الحمد لله الذي خضعت لعظمته رقاب العالمين ، ولانت لجبروته عظمة العاصين ، ولا إله إلا الله الحق المبين ، القوي المتين ، ولي الصالحين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وسبحان الله الداعي إلى جنة عرضها السموات والأرضين ، المحذر من اتباع الشهوات والشياطين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كبير المعظمين ، وأول الشافعين ، وأكرم المصطفين ، وسيد البشر أجمعين ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، المرسول رحمة للثقلين ، بأعظم كتابين ، من التبديل والتحريف محفوظين ، صلى الله وسلم عليه في العالمين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين ، وأصحابه السادة المتقين ، والتابعين من المؤمنين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
شهوات داعية إلى النيران
شهوات مبعدة عن الجنان
شهوات تنزل في الدركات
شهوات تهدم الدرجات
شهوات تزيد في السيئات
شهوات تبيد الحسنات
شهوات تقود إلى العذاب
شهوات تؤدي إلى العقاب
شهوات تسد الأبواب
شهوات تبعد عن رب الأرباب
شهوات توحش القبور
شهوات تضيق الصدور
نعمة الشهوة :
إن الشهوة من نعم الله تعالى على العبد ، والمحظور فيها صرفها في المحرم ، يقول بن تيمية رحمه الله تعالى : " إن الله تعالى خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا ، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة فيه ، فإن ذلك في نفسه نعمة وبه يحصل بقاء أجسامنا في الدنيا ، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة ، وبه يحصل بقاء النسل ، فإذا استعين بهذه القوى على ما أَمَرَنا ، كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة ، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة ، وإن استعملنا الشهوات فيما حَظَرَه علينا بأكل الخبائث في نفسها ، أو كسبها كالمظالم ، أو بالإسراف فيها ، أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا ، كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته " [ الاستقامة 1/341 ] .(1/1)
إن الناظر إلى واقعنا الحاضر ، يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها ، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال ، والملبوسات والمركوبات ، والمناصب والرياسات ، والولع بالألعاب والملاهي ، قال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [ آل عمران14] .
زُيِّّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين , والأموال الكثيرة من الذهب والفضة , والخيل الحسان , والأنعام من الإبل والبقر والغنم , والأرض المتَّخَذة للغراس والزراعة ، حتى انهمك الناس في بحار الشهوات ، وتاهوا في أودية الملذات ، وكل ذلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية ، والله عنده حسن المرجع والثواب , وهو الجنَّة الباقية .
فالمسلك العدل إزاء الشهوات هو المسلك الوسط ، لأننا أمة وسطاً : بين أهل الفجور ، وأصحاب الرهبانية ؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ؛ وأهل الرهبانية ، حرّموا ما أحل الله من الطيبات ، ودين الله يراعي أحوال الناس ، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات ؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها ، لكنه يضبطها ويهذبها .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع ، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة ، إلى مواطن الأمن والسلامة ؛ مثاله : أن الله لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة ؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع ، ومن الإماء ما شاء ، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل ، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً "[ روضة المحبين 11] .(1/2)
التقدم التقني والدعوة إلى الشهوات :
إن أعداء الدين يحاربون المسلمين بسلاحين :
1- سلاح الشهوات لإفساد سلوكهم .
2- سلاح الشبهات لإفساد عقولهم .
وربما يكون استخدام سلاح أكثر من سلاح آخر في فترة محددة ، أقوى وأكبر
، فقد كان سلاح الشبهات فيما مضى قوياً ، فكانوا تارة يشككون بالقرآن ، وتارة يشككون بأحكام الإسلام ، ويستأجرون بعض الأشخاص ليبثوا بين أفراد المسلمين شبهات بوسائل عديدة ، ولكن اليوم توجهوا إلى سلاح آخر ، هو سلاح الشهوات ، وجندوا لذلك كل القوى والطاقات ، لإغراق المسلمين بهذا السلاح الفتاك ، وساعدهم على تحقيق مآربهم ، ميل النفس الإنسانية لهذه الشهوات ، وأناس من المسلمين فقدوا دينهم ، وأضاعوا هويتهم الإسلامية ، فأصبحوا أيد تنفذ مآرب اليهود والنصارى في بلادهم ، وضد أبنائهم وإخوانهم المسلمين ، فاشتروا بنقودهم النار ، التي تستعر عليهم يوم القيامة ، لأنهم دعوا إلى الفاحشة ، وذلك ببث القنوات الفضائية التي تصب جام غضب الله تعالى على العباد صباح مساء ، وقد قال الله تعالى في محكم التنزيل : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [ النور19] .
إن من يشاهد القنوات الفضائية اليوم لا يكاد يسلم من الوقوع في الشهوة ، والولوغ في مستنقعها الآسن .
قنوات تبث عبر شاشاتها أغان فاحشة ما جنة داعية للرذيلة ، نساء كاسيات عاريات ، يتميعن في الحركات ، ويتكسرن في الكلمات ، يأسرن قلوب العصاة والعاصيات .
وقنوات تبث مسلسلات هابطة ساقطة ، مشاهد عري واضحة ، ومناظر فاضحة ، وأفلام خليعة ، تخلع القلب من مكانه وتمرضه .(1/3)
ومجلات أشد مما ذكر قسوة وخطورة ، في صور فاتنة مخجلة مذمومة ، وتالله إن العاقل ليعجب كل العجب على حلم الله تعالى على عباده وهذه أفعالهم وأقوالهم ، ولكنه الله الرءوف الرحيم الغفور التواب ، الذي يمهل ولا يهمل ، فإذا أخذ ، أخَذَ أخْذَ عزيز مقتدر .
أثر الشهوات على الإنسان :
الشهوة إما أن يُحكم توجيهها فتأخذ ثمارها وإما أن يغفل الإنسان عن توجيهها فتدمر صاحبها ، يقول ابن القيم رحمه الله : " الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة :
1- فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة .
2- وإما أن تقطع لذة أكمل منها .
3- وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة .
4- وإما أن تثلم عَرَضَاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه .
5- وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير من ذهابه .
6- وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه .
7- وإما أن تسلب نعمة بقاءها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة .
8- وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك .
9- وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة .
10- وإما أن تنسي علماً ذِكْرُه ألذُ من نيل الشهوة .
11- وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً .
12- وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة .
13- وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول .. الخ " [ الفوائد206 ] .
فما أعظم خطورة الشهوات ، وما أشنع مآلها يوم الحسرات والزفرات ، فمن أرضى الجوارح باللذات والشهوات ، وترك طاعة رب البريات ، فقد غرس لنفسه شجرة الحسرات والندامات .
إياك أن تكون منهم :
إذا لم تُكبح جماح الشهوة ، ويؤخذ بزمام الرغبة الجامحة ، فإنها تقود صاحبها إلى الهلاك ، وربما تؤدي به إلى الكفر بالله والبعد عن منهجه القويم ، إلى دار الجحيم والحميم ، وهذه قصص تشيب لها الرؤوس لرجال وقعوا في الشهوة المهلكة فماذا كان مصيرهم :
القصة الأولى :(1/4)
قال ابن الجوزي : " بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له : صالح المؤذن ، أذّن أربعين سنة ، وكان يُعرف بالصلاح ، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن ، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد ، فافتتن بها ، فجاء فطرق الباب ، فقالت : من ؟ فقال : أنا صالح المؤذن ، ففتحت له ، فلما دخل ضمها إليه ، فقالت : أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة ؟ فقال : إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك ، فقالت : لا ؛ إلا أن تترك دينك ، فقال : أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد ، ثم دنا إليها ، فقالت : إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك ، فكُلْ من لحم الخنزير ، فأكل ، قالت : فاشرب الخمر ، فشرب ، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها ، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب ، وقالت : اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك ، فصعد فسقط فمات ، فخرجت فلفّته في ثوب ، فجاء أبوها ، فقصّت عليه القصة ، فأخرجه في الليل فرماه في السكة ، فظهر حديثه ، فرُمي في مزبلة " [ ذم الهوى409 ] .
القصة الثانية :(1/5)
ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين فقال : " وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله ، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم ، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم ، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن ، فهويها ، فراسلها : ما السبيل إلى الوصول إليك ؟ فقالت : أن تتنصر وتصعد إليّ ، فأجابها إلى ذلك ، فما راع المسلمين إلا وهو عندها ، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً ، وشق عليهم مشقة عظيمة ، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن ، فقالوا : يا فلان ما فعل قرآنك ؟ ما فعل علمك ؟ ما فعل صيامك ؟ ما فعل جهادك ؟ ما فعلت صلاتك ؟ فقال : اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر 2-3 ] ، وقد صار لي فيهم مال وولد " [ البداية والنهاية 11/64 ] .
