الصراع ضدّ أديان الكفر
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
(سورة الأنبياء: 18)
تأليف: هارون يحيى
المحتويات
المقدمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أديان الكفر: المادّية والدّاروينيّة
أديان مزيّفة صنعتها المادّية
قادة الكفر الذين يدعون النّاس إلى النّار
لا يمكن لأمة أن تعيش بلا دين
وسائل الصراع مع أديان الكفر
الحقيقة التي تهزم أديان الكفر
الخاتمة
المقدّمة
من الوهلة الأولى، يمكن أن تتساءل عند قراءة هذا العنوان "أديان الكفر"، فعادة ما ترافق كلمة "الدين" الوحيَ الإلهيَّ، وهذا ما يدركه الكثيرون. وهناك أيضا أديان أخرى "باطلة" مثل البوذية والهندوسية. ولذا يقترح استخدام كلمة "الكفر" كمفهوم يرفض الدّين تماماً وينكر وجود الله.
فهناك اليوم في أماكن كثيرة من العالم أنظمة معتقدات يتمسك بها الناس بشدّه مثل تمسكهم بالدين، ولكن لا يقال لها أديان.. وفي هذا الكتاب، يشار إلى تلك المذاهب بـ"أديان الكفر" مثل المادية، والشيوعية، والداروينية (التي تعتبر الأساس العلمي المزعوم لهذه المذاهب)، ويشار إلى الكثير من الأنظمة الأخرى التي أساسها عدم االإيمان بالله. ويرجع ذلك ببساطة إلى ظهور وانتشار تلك المذاهب عبر الزمن حتى أصبحت أديانا في ذاتها، لديها نظم كاملة من الاعتقادات والممارسات. فجميعها لديها القادة المفكرون الخاصون بها، كما أن لديها الكتب غير القابلة للتعديل التي يحفظها أتباعها عن ظهر قلب. وتنتشر الديانات الباطلة بسرعة شديدة وتجذب العديد من الموالين لها والعاملين على سيادة "أديان الكفر"، وجعلها دوماً تعارض دين الإسلام دين الحق والعدل، وهي تشد أيضا العاملين على طبع ونشر العديد من الكتب والمقالات التي تنشر الدعاية لصالح هذه الأديان والتي هي من صنع الإنسان.(1/1)
ويعتبر القرآن هو أحد العوائق الكبرى التي تواجه أنصار أديان الكفر، فالقرآن هو المرشد الوحيد حاليا للطريق المستقيم الموحى به من عند الله تعالى. كما يصف القرآن الكريم بالتفصيل الثواب الذي سيناله من يجاهد ضد أديان الكفر، وعهد للمؤمنين بهذه المسؤولية الجليلة. وفي وقتنا الحاضر هناك حاجة كبيرة لأشخاص مخلصين يتولون الكشف عن "أديان الكفر" وبيان بطلانها ويبذلون الجهود الجادة لتحقيق هذا الغرض.
فخلال القرن العشرين وحتى يومنا هذا، ولعلها المرة الأولى عبرالتاريخ، انتشرت "أديان الكفر" انتشاراً كبيرًا. ويذكر لنا القرآن الكريم طبيعة أصحاب تلك الأديان الباطلة بقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (الكهف: 56)، ولذلك، وخاصة في عصرنا هذا، نجد أنه من الضروري المشاركة في هذا الجهاد الكبير الذي ذُكر في القرآن الكريم وإبطال جميع مذاهب الكفر عن طريق الفكر.
ويذكر الله سبحانه وتعالى عباده الذين يحملون على عاتقهم هذا الواجب الشريف بأمور مهمّة للغاية:
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18)
و بناء عليه، فنحن نهدف للحد من الباطل بعرض الحقائق ألاساسية عن الماده ونظرية التطورالداروينية والتي ستجدها في الجزء الختامي لهذا الكتاب.
أديان الكفر: المادّية و الداروينية(1/2)
وجدت المادية منذ الأزل، وهي مذهب يعتبر أنّ الحقيقة الوحيدة المجردة هي المادة. ووفقاً لهذا الاعتقاد الباطل، فالمادة وجدت منذُ زمن سحيق مطلق وسوف تستمر إلى الأبد. كما أن أهم مظاهر المادية رفضها لوجود الخالق ورفضها لوجود المعتقدات الدينية الأخرى. وهناك العديد من الحركات والمذاهب الفكرية في العالم تتخذ الكفر أساساً لفكرها، وتعتبرالمادية هي البنية الرئيسية للكثير من هذه الاتجاهات. غير أن المادية تعتبر هي الأساس الذي قام عليه العدد الأكبر من هذه المذاهب.
فمنذ عهد السومريين والأغريق القدماء، تغلغل الاعتقاد المادي لدى الإنسان. ولكنه لم يتمكن هذا الاعتقاد الوهمي من وضع نظامه الفكري المحكم إلا في القرن التاسع عشر. وبينما كان هذا الاتجاه الفكري المادي في محاولة لجمع قواه، كان لا يزال هناك أمر واحد يعوقه وهو إيجاد الإجابة على السؤال "كيف وجد العالم، وكيف وجدت الكائنات الحية ؟ ".
وجاء ذلك خلال القرن نفسه الذي ظهرت فيه نظرية التطور التي قدمها شارلز دارون والتي قدمت الإجابة، (وهي إجابة ليس لها أية صحة علمية في واقع الأمر)، ولكنها ما طال البحث عنها من قبل الماديين. وطبقا لهذه النظرية التي لا أصل من العالم، فإنّ المواد غير الحية، ونتيجة لقوى عشوائية متزامنة، تقابل بعضها مع بعض وكوّنت أول خلية. وبالتالي، وطبقاً لنظرية دارون هذه، فإنّ جميع الكائنات الحية على الأرض تدين بالشّكر لنشوء تلك الخلية الحية الأولى.
وسرعان ما أصبح دارون، عن طريق هذه الادعاءات أكبر مزيّف في تاريخ العلم. ولقد اعترف بنفسه أنّ نظريته ماهي إلا فكر خاطئ لا يرتكز على ذرة من النتائج العلمية. كما اعترف دارون بالفعل في كتابه "أصل الأنواع"The origin of Species) ) أن نظرية التّطور تعجز أمام العديد من التساؤلات المحيرة.(1/3)
ولكنه لازال يتوقع إمكانية التغلب على هذه الصّعاب بواسطة التقدم العلمي، ويأمل أن تكون النتائج العلمية الحديثة دعمة لنظريته. وكان دوماً يذكر ذلك في كتابه. ولكن على على نقيض ما كان يأمل دارون تحقيقه، فلقد جاء التقدم العلمي ليبرهن على عكس الافتراضات الجوهرية لنظريته، الواحده تلو الأخرى. وفي الواقع، ورغم الدعاية التي جاءت من قبل مؤيدي نظرية التطور، فلقد صرح مايكل دانتون، وهو عالم بيولوجي أسترالي، أن نظرية التطور " هي نظرية في أزمة" على حد قوله.
وعلى مدى القرن التاسع عشر، كانت الحقائق العلمية المطروحة من قبل نظرية التطور غير معروفة على الإطلاق لدى الأوساط العلمية. وفي ذات الوقت، كان الماديون الذين يبحثون عن دعم علمي لمذهبهم يعتبرون أن النظرية التي طرحها شارلز دارون فرصة ليس لها مثيل باعتبارها تقوم على نكران وجود الخالق، ففي ذلك الوقت كان التأكيد على فكرة أن الإنسان يتطورمن مواد غير حية عن طريق المصادفة البحتة هو تماماً ما يرغب المادّيون في سماعه.
وأما البروفيسور فليب جونسون، الأستاذ بجامعة شيكاغو، وهو رجل مشهور وله ثقله في الدوائر الأكاديمية لكثرة كتبه ومقالاته التي كتبها عن نظرية التطور، فهو يوضح ما تمثله هذه النظرية من أهمية بالنسبة إلى الأنظمة الفكرية التي تنكر الدين:
"... يكمن نجاح النظرية الداروينية في رفض الوجود الإلهي وتهيئة المجال لإستبدال الدّين المقدس باعتقاد جديد يعتمد على المذهب الطبيعي النشوئي، وهذا الاعتقاد الجديد لن يكون أساساً للعلم فحسب بل أساساً أيضاً للحكومات، والقوانين والأخلاق. وبذلك يكون قد تم صياغة الفلسفة الدّينية العصرية(1) ".(1/4)
وتبين كلمات فليب جونسون الهدف الحقيقي لداعمي فلسفة الكفر. فهؤلاء الماديون الذين عملوا على تشكيل مجتمع لاديني يرفض الوجود الإلهي وتعاليمه، ادعوا أنه لا وجود لخالق يشعر إزاءه الكائن البشري بأية مسؤولية. ولقد أشبع هذا الفكر المضلل رغباتهم بحيث يمكنهم بذلك أن يصنعوا أشكالا من الناس غير مشؤول إزاء أي أحد. ويلخص أحد علمائهم طموحاتهم كما يلي:
"إن الإنسان هو الكائن الوحيد في هذا العالم الذي يملك الإرادة والقدرة، ولكنه نتاج لمادة غير واعية وغير عاقلة. وهذا الإنسان الذي نجح بمفرده في القدوم إلى هذا العالم لن يكون مسؤولا سوى عن نفسه فقط"(1)
ويمكن لكل شخص يتمتع بالعقل الراجح والتفكير السليم أن يدرك، دون صعوبة أن هذه الدلائل المذكورة فارغة ولا قيمة لها. فكاتب هذه العبارات، وبالرغم من كونه عالما له نظرية مادية في الحياة، يعتقد أن الفضل في وجود الإنسان هو الغنسان ذاته، لكن من الواضح أن هذا الإنسان لا يستطيع في أية مرحلة من هذه المراحل أن يمارس سلطته أو قدرته في صنع القرار. فالله سبحانه وتعالى، هو الذي خلق الإنسان على الأرض في أحسن صورة. ولكن رغبة المادّيين في أن يكونوا "غير مسئولين تجاه خالق" جعلتهم يزعمون أن المادة، غير المدركة وغير العاقلة يمكن أن توجد كائنات مدركة وذكيّة.
وينبغي أن نتذكر أنّ رغبة الكافرين في التحرّر من المسئولية ليست خاصة فقط بأنصار المادية وأتباع نظرية التطوّر في القرن التاسع عشر والعشرين ، فلقد أخبرنا الله عز وجلّ في القرآن الكريم عن أناس سابقين كان لديهم التفكير نفسه: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (سورة القيامة: 36- 40)(1/5)
وكما تشير الآية، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من منيّ واحد ثم "سواه فعدّله". فلا توجد أية وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يكتسب سلطة على خلقه، إذ هو نفسه مخلوق. ورغم أن الله سبحانه وتعالى بين لنا حقيقة الإنسان ووصفه وصفا واضحا فمازال هناك بعض الناس يمارون ويتجرأون على نسب خلقهم لأنفسهم والادّعاء بأنهم كائنات "غير مسئولة".
وواليوم، يسود مفهوم عدم مسئولية الإنسان على المستوى الاجتماعي والعلمي والإيديولوجي. وهذا المفهوم شجّعه الفكر المادّي ودعمته نظرية التّطور. و هذا المفهوم المنحرف الذي يشنّ الحرب ضدّ قيم المجتمع الأخلاقية- هذه القيم التي كانت تمثل ركائز النظام والوحدة للمجتمع- أنتج أجيالا تتعرض باستمرار لمزيد من المسخ القيمي والأخلاقي.
واليوم أثبت العلم أن المفاهيم المادية ونظرية التطور مفاهيم باطلة، وأن كلاهما لا يستند على الإطلاق إلى دلائل علمية، وذلك بالإضافة إلى أن النتائج العلمية لازالت تكذبهما. غيرأنه نتيجة الترسيخ الاجتماعي المتواصل على مدى المائة والخمسين عاماً الأخيرة، لازال هناك الكثيرمن الناس يدعون إلى المادية ونظرية التطور كأنما هي حقائق مثبتة بالعلم. ويرجع ذلك إلى أن داعمي مذاهب الكفر يحتاجون بإلحاح إلى المادية ونظرية التّطور لأن كليهما ينكر الوجود الإلهي، وبذلك يستطيعان إبعاد الناس عن الدّين والقيم الأخلاقية، وإلا فإن هذه المذاهب سوف تُجرّد بعد ذلك من الأسباب التي تمثل مبررًا لوجودها في الأصل.
الدفاع عن نظرية تنازل العلم عنها(1/6)
يعترف العديد من العلماء في الوقت الحاضر، بوضوح، بالسّبب الذ يدفعهم إلى الإستمرار في الدّفاع عن نظرية التطور وعن النظرية المادّية رغم ظهورالمزيد من الحقائق العلمية الحديثة. فعلى سبيل المثال، ينقل فليب جونسون كلمات، قالها ريتشارد ليونتن، وهو متخصص في علم الجينات من جامعة هارفرد وأحد المتحمسين لنظرية التطور ويؤمن إيما أعمى بالنظرية المادية، ويعلق فليب جونسون على تلك العبارات قائلاً:
"المشكلة الرئيسية لا تكمن في توفير المعرفة للناس؛ كم نبعد عن أقرب نجم إلينا أو ما هي الجينات التي تكونّا منها ... إنّما المشكلة أن تجعل هؤلاء الناس يرفضون تلك التفسيرات غير المنطقية والخرافية للعالم ... فما يحتاج الناس تعلمه، بغض النظر عن الموافقة على ذلك أم لا، أنّنا كائنات مادية نوجد في عالم مادّي، وجميع الظواهر هي نتائج عن علاقات مادية بين موجودات مادية، وبإيجاز يحتاج الناس قبول مفهوم المادّية الذي يعني وجوب رفضهم للإله..." (1)
وتبين هذه العبارات بوضوح النظرة المادية للحياة والتي تعتمد على تعليل عقلي مضلل. والحقائق التي يقدمها العلم اليوم توضح أن هذه الإدعاءات تناقض المنطق والعقل. ولكن رغم جميع الحقائق العلمية تجدهم متشبثين تشبثًا أعمى بمعتقداتهم ومستمرين بإصرار في الدفاع عن مزاعمهم. ويشرح د. مايكل واكر، وهو متخصص في الانتروبولوجيا من جامعة سدني، الأسباب التي ما زالت تدفع إلى التعلق بنظرية التّطور: "نحن مضطرون للاعتقاد بأن السبب الوحيد الذي يجعل الكثير من رجال العلم والكثير من المتخصصين في الالتكنولوجيا يصرّون على التمسك بنظرية دارون هو إنكار هذه النظرية لوجود الخالق "(2).
