد لنفسك أخداناً وكل خدن لا يوافقك على مسرتي فلا تصاحبه فإنه لك عدو يقسي قلبك ويباعدك مني
وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال يا رب كيف لي أن يحبني الناس كلهم وأسلم فيما بيني وبينك قال خالق الناس بأخلاقهم وأحسن فيما بيني وبينك
وفي بعضها خالق أهل الدنيا بأخلاق الدنيا وخالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أحبكم إلى الله الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللَّهِ المشاءون بالنميمة المفرقون بين الإخوان (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ ملكاً نصفه من النار ونصفه من الثلج يقول اللهم كما ألفت بين الثلج والنار كذلك ألف بين قلوب عبادك الصالحين (2)
وقال أيضاً ما أحدث عبد أخاً في الله إلا أحدث له درجة فِي الْجَنَّةِ (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يشرفون على أهل الجنة يضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس لأهل الدنيا فيقول أهل الجنة انطلقوا بنا ننظر إلى المتحابين في الله فيضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس عليهم ثياب سندس خضر مكتوب على جباههم المتحابون في الله (4)
الآثار قال علي رضي الله عنه عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة ألا تسمع إلى قول أهل النار فمالنا من شافعين ولا صديق حميم وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والله لو صمت النهار لا أفطره وقمت الليل لا أنامه وأنفقت مالي غلقاً غلقاً في سبيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله وبغض لأهل معصية الله ما نفعني ذلك شيئاً
وقال ابن السماك عند موته اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنت أحب من يطيعك فاجعل ذلك قربة لي إليك
وقال الحسن على ضده يا ابن آدم لا يغرنك قول من يقول المرء مع من أحب فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم فإن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم وليسوا معهم
وهذه إشارة إلى أن مجرد ذلك من غير موافقة في بعض الأعمال أو كلها لا ينفع وقال الفضيل في بعض كلامه هَاهْ تُرِيدُ أَنْ تَسْكُنَ الْفِرْدَوْسَ وَتُجَاوِرَ الرَّحْمَنَ فِي دَارِهِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِأَيِّ عَمَلٍ عَمِلْتَهُ بِأَيِّ شَهْوَةٍ تَرَكْتَهَا بِأَيِّ غيظ كظمته بأي رحم قاطع وَصَلْتَهَا بِأَيِّ زَلَّةٍ لِأَخِيكَ غَفَرْتَهَا بِأَيِّ قَرِيبٍ بَاعَدْتَهُ فِي اللَّهِ بِأَيِّ بَعِيدٍ قَارَبْتَهُ فِي الله ويروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام هل عملت لي عملاً قط فقال إلهي إني صليت لك وصمت وتصدقت وزكيت فقال إن الصلاة لك برهان والصوم جنة والصدقة ظل والزكاة نور فأي عمل عملت لي قال يا موسى إلهي دلني على عمل هو لك قال موسى هل واليت لي ولياً قط وهل عاديت في عدواً قط فعلم موسى أن أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يبعد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب
وقال الحسن رضي الله عنه مصارمة الفاسق قربان إلى الله وقال رجل لمحمد بن واسع إني لأحبك في الله فقال أحبك ما الذي أحببتني له
ثم حول وجهه وقال اللهم أني
_________
(1) حديث إن أحبكم إلى الله الذين يألفون الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(2) حديث إن لله ملكاً نصفه من النار ونصفه من الثلج يقول اللهم كما ألفت بين الثلج والنار كذلك ألف بين قلوب عبادك الصالحين رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة من حديث معاذ بن جبل والعرباض بن سارية بسند ضعيف
(3) حديث ما أحدث عبد أخاً في الله تعالى إلا أحدث الله له درجة في الجنة أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان من حديث أنس وقد تقدم
(4) حديث المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة الحديث رواه الحكيم الترمذي في النوادر من حديث ابن مسعود بسند ضعيف(2/160)
أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي مبغض
ودخل رجل على داود الطائي فقال له ما حاجتك فقال زيارتك فقال أما أنت فقد عملت خيراً حين زرت ولكن انظر ماذا ينزل بي أنا إذا قيل لي من أنت فتزار أمن الزهاد أنت لا والله أمن العباد أنت لا والله أمن الصالحين أنت لا والله
ثم أقبل يوبخ نفسه ويقول كنت في الشبيبة فاسقاً فلما شخت صرت مرائياً والله للمرائي شر من الفاسق وقال عمر رضي الله عنه إذا أصاب أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به فقلما يصيب ذلك
وقال مجاهد المتحابون في الله إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض تتحات عنهم الخطايا كما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس
وقال الفضيل نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى وَجْهِ أَخِيهِ عَلَى الْمَوَدَّةِ والرحمة عبادة
بيان معنى الأخوة في الله وتمييزها من الأخوة في الدنيا
اعلم أن الحب في الله والبغض في الله غامض وينكشف الغطاء عنه نما نذكره وهو أن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب أو في المدرسة أو في السوق أو على باب السلطان أو في الأسفار وإلى ما ينشأ اختياراً ويقصد وهو الذي نريد بيانه إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية ولا ترغيب إلا فيها
والصحبة عبارة عن المجالسة والمجاورة
وهذه الأمور لا يقصد الإنسان بها غيره إلا إذا أحبه فإن غير المحبوب يجتنب ويباعد ولا تقصد مخالطته والذي يحب فإما أن يحب لذاته لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه وإما أن يحب للتوصل به إلى مقصود وذلك المقصود إما أن يكون مقصوراً على الدنيا وحظوظها وإما أن يكون متعلقاً بالآخرة وإما أن يكون متعلقاً بالله تعالى فهذه أربعة أقسام
أما القسم الأول وهو حبك الإنسان لذاته فذلك ممكن وهو أن يكون في ذاته محبوباً عندك على معنى أنك تلتذ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله وكل لذيذ محبوب
واللذة تتبع الاستحسان والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع ثم ذلك المستحسن إما أن يكون هو الصورة الظاهرة أعني حسن الخلقة وإما أن يكون هو الصورة الباطنة أعني كمال العقل وحسن الأخلاق ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة ويتبع كمال العقل غزارة العلم وكل ذلك مستحسن عند الطبع السليم والعقل المستقيم وكل مستحسن فمستلذ به ومحبوب بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة في صورة ولا حسن في خلق وخلق ولكن لمناسبة توجب الألفة والموافقة فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع والأشياء الباطنة خفية ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر الاطلاع عليها عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حيث قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (1)
فالتناكر نتيجة التباين والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف
وفي بعض الألفاظ الأرواح جنود مجندة تلتقي فتتشام في الهواء (2)
وقد كنى بعض العلماء عن هذا بأن قال أن الله تعالى خلق الأرواح ففلق بعضها فلقاً وأطافها حول العرش فأي روحين من فلقتين تعارفا هناك فالتقيا تواصلا في الدنيا
وقال صلى الله عليه وسلم إن أرواح المؤمنين ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط (3)
وروي أن امرأة بمكة كانت تضحك
_________
(1) حديث الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة والبخاري تعليقا من حديث عائشة
(2) حديث الأرواح تلتقي فتتشام في الهواء أخرجه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث علي إن الأرواح في الهواء جند مجندة تلتقي فتتشام الحديث
(3) حديث إن أرواح المؤمنين ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط أخرجه احمد من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ نلتقي وقال أحدهم وفيه ابن لهيعة عن دراج(2/161)
أحياء علوم الدين تم تدقيق من قبل لبنى حسونه النساء وكانت بالمدينة أخرى فنزلت المكية على المدنية فدخلت على عائشة رضي الله عنها فأضحكتها فقالت أين نزلت فذكرت لها صاحبتها فقالت صدق الله ورسوله (1)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول الأرواح جنود مجندة الحديث والحق في هذا أن المشاهدة والتجربة تشهد للائتلاف عند التناسب والتناسب في الطباع والأخلاق باطناً وظاهر أمر مفهوم
وأما الأسباب التي أوجبت تلك المناسبة فليس في قوة البشر الاطلاع عليها وغاية هذيان المنجم أن يقول إذا كان طالعه على تسديس طالع غيره أو تثليلثه فهذا نظر الموافقة والمودة فتقضي التناسب والتواد وإذا كان على مقابلته أو تربيعه اقتضى التباغض والعداوة
فهذا لو صدق بكونه كذلك في مجاري سنة الله في خلق السموات والأرض لكن الإشكال فيه أكثر من الإشكال في أصل التناسب فلا معنى للخوض فيما لم يكشف سره للبشر فما أوتينا من العلم إلا قليلاً ويكفينا في التصديق بذلك التجربة والمشاهدة فقد ورد الخبر به قال صلى الله عليه وسلم لو أن مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه ولو أم منافقا دخل إلى مجلس فيه مائة ومؤمن ومنافق واحد لجاه حتى يجلس إليه
وهذا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بالطبع وإن كان هو لا يشعر به وكان مالك بن دينار يقول لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر وإن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة قال فرأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك فقال اتفقا وليسا من شكل واحد ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال من ههنا اتفقا ولذلك قال بعض الحكماء كل إنسان يأنس إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بد أن يتفرقا وهذا معنى خفي تفطن له الشعراء حتى قال قائلهم
وقائل كيف تفارقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وألاف
فقد ظهر من هذا أن الإنسان قد يحب لذاته لا لفائدة تنال منه في حال أو مآل بل لمجرد المجانسة والمناسبة في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية
ويدخل في هذا القسم الحب للجمال إذا لم يكن المقصود قضاء الشهوة فإن الصور الجميلة مستلذة في عينها وإن قدر فقد أصل الشهوة حتى يستلذ النظر إلى الفواكه والأنوار والأزهار والتفاح المشرب بالحمرة وإلى الماء الجاري والخضرة من غير غرض سوى عينها وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله بل هو حب بالطبع وشهوة النفس ويتصور ذلك ممن لا يؤمن بالله إلا أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموم كحب الصورة الجميلة لقضاء الشهوة حيث لا يحل قضاؤها
وإن لم يتصل به غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذم إذا الحب إما محمود وإما مذموم وإما مباح لا يحمد ولا يذم
القسم الثاني أن يحبه لينال من ذاته غير ذاته فيكون وسيلة إلى محبوب غيره والوسيلة إلى المحبوب محبوب وما يجب لغيره كان ذلك الغير هو المحبوب بالحقيقة
ولكن الطريق إلى المحبوب محبوب ولذلك أحب الناس الذهب
_________
(1) حديث أن امرأة بمكة كانت تضحك النساء وكانت بالمدينة أخرى فنزلت المكية على المدنية فدخلت على عائشة فذكرت حديث الأرواح جنود مجندة أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده بالقصة بسند حسن وحديث عائشة عند البخاري تعليقا مختصرا أخرجه البيهقي في شعب الإيمان موقوفا على ابن مسعود وذكره صاحب الفردوس من حديث معاذ بن جبل ولم يخرجه ولده في المسند(2/162)
والفضة ولا غرض فيهما إذ لا يطعم ولا يلبس ولكنهما وسيلة إلى المحبوبات فمن الناس من يحب كما يحب الذهب والفضة من حيث إنه وسيلة إلى المقصود إذ يتوصل به إلى نيل جاه أو مال أو علم كما يحب الرجل سلطاناً لانتفاعه بماله أو جاهه ويحب خواصه لتحسينهم حاله عنده وتمهيدهم أمره في قلبه فالمتوسل إليه إن كان مقصور الفائدة على الدنيا لم يكن حبه من جملة الحب في الله وإن لم يكن مقصور الفائدة على الدنيا ولكنه ليس يقصد به إلا الدنيا كحب التلميذ لأستاذه فهو أيضاً خارج عن الحب لله فإنه إنما يحبه ليحصل منه العلم لنفسه فمحبوبه العلم فإذا كان لا يقصد العلم للتقرب إلى الله بل لينال به الجاه والمال والقبول عند الخلق فمحبوبه الجاه والقبول والعلم وسيلة إليه والأستاذ وسيلة إلى العلم فليس في شيء من ذلك حب لله إذ لا يتصور كل ذلك ممن لا يؤمن بالله تعالى أصلاً
ثم ينقسم هذا أيضاً إلى مذموم ومباح فإن كان يقصد به التوصل إلى مقاصد مذمومة من قهر الأقران وحيازة أموال اليتامى وظلم الرعاة بولاية القضاء أو غيره كان كالحب مذموما وإن كان يقصد به التوصل إلى مباح وإنما تكتسب الوسيلة الحكم والصفة من المقصد المتوصل إليه فإنها تابعة له غير قائمة بنفسها
القسم الثالث أن يحبه لا لذاته بل لغيره وذلك الغير ليس راجعاً إلى حظوظه في الدنيا بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة فهذا أيضاً ظاهر لا غموض فيه وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وَتَحْسِينِ الْعَمَلِ وَمَقْصُودُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُحِبِّينَ فِي اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَنْ يُحِبُّ تِلْمِيذَهُ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّفُ منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء إذ قال عيسى صلى الله عليه وسلم من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء
ولا يتم التعلم إلا بمتعلم فهو إذن آلة في تحصيل هذا الكمال فإن أحبه لأنه آلة له إذ جعل صدره مزرعة لحرثه الذي هو سبب ترقية إلى رتبة التعظيم في ملكوت السماء فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ بَلِ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بأمواله لله ويجمع الضيفان ويهي لَهُمُ الْأَطْعِمَةَ اللَّذِيذَةَ الْغَرِيبَةَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فأجد طَبَّاخًا لِحُسْنِ صَنْعَتِهِ فِي الطَّبْخِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحِبِّينَ فِي اللَّهِ وَكَذَا لَوْ أَحَبَّ مَنْ يَتَوَلَّى لَهُ إِيصَالَ الصَّدَقَةِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فقد أحبه في الله بل تزيد على هذا ونقول إذا أَحَبَّ مَنْ يَخْدُمُهُ بِنَفْسِهِ فِي غَسْلِ ثِيَابِهِ وَكَنْسِ بَيْتِهِ وَطَبْخِ طَعَامِهِ وَيُفَرِّغُهُ بِذَلِكَ لِلْعِلْمِ أَوِ الْعَمَلِ وَمَقْصُودُهُ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَرَاغُ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ بل نزيد عليه ونقول إذا أَحَبَّ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَيُوَاسِيهِ بِكُسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَمَسْكَنِهِ وَجَمِيعِ أَغْرَاضِهِ الَّتِي يَقْصِدُهَا فِي دُنْيَاهُ وَمَقْصُودُهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْفَرَاغُ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمُقَرِّبِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ
فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ تَكَفَّلَ بِكِفَايَتِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أُولِي الثَّرْوَةِ وَكَانَ الْمُوَاسِي وَالْمُوَاسَى جَمِيعًا مِنَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ بل نزيد عليه ونقول مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً صَالِحَةً لِيَتَحَصَّنَ بِهَا عَنْ وسواس الشيطان يصون بها دينه أو ليولد منها له ولد صالح يدعو له وأحب زَوْجَتَهُ لِأَنَّهَا آلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ فهو محب في الله
ولذلك وردت الأخبار بوفور الأجر والثواب على الإنفاق على العيال حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته (1)
بل نقول كل من استهتر بحب الله وحب رضاه وحب لقائه في الدار الآخرة فإذا أحب غيره كان محباً في الله لأنه لا يتصور أن يحب شيئاً إلا لمناسبته لما هو محبوب عنده وهو رضا الله عز وجل بل أزيد على هذا وأقول إذا اجتمع في قبله محبتان محبة الله ومحبة الدنيا واجتمع في شخص واحد لمعنيان جميعاً حتى صلح لأن يت وسل به إلى الله وإلى الدنيا فإذا أحبه لصلاحه للأمرين فهو من المحيين في الله كمن يحب أستاذه الذي يُعَلِّمُهُ الدِّينَ وَيَكْفِيهِ مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا بِالْمُوَاسَاةِ فِي المال فأحبه من حيث إن في طبعه طلب الراحة في الدنيا
_________
(1) حديث الأجر في الإنفاق على العيال حتى القمة يضعها الرجل في في امرأته تقدم(2/163)
والسعادة في الآخرة فهو وسيلة إليهما فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ حُبِّ اللَّهِ أَنْ لَا يُحَبَّ فِي الْعَاجِلِ حظاً الْبَتَّةَ إِذِ الدُّعَاءُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الدنيا والآخرة ومن ذلك قولهم رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة وقال عيسى عليه السلام في دعائه اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي لديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا ولم يقل ولا تجعل الدنيا أصلاً من همي بل قال لا تجعلها أكبر همي
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كرامتك في الدنيا والآخرة (1)
وقال اللهم عافني من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة (2)
وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضاً لحب الله تعالى فحب السلامة والصحة والكفاية والكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضاً لحب الله والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غداً ولا يحبها اليوم وإنما يحبها غداً لأن الغد سيصير حالاً راهنة فالحالة الراهنة لا بد إلا أن تكون مطلوبة أيضاً إلا أن الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها وهي التي احترز عنها الأنبياء والأولياء وأمروا بالاحتراز عنها وإلى ما لا يضاد وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح وأكل الحلال وغير ذلك فما يضاد حظوظ الآخرة فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ولا يستلذه لو أكله فإن ذلك محال ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه وتحصل فيه كراهة الضرر المتعلق به
والمقصود من هذا أنه لو أحب أستاذه لأنه يواسيه ويعلمه أو تلميذه لأنه يتعلم منه ويخدمه وأحدهما حظ عاجل والآخر آجل لكان في زمرة المتحابين في الله ولكن بشرط واحد وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلاً أو تعذر عليه تحصيله منه لنقص حبه بسببه فالقدر الذي ينقص بسبب فقده هو لله تعالى وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به فإن امتنع بعضها نقص حبك وإن زاد زاد الحب فليس حبك الذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة فإذن يزيد الحب بزيادة الغرض ولا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية فهو داخل في جملة الحب لله
وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بالله واليوم الآخر لم يتصور وجوده فهو حب في الله وكذلك كل زيادة في الحب لولا الإيمان بالله لم تكن تلك الزيادة فتلك الزيادة من الحب في الله فذلك وإن دق فهو عزيز
قال الجريري تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرهبة والرغبة
القسم الرابع أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علماً أو عملاً أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته وهذا أعلى الدرجات وهو أدقها وأغمضها وهذا القسم أيضاً ممكن فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه ولو من بعد فمن أحب إنساناً حباً شديداً أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه وأحب من يخدم من يخدمه وأحب من يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه حتى قال بقية بن الوليد إن المؤمن إذا أحب المؤمن أحب كلبه وهو كما قال ويشهد له التجربة في أحوال العشاق ويدل عليه أشعار الشعراء ولذلك يحفظ
_________
(1) حديث اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كرامتك في الدنيا والآخرة أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس في الحديث الطويل في دعائه صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الليل وقد تقدم
(2) حديث اللهم عافني من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة أخرجه أحمد من حديث بشر بن أبي أرطاة نحوه بسند جيد(2/164)
ثوب المحبوب ويخفيه تذكرة من جهته ويحب منزله ومحلته وجيرانه حتى قال مجنون بني عامر
أمر على الديار ديار للى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
فإذن المشاهدة والتجربة تدل على أن الحب يتعدى من ذات المحبوب إلى ما يحيط به ويتعلق بأسبابه ويناسبه ولو من بعد ولكن ذلك من خاصية فرط المحبة فأصل المحبة لا يكفي فيه ويكون اتساع الحب في تعديه من المحبوب إلى ما يكتنفه ويحيط به ويتعلق بأسبابه بحسب إفراط المحبة وقوتها وكذلك حب الله سبحانه وتعالى إذا قوي وغلب على القلب واستولى عليه حتى انتهى إلى حد الاستهتار فيتعدى إلى كل موجود سواه فإن كل موجود سواه أثر من آثار قدرته ومن أحب إنساناً أحب صنعته وخطه وجميع أفعاله ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حمل إليه باكورة من الفواكه مسح بها عينيه وأكرمها وقال إنه قريب العهد بربنا (1)
وحب الله تعالى تارة يكون لصدق الرجاء في مواعيده وما يتوقع في الآخرة من نعيمه وتارة لما سلف من أياديه وصنوف نعمته وتارة لذاته لا لأمر آخر وهو أدق ضرب المحبة وأعلاها وسيأتي تحقيقها في كتاب المحبة من ربع المنجيات إن شاء الله تعالى وكيفما اتفق حب الله فإذا قوي تعدى إلى كل متعلق به ضرباً من التعلق حتى يتعدى إلى ما هو في نفسه مؤلم مكروه ولكن فرط الحب يضعف الإحساس بالألم والفرح بفعل المحبوب وقصده إياه بالإيلام يغمر إدراك الألم وذلك كالفرح بضربة من المحبوب أو قرصة فيها نوع معاتبة فإن قوة المحبة تثير فرحاً يغمر إدراك الألم فيه وقد انتهت محبة الله بقوم إلى أن قالوا لا نفرق بين البلاء والنعمة فإن الكل من الله ولا نفرح إلا بما فيه رضاه حتى قال بعضهم لا أريد أن أنال مغفرة الله بمعصية الله
وقال سمنون
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة
والمقصود أن أحب الله إذ قوي أثمر حب كل من يقوم بحق عبادة الله في علم أو عمل وأثمر حب كل من فيه صفة مرضية عند الله من خلق حسن أو تأدب بآداب الشرع
وما من محب للآخرة ومحب لله إلا إذا أخبر عن حال رجلين أحدهما عالم عابد والآخرة جاهل فاسق إلا وجد في نفسه ميلاً إلى العالم العابد ثم يضعف ذلك الميل ويقوى بحسب ضعف إيمانه وقوته وبحسب ضعف حبه لله وقوته وهذا الميل حاصل وإن كانا غائبين عنه بحيث يعلم إنه لا يصيبه منهما خير ولا شر في الدنيا ولا في الآخرة فذلك الميل هو حب في الله ولله من غير حظ فإنه إنما يحبه لأن الله يحبه ولأنه مرضي عند الله تعالى ولأنه يحب الله تعالى ولأنه مشغول بعبادة الله تعالى إلا أنه إذا ضعف لم يظهر أثر ولا يظهر به ثواب ولا أجر فإذا قوي حُمِلَ عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ وَالذَّبِّ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ وَتَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي حب الله عز وجل ولو كان الحب مقصوراً على حظ ينال من المحبوب في الحال أو المآل لما تصور حب الموتى من العلماء والعباد ومن الصحابة والتابعين بل من الأنبياء المنقرضين صلوات الله عليهم وسلامه وحب جميعهم مكنون في قلب كل مسلم متدين ويتبين ذلك بغضبه عند طعن أعدائهم في واحد منهم ويفرحه عند الثناء عليهم وذكر محاسنهم وكل ذلك حب لله لأنهم خواص عباد الله
_________
(1) حديث كان إذا حمل إليه باكورة من الفواكه مسح بها عينيه وأكرمها وقال إنها قريب عهد بربها أخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن عباس وأبو داود في المراسيل والبيهقي في الدعوات من حديث أبي هريرة دون قوله وأكرمها الخ وقال انه غير محظوظ وحديث أبي هريرة في الباكورة عند بقية أصحاب السنن دون مسح عينيه بها وما بعده وقال الترمذي حسن صحيح(2/165)
ومن أحب ملكاً أو شخصاً جميلاً أحب خواصه وخدمه وأحب من أحبه إِلَّا أَنَّهُ يُمْتَحَنُ الْحُبُّ بِالْمُقَابَلَةِ بِحُظُوظِ النَّفْسِ وقد يغلب بحيث لا يبقى لنفس حظ إلا فيما هو حظ المحبوب وعنه عبر قول من قال
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
وقول من قال وما لجرح إذا أرضاكم ألم وَقَدْ يَكُونُ الْحُبُّ بِحَيْثُ يُتْرَكُ بِهِ بَعْضُ الحظوظ دون بعض كمن تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِأَنْ يُشَاطِرَ مَحْبُوبَهُ فِي نِصْفِ مَالِهِ أَوْ فِي ثُلُثِهِ أَوْ فِي عُشْرِهِ فمقادير الأموال موازين المحبة إذ لا تعرف دَرَجَةُ الْمَحْبُوبِ إِلَّا بِمَحْبُوبٍ يُتْرَكُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَمَنِ اسْتَغْرَقَ الْحُبُّ جَمِيعَ قَلْبِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَحْبُوبٌ سِوَاهُ فَلَا يُمْسِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فإنه لم يترك لنفسه أهلاً ولا مالاً فسلم ابْنَتَهُ الَّتِي هِيَ قُرَّةُ عَيْنِهِ وَبَذَلَ جَمِيعَ ماله
قال ابن عمر رضي الله عنهما بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها على صدره بخلال إذ نزل جبريل عليه السلام فأقرأه عن الله السلام وقال له يا رسول الله مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها على صدره بخلال فقال أنفق ماله علي قبل الفتح قال فأقره من الله السلام وقل له يقول لك ربك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط قال فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقال يا أبا بكر هذا جبريل يقرئك السلام من الله ويقول أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط قال فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال أعلى ربي أسخط أنا عن ربي راض (1)
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ عَالِمًا أَوْ عَابِدًا أَوْ أَحَبَّ شَخْصًا رَاغِبًا في علم أَوْ فِي خَيْرٍ فَإِنَّمَا أَحَبَّهُ فِي اللَّهِ ولله وله فيه من الأجر والثواب بقدر قوة حبه فهذا شرح الحب في الله ودرجاته وبهذا يتضح البغض في الله أيضاً ولكن نزيده بياناً
بَيَانُ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُحِبُّ فِي اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ فَإِنَّكَ إِنْ أَحْبَبْتَ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَمَحْبُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ عَصَاهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تُبْغِضَهُ لِأَنَّهُ عَاصٍ لله وممقوت عند الله ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر وهو مطرد في الحب والبغض في العادات ولكن كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب وإنما يترشح عند الغلبة ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة وفي المخالفة والموافقة فإذا ظهر في الفعل سمي موالاة ومعاداة ولذلك قال الله تعالى هل واليت في ولياً وهل عاديت في عدواً كما نقلناه وهذا واضح في حق من لم يظهر لك إلا طاعاته تقدر على أن تحبه أو لم يظهر لك إلا فسقه وفجوره وأخلاقه المسيئة فتقدر على أن تبغضه وإنما المشكل إذا اختلطت الطاعات بالمعاصي فإنك تقول كيف أجمع بين البغض والمحبة وهما متناقضان وكذلك تتناقض ثمرتهما من الموافقة والمخالفة والموالاة والمعاداة وأقول ذلك غير متناقض في حق الله تعالى كما لا يتناقض في الحظوظ البشرية فإنه مهما اجتمع في شخص واحد خصال يحب بعضها ويكره بعضها فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه فمن زوجة حسناء فاجرة أو ولد ذكي خدوم ولكنه فاسق فإنه يحبه من وجه ويبغضه من وجه ويكون معه على حالة بين حالتين إذ لو فرض له ثلاثة أولاد أحدهم ذكي بار والآخر بليد عاق والآخر بليد بار أو ذكي عاق فإنه يصادف نفسه معهم على ثلاثة أحوال متفاوتة بحسب تفاوت خصالهم فكذلك ينبغي أن تكون حالك بالإضافة إلى من غلب عليه الفجور ومن غلبت
_________
(1) حديث ابن عمر بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها على صدره بخلال فنزل جبريل فأقرأه من ربه السلام الحديث أخرجه ابن حبان والعقيلي في الضعفاء قال الذهبي في الميزان هو كذب(2/166)
عليه الطاعة ومن اجتمع فيه كلاهما متفاوتة على ثلاث مراتب وذلك بأن تعطى كل صفة حظها من البغض والحب والإعراض والإقبال والصحبة والقطيعة وسائر الأفعال الصادرة منه
فإن قلت كل مسلم فإسلامه طاعة منه فكيف أبغضه مع الإسلام فأقول تحبه لإسلامه وتبغضه لمعصيته وتكون معه على حالة لو قستها بحال كافر أو فاجر أدركت تفرقة بينهما وتلك التفرقة حب للإسلام وقضاء لحقه وقدر الجناية على حق الله والطاعة له كالجناية على حقك والطاعة لك
فمن وافقك على غرض وخالفك في آخر فكن معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال وبين الإقبال والإعراض وبين التودد إليه والتوحش عنه ولا تبالغ في إكرامه مبالغتك في إكرام من يوافقك على جميع أغراضك ولا تبالغ في إهانته مبالغتك في إهانة من خالفك في جميع أغراضك
ثم ذلك التوسط تارة يكون ميله إلى طرف الإهانة عند غلبة الجناية وتارة إلى طرف المجاملة والإكرام عند غلبة الموافقة فهكذا ينبغي أن يكون فيمن يطيع الله تعالى ويعصيه ويتعرض لرضاه مرة ولسخطه أخرى
فإن قلت فيماذا يمكن إظهار البغض فأقول أما في القول فبكف اللسان عن مكالمته ومحادثته مرة وبالاستخفاف والتغليظ في القول أخرى
وأما في الفعل فبقطع السعي في إعانته مرة وبالسعي في إساءته وإفساده مآربه أخرى
وبعض هذا أشد من بعض وهي بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْفِسْقِ وَالْمَعْصِيَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ
أَمَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْهَفْوَةِ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهُ مُتَنَدِّمٌ عَلَيْهَا وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهَا فَالْأَوْلَى فِيهِ الستر والإغماض
أما ما أصر عليه من صغيرة أو كبيرة فإن كان ممن تأكدت بينك وبينه مودة وصحبة وأخوة فله حكم آخر وسيأتي وفيه خلاف بين العلماء وأما إذا لم تتأكد أخوة وصحبة فلا بد من إظهار أثر البغض إما في الإعراض والتباعد عنه وقلة الالتفات إليه وإما في الاستخفاف وتغليظ القول عليه
وهذا أشد من الإعراض وهو بحسب غلظ المعصية وخفتها وكذلك في الفعل أيضاً رتبتان إحداهما قطع المعونة والرفق والنصرة عنه وهو أقل الدرجات والأخرى السعي في إفساد أغراضه عليه كفعل الأعداء المبغضين وهذا لا بد منه ولكن فيما يفسد عليه طريق المعصية
أما ما لا يؤثر فيه فلا مثاله رجل عصى الله بشرب الخمر وقد خطب امرأة لو تيسر له نكاحها لكان مغبوطاً بها بالمال والجمال والجاه إلا أن ذلك لا يؤثر في منعه من شرب الخمر ولا في بعث وتحريض عليه فإذا قدرت على إعانته ليتم له غرضه ومقصوده وقدرت على تشويشه ليفوته غرضه فليس لك السعي في تشويشه
أما الإعانة فلو تركتها إظهاراً للغضب عليه في فسقه فلا بأس وليس يجب تركها إذ ربما يكون لك نية في أن تتلطف بإعانته وإظهار الشفقة عليه ليعتقد مودتك ويقبل نصحك فهذا حسن وإن لم يظهر لك ولكن رأيت أن تعينه على غرضه قضاء لحق إسلامه فذلك ليس بممنوع بل هو الأحسن إن كانت معصيته بالجناية على حقك أو حق من يتعلق بك
وفيه نزل قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة إلى قوله تعالى {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} إذ تكلم مسطح بن أثاثة في واقعة الإفك (1)
فحلف أبو بكر أن يقطع عنه رفقه وقد كان يواسيه بالمال فنزلت الآية مع عظم معصية مسطح وأية معصية تزيد على التعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإطالة اللسان في مثل عائشة رضي الله عنها إلا أن الصديق رضي الله عنه كان كالمجني عليه في نفسه بتلك الواقعة والعفو عمن ظلم والإحسان إلى من أساء من أخلاق الصديقين
وإنما يحسن الإحسان إلى من ظلمك فأما من ظلم غيرك وعصى الله به فلا يحسن إحسانك إليه لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم
_________
(1) حديث كلام مسطح في الإفك وهجر أبي بكر له حتى نزلت {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} الآية متفق عليه من حديث عائشة(2/167)
وحق المظلوم أولى بالمراعاة وتقوية قلبه بالإعراض عن الظالم أحب إلى الله من تقوية قلب الظالم فأما إذا كنت أنت المظلوم فالأحسن في حقك العفو والصفح وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظلمة والمبتدعة وكل من عصى الله بمعصية متعدية منه إلى غيره فأما من عصى الله في نفسه فمنهم من نظر بعين الرحمة إلى العصاة كلهم ومنهم من شدد الإنكار واختار المهاجرة
فقد كان أحمد بن حنبل يهجر الأكابر في أدنى كلمة حتى هجر يحيى بن معين لقوله إني لا أسأل أحداً شيئاً ولو حمل السلطان إلي شيئاً لأخذته
وهجر الحارث المحاسبي في تصنيفه في الرد على المعتزلة وقال إنك لا بد تورد أولاً شبهتهم وتحمل الناس على التفكر فيها ثم ترد عليهم وهجر أبا ثور في تأويله قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته (1)
وهذا أمر يختلف باختلاف النية وتختلف النية باختلاف الحال فإن كان الغالب على القلب النظر إلى اضطرار الخلق وعجزهم وأنهم مسخرون لما قدروا له أورث هذا تساهلاً في المعاداة والبغض وله وجه ولكن قد تلتبس به المداهنة فأكثر البواعث على الإغضاء عن المعاصي المداهنة ومراعاة القلوب والخوف من وحشتها ونفارها وقد يلبس الشيطان ذلك على الغبي الأحمق بأنه ينظر بعين الرحمة ومحك ذلك أن ينظر إليه بعين الرحمة إن جنى على خاص حقه ويقول إنه قد سخر له والقدر لا ينفع منه الحذر وكيف لا يفعله وقد كتب عليه فمثل هذا قد تصح له نية في الإغماض عن الجناية على حق الله وإن كان يغتاظ عند الجناية على حقه ويترحم عند الجناية على حق الله فهذا مداهن مغرور بمكيدة من مكايد الشيطان فليتنبه له
فإن قلت فأقل الدرجات في إظهار البغض الهجر والإعراض وقطع الرفق والإعانة فهل يجب ذلك حتى يعصي العبد بتركه
فأقول لا يدخل ذلك في ظاهر العلم تحت التكليف والإيجاب فإنا نعلم أن الذين شربوا الخمر وتعاطوا الفواحش فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والصحابة ما كانوا يهجرون بالكلية بل كانوا منقسمين فيهم إلى من يغلظ القول عليه ويظهر البعض له وإلى من يعرض عنه ولا يتعرض له وإلى من ينظر إليه بعين الرحمة ولا يؤثر المقاطعة والتباعد
فهذه دقائق دينية تختلف فيها طرق السالكين لطريق الآخرة ويكون عمل كل واحد على ما يقتضيه حاله ووقته ومقتضى الأحوال في هذه الأمور إما مكروهة أو مندوبة فتكون في رتبة الفضائل ولا تنتهي إلى التحريم والإيجاب فإن الداخل تحت التكليف أصل المعرفة لله تعالى وأصل الحب وذلك قد لا يتعدى من المحبوب إلى غيره وإنما المتعدي إفراط الحب واستيلاؤه وذلك لا يدخل في الفتوى وتحت ظاهر التكليف في حق عوام الخلق أصلاً
بيان مراتب الذين يبغضون في الله وكيفية معاملتهم
فإن قلت إظهار البغض والعداوة بالفعل إن لم يكن واجباً فلا شك أنه مندوب إليه والعصاة والفساق على مراتب مختلفة فكيف ينال الفضل بمعاملتهم وهل يسلك بجميعهم مسلكاً واحداً أم لا فاعلم أن المخالف لأمر الله سبحانه لا يخلو إما أن يكون مخالفاً في عقده أو في عمله والمخالف في العقد إما مبتدع أو كافر والمبتدع إما داع إلى بدعته أو ساكت والساكت إما بعجزه أو باختياره فأقسام الفساد في الاعتقاد ثلاثة
الأول الكفر فالكافر إن كان محارباً فهو يستحق القتل والإرقاق وليس بعد هذين إهانة وأما الذمي فإنه لا يجوز إيذاؤه إلا بالإعراض عنه والتحقير له بالاضرار إلى أضيق الطريق وبترك المفاتحة بالسلام فإذا قال
_________
(1) حديث إن الله خلق آدم على صورته أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة(2/168)
السلام عليك قلت وعليك
والأولى الكف عن مخالطته ومعاملته ومواكلته وأما الانبساط معه والاسترسال إليه كما يسترسل إلى الأصدقاء فهو مكروه كراهة شديدة يكاد ينتهي ما يقوى منها إلى حد التحريم قال تعالى {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم} الآية وقال صلى الله عليه وسلم المسلم والمشرك لا تتراءى ناراهما (1)
وقال عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} الآية
الثاني المبتدع الذي يدعو إلى بدعته
فإن كانت البدعة بحيث يكفر بها فأمره أشد من الذمي لأنه لا يقر بجزية ولا يسامح بعقد ذمة وإن كان ممن لا يكفر به فأمره بينه وبين الله أخف من أمر الكافر لا محالة ولكن الأمر في الإنكار عليه أشد منه على الكافر لأن شر الكافر غير متعد فإن المسلمين اعتقدوا كفره فلا يلتفتون إلى قوله إذ لا يدعي لنفسه الإسلام واعتقاد الحق
أما المبتدع الذي يدعوا إلا البدعة ويزعم أن ما يدعو إليه حق فهو سبب لغواية الخلق فشره متعد فالاستحباب في إظهار بغضه ومعاداته والانقطاع عنه وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته وتنفير الناس عنه أشد وإن سلم في خلوة فلا بأس برد جوابه وإن علمت أن الإعراض عنه والسكوت عن جوابه يقبح في نفسه بدعته ويؤثر في زجره فترك الجواب أولى لأن جواب الإسلام وإن كان واجباً فيسقط بأذني غرض فيه مصلحة حتى يسقط بكون الإنسان في الحمام أو في قضاء حاجته وغرض الزجر أهم من هذه الأغراض وإن كان في ملأ فترك الجواب أول تنفيراً للناس عنه وتقبيحاً لبدعته في أعينهم وكذلك الأولى كف الإحسان إليه والإعانة له لا سيما فيما يظهر للخلق قال عليه السلام من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ومن أهان صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر من ألان له وأكرمه أو لقيه ببشر فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم (2)
الثالث المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون فالأولى أن لا يقابح بالتغليظ والإهانة بل يتلطف به في النصح فإن قلوب العوام سريعة التقلب فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيح لبدعته في عينه تأكد الاستحباب في الإعراض وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه ورسوخ عقده في قلبه فالإعراض أولى لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها
وأما العاصي بفعله وعمله لا باعتقاده فلا يخلو إما أن يكون بحيث يتأذى به غيره كالظلم والغضب وشهادة الزور والغيبة والتضريب بين الناس والمشي بالنميمة وأمثالها
أو كان مما لا يقتصر عليه ويؤذي غيره وذلك ينقسم إلى ما يدعو غيره إلى الفساد كصاحب الماخور الذي يجمع بين الرجال والنساء ويهيء أسباب الشرب والفساد لأهل الفساد أو لا يدعو غيره إلى فعله كالذي يشرب ويزني وهذا الذي لا يدعو غيره إما أن يكون عصيانه بكبيرة أو بصغيرة وكل واحد فإما أن يكون مصراً عليه أو غير مصر فهذه التقسيمات يتحصل منها ثلاثة أقسام ولكل قسم منها رتبة وبعضها أشد من بعض ولا نسلك بالكل مسلكاً واحداً
القسم الأول وهو أشدها ما يتضرر به الناس كالظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والنميمة فهؤلاء الأولى الإعراض عنهم وترك مخالطتهم والانقباض عن معاملتهم لأن المعصية شديدة فيما يرجع إلى إيذاء الخلق
ثم هؤلاء
_________
(1) حديث المؤمن والمشرك لا تتراءى ناراهما رواه أبو داود والترمذي من حديث جرير أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم قال لا تراءى ناراهما رواه النسائي مرسلا وقال البخاري الصحيح أنه مرسل
(2) حديث من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيمانا الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية والهروي في ذم الكلام من حديث ابن عمر بسند ضعيف(2/169)
ينقسمون إلى من يظلم في الدماء وإلى من يظلم في الأموال وإلى من يظلم في الأعراض وبعضها أشد من بعض فالاستحباب في إهانتهم والإعراض عنهم مؤكد جداً ومهما كان يتوقع من الإهانة زجراً لهم أو لغيرهم كان الأمر فيه آكد وأشد
الثاني صاحب الماخور الذي يهيء أسباب الفساد ويسهل طرقه على الخلق فهذا لا يؤذي الخلق في دنياهم ولكن يختلس بفعله دينهم وإن كان وفق رضاهم فهو قريب من الأول ولكنه أخف منه فإن المعصية بين العبد وبين الله تعالى إلى العفو أقرب ولكن من حيث إنه متعد على الجملة إلى غيره فهو شديد وهذا أيضاً يقتضي الإهانة والإعراض والمقاطعة وترك جواب السلام إذا ظن أن فيه نوعاً من الزجر له أو لغيره
الثالث الذي يفسق في نفسه بشرب خمر أو ترك واجب أو مقارفة محظور يخصه فالأمر فيه أخف ولكنه في وقت مباشرته إن صودف يجب منعه بما يمتنع به منه ولو بالضرب والاستخفاف فإن النهي عن المنكر واجب وإذا فرغ منه وعلم أن ذلك من عادته وهو مصر عليه فإن تحقق أن نصحه يمنعه عن العود إليه وجب النصح وإن لم يتحقق ولكنه كان يرجو فالأفضل النصح والزجر بالتلطف أو بالتغليظ إن كان هو الأنفع فأما الإعراض عن جواب سلامه والكف عن مخالطته حيث يعلم أنه يصر وأن النصح ليس ينفعه فهذا فيه نظر وسير العلماء فيه مختلفة والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف نية الرجل فعند هذا يقال الأعمال بالنيات إذ في الرفق والنظر بعين الرحمة إلى الخلق نوع من التواضع وفي العنف والإعراض نوع من الزجر والمستفتى فيه القلب فما يراه أميل إلى هواه ومقتضى طبعه فالأولى ضده إذ قد يكون استخفافه وعنفه عن كبر وعجب والتذاذ بإظهار العلو والإدلال بالصلاح وقد يكون رفقه عن مداهنة واستمالة قلب للوصول به إلى غرض أو الخوف من تأثير وحشته ونفرته في جاه أو مال بظن قريب أو بعيد وكل ذلك مردد على إشارات الشيطان وبعيد عن أعمال أهل الآخرة وكل راغب في أعمال الدين مجتهد مع نفسه في التفتيش عن هذه الدقائق ومراقبة هذه الأحوال والقلب هو المفتى فيه وقد يصيب الحق في اجتهاده وقد يخطيء وقد يقدم على اتباع هواه وهو عالم به وقد يقدم وهو بحكم الغرور ظان أنه عامل لله وسالك طريق الآخرة
وسيأتي بيان هذه الدقائق في كتاب الغرور من ربع المهلكات
ويدل على تخفيف الأمر في الفسق القاصر الذي هو بين العبد وبين الله ما روي أن شارب خمر ضرب بين يدي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يعود فقال واحد من الصحابة
لعنه الله ما أكثر ما يشرب فقال صلى الله عليه وسلم لا تكن عوناً للشيطان على أخيك (1)
أو لفظاً هذا معناه وكأن هذا إشارة إلى أن الرفق أولى من العنف والتغليظ
بيان الصِّفَاتُ الْمَشْرُوطَةُ فِيمَنْ تَخْتَارُ صُحْبَتَهُ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ كُلُّ إِنْسَانٍ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ (2)
وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِخِصَالٍ وَصِفَاتٍ يَرْغَبُ بِسَبَبِهَا فِي صُحْبَتِهِ وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة إذ معنى الشرط مالا بد منه للوصول إلى المقصود فبالإضافة إلى المقصود تظهر الشروط
ويطلب من الصحبة فوائد دينية ودنيوية أما الدنيوية فكالانتفاع بالمال أو الجاه أو مجرد الاستئناس بالمشاهدة والمجاورة وليس ذلك من أغراضنا
وأما الدينية فيجتمع فيها أيضاً أغراض مختلفة إذ منها الاستفادة من العلم والعمل ومنها الاستفادة من الجاه تحصناً به عن إيذاء من يشوش القلب ويصد عن العبادة ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات
_________
(1) حديث أن شارب خمر ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه لا تكن عوناً للشيطان على أخيك أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
(2) حديث المرء على دين خليله الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح أن شاء الله(2/170)
في طلب القوت ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال ومنها التبرك بمجرد الدعاء ومنها انتظار الشفاعة في الآخرة فقد قال السلف استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة فلعلك تدخل في شفاعة أخيك
وروي في غريب التفسير في قوله تعالى {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله} قال يشفعهم في إخوانهم فيدخلهم الجنة معهم
ويقال إذا غفر الله للعبد شفع في إخوانه ولذلك حث جماعة من السلف على الصحبة والألفة والمخالطة وكرهوا العزلة والانفراد فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطاً لا تحصل إلا بها ونحن نفصلها أما على الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا حَسَنَ الْخُلُقِ غَيْرَ فَاسِقٍ ولا مبتدع وَلَا حَرِيصٍ عَلَى الدُّنْيَا
أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ وَهُوَ الْأَصْلُ فَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ الْأَحْمَقِ فَإِلَى الْوَحْشَةِ وَالْقَطِيعَةِ تَرْجِعُ عَاقِبَتُهَا وإن طالت