القصة الثالثة :
ذهب أحد الشباب إلى إحدى دول الكفر لمعاقرة الخمور ، وتعاطي المخدرات ، وفعل الفاحشة بالمومسات ، وفي إحدى الأيام كان ينتظر عشيقته التي تأخرت عن موعد حضورها ، طرقت الباب بعد وقت متأخر ، فما إن رأها حتى شهق شهقة وخر راكعاً لها من دون الله ، وكانت هي السجدة الأخيرة في حياته ، وجيء به إلى أهله يحمل العار ، والفضيحة والشنار ، لمن كانت السجدة ؟ أكانت لله الواحد القهار ، أم لزانية بغي ؟ يا لها من نهاية مؤلمة ، وخاتمة سيئة والعياذ بالله .
القصة الرابعة :(1/6)
يقول أحدهم : ذهب ثلاثة من الشباب إلى إحدى الدول القريبة لممارسة الفاحشة ، وقد بيتوا النية السيئة لغرضهم الدنيء ، فركبوا عبارة الموت ، وبينما كانت هجرتهم إلى دنياً يصيبونها ، ونساء يزنون بهن ، ونشوة الرذيلة تدغدغ قلوبهم ، ونزوة الجريمة تعلو محياهم ، وإذا الأمواج تتقاذف العبارة ، فترمي بها يمنة ويسرة ، وإذ بالعبارة تغرق ، وغرقوا معها ، والأعمال بالخواتيم ، وكل يبعث على ما مات عليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
إنها الشهوات الإنسانية ، والنزوات البهيمية ، والغرائز الحيوانية ، الداعية إلى عصيان رب البشرية ، قال تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان44] .
يقول الغزالي : " إن الله تعالى خلق الخلق على ثلاثة ضروب : خلق الملائكة وركب فيهم العقل ، ولم يركب فيهم الشهوة ، وخلق البهائم وركب فيها الشهوة ، ولم يركب فيها العقل ، وخلق ابن آدم وركب فيه العقل والشهوة ، فمن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه ، ومن غلب عقله شهوته ، فهو خير من الملائكة " [ مكاشفة القلوب12] .
الوقاية من الشهوات :
هناك طرق ووسائل يمكن للعبد أن يتبعها في سبيل الحذر من الشهوات المهلكة ، ومن تلكم الوسائل ما يلي :
1- التربية الإيمانية المتكاملة التي تتضمن معاني التقوى والمراقبة والخوف والرجاء والمحبة ، حتى يصبح العبد إنساناً سوياً شاباً تقياً نقياً لا تستهويه مادة ، ولا تستعبده شهوة ، قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام عندما دعته امرأة العزيز لفعل الفاحشة : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ يوسف23 ] .(1/7)
دعت امرأة العزيز - برفق ولين - يوسف الذي هو في بيتها إلى نفسها ; لحبها الشديد له وحسن بهائه , وغلَّقت الأبواب عليها وعلى يوسف , وقالت : هلمَّ إليَّ , فقال : معاذ الله أعتصم به , وأستجير مِن الذي تدعينني إليه , من خيانة سيدي الذي أحسن منزلتي وأكرمني فلا أخونه في أهله , إنه لا يفلح مَن ظَلَم فَفَعل ما ليس له فعله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللّهِ ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ، فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمُ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّهَ خَالِياً ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " [ متفق عليه ] .
2- الحذر من النظرة المسمومة ، فهي رائدة الشهوة ، وسهم من سهام إبليس ، فالنظرة تولّد خطرة ، والخطرة تولد الفكرة ، والفكرة تولد الشهوة ، فاحذر هذه النظرة ، وقديماً قيل : حبس اللحظات ، أيسر من دوام الحسرات ، وصدق القائل :
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقد حذرنا الله تعالى من إطلاق النظر فيما لا يرضيه سبحانه فقال العزيز الحكيم : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور30 ] .(1/8)
قل - أيها النبي - للمؤمنين يَغُضُّوا مِن أبصارهم عمَّا لا يحلُّ لهم من النساء والعورات ، ويحفظوا فروجهم عمَّا حَرَّم الله من الزنا واللواط ودواعيهما ، وكشف العورات ، ونحو ذلك ، ذلك أطهر لهم ، إن الله خبير بما يصنعون فيما يأمرهم به وينهاهم عنه .
ثم قال سبحانه في الآية التي تليها مباشرة في حق النساء : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ، ثم ختم الله تعالى الآية بقوله سبحانه : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور31 ] ، لأن التوبة وظيفة العمر ، التوبة ملازمة للإنسان حتى مماته ، فكل ابن خطاء ، فلذلك يحتاج إلى التوبة كما يحتاج إلى الطعام والشراب ، لأن التوبة تجب ما قبلها إذا حسنت وتحقق فيها شروطها .
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رضي الله عنه قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ ؟ " فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي " [ أخرجه مسلم ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّناى ، مُدْرِكٌ ذالِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى ، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى ، وَيُصَدِّقُ ذالِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
3- التفطن لمدافعة الخطرات إذا تولدت في الذهن ، لأنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم ، ومن ثم توجب التصورات ، والتصورات تدعوا إلى الإرادات ، والإرادات تقتضي الفعل ، ولذلك فإن من راع خطراته ، ملك زمام نفسه ، وقهر هواه وشهوته .(1/9)
4- لزوم الاستقامة والسعي الجاد في تحقيقها ، والاستعانة قبل ذلك بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .
5- التعفف والاستعانة بالصوم ، فإنه يكسر جماح الشهوة ، ويخفف من لهيبها ، عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغْضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
6- المسارعة إلى الزواج ، وتحصين الفرج ، واختيار الزوجة الصالحة ، فبها تحصل العفة ، ويتزن العقل ، وتخبو الشهوة ، وكذلك المرأة تختار لنفسها الرجل الصالح صاحب الدين والخلق ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ " [ أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ] .
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَلِجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ " [ متفق عليه ] .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ " [ أخرجه ابن ماجة وغيره ] .(1/10)
7- الابتعاد عن كل ما يثير مكامن الشهوة من ألفاظ غزلية ، وكلمات فاحشة ، وقصص هابطة ، وروايات تافهة ، وفضائيات ساقطة ، ومجلات خليعة ، ومشاهد تثير الغريزة عن عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولاَ اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيِّ " [ أخرجه الترمذي وغيره ، وهو في السلسلة الصحيحة برقم 320 ] .
8- الفرار من الأماكن العامة ومنتديات الترفيه والأسواق لما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة ، فالفرار الفرار ، فإن كان لا بد وارتياد هذه الأماكن فليكن الوقت على قدر الحاجة ، مع ذكر دعاء السوق ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ : لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ " [ أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب ، وقال المملي : وإسناده متصل حسن ، ورواته ثقات أثبات ، وفي أزهر بن سنان خلاف ، وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به ، وقال الترمذي في رواية له مكان : " وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ ، وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ " ، ورواه بهذا اللفظ ابن ماجة ، وابن أبي الدنيا ، والحاكم وصححه ، وحسنه الألباني وغيره ] .(1/11)
9- النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، وهذه قاعدة لا مناص للنفس منها ، وإن كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يذكروا الله فيها ، فكيف بمن أضاع وقته وأمضى عمره في المعاصي والشهوات ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه " [ أخرجه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له ، وقال الألباني : صحيح لغيره ] ، وروي مثله عند الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
10- الدعاء ، فهو السلاح الذي لا يخون ، وخاصة في زمن يُسِّرت فيه الفاحشة ، وكُثِّرت فيه سبل الغواية ، ولا تيأس وأكثر من الدعاء ، فالله يحب الملحين ، ويغضب إذا لم يدعه ابن آدم ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كان أكثر دعائه _ صلى الله عليه وسلم _ " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقيل له في ذلك قال : " إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ " [ حديث صحيح انظر صحيح الجامع رقم 4801 ] ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى " [ أخرجه مسلم ] .
11- تذكر العقاب الأليم ، والعذاب الشديد ، في الدنيا والقبر ويوم العرض على الله ، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان 68-69 ] .(1/12)
12- الحذر من الشيطان وغوايته ، فقد تعهد بإضلال بني آدم ، وإبعادهم عن الطريق المستقيم ، قال تعالى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص82-83 ] .
13- الحذر من السير وراء الشهوات ، فإن حال من يجري وراء الشهوة كالذي يشرب من ماء البحر فلا يروى أبداً ، بل يزيد ظمؤه ؟ فتدبر ذلك أيها الأخ المبارك .
14- أعلم أن في التعلق بالشهوات فساد القلب ، وموت الضمير ، وذهاب الورع ، وسواد الوجه ، وقلة الغيرة ، ومحق البركة ، وقلة الهيبة ، وغضب الرب تبارك وتعالى ، فإذا علمت ذلك فأقلع فوراً عن الشهوات ، وأبدلها بطاعة رب البريات .
15- تذكر سوء الخاتمة ، فليس شيء أصعب على العبد من أن يُختم له بخاتمة سيئة ، والتعلق بالشهوات واستيلائها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله .
16- المخاطر والأدواء والأوجاع قبل الممات ، فهي وربي سنة ماضية تلاحق أهل الفجور الشهوات ، جاء في الحديث : " ... لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يُعلنوا بها ، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا " [ أخرجه ابن ماجة ] .