ويوضح فليب جونسون، وهو الذي يرفض الادعاءات العلمية غير المبررة للنظرية الداروينية، سبب تمتع تلك النظرية بهذه الأهمية "فلا يمكن استبدالها " لقادة العلم غيرالمعتقدين وسبب حرصهم على الحفاظ عليها مهما بلغت التكلفه:(1/7)
"يري قادة العلم أنفسهم محصورون في حرب يائسه ضد المعتقدين المتدينين، شعاريودوا تطبيقه بصوره موسعة على كل شخص يعتقد في وجود خالق له دور فعّال في شئون العالم ... ثم جاءت نظرية داروين لتلعب دوراً فكرياً هاماً في الحرب ضد هؤلاء المعتقدين المتدينين. ولذا تكرس المنظمات العلمية عملها لحماية المذهب الدارويني فضلاً عن بحثه ودراسته. وقد جاءت قوانين البحث العلمي مساعدة لهم في الاستمرار".(1)
وكما ذكر جونسون فإنّ دعاة المادية وفلاسفة الكفر البارزين والحريصين على دعم تلك الأفكار في جميع أنحاء العالم، تمسكوا بنظرية التطور لدارون لا لشيء إلاّ لأنها توفر لهم ما يسمّى بالأسس العلمية لمذاهبهم. وكان هذا ملاحظاً منذ أن ظهرت نظرية التطور. وقد كان كارل ماركس، مؤسس المادية الجدلية وكذلك العدو اللدود للدين، يؤكّد على الأهمية البالغة للنظرية الدارونيه بالنسبة إلى فكره. وقد أوضح أفكاره عن نظرية دارون في خطابه الذي كتبه لصديقه الحميم فريدريك أنكلز قائلاً :
"هذا هو الكتاب الذي يحتوي على أسس التاريخ الطبيعي لآرائنا".(2)
كما أدلى فريدريك إنكلز بتعليقه عقب قراءته لكتاب دارون "أصل الأجناس" قائلاً:
" إن نظريتنا هي نظرية التطور، وهي ليست عقيدة إيمانية يجب حفظها عن ظهر قلب وتكرارها بشكل آليّ".(3)
و يوضح كونواي زركل، وهو أستاذ من أصل أمريكي متخصص في علم النبات، أسباب تبني مؤسّسي الشيوعية ماركس وإنكلز للنظرية الدّاروينية:(1/8)
"قبل كلّ من ماركس وإنكلز نظرية التطور عقب نشر دارون لكتابه "أصل الأجناس" على الفور. وبالطبع، فإنّ نظرية التطوركانت بالضبط ما يبحث عنه مؤسسو الشيوعية لشرح كيفية ظهور البشر دون تدخل قوى خارقة، وبالتالي كان من الممكن استخدامها لدعم أسس فلسفاتهم المادية. وما جاء به دارون في تفسيره للتطور- باعتباره عملية حدثت من خلال الانتقاء الطبيعي –أعطاهما افتراضا بديلا للتّفسيرات الغائية السائدة للحقيقة المدركة، وهي أن جميع أساليب الحياة مكيّفة بناء على ظروفها المعيشية. وبالفعل، تمكنت عملية الانتقاء الطبيعي من إسقاط الغائية بالكامل، ونتيجة لذلك استطاع العلماء تفسير العالم الحيوي تفسيرا ماديا". (1)
وكما أوضحت لنا هذه العبارات، فإنّ السبب الوحيد الذي جعل كلا من ماركس وأنكلز يدعمان دارون هو الكره الذي يشعران به تجاه الدّين. ولذا ارتكزا على الميكانيكية التي ليس لها قيمة علمية،بل هي مجرد أوهام من الخيال. وبالفعل، أوضح فريدريك إنكلز في كتابه السّبب الذي جعله يعتبر نظرية التطور تكتسي أهمية كبيرة بالنسبة إليه: فدارون تناول مفهوم ما وراء الطبيعة، الذي يعتبر الأمر الحاسم في إثباته أنّ الحيوي العضوي- والذي يتكون من نبات وحيوانات، وبالتالي الإنسان – هو نتاج لعملية تطور مستمرة منذ ملايين السنين.(2)
ومن الواضح أن إنكلز أخطأ أيضاً عند افتراضه أنّ نظرية التطور جاءت بشرح كيفية ظهور ملايين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية على الأرض. ولم يكن إنكلز هوالوحيد الذي ذكر أنّ نظرية دارون حقيقة ثابتة، إذ أنّ جوزف ستالين، القائد الشيوعي المعروف باعتباره من أكثر القادة دموية في التّاريخ، أكد في مذكراته الخاصة على أهمية هذه النظرية:(1/9)
"حتى لا نخدع عقول طلابنا بالأسطوره القائلة أنّ العالم قد تم خلقه في ستة أيام، يجب أن نتعرف على أصل جيولوجية الأرض وعمرها، وتكون لدينا القدرة على إثبات ذلك في مناقشاتنا، ولذا يجب إعداد أنفسنا بالتّعاليم الداروينية".(1)
وبوضوح، فإن النقطة المشتركة بين الأنظمة الفكرية للماديين ونظرية التطور الداروينية – دون شك – هو إنكار الدّين، والغرض الوحيد لداعميهما هو دفع الناس لإنكار الوجود الإلهي. ويخبرنا الله عزوجل في القرآن الكريم عن سعي هؤلاء الّذين اجتهدوا في الماضي لصدّ الناس عن الدين وإبعادهم عن الإيمان بالله تعالى:
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ) (سورة القصص: 41)
وفي آيات أخرى يشير الله عز وجل إلى نهاية هؤلاء الّذين ينكرون الوجود الإلهي ويدعون الناس للكفر:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ) سورة (الأنعام: 157)
فإذا تم دحض المادية، فإن ذلك سوف يضع نهاية للمذاهب التي تنكر الدين ولا تعترف بالخالق، هذه المذاهب التي تجد اليوم صدى واسعا واستجابة قوية من فئات اجتماعية كثيرة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، من الضّروري توعية الناس بحقيقة أن المادة ليست ذات طبيعة خالدة، ويتعين إقناعهم بالأدلة العلمية أنّ نظرية التّطور لا تقوم على أيّ أساس علمي بالمرة.(2) وبالتالي يمكن القضاء على جميع المذاهب والأفكار التي ترفض الوجود الإلهي، ولا شك أن ذلك سوف يمثل النهاية الحتميّة للفكر المادّي. وكما قال الله تعالى: (إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (سورة الاعراف: 139)
أهمية الدّاروينية للمذاهب اللاّدينيّة(1/10)
قد يعتبر البعض أن الداروينية والمذهب المادي لا يمكن أن يكونا هما أساس اللاّدينيّة، ويرجع ذلك إلى أنّ الأغلبية الساحقة من الناس تعتبر أن هذه المفاهيم لا تنكر الدين، وأنّ صلتها بالدّين لم تنقطع. وللوهلة الأولى، تبدو هذه العبارة مقبولة، ففي عصرنا الحاضر لا يميل النّاس لتسيير حياتهم على أسس فكرية، فأكبر الأهداف التي تشغلهم تتمثل في جمع الأموال وتلبية أقصى حد ممكن من الشهوات بمعانيها المختلفة، والاهتمام بالثقافات التافهة السائدة. وهذه الثقافة التافهة لا تترك سوى مجال ضيق جدّا لتساؤلات مثل "كيف وجِدتُ ؟" أو "من خلقني؟". فلا يشغل النّاس تفكيرهم بتساؤلات كبيرة من هذا النوع، كما أنهم لا يفكرون كثيرًا في نظرية التّطور مثلا ولا في ما تجلبه من خديعة.فالغالبية العظمى من الناس أكثر إنشغالاً بالقضايا التافهة مثل حياة الشهرة وقضايا المشاهير والنجوم وفضائحهم، الشيء الذي يجعلهم غير عابئين بالمواضيع الأكثر عمقاً مثل طبيعة خلقهم والهدف من وجودهم. فالاهتمامات المألوفة، مثل الأعمال اليومية والمشاكل المعيشية تشغل عقولهم بالكامل.
وبالتالي، فهؤلاء الذين يعتنقون الدّاروينية ويدافعون عنها عن علم ودراية، وهؤلاء الذين يدافعون عن الفلسفة المادية لا يمثلون سوى نسبة قليلة جدا في المجتمع، أي أنّ غالبية الناس يعيشون في معزل عن الدّين بسبب أنهم لا يفكرون في قضاياهم الوجودية. وعند هذه النقطة يطرح السؤال التالي: "هل الدّاروينية والمادية تشكلان بالفعل أهمية خاصة"؟(1/11)
هناك أبحاث دقيقة أجريت في الغرب وأوضحت أنّ الداروينية هي أهم القوى التي تساند أديان الكفر، وبالرغم من قلة من يعتنقونها في المجتمع، إلا أنهم الفئة الأكثر تأثيرًا فيه، وهم الفئة المفكرة لهذا المجتمع. فعلى سبيل المثال، أجري في الولايات المتحدة الأمريكية أحد الأبحاث الإجتماعية، واتضح أن تسعة بالمائة ( 9% ) فقط من المجتمع ذكروا أنهم ملحدون من معتنقي نظرية التّطور. غير أن هذا الجزء من المجتمع يؤثر في الجامعات، وفي الإعلام وفي المؤسسات العلمية الرسمية وفي صناعة الأفلام. فهؤلاء الملحدون من معتنقي نظرية التطور هم الذين يقومون بتوجيه المجتمع بالكامل، ويضعون السياسة التعليمية ويشكّلون عقول الناس من خلال الإعلام.
وإذا نظرت في الأمر على النطاق العالمي ستلاحظ أنّ هذا الوضع يسود في العديد من البلاد. فما يلفت الانتباه هنا هو الجهود الثقافية والإيديلوجية التي وضعها دعاة الفكر الشّيوعي. ومن المعروف- باستثناء عدد قليل من البلاد- أنّ الشيوعية فيها إنهارت كنظام سياسيّ، لكن رغم ذلك ما يزال البعض يتشبثون بالشيوعية في بعض الدّوائر المعيّنة باعتبار أنّ الفلسفة المادية- التي تعتبرالأساس الفكري للشيوعية - لازالت نشطة. وفي ذات الوقت، نجد أن الشيوعيين يؤمنون بأن "ماركس لديه بعض الأخطاء في نظريته الاقتصادية غير أنّ الماديه لازالت مجدية". وبالفعل لازال الشيوعيون في العديد من البلاد يتمتعون بسمعة عالية ولديهم التأثير القوي في مجال العلم وفي عالم الأدب والفلسفة. فهم يسيطرون على غالبية دور النشر وعلى معارض الكتب حيث تسمع آراؤهم بصورة ملفتة. وعلى وجه العموم، فإنّ أغلبية الشيوعيين والمتنفذين في الإعلام هم من يشار إليهم بـ"جيل الستينات" الّذين يعتنقون المذهب الماركسي. ورغم اقتناعهم بالضعف الاقتصادي للشيوعية لازالوا متمسكين بالفلسفة المادية ويعتبرون الدّين مخدّرًا للشعوب.(1/12)
فالداروينية هي الدين الصحيح عند هؤلاء الناس، وهم مؤمنون بقوة بالداروينية ويبذلون قصارى جهودهم الحثيثة من أجل الإبقاء عليها حيّة. وربما تكون هناك شريحة ذات وزن كبير في المجتمع لم تشغل بالها بهذه المسألة، ولم تفكر في السؤال "كيف وجدتُ؟" ولكن أغلبية الذين يهتمون بقضية الداروينية خدعوا بها، وانطلت عليهم أباطيلها، ويرجع الفضل في ذلك إلى المنظمات الشيوعية التي مرّ ذكرها سابقا. فالطلاب في الجامعة يلقنون المذهب الدّارويني عن طريق أساتذة يعتقدون في الدّاروينية، وهم يجدون الكتب المتعلقة بهذه النظرية في المعارض التي تقام، كما يجدون أنفسهم أمام المفاهيم نفسها عندما يزورون صالة عرض فني أو مسرحيّ. وهكذا تترسخ الثقافة اللاإيمانية وتؤثر على الفئات المتعلمة في المجتمع. وهولاء الذين يقعون تحت الداروينية يفترضون أنها حقيقة علمية لا تناقش، ويرون أن الدّين لا يعدو أن يكون مجرّد "اعتقاد تقليدي عند سكان الرّيف". والأمر نفسه قصه علينا القرآن الكريم، فعندما سؤل بعض الناس (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) كان جواب الكافرين ( أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) ( سورة النحل: 24)
إذن، فالدّين لا علاقة له بالتقاليد، بل هو حقيقة واضحة وبينة. والدّين هوالعلاقة بين الشخص وخالقه، غير أن هذه الحقيقة تجاهلها من انطلت عليهم أباطيل الداروينية وخدعها. ولذا فإنه من الضروري القضاء على الفلسفات المادية والداروينية بالوسائل العلمية من أجل إزالة ثقافة اللادينية من المجتمع.
الأديان المزيفة التي صنعتها المادية(1/13)
مثلما ذكرنا من قبل، فالمادية حركة فكرية خطيرة تعمل على تحطيم القيم الروحيّة وإبعاد الشّعوب عن الدّين. ولا زالت غالبية كبيرة من مجتمعاتنا اليوم تحت تأثير التفكير المادي، سواء كان ذلك عن وعي ودراية أم عن غفلة وجهل. غير أن هناك مسألة أخرى تستحق الذّكر، وهي أن التمسك بالنظرة المادية لا تعني بالضرورة أنها تحمل في طيها الرّفض للوجود الإلهي. فهناك عدد كبير من الناس يؤمنون بالوجود الإلهي ولكنهم لازالوا متمسكين بالنظرة المادية. ولقد وردت في القرآن العديد من الآيات تحدثنا عن مثل هؤلاء الناس:
(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (سورة يونس: 31-32).
(قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (سورة المؤمنون: 84-90).(1/14)
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (سورة الزمر: 38)
وكما هو وارد في الآيات السابقة، فهؤلاء الناس يدّعون أنهم يؤمنون بالله وبدينه، غير أنهم فشلوا في إظهار التعظيم الذي يستحقه الله عز وجل لما له من نعم، بل وجعلوا له أندادًا. وهؤلاء هم أتباع الأديان الباطلة التي تكونت بسبب التمسك بآراء بعيدة كل البعد عن الدين الحقّ. وكما كان الأمر في الماضي، فهناك اليوم العديد ممن يتمسكون بالدّيانات الموضوعة ويبتعدون عن الدّين الحق الذي أساسه الوحي الإلهي.
وبعيداً عن هذه الفئة، فهناك أيضاً بعض الناس الذين ينكرون بصراحة الوجود الإلهي ويرفضون الاعتراف بالآخرة. وهم يبذلون قصارى جهدهم للتأثير على الآخرين وضمّهم إلى صفوفهم. وهذه الوسائل التي وظّفها الماديون في المجتمعات التي يعترف فيها الناس بالوجود الإلهي ولكنّهم يقصّرون في تقدير الله حق قدره، تتضمن مفهوماً تقليدياً للدّين يختلف عن تلك الوسائل التي يوظّفونها في المجتمعات التي هي أكثر ميلاً للإلحاد. فالماديون يجرّون النّاس بعيداً عن الدّين الموحى به لرسل الله تعالى عن طريق ابتداع أديان أخرى، وهي أديان تُكيّف وفقًا لكلّ مجتمع وتُمزج بالإيحاءات المنبثقة من الاعتقاد بأنّ المادة هي الحقيقه المجردة.(1/15)
وبالطبع فليس من المتوقع أن يناضلَ هؤلاء الذين يتمسكون بالدّين، بعيداً عن تعاليمه الأصلية، ضدّ مذاهب الإنكار، ولن يكون بوسعهم وصفها بأنها باطلة وغير مجدية، فالاعتقاد الدّيني الخاطئ، سواء كان عن قصد عن غير قصد، سوف يوفّر المزيد من الدّعم لمذاهب الإنكار والإلحاد. ولهذا السّبب، إذا أراد أحد ما الدّخول في مناظرة جدّية مع اللادينيين فيجب عليه التزود بالمعرفة الدقيقة عن دين الله عز وجلّ والفهم الصحيح لجميع جوانب الأديان الباطلة المقامة على أسس مادّية حتى يستطيع تقويضها عن علم.