قال علي رضي الله عنه
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه ... فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ما شاه ... وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدري ولذلك قال الشاعر
إني لآمن من عدو عاقل ... وأخاف خلاً يعتريه جنون
فالعقل فن واحد وطريقه ... أدرى فأرصد والجنون فنون
ولذلك قيل مقاطعة الأحمق قربان إلى الله
وقال الثوري النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما بنفسه وإما إذا فهم
وأما حسن الخلق فلا بد منه إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه ولكن إذا غَلَبَهُ غَضَبٌ أَوْ شَهْوَةٌ أَوْ بُخْلٌ أَوْ جبن أطاع هواه وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه فَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَتِهِ
وَأَمَّا الْفَاسِقُ الْمُصِرُّ على الفسق فلا فائدة في صحبته لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ومن لَا يَخَافُ اللَّهَ لَا تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ وَلَا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض
وقال تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذكرنا واتبع هواه} وقال تعالى {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه} وقال تعالى فأعرض عمن تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدنيا وقال {واتبع سبيل من أناب إلي} وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق
وأما المبتدع ففي صحبته خطر سراية البدعة وتعدي شؤمها إليه فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة فكيف تؤثر صحبته وقد قال عمر رضي الله عنه في الحث على طلب التدين في الصديق فيما رواه سعيد بن المسيب قال عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين من القوم ولا أمين إلا من خشي الله فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى
وأما حسن الخلق فقد جمعه علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال يَا بُنَيَّ إِذَا عَرَضَتْ لَكَ إِلَى صُحْبَةِ الرِّجَالِ حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إِذَا خَدَمْتَهُ صَانَكَ وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤنة مانك اصحب مَنْ إِذَا مَدَدْتَ يَدَكَ بِخَيْرٍ مَدَّهَا وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً سَدَّهَا اصْحَبْ مَنْ إِذَا سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ وَإِنْ سَكَتَّ ابْتَدَاكَ وَإِنْ نَزَلَتْ بِكَ نَازِلَةٌ وَاسَاكَ اصْحَبْ مَنْ إِذَا قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَكَ وَإِنْ حاولتما أمراً أمرك وإن تنازعتما آثرك فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة وشرط أن يكون قائماً بجميعها
قال ابن أكثم قال المأمون فأبن هذا فقيل له أتدري لم أوصاه بذلك
قال(2/171)
لا
قال لأنه أراد أن لا يصحب أحداً
وقال بعض الأدباء لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك ويطوي سيئتك فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك
وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إِنَّ أَخَاكَ الْحَقَّ مَنْ كَانَ مَعَكَ ... وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكَ
وَمَنْ إِذَا رَيْبُ زَمَانٍ صَدَّعَكَ ... شَتَّتَ فِيهِ شمله ليجمعك
وقال بعض العلماء لا تصحب إلا أحد رجلين رجل تتعلم منه شيئاً في أمر دينك فينفعك أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك والثالث فاهرب منه وقال بعضهم الناس أربعة فواحد حلو كله فلا يشبع منه
وآخر مر كله فلا يؤكل منه وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه لا تصحب خمسة الكذاب فإنك منه على غرور وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب والأحمق فإنك لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك
والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه والجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدة والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها فقيل وما أقل منها قال الطمع فيها ثم لا ينالها
وقال الجنيد لأن يصحبني فاسق حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قاريء سيء الخلق
وقال ابن أبي الحواري قال لي أستاذي أبو سليمان يا أحمد لَا تَصْحَبْ إِلَّا أَحَدَ رَجُلَيْنِ رَجُلًا تَرْتَفِقُ بِهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ أَوْ رَجُلًا تَزِيدُ مَعَهُ وَتَنْتَفِعُ بِهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِكَ وَالِاشْتِغَالُ بغير هذين حمق كبير
وقال سهل بن عبد الله اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس الجبابرة الغافلين والقراء المداهنين والمتصوفة الجاهلين
واعلم أن هذه الكلمات أكثرها غير محيط بجميع أغراض الصحبة والمحيط ما ذكرناه من ملاحظة المقاصد ومراعاة الشروط بالإضافة إليها فليس ما يشترط للصحبة في مقاصد الدنيا مشروطا للصحبته في الآخرة والأخوة كما قال بشر الإخوان ثلاثة أخ لآخرتك وأخ لدنياك وأخ لتأنس به
وقلما تجتمع هذه المقاصد في واحد بل تتفرق على جمع فتتفرق الشروط فيهم لا محالة
وقد قال المأمون الإخوان ثلاثة أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط ولكن العبد قد يبتلي به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع
وقد قيل مثل جملة الناس كمثل الشجر والنبات فمنها ما له ظل وليس له ثمر وهو مثل الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال ومنها ما له ثمر وليس له ظل وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا ومنها ما له ثمر وظل جميعا ومنها ما ليس له واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيهما ولا شراب ومثله من الحيوانات الفأرة والعقرب كما قال تعالى {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} وقال الشاعر
الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر
هذا له ثمر حلو مذاقته ... وذاك ليس له طعم ولا ثمر
فإذا لم يجد رفيقاً يؤاخيه ويستفيد به أحد هذه المقاصد فالوحدة أولى به
قال أبو ذر رضي الله عنه الوحدة خير من الجليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة ويروى مرفوعاً
وأما الديانة وعدم الفسق فقد قال الله تعالى {واتبع سبيل من أناب إلي} ولأن مشاهدة الفسق والفساق تهون أمر المعصية على القلب وتبطل نفرة القلب عنها
قال سعيد بن المسيب لا تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة بل هؤلاء لا سلامة في مخالطتهم وإنما(2/172)
السلامة في الانقطاع عنهم
قال الله تعالى {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} أي سلامة والألف بدل من الهاء ومعناه إنا سلمنا من إثمكم وأنتم سلمتم من شرنا فهذا ما أردنا أن نذكره من معاني الأخوة وشروطها وفوائدها فلنرجع في ذكر حقوقها ولوازمها وطرق القيام بحقها
وَأَمَّا الْحَرِيصُ عَلَى الدُّنْيَا فَصُحْبَتُهُ سُمٌّ قَاتِلٌ لِأَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بَلِ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي صَاحِبُهُ فَمُجَالَسَةُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا تُحَرِّكُ الْحِرْصَ وَمُجَالَسَةُ الزَّاهِدِ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ تكره صحبة طلاب الدنيا ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة
قال علي عليه السلام أحيوا الطاعات بمجالسة من يستحيا منه
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه
وقال لقمان يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَحْيَا بِالْحِكْمَةِ كَمَا تَحْيَا الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ بوابل القطر
الباب الثاني في حقوق الأخوة والصحبة
اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين وكما يقتضي النكاح حقوقاً يجب الوفاء بها قياماً بحق النكاح كما سبق ذكره في كتاب آداب النكاح فكذا عقد الأخوة فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف والتكليف وذلك يجمعه ثمانية حقوق الحق الأول في المال
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْأَخَوَيْنِ مَثَلُ الْيَدَيْنِ تَغْسِلُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى (1)
وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل لأنهما يتعاونان على غرض واحد فكذا الْأَخَوَانِ إِنَّمَا تَتِمُّ أُخُوَّتُهُمَا إِذَا تَرَافَقَا فِي مَقْصِدٍ وَاحِدٍ فَهُمَا مِنْ وَجْهٍ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُسَاهَمَةَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمُشَارَكَةَ فِي الْمَآلِ وَالْحَالِ وَارْتِفَاعَ الِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِئْثَارِ
وَالْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ مَعَ الْأُخُوَّةِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ
أَدْنَاهَا أن تنزله منزلة عبدك أو خَادِمِكَ فَتَقُومَ بِحَاجَتِهِ مِنْ فَضْلَةِ مَالِكَ فَإِذَا سَنَحَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَكَانَتْ عِنْدَكَ فَضْلَةٌ عَنْ حَاجَتِكَ أَعْطَيْتَهُ ابْتِدَاءً وَلَمْ تُحْوِجْهُ إِلَى السُّؤَالِ فَإِنْ أَحْوَجْتَهُ إِلَى السُّؤَالِ فَهُوَ غَايَةُ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْأُخُوَّةِ
الثَّانِيَةُ أَنْ تُنْزِلَهُ مَنْزِلَةَ نَفْسِكَ وَتَرْضَى بِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاكَ فِي مَالِكَ وَنُزُولِهِ منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه
الثالثة وهي الْعُلْيَا أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَتُقَدِّمَ حَاجَتَهُ على حاجتك وهذه مرتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضاً كما روي أنه سعى بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسين النوري فبادر السياف ليكون هو أول مقتول فقيل له في ذلك فقال أحببت أن أوثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة فكان ذلك سبب نجاة جميعهم في حكاية طويلة فَإِنْ لَمْ تُصَادِفْ نَفْسَكَ فِي رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَبِ مَعَ أَخِيكَ فَاعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْأُخُوَّةِ لَمْ يَنْعَقِدْ بَعْدُ فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا الْجَارِي بَيْنَكُمَا مُخَالَطَةٌ رَسْمِيَّةٌ لَا وَقْعَ لَهَا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَقَدْ قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مَنْ رَضِيَ مِنَ الْإِخْوَانِ بِتَرْكِ الْإِفْضَالِ فليؤاخ أهل القبور
وأما الدرجة الدنيا فَلَيْسَتْ أَيْضًا مَرْضِيَّةً عِنْدَ ذَوِي الدِّينِ رُوِيَ أن عتبة الغلام جاء إلى منزل رجل
_________
(1) حديث مثل الأخوين مثل اليدين الحديث تقدم في الباب قبله(2/173)
كَانَ قَدْ آخَاهُ فَقَالَ أَحْتَاجُ مِنْ مَالِكَ إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَقَالَ خُذْ أَلْفَيْنِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ آثَرْتَ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَمَا اسْتَحْيَيْتَ أَنْ تَدَّعِيَ الْأُخُوَّةَ فِي اللَّهِ وَتَقُولَ هذا ومن كان في الدرجة الدنيا من الأخوة ينبغي أن لا تعامله في الدنيا قال أبو حازم إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك وإنما أراد به من كان في هذه الرتبة
وَأَمَّا الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي قَوْلِهِ {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} أَيْ كَانُوا خُلَطَاءَ فِي الْأَمْوَالِ لَا يُمَيِّزُ بَعْضُهُمْ رَحْلَهُ عَنْ بَعْضٍ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَصْحَبُ مَنْ قَالَ نَعْلِي لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلى نفسه
وجاء فتح الموصلي إلى منزل لأخ له وكان غائباً فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته فأخبرت الجارية مولاها فقال إن صدقت فأنت حرة لوجه الله سروراً بما فعل
وجاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه وقال إني أريد أن أواخيك في الله فقال أتدري ما حق الإخاء قال عرفني قال أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني قال لم أبلغ هذه المنزلة بعد قال فاذهب عني
وقال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِرَجُلٍ هَلْ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كُمِّ أَخِيهِ وكيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه قال لا
قال فلستم بإخوان
ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا يا أبا سعيد أصليت قال نعم قالوا فإن أهل السوق لم يصلوا بعد قال ومن يأخذ دينه من أهل السوق بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم قاله كالمتعجب منه
وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال إني أريد أن أرافقك فقال له إبراهيم على أن أكون أملك لشيئك منك قال لا قال أعجبني صدقك قال فكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه وكان لا يصحب إلا من يوافقه وصحبه رجل شراك فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شراك وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية فلما جاء رفيقه قال أين الشراك قال ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان قال كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة
قال اسمح يسمح لك
وأعطى مرة حماراً كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه راجلا فلما جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك
قال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أُهْدِيَ لِرَجُلٍ دمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رَأْسُ شَاةٍ فَقَالَ أَخِي فُلَانٌ أَحْوَجُ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ فَبَعَثَهُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِلَى آخَرَ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إِلَى آخَرَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ أن تداوله سبعة
وروي أن مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً وكان على أخيه خيثمة دين قال فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم ولما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس فقال عبد الرحمن بارك الله لك فيهما (1)
فآثره بما آثره به وكأنه قبله ثم آثره به وذلك مساواة والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة
وقال أبو سليمان الدارني لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لِي فَجَعَلْتُهَا فِي فم أخ من إخواني لاستقللتها له
وقال أيضاً إني لألقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي
كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْإِخْوَانِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَاتِ على الفقراء قال علي رضي الله تعالى عَنْهُ لَعِشْرُونَ دِرْهَمًا أُعْطِيهَا أَخِي فِي اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ على المساكين وقال أيضاً لأن أصنع صاعاً من طعام وأجمع عليه إخواني في الله أحب إلي من أن أعتق رقبة
واقتداء الكل في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين أحدهما معوج والآخر مستقيم إلى صاحبه فقال له يا رسول الله كنت والله أحق بالمستقيم مني فقال ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته هل أقام فيها حق الله أم أضاعه (2)
فأشار بهذا إلى أن الإيثار
_________
(1) حديث لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس فقال عبد الرحمن بارك الله فيهما رواه البخاري من حديث أنس
(2) حديث انه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين أحدهما معوج والآخر مستقيم إلى صاحبه الحديث لم أقف له على أصل(2/174)
هو القيام بحق الله في الصحبة
وخرج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بئر يغتسل عندها فأمسك حذيفة بن اليمان الثوب وقام يستر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب وقام يستر حذيفة عن الناس فأبى حذيفة وقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل فأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل (1)
وقال صلى الله عليه وسلم ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه (2)
وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائباً فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن فجعل يأكل فقال له مالك كف يدك حتى يجيء صاحب البيت فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل وكان مالك أبسط منه وأحسن خلقاً فدخل الحسن وقال يا مويلك هكذا كنا لا يحتشم بعضنا بعضاً حتى ظهرت أنت وأصحابك
وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة كيف وقد قال الله تعالى {أو صديقكم} وقال {أو ما ملكتم مفاتحه} إِذْ كَانَ الْأَخُ يَدْفَعُ مَفَاتِيحَ بَيْتِهِ إِلَى أخيه ويفوض له التصرف كما يريد وكان أخوه يَتَحَرَّجُ عَنِ الْأَكْلِ بِحُكْمِ التَّقْوَى حَتَّى أَنْزَلَ الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الِانْبِسَاطِ فِي طَعَامِ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْدِقَاءِ الْحَقُّ الثَّانِي فِي الْإِعَانَةِ بالنفس فِي قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَالْقِيَامِ بِهَا قَبْلَ السُّؤَالِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْحَاجَاتِ الْخَاصَّةِ
وَهَذِهِ أَيْضًا لَهَا درجات كما للمواساة بالمال فَأَدْنَاهَا الْقِيَامُ بِالْحَاجَةِ عِنْدَ السُّؤَالِ وَالْقُدْرَةِ وَلَكِنْ مَعَ الْبَشَاشَةِ وَالِاسْتِبْشَارِ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَقَبُولِ الْمِنَّةِ
قال بعضهم إذا اسْتَقْضَيْتَ أَخَاكَ حَاجَةً فَلَمْ يَقْضِهَا فَذَكِّرْهُ ثَانِيَةً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهَا فَكَبِّرْ عَلَيْهِ وَاقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْمَوْتَى يبعثهم الله وقضى ابن شبرمة حاجة لبعض إخوانه كبيرة فجاء بهدية فقال ما هذا قال لما أسديته الي فقال خذ مالك عافاك الله إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى
قال جعفر بن محمد إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني
هذا في الأعداء فكيف في الأصدقاء وَكَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَتَفَقَّدُ عِيَالَ أَخِيهِ وَأَوْلَادَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَقُومُ بِحَاجَتِهِمْ ويتردد كُلَّ يَوْمٍ إِلَيْهِمْ وَيَمُونُهُمْ مِنْ مَالِهِ فَكَانُوا لَا يَفْقِدُونَ مِنْ أَبِيهِمْ إِلَّا عَيْنَهُ بَلْ كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول هل لكم زيت هل لكم ملح هل لكم حاجة وكان يقوم بها حَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ أَخُوهُ
وَبِهَذَا تَظْهَرُ الشَّفَقَةُ والأخوة فإذا لَمْ تُثْمِرِ الشَّفَقَةَ حَتَّى يُشْفِقَ عَلَى أَخِيهِ كَمَا يُشْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهَا
قال ميمون ابن مِهْرَانَ مَنْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِصَدَاقَتِهِ لَمْ تَضُرَّكَ عداوته
وقال صلى الله عليه وسلم ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها أصفاها من الذنوب وأصلبها في الدين وأرقها على الإخوان (3)
وَبِالْجُمْلَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حَاجَةُ أَخِيكَ مِثْلَ حَاجَتِكَ أَوْ أَهَمَّ مِنْ حَاجَتِكَ وَأَنْ تَكُونَ مُتَفَقِّدًا لِأَوْقَاتِ الْحَاجَةِ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ أَحْوَالِهِ كَمَا لَا تَغْفُلُ عَنْ أَحْوَالِ نَفْسِكَ وَتُغْنِيهِ عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة بل
_________
(1) حديث ستر حذيفة للنبي صلى الله عليه وسلم بثوب حتى اغتسل ثم ستره صلى الله عليه وسلم لحذيفة حتى اغتسل لم أجده أيضا
(2) حديث ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه تقدم في الباب قبله بلفظ أحدهما حبا لصاحبه
(3) حديث إن لله أواني في أرضه وهي القلوب فأحب الأواني إلى الله أصفاها وأصلبها أخرجه الطبراني من حديث أبي عتبة الخولاني إلا انه قال ألينها وأرقها وإسناده جيد(2/175)
تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها وَلَا تَرَى لِنَفْسِكَ حَقًّا بِسَبَبِ قِيَامِكَ بِهَا بل تتقلد منة بقبوله سعيك في حقه وقيامك بأمره
ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد
كان الحسن يقول إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة
وقال الحسن من شيع أخاه في الله بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة
وفي الأثر ما زار رجل أخاً في الله شوقاً إلى لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطابت لك الجنة (1)
وَقَالَ عطاء تَفَقَّدُوا إِخْوَانَكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى فَعُودُوهُمْ أَوْ مَشَاغِيلَ فَأَعِينُوهُمْ أَوْ كانوا نسوا فذكروهم
وروي أن ابن عمر كان يلتفت يميناً وشمالاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه فقال إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله فإن كان مريضاً عدته وإن كان مشغولاً أعنته (2)
وفي رواية وعن اسم جده وعشيرته
وقال الشعبي في الرجل يجالس الرجل فيقول أعرف وجهه ولا أعرف اسمه تلك معرفة النوكي
وقيل لابن عباس من أحب الناس إليك قال جليسي وقال ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة له إلي فعلمت ما مكافأته من الدنيا
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِجَلِيسِي عَلَيَّ ثَلَاثٌ إِذَا دَنَا رَحَّبْتُ بِهِ وَإِذَا حَدَّثَ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ وَإِذَا جَلَسَ أَوْسَعْتُ لَهُ
وَقَدْ قَالَ تعالى {رحماء بينهم} إِشَارَةً إِلَى الشَّفَقَةِ وَالْإِكْرَامِ
وَمِنْ تَمَامِ الشَّفَقَةِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِطَعَامٍ لَذِيذٍ أَوْ بِحُضُورٍ في مسرة دونه بل يتنغض لِفِرَاقِهِ وَيَسْتَوْحِشُ بِانْفِرَادِهِ عَنْ أَخِيهِ الْحَقُّ الثَّالِثُ في اللسان بِالسُّكُوتِ مَرَّةً وَبِالنُّطْقِ أُخْرَى
أَمَّا السُّكُوتُ فَهُوَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِهِ فِي غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ بَلْ يَتَجَاهَلُ عَنْهُ وَيَسْكُتُ عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا يُمَارِيهِ وَلَا يُنَاقِشُهُ وَأَنْ يَسْكُتَ عَنِ التَّجَسُّسِ وَالسُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِهِ وَإِذَا رَآهُ فِي طَرِيقٍ أَوْ حَاجَةٍ لَمْ يُفَاتِحْهُ بِذِكْرِ غَرَضِهِ مِنْ مَصْدَرِهِ وَمَوْرِدِهِ ولا يسأله عنه فَرُبَّمَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكْذِبَ فِيهِ وَلْيَسْكُتْ عَنْ أَسْرَارِهِ الَّتِي بثها إليه وَلَا يَبُثُّهَا إِلَى غَيْرِهِ الْبَتَّةَ وَلَا إِلَى أَخَصِّ أَصْدِقَائِهِ وَلَا يَكْشِفُ شَيْئًا مِنْهَا وَلَوْ بَعْدَ الْقَطِيعَةِ وَالْوَحْشَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لُؤْمِ الطَّبْعِ وَخُبْثِ الْبَاطِنِ وَأَنْ يَسْكُتَ عَنِ الْقَدْحِ فِي أَحْبَابِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَأَنْ يَسْكُتَ عَنْ حِكَايَةِ قَدْحِ غَيْرِهِ فِيهِ فَإِنَّ الَّذِي سَبَّكَ من بلغك
وقال أنس كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً بشيء يكرهه // حديث أنس كان لا يواجه احد بشىء يكرهه أخرجه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في اليوم والليلة بسند ضعيف
والتأذي يحصل أولاً من المبلغ ثم من القائل نعم لا يَنْبَغِي أَنْ يُخْفِيَ مَا يَسْمَعُ مِنَ الثَّنَاءِ عليه فإن السرور به أولاً يَحْصُلُ مِنَ الْمُبَلِّغِ لِلْمَدْحِ ثُمَّ مِنَ الْقَائِلِ وَإِخْفَاءُ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَدِ
وَبِالْجُمْلَةِ فَلْيَسْكُتْ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ يَكْرُهُهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا إِلَّا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ النُّطْقُ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَلَمْ يَجِدْ رُخْصَةً فِي السُّكُوتِ فَإِذْ ذَاكَ لَا يُبَالِي بِكَرَاهَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ فِي التَّحْقِيقِ وَإِنْ كَانَ يُظَنُّ أَنَّهَا إِسَاءَةٌ فِي الظَّاهِرِ
أَمَّا ذِكْرُ مساوية وعيوبه ومساوي أَهْلِهِ فَهُوَ مِنَ الْغِيبَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَيَزْجُرُكَ عَنْهُ أَمْرَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ تُطَالِعَ أَحْوَالَ نَفْسِكَ فَإِنْ وَجَدْتَ فِيهَا شَيْئًا وَاحِدًا مَذْمُومًا فَهَوِّنْ عَلَى نَفْسِكَ مَا تراه من أخيك
_________
(1) حديث ما زار أخا في الحديث تقدمفي الباب قبله
(2) حديث ابن عمر إذا أحببت أحدا فاسأله عن اسمه واسم أبيه ومنزلة وعشيرته الحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف ورواه الترمذي من حديث يزيد بن نعامة وقال غريب ولا يعرف ليزيد بن نعامة سماع من النبي صلى الله عليه وسلم(2/176)
وَقَدِّرْ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ قَهْرِ نَفْسِهِ فِي تِلْكَ الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَنَّكَ عَاجِزٌ عَمَّا أَنْتَ مُبْتَلًى بِهِ وَلَا تَسْتَثْقِلْهُ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مذمومة فأي الرجال المهذب وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله فلا تنتظره من أخيك في حق نفسك فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك
والأمر الثاني أنك تَعْلَمَ أَنَّكَ لَوْ طَلَبْتَ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ اعْتَزَلْتَ عَنِ الْخَلْقِ كَافَّةً وَلَنْ تَجِدَ مَنْ تُصَاحِبُهُ أَصْلًا فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الناس إلا وله محاسن ومساو فإذا غلبت المحاسن المساوي فَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمُنْتَهَى فَالْمُؤْمِنُ الْكَرِيمُ أَبَدًا يُحْضِرُ فِي نَفْسِهِ مَحَاسِنَ أَخِيهِ لِيَنْبَعِثَ مِنْ قَلْبِهِ التَّوْقِيرُ وَالْوُدُّ وَالِاحْتِرَامُ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ اللَّئِيمُ فَإِنَّهُ أبدا يلاحظ المساوي وَالْعُيُوبَ
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الْعَثَرَاتِ
وَقَالَ الفضيل الْفُتُوَّةُ الْعَفْوُ عَنْ زَلَّاتِ الْإِخْوَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السُّوءِ الَّذِي إِنْ رَأَى خَيْرًا سَتَرَهُ وَإِنْ رَأَى شَرًّا أَظْهَرَهُ (1)
وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه ويمكن تقبيحه أيضاً
روي أن رجلاً أثنى على رجل عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما كان من الغد ذمه فقال عليه السلام أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه فقال والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم إنه أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما علمت فيه وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما علمت فيه فقال عليه السلام إن من البيان لسحراً (2)
وكأنه كره ذلك فشبهه بالسحر ولذلك قال في خبر آخر البذاء والبيان شعبتان من النفاق (3)
وفي الحديث الآخر إن الله يكره لكم البيان كل البيان وكذلك قال الشافعي رحمه الله ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه
فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله فبأن تراه عدلاً في حق نفسك ومقتضى أخوتك أولى
وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يَجِبُ عَلَيْكَ السُّكُوتُ بِقَلْبِكَ وَذَلِكَ بِتَرْكِ إِسَاءَةِ الظَّنِّ فَسُوءُ الظَّنِّ غِيبَةٌ بِالْقَلْبِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا وَحَدُّهُ أَنْ لَا تَحْمِلَ فِعْلَهُ على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن
فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفرساً وهو الذي يستند إلى علامة فإن ذلك يحرك الظن تحريكاً ضرورياً لا يقدر على دفعه والى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه حتى يصدر منه فعل له وجهان فيحملك سوء الاعتقاد فيه على أن تنزله على الوجه الأدرإ من غير علامة تخصه به وذلك جناية عليه بالباطن وذلك حرام في حق كل مؤمن
إذ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قد حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء (4)
وقال صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (5)
وسوء الظن
_________
(1) حديث اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السُّوءِ الَّذِي إِنْ رَأَى خَيْرًا سَتَرَهُ وَإِنْ رَأَى شَرًّا أَظْهَرَهُ أخرجه البخاري في التاريخ من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وللنسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد بسند صحيح تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام
(2) حديث أن رجلاً أثنى على رجل عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما كان من الغد ذمه الحديث {وفيه} فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مَنْ البيان لسحرا أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك من حديث أبي بكرة إلا انه ذكر المدح والذم في مجلس واحد لا يومين ورواه الحاكم من حديث ابن عباس أطول منه بسند ضعيف أيضا
(3) حديث البذاء والبيان شعبتان من النفاق أخرجه الترمذي وقال حسن غريب والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين من حديث أبي أمامة بسند ضعيف
(4) حديث إن الله حرم من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء أخرجه الحاكم في التاريخ من حديث ابن عباس دون قوله وعرضه ورجاله ثقات إلا أن أبا على النيسابوري قال ليس هذا عندي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو عندي من كلام ابن عباس ولابن ماجه نحوه من حديث ابن عمر ولمسلم من حديث أبي هريرة كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وعرضه
(5) حديث إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة(2/177)
يدعو إلى التحسس والتحسن وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولاتدابروا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا (1)
وَالتَّجَسُّسُ فِي تَطَلُّعِ الْأَخْبَارِ وَالتَّحَسُّسُ بِالْمُرَاقَبَةِ بِالْعَيْنِ
فَسَتْرُ الْعُيُوبِ وَالتَّجَاهُلُ والتغافل عنها شيمة أهل الدين
ويكفيك تنبيهاً على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل أن الله تعالى وصف به في الدعاء فقيل يا من أظهر الجميل وستر القبيح
والمرضي عند الله من تخلق بأخلاقه فإنه ستار العيوب وغفار الذنوب ومتجاوز عن العبيد فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك وما هو بكل حال عبدك ولا مخلوقك وقد قال عيسى عليه السلام للحواريين كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً وقد كشف الريح ثوبه عنه قالوا نستره ونغطيه قال بل تكشفون عورته قالوا سبحان الله من يفعل هذا فقال أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِيمَانُ الْمَرْءِ مَا لَمْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الْأُخُوَّةِ أَنْ يُعَامِلَ أَخَاهُ بِمَا يُحِبُّ أن يعامله به ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوي والعيوب ولو ظهر له منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه فما أبعده إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله وويل له في نص كتاب الله تعالى حيث قال وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية
وَمَنْشَأُ التَّقْصِيرِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوِ السَّعْيِ في كشفها الداء الدفين في الباطن وهو الحقد والحسن فإن الحقود الحسود يملأ باطنه بالخبث ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالا وإذا وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء ويترشح الباطن بخبثه الدفين
ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى قال بعض الحكماء ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد ولا يزيد لطف الحقود إلا وحشة منه وَمَنْ فِي قَلْبِهِ سَخِيمَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَإِيمَانُهُ ضعيف وأمره مُخْطِرٌ وَقَلْبُهُ خَبِيثٌ لَا يَصْلُحُ لِلِقَاءِ اللَّهِ
وقد روى عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه قال كنت باليمن ولي جار يهودي يخبرني عن التوراة فقدم علي اليهودي من سفر فقلت إن الله قد بعث فينا نبياً فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا وقد أنزل علينا كتاباً مصدقاً للتوراة فقال اليهودي صدقت ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به إنا نجد نعته ونعت أمته في التوراة إنه لا يحل لامريء أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ إِفْشَاءِ سِرِّهِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ وَلَهُ أَنْ يُنْكِرَهُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَيْسَ الصِّدْقُ وَاجِبًا فِي كُلِّ مَقَامٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُخْفِيَ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَأَسْرَارَهُ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الْكَذِبِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّ أَخَاهُ نَازِلٌ مَنْزِلَتَهُ وَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يختلفان إلا بالبدن
هذه حقيقة الأخوة وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائياً وخارجاً عن أعمال السر إلى أعمال العلانية فإن معرفة أخيه بعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ 4 أخيه ستره الله تعالى في الدنيا الآخرة (2)
وفي خبر آخر فكأنما أحيا موءودة (3)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ (4)
وَقَالَ الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ
_________
(1) حديث لَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً متفق عليه من حديث أبي هريرة وهو بعض الحديث الذي قبله
(2) حديث من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا الآخرة أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وقال يوم القيامة ولم يقل في الدنيا ولمسلم من حديث أبي هريرة من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة وللشيخين من حديث ابن عمر من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة
(3) حديث فكأنما أحيا موءودة من قبرها أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث عقبة بن عامر من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة زاد الحاكم من قبرها وقال صحيح الإسناد
(4) حديث إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أمانة أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر وقال حسن(2/178)
إلا ثلاثة مجالس مجلس يسفك فيه دم حرام ومجلس يستحل فيه فرج حرام ومجلس يستحل فيه مال من غير حلة (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَتَجَالَسُ الْمُتَجَالِسَانِ بِالْأَمَانَةِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْشِيَ على صاحبه ما يكره (2)
قيل لبعض الأدباء كيف حفظك للسر قال
أنا قبره
وقد قيل صدور الأحرار قبور الأسرار
وقيل إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري به
فمن هذا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم بل عن مشاهدتهم
وقد قيل لآخر
كيف تحفظ السر قال أجحد المخبر وأحلف للمستخبر
وقال آخر وأستر أني أستره وعبر عنه ابن المعتز فقال
ومستودعي سراً تبوأت كتمه ... فأودعته صدري فصار له قبرا
وقال آخر وأراد الزيادة عليه
وما السر في صدري كثاو بقبره ... لأني أرى المقبور ينتظر النشرا
ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أحط ساعة خبرا
ولو جاز كتم السر بيني وبينه ... عن السر والأحشاء لم تعلم السرا
وَأَفْشَى بَعْضُهُمْ سِرًّا لَهُ إِلَى أَخِيهِ ثُمَّ قال له
حفظت فقال بل نسيت
وكان أبو سعيد الثوري يقول إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك فإن قال خيراً وكتم سرك فاصحبه
وقيل لأبي يزيد من تصحب من الناس قال من يعلم منك ما يعلم الله ثم يستر عليك كما يستره الله
وقال ذو النون لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوماً ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها
وقد قال بعض الحكماء
لا تصحب من يتغير عليك عند أربع عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه
بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال ولذلك قيل
وترى الكريم إذا تصرم وصله ... يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضى وصله ... يخفي الجميل ويظهر البهتانا
وَقَالَ العباس لِابْنِهِ عبد الله إِنِّي أَرَى هَذَا الرَّجُلَ يَعْنِي عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خَمْسًا لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا وَلَا تَغْتَابَنَّ عنده أحداً ولا تجرين عليه كَذِبًا وَلَا تَعْصِيَنَّ لَهُ أَمْرًا وَلَا يَطَّلِعَنَّ مِنْكَ عَلَى خِيَانَةٍ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ
وَمِنْ ذلك السكوت عن الْمُمَارَاةِ وَالْمُدَافَعَةِ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَخُوكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُمَارِ سَفِيهًا فَيُؤْذِيكَ وَلَا حَلِيمًا فَيَقْلِيكَ
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ بيت في أعلى الجنة // حديث مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بيت في ربض الجنة الحديث تقدم في العلم
هَذَا مَعَ أَنَّ تَرْكَهُ مُبْطِلًا وَاجِبٌ وَقَدْ جَعَلَ ثَوَابَ النَّفْلِ أَعْظَمَ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْحَقِّ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ مِنَ السُّكُوتِ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِنَّمَا الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ
وَأَشَدُّ الْأَسْبَابِ لِإِثَارَةِ نَارِ الْحِقْدِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ الْمُمَارَاةُ والمنافسة فإنها عين التدابر والتقاطع فإن التقاطع
_________
(1) حديث المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس الحديث أخرجه أبو داود من حديث جابر من رواية ابن أخيه غير مسمى عنه
(2) حديث إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة لا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْشِيَ عَلَى صَاحِبِهِ مَا يكره أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف ورواه ابن المبارك في الزهد من رواية أبي بكر بن حزم مرسلا والحاكم وصححه من حديث ابن عباس إنكم تجالسون بينكم بالأمانة(2/179)
يَقَعُ أَوَّلًا بِالْآرَاءِ ثُمَّ بِالْأَقْوَالِ ثُمَّ بِالْأَبْدَانِ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخواناً الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَحْرِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ (1)
وَأَشَدُّ الِاحْتِقَارِ الْمُمَارَاةُ فَإِنَّ من رد على غيره كلامه فقد نسبة إلى الجهل والحمق أو إلى الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ عَنْ فَهْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ اسْتِحْقَارٌ وَإِيغَارٌ لِلصَّدْرِ وإيحاش
وفي حديث أبي أمامة الباهلي قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَمَارَى فَغَضِبَ وَقَالَ ذَرُوا المراء ذَرُوا الْمِرَاءَ لِقِلَّةِ خَيْرِهِ وَذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ نفعه قليل وإنه يهي 4 ج العداوة بين الإخوان حديث أبي أمامة خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَمَارَى فَغَضِبَ وَقَالَ ذَرُوا الْمِرَاءَ لِقِلَّةِ خَيْرِهِ وَذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ نَفْعَهُ قَلِيلٌ وإنه يهيج العداوة بين الإخوان (2) حديث ابن عباس لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ موعداً فتخلفه أخرجه الترمذي وقال غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه يعنى من حديث ليث بن أبى سليم وضعفه الجمهور (3) حديث إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق أخرجه أبو يعلى الموصلى والطبراني في مكارم الأخلاق وابن عدى في الكامل وضعفه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة //
والمماراة مضادة لحسن الخلق
وقد انتهى السلف في الحذر عن المماراة والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أصلاً
وقالوا إذا قلت لأخيك قم فقال إلى أين فلا تصحبه بل قالوا ينبغي أن يقوم ولا يسأل
وقال أبو سليمان الداراني كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب فأقول أعطني من مالك شيئاً فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد فجئته ذات يوم فقلت أحتاج إلى شيء
فقال كم تريد فخرجت حلاوة إخائه من قلبي
وقال آخر إذا طلبت من أخيك مالاً فقال ماذا تصنع به فقد ترك حق الإخاء
واعلم أن قوام الأخوة في الكلام والفعل والشفقة
قال أبو عثمان الحيري موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم وهو كما قال الحق الرابع على اللسان بالنطق
فإن الْأُخُوَّةُ كَمَا تَقْتَضِي السُّكُوتَ عَنِ الْمَكَارِهِ تَقْتَضِي أَيْضًا النُّطْقَ بِالْمَحَابِّ بَلْ هُوَ أَخَصُّ بِالْأُخُوَّةِ لِأَنَّ مَنْ قَنَعَ بِالسُّكُوتِ صَحِبَ أَهْلَ الْقُبُورِ وإنما تراد الإخوان لِيُسْتَفَادَ مِنْهُمْ لَا لِيُتَخَلَّصَ عَنْ أَذَاهُمْ وَالسُّكُوتُ مَعْنَاهُ كَفُّ الْأَذَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَدَّدَ إِلَيْهِ بلسانه ويتفقده في أحواله التي يجب أَنْ يُتَفَقَّدَ فِيهَا كَالسُّؤَالِ عَنْ عَارِضٍ إِنْ عَرَضَ وَإِظْهَارِ شُغْلِ الْقَلْبِ بِسَبَبِهِ وَاسْتِبْطَاءِ الْعَافِيَةِ عَنْهُ وَكَذَا جُمْلَةُ أَحْوَالِهِ الَّتِي يَكْرَهُهَا يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ وَأَفْعَالِهِ كَرَاهَتَهَا وَجُمْلَةُ أَحْوَالِهِ الَّتِي يُسَرُّ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ مُشَارَكَتَهُ لَهُ فِي السُّرُورِ بِهَا
فَمَعْنَى الْأُخُوَّةِ المساهمة في السراء والضراء وقد
_________
(1) حديث لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم المسلم الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأوله متفق عليه من حديثه وحديث أنس وقد تقدم بعضه قبل هذا بسبعة أحاديث
(2) أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة وأبي الدرداء وواثلة وأنس دون ما بعد قوله لقلة خيره ومن هنا إلى آخر الحديث رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة فقط واسنادهما ضعيف وقال بعض السلف من لاحى الإخوان وما رآهم قلت مروءته وذهبت كرامته
وقال عبد الله ابن الحسن إِيَّاكَ وَمُمَارَاةَ الرِّجَالِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدِمَ مَكْرَ حليم أو مفاجأة لئيم
وقال بعض السلف أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم وكثرة المماراة توجب التصنييع والقطيعة وتورث العداوة وقد قال الحسن لا تشتر عَدَاوَةُ رَجُلٍ بِمَوَدَّةِ أَلْفِ رَجُلٍ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بِمَزِيدِ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ وَاحْتِقَارُ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ بِإِظْهَارِ جَهْلِهِ وَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى التَّكَبُّرِ وَالِاحْتِقَارِ وَالْإِيذَاءِ والشتم بالحمق والجهل ولا معنى للمعادة إلا هذا فكيف تضامنه الْأُخُوَّةُ وَالْمُصَافَاةُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ
(3) وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق(2/180)
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ (1)
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِخْبَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ زِيَادَةَ حُبٍّ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّكَ تُحِبُّهُ أَحَبَّكَ بالطبع لا محالة فإذا عرفت أنه أيضاً يحبك زاد حبك لَا مَحَالَةَ فَلَا يَزَالُ الْحُبُّ يَتَزَايَدُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَيَتَضَاعَفُ
وَالتَّحَابُّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَطْلُوبٌ فِي الشرع ومحبوب في الذين ولذلك علم فِيهِ الطَّرِيقَ فَقَالَ تَهَادُوا تَحَابُّوا (2)
وَمِنْ ذَلِكَ أن يدعوه بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ
قَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثٌ يُصَفِّينَ لَكَ وُدَّ أَخِيكَ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ أَوَّلًا وَتُوَسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَتَدْعُوَهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْرِفُ مِنْ مَحَاسِنِ أَحْوَالِهِ عِنْدَ مَنْ يُؤْثِرُ هُوَ الثَّنَاءَ عِنْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي جَلْبِ الْمَحَبَّةِ وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ على أولاده وأهله وصنعته وفعله حتى على عقله وخلقه وهيئته وخطه وشعره وَتَصْنِيفُهُ وَجَمِيعُ مَا يَفْرَحُ بِهِ وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَذِبٍ وَإِفْرَاطٍ وَلَكِنْ تَحْسِينُ مَا يَقْبَلُ التَّحْسِينَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَآكَدُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تُبَلِّغَهُ ثَنَاءَ مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَعَ إِظْهَارِ الْفَرَحِ فَإِنَّ إِخْفَاءَ ذَلِكَ مَحْضُ الْحَسَدِ ومن ذلك تَشْكُرَهُ عَلَى صَنِيعِهِ فِي حَقِّكَ بَلْ عَلَى نيته وإن لم يتم ذلك
قال علي رضي الله عنه من لم يحمد أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن الصنيعة وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي جَلْبِ الْمَحَبَّةِ الذَّبُّ عَنْهُ فِي غَيْبَتِهِ مَهْمَا قُصِدَ بِسُوءٍ أَوْ تَعَرُّضٍ لِعِرْضِهِ بِكَلَامٍ صَرِيحٍ أَوْ تَعْرِيضٍ فَحَقُّ الْأُخُوَّةِ التَّشْمِيرُ فِي الْحِمَايَةِ وَالنُّصْرَةُ وَتَبْكِيتُ الْمُتَعَنِّتِ وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ وَالسُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ مُوغِرٌ لِلصَّدْرِ وَمُنَفِّرٌ لِلْقَلْبِ وَتَقْصِيرٌ فِي حَقِّ الأخوة
وإنما شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخوين باليدين تغسل إحداهما الأخرى لينضر أحدهما الآخر وينوب عنه (3)
وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخدله ولا يثلمه (4)
وهذا من الانثلام والخذلان فإن إهماله لِتَمْزِيقِ عِرْضِهِ كَإِهْمَالِهِ لِتَمْزِيقِ لَحْمِهِ
فَأَخْسِسْ بِأَخٍ يَرَاكَ وَالْكِلَابُ تَفْتَرِسُكَ وَتُمَزِّقُ لُحُومَكَ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا تُحَرِّكُهُ الشَّفَقَةُ وَالْحَمِيَّةُ لِلدَّفْعِ عَنْكَ وَتَمْزِيقُ الْأَعْرَاضِ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ تَمْزِيقِ اللُّحُومِ وَلِذَلِكَ شَبَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْلِ لُحُومِ الْمَيْتَةِ فَقَالَ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ ميتاً} والملك الذي يمثله في المنام ما تطالعه الروح من اللوح المحفوظ بالأمثلة المحسوسة يمثل الغيبة بأكل لحوم الميتة حتى أن من يرى أنه يأكل لحم ميتة فإنه يغتاب الناس لأن ذلك الملك في تمثيله يراعي المشاركة والمناسبة بين الشيء وبين مثاله في المعنى الذي يجري من المثال مجرى الروح لا في ظاهر الصور
فَإِذَنْ حِمَايَةُ الْأُخُوَّةِ بِدَفْعِ ذَمِّ الْأَعْدَاءِ وَتَعَنُّتِ المتعنتين واجب في عقد الأخوة
وقد قال مجاهد لا تذكر أخاك في غيبته إلا كما تحب أن يذكرك في غيبتك
فإذن لك فيه معياران أحدهما أن تقدر أن الذي قيل فيه لو قيل فيك وكان أخوك حاضراً ما الذي كنت تحب أن يقوله أخوك فيك فينبغي أن تعامل المتعرض لعرضه به
والثاني أن تقدر أنه حاضر من وراء جدار يسمع قولك ويظن أنك لا تعرف حضوره فما كان يتحرك في قلبك من النصرة له بمسمع منه ومرأى فينبغي أن يكون في مغيبه كذلك فقد قال بَعْضُهُمْ مَا ذُكِرَ أَخٌ لِي بِغَيْبٍ إِلَّا تَصَوَّرْتُهُ جَالِسًا فَقُلْتُ فِيهِ مَا يُحِبُّ أَنْ يسمعه لو حضر وقال آخر ما ذكر أخ لي إلا تصورت نفسي في صورته فقلت فيه مثل ما أحب أن يقال في
وهذا من صدق الإسلام وهو أن لا يرى لأخيه إلا ما يراه لنفسه
وقد نظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان فوقف أحدهما يحك جسمه فوقف الآخر فبكى وقال هكذا الإخوان في الله يعملان لله فإذا وقف أحدهما وافقه الآخر
وبالموافقة يتم الإخلاص ومن لم يكن مخلصاً في إخائه فهو منافق
والإخلاص استواء الغيب والشهادة
_________
(1) حديث إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أخرجه أبو داود والترمذي قال حسن صحيح والحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب
(2) حديث تهادوا تحابوا أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة وقد تقدم غير مرة
(3) حديث تشبيه الأخوين باليدين تقدم في الباب قبله
(4) حديث المسلم أخو المسلم تقدم في أثناء حديث قبله بسبعة أحاديث(2/181)
واللسان والقلب والسر والعلانية والجماعة والخلوة والاختلاف والتفاوت في شيء من ذلك مماذقة في المودة وهو دخل في الدين ووليجة في طريق المؤمنين ومن لا يقدر من نفسه على هذا فالانقطاع والعزلة أولى به من المؤاخاة والمصاحبة فإن حق الصحبة ثقيل لا يطيقه إلا محقق فلا جرم أجره جزيل لا يناله إلا موفق
ولذلك قال عليه السلام أبا هر أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً وأحسن مصاحبة صاحبك تكن مؤمناً (1)
فانظر كيف جعل الإيمان جزاء الصحبة والإسلام جزاء الجوار فالفرق بين فضل الإسلام على حد الفرق بين المشقة في القيام بحق الجوار والقيام بحق الصحبة
فإن الصحبة تقتضي حقوقاً كثيرة في أحوال متقاربة مترادفة على الدوام والجوار لا يقتضي إلا حقوقاً قريبة في أوقات متباعدة لا تدوم
ومن ذلك التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيك إِلَى الْعِلْمِ بِأَقَلَّ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى الْمَالِ فَإِنْ كُنْتَ غَنِيًّا بِالْعِلْمِ فَعَلَيْكَ مُوَاسَاتُهُ مِنْ فَضْلِكَ وَإِرْشَادُهُ إِلَى كُلِّ مَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَإِنْ عَلَّمْتَهُ وَأَرْشَدْتَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ فَعَلَيْكَ النَّصِيحَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ تَذْكُرَ آفَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَفَوَائِدَ تَرْكِهِ وَتُخَوِّفَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ وَتُنَبِّهَهُ على عيوبه وتقبح القبيح في عينه وتحسن الحسن وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَمَا كَانَ عَلَى الملأ فهو توبيخ وفضيحة وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ إذ قال صلى الله عليه وسلم المؤمن مرآة المؤمن (2)
أي يرى منه ما لا يرى من نفسه فيستفيد المرء بأخيه معرفة عيوب نفسه ولو انفرد لم يستفد كما يستفيد بالمرآة الوقوف على عيوب صورته الظاهرة
وقال الشافعي رضي الله عنه من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه
وقيل لمسعر أتحب من يخبرك بعيوبك فقال إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم وإن قرعني بين الملأ فلا
وقد صدق فإن النصح على الملأ فضيحة والله تعالى يعاتب المؤمن يوم القيامة تحت كنفه في ظل ستره فيوقفه على ذنوبه سراً وقد يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفون به إلى الجنة فإذا قاربوا باب الجنة أعطوه الكتاب مختوماً ليقرأه وأما أهل المقت فينادون على رءوس الأشهاد وتستنطق جوارحهم بفضائحهم فيزدادون بذلك خزياً وافتضاحاً ونعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر
فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء
فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن
وقال ذو النون لَا تَصْحَبْ مَعَ اللَّهِ إِلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا مَعَ الْخَلْقِ إِلَّا بِالْمُنَاصَحَةِ وَلَا مع النفس إلا بالمخالفة ولا مع الشيطان إلا بالعداوة
فإن قلت فإذا كان في النصح ذكر العيوب ففيه إيحاش القلب فكيف يكون ذلك من حق الأخوة فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه فأما تنبيهه على ما لا يعمله فهو عَيْنَ الشَّفَقَةِ وَهُوَ اسْتِمَالَةُ الْقُلُوبِ أَعْنِي قُلُوبَ الْعُقَلَاءِ وَأَمَّا الْحَمْقَى فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ مَنْ يُنَبِّهُكَ عَلَى فِعْلٍ مَذْمُومٍ تَعَاطَيْتَهُ أَوْ صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ اتَّصَفْتَ بِهَا لِتُزَكِّيَ نَفْسَكَ عَنْهَا كَانَ كَمَنْ يُنَبِّهُكَ عَلَى حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ تَحْتَ ذَيْلِكَ وَقَدْ هَمَّتْ بِإِهْلَاكِكَ فَإِنْ كُنْتَ تَكْرَهُ ذَلِكَ فَمَا أَشَدَّ حُمْقَكَ وَالصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ عَقَارِبُ وَحَيَّاتٌ وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ مُهْلِكَاتٌ فَإِنَّهَا تلذغ الْقُلُوبَ وَالْأَرْوَاحَ وَأَلَمُهَا أَشَدُّ مِمَّا يَلْدَغُ الظَّوَاهِرَ وَالْأَجْسَادَ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ ولذلك كان عمر رضي الله عنه
_________
(1) حديث أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مؤمنا أخرجه الترمذي وابن ماجه واللفظ له من حديث أبي هريرة بالشطر الأول فقط وقال الترمذي {مؤمنا} قال وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وقال ابن ماجه {مؤمنا} قال الدارقطني والحديث ثابت ورواه القضاعي في مسند الشهاب بلفظ المصنف
(2) حديث المؤمن مرآة المؤمن أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد حسن(2/182)
يَسْتَهْدِي ذَلِكَ مِنْ إِخْوَانِهِ وَيَقُولُ رَحِمَ اللَّهُ امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه ولذلك قال عمر لسلمان وقد قدم عليه ما الذي بلغك عني مما تكره فاستعفى فألح عليه فقال بلغني أن لك حلتين تلبس إحداهما بالنهار والأخرى بالليل وبلغني أنك تجمع بين إدامين على مائدة واحدة فقال عمر رضي الله عنه أما هذان فقد كفيتهما فهل بلغك غيرهما فقال لا
وكتب حذيفة المرعشي إلى يوسف بن أسباط بلغني أنك بعت دينك بحبتين وقفت على صاحب لبن فقلت بكم هذا فقال بسدس فقلت له لا بثمن فقال هو لك وكان يعرفك
اكشف عن رأسك قناع الغافلين وانتبه عن رقدة الموتى واعلم أن من قرأ القرآن ولم يستغن وَآثَرَ الدُّنْيَا لَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ بِآيَاتِ الله من المستهزئين وقد وصف الله تعالى الكاذبين ببعضهم لِلنَّاصِحِينَ إِذْ قَالَ {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} وَهَذَا فِي عَيْبٍ هُوَ غَافِلٌ عَنْهُ فَأَمَّا ما علمت أنه يعلمه من نفسه فإنما هو مقهور عليه من طبعه فلا ينبغي أن يكشف فيه ستره إن كان يخفيه وإن كان يظهره فلا بد من التلطف في النصح بالتعريض مرة وبالتصريح أُخْرَى إِلَى حَدٍّ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْإِيحَاشِ فَإِنْ عَلِمْتَ أَنَّ النُّصْحَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ مِنْ طَبْعِهِ إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ أَخِيكَ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّكَ فَالْوَاجِبُ فِيهِ الِاحْتِمَالُ وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالتَّعَامِي عَنْهُ وَالتَّعَرُّضُ لِذَلِكَ لَيْسَ مِنَ النُّصْحِ فِي شَيْءٍ نَعَمْ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُؤَدِّي اسْتِمْرَارُهُ عَلَيْهِ إِلَى الْقَطِيعَةِ فَالْعِتَابُ فِي السِّرِّ خَيْرٌ مِنَ الْقَطِيعَةِ وَالتَّعْرِيضُ بِهِ خَيْرٌ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالْمُكَاتَبَةُ خَيْرٌ مِنَ المشافهة والاحتمال خير من الكل إذ ينبغي أن يكون قصدك من أخيك إصلاح نفسك بمراعاتك إياه وقيامك بحقه واحتمالك تقصيره لا الاستعانة به والاسترفاق منه
قال أبو بكر الكتاني صحبني رجل وكان على قلبي ثقيلاً فوهبت له يوماً شيئاً على أن يزول ما في قلبي فلم يزل فأخذت بيده يوماً إلى البيت وقلت له ضع رجلك على خدي فأبى فقلت لا بد ففعل فزال ذلك من قلبي
وقال أبو علي الرباطي صحبت عبد الله الرازي وكان يدخل البادية فقال على أن تكون أنت الأمير أو أنا فقلت بل أنت فقال وعليك الطاعة فقلت نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها الزاد وحملها على ظهره فإذا قلت له أعطني قال ألست قلت أنت الأمير فعليك الطاعة فأخذنا المطر ليلة فوقف على رأسي إلى الصباح وعليه كساء وأنا جالس يمنع عني المطر فكنت أقول مع نفسي ليتني مت ولم أقل أنت الأمير الحق الخامس العفو عن الزلات والهفوات
وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الأخوة
أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده ويجمع شمله ويعيد إلى الصلاح والورع حاله
فإن لم تقدر وبقي مصراً فقد اختلفت طرق الصحابة والتابعين في إدامة حق مودته أو مقاطعته
فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى الانقطاع وقال إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته ورأى ذلك من مقتضى الحب في الله والبغض في الله
وأما أبو الدرداء وجماعة من الصحابة فذهبوا إلى خلافه فقال أبو الدرداء إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى
وقال إبراهيم النخعي لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غداً
وقال أيضاً لا تحدثوا الناس بزلة العالم فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها وفي الخبر اتقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته (1)
وفي حديث عمر وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه وقال
_________
(1) حديث اتقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته رواه البغوي في المعجم وابن عدي في الكامل من حديث عمرو بن عوف المزني وضعفاه(2/183)
ما فعل أخي قال ذلك أخو الشيطان قال مه قال إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر
قال إذا أردت الخروج فآذني فكتب عند خروجه إليه بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} الآية ثم عاتبه تحت ذلك وعذله
فلما قرأ الكتاب بكى وقال صدق الله ونصح لي عمر فتاب ورجع
وحكي أن أخوين ابتلى أحدهما بهوى فأظهر عليه أخاه وقال إني قد اعتللت فإن شئت أن لا تعقد على صحبتي لله فافعل فقال ما كنت لأحل عقد أخوتك لأجل خطيئتك أبداً ثم عقد أخوه بينه وبين الله بأن لا يأكل ولا يشرب حتى يعافى الله أخاه من هواه فطوى أربعين يوما في كلها يسأله عن هواه فكان يقول القلب مقيم على حاله
وما زال هو ينحل من الغم والجوع حتى زال الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين فأخبره بذلك فأكل وشرب بعد أن كاد يتلفت هزالاً وضراً
وكذلك حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه ألا تقطعه وتهجره فقال أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذبيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه
وروي في الإسرائيليات أن أخوين عابدين كانا في جبل نزل أحدهما ليشتري من المصر لحماً بدرهم فرأى بغياً عند اللحام فرمقها وعشقها واجتذبها إلى خلوة وواقعها ثم أقام عندها ثلاثاً واستحيا أن يرجع إلى أخيه حياء من جنايته
قال فافتقده أخوه واهتم بشأنه فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه فدخل إليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه وأنكر الآخر أنه يعرفه قط لفرط استحيائه منه فقال قم يا أخي فقد علمت شأنك وقصتك وما كنت قد أحب إلي ولا أعز من ساعتك هذه فلما رأى أن ذلك لم يسقطه من عينه قام فانصرف معه
فهذه طريقة قوم وهي ألطف وأفقه من طريقة أبي ذر رضي الله عنه وطريقته أحسن وأسلم
فإن قلت ولم قلت هذا ألطف وأفقه ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداء فتجب مقاطعته انتهاء لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها وعلة عقد الأخوة التعاون في الدين ولا يستمر ذلك مم مقارفة المعصية فأقول أما كونه ألطف فلما فيه من الرفق والاستمالة والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة ومهما قوطع وانقطع طمعه عن الصحبة أصر واستمر
وأما كونه أفقه فمن حيث إن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة فإذا انعقدت تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد ومن الوفاء به أن لا يهمل أيام حاجته وفقره وفقر الدين أشد من فقر المال وقد أصابته جائحة وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه فينبغي أن يراقب ويراعي ولا يهمل بل لا يزال يتلطف به ليعان على الخلاص من تلك الوقعة التي ألمت به
فالأخوة عدة للنائبات وحوادث الزمان وهذا من أشد النوائب والفاجر إذا صحب تقياً وهو ينظر إلى خوفه ومداومته فسيرجع على قرب ويستحي من الإصرار بل الكسلان يصحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه
قال جعفر بن سليمان مهما فترت في العمل نظرت إلى محمد بن واسع وإقباله على الطاعة فيرجع إلي نشاطي في العبادة وفارقني الكسل وعملت عليه أسبوعاً وهذا التحقيق وهو أن الصداقة لحمة كلحمة النسب والقريب لا يجوز أن يهجر بالمعصية ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في عشيرته {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} ولم يقل إني بريء منكم مراعاة لحق القرابة ولحمة النسب
وإلى هذا أشار أبو الدرداء لما قيل له ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا فقال إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة
ولذلك قيل لحكيم أيما احب إليك أخوك أو صديقك فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقاً لي
وكان الحسن يقول كم من أخ لم تلده أمك ولذلك قيل(2/184)
القرابة تحتاج إلى مودة والمودة لا تحتاج إلى قرابة وقال جعفر الصادق رضي الله عنه مودة يوم صلة ومودة شهر قرابة ومودة سنة رحم مائية من قطعها قطعه الله
فإذن الوفاء بعقد الأخوة إذا سبق انعقادها واجب
وهذا جوابنا عن ابتداء المؤاخاة مع الفاسق فإنه لم يتقدم له حق فإن تقدمت له قرابة فلا جرم لا ينبغي أن يقاطع بل يجامل
والدليل عليه أن ترك المؤاخاة والصحبة ابتداء ليس مذموماً ولا مكروهاً بل قال قائلون الانفراد أولى فأما قطع الأخوة عن دوامها فمنهي عنه ومذموم في نفسه ونسبته إلى تركها ابتداء كنسبة الطلاق إلى ترك النكاح والطلاق أبغض إلى الله تعالى من ترك النكاح قال صلى الله عليه وسلم شرار عباد الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة (1)
وقال بعض السلف في ستر زلات الإخوان ود الشيطان أن يلقى على أخيكم مثل هذا حتى تهجروه وتقطعوه فماذا اتقيتم من محبة عدوكم
وهذا لأن التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان كما أن مقارفة العصيان من محابه فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني وإلى هذا أشار عليه السلام في الذي شتم الرجل الذي أتى فاحشة إذ قال مه وزبره وقال لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم (2)
فبهذا كله يتبين الفرق بين الدوام والابتداء لأن مخالطة الفساق محذورة ومفارقة الأحباب والإخوان أيضاً محذورة وليس من سلم عن معارضة غيره كالذي لم يسلم وفي الابتداء قد سلم فرأينا أن المهاجرة والتباعد هو الأولى وفي الدوام تعارضاً فكان الوفاء بحق الأخوة أولى هذا كله في زلته في دينه
أما زَلَّتُهُ فِي حَقِّهِ بِمَا يُوجِبُ إِيحَاشَهُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَوْلَى الْعَفْوُ وَالِاحْتِمَالُ بَلْ كل مَا يَحْتَمِلُ تَنْزِيلُهُ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ وَيُتَصَوَّرُ تَمْهِيدُ عُذْرٍ فِيهِ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ فَهُوَ وَاجِبٌ بِحَقِّ الْأُخُوَّةِ فَقَدْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْبِطَ لِزَلَّةِ أَخِيكَ سَبْعِينَ عُذْرًا فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ قَلْبُكَ فَرُدَّ اللَّوْمَ عَلَى نَفْسِكَ فَتَقُولُ لِقَلْبِكَ مَا أَقْسَاكَ يَعْتَذِرُ إِلَيْكَ أَخُوكَ سَبْعِينَ عُذْرًا فَلَا تَقْبَلُهُ فَأَنْتَ الْمَعِيبُ لَا أَخُوكَ فإن ظهر بحيث لم يقبل التحسين فينبغي أن لا تغضب إن قدرت ولكن ذلك لا يمكن وقد قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان
فلا تكن حماراً ولا شيطاناً واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك واحترز أن تكون شيطاناً إن لم تقبل
قال الْأَحْنَفُ حَقُّ الصَّدِيقِ أَنْ تَحْتَمِلَ مِنْهُ ثَلَاثًا ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة
وقال آخر ما شتمت أحداً قط لأنه إن شتمني كريم فأنا أحق من غفرها له أو لئيم فلا أجعل عرضي له غرضاً ثم تمثل وقال
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وقد قيل
خذ من خليلك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معا ... تبة الخليل على الغير
وَمَهْمَا اعْتَذَرَ إِلَيْكَ أَخُوكَ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صادقاً فاقبل عذره
قال عليه السلام من اعتذر إليه أخوه فلم يقبل عذره فعليه مثل إثم صاحب المكس (3)
وقال عليه السلام المؤمن سريع الغضب سريع الرضا (4)
فلم يصفه بأنه
_________
(1) حديث شرار عباد الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة رواه احمد من حديث أسماء بنت يزيد بسند ضعيف
(2) حديث لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم رواه البخاري من حديث أبي هريرة وتقدم في الباب قبله
(3) حديث من اعتذر إليه أخوه فلم يقبل عذره فعليه مثل إثم صاحب المكس أخرجه ابن ماجه وأبو دواد في المراسيل من حديث جودان واختلف في صحبته وجهله أبو حاتم وباقي رجاله ثقات ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بسند ضعيف
(4) حديث المؤمن سريع الغضب سريع الرضا لم أجده هكذا وللترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد الخدري ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى الحديث وفيه ومنهم سريع الفيء فتلك بتلك(2/185)
لا يغضب
وكذلك قال الله تعالى والكاظمين الغيظ ولم يقل والفاقدين الغيظ وهذا لأن العادة لا تنتهي إلى أن يجرح الإنسان فلا يتألم بل تنتهي إلى أن يصبر عليه ويحتمل وكما أن التألم بالجرح مقتضى طبع البدن فالتألم بأسباب الغضب طبع القلب ولا يمكن قلعه ولكن ضبطه وكظمه والعمل بخلاف مقتضاه فإنه يقتضي التشفي والانتقام والمكافأة وترك العمل بمقتضاه ممكن وقد قال الشاعر
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري إذا واخيت أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه فإنك لا تأمن من أن ترى في جوابك ما هو شر من الأول قال فجربته فوجدته كذلك
وقال بعضهم الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته والمعاتبة خير من القطيعة والقطيعة خير من الوقيعة
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي الْبَغْضَةِ عِنْدَ الوقيعة
قال الله تَعَالَى {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عاديتم منهم مودة} وقال عليه السلام أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما (1)
وَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا وَلَا بُغْضُكَ تَلَفًا وَهُوَ أَنْ تحب تلف صاحبك مع هلاكك الحق السادس
الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته بِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَكُلِّ مُتَعَلِّقٍ به فتدعو له كما تدعو لنفسك ولا تفرق بين نفسك وبينه فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق فقد قال صلى الله عليه وسلم إِذَا دَعَا الرَّجُلُ لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ قال الملك ولك مثل ذلك (2)
وفي لفظ آخر يقول الله تعالى بك أبداً يا عبدي (3)
وفي الحديث يستجاب للرجل في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه (4)
وفي الحديث دعوة الرجل لأخته فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ لَا تُرَدُّ (5)
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ إِنِّي لَأَدْعُو لِسَبْعِينَ مِنْ إِخْوَانِي فِي سُجُودِي أُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ
وَكَانَ محمد بن يوسف الأصفهاني يَقُولُ وَأَيْنَ مِثْلُ الْأَخِ الصَّالِحِ أَهْلُكَ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثَكَ وَيَتَنَعَّمُونَ بِمَا خَلَّفْتَ وَهُوَ منفرد بحزنك مهتم مما قَدَّمْتَ وَمَا صِرْتَ إِلَيْهِ يَدْعُو لَكَ فِي ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى وكان الأخ الصالح يقتدي بالملائكة إذ جاء في الخبر إذا مات العبد قال الناس ما خلفت وقال الملائكة ما قدم (6)
يفرحون له بما قدم ويسألون عنه ويشفقون عليه ويقال من بلغه موت أخيه فترحم عليه وأستغفر له كتب له كأنه شهد جنازته وصلى عليه
وروي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء ينتظر دعوة من ولد أو والد أو أخ أو قريب (7)
وأنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء من الأنوار مثل الجبال
وقال بَعْضِ السَّلَفِ الدُّعَاءُ لِلْأَمْوَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْهَدَايَا لِلْأَحْيَاءِ فيدخل الملك على الميت ومعه طبق من نور عليه منديل من نور فيقول هذه
_________
(1) حديث أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال غريب قلت رجاله ثقات رجال مسلم لكن الراوي تردد في رفعه
(2) حديث إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قال الملك ولك بمثل ذلك أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء
(3) حديث الدعاء للأخ بظهر الغيب وفيه يقول الله بك أبداً يا عبدي لم أجد هذا اللفظ
(4) حديث يستجاب للرجل في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه لم أجده بهذا اللفظ ولأبي داود والترمذي وضعفه من حديث عبد الله بن عمرو إن أسرع الدعاء إجابة دعوه غائب لغائب
(5) حديث دعوة الأخ لأخيه في الغيب لا ترد أخرجه الدارقطني في الظل من حديث أبي الدرداء وهو عند مسلم إلا انه قال مستجابة مكان لا ترد
(6) حديث إذا مات العبد قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(7) حديث مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء ينتظر دعوة من ولد أو والد الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة قال الذهبي في الميزان إنه خبر منكر جدا(2/186)
هدية لك من عند أخيك فلان من عند قريبك فلان
قال فيفرح بذلك كما يفرح الحي بالهدية الْحَقُّ السَّابِعُ الْوَفَاءُ وَالْإِخْلَاصُ
وَمَعْنَى الْوَفَاءِ الثَّبَاتُ عَلَى الْحُبِّ وَإِدَامَتُهُ إِلَى الْمَوْتِ مَعَهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ أَوْلَادِهِ وَأَصْدِقَائِهِ فَإِنَّ الْحُبَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِلْآخِرَةِ فَإِنِ انْقَطَعَ قَبْلَ الْمَوْتِ حَبِطَ العمل وضاع السعي ولذلك قال عليه السلام في السبعة الذين يظلهم الله في ظله ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه (1)
وقال بعضهم قليل الوفاء بعد الوفاء خير من كثيره في حال الحياة ولذلك روي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمَ عَجُوزًا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خديجة وَإِنَّ كَرَمَ العهد من الدين (2)
فمن الوفاة لِلْأَخِ مُرَاعَاةُ جَمِيعِ أَصْدِقَائِهِ وَأَقَارِبِهِ وَالْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ وَمُرَاعَاتُهُمْ أَوْقَعُ فِي قَلْبِ الصَّدِيقِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَخِ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ فَرَحَهُ بِتَفَقُّدِ مَنْ يتعلق به أكثر إذ لا يدل على قوة الشفقة والحب إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به حتى الكلب الذي على باب داره ينبغي أن يميز في القلب عن سائر الكلاب ومهما انقطع الوفاء بدوام المحبة شمت به الشيطان فإنه لا يحسد متعاونين على بركما يحسد متواخيين في الله ومتحابين فيه فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما قال الله تعالى وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم وقال مخبراً عن يوسف من بعد إن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ويقال ما تواخى اثنان في الله فتفرق بينهما إلا بذنب يرتكبه أحدهما
وكان بشر يقول إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه
وذلك لأن الإخوان مسلاة للهموم وعون على الدين
ولذلك قال ابن المبارك ألذ الأشياء مجالسة الإخوان والانقلاب إلى كفاية والمودة الدائمة هي التي تكون في الله وما يكون لغرض يزول بزوال ذلك الغرض
وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمَوَدَّةِ فِي اللَّهِ أَنْ لَا تَكُونَ مَعَ حَسَدٍ فِي دِينٍ وَدُنْيَا وَكَيْفَ يَحْسُدُهُ وَكُلُّ مَا هُوَ لِأَخِيهِ فَإِلَيْهِ تَرْجِعُ فَائِدَتُهُ وَبِهِ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحِبِّينَ فِي الله تعالى فقال وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَوُجُودُ الْحَاجَةِ هُوَ الْحَسَدُ
وَمِنَ الْوَفَاءِ أَنْ لا يتغير حاله في التواضع مَعَ أَخِيهِ وَإِنِ ارْتَفَعَ شَأْنُهُ وَاتَّسَعَتْ وِلَايَتُهُ وعظم جاهه فالترفع عَلَى الْإِخْوَانِ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْوَالِ لُؤْمٌ
قَالَ الشَّاعِرُ
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وأوصى بعض السلف ابنه فقال يا بني لا تصحب من الناس إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك وإن استغنيت عنه لم يطمع فيك وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك
وقال بعض الحكماء إذا ولي أخوك ولاية فثبت على نصف مودته لك فهو كثير
وحكى الربيع أن الشافعي رحمه الله آخى رجلاً ببغداد ثم إن أخاه ولى السيبين فتغير له عما كان عليه فكتب إليه الشافعي بهذه الأبيات
اذهب فودك من فؤادي طالق ... أبداً وليس طلاق ذات البين
فإن ارعويت فإنها تطليقة ... ويدوم ودك لي على ثنتين
وإن امتنعت شفعتها بمثالها ... فتكون تطليقين في حيضين
وإذا الثلاث أتتك مني بتة ... لم تغن عنك ولاية السيبين
_________
(1) حديث سبعة يظلهم الله في ظله الحديث تقدم غير مرة
(2) حديث إكرامه صلى الله عليه وسلم لعجوز دخلت عليه وقوله إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان أخرجه الحاكم من حديث عائشة وقال صحيح على شرط الشيخين وليس له علة(2/187)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْوَفَاءِ مُوَافَقَةُ الْأَخِ فِيمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ بل الوفاء له المخالفة فقد كان الشافعي رضي الله عنه آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول ما يقيمني بمصر غيره فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله تعالى فقال
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه
وظن الناس لصدق مودتهما أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته فقيل للشافعي في علته التي مات فيها رضي الله تعالى عنه إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه فقال الشافعي سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي فانكسر لها محمد ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمداً كان قد حمل عنه مذهبه كله لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع
فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى فلما توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ودرس كتب مالك رحمه الله وهو من كبار أصحاب مالك رحمه الله
وآثر البويطي الزهد والخمول ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة واشتغل بالعبادة وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان ويعرف به وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه ولم ينسبه إلى نفسه فزاد الربيع فيه وتصرف وأظهره
والمقصود أن الوفاء بالمحبة من تمامها النصح لله
قال الأحنف الإخاء جوهرة رقيقة إن لم تحرسها كانت معرضة للآفات فاحرسها بالكظم حتى تعتذر إلى من ظلمك وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير
وَمِنْ آثَارِ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَمَامِ الْوَفَاءِ أَنْ تَكُونَ شَدِيدَ الْجَزَعِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ نَفُورَ الطَّبْعِ عَنْ أَسْبَابِهَا كَمَا قِيلَ
وَجَدْتُ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ جَمِيعَهَا ... سِوَى فُرْقَةِ الْأَحْبَابِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ
وَأَنْشَدَ ابْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْبَيْتَ وَقَالَ لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَامًا فَارَقْتُهُمْ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ حَسْرَتَهُمْ ذَهَبَتْ مِنْ قَلْبِي
وَمِنَ الْوَفَاءِ أَنْ لَا يَسْمَعَ بَلَاغَاتِ النَّاسِ عَلَى صديقه لاسيما من يظهر أولاً أنه محب لصديقه كيلا يتهم ثم يلقي الكلام عرضاً وينقل عن الصديق ما يوغر القلب فذلك من دقائق الجيل في التضريب ومن لم يحترز منه لم تدم مودته أصلاً
قال واحد لحكيم قد جئت خاطباً لمودتك قال إن جعلت مهرها ثلاثاً فعلت قال وما هي قال لا تسمع علي بلاغة ولا تخالفني في أمر ولا توطئني عشوة
وَمِنَ الْوَفَاءِ أَنْ لَا يُصَادِقَ عَدُوَّ صَدِيقِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا أَطَاعَ صَدِيقُكَ عدوك فقد اشتركا في عدواتك الْحَقُّ الثَّامِنُ التَّخْفِيفُ وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ وَالتَّكْلِيفِ
وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُكَلِّفَ أَخَاهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بَلْ يُرَوِّحُ سِرَّهُ مِنْ مُهِمَّاتِهِ وَحَاجَاتِهِ وَيُرَفِّهُهُ عن أن يحمله شيئاً من أعبائه فلا يستمد منه من جاه ومال ولا يكلف التواضع له والتفقد لأحواله والقيام بِحُقُوقِهِ بَلْ لَا يَقْصِدُ بِمَحَبَّتِهِ إِلَّا اللَّهَ تعالى تبركاً بدعائه واستئناساً بلقائه واستعانة به على دينه وَتَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَتَحَمُّلِ مُؤْنَتِهِ
قَالَ بَعْضُهُمْ مَنِ اقْتَضَى مِنْ إِخْوَانِهِ ما لا يقضونه فَقَدْ ظَلَمَهُمْ وَمَنِ اقْتَضَى مِنْهُمْ مِثْلَ مَا يقتضونه فقد أتعبهم ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم
وقال بعض الحكماء من جعل نفسه عند الإخوان فوق قدره أثم وأثموا ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا تمام التخفيف بطي بساط التكليف(2/188)
حتى لا يستحي منه فيما لا يستحي من نفسه
وقال الجنيد ما تواخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه أو احتشم إلا لعلة في أحدهما
وقال علي عليه السلام شر الأصدقاء من تَكَلَّفَ لَكَ وَمَنْ أَحْوَجَكَ إِلَى مُدَارَاةٍ وَأَلْجَأَكَ إلى اعتذار
وقال الفضيل إِنَّمَا تَقَاطَعَ النَّاسُ بِالتَّكَلُّفِ يَزُورُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه
وقالت عائشة رضي الله عنها المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه ولا يحتشمه
وقال الجنيد صبحت أربع طبقات من هذه الطائفة كل طبقة ثلاثون رجلاً حارثاً المحاسبي وطبقته وحسناً المسوحي وطبقته وسرياً السقطي وطبقته وابن الكريبي وطبقته فما تواخى اثنان في الله واحتشم أحدهما من صاحبه أو استوحش إلا لعلة في أحدهما
وقيل لبعضهم من نصحب قال من يرفع عنك ثقل التكلف وتسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ
وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَثْقَلُ إِخْوَانِي عَلَيَّ مَنْ يَتَكَلَّفُ لي وَأَتَحَفَّظُ مِنْهُ وَأَخَفُّهُمْ عَلَى قَلْبِي مَنْ أَكُونَ معه كما أكون وحدي
وقال بعض الصوفية لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده ببر ولا تنقص عنده بإثم يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء وإنما قال هذا لأن به يتخلص عن التكلف والتحفظ
وإلا فالطبع يحمله على أن يتحفظ منه إذا علم أن ذلك ينقصه عنده
وقال بعضهم كن مع أبناء الدنيا بالأدب ومع أبناء الآخرة بالعلم ومع العارفين كيف شئت وقال آخر لا تصحب إلا من يتوب عنك إذا أذنبت يعتذر إليك إذا أسأت ويحمل مؤنة نفسك ويكفيك مؤنة نفسه
وقائل هذا قد ضيق طريق الأخوة على الناس وليس الأمر كذلك بل ينبغي أن يواخى كل متدين عاقل ويعزم على أن يقوم بهذه الشرائط ولا يكلف غيره هذه الشروط حتى تكثر إخوانه إذ به يكون مواخيا في الله وإلا كانت مواخاته لحظوظ نفسه فقط
ولذلك قال رجل للجنيد قد عز الإخوان في هذا الزمان أين أخ لي في الله فأعرض الجنيد حتى أعاده ثلاثاً فلما أكثر قال له الجنيد إن أردت أخاً يكفيك مؤنتك ويحتمل أذاك فهذا لعمري قليل وإن أردت أخاً في الله تحمل أنت مؤنته وتصبر على أذاه فعندي جماعة أعرفهم لك
فسكت الرجل
واعلم أن الناس ثلاثة رجل تنتفع بصحبته ورجل تقدر على أن تنفعه ولا تضرر به ولكن لا تنتفع به
ورجل لا تقدر أيضاً على أن تنفعه وتضرر به وهو الأحمق أو السيء الخلق فهذا الثالث ينبغي أن تتجنبه فأما الثاني فلا تجتنبه لأنك تنتفع في الآخرة بشفاعته وبدعائه وبثوابك على القيام به وقد أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن أطعتني فما أكثر إخوانك أي إن واسيتهم واحتملت منهم ولم تحسدهم وقد قال بعضهم صحبت الناس خمسين سنة فما وقع بيني وبينهم خلاف فإني كنت معهم على نفسي ومن كانت هذه شيمته كثر إخوانه
وَمِنَ التَّخْفِيفِ وَتَرْكِ التَّكَلُّفِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ فِي نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ
كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يصطحبون على شرط المساواة بين أربع معان إن أكل أحدهم النَّهَارَ كُلَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ صَاحِبُهُ صُمْ وَإِنْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ أَفْطِرْ وَإِنْ نَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ قُمْ وَإِنْ صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ نَمْ وَتَسْتَوِي حَالَاتُهُ عِنْدَهُ بِلَا مزيد ولا نقصان لأن ذلك إن تفاوت حرك الطبع إلى الرياء والتحفظ لا محالة
وَقَدْ قِيلَ مَنْ سَقَطَتْ كُلْفَتُهُ دَامَتْ أُلْفَتُهُ من خفت مؤنته دامت مودته
وقال بعض الصحابة إن الله لعن المتكلفين وقال صلى الله عليه وسلم أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف (1)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِ أَخِيهِ أَرْبَعَ خِصَالٍ فَقَدْ تَمَّ أُنْسُهُ بِهِ (2)
إِذَا أَكَلَ عِنْدَهُ وَدَخَلَ الْخَلَاءَ وَصَلَّى وَنَامَ
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ فَقَالَ بَقِيَتْ خَامِسَةٌ وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ مَعَ الْأَهْلِ فِي بَيْتِ أخيه ويجامعها لأن البيت يتخذ للاستخفاء في الأمور الخمس
_________
(1) حديث أنا وأمتي برآء من التكلف أخرجه الدارقطني في الأفراد من حديث الزبير بن العوام ألا إني بريء من التكلف وصالحو أمتي وإسناده ضعيف
(2) حديث إذا صنع الرَّجُلُ فِي بَيْتِ أَخِيهِ أَرْبَعَ خِصَالٍ فَقَدْ تم أنسه الحديث لم أجد له أصلا(2/189)
وإلا فالمساجد أروح لقلوب الْمُتَعَبِّدِينَ فَإِذَا فَعَلَ هَذِهِ الْخَمْسَ فَقَدْ تَمَّ الْإِخَاءُ وَارْتَفَعَتِ الْحِشْمَةُ وَتَأَكَّدَ الِانْبِسَاطُ
وَقَوْلُ الْعَرَبِ فِي تَسْلِيمِهِمْ يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ أحدهم لصاحبه مرحباً وأهلاً وَسَهْلًا أَيْ لَكَ عِنْدَنَا مَرْحَبٌ وَهُوَ السَّعَةُ فِي الْقَلْبِ وَالْمَكَانِ وَلَكَ عِنْدَنَا أَهْلٌ تَأْنَسُ بِهِمْ بِلَا وَحْشَةٍ لَكَ مِنَّا وَلَكَ عِنْدَنَا سُهُولَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَيْ لَا يَشْتَدُّ علينا مِمَّا تُرِيدُ
وَلَا يَتِمُّ التَّخْفِيفُ وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ إِلَّا بِأَنْ يَرَى نَفْسَهُ دُونَ إِخْوَانِهِ وَيُحْسِنَ الظن بهم ويسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه فعند ذلك يكون هو خيراً منهم وقال أبو معاوية الأسود إخواني كلهم خير مني قيل وكيف ذلك قال كلهم يرى لي الفضل عليه ومن فضلني على نفسه فهو خير مني وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْءُ عَلَى دين خليله وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ (1)
فَهَذِهِ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ وَهُوَ النَّظَرُ بِعَيْنِ الْمُسَاوَاةِ وَالْكَمَالِ فِي رؤية الفضل للأخ
ولذلك قال سفيان إذا قيل لك ياشر الناس فغضبت فأنت شر الناس أي ينبغي أن تكون معتقداً ذلك في نفسك أبداً
وسيأتي وجه ذلك في كتاب الكبر والعجب
وقد قيل في معنى التواضع ورؤية الفضل للإخوان أبيات
تذلل لمن إن تذللت له ... يرى ذاك للفضل لا للبله
وجانب صداقة من لا يزا ... ل على الأصدقاء يرى الفضل له
وقال آخر
كم صديق عرفته بصديق ... صار أحظى من الصديق العتيق
ورفيق رأيته في طريق ... صار عندي هو الصديق الحقيقي
وَمَهْمَا رَأَى الْفَضْلَ لِنَفْسِهِ فَقَدِ احْتَقَرَ أَخَاهُ وَهَذَا فِي عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ مَذْمُومٌ
قَالَ صَلَّى الله عليه وسلم بحسب المؤمن مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ (2)
وَمِنْ تَتِمَّةِ الِانْبِسَاطِ وَتَرْكِ التَّكَلُّفِ أَنْ يُشَاوِرَ إِخْوَانَهُ في كل ما يقصده ويقبل إشاراتهم فقد قال تعالى وشاورهم في الأمر وينبغي أن لا يخفي عنهم شيئاً من أسراره كما روي أن يعقوب ابن أخي معروف قال جاء أسود بن سالم إلى عمي معروف وكان مواخيا له فقال إن بشر بن الحرث يحب مؤاخاتك وهو يستحي أن يشافهك بذلك وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينك وبينه أخوة يحتسبها ويعتد بها إلا أنه يشترط فيها شروطاً لا يحب أن يشتهر بذلك ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة فإنه يكره كثرة الالتقاء فقال معروف أما أنا لو آخيت أحداً لم أحب مفارقته ليلاً ولا نهاراً ولزرته في كل وقت وآثرته على نفسي في كل حال ثم ذكر من فضل الأخوة والحب في الله أحاديث كثيرة ثم قال فيها
وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فشاركه في العلم (3)
وقاسمه في البدن (4)
وأنكحه أفضل بناته وأحبهن إليه وخصه بذلك لمؤاخاته (5)
وأنا
_________
(1) حديث المرء على دين خليله وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لك مثل ما ترى له تقدم الشطر الأول منه في الباب قبله واما الشطر الثاني فرواه ابن عدي في الكامل من حديث أنس بسند ضعيف
(2) حديث بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وتقدم في أثناء حديث لا تدابروا في هذا الباب
(3) حديث آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وشاركه في العلم أخرجه النسائي في الخصائص من سننه الكبرى من حديث علي قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب الحديث {وفيه} فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي فلم يقم إليه أحد فقمت إليه {وفيه} حتى إذا كان في الثالثة ضرب بيده على يدي وله وللحاكم من حديث ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لأخوه ووليه ووارث علمه الحديث وكل ما ورد في أخوته فضعيف لا يصح منه شيء وللترمذي من حديث ابن عمر وأنت أخي في الدنيا والآخرة وللحاكم من حديث ابن عباس أنا مدينة العلم وعلي بابها وقال صحيح الإسناد وقال ابن حبان لا اصل له وقال ابن طاهر انه موضوع وللترمذي من حديث علي أنا دار الحكمة وعلي بابها وقال غريب