17- تحقق العقوبة الإلهية على منتهكي أعراض المسلمين ، فالجزاء من جنس العمل ، وهذه قاعدة شرعية وسنة لا تتخلف ، ورحم الله الشافعي حينما قال :
عفوا تعفَّ نساؤكم عن المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنى دين فإن أقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
من يزن يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
من أجلك يا إنسان :(1/13)
الله جل وعلا خلق السموات وجعل فيها زينة من كل شيء ، أقمار ، وشموس ، ونجوم ، قال سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [ الحجر16] ، وقال سبحانه : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت12] ، وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق6] ، تأمل أيها المسلم كيف أن الله تعالى جعل هذه السماء زينة ، وأودعها من كل خلق عظيم ، دعوة للتفكر في عظيم خلقه سبحانه ، قال تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } [ الروم8] ، فلا يظنن ظان ، أو يعتقد معتقد أن الله تعالى خلق السموات والأرض عبثاً ، أو باطلاً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، بل خلقتا لحكم عظيمة ، وغايات سامية ، ربما لا يدركها عقلنا القاصر ، ولهذا حذر الله تعالى من أن يعتقد أحد أنهما خلقتا عبثاً ، فقال سبحانه : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } [ الأنبياء16] ، وقال عز وجل : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص27] ، وقال سبحانه : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } [ الأحقاف3] .(1/14)
فتأمل رحمك الله كيف أن السماء والأرض لم تُخلق هدراً ولا عبثاً ، بل خلقتا لأمور لو أدركتها العقول لذهلت ، ولو تأملتها النفوس لتاهت ، ولكن الله جل وعلا أعلمنا شيئاً من حكمة خلقهما .
فمن حكمة خلق السموات والأرض أن يتفكر الإنسان شدة بنائهما وإتقانه ، وفي عظمة خالقهما ، فيخبت له ويتوب إليه ويلهج بذكره وتسبيحه وحمده ، قال تعالى في سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {192} رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ {193} رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ {194} فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ {195} [ آل عمران ] .(1/15)
ومن حكمة خلق السموات أن بها النجوم التي يهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر ، وبها يحددون القبلة ، وبها يعرفون الاتجاهات الصحيحة ، فهي دليل عظيم كالبوصلة في وقتنا هذا ، قال الله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ الأنعام97] ، وقال تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل16] .
ومن حكمة خلق السموات وما فيها من زينة ، أنها تسجد لله الواحد القهار ، قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [ الحج18] .
ومن حكمة خلق السموات ، أن الشمس تشرق كل يوم من المشرق ، فإذا كان يوم القيامة أشرقت من المغرب ، فكانت علامة بارزة من علامات يوم القيامة ، ولا ينفع معها إذ ذاك إيمان ولا ندم ، قال سبحانه : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [ الأنعام158 ] .(1/16)
عن أبي ذرّ رضيَ اللهُ عنه قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ حينَ غَرَبَتِ الشمسُ : " أتدري أينَ تَذهَبُ " ؟ قلتُ : اللهُ ورسوله أعلم ، قال : " فإنها تَذهب حتّى تَسجُدَ تحتَ العَرش ، فتستأذنَ فيُؤذَنُ لها ، ويوشِكُ أن تَسجدَ فلا يُقبَلُ منها ، وتستأذِنَ فلاُ يؤذن لها ، فيقالُ لها : " ارجعي من حيثُ جِئتِ ، فتطلُعُ من مَغربها ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تَجرِي لمستقرٍّ لها، ذلكَ تقديرُ العزيز العَليم} [ يس 83] [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، { فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } [ الأنعام 158] [ متفق عليه ] .(1/17)
ومن حكمة خلق السموات أنها تُراكم السحب فتنزل مطراً تسقي به البلاد والعباد والدواب والأشجار وكل المخلوقات رحمة من الله ومنة ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف57] ، وقال سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الروم46] ، وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم48-50] ، وهناك مزيد من الحكم وليس هذا هو لُب موضوعنا .(1/18)
قال تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ{9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ{10} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت ] .
فالله جل وعلا خلق الأرض قبل السماء ، لأنها كالأساس ، والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده بالسقف كما قال الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة29] .(1/19)
أما دحي الأرض كان بعد خلق السماء ، وأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص ، وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه فإنه قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : . . . خلق الله الأرض في يومين ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والرمال ، والجماد والآكام ، وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله تعالى دحاها وقوله : { خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلق السماوات في يومين ، وهذا قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [ السجدة4] ، وفي اليوم السابع استوى تعالى على عرشه ، استواءً يليق بجلاله وعظمته وجبروته ، فهو سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى11] .
ومن حكمة خلق الأرض أن جعلها طريقاً يسير الناس فيه إلى جنة الخلد وملك لا يبلى ، فهي دار فرار لا دار قرار ، الدنيا دار ارتحال ، وليست دار إقبال .
هيأها الله تعالى لعباده بمثابة المعين على الطاعة والتقوى ، فهي وسيلة وليست غاية ، فليدرك ذلك كل مسلم عاقل فطن .
الدنيا سلم للوصول إلى غاية عظيمة يسعى لها المشمرون من هذه الأمة .(1/20)
ومن حكمة خلق الأرض أن جعل فيها الأنعام التي تحمل الناس ومنها يأكلون ، قال تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ {6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {8} [ النحل ] .
وقال سبحانه : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ غافر79] .
ومن حكمة خلق الأرض أن جعل فيها الأنهار والبحار التي تسير عبرها البواخر والسفن وتنقل الناس من مكان إلى آخر دون عناء أو مشقة لخوض المياه بالأقدام ، وخلق في كل مياه أهلها من الدواب والأسماك التي هي طعام للإنسان ، وفيها من الجواهر واللآلئ ما يستخدمونه للبس والبيع والشراء ، قال تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ لقمان10] ، وقال سبحانه : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فاطر12] ، فهي نعمة عظيمة ، تُستقبل بالحمد ، وتستوجب الشكر .(1/21)
ومن حكمة خلق الأرض أنها مكان سهل ميسر للمشي ، ومكان للأكل والشرب واللباس والتناكح والإيلاد والإيجاد ، وقدر فيها من الأرزاق ما الله به عليم ، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [ الملك15] .
ومن حكمة خلق الأرض للإنسان ما قاله تعالى : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ {80} وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ {81} فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ {82} يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ {83} [ النحل ] .
ماذا أنت فاعل :
نِعَمٌ وخيرات تترى ، يقدمها الله تعالى لعباده مجاناً ، ولا يطلبهم عليها جزاءً ولا شكوراً ، وكل هذه النعم المذللة والمهيأة ، هي وسائل لراحة بني آدم ، حتى لا يسأم من طاعة ربه تبارك وتعالى ، فكلما ذكر نعمة الله عليه ، اجتهد وجد في العبادة والطاعة ، وكما قال سبحانه : { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [ الرحمن60] ، وقال سبحانه : { لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } [ فصلت49] .
بعد هذه المقدمة المتواضعة ، أغوص وإياكم في عمق الموضوع ، وهو مقارنة نعمة الله تعالى على عباده ، مع مقدار طاعتهم وعبادتهم لربهم ، فهل يستويان في الميزان ؟(1/22)
هذا ما سنعرفه بعدما تمر بنا الحروف والكلمات والأسطر .
شُكْرُ المُنْعِمِ جل جلاله :
الله عز وجل ذلل للعبد كل صعب ، وسهل له طرق البر وعمل الخير ، وهيأ له سبل الطاعة ، ويسر مسالك العبادة ، وجعل للعبد ما تقوم به حياته في طاعة ربه ، فالعبد يأكل ليتقوى على العبادة ، وينام ما تيسر له بالنهار ليقوم بالليل ، ويلبس كي يواري سوأته أثناء صلاته ، وعند ملاقاة الناس حوله ، وهكذا دواليك .
الله عز وجل وهب للإنسان هواءً يتنفسه ، وماءً بارداً زلالاً يشربه ، ليتقوى به على عبادة ربه .
وركب سبحانه في الإنسان وظائف وأعضاء ، فهي نعم جليلة القدر ، عظيمة الفائدة ، لو فقد بعضاً منها لمات الإنسان ، قلب ، وعقل ، وشرايين ، وأوعية دموية ، وكلى ، وكبد ، وطحال ، ومريء ، وبلعوم ، ولسان ، وأذن ، وعين ، وأسنان ، وغيرها كثير ، لو فقدت نعمة البصر ، فكيف تُبصر أهلك وذويك ؟ ولو فقدت نعمة اللمس ، فكيف تشعر بخشونة الأشياء من ليونتها ؟ ولو فقدت نعمة السمع ، فكيف تسمع من حولك ، كيف تخاطبهم ويخاطبونك ؟ ولو فقدت نعمة النطق ، فأيضاً كيف تتحدث مع من حولك ؟ ولو فقدت نعمة الكلى ، فكيف ستستطيع العيش بدونها ، وكذلك الكبد ، وعلى ذلك فقس ، فهلا تفكرنا في هذه النعم التي في أجسادنا ، قال تعالى : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [ الذاريات21] .
وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى , وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم , وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه , أغَفَلتم عنها , فلا تبصرون ذلك , فتعتبرون به ؟
وفي أنفسكم آيات أيضاً من مبدأ خلقكم إلى منتهاه ، وما في تركيب خلقكم من العجائب أفلا تبصرون ذلك ، فتستدلوا به على صانعه وقدرته .
أليست نعماً عظيمة من الله ؟ فهل شكرنا الله على هذه النعم العظيمة ؟
إن من الناس من لا يعرف الله ، لا في الشدة ولا في الرخاء ، فهو منكوس الفطرة ، معكوس الخلقة ، مقلوب القلب .(1/23)
الكفار كانوا يعرفون الله في الشدة ، ويعصونه في الرخاء ، وهذا ديدنهم ، قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت65] .
فإذا ركب الكفار السفن في البحر , وخافوا الغرق , وحَّدوا الله , وأخلصوا له في الدعاء حال شدتهم , فلما نجَّاهم إلى البر , وزالت عنهم الشدة , عادوا إلى شركهم , إنهم بهذا يتناقضون , يوحِّدون الله ساعة الشدة , ويشركون به ساعة الرخاء .
وإن من المسلمين اليوم من لا يعرف الله لا في الشدة ولا في الرخاء ، لا يعرف الصلاة ، ولا يعرف عدد ركعاتها ، ولا يعرف أهمية بيوت الله تعالى ، فهذا أقبح حالاً من الكفار الذين يعصون الله في الرخاء ، ويطيعونه في الشدة .
ولذلك توعد الله أولئك العصاة من المسلمين بوعيد شديد ، وتهديد أكيد ، إنها النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ، قال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف179] .
يقول الله : ولقد خلقنا للنار _ التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة _ كثيرًا من الجن والإنس , لهم قلوب لا يعقلون بها , فلا يرجون ثوابًا ، ولا يخافون عقابًا , ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته , ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله ، فيتفكروا فيها , هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها , ولا تفهم ما تبصره , ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما , بل هم أضل منها ; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها , وهم بخلاف ذلك , أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته .(1/24)
تفكر أيها المسلم في نعم الله التي بين جنبيك ، قلب ينبض ليل نهار ، ولو توقف لفترة وجيزة لمت من فورك ، فهو نعمة عظيمة من أجل نعم الله على الإطلاق ، فهل ترى أن صلاتك لله وصيامك وزكاتك وحجك وبرك وكل أعمال الخير لديك ، تفي بقدر هذه النعمة ؟
الجواب ولا شك ، كلا ، كلا لن تفي ولو بجزء يسير من حق هذه النعمة .
النبي صلى الله عليه وعلى جلالة قدره ، وعظيم منزلته ، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال كلاماً عظيماً يسطر بماء الذهب واللؤلؤ لو تدبرناه وعقلناه ، فما أعظم عبادة النبي صلى الله عليه وسلم لربه ، يقوم أكثر الليل حتى تتفطر قدماه ، ويصوم في النهار الحار ، ويبيت الأيام والليالي وهو لم يشبع ، بل يشد على بطنه الحجر والحجرين من شدة الجوع ، دائماً لسانه يلهج بذكر ربه ، ومع ذلك صح عنه من حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " سَدِّدوا وقاربوا وأبشروا ، فإنه لا يُدخلُ أحداً الجنةَ عملُه ، قالوا : ولا أنتَ يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدَني الله بمغفرة ورحمة " [ متفق عليه ] .
فمن أنت يا مسكين حتى ترى أنك قد أجهدت نفسك في العبادة وأنت لا تعرف قيام الليل ، وإن قمت قمت بركعة أو ركعتين ، ثم ترى أن لك منة على الله ، وهو سبحانه يمن عليك أن هداك للإيمان ، ولولا ذلك لكنت من الكفار ، أهل النار .
من أنت أيها العبد الضعيف مقارنة بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، من أنت ؟ وربما غرتك نفسك ، فترى أنك صائم بالنهار ، قائم بالليل ، وأنت لا تعرف إلا صيام يوم أو يومين من كل شهر ، بل ربما من كل سنة .
أين عبادتك من ذلك الراهب الذي عبد الله خمسمائة سنة ، ولم يعص الله فيها طرفة عين ، وأترك الحديث لتقرأه بنصه :(1/25)
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفاً فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بَالْحَقِّ ، إِنَّ للّهِ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ ، عَبَد اللّه خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ في الْبَحْرِ ، عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلاَثُونَ ذِرَاعاً في ثَلاَثِينَ ذِرَاعاً ، وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةُ آلاَفِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيةٍ ، وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْناً عَذْبَةً بِعَرْضِ الأَصْبُعِ ، تَفِيضُ بِمَاءٍ عَذْبٍ ، فَيَسْتنْقِعُ في أَسْفَلِ الْجَبَلِ ، وَشَجَرَةُ رُمانٍ تُخْرِجُ لَهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ ، فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ مِنَ الْوَضُوء ، وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ، ثُمَّ قَامَ لِصَلاَتِهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ وَقْتِ الأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِداً ، وَأَنْ لاَ يَجْعَلَ لِلأَرْضِ وَلاَ لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهُ سَبِيلاً ، حَتى يَبْعَثَهُ اللّه وَهُوَ سَاجِدٌ قَالَ : فَفَعَلَ فَنَحَنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا ، فَنَجِدُ لَهُ في الْعِلْمِ أَنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَي اللّهِ ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ : أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتي ، فَيَقُولُ : رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي ، فَيَقُولُ : أَدْخِلُوا عَبْدي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتي ، فَيَقُولُ : رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي ، فَيَقُولُ اللّه : قَايِسُوا عَبْدي بِنِعْمَتي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ ، فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلاً عَلَيْهِ ، فَيَقُولُ : أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ ، فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيُنَادِي :(1/26)
رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : رُدُّوهُ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ يَا عَبْدِي : مَنْ خَلَقَكَ ، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ؟ فَيَقُولُ : أَنْتَ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ فَيَقُولُ : أَنْتَ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : مَنْ أَنْزَلَكَ فِي جَبَلٍ وَسَطَ اللُّجَّة ، وَأَخْرَجَ لَكَ المَاءَ الْعَذْبَ مِنَ المَاءِ المَالِحِ ، وَأَخْرَجَ لَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً ، وَإِنَّمَا تَخرُجُ مَرَّة في السَّنَةِ ، وَسَأَلْتَهُ أَنْ يَقْبِضَكَ سَاجِداً فَفَعَلَ ؟ فَيَقُولُ : أَنْتَ يَا رَبِّ ، قَالَ : فَذلِكَ بِرَحْمَتي ، وَبِرَحْمَتي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ ، أَدْخِلُوا عَبْدي الْجَنَّةَ ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي ، فَأَدْخَلَهُ الله الْجَنَّةَ ، قَالَ جِبْرِيلُ : إِنَّمَا الأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ الله يَا مُحَمَّدُ " [ أخرجه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ] .
نعمة البصر ترجح بعبادة خمسمائة سنة ، عَبْدٌ عَبَدَ الله خمسمائة سنة بلا معصية ولا ذنب ، ومع ذلك يدخل النار بعمله ، فكيف بنا نحن ، ونحن لم نبلغ معشار عبادته وطاعته ، لنحن من حطب جهنم لولا رحمة الله تعالى بنا ، ولطفه ومنته علينا .
فاجتهدوا بالعبادة يا عباد الله ، فأنتم لم تخلقوا إلا للعبادة والدليل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات56] .(1/27)
ومن أعظم العبادة بعد الشهادتين الصلاة ، الصلاة التي نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يودع الدنيا ، ويجود بنفسه الطاهرة ، مقبلاً على الآخرة ، بقوله : " الصلاة ، الصلاة ، وما ملكت أيمانكم " ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : " كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت : الصلاة ، وما ملكت أيمانكم ، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره ، وما يكاد يفيض بها لسانه " [ أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة ] .
نعم أيها المسلمون في كل أصقاع الدنيا ، الصلاة عماد الدنيا ، فإن سقط العماد وقع الدين وانهدم .