وفي الصّفحات القادمة سوف نتوقف عند بعض خصائص دينين من الأديان الكافرة، ونعني بهما المادية والداروينية، كما سوف ندرس الفوارق الموجودة بين هذين الدينين وبين العقائد الوثنية التي تحدث عنها القرآن الكريم.
أصنام القرن العشرين
يخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم عن هؤلاء النّاس الذين يعبدون غير الله عزّ وجل ويتخذون من الأوثان آلهة، ويبين لنا الله عزّ وجل بالتفصيل جهاد رسله مع هؤلاء الناس. وهناك العديد من الناس يظنون أن المجتمعات في الماضي كانت تعبد الأوثان نظراً إلى بدائية أسلوبها في الحياة، ومن هنا كانت لديهم هذه النظرة الدّينية. بل هم يفسرون عكوف بعض القبائل الإفريقية على عبادة الطواطم على أنه دليل على بدائيّتها.(1/16)
غير أنه عند التأمل في عقائد المجتمعات التي تعبد الأصنام والتي ذكرها القرآن الكريم، وعند النظر في تفكيرها يتضح أ ثمة تشابها كبيرا بين هذه المجتمعات وبين قسم كبير من المجتمعات الموجودة اليوم. فمثلما اتخذت هذه المجتمعات لنفسها آلهة من الجماد تعبدها مثل الخشب أو الحجر أو غير ذلك، فهناك في عصرنا اليوم أيضا أناس جعلوا لأنفسهم آلهة من الجمادات يعبدونها. وقبل أن نمر إلى عقد مقارنة بين عبادة الأصنام في الماضي وبين عدد من المفاهيم الموجودة اليوم نعرض بعض المعلومات التي ذكرها القرآن الكريم عن مجتمعات عبادة الأوثان.
ومن بين المجتمعات الوثنية التي تحدث عنها القرآن الكريم نجد قوم النبي إبراهيم عليه السلام:
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً) (سورة مريم: 42)
(إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (سورة الأنبياء: 52-54)
مثلما بينت الآية الكريم، فقد عكف والد نبي الله إبراهيم وقومه على عبادة تماثيل صنعوها بأيديهم، لا تنفع ولا تضر ولا قدرة لها على فعل شيء. فاعتبار شيء ما إلها يعني أنه قادر على الخلق والرزق والشفاء وقادر على إنزال العقاب وقادر على إيجاد ما لم يكن موجودا، فهذه هي خصائص الإله المعبود. وقد كان عبدة الأوثان في عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام يعتقدون أن التماثيل التي صنعوها بأيديهم تمتلك مثل هذه الخصائص، ولذلك كانوا يقدمون لها القرابين ويعبدونها. وفي الأسطر اللاحقة سوف نبين التشابه الغريب الذي يوجد بين تماثيل هذه الأقوام وبين بعض أنظمة التفكير في عصرنا الحاضر.
العقائد الوثنية المسيطرة على المجتمعات المعاصرة(1/17)
لقد ادعى الوثنيون في الماضي أن التماثيل الخرساء المنحوتة من الحجر أو الشجر والعاجزة عن فعل أي شيء تمتلك قوة خاصة. بل إنهم زعموا أن هذه التماثيل هي التي خلقت الكون كله، وأن حركة الكون تتم وفقا لإرادتها. ولهذا السبب قدموا لها القرابين والتمسوا منها أن تمدهم بالصحة والرزق.
وفي ضوء هذه الحقائق، فمن الواضح أن بعض الناس في أيامنا هذه يمتلكون خصائص هذا التفكير الوثني نفسه. فالماديون والتطوريّون شأنهم شأن عبدة الأوثان في الماضي، فإذا كان عبدة التماثيل يرون أن هذه المعبودات قادرة على خلق الكون وخلق الموجودات، فإن الماديين والوثنيين يعتقدون أن المواد غير الحية المتكونة من ذرات غير عاقلة تمتلك إرادة وقدرة على الفعل. وهم يدّعون أن هذه المواد غير الحية اجتمعت عن طريق المصادفة ونظمت نفسها بنفسها، وفي النهاية استطاعت أن توجد هذه الكائنات الحية التي هي غاية في التعقيد والكمال.
وبالإضافة إلى ذلك، هم يرون أن جميع الحوادث في الكون مرجعها إلى "الطبيعة" المتكونة من ذرات غير حية وغير واعية. وكمثال على ذلك، فالماديون أو التطوريون يرون أن الأعاصير والزلازل تحدث بقرار تتخذه "الطبيعة". وعند تفسيرهم لهذه الظواهر يستخدمون مفاهيم مثل "غضب الطبيعة" أو " معجزة الطبيعة". غير أنهم لم يستطيعوا أن يبيّنوا ما هي هذه القوة التي يطلقون عليها اسم "الطبيعة" ولم يستطيعوا أيضا أن يبينوا مصدر هذه القوة التي يتحدثون عنها. فالعناصر التي يسمّونها " الطبيعة الأم" أو"الطبيعة" في حقيقة الأمر لا تختلف عن آلهة المجتمعات الوثنية في الماضي والتي كانت تسمى "الأرض الأم" أو"آلهة الخصب". فلم تتغير سوى الرموز، وقد اتخذوا المواد غير الحية التي لا ترى بالعين المجردة والمصادفات إلها وظنوا أنها قادرة على الخلق.(1/18)
ويشرح بيير بول جراسييه (Pierre Paul Grasse)، وهو فرنسي الأصل متخصص في علم الحيوان ومؤيد حميم لنظرية التطور، الآلهة الخفية للمادّيين ومعتقدي نظرية التطور كالآتي:
"... لقد أصبحت المصادفة إلها يعبد سرًّا تحت غطاء الإلحاد".(1)
إنّ إسناد القدرة على الخلق لمواد غيرحية وذرات غير واعيه هو بالتأكيد قصور خطير في المنطق. ومثلما اعتقد عبدة الأوثان أنّ الأوثان غير الحية أوجدت جميع الكائنات الحية، فإنّ الماديين ومعتنقي نظرية التطور اليوم يعتقدون بأنّ ا لمادة غير الحية نشأت عنها بشكل تصادفي كائنات حية. وذلك يعني أنّ المواد غير الحية هي كائنات لها عقل وإدراك وأنه يمكنها اتخاذ القرار والعمل وفقًا لهذا القرار. ومن هذا المنطلق، اعتبروا أنّ كل شئ إله.
وعلى سبيل المثال، يعتبر أنصار نظرية التطور أنّ الوردة التي تزهر بلونها الأحمر بعد أن كانت في تربه طينية إله، فهم يرون أنّ الوردة جاءت إلى الحياه بإرادتها أو أنّ العناصر غير الحية التي تُكوّن الوردة قامت عفويّا بشكل عفوي بتصميم الوردة. وقس على ذلك جميع الكائنات الحية الأخرى والنباتات مثل البرتقال والتفاح والفراولة والموز وشجرة العنب والورد والبطيخ والبقدونس والغزلان والأسود والفيلة والنمل والنحل والذباب والحيوانات المائية إلى غير ذلك... وباختصار، جميع الكائنات لها القدرة على خلق أنفسها بأنفسها. فهم يدعون أنّ جميع هذه الكائنات وملايين الكائنات الأخرى قد تطورت إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر بإرادتها الخاصة ومن تلقاء نفسها.(1/19)
وفي مثال آخر يدّعي أنصار التطور أنّ نحلة العسل، التي كانت من قبل كائنا حيّا آخر، قررت أن تصبح نحلة عسل في وقت ما من الزمن، ومن هنا بدأت في تشكيل تقنيات خاصة في جسمها قادرة على إنتاج العسل. كما أدّعوا أنّ الذباب كان في البداية لا يستطيع الطيران، ولكنّه بعد ذلك كوّن أجنحته بقدراته الذاتية ثم بدأ بعد ذلك في الطيران. كما أن هذا الذباب جهز نفسه بتقنيات الطيران الدّقيقة التي تعتبر أدق من التكنولوجيا الحديثة الموجودة في الطائرات وطائرات الهيلوكبتر اليوم.
ويمكن لأنصار نظرية التطور أن يقصّوا علينا عددا لا نهاية له من القصص المشابهة عن بلايين الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، وكلها تشترك في نقطة واحدة مثيرة: وهي أنّ الذرات غير الحية التي تكّون الكائنات الحية أو "الطبيعة" لديها وعي وحكمة. فالمصطلحات مثل "الانتخاب الطبيعي" و"التزاوج العشوائي" و "العزلة الجغرافية" التي تضفي شيئا من المسحة العلمية تجمل العقيدة التي وضعها أنصار نظريّة التطور. فهم يزعمون أنّ المادة غير الحيّة في الطبيعة يمكن أن تشكّل بشكل عفويّ كائنات حية متقنة مثل: الموز والبرتقال والذباب والبقدونس والقطط والقرنفل والحوت والزرافات والنعامة والفراشة والعنكبوت والصبار واليوسفي والنملة والفيل ووردة البنفسج وغير ذلك من الكائنات الحية.
ووفقاً لعقيدة هؤلاء التطوريين فإنّ الذّرات غير الواعية قامت بتصنيع عناصر متعددة أدّت إلى تصميم وتنظيم وعمل المجال الجوي المتقن. ولذا فإن المجال الجوي أصبح قادراً على أن يكون سقفاً حامياً للعالم، وقام بتكوين كلّ ما هو ضروري للعيش على سطح الأرض. فيمكن القول بأنّ هؤلاء الذين يعبدون المادة ينسبون إليها قدرات خاصة. فالكربون والهيدروجين والنيتروجين والحديد تعتبر كلها آلهة بالنسبة إلى هؤلاء الوثنيين.(1/20)
وكذلك، ووفقاً لهذا الاعتقاد السخيف، فإنّ الذرات العمياء تتقابل أولاً سوياً ثم بصوره أو بأخرى تنظم نفسها لتكون العين التي ترى. ويعتبر النظام السلوكي لهم محسوباً ومدركاً تماماً حتى يكفل النظام للذرات الأخرى، والتي ستقوم بتكوين قاع العين وتنتظر صابرة حتى تحدث المصادفة التي ستشكل قاع العين قبل تكوين العين ذاتها. ويرى معتنقو نظرية التطور أنّ هذه الذّرات التي تكوّن العين هي آلهة على افتراض أنها "قادرة" على خلق مثل هذا العضو المتكامل. فمثلما اتخذت الشعوب في الماضي آلهه الأمطار، فإنّ أنصار نظرية التطور اتخذوا الذّرات التي تقوم بصناعة العين آلهة أيضا.
ومن هنا يمكن أن نستنتج أنّ دين الماديين وأتباع نظرية التطور لديه أكثر من بليون من الألهة التى تعظّم. فالادعاء بأنّ كلّ كائن حي في العالم جاء إلى الوجود تلقائيا عن طريق المصادفة يعني اعتبار كلّ واحد من هذه الكائنات والقوى إلها قائما بذاته. فهذا لا يختلف عن الفشل المنطقي الذي جعل الإنسان يسجد أمام الطوطم أو يدعو التماثيل الخشبية أن تمنحه الصحة والرخاء، غير أن هناك اختلافا واحدا فقط، وهو العصر الذي عاش فيه عبدة الأوثان عن عصرنا الحاضر.
الآلهة المزيفة عند التطوريين: الذرات غير الواعية
كل شيء نقف عليه سواء كان صخرة، أو تربة أو كرسيّا ، الهواء الذي نتنفسه، الطعام الذي نأكله لنحيا، المياه التي تُكوّن ثلثي أجسامنا، وكذا جميع الأشياء داخل و خارج أجسامنا، حية كانت أو ميتة، كل ذلك مكوّن من ذرات. كذلك المجرات في الفضاء والنجوم والشموس والأرض التي نعيش عليها، كلها مكونة من ذرات، وحتى أجسامنا كذلك. فالذرات في كل مكان نوجد فيه، حتى الهواء الذي نتنفسه مليء بالذرات.(1/21)
الكائنات الحية ومن ضمنها الإنسان مكونة من ذرات من عناصر مختلفة مثل الكربون والهيدروجين والأوكسيجين والكالسيوم والمغنسيوم والحديد. وتؤكد الداروينية أن تلك الذرات تجتمع معاً نتيجة المصادفات غير الواعية. فمنطق أصحاب نظرية التطور يقبلون بأن مجموعات حاشدة من الذرات غير المدركة تمارس ميكانيكية اتخاذ القرار وتكوّن، على سبيل المثال، مهندسا نوويا متخصصا في علم الذّرات.
ويأخذنا البحث الدقيق لهذا المنطق الذي لا معنى له إلى النتيجة الآتية: تجتمع الذّرات المختلفة تحت تأثير قويّ لشيء غير معلوم بالمصادفة مع بعضها البعض لتُكوّن النجوم والكواكب... وباختصار، جميع الأجرام السّماوية. ثم عن طريق التجمع غير الواعي من قبل تلك الذرات، ينتج عنه خلية حية ذات هيكل فائق التركيب. ثم تمر هذه الخلية الحية بمرحلة التطور وتقوم بتشكيل العديد من الكائنات الحية التي بها أنظمة فائقه التركيب، وفي النهاية تستوي إنسانا له وعي وإدراك. بهذا المعنى، فالإنسان يدين بوجوده فقط للمصادفات، ويقوم أيضاَ باكتشاف الذّرات التي كانت السّبب في صنع جسمه وذلك عن طريق الآلات، مثل الميكروسكوب الذي اكتشف أيضاَ عن طريق المصادفة. وهذا بالضبط ما تأكده الداروينية كنظرية علمية، وبالتالي فالواضح أن هذه النظرية تعتبر كل ذرة "إلها" قائما بذاته.(1/22)
فالذرات التي تصنع الإنسان الذي يتميز بالحكمة والذكاء ليس لها وعي أو إرادة في ذاتها. غيرأن معتقدي نظرية التطور بطريقة ما يؤكدون أن هذه الذرات غير الحية تلتقي ببعضها البعض لتُكوّن الإنسان، ثم تقرر هذه "التجمعات الذرية" أن تذهب إلى المدرسة أو تتخرج من الجامعة. ووفقاَ لنفس المنطق، تمتلك أيضاً تلك الذرات مهارات مثيرة للغاية؛ فتلك الذرات تأكل الطعام الذي هو مُكوّن أيضاَ من ذرات وتتذوقه، وهي تشم رائحة الورود المكونة من الذرات وتتمتع برائحتها الزكية، ونفس الذرة أيضاَ يمكن لها أن تشعر بدفئ الهواء المحيط بها. وفي ذات الوقت، تستمع الذرات لموجات الصوت المرسلة من شريط صوتي وتتفاعل مع الترانيم الموسيقية. ووفقاَ لمعتقدي نظرية التطور، فإن الكثير من الذرات تتقابل عشوائياًّ مع بعضها البعض ويمكنها التفكير والإحساس بفقدان شخص ما، والشعور بالسعادة أو الحزن، والضحك عند مشاهدة فيلم كوميدي. فلقد إدعى عبدة الأصنام في الماضي أن قطع الخشب تمتلك قدرات خاصة بها، وهو المنطق نفسه الذي يستخدمه أصحاب نظرية التطور اليوم عندما ينسبون القدرة لذرات غير واعية.
