الشُّح والبُخل
لفضيلة الشيخ
جماز بن عبد الرحمن الجماز
موقع فضيلة الشيخ / جماز بن عبد الرحمن الجماز
www.aljmaz.net
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.ne
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الخلق أجمعين.
أما بعد:
فهذه رسالة أقدمها إلى كل مسلم ومسلمة، أردت بها تذكير نفسي وغيري؛ حيث يظهر في أقوال وسلوك بعضنا شح وبخل، ويكون له تأثير في نقص إيماننا، وكراهية غيرنا لنا، وتفويت مصالح جمة لأمتنا.
هي رسالة إلى كل نفس لم توق شحها، ولم تنج من شر نفسها، وسيئات أعمالها، علها تجد مكاناً واسعاً في قلب كل واحد: إذ الإيمان والشح (لا يجتمعان في قلب عبد أبداً).
وحسب الوسع والطاقة اجتهدت في جمعها وتنسيقها، ورصعتها بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية، ودبجتها بالأخبار والآثار، وحرصت على انتقائها واختصارها، وعزو آياتها وأحاديثها وأخبارها، وأظهرت الحكم على أحاديثها، نقلاً من مظانها ونسبة كل كلام إلى صاحبه، اعترافاً بفضله، وحفظاً لحقه.
فمن نظر فيها فليأخذ أزينها، وليترك أشينها، وليمنن عليَّ بتعقُّب أو تصويب؛ فإن كل بني آدم خطاء، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - .
عسى الله أن يوفقني فيما أردت، وأن يكتب النفع فيما زبرت، والله أسأل أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة، ولا يجعل لأحد فيها شيئاً.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله ولي التوفيق والهادي إلى الصراط المستقيم.
كتبه
جماز بن عبد الرحمن بن عبد الله الجماز
السعودية –شقراء
8/5/1421هـ
الرمز البريدي 11961/ ص. ب: 524
تمهيد
نعم الله على خلقِه لا تُحصى ولا تُعدّ، وفضله على عبادِه عظيم لا يُحدّ.(1/1)
فله تعالى عظيم الشكر وغاية الحمد، ومن رُزِق المال وعَرف حق الله فيه وُفِّقَ للخير وسعادة الأبد.
والشخ والبخل صفتان مذمومتان في كل إنسان، يطيع بهما نفسه وهواه والشيطان.
إن هذه الخصلة الذميمة والخلة الشنيعة، طهَّر الله منها أنبياءه، ووقى شر تأصلها في نفوس أوليائه، ولها أثر شنيع وخطر فظيع على الأفراد والمجتمعات؛ حيث تورث النفوس الهلع والطمع، وتركيزها في جل تحركاتها على الجمع دون الإنفاق، والأخذ دون العطاء، والخروج بالأموال عما أعطيت له، من جعلها وسيلة يُتقى الله فيها، ويُتقرّب إليها بها براً وإحساناً، وإنفاقاً في سبيله، وجبراً ومواساة لعباده، إلى جعلها هدفاً وغاية ووسيلة لمحاربة الله ومحاربة دينه بها، جبياً من غير حلٍّ، وإنفاقاً في معصية وتعاملاً بما حَرُمْ (1).
معنى الشح والبخل
الشح لغة: الأصل فيه المنع؛ قاله ابن فارس، وهو يُطلق على معانٍ منها:
1- كما قال ابن منظور، حرص النفس على ما مَلكتْ وبُخلُها به.
2- كما ذكر الجوهري، يُراد به القلة والعسر؛ يقال: أرضٌ شَحَاح: لا تسيل إلاّ من مطر كثير.
3- كما ذكر ابن فارس، يُراد به التسابق إلى الشيء والتنافس عليه، يقال: تشاحَ الرجلان على الأمر، إذا أراد كل واحد منهما الفوز به ومنعه من صاحبه.
4- يُراد به المخاصمة والمجادلة، تقول: شاحَّ فلاناً، أي خاصمه وماحاكه.
والظاهر أن لا تعارض بين هذه المعاني؛ فالشح: حرص أو بخل يتلّخص في المنع أو العطاء بقلة، وربما يحمل على التنافس والمخاصمة أو المجادلة(2).
__________
(1) يُنظر «الفتوحات الربانية» للبيحاني, ص 112-113، «أحاديث الجمعة» لابن قعود, ص329.