وهناك شهوات تبعد المسلم عن هذه العبادة العظيمة ، وتكون حاجزاً ومانعاً قوياً يمنعه من أداء الصلاة في وقتها ، أو ربما كانت حائلاً عن أدائه للصلاة بالكلية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
شهوات مدمرة ، مهلكة تؤدي بصاحبها لسوء الخاتمة ، وسيء الحال والمآل عياذاً بالله من ذلك ، وهي الشهوات التي تجعل العبد يُقصِّرُ في عبادة ربه ، وربما ترك العبادة بالكلية لأجلها ، فلنستعرض هذه الشهوات مقرونة بأدلتها :
أولاً / شهوة النوم :(1/28)
النوم نعمة من نعم الله تعالى عباده ، ولكن إذا أستغل النوم فيما يُشغل عن الطاعة والعبادة كان نقمة ، وكم من الناس المسلمين اليوم من لا نراه في صلاتي الفجر والعصر ، لقد فقدناه من أجل النوم ، فيالها من خسارة فادحة ، وفي الدين قادحة ، واسمع هذا الحديث الذي تشيب له الرؤوس ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه : هل رأى أحد منكم من رؤيا ؟ فيقص عليه ما شاء الله أن يقص ، وإنه قال لنا ذات غداة : " إنه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنهما قالا لي : انطلق وإني انطلقت معهما ، وإنا أتينا على رجل مضطجع ، وإذا آخر قائم عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه ، فيتدهده الحجر ، فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى ، قال : قلت : لهما سبحان الله ما هذا ؟ . . قالا لي إنا سنخبرك : أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر ، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه ، وينام عن الصلاة المكتوبة . . " [ أخرجه البخاري ] .(1/29)
والمسلمون اليوم واقعون في هذا الحديث إلا ما رحم ربي ، ينامون عن الصلاة المكتوبة ، لأجل الوظيفة ، تركوا الغايات وتعلقوا بالوسائل ، وغفلوا ، بل نسوا أن الأصل من خلق الإنسان هو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، والناس اليوم عبدوا الله وعبدوا معه غيره ، نسأل الله السلامة والعافية ، قال تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة238 ] ، وما هذه الفتن والمحن التي تتنقل بين المسلمين إلا نتيجة البعد عن منهج الله القويم ، وصراطه المستقيم ، وهجر سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، الذي أمر الأمة بأداء الصلاة والمحافظة عليها ، وحذر من التهاون بها أو تركها ، قال صلى الله عليه وسلم : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء ، وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما ، لأتوهما ولو حبوا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب ، إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " [ متفق عليه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن صلحت صلح له سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله " [ صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم 2573 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " [ صححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2848 ] .
ثانياً / شهوة المال :(1/30)
المال وسيلة من وسائل السعادة الدنيوية ، لكنها سعادة وقتية ، وليست سعادة أبدية ، لأن السعادة الحقيقية سعادة الإيمان ، والتمسك بالدين القويم ، فالمال وسيلة للوصول لغاية ، بينما الصلاة غاية للوصول إلى جنة عاليه ، فكم من الناس من يحافظ على أوقات عمله ودوامه ، ويهجر الصلاة ويتركها حتى يخرج وقتها ولا يبالي بذلك ، بينما لو تأخر عن عمله ولو دقيقة واحدة تراه مهتماً ثائراً ، وكأنه خلق من أجل جمع المال ، ولقد حذرنا الشارع الكريم من الانسياق وراء المال أو جمعه ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [ آل عمران10 ] ، إن الذين جحدوا الدين الحق وأنكروه , لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئًا إن وقع بهم في الدنيا , ولن تدفعه عنهم في الآخرة , وهؤلاء هم حطب النار يوم القيامة .
وقال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال28 ] ، فاعلموا -أيها المؤمنون- أن أموالكم التي استخلفكم الله فيها , وأولادكم الذين وهبهم الله لكم اختبار من الله وابتلاء لعباده ; ليعلم أيشكرونه عليها ويطيعونه فيها , أو ينشغلون بها عنه ؟ واعلموا أن الله عنده خير وثواب عظيم لمن اتقاه وأطاعه .
وقال تعالى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة85 ] ، ولا تعجبك -أيها الرسول- أموال هؤلاء المنافقين وأولادهم , إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ، بمكابدتهم الشدائد في شأنها, وبموتهم على كفرهم بالله ورسوله ، لتركهم الأوامر ، وفعل النواهي .(1/31)
وقال تعالى : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [ سبأ37 ] ،
وليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا قربى, وترفع درجاتكم, لكن مَن آمن بالله وعمل صالحًا فهؤلاء لهم ثواب الضعف من الحسنات, فالحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله من الزيادة, وهم في أعالي الجنة آمنون من العذاب والموت والأحزان .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون9 ] ، فيا أيها المسلمون لا تَشْغَلْكم أموالكم ولا أولادكم عن عبادة الله وطاعته , ومن تشغَله أمواله وأولاده عن ذلك , فأولئك هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته ، بل لهم النار يوم القيامة وبئس المهاد .
ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المال ، وبين أنه فتنة عظيمة من فتن الدنيا ، التي إن وقع بها إنسان كابد المشاق والمتاعب طول حياته ، عن كَعْبِ بنِ عياضٍ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ : " لِكُلِّ أُمةٍ فِتنةٌ ، وفتنةَ أُمَّتي المَالُ " [ أخرجه الترمذي وغيره وقال : حديث حسن صحيح ] .(1/32)
المال من أفسد الأمور على دين الرجل إلا ما رحم ربي ، لأنه سينشغل بجمعه عن أداء ما افترض عليه من العبادات ، ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تبياناً ، وضرب له مثالاً ، عن كَعْبِ بنِ مَالِكِ الانْصَارِيِّ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمِ بِأَفْسَدَ لهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ ، لِدِيِنِه " [ أخرجه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ] .
وعن عمرِو بن الحارث رضي الله عنه قال : " ما تركَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ، ولا دِرهماً ، ولا عبداً ، ولا أمةً ، إلاّ بغلتَهُ البيضاءَ التي كان يركبُها وسلاحَه ، وأرضاً جعَلها لابن السبيل صدقَةً " [ أخرجه البخاري ] .
وما أكثر الأدلة على التحذير من الاهتمام بالمال وجمعه ، أو أن يكون أكبر هم العبد في هذه الدنيا ، ولهذا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يترك شيئاً من حطام الدنيا ، بل حذر منها تحذيراً بليغاً ، وأختم بهذا الحديث :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً : ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْراً قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ ، وَاللّهِ يَا رَبِّ . وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْساً فِي الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ! هَلْ رَأَيْتَ بُؤْساً قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ ، وَاللّهِ يَا رَبِّ ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ " [ أخرجه مسلم ] .(1/33)
فمن كان للمال جامعاً ، وعن الدين معرضاً ، بل ربما حارب دين الله تعالى بالفضائيات التي يملكها ، ويبثها في عقر دار المسلمين ، للفساد والإفساد ، ونشر الفاحشة بين المؤمنين ، فلا يغفل عن هذه النصوص الشرعية ، ففيهما أعظم معتبر ، وأشد مزدجر ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [ النور19 ] .
ثالثاً / شهوة الوطء الحرام :
الشهوة كما ذكرنا نعمة من النعم العظيمة على بني الإنسان ، فإذا ما استغلت فيما حرم الله كانت وبالاً ونكالاً على صاحبها .
وشهوة الوطء الحرام تنقسم إلى أقسام :
الأول / الزنا :(1/34)
الزنا جريمة عظيمة محرمة في الإسلام ، ممقوتة عند أصحاب العقول وأولو الأحلام ، فالزنا من أبشع الفواحش ، ومن أقبح المعاصي والذنوب على الإطلاق ، ومن أعظم الجرائم ، ومن أكبر الكبائر ، لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل بسببه التعارف والتآلف والتعاون على الحق ، وفيه هلاك الحرث والنسل ، لأنه اشتمل على هذه الآثار القبيحة ، والنتائج السيئة ، ورتب الله عليه حداً صارماً وقاسياً ، وهو رجم الزاني بالحجارة حتى الموت إن كان محصناً ، والجلد والتغريب إن لم يكن محصناً ، ليحصل بذلك الارتداع والابتعاد عن هذه الفاحشة القبيحة ، فالزنا من أكبر الكبائر بعد الكفر بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فجاء التحريم مواكباً لما تقتضيه الطبيعة البشرية ، ولما يسببه الزنا من أضرار وأمراض بالغة فتاكة . فهل هناك أقبح من أن يأتي رجل امرأة لا تحل له ؟ وهل هناك أفظع من أن يضع رجل نطفته في فرج حرام لا يحل له ؟ إن الشيطان الذي زين لهم القيام بالزنا وهون أمره في قلوبهم ، وزينه في نفوسهم ، سيتخلى عنهم في ذلك الموقف العصيب الرهيب ، ومن ينفع إذا جاء الموت ، وغرغرت الروح ووصلت الحلقوم ، وبلغت القلوب الحناجر قال الله تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } .(1/35)
ولقد تضافرت الأدلة على تحريم الزنا ، وأنه لم يُحل في ملة قط ، قال تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } ، وقال تعالى :{ والذي لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهاناً } ، وقال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولاتأخذ كم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ، ومما أنزله الله تعالى ثم نُسخ لفظاَ وبقي حُكماَ قوله تعالى :{ والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم } ورد ذلك في الحديث المتفق عليه ، ومعنى الشيخ والشيخة أي (الثيب والثيبة) ، وقال تعالى :{ الزاني لاينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لاينكحها إلا زان أو مشرك وحُرم ذلك على المؤمنين } ، وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، وقال تعالى : { الخبيثت للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } ، فصاحب الزنا خبيث وصاحبة الزنا خبيثة والخبيث للخبيثة فتعساً لمن رضي الزنا والهوى ديناً يدين لله به .(1/36)
قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " [ أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " [ متفق عليه ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لايكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابُ أليم : شيخٌ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر " [ أخرجه مسلم وأحمد والنسائي ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " [ متفق عليه ] ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب ذكر منها : " أن تزاني بحليلة جارك " [ متفق عليه ] ، وحليلة جارك أي زوجة جارك ، وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا ظهر الزنا والربا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " [ أخرجه الحاكم وصحح إسناده ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يلعنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا " [ أخرجه ابن ماجة ] ، وروى البخاري رحمه الله من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : [ . . . وإنه قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة : " إنه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما قالا لي انطلق ، وإني انطلقت معهما ، . . . ، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فأحسب أنه قال فإذا فيه لغط وأصوات ، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة ، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضئوا ، قلت ما هؤلاء ؟ قالا لي : انطلق انطلق ، . . . ،(1/37)
إلى أن قال : فإني رأيت الليلة عجباً ؟ فما هذا الذي رأيت ؟ قالا لي : أما إنا سنخبرك : إلى أن قال : وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني ] وهذا هو مصيرهم في القبور إلى يوم البعث والنشور ، هذا هو منزلهم إلى قيام الساعة ، والساعة أدهى وأمرّ .