ومهما يكن من أمر، فمن الواضح أنه لا يوجد شيء في العالم كله يمكن نسبته إلى المصادفات، إنّ هناك إرادة ووعيا لخالق عظيم هو المتصرف في هذه لحياة على الأرض وفي الكون كلّه. والطبيعة وجميع تفاصيل جسم تحتوي على آثار صنعة عظيمة لإله حكيم، إنه الله عز وجل مالك هذه الحكمة، مالك السّموات والأرض .
ويخبرنا الله عز وجل أنه سوف يرد أفعال مثل هؤلاء الكفار العاكفين على عبادة الأصنام ويبطل أعمالهم الملوثة بالشرك:(1/23)
"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأعراف: 138-140).
عبادة الشمس
يوجد كذلك تشابه بين المذهب الذي يقوم على أساس عبادة الشمس، والذي وُجد منذ قديم الزمان، وبين معتقدات الماديين من أصحاب نظرية التطور اليوم. فالشمس باعتبارها مصدر الضوء والطاقة غالباَ ما يفترض الناس أنهم يدينون لوجودهم للشمس وبالتالي يتخذونها إلها يعبد. ولقد حجب هذا الاعتقاد الفاسد، عبر التاريخ، العديد من المجتمعات عن دين الله الحق. ويشير القرآن الكريم إلى هذا الأمر ويحدثنا عن أهل سبأ الذين كانوا يعبدون الشمس في عهد رسولنا سليمان:
"وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ" (النمل: 24-25).
وكما نرى فإن عبادة الشمس هي نتيجة الجهل وعدم التفكر. فصحيح أن الشمس ترسل الحرارة و الضوء للأرض، ولكن يجب على الإنسان أن يشكر الله الذي خلقها لا أن يعبدها هي. فالشمس ليست سوى عبارة عن كتلة كبيرة من المادة لا تملك أيّ وعي خلقها الله عز وجل من العدم. وسوف يأتي اليوم التي تستنزف فيه طاقتها وتنتهي. فبما أن الله عزوجل هو الذي خلق الشمس وخلق جميع الأجرام السماوية من العدم فهو سبحانه المستحق للشكر لأنه سخر لنا هذه الكائنات. وهذا ما تذكرنا به الآيات التالية:(1/24)
"وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" (فصلت: 37)
والجدير بالذّكر، أن معتنقي نظرية التطور اليوم يؤمنون بنفس الأفكار التي كانت موجودة لدى عبدة الشمس القدماء بادعائهم أننا ندين بوجودنا للشمس. فطبقاً لمصادر أصحاب نظرية التطور، فإن أصل الحياة على الأرض ترجع إلى الشمس وأن الأشعة الصادرة من الشمس تبعث الحياة للأرض. كما ادعوا أيضاً أن الطاقة الشمسية مسئولة عن توالد فصائل حية أخرى وكذلك الأشعة الشمسية مسئولة عن الاختلاف في الكائنات الحية. وهذا ما جاء في كتاب لـ"كارل ساجان" وهو عالم فلكي أمريكي ملحد، فقد ورد في كتابه "النظام الكوني " ما يلي:
"عبد أجدادنا الشمس، وكانوا بعيدين كل البعد عن الحماقة ... فإذا كان من الضروري عبادة قوة أكبر من أنفسنا، أليس من المنطقي أن نرجع إلى الشمس والنجوم ؟"(1)
هارلو شابلي وهو عالم فلكي يؤمن بنظرية التطور، وكان على منهج كارل سيجان ويوضح موقفه على النحو التالي: "يرى بعض المتدينين "أن البداية هو الله"، ولكني أقول "إنّ الهيدروجين هو الذي يأتي في البداية". وهكذا كان اعتقاد شابلي في الوقت الذي يتطور فيه غاز الهيدروجين إلى الحيوانات، الأشجار والإنسان. وكما هو ملاحظ فإنّ عبودية المادة والطبيعة تتضمن جميع الآراء غير المنطقية التي وضعها أصحاب نظرية التطور. فإن "دين" معتنقي نظرية التطور يعتمد على عبادة المادة والطبيعة.(1/25)
وعلى الصعيد الآخر، يدرك الإنسان ذو الحكمة أن العالم والطبيعة لا يمكن أن يكونا نتاج أعمال مواد غير حية وغير مدركة. فعلى النقيض، ذو الحكمة ينبغي له أن يرى الإدراك المبدع، والتخطيط المتقن، والفن في كل التفاصيل ويدرك عظمة الله عز وجل في خلقه. ولكن لازال العديد من الناس في يومنا هذا عميان عن هذه الحقيقة ويستمرون في عبادة الأشياء. وهؤلاء مثل قوم سبأ: "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ" (النمل: 24).
مرض الماديين وأصحاب المذهب الطبيعي
ناضل بديع الزمان سعيد النورسي طوال حياته بشراسه ضد أديان الكفر، وفي مواضع كثيرة من تفسيره للقرآن الكريم والمسمى "رسائل النور" تحدث عن مرض (طاعون) الماديين والطبيعيين. وذكر أنه يمكننا تعريف المذهب الطبيعي على النحو التالي: " المذهب الطبيعي، بمعنى مذهب عبادة الطبيعة والمذهب المادي بمعنى الفكر الذي لا يؤمن سوى بالمادة هما عبارة عن مرض لا غير". وبالإضافة إلى ذلك ينبه بديع الزمان إلى مذهبي المادية والداروينية القائمين على إنكار الإيمان والغيب، ويقدم تحليلا مفصلاً بطريقة منطقية لقصور منطقية هاتين الحركتين اللتين تنكران الدين:
"يحسب الماديون المتفرعنون (نسبة إلى فرعون) "أنهم أوجدوا أنفسهم وجدوا في هذه الحياة من تلقاء أنفسهم، وأنهم يخلقون كل شيء يحتاجونه"، ولذلك فهم لا يعترفون بالإيمان ولا بالعبودية. وهذا يعني افتراضهم بأنهم هم من خلقوا أنفسهم، والحال أن خالق شيء واحد ينبغي أن يكون هو خالق كل شيء. فكبرياؤهم وخداعهم لأنفسهم أوقعهم في الحمق لأنهم اعتقدوا أن قدرة الواحد منهم تكفيه كل شيء بينما هو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شر ذبابة أو ميكروب صغير.(1/26)
إن الماديّين الذين قصروا استخدامهم للمنطق على ماهو ظاهر أمامهم في التو واللحظة يعتقدون وفقاً لفلسفاتهم غير المنطقية والتي أساسها العبث أن المصادفة هي التي تتحكم في الذرات، والمصادفة تقوم عليها جميع الأسس الرئيسية المكونة لمبادئهم واعتقاداتهم، بل وأكدوا أن الأعمال الإلهية كانت نتيجة لتلك التحوّلات. فهذا الكون الذي تملأ الروعة جميع أركانه جعلوه معتمدا على العبث والفوضى واللامعنى. وحتى من له ذرة من إيمان يدرك مدى مخالفة هذا الكلام للعقل".(1)
ينبه بديع الزمان في كلامه السابق إلى حقيقة أنه ليس من المنطق إطلاقاً أن ينسب الشخص الأولوهية لذاته. كما يؤكد أن الإنسان كائن مخلوق ضعيف لاحول له ولاقوة، وهو عندما ينسب وجوده وكمال الكون "للمصادفات" وينكر خالقه إنما يلقي بنفسه في الجحيم. كما حذر من أن تيارات الإنكار والإلحاد سوف تكتسح العالم في وقتنا الراهن وأنه يجب إنقاذ الشعوب من تلك المذاهب الإلحادية:
"فإن الظهور الكبير لتيارات الفلسفة المادية والطبيعية سوف يقوى شيئاً فشيئاً وينتشر ويعم في نهاية الزمان ... ليبلغ الدرجة التي يتم فيها إنكار الوجود الإلهي... وإنه لمن الواضح مدى التهريج الأحمق لدى الإنسان الضعيف، الذي يمكن أن تقضي عليه ذبابة بينما هو غير قادر حتى على خلق جناحها، فكي يدعي الألوهية بعد ذلك؟(2)
وكما أكد بديع الزمان فمن غير المعقول ولا المنطقي الاعتقاد بأنّ المادة غير الحية هي التي خلقت الكون والحياة بذاتها. فهذا الإنسان الذي يحمل مثل هذا الاعتقاد من المستحيل أن نقول أن لديه قدرًا من الحكمة والعقل. ولقد ذكر لنا نبينا إبراهيم عليه السلام ما كان يفعله قومه من حمق عندما كانوا ينحنون أمام أصنامهم المنحوتة من الخشب:(1/27)
"قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الأنبياء: 65-66)
الأديان الباطلة التي نشأت نتيجة النظرة المادية
ونظرية التطور عن الحياة
لعل العرض القادم يعطي صورة واضحة عن حرص الماديين على زيادة أعداد الناس الذين ينكرون الوجود الإلهي ودين الله ويعملون على كسب فئة من الناس لا يكونون مسؤولين إلا أمام أنفسهم فحسب. وتحتوي الفلسفة المادية على إفكار تسعى إلى إيجاد مجتمع يرفض ليس فقط الوجود الإلهي بل والقيم الروحانية والأخلاقية على حد سواء، ولذا كان يتعين على أصحاب هذه الفلسفة زرع الفكر الملحد في عقول الناس ونشره داخل المجتمع. وبينما يرفضون دين الله عزوجل، لازالوا يقبلون صورًا بديلة للدين تتفق مع نظرتهم المادية. جورج كايلور سيمبسون George Gaylord Simpson أحد الأسماء الرائدة في الحركة الداروينية الحديثة، وهو يصف طبيعة الدين المقبول لدى أصحاب نظرية التطور قائلاً:
"بالطبع فإن هناك بعض المعتقدات التي مازالت موجودة، وهي مرتبطة بالدين وبالمشاعر الدينية التي لا تتلاءم ظاهريا مع نظرية التطور، وبالتالي لا يمكن الاحتفاظ بها فكرياً رغم جوانبها العاطفية. غير أن ما أجده الآن واضحاً ولا يتطلب المزيد من المناقشات الخاصة، هو الانسجام بين نظرية التطور والدين الحق". (1)(1/28)
يذكر سيمبسون Simpson أحد أنصار نظرية التطور أن الدين يمكن أن يتصالح مع آراء الماديين في الحياه طالما ينسجم مع مفاهيمهم. غير أنه جدير بالذكر أن ما يشار إليه "بالدين الحق" بالتأكيد ليس الدين الذي أساسه الوحي الإلهي وإنما هو شيء بعيد كل البعد عن الحق المنزل من السماء. إنه دين آخر أساسه الفكر المادي وإشباع الناس عاطفياً. فغالبية الناس الذين يدعون الإيمان في عصرنا هذا، هم في واقع الأمر يعتنقون الدين الباطل الذي زعم الماديّون أنّه "الدين الحق".
وفي الجزء التالي سيتم بإيجاز عرض بعض خصائص الأديان الباطلة، وسوف يتضح أنها جامعة لمعتقدات مشوهة تمارس باسم الدين. وباعتبار أنّ الإنسان غير معتاد على التفكر العميق فغالباً ما يفشل في ملاحظة الأخطاء الموروثة الحاصلة في تلك المعتقدات. وكشف هذه الأمور من المسؤوليات المهمة الملقاة على عاتق المؤمنين المخلصين للإسلام، ومن واجبهم أيضا تحذيرالشعوب ضدّ الأديان الباطلة التي صنعها الإنسان وإيصال رسالة القرآن إلى كل مكان، فالقرآن الكريم هو مصدر الحكمة ومصدر النور الذي جاء من عند الله تعالى لعباده من أجل هدايتهم.
1. الدين الباطل يظن أن الله موجود في السماء
رغم الاعتقاد بوجود الله عزوجل، غير أن الكثيرين يحملون معتقدات خاطئة عن مكان وجود الله تعالى. وترجع تلك المعتقدات أساساً إلى النظرة المادية للحياة، فالماديون يرون أنه لا يوجد شيء في الواقع غير المادة، فهم يفترضون بصورة حتمية أن الله عز وجل لابد وأن يكون داخل هذا الكون المادي ولكنهم فشلوا في تخيل نوع المجال الذي يجوز أن يسكنه.
ويذكر لنا القرآن الكريم بعض الشعوب التي كانت تملك مثل هذه النظرة وهذا الفهم في الماضي. ففرعون أمر ببناء برج يصل إلى السماء حتى يصعد ويرى الله عزوجل. وكان اعتقاده الخاطئ هذا نتيجة فشل في فهم صفات الله عزوجل وافتراضه أن المادة هي الحقيقة:(1/29)
" وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى
إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" (القصص: 38)
ولكن الله هو خالق الفضاء وهو غير محكوم به. الله عزوجل خالق الكائنات المحدودة بالفضاء، أما هو فهو منزه فوق كل المخلوقات فهو عالم بكل شيء. (1)
ويفشل هؤلاء الناس تحت تأثير النظرة المادية للحياة في فهم هذه الحقيقة الواضحة مفترضين أن الله يسكن السّماوات. فهناك بعض الناس ينظرون إلى السماء أثناء صلواتهم، ولكن الإنسان الذي يعلم أن الله عزوجل موجود في كل مكان يستشعر وجوده حيثما يكون. ويخبرنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الحقيقة:
" وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 115)
"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الأنعام: 103)
2. الدين الباطل يرى أن الله خلق الكون والإنسان ثم تركهما(1/30)
يرى الدين الباطل أن الله عزَّ وجل خلق الكون بأكمله في البداية بجميع الكائنات الحية ثم تركه وشأنه، وهو يكتفي بملاحظته من بعيد ولا يتدخل فيه. وطبقاً لهذا المفهوم، فإن الإنسان هو وحده الذي يحدد مصيره بنفسه. ولكن الله سبحانه وتعالى ليس محددا لا بمكان ولا بزمان، ولذلك فهو عندما خلق الكون والإنسان خلقهما معاً بماضيهما وبمستقبلهما، كأنهما لحظة واحدة. فيمكن القول بأن الله عزَّ وجل خلق كل شيء وقدر لكل شيء مصيره الخاص به. ولايمكن للإنسان معرفة مستقبله حتى يخوضه بنفسه. والله يعلم مستقبل كل إنسان ويعلم كل لحظة سوف يمر بها في حياته. فالله خلق كل لحظة سنعيشها، وكل كلمة سنتلفظ بها، وكل حركة نقوم بها. فبالتأكيد لم يخلق الله الكون بأكمله ثم تركه لقوانينه المجردة بل خلق كل لحظة في حياة جميع الكائنات الحية منذ البداية وحتى النهاية. كل شيء، سواء سقوط ورقة الشجر أو حدث من الأحداث التي يمر بها الإنسان خلال حياته، والتي تحدث وفقاً للقدر الذي حدده الله مسبقاَ. و يذكر الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة للإنسان في العديد من الآيات:
" وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (الأنعام: 59)
"وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" (الصافات: 96)
3. الدين الباطل لا يؤمن بالجنة والنّار(1/31)
هناك بعض الناس تأثروا بالفكر المادي فأصبحوا لا يؤمنون بوجود الجنة والنار رغم إيمانهم بالله تعالى، والسبب الأساسي لذلك هو زعمهم أنهم لا يستطيعون التأكد من وجود شيء دون رؤيته بأعينهم أو تحسسه بأيديهم. والحقيقة أنّ هناك دلائل لا حصر لها لذوي العقل والحكمة، تشير إلى وجود الله والدار الآخرة، مثل السموات والأرض اللتين خلقتا بتصميمٍ دقيقٍ وإنسجامٍ مدهش. ومن ذلك أيضا خلق الخلية، وهي الوحدة البنائية لجميع الكائنات الحية وهي في غاية التعقيد، ومن ذلك الألوان والروائح والكائنات الحية المختلفة التي تعيش بيننا. فالله تعالى الذي خلق جميع هذه الكائنات ولم تكن شيئا مذكورا قادر، بلا أدنى شك، على إحيائها وبعثها من جديد. بيد أنه بالرغم من كل ذلك، فالإنسان يصر على الجحود والإنكار. وهؤلاء الذين رفضوا تفهم هذه الحقيقة وصفهم القرآن فقال:
"وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً" ( الإسراء: 49-52)(1/32)
إن فشل غير المنكرين لله تعالى في إدراك البعث بعد الموت والشكوك التى يكنوها في أنفسهم حول هذه الحقيقة هي أيضاً نتيجة لمعتقداتهم المادية. فالمادي يرى أن التكوين المميز للإنسان الحي هو نتيجة تفاعل بين العناصر. ويؤكد أن جوانب الإنسان الغيبيه (عقله وعواطفه) يتم خلقها أيضاَ عن طريق مثل هذه التفاعلات. وبالتالي، يفسر هؤلاء الناس البعث بأنه إعادة البناء الذاتية للمادة، ولذا لا يمكن تخيل إمكانية حدوث هذه العملية. ومن هنا يمكن القول إنهم لا يستطيعون تقبل أن المادة التي تفنى يمكن أن تظهر مرة أخرى ويعاد تركيبها.