(4) حديث مقاسمته عليا للبدن أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل ثم أعطى عليا فنحر ما عبر وأشركه في هديه
(5) حديث انه أنكح عليا أفضل بناته وأحبهم إليه هذا معلوم مشهور ففي الصحيحين من حديث علي لما أردت أن أبتنى بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا صواغا الحديث وللحاكم من حديث أم أيمن زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة عليا الحديث وقال صحيح الإسناد وفي الصحيحين من حديث عائشة عن فاطمة يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين الحديث(2/190)
أشهدك أني قد عقدت له أخوة بيني وبينه وعقدت إخاءه في الله لرسالتك ولمسألته على أن لا يزورني إن كره ذلك ولكني أزوره متى أحببت ومره أن يلقاني في مواضع نلتقي بها ومره أن لا يخفي علي شيئاً من شأنه وأن يطلعني على جميع أحواله فأخبر ابن سالم بشرا بذلك فرضى وسلا به
فهذا جامع حقوق الصحبة وقد أجملناه مرة وفصلناه أخرى ولا يتم ذلك إلا بأن تكون على نفسك للإخوان ولا تكون لنفسك عليهم وأن تُنْزِلَ نَفْسَكَ مَنْزِلَةَ الْخَادِمِ لَهُمْ فَتُقَيِّدَ بِحُقُوقِهِمْ جميع جوارك
أَمَّا الْبَصَرُ فَبِأَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ مَوَدَّةٍ يَعْرِفُونَهَا مِنْكَ وَتَنْظُرَ إِلَى مَحَاسِنِهِمْ وَتَتَعَامَى عَنْ عُيُوبِهِمْ وَلَا تَصْرِفَ بَصَرَكَ عَنْهُمْ فِي وَقْتِ إقبالهم عليك وكلامهم معك
روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي كُلَّ من جلس إليه نصيباً من وجهه وما استصغاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف مسألته وتوجهه للجالس إليه (1)
وكان مجلسه مجلس حياء وتواضع وأمانة وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَضَحِكًا في وجوه أصحابه وتعجباً مما يحدثونه به وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء منهم بفعله وتوقيراً له عليه السلام
وأما السمع فبأن تسمع كلامه مُتَلَذِّذًا بِسَمَاعِهِ وَمُصَدِّقًا بِهِ وَمُظْهِرًا لِلِاسْتِبْشَارِ بِهِ وَلَا تَقْطَعَ حَدِيثَهُمْ عَلَيْهِمْ بِمُرَادَّةٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ وَمُدَاخَلَةٍ وَاعْتِرَاضٍ فَإِنْ أَرْهَقَكَ عَارِضٌ اعْتَذَرْتَ إِلَيْهِمْ وتحرس سمعك عن سماع ما يكرهون
وأما اللسان فقد ذكرنا حقوقه فإن القول فيه يطول وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُخَاطِبَهُمْ إِلَّا بِمَا يَفْقَهُونَ
وَأَمَّا الْيَدَانِ فَأَنْ لَا يَقْبِضَهُمَا عَنْ مُعَاوَنَتِهِمْ فِي كُلِّ ما يتعاطى باليد
وأما الرجلان فأن يمشي بهما وراءهم مشي الأتباع لا مشي المتبوعين ولا يَتَقَدَّمَهُمْ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يَقْرَبَ مِنْهُمْ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُقَرِّبُونَهُ وَيَقُومَ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا وَلَا يَقْعُدَ إِلَّا بِقُعُودِهِمْ وَيَقْعُدَ متواضعاً حيث يقعد
ومهما تم الاتحاد خف حمله من هذه الحقوق مثل القيام والاعتذار والثناء فإنها من حقوق الصحبة وفي ضمنها نوع من الأجنبية والتكلف فإذا تم الاتحاد انطوى بساط التكلف بالكلية فلا يسلك به إلا مسلك نفسه لأن هذه الآداب الظاهرة عنوان آداب الباطن وصفاء القلب
ومهما صفت القلوب استغنى عن تكلف إظهار ما فيها ومن كان نظره إلى صحبة الخلق فتارة يعوج وتارة يستقيم ومن كان نظره إلى الخالق لزم الاستقامة ظاهراً وباطناً وزين باطنه بالحب لله ولخلقه وزين ظاهره بالعبادة لله والخدمة لعباده فإنها أعلى أنواع الخدمة لله إذ لا وصول إليه إلا بحسن الخلق ويدرك العبد بحسن خلقه درجة القائم الصائم وزيادة
_________
(1) حديث كان يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ نَصِيبَهُ مِنْ وجهه الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل من حديث علي في أثناء حديث فيه يعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه ممن جالسه ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول {ثم قال} مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة {وفيه} يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه وللترمذي من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء ما رأيت أحدا اكثر تبسما من رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غريب(2/191)
خاتمة لهذا الباب نذكر فيها جملة آداب العشرة والمجالسة مع أصناف الخلق ملتقطة من كلام بعض الحكماء
إن أردت حسن العشرة فالق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير ذلة لهم ولا هيبة منهم وتوقير من غير كبر وتواضع مي غَيْرِ مَذَلَّةٍ
وَكُنْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ فِي أَوْسَطِهَا فَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ
وَلَا تَنْظُرْ فِي عِطْفَيْكَ وَلَا تُكْثِرِ الِالْتِفَاتَ وَلَا تَقِفْ عَلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِذَا جَلَسْتَ فَلَا تَسْتَوْفِزْ وَتَحَفَّظْ مِنْ تَشْبِيكِ أَصَابِعِكَ وَالْعَبَثِ بِلِحْيَتِكَ وَخَاتَمِكَ وَتَخْلِيلِ أَسْنَانِكَ وَإِدْخَالِ أُصْبُعِكَ فِي أَنْفِكَ وَكَثْرَةِ بصاقك وتنخمك وطرد الذباب من وجهك وكثر التَّمَطِّي وَالتَّثَاؤُبِ فِي وُجُوهِ النَّاسِ وَفِي الصَّلَاةِ وغيرهما وليكن مجلسك هاديا وَحَدِيثُكَ مَنْظُومًا مُرَتَّبًا وَأَصْغِ إِلَى الْكَلَامِ الْحَسَنِ مِمَّنْ حَدَّثَكَ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ تَعَجُّبٍ مُفْرِطٍ ولا تسأله إعادته واسكت عن المضاحك والحكايات ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك وَلَا شِعْرِكَ وَلَا تَصْنِيفِكَ وَسَائِرِ مَا يَخُصُّكَ وَلَا تَتَصَنَّعْ تَصَنُّعَ الْمَرْأَةِ فِي التَّزَيُّنِ وَلَا تتبذل تبذل العبد وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن وَلَا تُلِحَّ فِي الْحَاجَاتِ وَلَا تُشَجِّعْ أَحَدًا عَلَى الظُّلْمِ وَلَا تُعْلِمْ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِقْدَارَ مَالِكَ فَإِنَّهُمْ إِنْ رَأَوْهُ قَلِيلًا هُنْتَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ تَبْلُغْ قَطُّ رِضَاهُمْ وَخَوِّفْهُمْ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ ولن لهم من غير ضعف ولا تهازل أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك وَإِذَا خَاصَمْتَ فَتَوَقَّرْ وَتَحَفَّظْ مِنْ جَهْلِكَ وَتَجَنَّبْ عَجَلَتَكَ وَتَفَكَّرْ فِي حُجَّتِكَ وَلَا تُكْثِرِ الْإِشَارَةَ بيديك ولا تكثر الالتفات إلى من وراءك ولا تجث على ركبتيك وإذا هدأ غيظك فتكلم وإن قربك سلطان فكن منه على مثل حد السنان فإن استرسل عليك فلا تأمن انقلابه علبك وارفق به رفقك بالصبي وكلمه بما يشتهيه ما لم يكن معصية ولا يحملنك لطفه بك أن تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه وإن كنت لذلك مستحقاً عنده فإن سقطة الداخل بين الملك وبين أهله سقطة لا تنعش وزلة لا تقال وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك وإذا دَخَلْتَ مَجْلِسًا فَالْأَدَبُ فِيهِ الْبِدَايَةُ بِالتَّسْلِيمِ وَتَرْكُ التَّخَطِّي لِمَنْ سَبَقَ وَالْجُلُوسُ حَيْثُ اتَّسَعَ وَحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى التَّوَاضُعِ وَأَنْ تُحَيِّيَ بِالسَّلَامِ مَنْ قَرُبَ مِنْكَ عِنْدَ الْجُلُوسِ
وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنْ جَلَسْتَ فَأَدَبُهُ غَضُّ الْبَصَرِ وَنُصْرَةُ الْمَظْلُومِ وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ وَعَوْنُ الضَّعِيفِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَرَدُّ السَّلَامِ وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالِارْتِيَادُ لِمَوْضِعِ الْبُصَاقِ وَلَا تبصق في جهة القبلة ولا عن يمينك ولكن عن يسارك وتحت قدمك اليسرى
ولا تجالس الملوك فإن فعلت فأدبه ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والإعراب في الخطاب والمذاكرة بأخلاق الملوك وقلة المداعبة وكثرة الحذر منهم وإن ظهرت لك المودة وإن لا تتجشأ بحضرتهم ولا تخلل بعد الأكل عنده وعلى الملك أن يحتمل كل شي إلا إفشاء السر والقدح في الملك والتعرض للحرم
ولا تجالس العامة فإن فعلت فأدبه ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم وقلة اللقاء لهم مع الحاجة إليهم
وَإِيَّاكَ أَنْ تُمَازِحَ لَبِيبًا أَوْ غَيْرَ لَبِيبٍ فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يجتريء عليك لأن المزاح يخرق الهيبة ويسقط ماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الود ويشين فقه الفقيه ويجريء(2/192)
السفيه ويسقط المنزلة عند الحكيم ويمقته المتقون وهو يميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة ويورث الذلة وبه تظلم السرائر وتموت الخواطر وبه تكثر العيوب وتبين الذنوب
وقد قيل لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر
وَمَنْ بُلِيَ فِي مَجْلِسٍ بِمِزَاحٍ أَوْ لَغَطٍ فليذكر الله عند قِيَامِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جلس في مجلس فكثر به لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا غفر له ما كان في مجلسه ذلك (1)
الباب الثالث في حق المسلم والرحم والجوار والملك وكيفية المعاشرة مع
من يدلي بهذه الأسباب
اعلم أن الإنسان إما أن يكون وحده أو مع غيره وإذا تعذر عيش الإنسان إلا بمخالطة مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ تَعَلُّمِ آدَابِ الْمُخَالَطَةِ
وَكُلُّ مُخَالِطٍ فَفِي مُخَالَطَتِهِ أَدَبٌ وَالْأَدَبُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ وحقه على قدر رابطته التي بها وقعت المخالطة
والرابطة إِمَّا الْقَرَابَةُ وَهِيَ أَخَصُّهَا أَوْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَعَمُّهَا وَيَنْطَوِي فِي مَعْنَى الْأُخُوَّةِ الصَّدَاقَةُ وَالصُّحْبَةُ وَإِمَّا الْجِوَارُ وَإِمَّا صُحْبَةُ السَّفَرِ وَالْمَكْتَبِ والدرس وإما الصداقة أَوِ الْأُخُوَّةِ
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ دَرَجَاتٌ
فَالْقَرَابَةُ لَهَا حَقٌّ وَلَكِنَّ حَقَّ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ آكَدُ وَلِلْمَحْرَمِ حَقٌّ وَلَكِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ آكَدُ
وَكَذَلِكَ حَقُّ الْجَارِ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنَ الدَّارِ وَبُعْدِهِ وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ عِنْدَ النِّسْبَةِ حَتَّى إِنَّ الْبَلَدِيَّ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَرِيبِ فِي الْوَطَنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِحَقِّ الْجِوَارِ فِي الْبَلَدِ
وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمُسْلِمِ يَتَأَكَّدُ بتأكد المعرفة
وللمعارف درجات فليس حق الذي عرف بالمشاهدة كحق الذي عرف بالسماع بل آكد منه والمعرفة بعد وقوعها تتأكد بالاختلاط
وكذلك الصحبة تتفاوت درجاتها فحق الصحبة في الدرس والمكتب آكد من حق صحبة السفر
وكذلك الصداقة تتفاوت فإنها إذا قويت صارت أخوة فإن ازدادت صارت محبة فإن ازدادت صارت خلة والخليل أقرب من الحبيب فالمحبة ما تتمكن من حبة القلب والخلة ما تتخلل سر القلب فكل خليل حبيب وليس كل حبيب خليلاً وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة فأما كون الخلة فوق الأخوة فمعناه أن لفظ الخلة عبارة عن حالة هي أتم من الأخوة وتعرفه من قوله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله (2)
إذا الخليل هو الذي يتخلل الحب جميع أجزاء قلبه ظاهراً وباطناً ويستوعبه ولم يستوعب قلبه عليه السلام سوى حب الله وقد منعته الخلة عن الاشتراك فيه مع أنه اتخذ علياً رضي الله عنه أخاً فقال علي مني بمنزلة هرون من موسى إلا النبوة (3)
فعدل بعلي عن النبوة كما عدل بأبي بكر عن الخلة فشارك أبو بكر علياً رضي الله عنهما في الأخوة وزاد عليه بمقاربة الخلة وأهليته لها لو كان للشركة في الخلة مجال فإنه نبه عليه بقوله لاتخذت أبا بكر خليلاً وكان صلى الله عليه وسلم حبيب الله وخليله وقد روي أنه صعد المنبر يوماً مستبشراً فرحاً فقال إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً فأنا حبيب الله وأنا خليل الله تعالى (4)
فإذن ليس قبل
_________
(1) حديث مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سبحانك اللهم وبحمدك الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه
(2) حديث لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً الحديث متفق عليه من حديث أبي سعيد أبي سعيد الخدري
(3) حديث علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص
(4) حديث أن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف دون قوله فأنا حبيب الله وأنا خليل الله(2/193)
المعرفة رابطة ولا بعد الخلة درجة وما سواهما من الدرجات بينهما
وقد ذكرنا حق الصحبة والأخوة ويدخل فيهما ما وراءهما من المحبة والخلة وإنما تتفاوت الرتب في تلك الحقوق كما سبق بحسب تفاوت المحبة والأخوة حتى ينتهي أقصاها إلى أن يوجب الإيثار بالنفس والمال كما آثر أبو بكر رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم وكما آثره طلحة ببدنه إذ جعل نفسه وقاية لشخصه العزيز صلى الله عليه وسلم فنحر الآن نريد أن نذكر حق أخوة الإسلام وحق الرحم وحق الوالدين وحق الجوار وحق الملك أعني ملك اليمين فإن ملك النكاح قد ذكرنا حقوقه في كتاب آداب النكاح حُقُوقُ الْمُسْلِمِ
هِيَ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ وَتُجِيبَهُ إِذَا دَعَاكَ وَتُشَمِّتَهُ إِذَا عَطَسَ وَتَعُودَهُ إِذَا مَرِضَ وَتَشْهَدَ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ وَتَبَرَّ قَسَمَهُ إِذَا أَقْسَمَ عَلَيْكَ وَتَنْصَحَ لَهُ إِذَا اسْتَنْصَحَكَ وَتَحْفَظَهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِذَا غَابَ عنك وتحب لَهُ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَتَكْرَهَ لَهُ مَا تكره لنفسك (1)
ورد جميع ذلك في أخبار وآثار
وقد روى أنس رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال أربع من حق المسلمين عليك أن تعين محسنهم وأن تستغفر لمذنبهم وأن تدعو لمدبرهم وأن تحب تائبهم (2)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى رحماء بينهم قال يدعو صالحهم لطالحهم وطالحهم لصالحهم فإذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير وثبته عليه وانفعنا به إذا نظر الصالح إلى الطالح قال اللهم اهده وتب عليه واغفر له عثرته
ومنها أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه قال النعمان بن بشير سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى والسهر (3)
وروى أبو موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا (4)
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (5)
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل يأمر فيه بالفضائل فإن لم تقدر فدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدقت بها على نفسك (6)
وقال أيضاً أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده (7)
وقال صلى الله عليه وسلم أتدرون من المسلم فقالوا الله ورسوله أعلم قال الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ قالوا فمن المؤمن قال من أمنه المؤمنين على أنفسهم وأموالهم قالوا فمن المهاجر قال من هجر السوء واجتنبه (8)
وقال رجل يا رسول الله ما الإسلام
_________
(1) هو أن يسلم عليه إذا لقيه فذكر عشر خصال أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس وفي رواية لمسلم حق المسلم على المسلم ست إذا لقيته تسلم عليه وزاد وإذا استنصحك فانصح له وللترمذي وابن ماجه من حديث علي للمسلم على المسلم ست فذكر منها ويحب له ما يحب لنفسه وقال وينصح له إذا غاب أو شهد ولأحمد من حديث معاذ وان تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وفي الصحيحين من حديث والبراء أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبع فذكر منها وابرار القسم ونصر الظلوم
(2) حديث انس أربع من حقوق المسلمين عليك أن تعين محسنهم وأن تستغفر لمذنبهم وأن تدعو لمدبرهم وأن تحب تائبهم ذكره صاحب الفردوس ولم أجد له إسنادا
(3) حديث النعمان بن بشير مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الحديث متفق عليه
(4) حديث أبي موسى المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً متفق عليه
(5) حديث الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو
(6) حديث فإن لم تقدر فدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك متفق عليه من حديث أبي ذر
(7) حديث أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده متفق عليه من حديث أبي موسى
(8) حديث اتدرون من المسلم قالوا الله ورسوله أعلم قال المسلم من سلم من لسانه ويده أخرجه الطبراني والحاكم وصححه من حديث فضالة بن عبيد إلا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وانفسهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب ورواه ابن ماجه مقتصرا على المؤمن والمهاجر وللحاكم من حديث انس قال على شرط مسلم والمهاجر من هجر السوء ولأحمد بإسناد صحيح من حديث عمر بن عبسة قال رجل يا رسول الله ما الإسلام قال أن تسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك(2/194)
قال أن يسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك وقال مجاهد يسلط على أهل النار الجرب فيحتكون حتى يبدو عظم أحدهم من جلده فينادي يا فلان هل يؤذيك هذا فيقول نعم فيقول هذا بما كنت تؤذي المؤمنين
وقال صلى الله عليه وسلم لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها عن ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين (1)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه يا رسول الله علمني شيئاً أنتفع به
قال اعزل الأذى عن طريق المسلمين (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من زحرج عن طريق المسلمين شيئاً يؤذيهم كتب الله له به حسنة ومن كتب الله له حسنة أوجب له بها الجنة (3)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُشِيرَ إِلَى أَخِيهِ بِنَظْرَةٍ تُؤْذِيهِ وَقَالَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا (4)
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إن الله يكره أذى المؤمنين (5)
وقال الربيع ابن خيثم الناس رجلان مؤمن فلا تؤذه وجاهل فلا تجاهله
وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَاضَعَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَلَا يَتَكَبَّرَ عليه فإن الله لا يحب كل مختال فخور
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله تعالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أحد على أحد (6)
ثم إن تفاخر عليه غيره فليحتمل قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وعن ابن أبي أوفى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتواضع لكل مسلم ولا يأنف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي حاجته (7)
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْمَعَ بَلَاغَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يُبَلِّغَ بَعْضَهُمْ مَا يَسْمَعُ من بعض
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الجنة قتات (8)
وقال الخليل بن أحمد من نم لك نم عليك ومن أخبرك بخير غيرك أخبر غيرك بخبرك
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْهَجْرِ لِمَنْ يَعْرِفُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَهْمَا غَضِبَ عَلَيْهِ
قال أبو أيوب الأنصاري قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسلام (9)
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أقال مسلماً عثرته أقاله الله يوم القيامة (10)
قال عكرمة قال الله تعالى ليوسف بن يعقوب بعفوك عن إخوانك رفعت ذكرك في الدارين
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ (11)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً
وقال
_________
(1) حديث لقد رأيت رجلا في الجنة يتقلب في شجرة قطعها عن ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(2) حديث أبي هريرة يا رسول الله علمني شيئاً أنتفع به قال اعزل الأذى عن طريق المسلمين أخرجه مسلم من حديث أبي برزة قال قلت يا بني الله فذكره
(3) حديث من زحزح عن طريق المسلمين شيئاً يؤذيهم كتب الله له بها حسنة ومن كتب له بها حسنة أوجب له بها الجنة رواه احمد من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف
(4) حديث لا يحل لمسلم أن ينظر إلى أخيه بنظر يؤذيه أخرجه ابن المبارك في الزهد من رواية حمزة بن عبيد مرسلا بسند ضعيف وفي البر والصلة له من زيادات الحسين المروزى حمزة بن عبد الله بن أبي سمى وهو الصواب
(5) حديث أن الله تعالى يكره أذى المؤمنين أخرجه ابن المبارك في الزهد من رواية عكرمة بن خالد مرسلا بإسناد جيد
(6) حديث إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يفجر أحد على أحد أخرجه أبو داود وابن ماجه واللفظ له من حديث عياض بن جماز ورجاله رجال الصحيح
(7) حديث ابن أبي أوفى كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والسكين فيقضي حاجته أخرجه النسائي بإسناد صحيح والحاكم وقال على شرط الشيخين
(8) حديث لا يدخل الجنة قتات متفق عليه من حديث أبي أيوب
(9) لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاث الحديث متفق عليه
(10) حديث من أقال مسلماً عثرته أقاله الله يوم القيامة أخرجه أبو داود والحاكم وقد تقدم
(11) حديث عائشة مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لنفسه قط إلا أن تصاب حرمة الله فينتقم لله متفق عليه بلفظ إلا أن تنتهك(2/195)
صلى الله عليه وسلم ما نقص مال من صدقة وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً وما من أحد تواضع لله إلا رفعه الله (1)
وَمِنْهَا أَنْ يُحْسِنَ إِلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مَا اسْتَطَاعَ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الأهل وغير الأهل
روى علي بن الحسين على أبيه عن جده رضي الله عنهم قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله فإن أصبت أهله فَهُوَ أَهْلُهُ وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ فَأَنْتَ من أهله (2)
وعنه بإسناده قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الدِّينِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ واصطناع المعروف إلى كل بر وفاجر (3)
قال أبو هريرة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأخذ أحد بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها ولم تكن ترى ركبته خارجة عن ركبة جليسه ولم يكن أحد يكلمه إِلَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ثُمَّ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ كَلَامِهِ (4)
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ بل يَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ
قال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاستئذان ثلاث فالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون (5)
ومنها أن يخالق الجميع بخلق حسن ويعاملهم بحسب طريقته فإنه إن أراد لقاء الجاهل بالعلم والأمي بالفقه والعيي بالبيان آذى وتأذى
ومنها أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان قال جابر رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَلَمْ يرحم صغيرنا (6)
وقال صلى الله عليه وسلم من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم (7)
ومن تمام توقير المشايخ أن لا يتكلم بين أيديهم إلا بالإذن وقال جابر قدم وفد جهينة على النبي صلى الله عليه وسلم فقام غلام ليتكلم فقال صلى الله عليه وسلم مه فأين الكبير (8)
وفي الخبر وما وقر شاب شيخاً إلا قيض الله له في سنه من يوقره (9)
وهذه بشارة بدوام الحياة فليتنبه لها فلا يوفق لتوقير المشايخ إلا من قضى الله له بطول العمر وقال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظاً والمطر قيظاً وتفيض اللئام فيضاً وتغيض الكرام غيضا ويجتريء الصغير على الكبير واللئيم على الكريم (10)
وَالتَّلَطُّفُ بِالصِّبْيَانِ مِنْ عَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم (11)
كان صلى الله عليه وسلم يقدم من السفر فيتلقاه الصبيان فيقف عليهم ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِمْ فَيُرْفَعُونَ إِلَيْهِ فَيُرْفَعُ مِنْهُمْ بين يديه ومن خلفه
_________
(1) حديث ما نقص مال من صدقة وما زاد الله بعفو رجلا إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رفعه الله أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(2) حديث علي بن الحسين عن أبيه عن جده اصنع المعروف إلى أهله فإن لم تصب أهله فأنت أهله ذكره الدارقطني في العلل وهو ضعيف ورواه القضاعي في مسند الشهاب من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جده مرسلا بسند ضعيف
(3) حديث علي بن الحسين عن أبيه عن جده رأس العقل بعد الإيمان التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ وَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ إِلَى كُلِّ بر وفاجر أخرجه الطبراني في الأوسط والخطابي في تاريخ الطالبين وعند أبو نعيم في الحلية دون قوله واصطناع إلى آخره وقال الطبراني التحبب
(4) حديث أبي هريرة كان لا يأخذ أحد بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن ولأبي داود والترمذي وابن ماجه نحوه من حديث انس بسند ضعيف
(5) حديث أبي هريرة الاستئذان ثلاث فالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون أخرجه الدارقطني في الأفراد بسند ضعيف وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع
(6) حديث جابر ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف وهو عند أبي داود والبخاري في الأدب من حديث عبد الله بن عمرو بسند حسن
(7) حديث من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم أخرجه أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري بإسناد حسن
(8) حديث جابر قدم وفد جهينة على النبي صلى الله عليه وسلم فقام غلام ليتكلم فقال صلى الله عليه وسلم مه فأين الكبير أخرجه الحاكم وصححه
(9) حديث ما وقر شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له في سنه من يوقره أخرجه الترمذي من حديث انس بلفظ ما اكرم ومن يكرمه وقال حديث غريب وفي بعض النسخ حسن وفيه أبو الرجال وهو ضعيف
(10) حديث لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا والمطر قيظا الحديث رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن مسعود وإسنادهما ضعيف
(11) حديث التلطف بالصبيان أخرجه البزار من حديث انس كان من أفكه الناس مع صبي وقد تقدم في النكاح وفي الصحيحين يا أبا عمير ما فعل النعير وغير ذلك(2/196)
ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم (1)
فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وحملك أنت وراءه ويقول بعضهم أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم وَكَانَ يُؤْتَى بِالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ لِيَدْعُوَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَلِيُسَمِّيَهُ فَيَأْخُذَهُ فَيَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَرُبَّمَا بَالَ الصبي فيصيح به بعض من يراه فيقول لا تزرموا الصبي بوله فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ من دعائه له وتسميته ويبلغ سرور أهله فيه لئلا يروا أنه تأذى ببوله فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده (2)
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعَ كَافَّةِ الْخَلْقِ مُسْتَبْشِرًا طلق الوجه رفيقاً
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَدْرُونَ عَلَى مَنْ حُرِّمْتِ النَّارُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ عَلَى اللَّيِّنِ الْهَيِّنِ السَّهْلِ الْقَرِيبِ (3)
وَقَالَ أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله يحب السهل الطلق الوجه (4)
وقال بعضهم يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة فقال إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام (5)
وقال عبد الله بن عمر إن الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طيبة (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله قال لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام (7)
وقال معاذ بن جبل قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَحِفْظِ الْجَارِ وَرَحْمَةِ اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وخفض الجناح (8)
وقال أنس رضي الله عنه عرضت لنبي الله صلى الله عليه وسلم امرأة وقالت لي معك حاجة وكان معه ناس من أصحابه فقال اجلسي في أي نواحي السكك شئت أجلس إليك ففعلت فجلس إليها حتى قضت حاجتها (9)
وقال وهب بن منبه أن رجلاً من بني إسرائيل صام سبعين سنة يفطر في كل سبعة أيام فسأل الله تعالى انه يريه كيف يغوي الشيطان الناس فلما طال عليه ذلك ولم يجب قال لو اطلعت على خطيئتي وذنبي
_________
(1) حديث كان يقدم من السفر فتتلقاه الصبيان فيقف عليهم ثم يأمر بهم فيرفعون إليه الحديث رواه مسلم من حديث عبد الله بن جعفر كان إذا قدم من سفر تلقى بنا قال فيلقى بي وبالحسن وقال فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه وفي رواية تلقى بصبيان أهل بيته وانه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردف خلفه وفي الصحيحين أن عبد الله بن جعفر قال لابن الزبير أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس قال نعم فحملنا وتركك لفظ مسلم وقال البخاري أن ابن الزبير قال لابن جعفر فالله اعلم
(2) حديث كان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة ويسميه فيأخذه ويضعه في حجره فربما بال الصبي فيصبح به بعض من رآه الحديث رواه مسلم من حديث عائشة كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتى بعصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله واصله متفق عليه وفي رواية لأحمد فيدعو لهم وفيه صبوا عليه الماء صبا وللدارقطني بال ابن الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ به أخذا عنيفا الحديث وفيه الحجاج بن أرطاة ضعيف ولأحمد بن منبع من حديث حسن بن علي عن امرأة منهم بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا على ظهره يلاعب صبيا إذ بال فقامت لتأخذه وتضربه فقال دعيه ائتوني بكوز من ماء الحديث وإسناده صحيح
(3) حديث أَتَدْرُونَ عَلَى مَنْ حُرِّمْتِ النَّارُ قَالُوا اللَّهُ ورسوله أعلم قال على الهين اللين السهل القريب أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود ولم يقل اللين وذكرها الخرائطي من رواية محمد بن أبي معيقيب عن أمه قال الترمذي حسن غريب
(4) حديث أبي هريرة إن الله يحب السهل الطلق أخرجه البيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف ورواه من رواية مورق العجلي مرسلا
(5) حديث أن من واجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له والبيهقي في شعب الإيمان من حديث هانيء بن يزيد بإسناد جيد
(6) حديث اتقوا النار ولو بشق تمرة الحديث متفق عليه من حديث عدي بن حاتم وتقدم في الزكاة
(7) حديث أن في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها الحديث أخرجه الترمذي من حديث علي وقال حديث غريب قلت وهو ضعيف
(8) حديث معاذ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في كتاب الزهد وأبو نعيم في الحلية ولم يقل البيهقي وخفض الجناح وإسناد ضعيف
(9) حديث انس عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وقلت لي معك حاجة فقال اجلسي في أي نواحي السكك شئت أجلس إليك الحديث رواه مسلم(2/197)
بيني وبين ربي لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي طلبته فأرسل الله إليه ملكاً فقال له إن الله أرسلني إليك وهو يقول لك إن كلامك هذا الذي تكلمت به أحب إلي مما مضى من عبادتك وقد فتح الله بصرك فانظر فنظر فإذا جنود إبليس قد أحاطت بالأرض وإذا ليس أحد من الناس إلا والشياطين حوله كالذئاب فقال أي رب من ينجو من هذا قال الورع اللين
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَعِدَ مُسْلِمًا بِوَعْدٍ إِلَّا ويفي به قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ (1)
وَقَالَ العدة دين (2)
وقال ثلاث في المنافق إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خان (3)
وَقَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وإن صام وصلى (4)
وذكر ذلك وَمِنْهَا أَنْ يُنْصِفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إليه قال صلى الله عليه وسلم لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسه وبذل السلام (5)
وقال عليه السلام من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا (7)
قال الحسن أوحى الله تعالى إلى آدم صلى الله عليه وسلم بأربع خصال وقال فيهن جماع الأمر لك ولولدك واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الخلق فأما التي لي تعبدني ولا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فعملك أجزيك به أفقر ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بنيك وبين الناس فتصحبهم بالذي تحب أن يصحبوك به وسأل موسى عليه السلام الله تعالى فقال أي رب أي عبادك أعدل قال من أنصف من نفسه
وَمِنْهَا أَنْ يَزِيدَ فِي تَوْقِيرِ مَنْ تَدُلُّ هَيْئَتُهُ وَثِيَابُهُ عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فَيُنْزِلَ النَّاسَ منازلهم
روي أن عائشة رضي الله عنها كانت في سفر فنزلت منزلاً فوضعت طعامها فجاء سائل فقالت عائشة ناولوا هذا المسكين قرصاً ثم مر رجل على دابة فقالت ادعوه إلى الطعام
فقيل لها تعطين المسكين وتدعين هذا الغني فقالت إن الله تعالى أنزل الناس منازل لا بد لنا من أن ننزلهم تلك المنازل هذا المسكين يرضى بقرص وقبيح بنا أن نعطي هذا الغني على هذه الهيئة قرصاً
وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس وامتلأ فجاء جرير بن عبد الله البجلي فلم يجد مكاناً فقعد على الباب فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فألقاه إليه وقال له اجلس على هذا فأخذه جرير ووضعه على وجهه وجعل يقبله ويبكي ثم لفه ورمى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال ما كنت لأجلس على ثوبك أكرمك الله كما أكرمتني فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً ثم قال إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه (8)
وكذلك كل من له عليه حق قديم
_________
(1) حديث العدة عطية أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث فباث بن أشيم بسند ضعيف
(2) حديث العدة دين رواه الطبراني في معجميه الأوسط والأصفر من حديث علي وابن مسعود بسند فيه جهالة ورواه أبو داود في المراسيل
(3) حديث ثلاث في المنافق إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خان متفق عليه من حديث أبي هريرة ونحوه
(4) حديث ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صام وصلى رواه البخاري من حديث أبي هريرة وأصله متفق عليه ولفظ مسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم وهذا ليس في البخاري
(5) حديث لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسه وبذل السلام أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمار بن ياسر ووقفه البخاري عليه
(6) حديث من سره أن يزحزح عن النار فلتأته منيته وهو يشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نحوه والخرائطي في مكارم الأخلاق بلفظه
(7) حديث يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تكن مسلماً أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق بسند ضعيف والمعروف أنه قاله لأبي هريرة وقد تقدم
(8) حديث إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وفي أوله قصته في قدوم جرير بن عبد الله أخرجه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح الإسناد وتقدم في الزكاة مختصرا(2/198)
فليكرمه
روي أن ظئر رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته جاءت إليه فبسط لها رداءه ثم قال لها مرحبا بأمي ثم أجلسها على الرداء ثم قال لها اشفعي تشفعي وسلي تعطي فقالت قومي فقال أما حقي وحق بني هاشم فهو ذلك فقام الناس من كل ناحية وقالوا وحقنا يا رسول الله ثم وصلها بعد وأخدمها ووهب لها سهمانه بحنين (1)
فبيع ذلك من عثمان بن عفان رضي الله عنه بمائة ألف درهم ولربما أتاه من يأتيه وهو على وسادة جالس ولا يكون فيها سعة يجلس معه فينزعها ويضعها تحت الذي يجلس إليه فإن ابي عزم عليه حتى يفعل (2)
وَمِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ ذَاتَ الْبَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَهْمَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة (3)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلَاحُ ذات البين (4)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحك قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من هذا فقال الله تعالى رد على أخيك مظلمته
فقال يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء فقال الله تعالى للطالب كيف تصنع بأخيك ولم يبق له من حسناته شيء فقال يا رب فليحمل عني من أوزاري
ثم فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء فقال إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم قال فيقول الله تعالى أي للمتظلم ارفع بصرك فانظر في الجنان فقال يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق أو لأي شهيد قال الله تعالى هذا لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملكه قال بماذا يا رب قال بعفوك عن أخيك قال يا رب قد عفوت عنه فيقول الله تعالى خذ بيد أخيك فأدخله الجنة
ثم قال صلى الله عليه وسلم اتقوا وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة (5)
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خَيْرًا (6)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّ تَرْكَ الْكَذِبِ وَاجِبٌ وَلَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ إِلَّا بِوَاجِبٍ آكد منه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ الْكَذِبِ مَكْتُوبٌ إِلَّا أَنْ يَكْذِبَ الرَّجُلُ فِي الْحَرْبِ (7)
فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ أَوْ يَكْذِبَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا أَوْ يَكْذِبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا وَمِنْهَا أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ الله
_________
(1) حديث أن ظئر رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته جاءت إليه فبسط لها رداءه الحديث أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي الطفيل مختصرا في بسط ردائه لها دون ما بعده
(2) حديث نزعه صلى الله عليه وسلم وسادته ووضعها تحت الذي يجلس إليه أخرجه احمد من حديث ابن عمرو انه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فألقى إليه وسادة من أدم حشوها ليف الحديث وإسناده صحيح وللطبراني من حديث سلمان دخلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متكئ على وسادة فألقاه إلى الحديث وسنده ضعيف قال صاحب الميزان هذا خبر ساقط
(3) حديث ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة رواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي الدرداء
(4) حديث أفضل الصدقة إصلاح ذات البين أخرجه الطبراني في الكبير والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عبد الله بن عمرو وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ضعفه الجمهور
(5) حديث انس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وامي ما الذي أضحك قال رجلان من أمتي جيثا بين يدي الله عز وجل فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من هذا الحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق والحاكم وقال صحيح الإسناد وكذا أبو يعلى الموصلي خرجه بطول وضعفه البخاري وابن حبان
(6) حديث لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خيراً أو نمى خيرا متفق عليه من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
(7) حديث كُلُّ الْكَذِبِ مَكْتُوبٌ إِلَّا أَنْ يَكْذِبَ الرَّجُلُ في الحرب الحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث النواس بن سمعان وفيه انقطاع وضعف ولمسلم نحوه من حديث أم كلثوم بنت عقبة(2/199)
تعالى في الدنيا والآخرة (1) حديث لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة رواه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا (2) حديث أبي سعيد الخدري لا يرى امرؤ مِنْ أَخِيهِ عَوْرَةً فَيَسْتُرُهَا عَلَيْهِ إِلَّا دَخَلَ الجنة رواه الطبراني في الأوسط والصغير والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له بسند ضعيف (3) حديث لو سترته بثوبك كان خيرا لك رواه أبو داود والنسائي من حديث نعيم بن هزال والحاكم من حديث هزال نفسه وقال صحيح الإسناد ونعيم مختلف في صحبته
فإذن على المسلم أن يستر عورة نفسه فحق إسلامه واجب عليه كحق إسلام غيره
قال أبو بكر رضي الله عنه لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله
وروى أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة فلما أصبح قال للناس أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين قالوا إنما أنت إمام فقال علي رضي الله عنه ليس ذلك لك إذاً يقام عليك الحد إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم ثم سألهم فقال القوم مقالتهم الأولى فقال علي رضي الله عنه مثل مقالته الأولى
وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاَ بإخباره ومال رأي علي إلى أنه ليس له ذلك
وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش فإن أفحشها الزنا وقد نيط بأربعة من العدول يشاهدون ذلك منه في ذلك منها كالمرود في المكحلة وهذا قط لا يتفق
وإن علمه القاضي تحقيقاً لم يكن له أن يكشف عنه
فانظر إلى الحكمة في حسم باب الفاحشة بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات
ثم انظر إلى كثيف ستر الله كيف أسبله على العصاة من خلقه بتضييق الطريق في كشفه فنرجو أن لا نحرم هذا الكرم يوم تبلى السرائر ففي الحديث إن الله إذا ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة وإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها مرة أخرى (4)
وعن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال خرجت مع عمر رضي الله عنه ليلة في المدينة فبينما نحن نمشي إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نؤمه فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط فأخذ عمر بيدي وقال أتدري بيت من هذا قلت لا فقال هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى قلت أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه قال الله تعالى {ولا تجسسوا} فرجع عمر رضي الله عنه وتركهم وهذا يدل على وجوب الستر وترك التتبع وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم (5) حديث يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبي برزة بإسناد جيد وللترمذي من حديث ابن عمر وحسنه
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لو رأيت أحداً على حد من حدود الله تعالى
_________
(1) حديث من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وللشيخين من حديث ابن عمر من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة
وقال لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة
(2) وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عَنْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى الْمُؤْمِنُ مِنْ أَخِيهِ عَوْرَةً فَيَسْتُرُهَا عَلَيْهِ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ
(3) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لماعز لما أخبره لو سترته بثوبك كان خيرا لك
(4) حديث إن الله إذا ستر على عبده عورة في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفه في الآخرة الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث علي من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يرجع في شيء قد عفا عنه ومن أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثني العقوبة على عبده لفظ الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولمسلم من حديث أبي هريرة لا ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره يوم القيامة
(5) حديث إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم قاله لمعاوية أخرجه أبو داود بإسناد صحيح من حديث معاوية
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قلبه لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ كان في جوف بيته(2/200)
ما أخذته ولا دعوت له أحداً حتى يكون معي غيري
وقال بعضهم كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ جاءه رجل بآخر فقال هذا نشوان فقال عبد الله بن مسعود استنكهوه فاستنكهوه فوجده نشواناً فحبسه حتى ذهب سكره ثم دعا بسوط فكسر ثمره ثم قال للجلاد اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه فجلده وعليه قباء أو مرط فلما فرغ قال للذي جاء به ما أنت منه قال عمه قال عبد الله ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الحرمة إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه وإن الله عفو يحب العفو ثم قرأ {وليعفوا وليصفحوا} ثم قال إني لأذكر أول رجل قطعه النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعه فكأنما أسف وجهه فقالوا يا رسول الله كأنك كرهت قطعه فقال وما يمنعني لا تكونوا عوناً للشياطين على أخيكم فقالوا ألا عفوت عنه فقال إنه ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد أن يقيمه إن الله عفو يجب العفو وقرأ {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكم والله غفور رحيم} (1)
وفي رواية فكأنما سفي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رماد لشدة تغيره وروى أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة مِنَ اللَّيْلِ فَسَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ فِي بَيْتٍ يتغنى فتسور عليه فوجده عِنْدَهُ امْرَأَةً وَعِنْدَهُ خَمْرٌ فَقَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَظْنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُكَ وَأَنْتَ عَلَى معصيته فقال وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل فإن كنت قد عَصَيْتُ اللَّهَ وَاحِدَةً فَقَدْ عَصَيْتَ اللَّهَ فِيَّ ثلاثا قال الله تعالى {ولا تجسسوا} وَقَدْ تَجَسَّسْتَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها} وَقَدْ تَسَوَّرْتَ عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} الْآيَةَ وَقَدْ دَخَلْتَ بَيْتِي بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا سلام فقال عمر رضي الله عنه
هَلْ عِنْدَكَ مِنْ خَيْرٍ إِنْ عَفَوْتُ عَنْكَ قال نعم والله يا أمير المؤمنين لَئِنْ عَفَوْتَ عَنِّي لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهَا أبداً فعفا عنه وخرج وتركه
وقال رجل لعبد الله بن عمر
يا أبا عبد الرحمن كيف سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في النجوى يوم القيامة قال سمعته يقول إن الله ليدني منه المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم يارب حتى إذا قرره بذنوبه فرأى في نفسه أنه قد هلك قال له يا عبدي إني لم أسترها عليك في الدنيا إلا وأنا أريد أن أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته
وأما الكافرون والمنافقون فتقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين (2)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ (3)
وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ السُّوءَ سِرًّا ثُمَّ يُخْبِرُ بِهِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من استمع خَبَرَ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4)
وَمِنْهَا أَنْ يَتَّقِيَ مَوَاضِعَ التُّهَمِ صِيَانَةً لِقُلُوبِ النَّاسِ عَنْ سُوءِ الظن ولألسنتهم عن العيبة فَإِنَّهُمْ إِذَا عَصَوُا اللَّهَ بِذِكْرِهِ وَكَانَ هُوَ السَّبَبَ فِيهِ كَانَ شَرِيكًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ولا تسبوا الذي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بغير علم وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَرَوْنَ من يسب أَبَوَيْهِ فَقَالُوا وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ فَقَالَ نَعَمْ يَسُبُّ أَبَوَيْ غَيْرِهِ فَيَسُبُّونَ أَبَوَيْهِ (5)
وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يا فلان هذه زوجتي صفية {فقال}
_________
(1) حديث ابن مسعود إني لأذكر أول رجل قطعه النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعه فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وللخرائطي في مكارم الأخلاق فكأنما سفي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رماد الحديث
(2) حديث ابن عمر إن الله عز وجل ليدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس فيقول أتعرف ذنب كذا الحديث متفق عليه
(3) حديث كل أمتي معافى إلا المجاهرين الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(4) حديث من استمع من قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة رواه البخاري من حديث ابن عباس مرفوعا وموقوفا عليه وعلى أبي هريرة أيضا
(5) حديث كَيْفَ تَرَوْنَ مَنْ سَبَّ أَبَوَيْهِ فَقَالُوا وَهَلْ من أحد يسب أبويه الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو ونحوه(2/201)
يا رسول الله من كنت أظن فيه فإني لم أكن أظن فيك فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1)
وزاد في رواية إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً وكانا رجلين فقال على رسلكما إنها صفية الحديث (2)
وكانت قد زارته في العشر الأواخر من رمضان وَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَمِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ به الظن
ومر برجل يكلم امرأة على ظهر الطريق فعلاه بالدرة فقال يا أمير المؤمنين إنها امرأتي فقال هلا حيث لا يراك أحد من الناس وَمِنْهَا أَنْ يَشْفَعَ لِكُلِّ مِنْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَنْ لَهُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةٌ ويسعى في قضاء حاجته بما يقدر عليه قال صلى الله عليه وسلم إني أوتى وأسأل وتطلب إلي الحاجة وأنتم عندي فاشفعوا لتؤجروا ويقضى الله على يدي نبيه ما أحب (3)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشفعوا إلي لتؤجروا إني أريد الأمر وأؤخره كي تشفعوا إلي فتؤجروا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ صدقة أفضل من صدقة اللسان قيل وكيف ذلك قال الشفاعة يحقن بها الدم وتجر بها المنفعة إلى آخر ويدفع بها المكروه عن آخر (4)
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث كأني أنظر إليه خلفها وهو يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال صلى الله عليه وسلم للعباس ألا تعجب من شدة حب مغيث لبريرة وشدة بغضها له فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعته فإنه أبو ولدك فقالت يا رسول الله أتأمرني فأفعل فقال
لا إنما أنا شافع (5)
ومنها أن يبدأ كل مسلم منهم بِالسَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ وَيُصَافِحَهُ عِنْدَ السَّلَامِ قَالَ صلى الله عليه وسلم من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه حتى يبدأ بالسلام (6)
وقال بعضهم دخلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم أسلم ولم أستأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل (7)
وروى جابر رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته (8) حديث أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ثماني حجج فقال لي يا أنس أسبغ الوضوء يزد من عمرك وسلم على من لقيته من أمتي تكثر حسناتك وإذا دخلت بيتك فسلم على أهل بيتك يكثر خير بيتك أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له والبيهقي في الشعب وإسناده ضعيف وللترمذي وصححه إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك
وقال أنس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا التقى المؤمنان فتصافحا قسمت بينهما سبعون مغفرة تسع وستون لأحسنهما بشراً وقال تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو ردوها} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أَدُلُّكُمْ عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ قَالُوا
بلى يا رسول الله
_________
(1) حديث أنس إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كلم إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فقال يا فلان هذه زوجتي فلانة الحديث {وفيه} إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم رواه مسلم
(2) حديث إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا وقال على رسلكما إنها صفية متفق عليه من حديث صفية
(3) حديث إني أوتى وأسأل وتطلب إلي الحاجة وأنتم عندي فاشفعوا لتؤجروا الحديث متفق عليه من حديث أبي موسى نحوه
(4) حديث ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان الحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له في الكبير من حديث سمرة بن جندب ضعيف
(5) حديث عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث كأني أنظر إليه خلفها يبكي الحديث رواه البخاري
(6) حديث من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في اليوم والليلة واللفظ له من حديث ابن عمر بسند فيه لين
(7) حديث دخلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم أسلم ولم أستأذن فقال صلى الله عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث كلدة بن الحنبل وهو صاحب القصة
(8) حديث جابر إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق وفيه ضعف
وقال أنس رضي الله عنه خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ثمان حجج فقال لي يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك وسلم على من لقيته من أمتي تكثر حسناتك وإذا دخلت منزلك فسلم على أهل بيتك يكثر خير بيتك(2/202)
قال أفشوا السلام بينكم (1)
وقال أيضاً إذا سلم المسلم على المسلم فرد عليه صلت عليه الملائكة سبعين مرة (2)
وقال صلى الله عليه وسلم إن الملائكة تعجب من المسلم يمر على المسلم ولا يسلم عليه (3) حديث يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم من القوم أحد أجزأ عنهم رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا ولأبي داود من حديث علي يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يسلم الراكب على الماشي الحديث وسيأتي في بقية الباب (4) حديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سلام عليك فقال صلى الله عليه وسلم عشر حسنات الحديث أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران ابن حصين قال الترمذي حسن غريب وقال البيهقي في الشعب إسناده حسن (5) حديث أنس كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم ورفعه متفق عليه
وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه فعل ذلك
وروى عبد الحميد ابن بهرام أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النَّاسِ قُعُودٌ فَأَوْمَأَ بيده بالسلام وأشار عبد الحميد بيده إلى الحكاية (6)
فقال صلى الله عليه وسلم لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه (7)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تصافحوا أهل الذمة ولا تبدءوهم بالسلام فإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطرق
قالت عائشة رضي الله عنها إن رهطاً من اليهود دخلوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا السام عليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم {عليكم} قالت عائشة رضي الله عنها فقلت بل عليكم السام واللعنة فقال عليه السلام يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل شيء قالت عائشة ألم تسمع ما قالوا قال فقد قلت عليكم (8)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير (9) حديث لا تشبهوا باليهود والنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال إسناده ضعيف //
قال أبو عيسى إسناده ضعيف
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فليست
_________
(1) حديث والذي نفسي بيده لا تدخلو الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(2) حديث إذا سلم المسلم على المسلم فرد عليه صلت عليه الملائكة سبعين مرة ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي هريرة ولم يسنده ولده في المسند
(3) حديث الملائكة تعجب من المسلم يمر على المسلم فلا يسلم عليه لم أقف له على أصل
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الماشي وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم
(4) وقال قتادة كانت تحية من كان قبلكم السجود فأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام وهي تحية أهل الجنة
وكان أبو مسلم الخولاني يمر على قوم فلا يسلم عليهم ويقول ما يمنعني إلا أني أخشى أن لا يردوا فتلعنهم الملائكة
والمصافحة أيضاً سنة مع السلام وجاء رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال السلام عليكم فقال عليه السلام عشر حسنات فجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فقال عشرون حسنة فجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال {ثلاثون}
(5) وَكَانَ أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُرُّ عَلَى الصبيان فيسلم عليهم
(6) حديث عبد الحميد بن بهرام أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي المسجد يوماً وعصبة من الناس قعود فألوى بيده بالتسليم وأشار عبد الحميد بيده أخرجه الترمذي من رواية عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد وقال حسن وابن ماجه من رواية ابن أبي حسين عن شهر ورواه أبو داود وقال أحمد لا بأس به
(7) حديث لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة
(8) حديث عائشة إن رهطاً من اليهود دخلوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا السام عليك الحديث متفق عليه
(9) حديث يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير متفق عليه من حديث أبي هريرة ولم يقل مسلم والصغير على الكبير
وقال صلى الله عليه وسلم لا تشبهوا باليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالإشارة بالأصابع وتسليم النصارى بالإشارة بالأكف(2/203)
الأولى بأحق من الأخيرة (1)
وقال أنس رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا التقى المؤمنان فتصافحا قسمت بينهما سبعون مغفرة تسعة وستون لأحسنهما بشراً (2)
وقال عمر رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا التقى المسلمان وسلم كل واحد منهما على صاحبه وتصافحا نزلت بينهما مائة رحمة للبادئ تسعون وللمصافح عشرة (3)
وقال الحسن المصافحة تزيد في الود
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمام تحياتكم المصافحة (4)
وقال صلى الله عليه وسلم قبلة المسلم أخاه المصافحة (5)
وَلَا بَأْسَ بِقُبْلَةِ يَدِ الْمُعَظَّمِ فِي الدِّينِ تبركاً به وتوقيراً له
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قبلنا يد النبي صلى الله عليه وسلم (6)
وعن كعب بن مالك قال لما نزلت توبتي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبلت يده (7)
وروي أن أعرابياً قال يا رسول الله ائذن لي فأقبل رأسك ويدك قال فأذن له ففعل (8)
ولقي أبو عبيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فصافحه وقبل يده وتنحيا يبكيان وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه سلم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه ومد يده إليه فصافحه فقال يا رسول الله ما كنت أرى هذا إلا من أخلاق الأعاجم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما (9)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مر الرجل بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم السلام وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب أو قال وأفضل (10)
والانحناء عند السلام منهي عنه قال أنس رضي الله عنه قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض قال {لا} قال فيقبل بعضنا بعضاً قال {لا} قال فيصافح بعضنا بعضاً قال {نعم} (11)
والالتزام والتقبيل قد ورد به الخبر عند القدوم من السفر (12)
وقال أبو ذر رضي الله عنه ما لقيته صلى الله عليه وسلم إلا صافحني وطلبني يوماً فلم أكن في البيت فلما أخبرت جئت وهو على سرير فالتزمني فكانت أجود وأجود (13)
_________
(1) حديث إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْأَخِيرَةِ أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة
(2) حديث أنس إذا التقى المسلمان فتصافحا قسمت بينهما سبعون رحمة الحديث أخرجه الخرائطي بسند ضعيف وللطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة مائة رحمة تسعة وتسعون لأبشهما وأطلقهما وأبرهما وأحسنهما مسالمة لأخيه وفيه الحسن بن كثير بن يحيى بن أبي كثير مجهول
(3) حديث عمر بن الخطاب إذا التقى المسلمان فسلم كل واحد على صاحبه وتصافحا نزلت بينهما مائة رحمة الحديث أخرجه البزار في مسنده والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له والبيهقي في الشعب وفي إسناده نظر
(4) حديث أبي هريرة تمام تحياتكم بينكم المصافحة أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق وهو عند الترمذي من حديث أبي أمامة وضعفه
(5) حديث قبلة المسلم أخاه المصافحة أخرجه الخرائطي وابن عدي من حديث أنس وقال غير محفوظ
(6) حديث ابن عمر قبلنا يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود بسند حسن
(7) حديث كعب بن مالك لما نزلت توبتي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبلت يده أخرجه أبو بكر بن المقري في كتاب الرخصة في تقبيل اليد بسند ضعيف
(8) حديث أن أعرابياً قال يا رسول الله ائذن لي فأقبل رأسك ويدك فأذن له ففعل أخرجه الحاكم من حديث بريدة إلا أنه قال رجليك موضع يدك وقال صحيح الإسناد
(9) حديث البراء بن عازب أنه سلم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه ومد يده إليه فصافحه الحديث رواه الخرائطي بسند ضعيف وهو عند أبي داود والترمذي وابن ماجه مختصرا ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا قال الترمذي حسن غريب من حديث أبي إسحاق عن البراء
(10) حديث إذا مر الرجل بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم السلام وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب أخرجه الخرائطي والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود مرفوعا وضعف البيهقي المرفوع ورواه موقوفا عليه بسند صحيح
(11) حديث أنس قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض قال {لا} الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه وضعفه أحمد والبيهقي
(12) حديث الالتزام والتقبيل عند القدوم من السفر أخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت قدم زيد بن حارثة الحديث وفيه فاعتنقه وقبله وقال حسن غريب
(13) حديث أبي ذر ما لقيته صلى الله عليه وسلم إلا صافحني الحديث أخرجه أبو داود وفيه رجل من عزة لم يسم وسماه البيهقي في الشعب عبد الله(2/204)
وَالْأَخْذُ بِالرِّكَابِ فِي تَوْقِيرِ الْعُلَمَاءِ وَرَدَ بِهِ الأثر فعل ابن عباس ذلك بركاب زيد بن ثابت (1)
وأخذ عمر يغرز زيد حتى رفعه وقال هكذا فافعلوا بزيد وأصحاب زيد
والقيام مكروه على سبيل الإعظام لا على سبيل الإكرام قال أنس ما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك (2)
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مرة إذا رأيتموني فلا تقوموا كما تصنع الأعاجم (3)
وقال صلى الله عليه وسلم من سره أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِمِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ ولكن توسعوا وتفسحوا (5)
وكانوا يحترزون عن ذلك لهذا النهي
وقال صلى الله عليه وسلم إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا أحد أخاه فأوسع له فليأته فإنما هي كرامة أكرمه بها أخوه فإن لم يوسع له فلينظر إلى أوسع مكان يجده فيجلس فيه (6)
وروي أنه سلم رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو يبول فلم يجب (7)
فيكره السلام على من يقضي حاجته ويكره أن يقول ابتداء عليك السلام فإنه قاله رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إن عليك السلام تحية الموتى قالها ثلاثاً ثم قال إذا لقي أحدكم أخاه فليقل السلام عليكم ورحمة الله (8)
وَيُسْتَحَبُّ لِلدَّاخِلِ إِذَا سَلَّمَ وَلَمْ يَجِدْ مَجْلِسًا أَنْ لَا يَنْصَرِفَ بَلْ يَقْعُدُ وَرَاءَ الصَّفِّ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَوَجَدَ فُرْجَةً فَجَلَسَ فيها وأما الثاني فجلس خلفهم وأما الثالث فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ
أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فأعرض الله عنه (9)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا (10)
وَسَلَّمَتْ أم هانئ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ {مَنْ هَذِهِ} فَقِيلَ لَهُ أم هانئ فقال صلى الله عليه وسلم مرحبا بأم هانئ (11)
ومنها أن يصون عرض أخيه المسلم وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ عَنْ ظُلْمِ غَيْرِهِ مَهْمَا قَدَرَ وَيَرُدَّ عَنْهُ وَيُنَاضِلَ دُونَهُ وَيَنْصُرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يجب عليه بمقتضى أخوة الإسلام
روى أبو الدرداء أن رجلاً نال من رجل عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) حديث أخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت تقدم في العلم
(2) حديث أنس ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح
(3) حديث إذا رأيتموني فلا تقوموا كما يصنع الأعاجم أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي أمامة وقال كما يقوم الأعاجم وفيه أبو العديس مجهول
(4) حديث من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار أخرجه أبو داود والترمذي من حديث معاوية وقال حسن
(5) حديث لَا يُقِمِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا متفق عليه من حديث ابن عمر
(6) حديث إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا رجل أخاه فأوسع يعني له فليجلس فإنه كرامة من الله عز وجل الحديث أخرجه البغوي في معجم الصحابة من حديث ابن شيبة ورجاله ثقات وابن شيبة هذا ذكره أبو موسى المديني في ذيله في الصحابة وقد رواه الطبراني في الكبير من رواية مصعب بن شيبة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أخصر منه وشيبة بن جبير والد منصور ليست له صحبة
(7) حديث أن رجلا سلم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبول فلم يجب أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ فلم يرد عليه
(8) حديث قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليك السلام فقال إن عليك السلام تحية الميت الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جري الهجيمي وهو صاحب القصة قال الترمذي حسن صحيح
(9) حديث كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أحدهما فوجد فرجة فجلس فيها الحديث متفق عليه من حديث أبي واقد الليثي
(10) حديث ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب
(11) حديث سلمت أم هانئ عليه قال مرحبا بأم هانئ أخرجه مسلم من حديث أم هانئ(2/205)
فرد عنه رجل فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رد عن عرض أخيه كان له حجابا من النار (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة (2)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ذكر عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فلم ينصره أذله الله بها في الدنيا والآخرة ومن ذكر عنده أخوه المسلم فنصره نصره اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (3)
وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم من حمى عن عرض أخيه المسلم في الدنيا بعث الله تعالى له ملكاً يحميه يوم القيامة من النار (4)
وقال جابر وأبو طلحة سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حُرْمَتُهُ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نَصْرَهُ وَمَا مِنِ امْرِئٍ خَذَلَ مُسْلِمًا في موطن ينتهك فِيهِ حُرْمَتُهُ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ (5)
وَمِنْهَا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَاطِسِ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَقُولُ الَّذِي يُشَمِّتُهُ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْعَاطِسُ فَيَقُولُ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ (6)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا يقول إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله رب العالمين فإذا قال ذلك فليقل من عنده يرحمك الله فإذا قالوا ذلك فليقل يغفر الله لي ولكم (7)
وشمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاطساً ولم يشمت آخر فسأله عن ذلك فقال إنه حمد الله وأنت سكت (8)
وقال صلى الله عليه وسلم يشمت العاطس المسلم إذا عطس ثلاثاً فإن زاد فهو زكام (9)
وروي أنه شمت عاطساً ثلاثاً فعطس أخرى فقال إنك مزكوم (10)
وقال أبو هريرة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عطس غض صوته واستتر بثوبه أو يده (11)
وروي خمر وجهه
وقال أبو موسى الأشعري كان اليهود يتعاطسون عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله (12)
وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن رجلاً عطس خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فقال الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يرضى ربنا ويرضى والحمد لله على كل حال
_________
(1) حديث أبي الدرداء من رد عن عرض أخيه كان له حجابا من النار أخرجه الترمذي وحسنه
(2) حديث ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة أخرجه أحمد من حديث أسماء بنت يزيد بنحوه والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو عند الطبراني بهذا اللفظ من حديث أبي الدرداء وفيهما شهر بن حوشب
(3) حديث أنس من ذكر عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فلم ينصره ولو بكلمة أذله الله عز وجل بها في الدنيا والآخرة الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت مقتصرا على ما ذكر منه وإسناده ضعيف
(4) حديث من حمى عرض أخيه المسلم في الدنيا بعث الله له ملكاً يحميه يوم القيامة من النار أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن أنس نحوه بسند ضعيف
(5) حديث جابر وأبي طلحة ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتهك فيه من عرضه ويستحل حرمته الحديث أخرجه أبو داود مع تقديم وتأخير واختلف في إسناده
(6) حديث يقول العاطس الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَقُولُ الَّذِي يشمته يرحمك الله ويقول هو يهديكم الله ويصلح بالكم أخرجه البخاري وأبو داود من حديث أبي هريرة ولم يقل البخاري على كل حال
(7) حديث أبي مسعود إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله رب العالمين الحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة وقال حديث منكر ورواه أيضا أبو داود والترمذي من حديث سالم بن عبد الله واختلف في إسناده
(8) حديث شمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاطساً ولم يشمت آخر فسأله عن ذلك فقال إنه حمد الله وأنت سكت متفق عليه من حديث أنس
(9) حديث شمتوا المسلم إذا عطس ثلاثاً فإن زاد فهو زكام أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة شمت أخاك ثلاثا الحديث وإسناده جيد
(10) حديث أنه شمت عاطسا فعطس أخرى فقال إنك مزكوم أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع
(11) حديث أبي هريرة كان إذا عطس غض صوته وستر بثوبه أو يده أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وفي رواية لأبي نعيم في اليوم والليلة خمر وجهه وفاه
(12) حديث أبي موسى كان اليهود يتعاطسون عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح(2/206)
فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال من صاحب الكلمات فقال أنا يا رسول الله ما أردت بهن إلا خيراً فقال لقد رأيت اثنى عشر ملكا كلهم يبتدرونها أيهم يكتبها (1)
وقال صلى الله عليه وسلم من عطس عنده فسبق إلى الحمد لم يشتك خاصرته (2)
وقال صلى الله عليه وسلم العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإذا قال ها ها فإن الشيطان يضحك من جوفه (3)
وقال إبراهيم النخعي إذا عطس في قضاء الحاجة فلا بأس بأن يذكر الله
وقال الحسن يحمد الله في نفسه
وقال كعب قال موسى عليه السلام يا رب أقريب أنت فأناجيك إم بعيد فأناديك فقال أنا جليس من ذكرني فقال فإنا نكون على حال نجلك أن نذكرك عليها كالجنابة والغائط فقال اذكرني على كل حال
وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا بُلِيَ بِذِي شَرٍّ فَيَنْبَغِي أن يتحمله وَيَتَّقِيَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ خَالِصِ الْمُؤْمِنَ مُخَالَصَةً وَخَالِقِ الفاجر مخالفة فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ فِي الظَّاهِرِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ وَهَذَا مَعْنَى الْمُدَارَاةِ وهي مَعَ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} قال ابن عباس في معنى قوله {ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي الفحش والأذى بالسلام والمداراة
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الناس بعضهم ببعض} قَالَ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْحَيَاءِ وَالْمُدَارَاةِ
وَقَالَتْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ هُوَ فَلَمَّا دخل ألان له القول حتى أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ لَمَّا دَخَلَ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ فَقَالَ يَا عائشة إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ (4)
وَفِي الْخَبَرِ مَا وَقَى الرَّجُلُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ لَهُ صدقة (5)
وفي الأثر
خالطوا الناس بأعمالكم وزايلوهم بالقلوب
وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه ليس بحكيم من لم يُعَاشِرُ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بداً حتى يجعل الله له منه فرجاً
ومنها أن يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بِالْمَسَاكِينِ وَيُحْسِنَ إِلَى الْأَيْتَامِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين (6)
وقال كعب الأحبار
كان سليمان عليه السلام في ملكه إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى مِسْكِينًا جَلَسَ إِلَيْهِ وقال مسكين جالس مسكيناً
وقيل ما كان من كلمة تقال لعيسى عليه السلام أحب إليه من أن يقال له يا مسكين
وقال كعب الأحبار ما في القرآن من {يا أيها الذين آمنوا} فهو في التوراة يا أيها المساكين وقال عبادة بن الصامت
إن للنار سبعة أبواب ثلاثة للأغنياء وثلاثة للنساء وواحد للفقراء والمساكين وقال الفضيل بلغني أن نبياً من الأنبياء قال يا رب كيف لي أن أعلم رضاك عني قال انظر كيف رضا المساكين عنك
وقال صلى الله عليه وسلم إياكم ومجالسة الموتى قيل ومن الموتى يا رسول الله قال الأغنياء (7)
وقال موسى إلهي أين أبغيك قال عند المكسرة قلوبهم
وقال صلى الله عليه وسلم لا تغبطن فاجرا
_________
(1) حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة أن رجلاً عطس خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فقال الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مباركا فيه الحديث أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه وإسناده جيد
(2) حديث من عطس عنده فسبق إلى الحمد لم يشتك خاصرته أخرجه الطبراني في الأوسط وفي الدعاء من حديث علي بسند ضعيف
(3) حديث العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة دون قوله العطاس من الله فرواه الترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة وقال البخاري إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب الحديث
(4) حديث عائشة اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ رجل العشيرة الحديث متفق عليه
(5) حديث ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة أخرجه أبو يعلى وابن عدي من حديث جابر وضعفه
(6) حديث اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زمرة المساكين أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد والترمذي من حديث عائشة وقال غريب
(7) حديث إياكم ومجالسة الموتى قيل وما الموتى قال الأغنياء أخرجه الترمذي وضعفه والحاكم وصحح إسناده من حديث عائشة إياك ومجالسة الأغنياء(2/207)
بنعمة فإنك لا تدري إلى ما يَصِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ طَالِبًا حَثِيثًا (1)
وَأَمَّا الْيَتِيمُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من ضم يتيماً من أبوين مسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة ألبتة (2)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَكَافِلُ اليتيم في الجنة كَهَاتَيْنِ وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعَيْهِ (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ تَرَحُّمًا كَانَتْ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَةٌ (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ وَشَرُّ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ (5)
وَمِنْهَا النَّصِيحَةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَالْجُهْدُ فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قلبه قال صلى الله عليه وسلم المؤمن يحب للمؤمن كما يحب لنفسه (6)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وقال صلى الله عليه وسلم إن أحدكم مرآة أخيه فإذا رأى فيه شيئاً فليمطه عنه (7)
وقال صلى الله عليه وسلم من قضى حاجة لأخيه فكأنما خدم الله عمره (8)
وقال صلى الله عليه وسلم مَنْ أَقَرَّ عَيْنَ مُؤْمِنٍ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار قضاها أو لم يقضها كان خيراً له من اعتكاف شهرين (9)
وقال صلى الله عليه وسلم مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ مَغْمُومٍ أَوْ أَعَانَ مظلوماً غفر الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة (10)
وقال صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقيل كيف ينصره ظالماً قال يمنعه من الظلم (11)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قلب المؤمن أو أن يُفَرِّجَ عَنْهُ غَمًّا أَوْ يَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا أو يطعمه من جوع (12)
وقال صلى الله عليه وسلم من حمى مؤمناً من منافق يعنته بعث الله إليه ملكاً يوم القيامة يحمي لحمه من نار جهنم وقال صلى الله عليه وسلم خصلتان ليس فوقهما شيء من الشر الشرك بالله والضر لعباد الله وخصلتان ليس فوقهما شيء من البر الإيمان بالله والنفع لعباد الله (13)
وقال صلى الله عليه وسلم من لم يهتم للمسلمين فليس منهم (14)
وقال معروف الكرخي من قال كل يوم اللهم ارحم أمة محمد كتبه الله من الأبدال وفي رواية
_________
(1) حديث لا تغبطن فاجرا بنعمة الحديث رواه البخاري في التاريخ والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(2) حديث من ضم يتيماً من أبوين مسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة ألبتة أخرجه أحمد والطبراني من حديث مالك بن عمر وفيه علي بن زيد بن جدعان متكلم فيه
(3) حديث أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد ومسلم من حديث أبي هريرة
(4) حديث مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ تَرَحُّمًا كَانَتْ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا يَدُهُ حسنة أخرجه أحمد والطبراني بإسناد ضعيف من حديث أبي أمامة دون قوله ترحما ولابن حبان في الضعفاء من حديث ابن أبي أوفى من مسح يده على رأس يتيم رحمه له الحديث
(5) حديث خَيْرُ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ وَشَرُّ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فيه يتيم يساء إليه أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة وفيه ضعف
(6) حديث المؤمن يحب للمؤمن ما يحب لنفسه تقدم بلفظ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يحب لنفسه ولم أره بهذا اللفظ
(7) حديث إن أحدكم مرآة أخيه الحديث رواه أبو داود والترمذي وقد تقدم
(8) حديث من قضى لأخيه حاجة فكأنما خدم الله عمره أخرجه البخاري في التاريخ والطبراني والخرائطي كلاهما في مكارم الأخلاق من حديث أنس بسند ضعيف مرسلا
(9) حديث من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار قضاها أو لم يقضها كان خيراً له من اعتكاف شهرين أخرجه الحاكم وصححه من حديث ابن عباس لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته وأشار بأصبعه أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين وللطبراني في الأوسط من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين وكلاهما ضعيف
(10) حديث من فرج عن مغموم أو أعان مظلوماً غفر الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق وابن حبان في الضعفاء وابن عدي من حديث أنس بلفظ من أغاث ملهوفا
(11) حديث انصر أخاك ظالماً أو مظلوما الحديث متفق عليه من حديث أنس وقد تقدم
(12) حديث إِنَّ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ إِدْخَالُ السرور على المؤمن الحديث أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث ابن عمر بسند ضعيف
(13) حديث خصلتان ليس فوقهما شيء من الشر الشرك بالله والضر بعباد الله الحديث ذكره صاحب الفردوس من حديث علي ولم يسنده ولده في مسنده
(14) حديث من لم يهتم للمسلمين فليس منهم أخرجه الحاكم من حديث حذيفة والطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر وكلاهما ضعيف(2/208)
أخرى اللهم أصلح أمة محمد اللهم فرج عن أمة محمد كل يوم ثلاث مرات كتبه الله من الأبدال وبكى علي بن الفضيل يوماً فقيل له ما يبكيك قال أبكي على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى وسئل عن ظلمه ولم تكن له حجة
ومنها أن يعود مرضاهم فالمعرفة والإسلام كافيان في إثبات هذا الحق ونيل فضله وَأَدَبُ الْعَائِدِ خِفَّةُ الْجِلْسَةِ وَقِلَّةُ السُّؤَالِ وَإِظْهَارُ الرِّقَّةِ وَالدُّعَاءُ بِالْعَافِيَةِ وَغَضُّ الْبَصَرِ عَنْ عَوْرَاتِ الْمَوْضِعِ
وَعِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ لَا يُقَابِلُ الْبَابَ وَيَدُقُّ بِرِفْقٍ وَلَا يَقُولُ أَنَا إِذَا قِيلَ لَهُ من ولا يقول يا غلام ولكن يحمد ويسبح وقال صلى الله عليه وسلم تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو على يده ويسأله كيف هو وتمام تحياتكم المصافحة وقال صلى الله عليه وسلم من عاد مريضاً قعد في مخارف الجنة حتى إذا قام وكل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى الليل (1)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة فإذا قعد عنده قرت فيه (2)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أخاه أوزاره قَالَ اللَّهُ تَعَالَى طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ منزلاً فِي الْجَنَّةِ (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مرض العبد بعث الله تبارك وتعالى إليه ملكين فقال انظرا ماذا يقول لعواده فإن هو إذا جاءوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم فيقول لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدل له لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفر عنه سيئاته (4)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يرد الله به خيراً يصب منه (5)
وقال عثمان رضي الله عنه مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ مِنْ شر ما تجد قالها مراراً (6)
ودخل صلى الله عليه وسلم على عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو مريض فقال له قل اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك أو صبراً على بليتك أو خروجاً من الدنيا إلى رحمتك فإنك ستعطي إحداهن (7)
وَيُسْتَحَبُّ لِلْعَلِيلِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِعِزَّةِ الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر
وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذا شكا أحدكم بطنه فليسأل امرأته شيئاً من صداقها ويشتري به عسلاً ويشربه بماء السماء فيجتمع له الهنيء والمريء والشفاء
_________
(1) حديث من عاد مريضاً قعد في مخارف الجنة الحديث أخرجه أصحاب السنن والحاكم من حديث علي من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء الحديث لفظ ابن ماجه وصححه الحاكم وحسنه الترمذي ولمسلم من حديث ثوبان من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة
(2) حديث إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة فإذا قعد عنده قرت فيه أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث جابر وقال انغمس فيها قال الحاكم صحيح على شرط مسلم وكذا صححه ابن عبد البر وذكره مالك في الموطأ بلاغا بلفظ قرت فيه ورواه الواقدي بلفظ استقر فيها وللطبراني في الصغير من حديث أنس فإذا قعد عنده غمرته الرحمة وله في الأوسط من حديث كعب بن مالك وعمرو بن حزم استنقع فيها
(3) حديث إِذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ أَوْ زَارَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مَنْزِلًا في الجنة أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة إلا أنه قال ناداه مناد قال الترمذي غريب قلت فيه عيسى بن سنان القسملي ضعفه الجمهور
(4) حديث إذا مر ض العبد بعث الله تعالى ملكين فقال انظرا ما يقوله لعواده الحديث أخرجه مالك في الموطأ مرسلا من حديث عطاء بن يسار ووصله ابن عبد البر في التمهيد من روايته عن أبي سعيد الخدري وفيه عباد بن كثير الثقفي ضعيف الحديث وللبيهقي من حديث أبي هريرة قال الله تعالى إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عواده أطلقته من أساري ثم أبدله لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه ثم يستأنف العمل وإسناده جيد
(5) حديث من يرد الله به خيرا يصب منه أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
(6) حديث عثمان مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أُعِيذُكَ بالله الأحد الصمد الحديث أخرجه ابن السني في اليوم والليلة والطبراني والبيهقي في الأدعية من حديث عثمان بن عفان بإسناد حسن
(7) حديث دخل على علي وهو مريض فقال قل اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المرض من حديث أنس بسند ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو يشتكي ولم يسم عليا وروى البيهقي في الدعوات من حديث عائشة أن جبريل علمها للنبي صلى الله عليه وسلم وقال إن الله يأمرك أن تدعو بهؤلاء الكلمات(2/209)
والمبارك
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هريرة ألا أخبرك بأمر هو حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار قلت بلى يا رسول الله قال يقول لا إله إلا الله يحيي ويميت وهو حي لا يموت سبحان الله رب العباد والبلاد والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على كل حال
الله أكبر كبيراً إن كبرياء ربنا وجلاله وقدرته بكل مكان