الثاني / اللواط :
أجمع العلماء على أن اللواط حرام ، وفاعله ملعون والعياذ بالله ، نقل ذلك الإجماع أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن .
وذلك لأن في اللواط شذوذ جنسي وأخلاقي وإنزال للنفس البشرية إلى منزلة البهائم بل أسفل من ذلك ، ولما فيه من انتكاس للفطر السليمة التي فطر الله الناس عليها ، وفيه حدوث علاقات جنسية محرمة بين الرجال بعضهم البعض ولما فيه من إيذان بعذاب الله تعالى إن لم توقع العقوبة على الفاعل والمفعول به ، لذا جاء التحريم شرعاً وعرفاً لفعل فاحشة اللواط والعياذ بالله .
وقد أجمع الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به ولكنهم اختلفوا في كيفية القتل .
اللواط جريمة شنيعة وفاحشة قبيحة ، ورذيلة مذمومة ، وفعلة منكوسة ، وفطرة مطموسة وفاعلها ملعون مجرم فاسق ، وممارسها منكوبٌ استحق العذاب على عظيم جرمه ، وجسيم فعلة ، ولهذا كان له عقوبة عجيبة غريبة في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة تختلف عن عقوبة بقية الفواحش والكبائر بسبب عظيم الجرم ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
قال تعالى : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين *وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } [ الأعراف 80 ـ 84 ] .(1/38)
قال القرطبي في تفسيره : واجمع العلماء على تحريم اللواط ، وإن الله تعالى عاقب قوم لوط وعذبهم لأنهم كانوا على معاص وذنوب ، ومنه الفعلة المشينة والعملة القبيحة ألا وهي اللواط ، فأخذهم الله بذلك ، ولأنه كان منهم الفاعل والراضي بذلك ، فعوقبوا الجميع لسكوت الجماهير عليه ، وهي حكمة الله وسنته في خلقه ، وبقي أمر العقوبة على الفاعلين مستمرا .
عن بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من عمل بعمل قوم لوط " [ صحيح الجامع برقم 5891 ] .
وعنه رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به " [ صححه الألباني في الإرواء برقم 2350 ] ، وعند الترمذي [ أحصنا أو لم يحصنا ] .
فاللواط ذنب عظيم ومعصيته كبيره من كبائر الذنوب التي حرمها الله عز وجل ، إذ كيف يتخذ الإنسان لقضاء وطره من هو مثله من الرجال ففيه انتكاس للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها وفي ذلك تعد لحدود الله تعالى بفعل الحرام وترك الحلال ، وفي ذلك محاربة لخالق الأرض والسماء بعدم لزوم أوامره عز وجل بل تعد إلى نواهيه سبحانه وتعالى ، وفي ذلك تشبه بالقوم الذي أنزل الله بهم عذاباً لم ينزله بأمة قبلهم ، وفي ذلك عدم خوف من شديد العقاب بالتساهل وعدم قبول ما جاء في تحريم اللواط بل وإتيان لهذا الذنب الكبير وعدم مبالاة بعقاب هذا الفعل المشين والعمل القبيح .(1/39)
وما أجمل ما قاله العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله حين قال : [ قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الفاعل والمفعول به ، وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر ، وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير فرق بين بكر وثيب ، ووقع ذلك في عصرهم مرات ، ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم ، مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرئ مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين ، وكان في ذلك الزمن : الحق مقبول من كل من جاء به ، كائناً من كان .
فإن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنا ، فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل ، سواءً كان محصناً أو غير محصن .
وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا ، ففي أدلته الخاصة ما يشفي ويكفي ] انتهى كلامه رحمه الله تعالى ، [ انظر التعليقات الرضية 3/286 ] .
الثالث / العادة السرية لكلا الجنسين :
وهذا أمر محرم لما فيه من تعد لحدود الله تعالى وقضاء الوطر في غير ما أحل الله عز وجل ، وقيل أن ناكح اليد يأتي يوم القيامة ويده حبلى ويفتضح أمره أمام الخلائق ، فانظر إلى الفضيحة ، وسوء العاقبة ، وقبح الخاتمة ، وأما دليل تحريم ذلك فهو قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المعارج ] ، يقول ابن جرير الطبري : " فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته ، أو ملك يمينه ، ففاعلوا ذلك هم العادون ، الذين عدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم فهم الملومون " [ تفسير الطبري 7/372 ] .(1/40)
ويقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله العلامة البحر الفهامة : والآية السابقة استنبط منها العلماء تحريم العادة السرية وهي الاستمناء باليد ، يعني إخراج المني بيده عند تحرك الشهوة ، فلا يجوز له هذا العمل لما فيه من المضار الكثيرة التي قالها الأطباء ، ولأنها عادة تخالف ظاهر الكتاب العزيز ، وتخالف ما أباح الله لعباده ، فيجب اجتنابها والحذر منها ، وقد جاء العلاج النبوي الكريم من نبي الرحمة والهدى للشباب ، ومنعهم مما يكون حراماً عليهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " [ رواه البخاري ومسلم ] .
ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا يستطيع الزواج أن يصوم ، ولو كان الاستمناء جائزاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما لم يرشد إليه مع يسره ، علم أنه غير جائز ، وفيه مضار تعود على البدن وعلى الغريزة الجنسية ، وعلى الفكر أيضاً والتدبير وربما تعيقه عن النكاح الحقيقي [ انظر فتاوى علماء البلد الحرام 504 ] .
الرابع / إتيان المرأة في دبرها :(1/41)
وهذه الفاحشة سميت بـ ( اللوطية الصغرى ) ، لأنها كاللواط ، وقد جاء التحريم عن ذلك في الكتاب العزيز في قوله تعالى : { فإذا تطهرن فأتوهم من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين * نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ( البقرة 222/223 ) يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : [ من حيث أمركم الله : قال ابن عباس يعني الفرج ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى ، وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر ، وقوله : نساؤكم حرث لكم : الحرث موضع الولد ، فأتوا حرثكم أنى شئتم : أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد كما ثبتت بذلك الأحاديث . روى البخاري عن جابر قال : [ كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها ـ في قبلها أي في فرجها ـ جاء الولد أحول فنزلت : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ، وروى ابن أبي حاتم عن جابر : [ أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ، فأنزل الله : : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال ابن جريج في الحديث : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ مقبلة ومدبرة إذا كان في الفرج ] .
وروى عمر ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ الذي يأتي امرأة في دبرها هي اللوطية الصغرى ] ، وعن علي بن طلق قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن ، فإن الله لا يستحي من الحق ] ( رواه الإمام أحمد ) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ملعون من أتى امرأته في دبرها ] ، وسئل بن عمر رضي الله عنهما عن إتيان المرأة في دبرها فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين .(1/42)
وتحريم إتيان المرأة في دبرها هو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم قاطبة ، وقول التابعين وغيرهم من السلف ، وأنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ومنهم من يطلق على فاعله الكفر ] [ تيسير العلي القدير لاختصار تفسير بن كثير 1/181 ] .
كانت تلك جملة من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في تحريم إتيان المرأة في دبرها لمخالفة ذلك للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، ولما كان عليه السلف من حب للعلم واهتمام به وترك للهوى والشهوات ، بعكس الحال اليوم فأكثر الناس حب للشهوات وانكباب على الملهيات ، وكره وبغض للعلم ، وعدم رغبة فيه ، بل اعتبره البعض طلاقاً بائناً لا رجعة فيه ، فهل بعد هذه الغفلة من غفلة ـ نسأل الله السلامة ـ .