ولكن، إذا كانوا لم يستطيعوا فهم كيفية إعادة الجسم المتحلل بعد موته، فمن المفروض أن يكون إيجاد الجسم الحي من العدم أول مرة أكثر صعوبة وأشد تعقيدا. وهنا تكمن القضية الكبرى، فلو تأملوا بتفكر لأزاحوا عن أنفسهم هذه الشكوك ولعلموا أن الذي خلق من العدم قادر على البعث من جديد. يقول تعالى مذكرا بالخلق الأول:
"أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ق: 15-16)
إن ما يصنع الإنسان حقاً هي الروح وليس الجسد، فالإنسان ليس عبارة عن لحم وعظم وشحم فقط، إنما الإنسان بالروح إنسان. والموت يضع نهاية للجسد، بينما الروح تستمر في الحياة إلى الأبد، فالموت هو مرحلة انتقال بالروح من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة. يقول الله سبحانه وتعالى:(1/33)
"ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ" (السجدة: 9-11)
الكِبر يمنع المنكرين من فهم حتى أكثر الحقائق وضوحاً، فهناك العديد من الآيات التي يذكر الله لنا فيها أن هؤلاء الذين ينكرون الحياة الآخرة ويفترضون الموت نهاية لهم لم يستخدموا عقولهم التي منحها الله لهم:
"أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ" (الجاثية: 23-24)
وعلى النقيض من ذلك، فإنه عزَّ وجل يصف المؤمنين كما يلي:
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ( لقمان: 4-5)
"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة: 3-4)(1/34)
وفي مجال النضال ضد أديان الكفر، هناك أمران مهمان يجب تناولهما؛ أحداهما إبطال نظرية التطور على أسس منطقية وعلمية حتى يعلم الناس أن وجودهم لم يكن نتيجة للمصادفة بل هو خلق الله عزَّ وجل. والأمر الآخر هو إفهام الناس ماهية المادة وحقيقتها، وبالتالي مساعدتهم لإدراك الدين الحق. فالشخص الذي يستوعب أنه أكبر من مجرد مادة يستطيع كذلك فهم قدرة لله الخالق، سبحانه وتعالى.
إن الله خالق كل شيء، وهو ليس مرتبطا بمكان أو زمان محددين. وجميع المخلوقات خلقها الله بأقدارها، والجنة والنار موجودان بالفعل ، وأعمال الإنسان مخلوقة من قبل الله عزَّ وجل، فهذه حقائق لا شك فيها ومن السهل فهمها. غير أن هناك بعض الناس لا يرغبون في قبول تلك الحقائق ويصفوها بأنها أمور صعبة. وهذا الفهم نابع من حقيقة أنه واقع تحت تأثير النظرة المادية للحياة سواء بعلم أو بغير علم. ومن الضروري لمن تأثروا بهذه النظرة أن يتحرروا من كبريائهم لكي يعرفوا الحقائق السليمة عن المادة. و في الأجزاء الأخيرة من هذا الكتاب نقرأ "الحقيقة التي هزمت دين الكفر" و "الفهم الخاطئ لنظرية التطور"، وهما يوضحان حقيقة المادة، كما يوضحان أن ما ظن سابقاً أنها أسرار معقدة هي في واقع الأمر حقائق بسيطة وواضحة.
قادة الكفر الذين يدعون الناس إلى النّار
يذكر الله عزَّ وجل في القرآن الكريم أنه كان هناك قادة أشرار طغاة يُغرون الناس لإبعادهم عن طريق الله ويأمرونهم برفض دينه. ولقد عرّفهم الله في إحدى آياته بأنهم "أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" (القصص: 41). ولقد مثلت شخصية فرعون هذا النوع من القادة وتم بيان ذلك في قصة موسى عليه السلام. كما أن هناك أشكالا مشابهة لهؤلاء ظهرت عبر التاريخ. وجاء هؤلاء القادة مستخدمين نفس الوسائل من الظلم ضدّ شعوبهم لإبعادهم عن الدين الحق ودفعهم للتفريط في الدار الآخرة.(1/35)
ففي عصرنا الحالي هناك قادة لا يختلفون كثيرا عن فرعون في ظلمهم مثل أدولف هتلر الذي عرف بقسوته وارتكابه لمذابح دموية في جميع أنحاء أوروبا، وفلاديمير لينين و جوزيف ستلالين و ماو تسي تونغ وأتباعهم أمثال كارل ماركس و فريديريك أنجلز. كما أن شارلز داروين قد غذى الآراء الشريرة لهؤلاء القادة وأيد اتجاهات الكفر بنظريته المسماة بـ"نظرية التطور".
وكما جاء في القرآن الكريم فإن رسل الله والمؤمنين الصالحين هم الذين يواجهون القادة الأشرار وينبهون المجتمع من مكائدهم. ولأجل ذلك يقدم لنا القرآن الكريم أشكالا من الحوارات التي كان هؤلاء الرسل يجرونها مع العتاة من المنكرين والجاحدين لأن كسبهم واستمالتهم هو كسب للشعوب التي تقع تحت سلطتهم. ففي البداية يكلم الرسل قادة الشعوب ويعملون على إيصال الحق إليهم. ويخبرنا القرآن الكريم أن موسى عليه السلام بعث أولاً إلى فرعون:
"وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" (هود: 96-97)
"ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" (الأعراف: 103)(1/36)
وفي عصرنا الحاضر تعتبر الشيوعية والفوضوية من أهم الاتجاهات التي تتبنى الإنكار وتدافع عن المذهب اللاديني، فهما يرتكزان على المادية ونظرية التّطور. ومؤسسا هذين المذهبين يعتبران من أبرز زعماء الاتجاه اللاديني في عصرنا، بيد أن رحيلهما عن العالم لم يقلل من تأثيرهما، بل مازال هذا التأثير مستمرّا ويلقى دعما قويا من قبل العديد من الدوائر في العالم. وعندما يكون الصّراع ضدّ أديان الكفر فمن الضروري توضيح الوجه الحقيقي لهؤلاء القادة وفضح الأهداف التي يريدون تحقيقها. ومن أجل الوصول إلى فهم سليم لهذه الأهداف من المفيد لنا النظر في مناهج وأساليب هؤلاء القادة الذين "يدعون الناس إلى النّار".
أعداء الدين الذين يصدون الناس عن الإيمان بواسطة الظلم
كان الدافع الرئيسي لقادة أمثال لينين وستالين وستروتسكي وماو تسي تونغ الذين تبنوا المادية وطبقوها على أنظمتهم السياسية هو القضاء على الدين. ويوضح كارل ماركس كبير الشيوعيين كيف يرى الدين من وجهة النظر الشيوعية المادية:
"يعتبر الدين مخدرا للشّعوب، فالسعادة الزائفة هي الغاية الحقيقية لهذه الشعوب". (1)
و في مقال له بعنوان "موقف حزب العمال إزاء الدّين" يقول لينين في هذا الموضوع:
"إنّ الماركسية تماما مثل المادية، فهي كذلك معادية للدين دون هوادة، تماما مثل ما كان الأمر مع مادية موسوعية القرن الثامن عشر أو مادية فيورباخ. غير أنّ الجدلية المادية في نظرية ماركس وإنجلز ذات عمق أبعد من مؤلفي الموسوعية ومادية فيورباخ، فقد قامت بتطبيق الفلسفة المادية في مجالي التاريخ والعلوم الإجتماعية. كانت المادية تقوم على أساس مهم يتمثل في مكافحة الدّين. غير أن الماركسية لم تقف عند حدود ماديتها بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فهي تدعو إلى ضرورة معرفة الطرق والأساليب التي يمكن بواسطتها مكافحة الدين، ومن أجل تحقيق ذلك لا بدّ من شرح مصدر الإيمان والدّين للشعوب بطريقة مادية.(2)(1/37)
ونجد أنّ العداء إزاء الدين، والذي يتوضح من خلال العبارات السابقة قد كان لماركس دور فاعل فيه حتى أصبح هوالمنهج الشائع في جميع الأنظمة الشيوعية. ورغم أن ماركس لم يعش طويلاَ حتى يدرك طموحه فإن لينين قد ورث عنه ميراثه الشرير وأقام نظاما أساسه إنكار الدين، ثم جاء بعده ستالين وطبق هذا النظام بقسوة لا حدود لها.
خلال السنوات التي شهدت قيام ثورات شيوعية في روسيا والصين وغيرهما، تم إغلاق المساجد وبيوت العبادة، وكان يتم القضاء بكل قسوة وبشاعة على كل من يعارض هذه الثورات. فلقد قام جوزيف ستالين بارتكاب أكبر المذابح في تاريخ العالم دموية، حيث أمر بإعدام أكثر من 20 مليون شخص. وكذلك الأمر مع "بول بوت" الشيوعي الدكتاتوري في كامبوديا، فقد كان مسئولاَ عن ذبح نحو ثلاثة ملايين شخص من بين السكان البالغ عددهم تسعة ملايين نسمة. ومن أشهر هؤلاء كذلك أنور خوجه الزعيم الألباني الشيوعي الذي أمر بإنزال أقسى العقوبات على كل من يعتنق أي اعتقاد ديني أو يمارس أي نوع من أنواع العبادة، وصرح بالقول أنه "أول من أنشأ أول دولة ملحدة في العالم".
فهؤلاء هم "فراعنة القرن العشرين" عديمو الرحمة وفاقدو أي عاطفة أو حبّ، مارسوا العداء الشديد ضد الدين وعذبوا الذين آمنوا من الناس تماما مثلما فعل فرعون من قبل في قومه. ولقد حدثنا القرآن الكريم عن ظلمه فقال:
"فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍِ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" )يونس:83 (
"قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى" )طه: (71(1/38)
" قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" )الشورى: (49
...
أنصار الإلحاد يتبعون دين آبائهم
يبدو الأمر غير مفهوم حينما يتبع العديد من الناس طغاة يرتكبون المذابح دون رحمة ضد آلاف الناس من النساء والأطفال، بيد أن ذلك لا ينطبق فقط على عصرنا. فلقد تحدث القرآن الكريم عن مجتمعات رفضت التخلي عن معتقداتها المنحرفة التي يقولون إنّها "دين أسلافهم". ففي كل مرة يعرض الإيمان بدين الله على الكفار تكون إجابتهم للرسل قائلين إنهم لا يستطيعون التخلي عن عاداتهم السابقة حيث إنها أديان أجدادهم وآبائهم، يقول تعالى:
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" البقرة: (171- 170)(1/39)
ولقد وصفت الآيات المذكورة بوضوح وضع غير المؤمنين الذين يرفضون أي نوع من أنواع الإيمان الديني وأي شكل من أشكال القيم الأخلاقية. فما يفعلونه هو في الواقع محاربة للدين. وقد عزم أعداء الدين هؤلاء في وقتنا الحاضر على عدم ترك "دين" أجدادهم داروين و لينين و ستالين وماو تسي تونغ الذين آمنوا بهم واتبعوا ما جاؤوا به. فأجدادهم يؤمنون بأن الحياة وجدت من مادة غير حية، وأن الكائنات الحية نشأ بعضها من بعض نتيجة التزاوج، وأنه لا يوجد خالق خلق كل شيء من العدم. وأصحاب هذا الفكر لا يملكون سوى بعض المعتقدات الخرافية؛ مثل أن المصادفة والطبيعة هما الخالق، فهاتان القوتان (رغم انعدام الإدراك والحكمة لديهما) بإمكانهما خلق كائنات ذكية، والمادة هي الشيء الوحيد المطلق والخالد.
واليوم، لازال هناك الكثيرون الذين يؤمنون "بدين أسلافهم"، ويعتقدون اعتقادا أعمى في هذه الخرافات التي أثبت العلم خطئها مرة بعد أخرى. والغريب أنهم مصرون على الدفاع عنها في المجلات والجرائد والمؤتمرات دون فهم للمعنى الحقيقي لادعاءاتهم، والسبب في ذلك أنهم ورثوها عن أجدادهم. ولقد وضح الله سبحانه وتعالى أن الإنكار أيضا تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل:
"كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" الذاريات: (53- 52)
ولن يهجر هؤلاء الناس أديانهم الباطلة حتى ولو عرضت عليهم قناطير من الكتب التي تفند بالدلائل العلمية والتفسيرات المقنعة ما يوجد في عقولهم من خرافات. ونتيجة ارتباطهم الأعمى بدين أجدادهم تجدهم فقدوا القدرة على التفكير والعقل والحكمة وفشلوا في رؤية الحقائق الواضحة التي يمكن أن يفهمها حتى الأطفال الصغار. ولقد وصف لنا القرآن الكريم فقدآن الإنسان قدرته على الإدراك والفهم على النحو التالي:(1/40)
"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف: 179)
توضيح للباطل الذي كان عليه أجدادهم
ولكي نحرر الماديين وأنصار نظرية التطور من أفكارهم المعاندة للحق وكسر ارتباطهم "بدين أجدادهم " ومناقشة تأثير هذه الأفكار الخاطئة على الشعوب، يجب كشف حقيقة هوية زعمائهم وحقيقة أهدافهم. وأكثر الطرق فاعلية لتحقيق هذه الغاية هو توفير جميع الأدلة وإثبات أن الأفكار التي دعا إليها هؤلاء القادة ليس لها أيّ أساس علمي. كما يجب مواجهة الحقيقة التي تقول بأن هؤلاء القادة كانوا يمثلون نماذج رئيسية، بيد أنهم لم يكونوا المفكرين المثاليين أو الأبطال الذين ينبغي أن يوجدوا في الساحة، بل إنهم هم الذين أدخلوا الفساد على أخلاق المجتمع، وكل من يملك عقلا راجحا لن يقع أبدا فريسة لهذه الأفكار المنحرفة.