اللهم إن أنت أمرضتني لتقبض روحي في مرضي هذا فاجعل روحي في أرواح من سبقت لهم منك الحسنى وباعدني من النار كما باعدت أولياءك الذين سبقت لهم منك الحسنى (1)
وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم عيادة المريض بعد ثلاث فواق ناقة (2)
وقال طاوس أفضل العيادة أخفها
وقال ابن عباس رضي الله عنهما عيادة المريض مرة سنة فما ازدادت فنافلة وقال بعضهم عيادة المريض بعد ثلاث
وقال صلى الله عليه وسلم أغبوا في العيادة وأربعوا فيها (3)
وَجُمْلَةُ أَدَبِ الْمَرِيضِ حُسْنُ الصَّبْرِ وَقِلَّةُ الشَّكْوَى وَالضَّجَرِ وَالْفَزَعُ إِلَى الدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلُ بَعْدَ الدَّوَاءِ عَلَى خَالِقِ الدَّوَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يُشَيِّعَ جَنَائِزَهُمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ فَإِنْ وَقَفَ حتى تدفن فله قيراطان (4)
وفي الخبر القيراط مثل أحد (5)
ولما روى أبو هريرة هذا الحديث وسمعه ابن عمر قال لقد فرطنا إلى الآن في قراريط كثيرة
وَالْقَصْدُ مِنَ التَّشْيِيعِ قَضَاءُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَالِاعْتِبَارُ
وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال اغدوا فإنا رائحون
موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له
وخرج مالك بن دينار خلف جنازة أخيه وهو يبكي ويقول والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ما صرت ولا والله لا أعلم ما دمت حياً
وقال الأعمش كنا نشهد الجنائز فلا ندري لمن نعزي لحزن القوم كلهم ونظر إبراهيم الزيات إلى قوم يترحمون على ميت فقال لو ترحمون أنفسكم لكان أولى إنه نجا من أهوال ثلاث وجه ملك الموت قد رأى ومرارة الموت قد ذاق وخوف الخاتمة قد أمن
وقال صلى الله عليه وسلم يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله (6)
وَمِنْهَا أَنْ يَزُورَ قُبُورَهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالِاعْتِبَارُ وَتَرْقِيقُ الْقَلْبِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا إِلَّا وَالْقَبْرُ أفظع منه (7)
وقال عمر رضي الله عنه خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتى المقابر فجلس إلى قبر وكنت أدنى القوم منه
فبكى وبكينا فقال ما يبكيكم قلنا بكينا لبكائك
قال هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فأبى علي فأدركني ما يدرك الولد من الرقة (8)
وكان عمر رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته ويقول سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعده أشد (9)
وقال مجاهد
أول
_________
(1) حديث أبي هريرة ألا أخبرك بأمر هو حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار أخرجه ابن أبي الدنيا في الدعاء وفي المرض والكفارات
(2) حديث عيادة المريض فواق ناقة أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المرض من حديث أنس بإسناد فيه جهالة
(3) حديث أغبوا في العيادة وأربعوا رواه ابن أبي الدنيا وفيه أبو يعلى من حديث جابر وزاد إلا أن يكون مغلوبا وإسناده ضعيف
(4) حديث من تبع جِنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ فَإِنْ وَقَفَ حتى تدفن فله قيراطان أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة
(5) حديث القيراط مثل جبل أحد أخرجه مسلم من حديث ثوبان وأبي هريرة وأصله متفق عليه
(6) حديث يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد أخرجه مسلم من حديث أنس
(7) حديث ما أريت منظراً إلا والقبر أفظع منه أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عثمان وقال صحيح الإسناد وقال الترمذي حسن غريب
(8) حديث عمر خرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتى المقابر فجلس إلى قبر الحديث في زيارته قبر أمه أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا وأحمد من حديث بريدة وفيه فقام إليه عمر ففداه بالأب والأم يقول يا رسول الله مالك الحديث
(9) حديث عثمان بن عفان إن القبر أول منازل الآخرة الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده(2/210)
ما يكلم ابن آدم حفرته فتقول أنا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الظلمة
فهذا ما أعددت لك فما أعددت لي وقال أبو ذر ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري
كان أبو الدرداء يقعد إلى القبور فقيل له في ذلك فقال أجلس إلى قوم يذكرونني معادي وإن قمت عنهم لم يغتابوني
وقال حَاتِمٍ الْأَصَمِّ مَنْ مَرَّ بِالْمَقَابِرِ فَلَمْ يَتَفَكَّرْ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ فَقَدْ خَانَ نَفْسَهُ وخانهم
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ ليلة إلا وينادي مناد يا أهل القبور من تغبطون قالوا نغبط أهل المساجد لأنهم يصومون ولا نصوم ويصلون ولا نصلي ويذكرون الله ولا نذكره (1)
وقال سفيان من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار
وكان الربيع بين خيثم قد حفر في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال {رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} ثم يقول يا ربيع قد أرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقُبُورِ بَكَى وَقَالَ يَا ميمون هَذِهِ قبور آبائي بني أمية كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّاتِهِمْ أما تراهم صرعى قد خلت بِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَأَصَابَ الْهَوَامُ مِنْ أَبْدَانِهِمْ ثُمَّ بَكَى وَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْقُبُورِ وَقَدْ أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ
وَآدَابُ الْمُعَزِّي خَفْضُ الْجَنَاحِ وَإِظْهَارُ الْحُزْنِ وَقِلَّةُ الْحَدِيثِ وَتَرْكُ التَّبَسُّمِ
وَآدَابُ تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ لُزُومُ الْخُشُوعِ وَتَرْكُ الْحَدِيثِ وَمُلَاحَظَةُ الميت والتفكر في الموت والاستعداد له وأن يمشي أمام الجنازة بقربها وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ سُنَّةٌ (2)
فَهَذِهِ جُمَلُ آدَابٍ تُنَبِّهُ عَلَى آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ عُمُومِ الْخَلْقِ
وَالْجُمْلَةُ الْجَامِعَةُ فِيهِ أَنْ لَا تَسْتَصْغِرَ مِنْهُمْ أَحَدًا حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَتَهْلِكَ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَعَلَّهُ يُخْتَمُ لَكَ بِمِثْلِ حَالِهِ وَيُخْتَمُ له بالصلاح ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فَإِنَّ الدُّنْيَا صَغِيرَةٌ عِنْدَ اللَّهِ صَغِيرٌ مَا فيها
ومهما عظم أهل الدنيا في نفسك فقد عظمت الدنيا فتسقط من عين الله
وَلَا تَبْذُلْ لَهُمْ دِينَكَ لِتَنَالَ مِنْ دُنْيَاهُمْ فتصغر في أعينهم ثم تحرم دنياهم فإن لم تحرم كنت قد استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير
ولا تعادهم بحيث تظهر العداوة فيطول الأمر عليك في المعاداة ويذهب دينك ودنياك فيهم ويذهب دينهم فيك إِلَّا إِذَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا فِي الدِّينِ فَتُعَادِي أفعالهم القبيحة وتنظر إليهم بعين الرحمة لهم لتعرضهم لمقت الله وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جهنم يصلونها فمالك تحقد عليهم ولا تسكن إليهم في مودتهم لك وثنائهم عليك في وجهك وحسن بشرهم لك فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة إلا واحداً وربما لا تجده
وَلَا تَشْكُ إِلَيْهِمْ أَحْوَالَكَ فَيَكِلَكَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا تَطْمَعْ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْغَيْبِ وَالسِّرِّ كَمَا فِي الْعَلَانِيَةِ فَذَلِكَ طَمَعٌ كَاذِبٌ وأنى تظفر به وَلَا تَطْمَعْ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ فَتَسْتَعْجِلَ الذُّلَّ ولا تنال الغرض
ولا تعل عليهم تكبراً لاستغنائك عنهم فإن الله يلجئك إليهم عقوبة على التكبر بإظهار الاستغناء
وإذا سألت أخاً منهم حاجة فقضاها فَهُوَ أَخٌ مُسْتَفَادٌ وَإِنْ لَمْ يَقْضِ فَلَا تُعَاتِبْهُ فَيَصِيرَ عَدُوًّا تَطُولُ عَلَيْكَ مُقَاسَاتُهُ
وَلَا تَشْتَغِلْ بِوَعْظِ مَنْ لَا تَرَى فِيهِ مَخَايِلَ القبول فلا يسمع منك ويعاديك وليكن وعظك عَرَضًا وَاسْتِرْسَالًا مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى الشَّخْصِ
ومهما رأيت منهم كرامة وخيراً فاشكر الله الذي سخرهم لك واستعذ بالله أن يكلك إليهم
وإذا بلغك عنهم غيبة أو رأيت منهم شراً أو أصابك منهم ما يسوءك فَكِلْ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِمْ
وَلَا تَشْغَلْ نَفْسَكَ بِالْمُكَافَأَةِ فَيَزِيدَ الضَّرَرُ ويضيع العمر بشغله
ولا تقل لهم لم تعرفوا موضعي
_________
(1) حديث ما من ليلة إلا ينادي مناد يا أهل القبور من تغبطون فيقولون نغبط أهل المساجد الحديث لم أجد له أصلا
(2) حديث الإسراع بالجنازة متفق عليه من حديث أبي هريرة أسرعوا بالجنازة الحديث(2/211)
وأعتقد أنك لو استحقيت ذلك لجعل الله لك موضعاً في قلوبهم فالله المحبب والمبغض إلى القلوب وَكُنْ فِيهِمْ سَمِيعًا لِحَقِّهِمْ أَصَمَّ عَنْ بَاطِلِهِمْ نطوقاً بحقهم صموتاً عن باطلهم
وَاحْذَرْ صُحْبَةَ أَكْثَرِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً وَلَا يَغْفِرُونَ زَلَّةً وَلَا يَسْتُرُونَ عَوْرَةً وَيُحَاسِبُونَ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ وَيَحْسُدُونَ عَلَى الْقَلِيلِ والكثير ينتصفون ولا ينصفون ويؤاخذون على الخطأ والنسيان ولا يعفون يغرون الإخوان على الإخوان بالنميمة والبهتان فصحبة أكثرهم خسران وقطيعتهم رجحان إن رضوا فظاهرهم الملق وإن سخطوا فباطنهم الحنق لا يؤمنون في حنقهم ولا يرجون في ملقهم ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب يقطعون بالظنون ويتغامزون وراءك بالعيون ويتربصون بصديقهم من الحسد ريب المنون يحصون عليك العثرات في صحبتهم ليواجهوك بها في غضبهم ووحشتهم وَلَا تُعَوِّلْ عَلَى مَوَدَّةِ مَنْ لَمْ تَخْبَرْهُ حق الخبرة بأن تصحبه مدة في دار أو موضع واحد فتجربه في عزله وولايته وغناه وفقره أو تسافر معه أو تعامله في الدينار وَالدِّرْهَمِ أَوْ تَقَعَ فِي شِدَّةٍ فَتَحْتَاجَ إِلَيْهِ فإن رضيته في الْأَحْوَالِ فَاتَّخِذْهُ أَبًا لَكَ إِنْ كَانَ كَبِيرًا أو ابناً لك إن كان صغيراً أو أخاك إن كان مثلك
فَهَذِهِ جُمْلَةُ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ حقوق الجوار
اعلم أن الجوار يقضي حَقًّا وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ
فَيَسْتَحِقُّ الجار المسلم ما يستحقه كُلُّ مُسْلِمٍ وَزِيَادَةٌ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ فَالْجَارُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ الْجَارُ الْمُسْلِمُ ذُو الرَّحِمِ فَلَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الرَّحِمِ وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَالْجَارُ الْمُشْرِكُ (1)
فَانْظُرْ كَيْفَ أَثْبَتَ لِلْمُشْرِكِ حَقًّا بِمُجَرَّدِ الجوار وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جاورك تكن مسلماً (2)
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ (4)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُؤْمِنْ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ (5)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أول خصمين يوم القيامة جاران (6)
وقال صلى الله عليه وسلم إذا أنت رميت كلب جارك فقد آذيته (7)
ويروى أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي فقال اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه
وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فُلَانَةَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ في النار (8)
وجاء رجل إليه صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم {اصبر} ثم قال له في الثالثة أو الرابعة اطرح متاعك في الطريق قال فجعل الناس يمرون به ويقولون مالك فيقال آذاه جاره قال فجعلوا يقولون لعنه الله فجاءه جاره فقال له رد متاعك فوالله لا أعود (9)
_________
(1) حديث الجيران ثلاثة جار له حق وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ الحديث أخرجه الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما وأبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية من حديث جابر وابن عدي من حديث عبد الله بن عمر وكلاهما ضعيف
(2) حديث أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما تقدم
(3) حديث مازال جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ متفق عليه من حديث عائشة وابن عمر
(4) حديث مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جاره متفق عليه من حديث أبي شريح
(5) حديث لَا يُؤْمِنْ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ أخرجه البخاري من حديث أبي شريح أيضا
(6) حديث أول خصمين يوم القيامة جاران أخرجه أحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر بسند ضعيف
(7) حديث إذا أنت رميت كلب جارك فقد آذيته لم أجد له أصلا
(8) حديث إِنَّ فُلَانَةَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي جيرانها فقال هي في النار أخرجه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح الإسناد
(9) حديث جاء رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو جاره فقال {اصبر} ثم قال له في الثالثة أو الرابعة اطرح متاعك على الطريق الحديث أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط مسلم(2/212)
وروى الزهري أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يشكو جاره فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي على باب المسجد ألا إن أربعين داراً جار (1)
قال الزهري أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأومأ إلى أربع جهات
وقال صلى الله عليه وسلم اليمن والشؤم في المرأة والمسكن والفرس فيمن المرأة خفة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها وشؤمها غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها
ويمن المسكن سعته وحسن جوار أهله
وشؤمه ضيقه وسوء جوار أهله
ويمن الفرس ذله وحسن خلقه وشؤمه صعوبته وسوء خلقه (2)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى فقط بل احتمال الأذى فإن الجار أيضاً قد كف أذاه فليس في ذلك قضاء حق ولا يكفي احتمال الأذى بل لابد من الرفق وإسداء الخير والمعروف إذ يقال إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة فيقول يارب سل هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني
وبلغ ابن المقفع أَنَّ جَارًا لَهُ يَبِيعُ دَارَهُ فِي دَيْنٍ رَكِبَهُ وَكَانَ يَجْلِسُ فِي ظِلِّ دَارِهِ فَقَالَ مَا قُمْتُ إِذًا بِحُرْمَةِ ظِلِّ دَارِهِ إِنْ بَاعَهَا مُعْدَمًا فَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَ الدَّارِ وَقَالَ لا تبعها
وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره فقيل له لو اقتنيت هراً فقال أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي
وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ولا يطيل معه الكلام وَلَا يُكْثَرَ عَنْ حَالِهِ السُّؤَالُ وَيَعُودَهُ فِي الْمَرَضِ وَيُعَزِّيَهُ فِي الْمُصِيبَةِ وَيَقُومَ مَعَهُ فِي الْعَزَاءِ وَيُهَنِّئَهُ فِي الْفَرَحِ وَيُظْهِرَ الشَّرِكَةَ فِي السرور معه ويصفح عن زلاته ولا يتطلع مِنَ السَّطْحِ إِلَى عَوْرَاتِهِ وَلَا يُضَايِقُهُ فِي وضع الجذع على جداره ولا في مصب الماء في ميزابه ولا في مطرح التراب في فنائه ولا يضيق طرقه إِلَى الدَّارِ وَلَا يُتْبِعُهُ النَّظَرَ فِيمَا يَحْمِلُهُ إِلَى دَارِهِ وَيَسْتُرُ مَا يَنْكَشِفُ لَهُ مِنْ عَوْرَاتِهِ وَيُنْعِشُهُ مِنْ صَرْعَتِهِ إِذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ مُلَاحَظَةِ دَارِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ وَلَا يَسْمَعُ عَلَيْهِ كَلَامًا وَيَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْ حُرْمَتِهِ وَلَا يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى خَادِمَتِهِ وَيَتَلَطَّفُ بولده فِي كَلِمَتِهِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ
هَذَا إِلَى جُمْلَةِ الْحُقُوقِ التي ذكرناها لعامة المسلمين وقد قال صلى الله عليه وسلم أتدرون ما حق الجار إن استعان بك أعنته وإن استنصرك نصرته وإن استقرضك أقرضته وإن افتقر عدت عليه وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير هنأته وإن أصابته مصيبة عزيته ولا تستعل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه وإذا اشتريت فاكهة فاهد له فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ثم قال أتدرون ما حق الجار والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من
_________
(1) حديث الزهري ألا إن أربعين داراً جار أخرجه أبو داود في المراسيل ووصله الطبراني من رواية الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه ورواه أبو يعلى من حديث أبي هريرة وقال أربعون ذراعا وكلاهما ضعيف
(2) حديث اليمن والشؤم في المرأة والمسكن والفرس فيمن المرأة خفة مهرها الحديث أخرجه مسلم من حديث ابن عمر الشؤم في الدار والمرأة والفرس وفي رواية له إن يك من الشؤم شيء حقا وله من حديث سهل بن سعد إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن وللترمذي من حديث حكيم بن معاوية لا شؤم وقد يكون اليمن في الدار والمرأة والفرس ورواه ابن ماجه فسماه محمد بن معاوية وللطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله ما سوء الدار قال ضيق ساحتها وخبث جيرانها قيل فما سوء الدابة قال منعها ظهرها وسوء خلقها قيل فما سوء المرأة قال عقم رحمها وسوء خلقها وكلاهما ضعيف ورويناه في كتاب الخيل للدمياطي من رواية سالم بن عبد الله مر سلا إذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجا قبل زوجها فحنت إلى الزوج الأول فهي مشئومة وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع فيها الأذان والإقامة فهي مشئومة وإسناده ضعيف ووصله صاحبمسند الفردوس بذكر ابن عمر فيه(2/213)
رحمه الله (1)
هكذا رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مجاهد كنت عند عبد الله بن عمر وغلام له يسلخ شاة فقال يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي حتى قال ذلك مرارا فقال له كم تقول هذا فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه (2)
وقال هشام كان الحسن لا يرى بأساً أن تطعم الجار اليهودي والنصراني من أضحيتك وقال أبو ذر رضي الله عنه
أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم وقال إذا طبخت قدراً فأكثر ماءها ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها (3)
وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله إن لي جارين أحدهما مقبل على بابه والآخر ناء ببابه عني وربما كان الذي عندي لا يسعهما فأيهما أعظم حقاً فقال المقبل عليك ببابه (4)
ورأى الصديق ولده عبد الرحمن وهو يناصي جاراً له فقال لا تناص جارك فإن هذا يبقى والناس يذهبون
وقال الحسن بن عيسى النيسابوري سألت عبد الله بن المبارك فقلت الرجل المجاور يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً والغلام ينكره فأكره أن أضربه ولعله بريء وأكره أن أدعه فيجد علي جاري فكيف أصنع قال إن غلامك لعله أن يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب فاحفظه عليه فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث وهذا تلطف في الجمع بين الحقين
وقالت عائشة رضي الله عنها خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله تعالى لمن أحب صدق الحديث وصدق الناس وإعطاء السائل والمكافأة بالصنائع وصلة الرحم وحفظ الأمانة والتذمم للجار والتذمم للصاحب وقرى الضيف ورأسهن الحياء
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا معشر المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة (5)
قال صلى الله عليه وسلم إن من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهني (6)
وقال عبد الله قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت قال إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت (7)
وقال جابر رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه (8)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجار يضع جذعه في حائط جاره شاء أم أبى // حديث أبي هريرة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجار يضع جذعه في حائط جاره شاء أم أبى رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق هكذا وهو متفق عليه بلفظ لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في حائطه رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف واتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة
وقال
_________
(1) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أتدرون ما حق الجار إن استعان بك أعنته وإن استقرضك أقرضته الحديث أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق وابن عدي في الكامل وهو ضعيف
(2) حديث مجاهد كنت عند عبد الله ابن عمر وغلام له يسلخ شاة فقال يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب
(3) حديث أبي ذر أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم إذا طبخت فأكثر المرق ثم انظر بعض أهل بيت من جيرانك فاغرف لهم منها رواه مسلم
(4) حديث عائشة قلت يا رسول الله إن لي جارين الحديث رواه البخاري
(5) حديث أبي هريرة يا نساء المسلمين لا تحقرن جارة لجرتها ولو فرسن شاة رواه البخاري
(6) حديث إن من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء رواه أحمد من حديث نافع بن عبد الحارث وسعد بن أبي وقاص وحديث نافع أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد
(7) حديث عبد الله قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت قال إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت رواه أحمد والطبراني وعبد الله هو ابن مسعود وإسناده جيد
(8) حديث جابر من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه أخرجه ابن ماجه والحاكم دون ذكر الجار وقال صحيح الإسناد وهو عند الخرائطي في مكارم الأخلاق بلفظ المصنف ولابن ماجه من حديث ابن عباس من كانت له أرض فأراد أن يبيعها فليعرضها على جاره ورجاله رجال الصحيح(2/214)
ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه يقول مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمينها بين أكنافكم
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَرَادَ الله به خيراً عسله قيل وما عسله قال يحببه إلى جيرانه (1) حُقُوقُ الْأَقَارِبِ وَالرَّحِمِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهَذِهِ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته (2)
وقال صلى الله عليه وسلم من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه (3)
وفي رواية أخرى من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَأَوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ (4)
وَقَالَ أبو ذر رضي الله عنه أوصاني خليلي عليه السلام بصلة الرحم وإن أدبرت وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً (5)
وقال صلى الله عليه وسلم إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها (6)
وقال صلى الله عليه وسلم إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم حتى إن أهل البيت ليكونون فجاراً فتنموا أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم (7)
وقال زيد بن أسلم لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى مكة عرض له رجل فقال إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج فقال صلى الله عليه وسلم إن الله قد منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم (8)
وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قدمت علي أمي فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي مشركة أفأصلها قال {نعم} (9)
وفي رواية أفأعطيها قال نعم صليها
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّدَقَةُ عَلَى المساكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان (10)
وَلَمَّا أَرَادَ أبو طلحة أَنْ يَتَصَدَّقَ بِحَائِطٍ كَانَ لَهُ يُعْجِبُهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَنْ تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (11) قال
_________
(1) حديث من أراد الله به خيرا عسله رواه أحمد من حديث أبي عتبة الخولاني ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في الزهد من حديث عمرو بن الحمق زاد الخرائطي قيل وما عسله قال حببه إلى جيرانه وقال البيهقي يفتح له عملا صالحا قبل موته حتى يرضى عنه من حوله وإسناده جيد
(2) حديث يقول الله أنا الرحمن وهذه الرحم الحديث متفق عليه من حديث عائشة
(3) حديث من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه متفق عليه من حديث أنس دون قوله فليتق الله وهو بهذه الزيادة عند أحمد والحاكم من حديث علي بإسناد جيد
(4) حديث أي الناس أفضل فقال أتقاهم لله وأوصلهم للرحم رواه أحمد والطبراني من حديث درة بنت أبي لهب بإسناد حسن
(5) حديث أبي ذر أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم وإن أدبرت وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا رواه أحمد وابن حبان وصححه
(6) حديث إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو وهو عند البخاري دون قوله الرحم معلقة بالعرش فرواها مسلم من حديث عائشة
(7) حديث أعجل الطاعات ثوابا صلة الرحم الحديث أخرجه ابن حبان من حديث أبي بكرة والخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف
(8) حديث زيد بن أسلم لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى مكة عرض له رجل فقال إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج فقال إن الله منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق وزاد وطعنهم في لبات الإبل وهو مرسل صحيح الإسناد
(9) حديث أسماء بنت أبي بكر قدمت علي أمي فقلت يا رسول الله قدمت علي أمي وهي مشركة أفأصلها قال نعم صليها متفق عليه
(10) حديث الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه من حديث سلمان ابن عامر الضبي
(11) حديث لما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط له كان يعجبه عملا بقوله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} الحديث أخرجه البخاري وقد تقدم(2/215)
يا رسول الله هو في سبيل الله وللفقراء والمساكين فقال صلى الله عليه وسلم وجب أجرك على الله قسمه في أقاربك وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح (1)
وهو في معنى قوله أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتصفح عمن ظلمك (2)
وروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا وإنما قال ذلك لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ
لَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا تأكد حق الْقَرَابَةُ وَالرَّحِمُ فَأَخَصُّ الْأَرْحَامِ وَأَمَسُّهَا الْوِلَادَةُ فَيَتَضَاعَفُ تأكد الحق فيها
وقد قال صلى الله عليه وسلم لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه (3)
وقد قال صلى الله عليه وسلم بر الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله (4)
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أصبح مرضيا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة ومن أمسى فمثل ذلك وإن كان واحداً فواحداً وإن ظلماً وإن ظلماً وإن ظلماً
ومن أصبح مسخطاً لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى النار ومن أمسى مثل ذلك وإن كان واحداً فواحداً وإن ظلماً وإن ظلماً وإن ظلماً (5)
وقال صلى الله عليه وسلم إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم (6)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَّ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك (7)
ويروى أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام يا موسى إنه من بر والديه وعقني كتبته باراً ومن برني وعق والديه كتبته عاقاً
وقيل لما دخل يعقوب على يوسف عليهما السلام لم يقم له فأوحى الله إليه أتتعاظم أن تقوم لأبيك وعزتي وجلالي لا أخرجت من صلبك نبياً
وقال صلى الله عليه وسلم ما على أحد إذا أراد أن يتصدق بصدقة أن يجعلها لوالديه إذا كانا مسلمين فيكون لوالديه أجرها ويكون له مثل أجورهما من غير أن ينقص من أجورهما شيء (8)
وقال مالك بن ربيعة بينما نحن
_________
(1) حديث أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب وفيه الحجاج بن أرطأة ورواه البيهقي من حديث أم كثلوم بنت عقبة
(2) حديث أفضل الفضائل أن تصل من قطعك الحديث أخرجه أحمد من حديث معاذ بن أنس بسند ضعيف وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة وقد تقدم
(3) حديث لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(4) حديث بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد لم أجده هكذا وروى أبو يعلى والطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال هل بقي من والديك أحد قال أمي قال قابل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد وإسناده حسن
(5) حديث من أصبح مرضيا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس ولا يصح
(6) حديث إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم أخرجه الطبراني في الصغير من حديث أبي هريرة دون ذكر القاطع وهي في الأوسط من حديث جابر إلا أنه قال من مسيرة ألف عام وإسنادهما ضعيف
(7) حديث بِرَّ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أدناك أخرجه النسائي من حديث طارق المحاربي وأخرجه أحمد والحاكم من حديث أبي رمثة ولأبي داود نحوه من حديث كليب بن منفعة عن جده وله وللترمذي والحاكم وصححه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده من أثر قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال رجل من أحق الناس بحسن الصحبة قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك لفظ مسلم
(8) حديث ما على أحد إذا أراد أن يتصدق بصدقة أن يجعلها لوالديه إذا كانا مسلمين الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند ضعيف دون قوله إذا كانا مسلمين(2/216)
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا قَالَ نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا (1)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ الأب (2)
وقال صلى الله عليه وسلم بر الوالدة على الولد ضعفان (3)
وقال صلى الله عليه وسلم دعوة الوالدة أسرع إجابة
قيل يا رسول الله ولم ذاك قال هي أرحم من الأب ودعوة الرحم لا تسقط (4)
وسأله رجل فقال يا رسول الله من أبر فقال بر والديك فقال ليس لي والدان فقال بر ولدك كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق (5)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ (6)
أَيْ لَمْ يَحْمِلْهُ على العقوق بسوء عمله
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ في العطية وقد قيل ولدك ريحانتك تشمها سبعاً وخادمك سبعاً ثم هو عدوك أو شريكك وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويماط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه ثم أخذ بيده وقال قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة (7)
وقال صلى الله عليه وسلم من حق الوالد على الولد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه (8)
وقال صلى الله عليه وسلم كل غلام رهين أو رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه (9)
وقال قتادة إذا ذبحت العقيقة أخذت صوفة منها فاستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل عنه مثل الخيط ثم يغسل رأسه ويحلق بعد
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده فقال هل دعوت عليه قال نعم
قال أنت أفسدته
وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقُ بِالْوَلَدِ رَأَى الأقرع بن حابس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَبِّلُ وَلَدَهُ الحسن فقال إن لي
_________
(1) حديث مالك بن ربيعة بينا نحن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاءه رجل من بني سلمة فقال هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ الحديث أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد
(2) حديث إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهل ود أبيه أخرجه مسلم من حديث ابن عمر
(3) حديث بر الوالدة على الولد ضعفان غريب بهذا اللفظ وقد تقدم قبل هذا بثلاثة أحاديث من حديث بهز بن حكيم وحديث أبي هريرة وهو معنى هذا الحديث
(4) حديث دعوة الوالدة أسرع إجابة الحديث لم أقف له على أصل
(5) حديث قال رجل يا رسول الله من أبر قال بر والديك فقال ليس لي والدان فقال ولدك فكما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق أخرجه أبو عمر النوقاتي في كتاب معاشرة الأهلين من حديث عثمان بن عفان دون قوله فكما أن لوالديك إلخ وهذه القطعة رواها الطبراني من حديث ابن عمر قال الدارقطني في العلل أن الأصح وقفه على ابن عمر
(6) حديث رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من حديث علي بن أبي طالب وابن عمر بسند ضعيف ورواه النوقاتي من رواية الشعبي مرسلا
(7) حديث أنس الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويماط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب فإذا بلغ سبع سنين عزل فراشه فإذا بلغ ثلاثة عشر ضرب على الصلاة والصوم فإذا بلغ ستة عشر زوجه أبوه ثم أخذ بيده وقال قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الضحايا والعقيقة إلا أنه قال وأدبوه لسبع وزوجوه لسبع عشرة ولم يذكر الصوم وفي إسناده من لم يسم
(8) حديث مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ أدبه ويحسن اسمه أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وحديث عائشة وضعفهما
(9) حديث كل غلام رهين أو رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه أخرجه أصحاب السنن من حديث سمرة قال الترمذي حسن صحيح(2/217)
عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مَنْ لا يرحم لا يرحم (1)
وقالت عائشة رضي الله عنها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً اغسلي وجه أسامة فجعلت أغسله وأنا أنفة فضرب يدي ثم أخذه فغسل وجهه ثم قبله ثم قال قد أحسن بنا إذ لم يكن جارية (2)
وتعثر الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم على منبره فنزل فحمله وقرأ قوله {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} (3)
وقال عبد الله بن شداد بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر فلما قضى صلاته قالوا قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر فقال إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته (4)
وفي ذلك فوائد إحداها القرب من الله تعالى فإن العبد أقرب ما يكون من الله تعالى إذا كان ساجداً وفيه الرفق بالولد والبر وتعليم لأمته وقال صلى الله عليه وسلم ريح الولد من ريح الجنة (5)
وقال يزيد بن معاوية أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس فلما وصل إليه قال له يا أبا بحر مَا تَقُولُ فِي الْوَلَدِ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ثِمَارُ قُلُوبِنَا وَعِمَادُ ظُهُورِنَا وَنَحْنُ لَهُمْ أَرْضٌ ذَلِيلَةٌ وَسَمَاءٌ ظَلِيلَةٌ وَبِهِمْ نَصُولُ عَلَى كُلِّ جَلِيلَةٍ فَإِنْ طَلَبُوا فَأَعْطِهِمْ وَإِنْ غَضِبُوا فَأَرْضِهِمْ يَمْنَحُوكَ وُدَّهُمْ وَيُحِبُّوكَ جُهْدَهُمْ وَلَا تَكُنْ عليهم ثقلاً ثَقِيلًا فَيَمَلُّوا حَيَاتَكَ وَيَوَدُّوا وَفَاتَكَ وَيَكْرَهُوا قُرْبَكَ فقال له معاوية لله أنت يا أحنف لقد دخلت علي وأنا مملوء غضباً وغيظاً على يزيد
فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب فقاسمه إياها على الشطر
فهذه هي الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين وكيفية القيام بحقهما تعرف مما ذكرناه في حق الأخوة فإن هذه الرابطة آكد من الأخوة بل يزيد ههنا أمران
أحدهما أن أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين وَاجِبَةٌ فِي الشُّبُهَاتِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِي الحرام المحض حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما لأن ترك الشبهة ورع ورضا الوالدين حتم
وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه على التأخير
والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك وذلك كمن يسلم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين
قال أبو سعيد الخدري هاجر رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن وأراد الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم هل باليمن أبواك قال نعم قال هل أذنا لك قال لا فقال صلى الله عليه وسلم فارجع إلى أبويك
_________
(1) حديث رأى الأقرع بن حابس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَبِّلُ وَلَدَهُ الحسن فَقَالَ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ ما قبلت واحداً منهم فقال من لا يرحم لا يرحم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
(2) حديث عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما اغسلي وجه أسامة فجعلت أغسله وأنا أنفة فضرب بيدي ثم أخذه فغسل وجهه ثم قبله ثم قال قد أحسن بنا إذ لم يكن جارية لم أجده هكذا ولأحمد من حديث عائشة أن أسامة عثر بعتبة الباب فدمى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمصه ويقول لو كان أسامة جارية لحليتها ولكسوتها حتى أنفقها وإسناده صحيح
(3) حديث عثر الحسن وهو على منبره صلى الله عليه وسلم فنزل فحمله وقرأ قوله تعالى {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} أخرجه أصحاب السنن من حديث بريدة في الحسن والحسين معا يمشيان ويعثران قال الترمذي حسن غريب
(4) حديث عبد الله بن شداد بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ جاء الحسن فركب عنقه رواه النسائي من رواية عبد الله بن شداد عن أبيه وقال فيه الحسن أو الحسين على الشك ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين
(5) حديث ريح الولد من ريح الجنة أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عباس وفيه مندل بن علي ضعيف(2/218)
فاستأذنهما فإن فعلا فجاهد وإلا فبرهما ما استطعت فإن ذلك خير ما تلقى الله به بعد التوحيد (1)
وجاء آخر إليه صلى الله عليه وسلم ليستشيره في الغزو فقال ألك والدة قال نعم
قال فألزمها فإن الجنة عند رجليها (2)
وجاء آخر يطلب البيعة على الهجرة وقال ما جئتك حتى أبكيت والدي فقال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُقُّ كَبِيرِ الإخوة على صغيرهم كحق الوالد عن ولده (4)
وقال صلى الله عليه وسلم إذا استصعبت على أحدكم دابته أو ساء خلق زوجته أو أحد من أهل بيته فليؤذن في أذنه (5) حقوق المملوك
اعلم أن ملك النكاح قد سبقت حقوقه في آداب النكاح فأما ملك اليمين فهو أيضاً يقتضي حقوقاً في المعاشرة لا بد من مراعاتها فقد كان من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا ولا تعذبوا خلق الله فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم (6)
وقال صلى الله عليه وسلم للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق (7)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الجنة خب ولا متكبر ولا خائن ولا سيئ الملكة (8)
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جاء رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله كم نعفو عن الخادم فصمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) حديث أبي سعيد الخدري هاجر رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن وأراد الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم باليمن أبواك قال نعم الحديث أخرجه أحمد وابن حبان دون قوله {ما استطعت} إلخ
(2) حديث جاء آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في الغزو فقال ألك والدة فقال نعم قال فألزمها فإن الجنة تحت قدمها أخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم من حديث معاوية بن جاهمة أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال الحاكم صحيح الإسناد
(3) حديث جاء آخر فقال ما جئتك حتى أبكيت والدي فقال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو وقال صحيح الإسناد
(4) حديث حُقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ على ولده أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة ورواه أبو داود في المراسيل من رواية سعيد بن عمرو ابن العاص مرسلا ووصله صاحب مسند الفردوس فقال عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده سعيد بن العاص وإسناده ضعيف
(5) حديث إذا استصعب على أحدكم دابته أو ساء خلق زوجته أو أحد من أهل بيته فليؤذن في أذنه أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث الحسين بن علي بن أبي طالب بسند ضعيف نحوه
(6) حديث كان من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم أطعموهم مما تأكلون الحديث إلخ وهو مفرق في عدة أحاديث فروى أبو داود من حديث علي كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم وفي الصحيحين من حديث أنس كان آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ولهما من حديث أبي ذر أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم لفظ رواية مسلم وفي رواية لأبي داود من يلايمكم من مملوكيكم فأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله تعالى وإسناده صحيح
(7) حديث للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(8) حديث لا يدخل الجنة خب ولا متكبر ولا خائن ولا سيئ الملكة أخرجه أحمد مجموعا والترمذي مفرقا وابن ماجه مقتصرا على سيئ الملكة من حديث أبي بكر وليس عند أحد منهم متكبر وزاد أحمد والترمذي البخيل والمنان وهو ضعيف وحسن الترمذي أحد طريقيه(2/219)
{ثم قال} اعف عنه في كل يوم سبعين مرة (1)
وكان عمر رضي الله عنه يذهب إلى العوالي في كل يوم سبت فإذا وجد عبداً في عمل لا يطيقه وضع عنه منه
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً على دابته وغلامه يسعى خلفه فقال له يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك روحه مثل روحك فحمله ثم قال لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مشى خلفه
وقالت جارية لأبي الدرداء إني سممتك منذ سنة فما عمل فيك شيئاً فقال لم فعلت ذلك فقالت أردت الراحة منك فقال اذهبي فأنت حرة لوجه الله
وقال الزهري متى قلت للمملوك أخزاك الله فهو حر
وقيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم قال من قيس بن عاصم قيل فما بلغ من حِلْمُهُ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي دَارِهِ إذا أتته خادمة له بسفود عليه شواء فسقط السفود من يدها على ابن له فعقره فمات فدهشت الجارية فقال ليس يسكن روع هذه الجارية إلا العتق فقال لها أنت حرة لا بأس عليك
وكان عون ابن عبد الله إذا عصاه غلامه قال ما أشبهك بمولاك مولاك يعصي مولاه وأنت تعصي مولاك فأغضبه يوماً فقال إنما تريد أن أضربك اذهب فأنت حر
وكان عند ميمون بن مهران ضيف فاستعجل على جاريته بالعشاء فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون فقال يا جارية أحرقتني قالت يا معلم الخير ومؤدب الناس ارجع إلى ما قال الله تعالى قال وما قال الله تعالى قالت قال والكاظمين الغيظ قال قد كظمت غيظي قالت والعافين عن الناس قال قد عفوت عنك قالت زد فإن الله تعالى يقول والله يحب المحسنين قال أنت حرة لوجه الله تعالى
وقال ابن المنكدر أن رجلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ضرب عبداً له فجعل العبد يقول أسألك بالله أسألك بوجه الله فلم يعفه فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح العبد فانطلق إليه فلما رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك يده فقال رسول الله سألك بوجه الله فلم تعفه فلما رأيتني أمسكت يدك قال فإنه حر لوجه الله يا رسول الله فقال لو لم تفعل لسفعت وجهك النار (2)