(2) «مقاييس اللغة» لابن فارس 3/178، «المفردات» للأصفهاني, ص259، «النهاية» لابن الأثير 2/448، «الصحاح» للجوهري 1/378.(1/2)
الشُّحُّ اصطلاحاً: قال الكفوي: «هو الحالة النفسية التي تقتضي منع الإنسان ما في يده، أو في يد غيره». ولا شك أنه يشمل منع كل بر أو معروف؛ مالاً أو غيره، وقال ابن تيمية: «شدة الحرص التي توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته» ا.هـ(1).
البخل لغة: هو خلاف الكرم، ويقابله الجود.
البخل اصطلاحاً: قال الجرجاني: «البخل هو المنع من مال نفسه»، وقال القرطبي: «هو امتناع المرء عن أداء ما أوجب الله تعالى عليه»(2).
حقيقة الشح والبخل
قال الخطابي: «الشح أعم من البخل، وكأن الشح جنس والبخل نوع، وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور، والشح عام كالوصف اللازم وما هو من قبل الطبع» ا.هـ.
وقال الحسن بن علي - رضي الله عنه - : «البخل، أن يرى الرجل ما ينفقه تلفاً، وما يمسكه شرفاً» ا.هـ
وقال الأحنف: «البخل: طلب اليسير ومنع الحقير»(3)أهـ.
وكان ابن منبه يقول: «أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله، وإن رآه الناس بخيلاً بما سوى ذلك، وإن أبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله، وإن رآه الناس كريماً جواداً بما سوى ذلك»(4)أهـ.
وقال الأزهري في معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولِئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9] أن من أخرج زكاته، وعفَّ عن المال الذي لا يحل له، فقد وقي شُحَّ نفسه»(5)أهـ.
__________
(1) «الكليات» للكفوي, ص242، «لسان العرب» لابن منظور مادة (شحح) 4/2205، «مجموع فتاوى ابن تيمية» 14/480.
(2) ينظر: «المعجم الوسيط» ص41، «المفردات» للأصفهاني, ص48، «القاموس المحيط» للفيروز آبادي, ص1247، «التعريفات» للجرجاني 42-43، «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، 5/126.
(3) الآداب الشرعية ، لابن مفلح ج 3 صـ 303-304
(4) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ، لابن حبان صـ196
(5) لسان العرب ، لابن منظور ج 4 صـ2205(1/3)
وقال ابن الجوزي: قال المفسِّرون: هو أن لا يأخذ شيئاً مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه»أهـ(1)
وقال ابن رجب: «إن الله تعالى أحلَّ لنا الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرَّم تناول هذه الأشياء من غير وجوه حلِّها، وأباحَ لنا دماء الكفار والمحاربين وأموالهم، وحرَّم علينا ما عدا ذلك من الخبائث من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرَّم علينا أخذ الأموال وسفك الدماء بغير حقها، فمن اقتصر على ما أبيح له فهو مؤمن، ومن تعدى ذلك إلى ما منع منه فهوالشح المذموم وهو منافٍ للإيمان.... وقد قيل: إنه رأس المعاصي كلها»أهـ(2).
وقال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].
«وهذا إنما هو فضول الدنيا، لا الأوقات المصروفة في الطاعات؛ فإن الفلاح كل الفلاح في الشح بها، فمن لم يكن شحيحاً بوقته، تركه الناس على الأرض عياناً مفلساً، فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله، ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا من الإيثار بها»أهـ(3).
الفرق بين الشح والبخل والهلع
قال ابن القيم: «الشح: هو شدّة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه. والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله.
فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس؛ فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووُقِي شره، وذلك هو المفلح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].
__________
(1) زاد المسير ، لابن الجوزي ج 8 صـ215
(2) شرح حديث ما ذئبان جائعان "مجموعة رسائل " ، صـ75
(3) طريق الهجرتين وباب السعادتين ، لابن القيم صـ284،285(1/4)
وقال أيضاً: «الاقتصاد خلق محمود، يتولد من خلقين: عدل وحكمة... وهو وسط بين طرفين مذمومين،.... والشح: خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعاً، والهلع: شدة الحرص على الشيء والشره به....»ا.هـ(1)
الترهيب من الشح والبخل
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قيل: يا رسول الله: ما هي؟ قال: «الشرك بالله، والشح، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» خرّجه النسائي(2) وهو صحيح(3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سيدكم يا بني سلمة» قالوا: الجد بن قيس، إلاّ أن فيه بخلاً. قال: «وأي داءٍ أدوى من البخل، بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور» خرَّجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي(4). وفي حديث جابر بن عبد الله: «...بل سيدكم عمرو بن الجموح» خرّجه البخاري في الأدب المفرد(5)، وحسَّنه العراقي(6) وصحَّحه الألباني(7).