فينبغي على أتباع هؤلاء القادة الضّالين الذين "يدعون الشعوب إلى النّار" عدم نسيان حقيقة مهمة وهي أنّ لينين و ستالين و داروين و ماو تسي تونغ و أنجلز وغيرهم قد تأكدوا من هذه الحقيقة عند رؤية ملائكة الموت، فشهدوا أن القوة لله عزَّ وجل، وأن الإنسان لم يُترك سدى، وأن جميع المخلوقات تخضع لقدرة الله وحده، الله الذي خلقهم من عدم، وتأكدوا كذلك أن الموت ليس هو النهاية وإنما هو بداية حساب صعب وعقاب عسير يستمر إلى الأبد وأنهم لن يهربوا أبدًا مما كسبت أيديهم.(1/41)
قد لا تجد هذه الحقائق القبول لدى هؤلاء الذين اتبعوا قادتهم و زعماءهم، ولكن عندما تأخذ ملائكة الموت أرواحهم وتضرب ظهورهم ووجوههم سوف يدركون حينئذ الحقيقة العظيمة بوضوح كما أدركها من قبل فرعون والذين معه. غير أنّ إدراكهم للحقيقة سوف يكون متأخراً، وسيكون طلبهم الرّجوع إلى الدنيا لتصحيح أخطائهم وذنوبهم دون جدوى، وحينئذٍ سوف يلومون هؤلاء الذين قادوهم إلى جهنم ويدعون الله أن يذيقهم العذاب الأليم، وسيندمون أشدّ النّدم لأنهم لم يسمعوا تحذيرات رسل الله تعالى. و يبين الله لنا في القرآن الكريم الحساب الذي سوف يتلقاه هؤلاء في الدار الآخرة إلا إذا تابوا واعترفوا بذنوبهم:
"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سبأ: 31-33)(1/42)
"هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" (ص: 59- 64)
"وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ" (فصلت: 25- 29)
ويبشر الله عزَّ وجل المؤمنين الذين آمنوا به وكرسوا حياتهم لإبلاغ رسالة الإسلام وعاشوا وفق أحكام القرآن:(1/43)
"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصلت: 30-33).
الخاتمة
قد يقضي الإنسان فترة طويلة من حياته أو حياته كلها منكرًا للدين، أو ربما يسعى إلى القيام بأعمال هدفها تخريب الدين، غير أنه إذا تأمل تأمّلا صادقا وتبع فطرته سوف يدرك مدى صحة أساسيات الدين الحق وبساطتها، وإذا تاب سوف ينال رحمة الله ومغفرته. ويجب على كل إنسان أن يعلم أن أحدا من زعماء الكفر وقادته لا يمكن أبدا أن يكون شفيعا له عند الله يوم القيامة، والله عزَّ وجل ربّ العالمين هو ولي الذين آمنوا وكفيلهم الحقيقي. ويذكر القرآن الكريم الكلمات التي يقولها الإنسان المؤمن:
"تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ" (غافر: 42- 43)
لا نجاة لأمة بدون دين(1/44)
الكثير من الناس يعتبرون خطأً أن الدين ليس سوى عبارة عن مجموعة من الطقوس. فبعيدا عن مجرّد الطقوس يتناول الإسلام جميع نواحي الحياة. فالمؤمن المخلص الملتزم بدينه يجاهد لكسب رضا الله تعالى ويسعى للنجاة من الزيغ والضلال وذلك من خلال الالتزام بالعيش وفق القيم الأخلاقية القرآنية في كل لحظة من لحظات حياته. والمؤمن إذا أراد بلوغ هذه الدرجة عليه أن لا يحيد أبداً عن اتباع السلوك الذي يتسم بالحق والإخلاص والعدل والاحترام والرحمة، وباختصار عليه الثبات على قيم الحق. ولذلك فالمجتمعات التي تطبق القيم الأخلاقية للقرآن الكريم تتمتع بنعم كثيرة لا توجد عند غيرها.
فعلى سبيل المثال، لن تعاني الأسرة التي تعيش وفق القيم الأخلاقية للقرآن من المشاكل التي تتخبط فيها مجتمعاتنا اليوم. فالأطفال في عصرنا هذا غالباً ما يتمردون على آبائهم ويفشلون في التفريق بين الصواب والخطأ، ويقومون بأعمال عدوانية. و في الوقت نفسه هناك آباء لا يرون من الضرورة تعليم أبنائهم الخير، وهم لا يمدّون أبنائهم بالإرشادات والتوجيهات الصحيحة. وهؤلاء الآباء لا يستطيعون العيش بصورة سوية ومستقرة مع أبنائهم فتكثر المشاجرات والنزاعات وتغيب مشاعر الحب والاحترام وينعدم التفاهم.
وعلى النقيض من ذلك، تكون الأسرة التي تعيش ملتزمة بأحكام القرآن الكريم مترابطة مستقرة، فالأطفال يطيعون آباءهم ويبرونهم ويتجنبون نهرهم أو الإساءة لهم. و منذ الصغر يتعلمون اتباع أحكام الدين في كل صغيرة وكبيرة. كما يعمل الآباء جاهدين من أجل تربية أبنائهم وفقاً للقيم الإيمانية ومنحهم الإحساس بالمسئولية تجاه الناس والوطن. وعلى هذا النحو يصبح هؤلاء الأباء هم النماذج المثالية التي يقتدي بها أبناؤهم. وبكلمة جامعة تعيش جميع الأسرة في جو من الحب والاحترام والتّضامن.(1/45)
الأسرة هي الوحدة الأساسية في بناء المجتمع، فالأسرة القوية المترابطة يقوى بها المجتمع، بينما الأسرة الضعيفة المحرومة من القيم الروحية مثل الحب و الاحترام والتضامن والولاء تكون نقطة ضعف في بناء الأمة. وهذا بصفة خاصة في بعض المجتمعات التي تنشط فيها دوائر الشرّ، وتسعى إلى إقامة مجتمع خال من أي عقيدة، فتتزايد عملية الإفساد الروحي ويظهر الانحدار الأخلاقي على جميع المستويات. ففي مثل هذه المجتمعات تقام العلاقات أساساً على المنافع المادية.
وعندما تطغى الاعتبارات المادية على أهمية القيم الرّوحية مثل الحب والأخوة و التضامن و التضحية والولاء يصبح تكوين أمة سليمة أمرا صعب التحقيق، ذلك لأن هذا الخراب لا يتوقف عند حدود الأسرة بل يتعداه إلى المجتمع بأكمله. فقيم الشر هي التي تسود مناحي المجتمع ومؤسساته المختلفة فينتشر الحسد والخداع و السخرية والنميمة بدل الحبّ والاحترام والتكافل. وبالتالي يكون من الصعب الدفاع عن حقوق المظلومين وإظهار العدل ونشر الرحمة بين الناس. وباختصار، فإن العيش في انسجام وسلام يصبح أمرا صعب المنال لأبناء هذا المجتمع.
ولهذا فمسئولية إلحاق الهزيمة بالتيارات اللادينية من الناحية الفكرية تقع على عاتق المؤمنين. فبالإضافة إلى تحطيم القيم الأسرية والعلاقات الإجتماعية هناك تأثيرات خطيرة أخرى نتجت عن التيارات اللادينية في كافة المجتمعات. ولهذا يجب على كل فرد أن يظهر معارضة جادة لتيارات الكفر والإلحاد إذا كان صادق الحب لبلاده وشعبه.
...
الأرهابيون هم نتاج الداروينية(1/46)
تنتشر اليوم في جميع أنحاء العالم عمليات الإرهاب والمذابح والإبادات الجماعية، فيُقتل الأبرياء بوحشية كبيرة، وتتآمر البلدان على بعضها البعض، وينتج عن ذلك إشعال الحروب المدمّرة. وهناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تكون دافعًا لما يحدُث داخل الدول ذات التاريخ والثقافات والهياكل الاجتماعية المختلفة، والبحث الدقيق يبين أن هذه المجتمعات تعاني من انحدار روحي وقيمي كبير أحدثه الاعتقاد الخاطئ داخل هذه المجتمعات.
من الأساليب المهمة التي يعتمدها أصحاب نظرية التطور تدريب أعضائهم وفقاَ للآراء الداروينية. ومثلما مر بنا سابقا، فنظرية التطور تنكر الوجود الإلهي، ولا ترى ضرورة استشعار الشخص لأي مسئولية أو أيّ حساب أمام الله عز وجل يوم القيامة. فالشخص الذي يتشبع بآراء الداروينية يعتقد أنه حرّ بالكامل، وهذا ما يجعله ينحرف تماماً نحو أشكال مختلفة من سوء الأخلاق والقسوة وانعدام الضمير.
كما تساهم نظرية التطور في دعم الفوضى وإنعدام النظام، وتقدم الإنسان على أنه ليس سوى عبارة عن سلالة مقدمة من سلالات الحيوان، وبالتالي فإن الذين يعتقدون في الداروينية يرون أن فكرة قتل الإنسان مسألة بسيطة بساطة قتل أي حيوان آخر.(1/47)
ولكن عندما يقتنع الناس بالشواهد الدالة على قدرة الله تعالى من القرآن الكريم وهيمنته على كل شيء سوف يكون من المستحيل عندئذٍ أن يخضعوا لتلك المناهج التي تنشر الشر والعداء في العالم وتزرع الحروب والفوضى و الكراهية. فالإنسان الذي يؤمن بالله ويعلم أنه سوف يحاسب يوماً ما على أعماله أمام الله عزوجل لا يمكن أن يلحق الضرر بشعبه وبلده. والإنسان الذي يخاف الله تعالى إلى حد الاعتناء بدقائق الأمور يتجنب كل عمل يغضبه سبحانه، كما يتجنّب كل فعل يمكن أن يقوده إلى العذاب في الآخرة. أما الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ويرى أنه غير مسئول أمام أحد فيمكن أن يفعل الشر دون تردّد. يقول بديع الزمان سعيد النورسي واصفا أثر الأيدولوجيات والأفكار الإلحادية، وخاصة منها الشيوعية:
"نعم، إن الإشتراكية قد ظهرت عقب الثورة الفرنسية، وهي من ثمار الليبرالية. ثم بعد أن قامت الإشتراكية بالقضاء على بعض الأمور المقدسة بعينها، تحولت الأفكار التي رسختها إلى البلشفية. وبما أن البلشفية قد أفسدت الكثير من القيم الإنسانية والأخلاقية، فبطبيعة الأمر هي التي بذرت بذور الفوضوية التي لا تعترف بأي حدود ولا تحترم أية مقدسات. فإذا خلا القلب من الرحمة والعطف يصبح البشر عبارة عن وحوش شرسة ولا يمكن أبدا حكمهم بواسطة علم السياسات".(1)(1/48)
يحتاج المرء دائماً إلى أن يتذكر أنّ هؤلاء الذين يحرضون على قيام الثورات ضد بلدانهم وشعوبهم لا يختلفون كثيرا عن أولئك الذين يظلون صامتين أمام حركات الإفساد وبث الفرقة والشقاق ولا يفعلون شيئاً للمساهمة مع أوطانهم. فهدفهم الوحيد هو الحصول على أكثر المكاسب نفعاً، فهم لا يتضايقون ما دامت الأحداث الحاصلة حولهم لا تؤثر على مصالحهم الخاصة. هؤلاء أناس مجردون من تلك القيم مثل الأمانة والأخوة و التضحية والفضيلة. فسعيهم منصب من أجل تحقيق مكاسبهم وتلبية رغباتهم الذاتية. ويقول الله عزوجل عن هؤلاء الناس: (......................)
وكما ورد في الآية السابقة فإنّ الإنسان الصالح الذي يسير وفق النهج الذي رسمه الله تعالى ويخاف ربه ويولي القيم الإيمانية مكانة مهمة ويكون متحمساً لخدمة وطنه، فإنه بالتأكيد سوف ينعم بالخير ويسود الرخاء في جتمعه. ولهذا السبب من الضروري أن يتعلم الناس الدين الحقّ و يعيشوا في ظلال القرآن. ويصف الله تعالى هؤلاء الناس أصحاب الأخلاق الحميدة: (...............)
إن القضاء الكامل على مذاهب الإنكار أمر حتميّ من أجل إنقاذ شعوب العالم من ضنك الدنيا وعذاب الآخرة. ويتعين التأكيد أنه على جميع المؤمنين مسئولية القضاء على الإلحاد عن طريق توصيل رسالة القرآن إلى جميع الناس. فمن يقول مثلا "ما دمت مؤمنا لا يهمني في الآخرين وعليهم إنقاذ أنفسهم"، هذا الأسلوب ليس هو الأسلوب الأمثل الذي يتعين على المؤمن الصادق اتباعه. والآية التالية تحمل جميع المؤمنين المسئولية كاملة من أجل إنقاذ أنفسهم و أهليهم وذويهم والناس الآخرين لأن ذلك أمر من عند الله عزوجل:(1/49)
وقد يطرح بعض الناس على أنفسهم أسئلة من قبيل" تُرى هل لديّ القدرة الكافية حتى أقاوم الإلحاد ؟" وهذا التساؤل فيه استنقاص للنفس من جانب، وهو من جانب آخر من وساوس الشيطان التي تدفع المؤمن إلى تضييع الوقت وتعيقه عن نشر رسالة القرآن. وكما سبق شرح ذلك، فإن محاربة الإلحاد تتطلب عرض بطلان فلسفات الإنكار والإلحاد وذلك بتقديم الدلائل العلمية القاطعة التي تفند مزاعم أهل الإنكار. و في مثل هذه الجهود المهمة يمكن لكل شخص أن يقدم شكلا معينا من الخدمات. والذين يكونون غير قادرين على المشاركة بصورة فعالة يجب عليهم على الأقل دعم الأفراد الذين عاهدوا أنفسهم على القيام بهذا العمل. فعلى سبيل المثال؛ إنّ توفير السبل الكفيلة بنشر الكتب و المقالات التي تتناول موضوع النضال ضد التيارات اللاإيمانية و شرح الأفكار الواردة في هذه الكتب ونشر الحقائق التي تفند هذه الاعتقادات الباطلة تُعتبر من بين الطرق لمكافحة تيارات الإلحاد والإنكار.
ويجب أن نتذكر، كما بين بديع الزمان سعيد النّورسي " أنّ قبول الجهل لا يختلف عن الجهل ذاته، وقبول الخطأ والجهل والشر هو خطأ وجهل وشر"(1) ولذلك فهؤلاء الذين يلتزمون الصمت ولا يكافحون التيارات اللاإيمانية رغم توفر الوسائل من أجل القيام بذلك بل ويعيقون، سواء بعلم أو بغير علم جهود الآخرين الذين يتصدّون لتيارات الإنكار بدلاً من دعمهم، إنهم بذلك يساعدون أعداء الإيمان وييسرون تحقيق أهداف الشّر.(1/50)
إن المؤمن الصادق لا يمكن أبدا أن يقف على الحياد في مثل هذه الأمورالخطيرة. ففي ضوء تعاليم القرآن الكريم يظل المؤمن المخلص على درجة كبيرة من الحذر والقوة والعزيمة. إن المؤمن لا يمكن أن يتحمل مشاهد الظلم التي يشاهدها كل يوم في العالم؛ جوع وفقر وتشرد وبؤس لا حدود له وخاصة في بلاد المسلمين. هذه الأوضاع لا بد أن تستثير ضمير الإنسان المؤمن وتحفزه على التحرك الفاعل. فعلى سبيل المثال هناك ملايين المسلمين الذين يعانون من الظلم في كشمير وتركستان الشرقية وفلسطين، وما نقموا منهم إلا لأنهم مؤمنون موحدون.