وقال صلى الله عليه وسلم العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين (3)
ولما أعتق أبو رافع بكى وقال كان لي أجران فذهب أحدهما
وقال صلى الله عليه وسلم عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيف متعفف ذو عيال وأول ثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة لا يعطي حق الله وفقير فخور (4)
وعن أبي مسعود الأنصاري قال بينا أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتاً من خلفي اعلم يا أبا مسعود مرتين فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت السوط من يدي فقال والله لله أقدر عليك منك على هذا (5)
وقال صلى الله عليه وسلم إذا ابتاع أحدكم الخادم فليكن أول شيء يطعمه الحلو فإنه أطيب لنفسه (6)
رواه معاذ
_________
(1) حديث ابن عمر جاء رجل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله كم نعفو عن الخادم فصمت ثم قال اعف عنه كل يوم سبعين مرة أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح غريب
(2) حديث ابن المنكدر أن رجلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ضرب عبداً له فجعل العبد يقول أسألك بالله أسألك بوجه الله فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح العبد الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد مرسلا وفي رواية لمسلم في حديث أبي مسعود الآتي ذكره فجعل يقول أعوذ بالله قال فجعل يضربه فقال أعوذ برسول الله فتركه وفي رواية له فقلت هو حر لوجه الله فقال أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار {أو} لمستك النار
(3) حديث إذا نصح العبد لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين متفق عليه من حديث ابن عمر
(4) حديث عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن وابن حبان من حديث أبي هريرة
(5) حديث أبي مسعود الأنصاري بينا أنا أضرب غلاماً لي سمعت صوتاً من خلفي اعلم أبا مسعود مرتين الحديث رواه مسلم
(6) حديث معاذ إذا ابتاع أحدكم الخادم فليكن أول شيء يطعمه الحلو فإنه أطيب لنفسه أخرجه الطبراني في الأوسط والخرائطي في مكارم الأخلاق بسند ضعيف(2/220)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه وليأكل معه فإن لم يفعل فليناوله لقمة (1)
وفي رواية إذا كفى أحدكم مملوكه صنعة طعامه فكفاه حره ومؤنته وقربه إليه فليجلسه وليأكل معه فإن لم يفعل فليناوله أو ليأخذ أكلة فليروغها وأشار بيده وليضعها في يده وليقل كل هذه ودخل على سلمان رجل وهو يعجن فقال يا أبا عبد الله ما هذا فقال بعثنا الخادم في شغل فكرهنا أن نجمع عليه عملين
وقال صلى الله عليه وسلم من كانت عنده جارية فصانها وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها فذلك له أجران (2)
وقد قال صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (3)
فجملة حق المملوك أن يشركه في طعمته وكسوته ولا يكلفه فوق طاقته ولا ينظر إليه بعين الكبر والازدراء وأن يعفو عن زلته ويتفكر عند غضبه عليه بهفوته أو بجنايته في معاصيه وجنايته على حق الله تعالى وتقصيره في طاعته مع أن قدرة الله عليه فوق قدرته
وروى فضالة بن عبيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثَةٌ لَا يسئل عنهم رجل فارق الجماعة ورجل عصى إمامه فمات عاصياً فلا يسأل عنهما وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده فلا يسأل عنها
وثلاثة لا يسأل عنهم رجل ينازع الله رداءه ورداؤه الكبرياء وإزاره العز ورجل في شك من الله وقنوط من رحمة الله (4)
تم كتاب آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق
كتاب آداب العزلة وهو الكتاب السادس من ربع العادات من كتب إحياء
علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعظم النعمة على خيرة خلقه وصفوته بأن صرف هممهم إلى مؤانسته وأجزل حظهم من التلذذ بمشاهدة آلائه وعظمته ورّوح أسرارهم بمناجاته وملاطفته وحقر في قلوبهم النظر الى متاع الدنيا وزهرتها حتى اغتبط بعزلته كل من طويت الحجب عن مجاري فكرته فاستأنس بمطالعة سبحات وجهه تعالى في خلوته واستوحش بذلك عن الأنس بالأنس وإن كان من أخص خاصته والصلاة على سيدنا محمد سيد أنبيائه وخيرته وعلى آله وصحابته سادة الحق وأئمته
أما بعد فإن للناس اختلافاً كثيراً في العزلة والمخالطة وتفضيل إحداهما على الأخرى ومع أن كل واحدة منهما لا تنفك عن غوائل تنفر عنها وفوائد تدعو الى إليها وميل أكثر العباد والزهاد الى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة وما ذكرناه في كتاب الصحبة من فضيلة المخالطة والمؤاخاة والمؤالفة يكاد يناقض ما مال إليه الأكثرون من اختيار الإستيحاش والخلوة فكشف الغطاء عن الحق في ذلك مهم
ويحصل ذلك برسم بابين
الباب الأول في نقل المذاهب والحجج فيها
الباب الثاني في كشف الغطاء عن الحق بحصر الفوائد والغوائل
_________
(1) حديث أبي هريرة وليأكل معه فإن أبى فليناوله وفي رواية إذا كفى أحدكم مملوكه صنعة طعامه الحديث متفق عليه مع اختلاف لفظ وهو في مكارم الأخلاق للخرائطي باللفظين اللذين ذكرهما المصنف غير أنه لم يذكر علاجه وهذه اللفظة عند البخاري
(2) حديث من كانت عنده جارية فعالها وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها فذلك له أجران متفق عليه من حديث أبي موسى
(3) حديث كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته متفق عليه من حديث ابن عمر وقد تقدم
(4) حديث فضالة بن عبيد ثلاثة لا يسأل عنهم رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا الحديث أخرجه الطبراني وصححه(2/221)
الباب الأول في نقل المذاهب والأقاويل وذكر حجج الفريقين في ذلك
أما المذاهب فقد اختلف فيها وظهر هذا الاختلاف بين التابعين
فذهب الى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة سفيان الثوري وابراهيم بن أدهم وداود الطائي وفضيل بن عياض وسليمان الخوّاص ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وبشر الحافي
وقال أكثر التابعين باستحباب الْمُخَالَطَةِ وَاسْتِكْثَارِ الْمَعَارِفِ وَالْإِخْوَانِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّحَبُّبِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الدِّينِ تَعَاوُنًا عَلَى البر والتقوى ومال الى هذا سعيد بن المسيب والشعبي وابن أبي ليلى وهشام بن عروة وابن شبرمة وشريح وشريك بن عبد الله وابن عيينة وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وجماعة
والمأثور عن العلماء من الكلمات ينقسم الى كلمات مطلقة تدل على الميل إلى أحد الرأيين والى كلمات مقرونة بما يشير إلى علة الميل
فلننقل الآن مطلقات تلك الكلمات لنبين المذاهب فيها وما هو مقرون بذكر العلة نورده عند التعرض للغوائل والفوائد فنقول قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال خذوا بحظكم من العزلة
وقال ابن سيرين العزلة عبادة
وقال الفضيل كفى بالله محباً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظاً
وقيل اتخذ الله صاحباً ودع الناس جانباً
وقال أبو الربيع الزاهد لداود الطائي عظني قال صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفرّ من الناس فرارك من الأسد
وقال الحسن رحمه الله كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حراً وترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلاً فتمتع طويلاً
وقال وهيب ابن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس
وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة وقد كان لزم البيت فقال كنت وأنا شاب أصبر على أكثر من هذا كنت أجالس الناس ولا أكلمهم
وقال سفيان الثوري هذا وقت السكوت وملازمة البيوت
وقال بعضهم كنت في سفينة ومعنا شاب من العلوية فمكث معنا سبعاً لا نسمع له كلاماً فقلنا له يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا فأنشأ يقول
قليل الهم لا ولد يموت ... ولا أمر يحاذره يفوت
قضى وطر الصبا وأفاد علماً ... فغايته التفرّد والسكوت
وقال إبراهيم النخعي لرجل تفقه ثم اعتزل وكذا قال الربيع بن خثيم
وقيل كان مالك بن أنس يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم فترك ذلك واحداً واحداً حتى تركها كلها وكان يقول لا يتهيأ للمرء أن يحبر كل عذر له
وقيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى وقال الفضيل إني لأجد للرجل عندي يداً إذا لقيني أن لا يسلم علي وإذا مرضت أن لا يعودني
وقال أبو سليمان الداراني بينما الربيع ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك جبهته فشجه فجعل يمسح الدم ويقول لقد وعظت يا ربيع فقام ودخل داره فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى أخرجت جنازته
وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لجمعة ولا غيرها حتى ماتا بالعقيق
وقال يوسف بن أسباط سمعت سفيان الثوري يقول والله الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة وقال بشر بن عبد الله أقل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما يكون يوم القيامة فإن تكن(2/222)
فضيحة كان من يعرفك قليلاً
ودخل بعض الأمراء على حاتم الأصم فقال له
ألك حاجة قال نعم قال وما هي قال أن لا تراني ولا أراك ولا تعرفني
وقال رجل لسهل أريد أن اصحبك فقال إذا مات أحدنا فمن يصحب الآخر قال الله قال فليصحبه الآن
وقيل للفضيل إن علياً ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس ولا يروني فبكى الفضيل وقال يا ويح على أفلاً أتمها فقال لا أراهم ولا يروني وقال الفضيل أيضاً من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أفضل المجالس مجلس في قعر بيتك لا ترى ولا ترى
فهذه أقاويل المائلين الى العزلة
ذكر حجج المائلين إلى المخالطة ووجه ضعفها
احتج هؤلاء بقوله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} الآية وبقوله تعالى {فألف بين قلوبكم} أمتن على الناس بالسبب المؤلف وهذا ضعيف لأن المراد به تفرّق الآراء واختلاف المذاهب في معاني كتاب الله وأصول الشريعة
والمراد بالألفة نزع الغوائل من الصدور وهي الأسباب المثيرة للفتن المحركة للخصومات والعزلة لا تنافى ذلك
واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ (1)
وهذا ضعيف لأنه إشارة إلى مذمة سوء الخلق تمتنع بسببه المؤالفة ولا يدخل تحته الحسن الخلق الذي إن خالط ألف وألف ولكنه ترك المخالطة اشتغالا بنفسه وطلبا للسلامة من غيره
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا خلع ربقة الإسلام من عنقه وقال من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية (2)
وبقوله صلى الله عليه وسلم من شق عصا المسلمين والمسلمون في إسلام دامج فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه (3)
وهذا ضعيف لأن المراد به الجماعة التي اتفقت آراؤهم على إمام بعقد البيعة فالخروج عليهم بغى وذلك مخالفة بالرأي وخروج عليهم وذلك محظور لاضطرار الخلق إلى إمام مطاع يجمع رأيهم ولا يكون ذلك إلا بالبيعة من الأكثر فالمخالفة تشويش مثير للفتنة فليس في هذا تعرض للعزلة
واحتجوا بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الهجر فوق ثلاث إذ قال من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار (4)
وقال صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث والسابق بالصلح يدخل الجنة (5)
وقال من هجر أخاه سنة فهو كسافك دمه (6)
قالوا والعزلة هجره بالكلية
وهذا ضعيف لأن المراد به الغضب على الناس واللجاج فيه بقطع الكلام والسلام والمخالطة المعتادة فلا يدخل فيه ترك المخالطة أصلا من غير غضب
مع أن الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين
أحدهما أن يرى فيه إصلاحا للمهجور في الزيادة
الثاني أن يرى لنفسه سلامة فيه
_________
(1) حديث المؤمن إلف مألوف الحديث تقدم في الباب الأول من آداب الصحبة
(2) حديث من ترك الجماعة فمات فميتته جاهلية أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم في الباب الخامس من كتاب الحلال والحرام
(3) حديث من شق عصا المسلمين والمسلمون في إسلام دامج فقد خلع ربقة الإسلام أخرجه الطبراني والخطابي في العزلة من حديث ابن عباس بسند جيد
(4) حديث من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح
(5) حديث لا يحل لامرئ أن يهجر أخاه فوق ثلاث والسابق بالصلح يدخل الجنة متفق عليه من حديث أنس دون قوله والسابق بالصلح زاد فيه الطبراني والذي يبدأ بالصلح يسبق إلى الجنة
(6) حديث من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه أخرجه أبو داود من حديث أبي خراش السلمي واسمه حدرد بن أبي حدرد وإسناده صحيح(2/223)
والنهي وان كان عاما فهو محمول على ما وراء الموضعين المخصوصين بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم هجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر (1)
وروى عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا وصعد إلى غرفة له وهى خزانته فلبث تسعا وعشرين يوما فلما نزل قيل له إنك كنت فيها تسعا وعشرين فقال الشهر قد يكون تسعا وعشرين (2)
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه (3)
فهذا صريح في التخصيص وعلى هذا ينزل قول الحسن رحمه الله حيث قال هجران الأحمق قربة إلى الله فإن ذلك يدوم إلى الموت إذ الحماقة لا ينتظر علاجها
وذكر عند محمد بن عمر الواقدي رجل هجر رجلا حتى مات فقال هذا شيء قدم تقدّم فيه قوم سعد بن أبي وقاص كان مهاجرا لعمار بن ياسر حتى مات وعثمان بن عفان كان مهاجرا لعبد الرحمن بن عوف وعائشة كانت مهاجرة لحفصة
وكان طاوس مهاجرا لوهب بن منبه حتى ماتا
وكل ذلك يحمل على رؤيتهم سلامتهم في المهاجرة
واحتجوا بما روى أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجيء به إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لا تفعل أنت ولا أحد منكم لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عاما (4)
والظاهر أنّ هذا إنما كان لما فيه من ترك الجهاد مع شدة وجوبة في ابتداء الإسلام بدليل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال غزونا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء فقال واحد من القوم لو اعتزلت الناس في هذا الشعب ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لا تفعل فان مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته في أهله ستين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة اغزوا في سبيل الله فانه من قاتل في سبيل الله فواق ناقة أدخله الله الجنة (5)
واحتجوا بما روى معاذ بن جبل أنه صلى الله عليه وسلم قال ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والناحية والشاردة وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد (6)
وهذا إنما أراد به من اعتزل قبل تمام الغلم وسيأتي بيان ذلك وأن ذلك ينهى عنه إلا لضرورة
ذكر حجج المائلين إلى تفضيل العزلة
احتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي} الآية ثم قال تعالى فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً إشارة إلى أن ذلك ببركة العزلة
وهذا ضعيف لأن مخالطة الكفار لا فائدة فيها إلا دعوتهم الى الدين
وعند اليأس من إجابتهم فلا وجه
_________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم هجر عائشة ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر قلت إنما هجر زينب هذه المدة كما رواه أبو داود من حديث عائشة وسكت عليه فهو عنده صالح
(2) حديث عمر أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا الحديث متفق عليه
(3) حديث عائشة لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاث إلا أن يكون ممن لا يأمن بوائقه أخرجه ابن عدي وقال غريب المتن والإسناد وحديث عائشة عند أبي داود دون الاستثناء بإسناد صحيح
(4) حديث أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجىء به إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لا تفعل الحديث أخرجه البيهقي من حديث عسعس ابن سلامة قال ابن عبد البر يقولون إن حديثه مرسل وكذا ذكره ابن حبان في ثقات التابعين
(5) حديث أبي هريرة غزونا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء غزيرة فقال واحد من القوم لو اعتزلت الناس في هذا الشعب الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم إلا أن الترمذي قال سبعين عاما
(6) حديث معاذ بن جبل الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية أخرجه أحمد والطبراني ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا(2/224)
إلا هجرهم وإنما الكلام في مخالطة المسلمين وما فيها من البركة لما روي أنه قيل يا رسول الله الوضوء من جر مخمر أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يتطهر منها الناس فقال بل من هذه المطاهر التماساً لبركة أيدي المسلمين (1)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت عدل الى زمزم ليشرب منها فإذا التمر المنقع في حياض الأدم وقد مغثه الناس بأيديهم وهم يتناولون منه ويشربون فاستسقى منه وقال أسقوني فقال العباس إن هذا النبيذ شراب قد مغث وخيض بالأيدي أفلا آتيك بشراب أنظف من هذا من جر مخمر في البيت فقال أسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس ألتمس بركة أيدي المسلمين فشرب منه (2)
فإذن كيف يستدل باعتزال الكفار والأصنام على اعتزال المسلمين مع كثرة البركة فيهم
واحتجوا أيضاً بقول موسى عليه السلام {وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون} وأنه فزع إلى العزلة عند اليأس منهم وقال تعالى في أصحاب الكهف وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته أمرهم بالعزلة
وقد اعتزل نبينا صلى الله عليه وسلم قريشاً لما آذوه وجفوه ودخل الشعب وامر أصحابه باعتزالهم والهجرة الى أرض الحبشة (3) ثم تلاحقوا به الى المدينة بعد أن أعلى الله كلمته وهذا أيضاً اعتزال عن الكفار بعد اليأس منهم فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعتزل المسلمين ولا من توقع إسلامه من الكفار وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضاً وهم مؤمنون وإنما اعتزلوا الكفار وإنما النظر في العزلة من المسلمين
واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامر الجهني لما قال يا رسول الله ما النجاة قال ليسعك بيتك وأمسك عليك لسانك وآبك على خطيئتك وروي أنه قيل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله تعالى قيل ثم من قال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شرّه
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحب العبد التقي النقي الخفي (4)
وفي الإحتجاج بهذه الأحاديث نظر فأما قوله لعبد الله بن عامر فلا يمكن تنزيله إلا على ما عرفه صلى الله عليه وسلم بنور النبوة من حاله وإن لزوم البيت كان أليق به وأسلم له من المخالطة فإنه لم يأمر جميع الصحابة بذلك ورب شخص تكون سلامته في العزلة لا في المخالطة كما قد تكون سلامته في القعود في البيت وأن لا يخرج الى الجهاد
_________
(1) حديث قيل له صلى الله عليه وسلم الوضوء من جر مخمر أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يطهر منها الناس فقال بل من هذه المطاهر الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر وفيه ضعف
(2) حديث لما طاف بالبيت عدل إلى زمزم يشرب منها فإذا التمر منقع في حياض الأدم قد مغثه الناس بأيديهم الحديث وفيه فقال أسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس رواه الأزرقي في تاريخ مكة من حديث ابن عباس بسند ضعيف ومن رواية طاوس مرسلا نحوه
(3) حديث اعتزاله صلى الله عليه وسلم قريشاً لما آذوه وجفوه ودخل الشعب وامر أصحابه باعتزالهم والهجرة إلى الحبشة الحديث رواه موسى بن عقبة في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب مرسلا ورواه ابن سعد في الطبقات من رواية ابن شهاب علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلا أيضا ووصله من رواية أبي سلمة الحضرمي عن ابن عباس إلا أن ابن سعد ذكر أن المشركين حصروا بني هاشم في الشعب وذكر موسى بن عقبة أن أبا طالب جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومغازي موسى بن عقبة أصح المغازي وذكر موسى بن عقبة أيضا أنه أمر أصحابه حين دخل الشعب بالخروج إلى أرض الحبشة ولأبي داود من حديث أبي موسى أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننطلق إلى أرض النجاشي قال البيهقي وإسناده صحيح ولأحمد من حديث ابن مسعود بعثنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النجاشي وروى ابن إسحاق بإسناد جيد ومن طريقه البيهقي في الدلائل من حديث أم سلمة أن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده الحديث
(4) حديث إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي أخرجه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص(2/225)
وذلك لا يدل على أن ترك الجهاد أفضل
وفي مخالطة الناس مجاهدة ومقاساة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم (1)
وعلى هذا ينزل قوله صلى الله عليه وسلم رجل معتزل يعبد ربه ويدع الناس من شره فهذا إشارة الى شرير بطبعه تتأذى الناس بمخالطته
وقوله إن الله يحب التقي الخفي إشارة الى إيثار الخمول وتوقي الشهرة
وذلك لا يتعلق بالعزلة فكم من راهب معتزل تعرفه كافة الناس وكم من مخالط خامل لا ذكر له ولا شهرة فهذا تعرض لأمر لا يتعلق بالعزلة
واحتجوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ألا أنبئكم بخير الناس قالوا بلى يا رسول الله فأشار بيده نحو المغرب وقال رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ينتظر أن يغير أو يغار عليه ألا أنبئكم بخير الناس بعده وأشار بيده نحو الحجاز وقال رجل في غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعلم حق الله في ماله اعتزل شرور الناس (2)
فإذا ظهر أن هذه الأدلة لا شفاء فيها من الجانبين فلا بد من كشف الغطاء بالتصريح بفوائد العزلة وغوائلها ومقايسة بعضها بالبعض ليتبين الحق فيها
الباب الثاني في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها
اعلم أن اختلاف الناس في هذا يضاهي اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة
وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده فكذلك القول فيما نحن فيه
فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم الى فوائد دينية ودنيوية
والدينية تنقسم إلى ما يمكن من تحصيل الطاعات في الخلوة والمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم وإلى تخلص مِنِ ارْتِكَابِ الْمَنَاهِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لَهَا بِالْمُخَالَطَةِ كَالرِّيَاءِ وَالْغِيبَةِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الْأَخْلَاقَ الرَّدِيئَةَ وَالْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ مِنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ
وأما الدنيوية فتنقسم إلى ما يمكن من التحصيل بالخلوة كتمكن المحترف في خلوته إلى ما يخلص من محذورات يتعرض لها بالمخالطة كالنظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة والتأذي بسوء خلق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته
وإلى هذا ترجع مجامع فوائد العزلة فلنحصرها في ست فوائد
الفائدة الأولى التفرّغ للعبادة والفكر والإستئناس بمناجاة الله
تعالى عن مناجاة الخلق والإشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض فإن ذلك يستدعي فراغاً ولا فراغ مع المخالطة فالعزلة وسيلة اليه
ولهذا قال بعض الحكماء لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله تعالى
والمتمسكون بكتاب الله تعالى هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر الله الذاكرون الله بالله عاشوا بذكر الله وماتوا بذكر الله ولقوا الله
_________
(1) حديث الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ولم يسم الترمذي الصحابي قال شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والطريق واحد
(2) حديث ألا أنبئكم بخير الناس قالوا بلى قال فأشار بيده نحو المغرب وقال رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ينتظر أن يغير أو يغار عليه الحديث أخرجه الطبراني من حديث أم مبشر إلا أنه قال نحو المشرق بدل المغرب وفيه ابن إسحاق رواه بالعنعنة وللترمذي والنسائي نحوه مختصرا من حديث ابن عباس قال الترمذي حديث حسن(2/226)
بذكر الله
ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة عن الفكر والذكر فالعزلة أولى بهم
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة (1)
فكان الخلق لا يحجبونه عن الله فكان ببدنه مع الخلق وبقلبه مقبلاً على الله تعالى حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر خليله
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استغراق همه بالله فقال لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله (2)
ولن يسع الجمع بين مخالطة الناس ظاهراً والإقبال على الله سراً إلا قوة النبوة فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء إليه
فقد نقل عن الجنيد أنه قال أنا أكلم الله منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم
وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب الله استغراقاً لا يبقي لغيره فيه متسع وذلك غير منكر ففي المشتهرين بحب الخلق من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول ولا ما يقال له لفرط عشقه لمحبوبه
بل الذي دهاه ملم يشوّش عليه أمراً من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم لشدة استغراقه
وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء فلا تستحيل ذلك فيه ولكن الأولى بالأكثرين الاستعانة بالعزلة
ولذلك قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة
وقيل لبعض الرهبان ما أصبرك على الوحدة فقال ما أنا وحدي أنا جليس الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت
وقيل لبعض الحكماء إلى أي شيء أفضى بكم الزهد والخلوة فقال إلى الأنس بالله
وقال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم ابن أدهم رحمه الله في بلاد الشام فقلت له يا إبراهيم تركت خراسان فقال ما تهنأت بالعيش إلا ههنا أفرّ بديني من شاهق الى شاهق فمن يراني يقول موسوس أو حمال أو ملاح
وقيل لغزوان الرقاشي هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك قال إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي
وقيل للحسن يا أبا سعيد ههنا رجل لم تره قط جالساً إلا وحده خلف سارية
فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني به فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن هذا الرجل الذي أخبرناك به وأشاروا إليه فمضى إليه الحسن وقال له
يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس فقال أمر شغلني عن الناس قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه فقال أمر شغلني عن الناس
وعن الحسن فقال له الحسن وما ذاك الشغل يرحمك الله فقال إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر الله تعالى على النعمة والإستغفار من الذنب فقال له الحسن أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه
وقيل بينما أويس القرني جالس إذ أتاه هرم بن حيان فقال له أويس ما جاء بك قال جئت لآنس بك فقال أويس ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره وقال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلاً فرحت به وقلت أخلو بربي وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي
وقال عبد الله بن زيد طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة قيل له وكيف ذلك قال يناجي الله في الدنيا ويجاوره في الآخرة
وقال ذو النون المصري سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه
وقال مالك بن دينار من لم يأنس بمحادثة الله عز وجل عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمى
_________
(1) حديث كان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه متفق عليه من حديث عائشة نحوه فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه الحديث
(2) حديث لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود وقد تقدم(2/227)
قلبه وضيع عمره
وقال ابن المبارك ما أحب حال من انقطع إلى الله تعالى ويروى عن بعض الصالحين أنه قال بينما أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى الى أصل شجرة وتستر بها فقلت سبحان الله تبخل علي بالنظر إليك فقال هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري فسألت الله تعالى أن لا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فسكنه الله عن الإضطراب وألفه الوحدة والإنفراد فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب القانتين ثم صاح واغماه من طول المكث في الدنيا ثم حوّل وجهه عني ثم نفض يديه وقال إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الإنقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان وجمع همهم في ذكره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته
ثم مضى وهو يقول قدوس قدوس
فإذاً في الخلوة أنس بذكر الله واستكثار من معرفة الله وفي مثل ذلك قيل
وإني لأستغشى وما بي غشوة ... لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليا
ولذلك قال بعض الحكماء إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة فيكثر حينئذ ملاقاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم والحكمة
وقد قيل الإستئناس من علامات الإفلاس فإذاً هذه فائدة جزيلة ولكن في حق بعض الخواص ومن يتيسر له بدوام الذكر الأنس بالله أو بدوام الفكر التحقق في معرفة الله فالتجرد له أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة
فإن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً لله عارفاً بالله ولا محبة إلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر ولا معرفة إلا بدوام الفكر
وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما ولا فراغ مع المخالطة
الفائدة الثانية التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها
غالبا بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة وهي أربعة الغيبة والنميمة والرياء وَالسُّكُوتِ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا
أما الغيبة فإذا عرفت من كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات وجوهها عرفت أن التحرز عنها مع المخالطة عظيم لا ينجو منها إلا الصدّيقون
فإن عادة الناس كافة التمضمض بأعراض الناس والتفكه بها والتنفل بحلاوتها وهي طعمتهم ولذتهم وإليها يستروحون من وحشتهم في الخلوة
فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى وإن سكت كنت شريكا والمستمع أحد المغتابين وإن أنكرت أبغضوك وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى غيبة وربما زادوا على الغيبة وانتهوا إلى الإستخفاف والشتم
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصول الدين وهو واجب كما سيأتي بيانه في آخر هذا الربع ومن خالط الناس فلا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله به وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر إذ ربما يجره طلب الخلاص عنها إلى معاص هي أكبر مما نهى عنه ابتداء
وفي العزلة خلاص من هذا فإن الأمر في إهماله شديد والقيام به شاق
وقدم قام أبو بكر رضي الله عند خطيبا وقال أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية(2/228)
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب (1)
وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ ليسأل العبد حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله لعبد حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس (2)
وهذا إذا خاف من ضرب أو أمر لا يطاق
ومعرفة حدود ذلك مشكلة وفيه خطر
وفي العزلة خلاص وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إثارة للخصومات وتحريك لغوائل الصدور كما قيل
وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصح
ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالباً فإنه كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه فيوشك أن يسقط عليه فإذا سقط عليه يقول يا ليتني تركته مائلاً
نعم لو وجد أعواناً أمسكوا الحائط حتى يحكمه بدعامة لاستقام وأنت اليوم لا تجد الأعوان فدعهم وانج بنفسك
وأما الرياء فهو الداء العضال الذي يعسر على الأبدال والأوتاد الاحتراز عنه
وكل من خالط الناس داراهم ومن داراهم راءاهم ومن راءاهم وقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا
وأقل ما يلزم فيه النفاق فإنك إن خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضاً إليهما جميعاً وإن جاملتهما كنت من شرار الناس
وقال صلى الله عليه وسلم تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه (3)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ شر الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه (4)
وأقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق والمبالغة فيه ولا يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل وإما في الزيادة وإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال بقولك كيف أنت وكيف أهلك وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه وهذا نفاق محض
قال سرى لو دخل أخ لي فسويت لحيتي بيدي لدخوله لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين
وكان الفضيل جالسا وحده في المسجد الحرام فجاء إليه أخ له فقال له ما جاء بك قال المؤانسة يا أبا علي فقال هي والله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك وتكذب لي وأكذب لك إما أن تقوم عني أو أقوم عنك
وقال بعض العلماء ما أحب الله عبداً إلا أحب أن لا يشعر به
ودخل طاوس على الخليفة هشام فقال كيف أنت يا هشام فغضب عليه وقال لم لم تخاطبني بأمير المؤمنين فقال لأن جميع المسلمين ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذباً
فمن أمكنه أن يحترز هذا الإحتراز فليخالط الناس وإلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين
فقد كان السلف يتلاقون ويحترزون في قولهم كيف أصبحت وكيف أمسيت وكيف أنت وكيف حالك وفي الجواب عنه
فكان سؤالهم عن أحوال الدين لا عن أحوال الدنيا
قال حاتم الأصم لحامد اللفاف كيف أنت في نفسك قال سالم معافى فكره حاتم جوابه وقال يا حامد السلامة من وراء الصراط والعافية في الجنة
وكان إذا قيل لعيسى صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت قال أصبحت لا أملك تقديم ما أرجو ولا أستطيع دفع ما أحاذر وأصبحت مرتهناً بعملي والخير كله في يد غيري ولا فقير أفقر مني
_________
(1) حديث أبي بكر إنكم تقرءون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم لتضعونها في غير موضعها الحديث أخرجه أصحاب السنن قال الترمذي حسن صحيح
(2) حديث إن الله يسأل العبد حتى يقول ما منعك إذا رأيت المنكر في الدنيا أن تنكره الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد جيد
(3) حديث تجدون من شرار الناس ذا الوجهين متفق عليه من حديث أبي هريرة
(4) حديث إن من شر الناس ذا الوجهين أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وهو الذي قبله(2/229)
وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له كيف أصبحت قال أصبحت من ضعفاء مذنبين نستوفي أرزاقنا وننتظر آجالنا
وكان أبو الدرداء إذا قيل له كيف أصبحت قال أصبحت بخير إن نجوت من النار
وكان سفيان الثوري إذا قيل له كيف أصبحت يقول أصبحت أشكر ذا الى ذا وأذم ذا الى ذا وأفر من ذا الى ذا وقيل لأويس القرني كيف أصبحت قال كيف يصبح رجل إذا أمسى لا يدري أنه يصبح وإذا أصبح لا يدري أنه يمسي وقيل لمالك بن دينار كيف أصبحت قال أصبحت في عمر ينقص وذنوب تزيد
وقيل لبعض الحكماء كيف أصبحت قال أصبحت لا أرضى حياتي لمماتي ولا نفسي لربي
وقيل لحكيم كيف أصبحت قال أصبحت آكل رزق ربي وأطيع عدوه إبليس
وقيل لمحمد بن واسع كيف أصبحت قال ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة
وقيل لحامد اللفاف كيف أصبحت قال أصبحت أشتهي عافية يوم الى الليل فقيل له ألست في عافية في كل الأيام فقال
العافية يوم لا أعصى الله تعالى فيه
وقيل لرجل وهو يجود بنفسه ما حالك فقال وما حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة
وقيل لحسان ابن أبي سنان ما حالك قال ما حال من يموت ثم يبعث ثم يحاسب
وقال ابن سيرين لرجل كيف حالك فقال وما حال من عليه خمسمائة درهم ديناً وهو معيل فدخل ابن سيرين منزله فأخرج له ألف درهم فدفعها إليه وقال خمسمائة اقض بها دينك وخمسمائة عد بها على نفسك وعيالك ولم يكن عنده غيرها ثم قال والله لا أسأل أحداً عن حاله أبداً
وإنما فعل ذلك لأنه خشي أن يكون سؤاله من غير اهتمام بأمره فيكون بذلك مرائياً منافقاً
فقد كان سؤالهم عن أمور الدين وأحوال القلب في معاملة الله وإن سألوا عن أمور الدنيا فعن اهتمام وعزم على القيام بما يظهر لهم من الحاجة
وقال بعضهم إني لأعرف أقواماً كانوا لا يتلاقون ولو حكم أحدهم على صاحبه بجميع ما يملكه لم يمنعه وأرى الآن أقواما يتلاقون ويتساءلون حتى عن الدجاجة في البيت
ولو انبسط أحدهم لحبة من مال صاحبه لمنعه فهل هذا إلا مجرد الرياء والنفاق وآية ذلك أنك ترى هذا يقول كيف أنت ويقول الآخر كيف أنت فالسائل لا ينتظر الجواب والمسئول يشتغل بالسؤال ولا يجيب وذلك لمعرفتهم بأن ذلك عن رياء وتكلف
ولعل القلوب لا تخلو عن ضغائن وأحقاد والألسنة تنطق بالسؤال
قال الحسن إنما كانوا يقولون السلام عليكم إذا سلمت والله القلوب وأما الآن فكيف أصبحت عافاك الله كيف أنت أصلحك الله فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة لا كرامة فإن شاءوا غضبوا علينا وإن شاءوا لا
وإنما قال ذلك لأن البداية بقولك كيف أصبحت بدعة
وقال رجل لأبي بكر بن عياش كيف أصبحت فما أجابه
وقال دعونا من هذه البدعة
وقال إنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يدعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع كان الرجل يلقاه أخوه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون ويلقاه عشية فيقول كيف أمسيت والمقصود أن الالتقاء في غالب العادات ليس يخلو عن أنواع من التصنع والرياء والنفاق وكل ذلك مذموم بعضه محظور وبعضه مكروه
وفي العزلة الخلاص من ذلك فإن من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم مقتوه واستثقلوه واغتابوه وتشمروا لإيذائه فيذهب دينهم فيه ويذهب دينه ودنياه في الإنتقام منهم
وأما مسارقة الطبع مما يشاهده من أخلاق الناس وأعمالهم فهو داء دفين قلما يتنبه له العقلاء فضلا عن الغافلين فلا يجالس الإنسان فاسقا مدة مع كونه منكرا عليه في باطنه إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لأدرك بينهما تفرقة في النفرة عن الفساد واستثقاله إذ يصير للفساد بكثرة المشاهدة هينا على الطبع فيسقط وقعه واستعظامه له(2/230)
وإنما الوازع عنه شدّة وقعه في القلب فإذا صار مستصغرا بطول المشاهدة أوشك أن تنحل القوّة الوازعة ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه
ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة الله عليه فتؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده وتؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم
وكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة هذا تأثيره في الطبع من يقصر نظره على ملاحظة أحوال الصحابة والتابعين في العبادة والتنزه عن الدنيا فلا يزال ينظر إلى نفسه بعين الإستصغار وإلى عبادته بعين الإستحقار وما دام يرى نفسه مقصراً فلا يخلو عن داعية الاجتهاد رغبة في الاستكمال واستتماماً للاقتداء
ومن نظر الى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن الله وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك
ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلاً عن مشاهدته
وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة (1)
وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء الله وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الإقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير
ومبدأ الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين فهذا معنى نزول الرحمة
والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كالمفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهوّن على الطبع أمر المعاصي واللعنة هي البعد
ومبدأ البعد من الله هو المعاصي والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع
ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب
ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع
إذا كان هذا حال ذكر الصالحين والفاسقين فما ظنك بمشاهدتهم بل قد صرح بذلك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قال مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه (2)
فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به
وقال مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك منه تجد ريحه ولهذا أقول من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين إحداهما أنها غيبة والثانية وهي أعظمهما
أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلّة ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سبباً لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار وقال كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون الى مثله حتى العلماء والعباد ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص عل جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهوّن على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة وربما يستشهد عليه بقتال علي ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي
والطبع اللئيم يميل إلى اتباع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل الى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان ولذلك وصف الله المراغمين للشيطان فيها بقوله {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} وضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً وقال مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب
_________
(1) حديث عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ليس له أصل في الحديث المرفوع وإنما هو من قول سفيان ابن عيينة كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة
(2) حديث مثل الجليس السوء كمثل الكير الحديث متفق عليه من حديث أبي موسى(2/231)
عليه السلام فأخذ بأذن كلب الغنم (1)
وكل من ينقل هفوات الأئمة فهذا مثاله أيضاً
ومما يدل على سقوط وقع الشيء عن القلب بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً أفطر في نهار رمضان استبعدوا ذلك منه استبعاداً يكاد يفضي الى اعتقادهم كفره وقد يشاهدون من يخرج الصلوات عن أوقاتها ولا تنفر عنه طباعهم كنفرتهم عن تأخير الصوم مع أن صلاة واحدة يقتضى تركها الكفر عند قوم وحز الرقبة عند قوم وترك صوم رمضان كله لا يقتضيه ولا سبب له إلا أن الصلاة تتكرر والتساهل فيها مما يكثر فيسقط وقعها بالمشاهدة عن القلب
ولذلك لو لبس الفقيه ثوباً من حرير أو خاتماً من ذهب أو شرب من إناء فضة استبعدته النفوس واشتد إنكارها وقد يشاهد في مجلس طويل لا يتكلم إلا بما هو اغتياب للناس ولا يستبعد منه ذلك
والغيبة أشد من الزنا فكيف لا تكون أشد من لبس الحرير ولكن كثرة سماع الغيبة ومشاهدة المغتابين أسقط وقعها عن القلوب وهون على النفس أمرها فتفطن لهذه الدقائق وفرّ من الناس فرارك من الأسد لأنك لا تشاهد منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وغفلتك عن الآخرة ويهون عليك المعصية ويضعف رغبتك في الطاعة
فإن وجدت جليساً يذكرك الله رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه واغتنمه ولا تستحقره فإنها غنيمة العاقل وضالة المؤمن
وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة وأن الوحدة خير من الجليس السوء
ومهما فهمت هذه المعاني ولاحظت طبعك والتفت إلى حال من أردت مخالطته لم يخف عليك أن الأولى التباعد بالعزلة أو التقرب إليه بالخلطة
وإياك أن تحكم مطلقاً على العزلة أو الخلطة بأن إحداهما أولى إذ كل مفصل فإطلاق القول فيه بلا أو نعم خلف من القول محض ولا حق في المفصل إلا التفصيل