فاحذر أيها العاقل من مثل هذه الأمور التي قد تودي بك إلى النار والعياذ بالله
الخامس / السحاق بين النساء :
وهذا أمر محرم لما تطلبه المرأة من قضاء الوطر بطريقة غير شرعية ، ولما في ذلك الأمر من تعد لحدود الله تعالى ، وتنكب لها إلى ما حرم سبحانه من ميل المرأة إلى مرأة مثلها ، وممارسة ذلك الأمر المحرم معها ، ولا ريب أن هذه العادات دخيلة على المسلمين في بلادهم من جراء ما اقترفوه من إحضار للأطباق الفضائية وما يسمى بالإنترنت ، والمجلات الخليعة ، والأفلام المخلة بالدين والشرف والمروءة ، فمن أدخل على أهله مثل هذه الأجهزة الهدامة فلا يلومن إلا نفسه .
ولا شك أن ما تفعله بعض النساء مع بعضهن يعتبر ذلك شذوذاً جنسياً ، وانحطاط إلى منزلة متدنية في المجتمع ، إذ لا يمكن لمسلمة أن تفعل مثل هذه الأمور التي تخالف فطرتها ، وتنم عن فساد في الطبع ، وانحلال في الخلق .(1/43)
وقد جاءت الأدلة محرمة هذه العادة ، في قوله صلى الله عليه وسلم : [ لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ] ( رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي ) ، فهذا تحذير نبوي كريم للحذر من أسباب الوقوع في اللواط والسحاق ، وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً : [ إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ] ( رواه البيهقي ) ، ومعلوم تحريم الزنا بنص القرآن والسنة وإجماع علماء المسلمين ( انظر الفاحشة العظمى للمؤلف ) ، فهذا من ذاك ويلحق به ، ولا بد لفاعليه من التعزير حتى إن وصل التعزير لدرجة حد الزنا فلا بأس لمنع هذا الداء من أن يستفحل ، لأنه ربما بعد ذلك يستحسن النساء أموراً أخرى وفواحش كبرى ، يكون تأثيرها على الفرد والأسرة والمجتمع ، ولو ترك الأمر بلا رقيب ولا محاسب ، فقد يقع بالناس عذاب الله تعالى لتركهم إنكار المنكر ، فلا بد من قطع دابر هذه الفعلة المشينة ليكن فاعلاتها عبرة لمن يعتبر .
فالزنا والسحاق يتفقان من حيث الحرمة حيث إن كلاً منهما استمتاع محرم ، ويختلفان من حيث الحقيقة والمحل والأثر . [ الموسوعة الفقهية 24 ] .
ولا خلاف بين العلماء في أن السحاق حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ السحاق زنا النساء بينهن ] ، وقد عده ابن حجر من الكبائر [ انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر ] .
فليتق الله نساء المسلمين وليحذرن من عاقبة هذا الأمر الخطير ، وليكثرن من العبادة والصيام والذكر والدعاء ، وليحذرن من الوسائل الهدامة التي تبث سمومها بين المسلمين على حين غفلة من عقولهن . وهذه لذة قصيرة قد يدوم عذابها مئات السنين في نار جهنم لو وقعت صاحبتها صريعة ميتة من جراء فعلها ، فالله تعالى للمعاند بالمرصاد ، وما الله بظلام للعبيد .
السادس / إتيان البهائم :(1/44)
وهو أمر محرم مجمع على تحريمه بين العلماء ، فيجب على المنصف الحق الطالب له أن يترفع بنفسه عن أمر قبيح مذموم مثل هذا الأمر الذي تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع السليمة ، وألا يركن إلى الهوى والشهوات ، فإنها تهوي به في مكان سحيق ، فقد وجد من ضعاف النفوس وضعفاء الإيمان من طوعت له نفسه إتيان البهيمة وممارسة الرذيلة معها ، مع قذارتها ووساختها ، فقد رضي بأن ينزل بنفسه إلى منزلة الحيوان والله تعالى قد ميزه ورفع شأنه عن شأن الحيوان ، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً ، ولكن رضي ذلك الفاسق المارق الخارج عن أوامر ربه بهذه المهانة التي وضع نفسه فيها ، بحثاً عن قضاء وطره في أمر محرم وطلباً لشهوة ما تلبث أن تزول في ثوان معدودة ثم يقاسي آلامها أياماً طويلة وأزمنة مديدة ، وقد يجد عذابها في نار جهنم ما لم يتدارك نفسه بتوبة تمحو ما سلف من ذنب هذه المعصية وشؤمها .
وقد وجد من النساء من تمارس الفاحشة والرذيلة مع الحيوانات ، وقد رضيت أن يقوم هذا الحيوان مقام الزوج الشرعي ، ورضيت أن تلد كلباً أو حماراً ، فالولد للفراش وللعاهر الحجر ، إنه والله انتكاس في المفاهيم ، وتغير في الفطر ، فالله جل شأنه جعل الرجل للمرأة والمرأة للرجل ، لا يقضي كل واحد منهما وطره إلا مع الآخر ، وفق ضوابط الشرع بالزواج الشرعي الحلال الذي تكتمل فيه جميع شروطه وأركانه ، قال تعالى : [ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ] ( الروم ) .
ولكن تبدل أولئك الظلمة الحق بالباطل ، والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار .
وجاء تحريم فعل الفاحشة مع البهيمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها ] ( رواه أحمد وغيره وصححه الألباني في الإرواء ) . وكفى بالحديث حكماً عدلاً مقسطاً لمن أراد الحق وجد في طلبه .
رابعاً / شهوة المخدرات :(1/45)
المخدرات محرمة ونقمة ، وليست نعمة في يوم من الأيام ، لأن الله حرمها في كتابه العزيز ، وجاء تحريمها في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
المخدرات سبب لإزهاق الأرواح ، فكم من شاب وشابة وجد مشنوقاً ، أو مقتولاً بيده لا بيد غيره ، بسبب الضغوط النفسية التي يعاني منها ، فكلما أفاق من المخدر احتاج للمخدر ، فتصبح حياته سوداء قاتمة ، لا طعم للإيمان فيها ، ولا لون للسعادة فيها ، فما هي إلا أشهر من الإدمان حتى يُقال فلان أو فلانة انتحر ، أو اعتدى على أحد أقاربه فأرداه قتيلاً ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } ، وقال سبحانه وتعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، خَالِداً فِيهَا أَبَداً ، وَمَنْ شَرِبَ سَمّاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً ، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً " [ متفق عليه ] .
من شديد أمر الخمر والمخدرات ما يترتب على تعاطيها من مخاطر كثيرة وعديدة منها :(1/46)
= أنها سبب لترك الصلاة : فالمدمن لا يستطيع أن يفيق ، بل كلما أفاق احتاج لجرعة ليتخلص من عذاب الضمير ، وشدة ألم الجسد ، فهذا حاله إلى أن يتوب ، أو يلقى الله بهذه الحالة المزرية ، والنهاية المؤسفة ، بل المؤسف أن شارب الخمر ومتعاطي المخدرات لا تقبل له صلاة ما دام أثرها في عروقه وجسده ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم : " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ، فَإنْ تَابَ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإنْ عَادَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ، فَإنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإنْ عَادَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ، فَإنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ، فَإنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَسَقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ " ، قِيلَ : يا أَبَا عَبْدِ الرَّحمنِ ! وَمَا نَهْرُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ [ أخرجه الترمذي وحسنه ، والحاكم وقال : صحيح الإسناد ، ووافقه الألباني رحمهم الله ] .
= تعاطي المخدرات ، وشرب الخمور ، سبب لغضب الجبار ، الواحد القهار ، لأن في تعاطيها معصية لله عز وجل ، وخرقاً لأوامره سبحانه ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ، يُعْزَفُ عَلَى رُؤُسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنّيَاتِ ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ " [ أخرجه ابن حبان وابن ماجة ، وقال الألباني رحمه الله : صحيح لغيره ] .(1/47)
= تعاطي المخدرات ، وشرب الخمور ، سبب لكل فاحشة ورذيلة ، وطريق إلى الشذوذ الجنسي والأخلاقي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجْتَنِبوا الخَمْرَ ، فَإِنّها مِفْتاحُ كُلِّ شَرّ " [ أخرجه الحاكم وغيره ، وقال : صحيح الإسناد ، وقال الألباني رحمه : حسن لغيره ] ، فمتعاطي المخدرات لا يمنعه دين ولا خلق من ارتكاب ما هو أشد منها جرماً ، وأعظم منها ضرراً ، وأخطر فتكاً ، فإذا غاب العقل الذي هو مناط التكليف ، فناهيك بما يفعله السكران ، وفاقد الوعي والعقل من الجرائم والآثام ، قالَ عثمانُ بنُ عَفَّانَ رضي الله عنه : " إِيَّاكُمْ والخَمْرَ ، فَإِنَّهَا مفتاحُ كُلِّ شَرٍّ ، أُتِيَ رجلٌ فقيلَ لهُ : إِمَّا أَنْ تُحْرِقَ هَذَا الكتابَ ، وإِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الصبيَّ ، وإِمَّا أَنْ تَقَعَ على هذِهِ المرأةِ ، وإِمَّا أَنْ تَشْرَبَ هَذَا الكأسَ ، وإِمَّا أَنْ تَسْجُدَ لِهَذَا الصليبِ ، قالَ : فَلَمْ يَرَ فِيْهَا شيئاً أهونَ من شُرْبِ الكأسِ ، فلمَّا شَرِبَهَا ، سَجَدَ للصليب ، وقَتَلَ الصبيَّ ، ووقَعَ على المرأةِ ، وحَرَقَ الكتابَ " [ أخرجه البيهقي ] .