وفي السنوات الأخيرة تعرض المسلمون في كوسفو والبوسنة لاضطهاد شديد، وقتل مئات الآلاف من الناس بوحشية أمام أنظار العالم، وطرد كثيرون أخرون من بيوتهم وأراضيهم. ولم يقتصر هذا الظلم على بلاد المسلمين بل كان ذلك في أجزاء أخرى مختلفة من العالم، فهناك مجتمعات تعاني أيضا من ظلم التيارات الإلحادية. ففي روسيا نشأت أجيال من الملحدين عبر السنين، وسرعان ما انتشر الكفر والإلحاد.(1) فصاحب الضمير الحي لا يمكن أن يتغافل عن الحقائق المفزعة التي يراها من حوله، بل عليه أن يكون مستعدّا من أجل الدفاع عن حقائق الدين والإيمان والوقوف في وجه تيارات الإلحاد والإنكار.(1/51)
إن الطريقة الأكثر فاعلية للقضاء على الإلحاد، بدون شك، هي الطريقة التي اتبعها نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث كان الناس يعبدون الأصنام. كان الناس في عهده يصنعون أصناما بأيديهم ويعبدونها ويلتمسون العون منها، وقد مارست العديد من المجتمعات هذه الأعمال عبر التاريخ. ولقد ذكر نبي الله إبراهيم عليه السلام الناس بأن هذه الآلهة التي يسجدون لها لا تغني عنهم شيئا، بل هي لا تستطيع أن تمنع عن نفسها الأذى إذا حل بها. وملاحدة عصرنا أيضا يتخذون الذرات غير الحية والطبيعة الجامدة فاقدة الإدراك والوعي آلهة لهم يعبدونها من دون الله، فهم يعتقدون أن تلك الذرات تلتقي مع بعضها البعض وتقوم بتنظيم نفسها بنفسها في نظام تام محكم غاية الإحكام.
إنّ الطريقة التي اتبعها إبراهيم عليه السلام لإنقاذ قومه وتخليصهم من معتقداتهم الباطلة وتنبيههم من غفلتهم قد قصها علينا القرآن الكريم في أسلوب بديع: "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" (الأنبياء: 52- 54)
وعندما رأى إبراهيم عليه السلام أن أباه وقومه كانوا يجهلون الحقيقة قام بوضع خطة للقضاء على آلهتهم كما هو مبين في الآية السابقة. فعندما كان الناس بعيدين حطم إبراهيم عليه السلام الأصنام التي يعبدونها وشرح لهم الحقيقة بأن تلك التماثيل التي لا حياة فيها غير قادرة على فعل أيّ شيء على الإطلاق و لا طاقة لها على خلق شيء.
وبعدما رجع الناس، سألوا إبراهيم عليه السلام، وكانت إجابته في غاية الأهمية وقد كشفت التناقض الموجود في مواقفهم: "وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ" (الأنبياء: 57- 58)(1/52)
ويملك أنصار نظريّة التطور وأنصار النظرية المادية في يومنا هذا عقلية مشابهة تماما لتلك العقليات القديمة. فعندما نتأمل في ذلك بعقل متفتح، نجد أن جميع أتباع نظرية التطور متفقون على أن الحياة أكثر تعقيداً من القول بأنها وجدت بطريقة المصادفة. كما يتفق هؤلاء العلماء على حقيقة أن الحياة لا بد وأن يكون لها بداية، بمعنى أنها لم توجد منذ الأزل. ولكن رغم هذه الحقائق، فهم يحتفظون بموقفهم المعاند للحق، مثل عبدة الأوثان في عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، وعدم تركههم لآلهتهم رغم كونها آلهة باطلة. ولفهم هذه المسألة يكفي الإشارة إلى بعض اعترافات أتباع نظرية التّطور. ريتشارد لونتين، وهو اختصاصي في علم النسل الوراثي من جامعة هارفارد، وأحد أنصار نظريتي التطور والمادية يشرح لنا موقفه وموقف آخرين معه من أنصار المذهب المادي كما يلي: (.........)
مثلما يوضح د. م. س. واتسون العالم في علم الحيوان والبريطاني الجنسية وأحد أنصار نظرية التطور لماذا لايزال أتباع نظرية التطور يدافعون عن تلك النظرية رغم فقدانها الدلائل العلمية التى تدعمها: (.........)
وتكون الإجابة على هؤلاء هي نفسها الإجابة التي رد بها نبي الله إبراهيم عليه السلام على قومه والتي وصفها لنا القرآن الكريم، فقد كان رده عليهم مفاجئا لعقولهم ودافعا لهم من أجل التأمل والتفكير: قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ" (الأنبياء: 62- 65)(1/53)
فإبراهيم عليه السلام حطم أصنام الوثنيين وقضى على أساس الكفر بإظهار غبائهم، والمؤمنون في عصرنا كذلك عليهم أن يعملوا على كسر أصنام العصر وإبطال مفعول الإلحاد، وسوف يتم بيان الطرق التي بواسطتها تحارب تيارات الإنكار.
تفرض الدوائر المادية أفكارها على المجتمع، وفي الوقت نفسه تفترض موقفاً معاديا للدّين. ولإضعاف الثقه به تقوم ببث المفاهيم المشوهة فيما يتعلق بالإسلام، وهي مفاهيم بعيدة كل البعد عن التعاليم الحقيقية للدين، فقد أدخلوا فيها الشرك والخرافات.
إن القرآن الكريم هو وحي الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو لا يحتوي على أيّ تناقضات أو أخطاء، وهي حقيقة لابد من تبليغها للناس بوضوح وبواسطة الدلائل القاطعة. ومن الضروري أيضاً أن يعرف الناس الحقائق المتعلقة بالوحي. وقد أكد النورسي أن أفضل الطرق في مجابهة الفلسفات المادية والرد على المذهب الطبيعي هو شرح حقائق القرآن الكريم.
ومن هنا يصبح من الضروري إطلاع الناس على حقائق الداروينية وتوعيتهم بمخاطر هذا الفكر، وبمخاطر الذين يعتقدون أنّ الدّاروينية تمثل حقيقة علميّة، والذين ينكرون القيم الدينية ولا يعترفون بالله تعالى. فهؤلاء يمكن أن يقبلوا المعتقدات الدّاروينية التي تصنع أشخاصًا من السّهل عليهم قتل الأبرياء أو الثورة ضدّ بلادهم رغم أنهم كانوا مواطنين مسالمين. فتوقيرهم لقادة أمثال لينين وستالين وماو تسي تونغ، وهم قادة اشتهروا بارتكاب المذابح الدّامية، واحترامهم لنظرية دارون التي ترى أنّ أصل الإنسان حيوان يمثل انحرافا عن الاعتقاد الصحيح واتخاذا لآلهة أخرى من دون الله، يقول تعالى:(1/54)
"وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" (البقرة: 205- 206)
"وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" (الرعد: 25)
"وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (النحل: 76)
"الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج: 41)
وسائل مكافحة أديان الكفر
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم: 66)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالماً او مظلوماً" فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: "تحجزه – أو تمنعه – من الظلم فإن ذلك نصره"(1).
... تتعلق الموضوعات التّالية بهذا الواجب المهمّ والطريقة التي يجب أن تتبع في ضوء الآيات القرآنية.
القضاء على أصنام الكفر
__________
(1) رواه البخاري و مسلم(1/55)
"قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ" (الأنبياء: 62- 65)
اعترف قوم إبراهيم أنهم مُدركون لهذه الحقيقة (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاءِ يَنْطِقُونَ)، فهم يعرفون جيداً بأن هذه الأصنام غير قادرة على فعل شيء وأنها لا تستطيع خلق هذا النظام الكامل الذي يتميز به الكون كله. ولكنهم ظلوا عندما اتخذوا تلك الأصنام آلهة يعبدونها من دون الله تعالى التزاما بمعتقدات أجدادهم الأقدمين.
"ليست المناهج والمؤسسات العلمية هي التي ترغمنا في بعض الأحيان لقبول التفسير المادي للعالم، بل على العكس من ذلك فنحن مضطرون، وفقاً لالتزامنا بالنظرة المادية إلى العالم لخلق أدوات للبحث ومجموعة من المفاهيم التي تعمل على تقديم التفسيرات المادية، بغض النظر عن مدى مطابقتها للحقيقة، وبغض النظر عن التشويش الذي يمكن أن تحدثه في الأذهان. فالمادية تمثل شيئا مطلقا، ولا يمكن أن نسمح بالتفسيرات الإلهية للعالم".(1)
"إذا كان الأمر كذلك، فهي ستكون خطاً موازياً لنظرية التطور في حد ذاتها، وهي نظرية مقبولة بصورة آلية، ليس لأنه بالإمكان إثبات صحتها بالدلائل المنطقية والعلمية، وإنما لأنّ البديل الوحيد وهو الخلق يجب أن يبقى مستبعدا".(2)
وتوضح العالمة البريطانية المعروفة "شندرا ويكراماسينغا" كيف يُشترط على الشخص الشّرك بالله تعالى:(1/56)
"تعرضت لغسيل مخ حاد منذ بداية تدريبي كعالمة للاعتقاد بأن العلم لا يمكن أن يكون متوافقا مع أيّ نوع من أنواع الخلق، ولقد نسفت هذا التّصور بكل ألم. و في هذه اللحظة، لا أستطيع أن أجد أيّ جدل عقلي يعارض الرّأي الذي ينادي بالاعتراف بالله. فنحن تعودنا على أن نتعامل بعقول مفتوحة، والآن نحن ندرك أن الخلق هو الجواب المنطقي الوحيد للحياة، وليس التخبط العشوائي المبني على المصادفة، والذي لا يحتوي على أيّ إتقان".(1)
تبين الأمثلة المذكورة سابقا بوضوح أنه يتعين على علماء نظرية التطور الالتزام من حيث الاعتقاد بنظرية التطور التي أساسها "النظرة المادية" وذلك من أجل رفض فكرة الوجود الإلهيّ، رغم إدراكهم ببطلان هذه النظرية. وهؤلاء الأفراد هم الذين يقودون العالم اليوم.
"قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الأنبياء: 66- 67)
الوعي بالأفكار التي تدعو لها الحركات الإلحادية
من الضّروري على كل شخص أن يعرف حقيقة الحركات اللاإيمانية وحقيقة منهجياتها ومفاهيمها التي تهدف إلى القضاء على القيم الأخلاقية، وهذا يمكِّن الإنسان من إظهار المنطق الخاطئ والأساس العقلي المنحرف الذي يتناقض مع العلم والعقل. ويمكن بسهولة كشف الأساس الواهن الذي ترتكز عليه تلك المنهجيات مع خروجها عن التناسق المنطقي فكراً وعملاً، كما يمكن لذوي الوعي والإدراك الذين لديهم معرفة عميقة بشأن المنهجيات الإلحادلة توقّع الأضرار المحتملة التي يمكن أن تحلّ بالأمم، وبذلك يتسنى لهم اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة.
إثبات عدم صحة نظرتي التطوّر والمادية بالأدلة العلمية(1/57)
في بداية هذا الكتاب تمّت الإشارة إلى أن المادية هي من أشدّ المناهج خطورة على العقائد، وما جعلها أكثر تميزاً وأكثر فاعلية عن المناهج الباطلة الأخرى هو تقديمها تحت غطاء "العلم". وبينما تعتبر الوثنية بأنّها بدائية، نجد أنّ نظريتي المادية والتّطور (رغم عدم وجود فرق جوهري بينهما) قد اكتسبا هالة علمية باطلة. وبالتالي، فإنه من الضروري كشف حقيقة أن هاتين النظريتين تتناقضان بالفعل مع العلم والمنطق.
كما إنه من الضروري بيان أنّ الحجج التي تقدمها نظرية التّطور قد تم تصميمها من أجل خداع عقول النّاس. و لتحقيق هذا الأمر، يجب أن يتابع المرء نتائج الأبحاث العلمية الحديثة بدقة ويدحض، على أسس علمية، الأدلة التي تعتمد عليها نظرية التطور في كل جانب من جوانب العلم، وذلك بتقديم الأدله المقنعة. والأجزاء الأخيرة من هذا الكتاب تقدم أمثلة عن هذه الأدلة.
وفي الواقع، هناك عدد محدود من الحجج التي يستند إليها أصحاب نظرية التطور، وهي حجج باطلة، ويظهر ذلك منذ الوهلة الأولى. وهذه الحجج غالباً ما يتمّ شرحها بواسطة أناس يستخدمون المصطلحات العلمية، ويتم تقديمها إلى عامة الناس تحت ستار "العلم"، وبذلك ينخدع البعض بهذه الدلائل. بيد أنّ جميع هذه الطروحات تكون مليئة بالعبارات غير المفهومة والمصطلحات الغامضة التي لا تستند إلى أية أسس علمية. والعالم كله اليوم مقتنع بعدم منطقية الدّاروينية، ومن الضّروري إعلام الناس بهذه الحجج وتعليمهم إياها وتحذيرهم من هذا الخطر. ومن الواضح أنّ هذا العمل يتطلب جهدا كبيرا، فيجب على كل مؤمن الجهاد للمشاركة في هذه المسئولية العظيمة.
إبلاغ الدين الحق المعروض في القرآن(1/58)
الدّين الحق يختلف تماماً عن المفاهيم السيئة التي روجتها بعض الدوائر عن الدّين، ولذلك فإن رسالة الدين الحق التي جاءت في القرآن لابدّ من توصيلها إلى الناس بحماس وشرحها لهم شرحا مفصّلا. وقد ذكرنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنفع الذي يعود على المؤمنين من هذه المعرفة بقوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1)
إن العلاج الوحيد للتهديدات والمخاطر المترتبة عن الإنكار والإلحاد والفوضوية والمادية: هو الالتزام بحقائق القرآن الكريم. غير أنّ اللعنة التي حولت دولة عظمى مثل الصين إلى الشيوعية في فترة وجيزة من الزّمن لن تستطيع المعايير السياسية والمادية وحدها التغلب عليها، ولا يمكن القضاء عليها سوى بواسطة حقائق القرآن الإيمانية.(2)
فهؤلاء الذين يلتمسون الإيمان الراسخ ويبحثون عن السّيف الذي لا يُكسر والذي بواسطته يمكن مواجهة الإلحاد مهاجمة الكفر والفوضوية يجب الرجوع إلي " العلامه العليا"(3)
إن الفوضوية هي النتيجة المباشرة للنزعات اللاإيمانية والتيارات الشيوعية والإلحادية، وإنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقف ثابتاًً صامدا أمام هذه التيارات المخيقة هو الإسلام في تكامله ووضوح حقائقه. (4)
شرح الدلائل التي تثبت وجود الله
__________
(1) رواه البخاري ومسلم(1/59)
وجود الله تعالى أمر لا شك فيه لمن أعمل عقله، فدلائل وجوده تعالى لا تحصى ولا تعد، وهي موجودة في جميع المخلوقات، وقدرته وحكمته واضحتان لا تخفى على ذي إدراك سليم. ورغم ذلك ولسنوات عديدة اتجه كثير من الناس نحو مذهب إنكار الوجود الإلهي وبثّ العديد من الشكوك. لذا، ومن أجل نزع الكبر الراسخ في عقول الناس من الضّروري بيان الدلائل العلمية على الوجود الإلهي. وعندما يتأمل كلّ إنسان في أدقّ عناصر تركيبة جسمه يمكن أن يشهد الخلق المُبدع لله عز وجل. ولذا يجب بذل أكبر الجهود من أجل بيان هذه الحقائق وتوضيحها للآخرين وإثبات أن هذا التصميم الدقيق لا يمكن أن يكون نتيجة للمصادفة، ويمكن أن يتمّ ذلك عن طريق المنشورات والوسائل المرئية.