الفائدة الثالثة الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس عن
الخوض فيها والتعرض لأخطارها وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات فالمعتزل عنهم في سلامة منها
قال عبد الله بن عمرو بن العاص لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن ووصفها وقال إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قلت فما تأمرني فقال الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة (2)
وروى أبو سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن من شاهق الى شاهق (3)
وروى عبد الله ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من قرية الى قرية ومن شاهق الى شاهق ومن جحر الى جحر كالثعلب الذي يروغ قيل له ومتى ذلك يا رسول الله قال إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله تعالى فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة قالوا وكيف يا رسول الله وقد أمرتنا بالتزويج قال إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده فإن لم يكن فعلى يدي قرابته قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال يعيرونه بضيق اليد فيتكلف ما لا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة (4)
وهذا الحديث وإن كان في العزوبة فالعزلة مفهومة منه إذ لا يستغني المتأهل عن
_________
(1) حديث مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا يحمل منها إلا شر ما يسمع كمثل رجل أتى راعياً فقال يا راعي اجرر لي شاة من غنمك الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف
(2) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم الحديث أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة بإسناد حسن
(3) حديث أبي سعيد الخدري يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعاف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن رواه البخاري
(4) حديث ابن مسعود سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من قرية الى قرية ومن شاهق إلى شاهق تقدم في النكاح(2/232)
المعيشة والمخالطة ثم لا ينال المعيشة إلا بمعصية الله تعالى ولست أقول هذا أو أن ذلك الزمان فلقد كان هذا بإعصار قبل هذا العصر ولأجله قال سفيان والله لقد حلت العزلة
وقال ابن مسعود رضي الله عنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الفتنة وأيام الهرج قلت وما الهرج قال حين لا يأمن الرجل جليسه قلت فبم تأمرني إن أدركت ذلك الزمان قال كف نفسك ويدك وادخل دارك قال قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل على داري قال فادخل بيتك قلت فإن دخل على بيتي قال فادخل مسجدك واصنع هكذا وقبض على الكوع وقل ربي الله حتى تموت (1)
وقال سعد لما دعي الى الخروج أيام معاوية لا إلا أن تعطوني سيفاً له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فأقتله وبالمؤمن فأكف عنه وقال مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فبينما هم كذلك يسيرون إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق فالتبس عليهم فقال بعضهم الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وقال بعضهم ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وأناخ آخرون وتوقفوا حتى ذهبت الريح وتبينت الطريق فسافروا
فاعتزل سعد وجماعة معه فارقوا الفتن ولم يخالطوا إلا بعد زوال الفتن
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما بلغه أن الحسين رضي الله عنه توجه الى العراق تبعه فلحقه على مسيرة ثلاثة أيام فقال له أين تريد فقال العراق
فإذا معه طوامير وكتب فقال هذه كتبهم وبيعتهم فقال لا تنظر الى كتبهم ولا تأتهم فأبى فقال إني أحدثك حديثاً جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يليها أحد منكم أبداً وما صرفها عنكم إلا للذي هو خير لكم فأبى أن يرجع فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال استودعك الله من قتيل أو أسير (2)
وكان في الصحابة عشرة آلاف فما خف أيام الفتنة أكثر من أربعين رجلاً
وجلس طاوس في بيته فقيل له في ذلك فقال فساد الزمان وحيف الأئمة
ولما بنى عروة قصره بالعقيق ولزمه قيل له لزمت القصر وتركت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وفيما هناك عما أنتم فيه عافية
فإذن الحذر من الخصومات ومثارات الفتن إحدى فوائد العزلة
الفائدة الرابعة الخلاص من شر الناس
فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة ومرة بسوء الظن والتهمة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها وتارة بالنميمة أو الكذب فربما يرون منك من الأعمال أو الأقوال ما لا تبلغ عقولهم كنهه فيتخذون ذلك ذخيرة عندهم يدخرونها لوقت تظهر فرصة للشر فإذا اعتزلتهم استغنيت من التحفظ عن جميع ذلك
ولذلك قال بعض الحكماء لغيره أعلمك بيتين خير من عشرة آلاف درهم ما هما قال
اخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل المقال
ليس للقول رجعة حين يبدو ... بقبيح يكون أو بجمال
ولا شك أن من اختلط بالناس وشاركهم في أعمالهم لا ينفك من حاسد وعدو يسيء الظن به ويتوهم أنه يستعد
_________
(1) حديث ابن مسعود ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتنة وأيام الهرج قلت وما الهرج قال حين لا يأمن الرجل جليسه الحديث أخرجه أبو داود مختصرا والخطابي في العزلة بتمامه وفي إسناده عند الخطابي انقطاع ووصله أبو داود بزيادة رجل اسمه سالم يحتاج إلى معرفته
(2) حديث ابن عمر أنه لما بلغه أن الحسين توجه إلى العراق لحقه على مسيرة ثلاثة أيام الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة رواه الطبراني مقتصرا على المرفوع رواه في الأوسط بذكر قصة الحسين مختصرة ولم يقل على مسيرة ثلاثة أيام وكذا رواه البزار بنحوه وإسنادهما حسن(2/233)
لمعاداته ونصب المكيدة عليه وتدسيس غائلة وراءه فالناس مهما اشتد حرصهم على أمر {يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم} وقد اشتد حرصهم على الدنيا فلا يظنون بغيرهم إلا الحرص عليها قال المتنبي
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته ... فأصبح في ليل من الشك مظلم
وقد قيل معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار
وأنواع الشر الذي يلقاه الإنسان من معارفه وممن يختلط به كثيرة ولسنا نطول بتفصيلها ففيما ذكرناه إشارة إلى مجامعها وفي العزلة خلاص من جميعها
والى هذا أشار الأكثر ممن اختار العزلة
فقال أبو الدرداء أخبر تقله يروى مرفوعا
وقال الشاعر
من حمد الناس ولم يبلهم ... ثم بلاهم ذم من يحمد
وصار بالوحدة مستأنساً ... يوحشه الأقرب والأبعد
وقال عمر رضي الله عنه في العزلة راحة من القرين السوء
وقيل لعبد الله بن الزبير ألا تأتي المدينة فقال ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة
وقال ابن السماك كتب صاحب لنا أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء له ففرّ منهم فرارك من الأسد
وكان بعض الأعراب يلازم شجرا ويقول هو نديم فيه ثلاث خصال إن سمع مني لم ينم علي وإن تفلت في وجهه احتمل مني وإن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد ذلك فقال زهدنى في الندماء وكان بعضهم قد لزم الدفاتر والمقابر فقيل له ذلك فقال لم أر أسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر ولا جليسا أمتع من دفتر وقال الحسن رضي الله عنه أردت الحج فسمع ثابت البناني بذلك وكان أيضا من أولياء الله فقال بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن أصحبك فقال له الحسن ويحك دعنا نتعاشر بستر الله علينا إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه
وهذه إشارة إلى فائدة أخرى في العزلة وهو بقاء الستر على الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات
وقد مدح الله سبحانه المتسترين فقال {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} وقال الشاعر
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عارا أن يزول التجمل
ولا يخلو الإنسان في دينه ودنياه وأخلاقه وأفعاله عن عورات الأولى في الدين والدنيا سترها ولا تبقى السلامة مع انكشافها
وقال أبو الدرداء كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوكاً لا ورق فيه
إذا كان هذا حكم زمانه وهو في أواخر القرن الأول فلا ينبغي أن يشك في أن الأخير شر
وقال سفيان بن عيينة قال لي سفيان الثوري في اليقظة في حياته وفي المنام بعد وفاته أقلل من معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد ولا أحسب أني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت
وقال بعضهم جئت الى مالك بن دينار وهو قاعد وحده وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته
فذهب أطرده فقال دعه يا هذا هذا لا يضر ولا يؤذي وهو خير من جليس السوء
وقيل لبعضهم ما حملك على أن تعتزل الناس قال خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر
وهذه إشارة إلى مسارقة الطبع من أخلاق القرين السوء
وقال أبو الدرداء اتقوا الله واحذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه ولا ظهر جواد إلا عقروه ولا قلب مؤمن إلا خربوه
وقال بعضهم أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك وأخف لسقوط الحقوق عنك لأنه كلما كثرت المعارف كبرت الحقوق وعسر القيام بالجميع
وقال بعضهم أنكر من تعرف ولا تتعرف الى من لا تعرف(2/234)
الفائدة الخامسة أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عن الناس
فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد فإن رضا الناس غاية لا تدرك فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات وفيها تضييع الأوقات وتعرض للآفات ثم قد تعوق عن بعضها العوائق وتستقبل فيها المعاذير ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقولون له قمت بحق فلان وقصرت في حقنا ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل من لم يعد مريضاً في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله إذا صح على تقصيره
ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم ولو خصص استوحشوا
وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل والنهار فكيف من له مهم يشغله في دين أو دنيا قال عمرو بن العاص كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء
وقال ابن الرومي
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
وقال الشافعي رحمه الله أصل كل عداوة اصطناع المعروف الى اللئام
وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضاً فائدة جزيلة فإن من نظر الى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه وانبعث بقوّة الحرص طمعه ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال فيتأذى بذلك
ومهما اعتزل لم يشاهد وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال الله تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا به أزواجاً منهم} وقال صلى الله عليه وسلم انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم (1)
وقال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموماً كنت أرى ثوباً أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت
وحكى أن المزني رحمه الله خرج من باب جامع الفسطاط وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من حسن حاله وحسن هيئته فتلا قوله تعالى {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} ثم قال بلى أصبر وأرضى وكان فقيراً مقلاً
فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن
فإن من شاهد زينة الدنيا فأما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر الى أن يتجرع مرارة الصبر وهو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك هلاكاً مؤبداً أما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له وأما في الآخرة فإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله تعالى والتقرب إليه
ولذلك قال ابن الإعرابي
إذا كان باب الذل من جانب الغنى ... سموت الى العلياء من جانب الفقر
أشار الى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً
الفائدة السادسة الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى ومقاساة حمقهم
وأخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر
قيل للأعمش مم عمشت عيناك قال من النظر الى الثقلاء
ويحكى أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال في الخبر {أن من}
_________
(1) حديث انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة(2/235)
سلب الله كريمتيه عوضه الله عنهما ما هو خير منهما (1)
فما الذي عوضك فقال في معرض المطايبة عوضني الله منهما أنه كفاني رؤية الثقلاء وأنت منهم
وقال ابن سيرين سمعت رجلاً يقول نظرت الى ثقيل مرة فغشى علي
وقال جالينوس لكل شيء حمى وحمى الروح النظر الى الثقلاء
وقال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلاً إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر
وهذه الفوائد ما سوى الأوليين متعلقة بالمقاصد الدنيوية الحاضرة ولكنها أيضاً تتعلق بالدين
فإن الإنسان مهما تأذى برؤية ثقيل لم يأمن أن يغتابه وأن يستنكر ما هو صنع الله فإذا تأذى من غيره بغيبة أو سوء ظن أو محاسدة أو نميمة أو غير ذلك لم يصبر عن مكافأته
وكل ذلك يجر الى فساد الدين وفي العزلة سلامة عن جميع ذلك فليفهم آفات العزلة
اعلم أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة
فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة وفواته من آفات العزلة
فانظر الى فوائد المخالطة والدواعي اليها ما هي وهي التعليم والتعلم والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب والاستيناس وَالْإِينَاسُ وَنَيْلُ الثَّوَابِ وَإِنَالَتُهُ فِي الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها
فلنفصل ذلك فإنها من فوائد المخالطة وهي سبع
الفائدة الأولى التعليم والتعلم
وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم وهما أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ فِي الدُّنْيَا
وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلا بالمخالطة إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة وبعضها ضروري في الدنيا
فالمحتاج إِلَى التَّعَلُّمِ لِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ عَاصٍ بالعزلة
وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الإشتغال بالعبادة فليعتزل
وإن كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّبَرُّزِ فِي عُلُومِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَالْعُزْلَةُ فِي حَقِّهِ قَبْلَ التَّعَلُّمِ غَايَةُ الْخُسْرَانِ
وَلِهَذَا قَالَ النخعي وَغَيْرُهُ تَفَقَّهْ ثُمَّ اعتزل فمن اعْتَزَلَ قَبْلَ التَّعَلُّمِ فَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ مُضَيِّعٌ أَوْقَاتَهُ بِنَوْمٍ أَوْ فِكْرٍ فِي هَوَسٍ وَغَايَتُهُ أن يستغرق الْأَوْقَاتِ بِأَوْرَادٍ يَسْتَوْعِبُهَا وَلَا يَنْفَكُّ فِي أَعْمَالِهِ بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور يخيب سعيه ويبطل عمله بحيث لا يدري ولا ينفك اعتقاده في الله وصفاته عن أوهام يتوهمها ويأنس بها وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها فيكون فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ ضُحْكَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْعُبَّادِ
فَالْعِلْمُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ فلا خير في عزلة العوام والجهال أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزم فيها
فمثال النفس مثال مريض يحتاج الى طبيب متلطف يعالجه فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه
فلا تليق العزلة إلا بالعالم وَأَمَّا التَّعْلِيمُ فَفِيهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ مَهْمَا صَحَّتْ نية المعلم والمتعلم
ومهما كان القصد إقامة الجاه والاستكثار بالأصحاب والأتباع فهو هلاك الدين
وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم
وحكم في العالم في هذا الزمان إن يعتزل إن أراد سلامة دينه
فإنه لا يرى مستفيداً يطلب فائدة لدينه بل لا طالب إلا لكلام مزخرف يستميل به العوام في معرض الوعظ أو الجدل معقد يتوصل به الى إفحام الأقران ويتقرب به الى السلطان ويستعمل في معرض المنافسة والمباهاة وأقرب علم مرغوب فيه المذهب ولا يطلب غالباً إلا للتوصل الى التقدم على الأمثال وتولي الولايات واجتلاب الأموال
فهؤلاء كلهم يقتضي الدين والحزم الإعتزال عنهم
_________
(1) حديث من سلب الله كريمتيه عوضه عنهما ما هو خير منهما أخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث جرير من سلبت كريمتيه عوضته عنهما الجنة وله ولأحمد نحوه من حديث أبي أمامة بسند حسن وللبخاري من حديث أنس يقول الله تبارك وتعالى إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه(2/236)
فإن صودف طالب لله ومتقرب بالعلم الى الله فأكبر الكبائر الإعتزال عنه وكتمان العلم منه وهذا لا يصادف في بلدة كبيرة أكثر من واحد أو اثنين إن صودف
ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله فإن الفقهاء يتعلمون لغير الله ثم يرجعون الى الله
وانظر الى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها أو راغبون عنها وزاهدون فيها وليس الخبر كالمعاينة
واعلم أن العلم الذي أشار اليه سفيان هو علم الحديث وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء والصحابة فإن فيها التخويف والتحذير وهو سبب لإثارة الخوف من الله فإن لم يؤثر في الحال أثر في المآل
وأما الكلام والفقه المجرّد الذي يتعلق بفتاوى المعاملات وفصل الخصومات المذهب منه والخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا الى الله بل لا يزال متمادياً في حرصه الى آخر عمره
ولعل ما أودعناه هذا الكتاب إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا فيجوز أن يرخص فيه إذ يرجى أن ينزجر به في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف بالله والترغيب في الآخرة والتحذير من الدنيا وذلك مما يصادف في الأحاديث وتفسير القرآن ولا يصادف في كلام ولا في خلاف ولا في مذهب
فلا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه فإن المقصر العالم بتقصيره أسعد حالاً من الجاهل المغرور أو المتجاهل المغبون وكل عالم اشتد حرصه على التعليم يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه وحظه تلذذ النفس في الحال باستشعار الإدلال على الجهال والتكبر عليهم فآفة العلم الخيلاء (1)
كما قال صلى الله عليه وسلم
ولذلك حكي عن بشر أنه دفن سبعة عشر قمطراّ من كتب الأحاديث التي سمعها وكان لا يحدث ويقول أني أشتهي أن أحدث فلذلك لا أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت ولذلك قال حدثنا باب من أبواب الدنيا وإذا قال الرجل حدثنا فإنما يقول أوسعوا لي
وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا قال وفيماذا رغبت قالت في الحديث
ولذلك قال أبو سليمان الداراني من تزوج أو طلب الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن إلى الدنيا
فهذه آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم والحزم الاحتراز بالعزلة وترك الاستكثار من الأصحاب ما أمكن بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه فالصواب له إن كان غافلاً في مثل هذا الزمان أن يتركه
فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال إخوان العلانية أعداء السر إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك من أتاك منهم كان عليك رقيباً وإذا خرج كان عليك خطيباً أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل الجاه والمال وأن يتخذوك سلماً الى أوطارهم وأغراضهم وحمارا في حاجاتهم إن قصرت في غرض من أغراضهم كانوا أشد أعدائك ثم يعدون ترددهم إليك دالة عليك ويرونه حقاً واجباً لديك ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لهم سفيهاً وقد كنت فقيهاً وتكون لهم تابعاً خسيساً بعد أن كنت متبوعاً رئيساً
ولذلك قيل اعتزال العامة مروءة تامة
فهذا معنى كلامه وإن خالف بعض ألفاظه وهو حق وصدق
فإنك ترى المدرسين في رق دائم وتحت حق لازم ومنة ثقيلة ممن يتردد اليهم فكأنه يهدي تحفة اليهم ويرى حقه واجباً عليهم
وربما لا يختلف اليه ما لم يتكفل برزق له على الإدرار
ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله فلا يزال متردداً الى أبواب السلاطين ويقاسي الذل والشدائد مقاساة الذليل
_________
(1) حديث آفة العلم الخيلاء المعروف ما رواه مطين في مسنده من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف آفة العلم النسيان وآفة الحمال الخيلاء(2/237)
المهين حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام ثم لا يزال العامل يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله الى أن يسلم إليه ما يقدره نعمة مستأنفة من عنده عليه ثم يبقى في مقاساة القسمة على أصحابه إن سوّى بينهم مقته المميزون ونسبوه الى الحمق وقلة التمييز والقصور عن درك مصارفات الفضل والقيام بمقادير الحقوق بالعدل وإن فاوت بينهم سلقه السفهاء بألسن حداد وثاروا عليه ثوران الأساود والآساد فلا يزال في مقاساتهم في الدنيا وفي مطالبة ما يأخذه ويفرقه عليهم في العقبى
والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل ويدليها بحبل الغرور ويقول لها لا تفتري عن صنيعك فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه الله تعالى ومذيعة شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشرة علم دين الله وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد الله وأموال السلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم فبهم يظهر الدين ويتقوى أهله
ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم
ولذلك قيل ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء
فنعوذ بالله من الغرور والعمى فإنه الداء الذي ليس له دواء
الفائدة الثانية النفع والإنتفاع
أما الإنتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة
وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة والمحتاج إليه مضطر الى ترك العزلة فيقع في جهاد من المخالطة أن طلب موافقة الشرع فيه كما ذكرناه في كتاب الكسب فإن كان معه مال لو اكتفى به قانعاً لأقنعه فالعزلة أفضل له إذا انسدت طرق المكاسب في الأكثر إلى من المعاصي إلا أن يكون غرضه الكسب للصدقة
فإذا اكتسب من وجهه وتصدق به فهو أفضل من العزلة للاشتغال بالنافلة وليس بأفضل من العزلة للاشتغال بالتحقق في معرفة الله ومعرفة علوم الشرع ولا من الإقبال بكنه الهمة على الله تعالى والتجرد بها لذكر الله أعني من حصل له أنس بمناجاة الله عن كشف وبصيرة لا عن أوهام وخيالات فاسدة
وَأَمَّا النَّفْعُ فَهُوَ أَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ إِمَّا بِمَالِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ فَيَقُومُ بِحَاجَاتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحِسْبَةِ
فَفِي النُّهُوضِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ثَوَابٌ وَذَلِكَ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ
وَمَنْ قَدَرَ عليها مع القيام بحدود الشرع فهي أفضل له من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر فذلك لا يعدل به غيره ألبتة
الفائدة الثالثة التأديب وَالتَّأَدُّبِ
وَنَعْنِي بِهِ الِارْتِيَاضَ بِمُقَاسَاةِ النَّاسِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي تَحَمُّلِ أَذَاهُمْ كَسْرًا لِلنَّفْسِ وَقَهْرًا لِلشَّهَوَاتِ
وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه ولم تذعن لحدود الشرع شهواته ولهذا انتدب خدام الصوفية في الرباطات فيخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كبرا لرعونة النفس واستمدادا من بركة دعاء الصوفية المنصرفين بهممهم الى الله سبحانه
وكان هذا هو المبدأ في الأعصار الخالية والآن قد خالطته الأغراض الفاسدة ومال ذلك عن القانون كما مالت سائر شعائر الدين فصار يطلب من التواضع بالخدمة التكثير بالاستتباع والتذرّع الى جمع المال والاستظهار بكثرة الأتباع فإن كانت النية هذه فالعزلة خير من ذلك ولو الى القبر وإن كانت النية رياضة النفس فهي خير من العزلة في حق المحتاج الى الرياضة وذلك مما يحتاج إليه في بداية الإرادة فبعد حصول الارتياض ينبغي أن يفهم أن الدابة لا يطلب من رياضتها عين رياضتها بل المراد منها أن تتخذ(2/238)
مركباً يقطع به المراحل ويطوى على ظهره الطريق والبدن مطية للقلب يركبها ليسلك بها طريق الآخرة وفيها شهوات إن لم يكسرها جمحت به في الطريق فمن اشتغل طول العمر بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمر الدابة برياضتها ولم يركبها فلا يستفيد منها إلا الخلاص في الحال في عضها ورفسها ورمحها وهي لعمري فائدة مقصودة ولكن مثلها حاصل في البهيمة الميتة وإنما ترد الدابة لفائدة تحصل من حياتها فكذلك الخلاص من ألم الشهوات في الحال يحصل بالنوم والموت ولا ينبغي أن يقنع به كالراهب الذي قيل له يا راهب فقال ما أنا راهب إنما أنا كلب عقور حبست نفسي حتى لا أعقر الناس وهذا حسن بالإضافة الى من يعقر الناس ولكن لا ينبغي أن يقتصر عليه فإن من قتل نفسه أيضاً لم يعقر الناس بل ينبغي أن يتشوف إلى الغاية المقصودة بها
ومن فهم ذلك واهتدى الى الطريق وقدر على السلوك استبان له أن العزلة أعون له من المخالطة
فأفضل لمثل هذا الشخص المخالطة أولاً والعزلة آخراً
وأما التأديب فإنما نعني به أن يروض غيره وهو حال شيخ الصوفية معهم فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم وحاله حال المعلم وحكمه ويتطرق اليه من دقائق الآفات والرياء ما يتطرّق الى نشر العلم إلا أن مخايل طلب الدنيا من المريدين الطالبين للارتياض أبعد منها من طلبه العلم ولذلك يرى فيهم قلة وفي طلبة العلم كثرة
فينبغي أن يقيس ما تيسر له من الخلوة بما تيسر له من المخالطة وتهذيب القوم وليقابل أحدهما بالآخر وليؤثر الأفضل وذلك يدرك بدقيق الاجتهاد ويختلف بالأحوال والأشخاص فلا يمكن الحكم عليه مطلقاً بنفي ولا إثبات
الفائدة الرابعة الاستئناس والإيناس
وهو غرض من يحضر الولائم والدعوات ومواضع المعاشرة والأنس وهذا يرجع الى حظ النفس في الحال
وقد يكون ذلك على وجه حرام بمؤانسة من لا تجوز مؤانسته أو على وجه مباح
وقد يستحب ذلك الأمر الدين وذلك فيمن تستأنس بمشاهدة أحواله وأقواله في الدين كالأنس بالمشايخ الملازمين لسمت التقوى
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِحَظِّ النَّفْسِ وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَرْوِيحَ الْقَلْبِ لِتَهْيِيجِ دَوَاعِي النَّشَاطِ في العبادة فإن القلوب إذا أكرهت عميت ومهما كان في الوحدة وحشة وفي المجالسة أنس يروح القلب فهي أولى إذ الوفق في العبادة من حزم العبادة ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لا يمل حتى تملوا (1)
وهذا أمر لا يستغنى عنه فإن النفس لَا تَأْلَفُ الْحَقَّ عَلَى الدَّوَامِ مَا لَمْ تروّح وفي تكليفها الملازمة داعية للفترة وهذا عني بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق والإيغال فيه برفق دأب المستبصرين ولذلك قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْلَا مَخَافَةُ الْوَسْوَاسِ لَمْ أجالس الناس وقال مرة لدخلت بلادا لا أنيس بها وهل يفسد الناس إلا الناس فلا يستغني المعتزل إذا عَنْ رَفِيقٍ يَسْتَأْنِسُ بِمُشَاهَدَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَاعَةً فَلْيَجْتَهِدْ فِي طَلَبِ مَنْ لَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ فِي سَاعَتِهِ تِلْكَ سَائِرَ سَاعَاتِهِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ (2)
وَلْيَحْرِصْ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق والاهتداء الى الرشد ففي ذلك متنفس ومتروّح للنفس فيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعماراً طويلة والراضي عن نفسه مغرور قطعا
فهذا النوع من الاستئناس في بعض أوقات النهار ربما يكون أفضل من العزلة في حق بعض الأشخاص
_________
(1) حديث إن الله لا يمل حتى تملوا تقدم
(2) حديث المرء على دين خليله تقدم في آداب الصحبة(2/239)
فليتفقد فيه أحوال القلب وأحوال الجليس أوّلاً ثم ليجالس
الفائدة الخامسة في نيل الثواب وإنالته
أما النيل فبحضور الجنائز وعيادة المريض وحضور العيدين وأما حضور الجمعة فلا بد منه
وَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَيْضًا لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ إِلَّا لِخَوْفِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ يُقَاوِمُ مَا يَفُوتُ مِنْ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا نَادِرًا
وَكَذَلِكَ فِي حُضُورِ الْإِمْلَاكَاتِ وَالدَّعَوَاتِ ثَوَابٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ
وَأَمَّا إنالته فهو أن يفتح الباب لتعوده الناس أو ليعزوه في المصائب أو يهنوه على النعم فإنهم ينالون بذلك ثواباً وكذلك إذا كان من العلماء وإذن لهم في الزيارة نالوا ثواب الزيارة وكان هو بالتمكين سبباً فيه فَيَنْبَغِي أَنَّ يَزِنَ ثَوَابَ هَذِهِ الْمُخَالَطَاتِ بِآفَاتِهَا الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ تُرَجَّحُ الْعُزْلَةُ وقد ترجح المخالطة
فقد حكي عن جماعة من السلف مثل مالك وغيره ترك إجابة الدعوات وعيادة المرضى وحضور الجنائز بل كانوا أحلاس بيوتهم لا يخرجون إلا الى الجمعة أو زيارة القبور وبعضهم فارق الأمصار وانحاز الى قلل الجبال تفرغاً للعبادة وفراراً من الشواغل
الفائدة السادسة من المخالطة التَّوَاضُعُ فَإِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَقَامَاتِ وَلَا
يُقْدَرُ عَلَيْهِ فِي الْوَحْدَةِ وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ سَبَبًا في اختيار العزلة
فقد روي في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند الله منزلة فأوحى الله الى نبيه قل لفلان إنك قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً قال فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال الآن قد بلغت رضا ربي فأوحى اللًه الى نبيه قل له إنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم فخرج فدخل الأسواق وخالط الناس وجالسهم وواكلهم وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم فأوحى الله تعالى إلى نبيه الآن قد بلغ رضاي
فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر ومانعه عن المحافل أن لا يوقر أَوْ لَا يُقَدَّمَ أَوْ يَرَى التَّرَفُّعَ عَنْ مخالطتهم أرفع لمحله وأتقى لطراوة ذكره بين الناس وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خالط فلا يعتقد فيه الزهد والإشتغال بالعبادة فيتخذ البيت ستراً على مقابحه إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده من غير استغراق وقت الخلوة بذكر أو فكر وَعَلَامَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُزَارُوا وَلَا يحبون أن يزوروا ويفرحون بتقرب العوام والسلاطين إليهم واجتماعهم على بابهم وطرقهم وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك وَلَوْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُبَغِّضُ إِلَيْهِ الْمُخَالَطَةَ وَزِيَارَةَ النَّاسِ لَبُغِّضَ إِلَيْهِ زِيَارَاتُهُمْ له كما حكيناه عن الفضيل حيث قال وهل جئتني إلا لأتزين لك وتتزين لي
وعن حاتم الأصم أنه قال للأمير الذي زاره حاجتي أن لا أراك ولا تراني
فمن ليس مشغولاً مع نفسه بذكر الله فاعتزاله عن الناس سَبَبُهُ شِدَّةُ اشْتِغَالِهِ بِالنَّاسِ لِأَنَّ قَلْبَهُ مُتَجَرِّدٌ لِلِالْتِفَاتِ إِلَى نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالِاحْتِرَامِ
والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه أحدها أن التواضع والمخالطة لا تنقص من مَنْصِبِ مَنْ هُوَ مُتَكَبِّرٌ بِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ إذ كان علي رضي الله عنه يحمل التمر والملح في ثوبه ويده ويقول
لا ينقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع إلى عياله
وكان أبو هريرة وحذيفة وأبي وابن مسعود رضي الله عنهم يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم(2/240)
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وهو والي المدينة والحطب على رأسه طرقوا لأميركم
وكان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يشتري الشيء فيحمله الى بيته بنفسه فيقول له صاحبه أعطني أحمله فيقول صاحب الشيء أحق بحمله (1)
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يمر بالسؤال وبين أيديهم كسر فيقولون هلم إلى الغداء يا ابن رسول الله فكان ينزل ويجلس على الطريق ويأكل معهم ويركب ويقول إن الله لا يحب المستكبرين الوجه الثاني أن الذي شغل نفسه بطلب رضا النَّاسِ عَنْهُ وَتَحْسِينِ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ مَغْرُورٌ لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ اللَّهَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وأن ضرره ونفعه بيد الله ولا نافع ولا ضار سواه وأن من طلب رضا الناس ومحبتهم بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس بل رضا الناس غاية لا تنال فرضا اللَّهِ أَوْلَى بِالطَّلَبِ
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ليونس بن عبد الأعلى وَاللَّهِ مَا أَقُولُ لَكَ إِلَّا نُصْحًا إِنَّهُ لَيْسَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّاسِ مِنْ سَبِيلٍ فَانْظُرْ مَاذَا يُصْلِحُكَ فَافْعَلْهُ ولذلك قيل
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
ونظر سهل الى رجل من أصحابه فقال له اعمل كذا وكذا لشيء أمره به فقال يا أستاذ لا أقدر عليه لأجل الناس فالتفت إلى أصحابه وقال لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين عبد تسقط الناس من عينه فلا يرى في الدنيا إلا خالقه وأن أحداً لا يقدر على أن يضره ولا ينفعه
وعبد سقطت نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه
وقال الشافعي رحمه الله ليس من أحد إلا وله محب ومبغض فإذا كان هكذا فكن مع أهل طاعة الله وقيل للحسن يا أبا سعيد إن قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم إلا تتبع سقطات كلامك وتعنيتك بالسؤال فتبسم وقال للقائل هوّن على نفسك فإني حدثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت وما حدثت نفسي بالسلامة من الناس لأني قد علمت أن خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم
وقال موسى عليه السلام يا رب احبس عني ألسنة الناس فقال يا موسى هذا شيء لم اصطفه نفسي فكيف أفعله بك وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى عزير إن لم تطب نفساً بأني اجعلك علكاً في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين
فإذن من حبس نفسه في البيت ليحسن اعتقادات الناس وأقوالهم فِيهِ فَهُوَ فِي عَنَاءٍ حَاضِرٍ فِي الدُّنْيَا {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} فإذن لا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات بربه ذكراً وفكراً وعبادة وعلماً بحيث لو خالطه الناس لضاعت أوقاته وكثرت آفاته ولتشوشت عليه عباداته
فهذه غوائل خفية في اختيار العزلة ينبغي أن تتقي فإنها مهلكات في صور منجيات
الفائدة السابعة التَّجَارِبُ
فَإِنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ لِلْخَلْقِ وَمَجَارِي أَحْوَالِهِمْ
وَالْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ لَيْسَ كَافِيًا فِي تَفَهُّمِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا
وَإِنَّمَا تُفِيدُهَا التَّجْرِبَةُ وَالْمُمَارَسَةُ وَلَا خَيْرَ فِي عُزْلَةِ مَنْ لَمْ تُحَنِّكْهُ التَّجَارِبُ فَالصَّبِيُّ إِذَا اعْتَزَلَ بَقِيَ غُمْرًا جَاهِلًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّعَلُّمِ وَيَحْصُلَ لَهُ فِي مُدَّةِ التَّعَلُّمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ التجارب ويكفيه ذلك ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال ولا يحتاج الى المخالطة
ومن أهم التجارب أن يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة فإن كل مجرب في الخلاء يسر وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم يترشح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها
فمثال القلب المشحون
_________
(1) حديث كان يشتري الشيء ويحمله الى بيته بنفسه فيقول له صاحبه أعطني أحمله فيقول صاحب المتاع أحق بحمله أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة بسند ضعيف في حمله السراويل الذي اشتراه(2/241)
بهذه الخبائث مثال دمل ممتلىء بالصديد والمدة وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه وأعتقد فقده ولكن لو حركة محرك أو إصابة مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشيء المختنق إذا حبس عن الإسترسال فكذلك القلب المشحون بالحقد والبخل والحسد والغضب وسائر الأخلاق الذميمة إنما تتفجر منه خبائثه إذا حرك
وعن هذا كان السالكون لطريق الآخرة الطالبون لتزكية القلوب يجربون أنفسهم
فمن كان يستشعر في نفسه كبراً سعى في إماطته حتى كان بعضهم يحمل قربة ماء على ظهره بين الناس أو حزمة حطب على رأسه ويتردد في الأسواق ليجرب نفسه بذلك فإن غوائل النفس ومكايد الشيطان خفية قل من يتفطن لها ولذلك حكي عن بعضهم أنه قال اعدت صلاة ثلاثين سنة مع أني كنت أصليها في الصف الأول ولكن تخلفت يوماً بعذر فما وجدت موضعاً في الصف الأول فوقفت في الصف الثاني فوجدت نفسي تستشعر خجلة من نظر الناس إلي وقد سبقت الى الصف الأول فعلمت أن جميع صلواتي التي كنت أصليها كانت مشوبة بالرياء ممزوجة بلذة نظر الناس إلي ورؤيتهم إياي في زمرة السابقين الى الخير
فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإظهارها
ولذلك قيل السفر يسفر عن الأخلاق فإنه نوع من المخالطة الدائمة
وستأتي غوائل هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات فإن بالجهل بها يحبط العمل الكثير وبالعلم بها يَزْكُو الْعَمَلُ الْقَلِيلُ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا فُضِّلَ العلم على العمل إذ يستحيل أن يكون العلم بالصلاة ولا يراد للصلاة إلا أفضل من الصلاة فإنا نعلم أن ما يراد لغيره فإن ذلك الغير أشرف منه وَقَدْ قَضَى الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ من أصحابي (1)
فمعنى تفضيل العلم يرجع إلى ثلاثة أوجه
أحدها ما ذكرناه
والثاني عموم النفع لتعدى فائدته والعمل لا تتعدى فائدته
والثالث أن يراد به العلم بالله وصفاته وأفعاله فذلك أفضل من كل عمل بل مقصود الأعمال صرف القلوب عن الخلق الى الخالق لتنبعث بعد الإنصراف اليه لمعرفته ومحبته فالعمل وعلم العمل مرادان لهذا العلم وهذا العلم غاية المريدين والعمل كالشرط له وإليه الإشارة بقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} فالكلم الطيب هو هذا العلم والعمل كالحمال الرافع له الى مقصده فيكون المرفوع أفضل من الرافع
وهذا كلام معترض لا يليق بهذا الكلام
فلنرجع الى المقصود فنقول إذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ بل ينبغي أن ينظر الى الشخص وحاله والى الخليط وحاله والى الباعث على مخالطته والى الفائت بسبب مخالطته من هذه الفوائد المذكورة ويقاس الفائت بالحاصل فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل وكلام الشافعي رحمه الله هو فصل الخطاب إذ قال يا يونس الإنقباض عن الناس مكسبة للعداوة والإنبساط اليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط
فلذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة ويختلف ذلك بالأحوال
وبملاحظة الفوائد والآفات يتبين الأفضل
هذا هو الحق الصراح وكل ما ذكر سوى هذا فهو قاصر
وإنما هو إخبار كل واحد عن حالة خاصة هو فيها ولا يجوز أن يحكم بها على غيره والمخالف له في الحال
والفرق بين العالم والصوفي في ظاهر العلم يرجع الى هذا وهو أن الصوفي لا يتكلم إلا عن حاله فلا جرم تختلف اجوبتهم في المسائل والعالم هو الذي يدرك الحق على ما هو عليه ولا ينظر الى حال نفسه فيكشف الحق فيه وذلك مما لا يختلف فيه فإن الحق واحد أبداوالقاصر عن الحق كثير لا يحصى
ولذلك سئل الصوفية عن الفقر فما من واحد إلا وأجاب بجواب غير جواب الآخر وكل ذلك حق
_________
(1) حديث فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رجل من أصحابي تقدم في العلم(2/242)
بالإضافة إلى حاله وليس بحق في نفسه إذ الحق لا يكون إلا واحداً
ولذلك قال أبو عبد الله الجلاء وقد سئل عن الفقر فقال اضرب بكميك الحائط وقل ربى الله فهو الفقر
وقال الجنيد الفقير هو الذي لا يسأل احدا ولا يعارض وإن عورض سكت
وقال سهل بن عبد الله الفقير الذي لا يسأل ولا يدخر
وقال آخر هو أن لا يكون لك فإن كان لك فلا يكون لك من حيث لم يكن لك
وقال إبراهيم الخواص هو ترك الشكوى وإظهار أثر البلوى
والمقصود أنه لو سئل منهم مائة لسمع منهم مائة جواب مختلفة قلما يتفق منها اثنان وذلك كله حق من وجه فإنه خبر كل واحد عن حاله وما غلب على قلبه
ولذلك لا نرى اثنين منهم يثبت أحدهما لصاحبه قدما في التصوف أو يثنى عليه بل كل واحد منهم يدعى أنه الواصل إلى الحق والواقف عليه لأن أكثر ترددهم على مقتضى 2 الأحوال التي تعرض لقلوبهم فلا يشتغلون إلا بأنفسهم ولا يلتفتون إلى غيرهم
ونور العلم إذا أشرق أحاط بالكل وكشف الغطاء ورفع الاختلاف
ومثال نظر هؤلاء ما رأيت من نظر قوم في أدلة الزوال بالنظر في الظل فقال بعضهم هو في الصيف قدمان وحكى عن آخر أنه نصف قدم وآخر يرد عليه وأنه في الشتاء سبعة أقدام وحكى عن آخر أنه خمسة أقدام وآخر يرد عليه فهذا يشبه أجوبة الصوفية واختلافهم فإن كل واحد من هؤلاء أخبر عن الظل الذي رآه ببلد نفسه فصدق في قوله وأخطأ في تخطئته صاحبه إذ ظن أن العالم كله بلده أو هو مثل بلده كما أن الصوفي لا يحكم على العالم إلا بما هو حال نفسه والعالم بالزوال هو الذي يعرف علة طول الظل وقصره وعلة اختلافه بالبلاد فيخبر بأحكام مختلفة في بلاد مختلفة ويقول في بعضها لا يبقى ظل وفي بعضها يطول وفي بعضها يقصر فهذا ما أردنا أن نذكره من فضيلة العزلة والمخالطة
فإن قلت فمن آثر العزلة ورآها أفضل له وأسلم فما آدابه في العزلة فنقول إنما يطول النظر في آداب المخالطة وقد ذكرناها في
كتاب آداب الصحبة وأما آداب العزلة فلا تطول فينبغي للمعتزل أن
ينوي بعزلته كف شر نفسه عن الناس أولا
ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا
ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا
ثم التجرد بكنه الهمة لعبادة الله رابعا فهذه آداب نيته
ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل والذكر والفكر ليجتني ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته فيشوش أكثر وقته
وليكف عن السؤال عن أخبارهم وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة أو الفكر من حيث لا يحتسب فوقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض فلا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه ويتداعى بعضها إلى بعض
وأحد مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله
والأخبار ينابيع الوساوس وأصولها
وليقنع باليسير من المعيشة وإلا اضطره التوسع إلى الناس واحتاج إلى مخالطتهم
وليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران وليسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقال فيه من ثناء عليه بالعزلة أو قدح فيه بترك الخلطة فإن كل ذلك يؤثر في القلب ولو مدة يسيرة وحال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره إلى طريق الآخرة فإن السير إما بالمواظبة على ورد وذكر مع حضور قلب وإما بالفكر في جلال الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأرضه وإما بالتأمل في دقائق الأعمال ومفسدات القلوب وطلب طرق التحصن منها
وكل ذلك يستدعي الفراغ والإصغاء إلى جميع ذلك مما يشوش القلب في الحال
وقد يتجدد ذكره في دوام الذكر من حيث لا ينتظر
وليكن له أهل صالحة أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه في اليوم ساعة من كد المواظبة ففيه عون على بقية الساعات
ولا يتم له الصبر في العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا(2/243)