= تعاطي المخدرات ، وشرب الخمور ، سبب للحرمان من دخول الجنان ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ، ولا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ ، ولا قَاطِعٌ رحم " [ أخرجه ابن حبان ، وقال الألباني رحمه الله : حسن لغيره ] .(1/48)
= تعاطي المخدرات ، وشرب الخمور ، سبب للعنة الله تعالى : فمتعاطي المخدرات ملعون ، لعنه الله عز وجل ، وطرده وأبعده عن رحمته ، بل لعن الله فيها عشرة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أتاني جبريل فقال : يا محمد ، إن الله عز وجل لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، ومستقيها " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح ] .
= شرب الخمر ، وتعاطي المخدرات ، غواية شيطانية ، وابتعاد عن منهج الله القويم ، وصراطه المستقيم ، خروج عن الفطرة السليمة ، والجبلة الصحيحة ، عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ليلةَ أُسرِيَ بي أُتِيتُ بإناءَينِ ، في أحدِهما لبنٌ ، وفي الآخر خمرٌ ، فقال : اشرَبْ أيَّهما شئت ، فأخذتُ اللبنَ فشرِبتُه ، فقيل : أخذتَ الفطْرة ، أما إِنكَ لو أخَذتَ الخمرَ غَوَتْ أُمتُك " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
= تعاطي المخدرات ، وشرب الخمور ، دليل على قرب وقوع القيامة ، عن أنسٍ رضيَ الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أشراطِ الساعة : أن يَظهرَ الجهلُ ، ويَقلَّ العلم ، ويَظهرَ الزِّنا ، وتُشرَبَ الخمرُ ، ويَقلَّ الرجالُ ، وتكثرَ النساءُ ، حتى يكونَ لخمسينَ امرأةً قَيِّمُهن رجُلٌ واحد " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .(1/49)
فكيف يتجرأ عبد ضعيف على مخالفة أمر ربه ، ويهلك ماله وعقله ، ويمرض جسده بغير وجه حق ، سيما وقد جاءت الأدلة والنصوص الدالة على تحريم التعرض للنفس بأي أذى ، وأن من فعل ذلك فقراره نار جهنم والعياذ بالله ، قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " كان فيمَن كان قبلَكم رجُلٌ بهِ جُرحٌ فجزِعَ ، فأخذَ سكيناً فحزَّ بها يدَه ، فما رَقَأَ الدمُ حتى مات ، قال اللهُ تعالى : بادَرَني عبدي بنفسِه ، حَرَّمتُ عليه الجنة " [ متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه ] ، هذه هي النتيجة الحتمية لكثير ممن يتعاطون المخدرات .
خامساً / شهوة المناصب :(1/50)
كم نرى من أصحاب المناصب والكراسي من يجعل كل اهتمامه بهذه الوظيفة ، فهو يقاتل ويحب ويعادي من أجل الكرسي ، حباً في الدعة والراحة وجمع المال ، وطمعاً في الأوامر والنواهي والطرد والقبول ، فتراه يقضي وقتاً ليس بالهين في مكتبه ، يُعد المعاملات والتوجيهات ، ويرد على الخطابات ، ويستقبل الاتصالات ، ويقرأ الفاكسات ، وربما أذن المؤذن لصلاة الظهر وأقيمت الصلاة وصلى الناس وخرجوا من المساجد وهو لا يزال مهتماً بكرسيه وما يحويه ، وربما صلى الموظفون في دائرته جماعة وخرجوا بعد نهاية الدوام الرسمي وهو لا يزال لاصقاً بما تحته ، وعند الساعة الثانية والنصف ربما تذكر نهاية العمل ، فخرج متعباً مرهقاً من جو التكييف ، والإكثار من شرب القهوة والشاي ، وقراءة الجرائد والمجلات ، ومشاهدة القنوات ، فإذا وصل إلى بيته ربما أخر الصلاة من أجل الطعام ، وبعد تناول الطعام دب إليه الكسل والخمول مع تزيين الشيطان له ذلك ، فنام ولم يصلي ، فهذا خاسر لا محالة ما لم يتدارك نفسه بالتوبة إلى الله تعالى ، ويستغفر من ذنبه وتقصيره وتفريطه ، قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون 4، 5 ] .
لقد أعد الله تعالى لمن ترك الصلاة ، أو تهاون بها ، أو تكاسل عن أدائها ، أو أخرها عن وقتها المشروع ، أعد الله لهم واد في جهنم اسمه ويل ، للذين لا يقيمونها على وجهها , ولا يؤدونها في وقتها .
ولقد أجرت إحدى القنوات الفضائية لقاءً مع رئيس دولة عربية إسلامية ، فقال أنه يسهر حتى قرب الفجر ، وفي سؤال : هل تصلي الفجر حاضراً ؟
فرد قائلاً : ليس لدي وقت ، فإنَّ في عنقي ( . . . ) مليون نسمة ، أسهر لأجل مصالحهم _ ولا أدري هل يسهر لمصالح أفراد دولته ، أم أنه يسهر على القنوات ولعب الشطرنج والقمار وغيرها مما لا يفوت الكثير من الناس معرفته _ فهذا مثال سيء لقائد سيء ، فكيف بمواطنيه ومن هم تحت ولايته .(1/51)
فهذا جاء فيه وفي أمثاله حديث صحيح صريح بخطورة فعله ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْماً فَقَالَ : " مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا ، كَانَتْ لَهُ نُوراً ، وَبُرْهَاناً ، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ ، وَلاَ بُرْهَانٌ ، وَلاَ نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ " [ أخرجه أحمد بإسناد جيد ، والدارمي ، والبيهقي في الشعب ، وصححه الألباني في المشكاة ] .
وعلى النقيض من ذلك ، فهذا هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، كان عمر بن عبد العزيز أميراَ من أمراء الدولةِ الأموية ، يغيرُ الثوبَ من حرير في اليومِ أكثرَ من مرة ، الذهبُ والفضةُ عنده ، الخدم القصور ، المطاعم المشارب كلَ ما اشتهى وكل ما طلبَ وكلَ ما تمنى ، ولما تولى الخلافة ، مُلك الأمة الإسلامية ، انسلخَ من ذلك كلِه ، لأنه تذكرَ القبر والجزاء والحساب ، وأن هذه الأمة كلها في عنقه يوم يعرض على ربه ، وقف على المنبرِ يوم الجمعةِ فبكى وقد بايعتهُ الأمة ، وحولَه الأمراء الوزراء والشعراء والعلماء وقوادَ الجيش ، فقال : " خذوا بيعتَكم " ، قالوا : ما نريدُ إلا أنت .
فتولاها فما مرَ عليه أسبوعٌ أو أقل إلا وقد هزُل ، وضعف وتغير لونه ، ما عنده إلا ثوبٌ واحد ، قالوا لزوجتهِ مالِ عمرَ تغير ؟
قالت : واللهِ ما ينامُ الليل ، والله إنه يأوي إلى فراشه فيتقلبُ كأنه ينامُ على الجمر ويقول : " آه توليت أمر أمةِ محمد _ صلى الله عليه وسلم _ يسألني يوم القيامةِ الفقير والمسكين والطفلُ والأرملة .
يقولُ له أحد العلماء يا أمير المؤمنين : " رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمةٍ وفي صحة وفي عافيه ، فمالك تغيرت ؟(1/52)
فبكى رضي الله عنه حتى كادت أضلاعَه تختلف ، ثم قال للعالم وهو أبن زياد : " كيف بك يا ابن زياد لو رأيتني في القبرِ بعد ثلاثةِ أيام ، يومَ أجرد عن الثياب ، و أوسد التراب ، وأفارقُ الأحباب ، وأترك الأصحاب ، كيف لو رأيتني بعد ثلاث ، والله لرأيت منظراً يسوءك ، فنسأل اللهَ حسن العمل .
وإني لأتساءل : هل كانت الرئاسة والإمارة تجعل النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد خلفائه يتأخر عن صلاة فرض فضلاً عن إهمالها ؟
ومن تفحص دواوين السنة لم يجد ما تقر به أعين الجبناء ، بل كانت المحافظة على الأوقات المفروضة من أجَلِّ الأعمال عندهم ، لأنها أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : " الصلاة على وقتها " قلت : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قلت : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قال : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
كانت تلكم خواطر وإرشادات ، طرحتها تنبيها للمسلمين والمسلمات ، سائلاً المولى جل وعلا ، أن ينفع بها كل من اطلع عليها ، وأن يجعلها في ميزان الحسنات ، ويغفر بها السيئات ، ويعلي بها الدرجات ، في درجات الجنات ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك(1/53)