وهناك العديد من الأفراد الذين أصابهم ضعفٌ روحيّ شديد لدرجة أنهم فشلوا في رؤية أشد الحقائق وُضوحًا، ويمكن إيقاظهم من غفلتهم عن طريق الجهود الجادة. فالشخص الذي لا يصدق أنّ الخلق الكامل للكائنات التي توجد في كل مكان هي من قبل المصادفة لا خطر عليه من الإلحاد والإنكار، وعندما يؤمن بالله سوف يتفهم أنه مسئولٌ أمامه في كل صغيرة وكييرة وأن عليه العيش وفق ما يرضيه سبحانه وتعالى.
وفي العديد من آيات القرآن، يدعو الله الإنسان للتفكر والتأمل في مخلوقاته التي خلقها وأن يستخلص الدروس من ذلك، يقول تعالى:
"أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ" (ق: 6- 11)(1/60)
"وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" (الضحى: 11)
وفقاً لهذه الآية، يجب على المؤمنين باستمرار شرح وتفسير النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، وذلك عن طريق أكثر طرق الاتصال فعالية. ولقد شجع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على حمل هذه الرسالة وتبليغها بقوله: "إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير" (1)
الأخلاق التي بينها لنا القرآن
القرآن الكريم يحثّ الإنسان على الاتصاف بجملة من الأخلاق مثل العدل وحب الخير والعطف والرحمة بالآخرين، وأمره بأن يهتم بشئون غيره والإحسان لهم وتقديمهم على نفسه في قضاء مصالحهم، و أمر كذلك بضرورة الاحترام وإبداء الولاء للوطن والمحافظة الأمن والسلام وفض النزاعات بين الناس بالتي هي أحسن والإحسان إلى الفقراء والمستضعفين والتفاني في القيام بالعمل و بذل الوسع في سبيل كسب رضا الله عزوجل. وليس من شك في أن المجتمع الذي يلتزم بهذه القواعد والمبادئ ينال السعادة في الدنيا والآخرة.
إنّ أكثر الناس لا يفهمون الدّين الحق الذي يعلمنا إياه القرآن الكريم، ولذلك فهم في حاجة إلى معرفة الخير العميم الذي يضفيه هذا الدين على للحياة. و يجب على المؤمنين أن يعلّموا الناس أنّ العيش في رحاب الدين الحق هو أسهل الطرق لنيل السعادة وأن أخلاق الدين هي الأكثر ملاءمة لميول الإنسان الطبيعية. فالقرآن الكريم يقدّم حلولاً لجميع مشاكل العالم، فالله عزوجل يوضح لنا سبب نزول القرآن الكريم:
"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل: 89)
اتحاد أصحاب الوعي والإدراك
__________
(1) رواه الترمذي – صحيح(1/61)
يجب على المؤمنين أن لا يكتفوا ببذل الجهود المستمرة لمكافحة الإلحاد بل عليهم أيضا أن يتحدوا لحماية دولهم وشعوبهم من المخاطر الناتجة عنه. فكلما كثر عدد الملتزمين بخدمة هذه القضية كان القضاء على الإلحاد أسرع، فالوحدة تجلب القوة المادية والروحيّة لأصحاب الإيمان. وهناك العديد من الآيات التي يأمر فيها الله تعالى المؤمنين بالاتحاد ونبذ الشقاق:
"وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال: 46)
وفي آية أخرى يحذر الله تعالى المؤمنين بأن النزاع بينهم سبب لوقوع الفتن والضعف في صفوفهم:
"وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ" (الأنفال: 73)
وكما هو مذكور في هذه الآية، سوف يُحاسب المُسلمون الذين ينشغلون في النزاعات والخصامات، وبالتالي يعوقون الآخرين عن القيام بالأعمال الحسنة. فصراعهم لا ينصبّ ضدّ الظالمين والمستكبرين الذين ينكرون دين الله والذين يسعون إلى تحطيم المجتمعات ودمارها. ولقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهمية الوحدة في كثير من الأحاديث من ذلك قوله:
عن أبي موسى الأشعاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه.(1)
على المؤمنين أن يدعموا بعضهم البعض ويحثوا بعضهم البعض من أجل تقديم الخدمات المفيدة للمجتمع. ومثلما بين بديع الزمان سعيد النورسي يجب على المؤمنين التضامن بواسطة المشاعر الأخوية:
__________
(1) رواه مسلم(1/62)
"أيها المؤمنون، إذا لم تكن لديكم الرغبة في دخول ظلمات العبودية المذلة فاستعيدوا مشاعركم المُتوقدة واتخذوا من قول الله عز وجلّ حصناً لكم في قوله تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات: 10) من أجل الدّفاع عن أنفسكم أمام هؤلاء المعتدين الذين يستغلون فرقتكم، وإلا لن تستطيعوا حماية حياتكم ولا الدفاع عن حقوقكم. من الواضح أنه إذا تصارع بطلان فكلاهما يصبح ضعيفًا لأن قواهما سوف تُنهك. ولو وُضع جبلان على ميزان، ثم أضيفت حجرة صغيرة لأحد الكفين فلا بد أن يرجح على الكفة الأخرى. إذن، أيّها المؤمنون، يمكن أن تضعف قواكم ضعفا شديدا نتيجة التخاذل الذي يعتري عزائمكم، وبالتالي تكون هزيمتكم بواسطة أضعف القوى. فإذا كان لديك اهتمام بالتكافل الإجتماعي، فاجعل مبدءك في الحياة هو ذلك المبدأ السامي الذي يقول: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". وحينئذٍ، سوف تنجو من الذل في هذه الدنيا ومن الشقاء في الآخرة". (1)
الوسيلة التي نصح بها بديع الزمان لمقاومة الإلحاد
كان بديع الزمان سعيد النورسي يخبر المؤمنين في العديد من كتاباته عن الطرق التي يتعين اتباعها عند مقاومة الإلحاد ةالإنكار، وفي هذا المجال يقول رحمه الله تعالى:
"إن عدوّنا هو الجهل وفرض المفاهيم الخاطئة والشقاق. وسوف نتصدى لهؤلاء الأعداء بالجدّ والعمل والتعاون".(2)(1/63)
فالعدو الأوّل هو الجهل، ومن الضّروري التأكد أنّ الناس أصبحوا مدركين لحقيقة التهديدات التي تحيط بِهم، ففي المجتمع الإسلامي نجد أنّ أغلب النّاس متديّنون، فهم يؤمنون بالله تعالى وبدينه. غير أنّ العديد من المسلمين غير مدركين للتهديدات التي تتربّص بالدّين وبالقيم الرّوحية. فعلى سبيل المثال، كثير من الناس يجهلون نظرية التّطور وأهدافها لدرجة أن بعضهم يمكن أن يقول: "أنا متديّن، وفي الوقت نفسه أعتقد في نظرية التطور". وهناك من لديه إيمان مخلوط بالخرافات والمعتقدات الباطلة مثل تناسخ الأروح وانتقالها من جسد إلى آخر. فيجب القضاء على هذه المعتقدات الباطلة ونشر المعرفة والوعي في أسرع وقت.
أما العدو الثاني الذي شخّصه بديع الزمان فهو فرض المفاهيم الخاطئة؛ بمعنى ترويج الأفكار الغريبة وأساليب الحياة المغلوطة التي لا علاقة لها بالدين على الناس واعتبارها خيارا لا بديل عنه. فعلى سبيل المثال، يتم فرضُ نظريّة التّطور من خلال وسائل الإعلام والكتب المدرسية ومن خلال المدارس، وتُعرض باعتبارها حقائق ثابتة. ويبيّن بديع الزمان أنّ نظرية التطور قد أنشئت على أساس افتراض شروط خطيرة، ويتم الترويج لها بواسطة عبارة مفادها أن "نظرية التطور هي العلم". و قد تم بالفعل تلقين هذا المذهب بصورة كبيرة وأصبح إنكار نظرية التطور إنكارًا للعلم نفسه. و في مواجهة هذه المزاعم والتلفيقات من قبل أنصار نظرية التطوّر ودوائر الماديين من الضّروري إفهام الناس عدم صحة هذا المنهج الخطير. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق نشر الكتب والإصدارات المختلفة، وعن طريق وسائل الإعلام المختلفة.(1/64)
وآخر عدو ذكره النورسي هو الشقاق، وهو يمثل تهديداً خطيرًا في عصرنا الحاضر، والأمر ليس هينا عندما تنشأ الخلافات بين المسلمين في العديد من القضايا. فعندما يفشل الناس في الوصول إلى حلول لتلك المشاكل تتحوّل تدريجياً لتصبح سببا في نزاعات مستفحلة. فيجب بيان الحقيقة في ضوء الدلائل العلمية للوقوف ضد هذه المخاطر، كما يجب شرح الحقائق المتعلقة بأصل الحياة بصورة واضحة. ويمكن أن يقود ذلك العديد من أتباع التيارات المادية ودعاة نظرية التطور إلى تغيير وجهتهم في الحياة والاهتداء إلى الحقيقة وبالتالي سلوك الصّراط المستقيم.
وفي الوقت الذي يوصي فيه بديع الزمان باتباع تلك التدابير إزاء هذه التهديدات، يؤكد أيضاً على بعض العوامل المساهمة في النجاح. وأوّل هذه العوامل هو الإبدع، والذي يلعب دوراً مهما في مكافحة الإلحاد. وفي هذا السياق فإن كلمة "إبداع" لها مدلولات كثيرة، فإنّ القدرة على كشف خلق الله البديع هو من أهمّ الواجبات التي يتعين القيام بها. إذن، فالوضوح وبساطة الأسلوب وكذلك استخدام الصّور في المنشورات المختلفة أمر ضروري لبيان الحس الرفيع لدى المؤمنين.
إن اعتماد الحكمة في التفسيرات الشفاهية هي مظهر من مظاهر الإبداع في تبليغ الحقيقة. فالاستخدام الفعال للغة أمر مهمّ للتأثير في المتقبّل، وهذا على نقيض ما نجده لدى أنصار نظرية التطور، فهم يقومون بتوظيف المصطلحات شديدة التعقيد والغموض عند شرح ما يسمونه بنظرية التطور "العلمية". فالبساطة في استعمال اللغة عامل يساعد الناس على فهم القضايا المتعلقة بالإيمان وتقبل الحقائق بسهولة. فالبساطة التي ذكرها بديع الزّمان صفة امتدحها الله تعالى واعتبرها صفة من صفات عباده المخلصين والتي تتجلّى فيها أمانتهم وإخلاصهم. فتحديد المواضيع التي يجب شرحها للناس وفقاً لاحتياجتهم والسّبل التي من خلالها يتم إطلاعهم عليها تمثل أمورًا مهمّة وسمات راقية لذوي الوعي والإدراك.(1/65)
وكان آخر نصيحة قدمها بديع الزمان تتمثل في الوحدة، فالوحدة ضروريّة من أجل توفير الأمن الاجتماعي والاستقرار للبلاد والعباد. ومن الضرورة كذلك أن يتّحد المؤمنون ضدّ هؤلاء الذين ينكرون الوجود الإلهي ويناضلون من أجل هدم القيم الروحية. ولا شك أن التعاون والتكافل يساعد على عدم تحقيق الأهداف التي يسعى إليها أنصار الإلحاد والإنكار. والقول بأنه "لم يعد للداروينية أي تأثير" أو "هل مازالت هناك حاجة للرد على الداروينية" أمر يحتوي على مضار كثيرة، بل إن هذه الأقوال قد تتسبب في خلق نزاعات عن غير قصد.
فلابد أن يستمر المخلصون من الناس الذين يتمنون الخير لبلادهم ولإخوانهم في الكفاح حتى يتم القضاء بشكل نهائيّ على الداروينية إذ أنها مازالت إلى حد الآن منتشرة على نطاق واسع في الأوساط العلمية. ورغم أنّ أتباع نظرية التطور يقدمون حججهم بعناية كبيرة إلا أنها ليست مقنعة بالمرّة. وعندما يتم القضاء تماماً على العداء ضدّ الدين، فحينذاك يمكن القول بأنه تم التخلص من تلك المعتقدات الخاطئةً. يأمر الله عز وجل في القرآن الكريم المؤمنين بمواجهة الإلحاد والإنكار:
"وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (الأنفال: 39)
الحقيقة التي تهزم أديان الإلحاد
يوضح هذا الفصل سرًّا مهمّا في الحياة، ولذا يجب قراءته قراءة متأنّية، فهو موضوع يهدف إلى إحداث تغيير جوهري في نظرة الشخص إلى العالم من حوله. إنّ موضوع هذا الفصل لا يمثل مجرّد وجهة نظر أو مجرّد نظرة فلسفية تقليدية، إنّها حقيقة يجب على كلّ شخص أن يدركها ويعترف بها، سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن، وهي حقيقه أثبتها وأكدها العلم اليوم.(1/66)
وكما تم بيان ذلك سابقاً، فإنّ أحد الأسباب المهمّة التي جعلت المُنكرين ينظرون إلى الدّين نظرة سلبيّة هو تقيمهم القائم على المعايير المادية البحتة، والافتراض بأنّ الحياة محدودة بهذا العالم، وهذا سبب تعلقهم الشديد بها، كما هو موضح في القرآن الكريم:
"إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" (المؤمنون: 37)
ونتيجة سيطرة المعايير الدنيوية يفشل أتباع التيار الإلحادي في أن يكون لديهم إدراك صحيح للأشياء من حولهم، فهم ينظرون إلى الأشياء دون ربطها بالله عز وجلّ ولا يستطيعون فهم أن جميع الأشياء موجودة بإرادته وقدرته سبحانه وتعالى. ويصف الله عزوجل النظرة الدنيوية للملحدين على النحو التالي:
"يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" (الروم: 7)
وهناك حقيقة أخرى مهمة يفشل المنكرون في فهمها، وهم بسبب ذلك يرتكبون جميع أنواع الأعمال اللاأخلاقية من أجل تحقيق المنافع الشخصية وتلبية شهوات النفس ورغباتها: فهم يفترون الكذب ويستهينون بالدين وينشرون الافتراءات ضدّ المؤمنين ويحاولون إلحاق الأذى بهم ... ، وهم لا يدركون أنّهم في حالة من الجهل الشديد حقاً، كما سيتبين في الصّفحات التالية.
Maddenin ard?ndaki sir (eklenecek)(1/67)