__________
(1) «الوابل الصيب» (ص64)، «الروح» (ص353-354)، كلاهما لابن القيم.
(2) «سنن النسائي» (ج6)، ص(257)، رقم(3671).
(3) «صحيح النسائي» للألباني (ج2)، (ص780)، (رقم3432).
(4) «مستدرك الحاكم» (ج3)، (ص242)، (رقم4965).
(5) «الأدب المفرد» للبخاري (ص111)، (رقم296).
(6) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص269) هامش تخريج الإحياء «المغني, للعراقي».(1/5)
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم... وقال: إنما بعثتك لابتليك... وقال: وأهل الجنة ثلاثة.... قال: وأهل النار خمسة: الضعيف..... وذكر البخل أو الكذب....» خرَّجه مسلم(1).
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «شر ما في رجل، شح هالع وجبن خالع» خرَّجه أبو داود(2) وغيره، وهو صحيح(3).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلَّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، قال: وعزتي لا يجاورني فيك بخيل».
قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأحد إسنادي الطبراني في الأوسط جيد» ا.هـ(4).
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنَّم في جوف عبدٍ أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلبٍ عبدأبداً» خرَّجه النسائي(5) وغيره، وهو صحيح(6).
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : «البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة» ذكره ابن مفلح(7).
__________
(1) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج17)، (ص202)، (رقم2865).
(2) «سنن أبي داود» (ج3)، (ص26)، (رقم2511).
(3) «صحيح أبو داود» للألباني (ج2)، (ص477)، (رقم2192).
(4) «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» للهيثمي (ج10)، (ص397).
(5) «سنن النسائي» (ج6)، (ص13)، (رقم3110).
(6) «صحيح النسائي» للألباني (ج2)، (ص652)، (رقم2913).
(7) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص312).(1/6)
ورُوي أن الأحنف بن قيس، رأى رجلاً في يده درهم، فقال: لمن هذا الدرهم؟ قال: لي، فقال: أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك.
وفي معناه قيل:
أنتَ للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك(1)
وقال الشعبي: «ما أدري أيهما أبعد غوراً في جهنم: البخل أو الكذب؟»(2).
وقال ابن المعتز: «بشِّر مال البخيل بحادث أو وارث»(3).
وقال بشر بن الحارث الحافي: «البخيل لا غيبة له»(4).
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إنك إذاً لبخيل»(5).
ومُدِحَت امرأة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: صوّامة قوّامة، إلاّ أن فيها بخلاً. قال: «فما خيرها إذاً»(6).
وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: «سمعت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - تقول: «أُفٍّ للبخل، والله لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته»(7).
وقال أعرابي: «عجباً للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم ترَ بخيلاً إلا غيره أسعد بماله منه؛ لأنه في الدنيا مهتم بجمعه وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همِّه، وناج في الآخرة من إثمه»(8).
وقال بعض الحكماء: «من كان بخيلاً ورث ماله عدوه»(9).
__________
(1) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص261).
(2) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص270).
(3) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص318).
(4) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، ص(271).
(5) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، ص(271)، وقال العلوان عن الحديث: «لا أعرفه» مشافهة.
(6) «مكارم الأخلاق» للخرائطي (2/606)، (رقم646). وهو حسن، محقق.
(7) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص198).
(8) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص318).
(9) «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة (ص229).(1/7)
ومن كلام الحكماء: «الرزق مقسوم، والحريص محروم، والحسود مغموم، والبخيل مذموم»(1).
وقال أبو حاتم: «البخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا؛ ومن تعلَّق بغصن من أغصانها جرَّه إلى النار»(2).
وقال أيضاً: «وما اتزر رجل بإزار أهتك لعرضه ولا أثلم لدينه من البخل»(3).
وقال أيضاً: «البخل بئس الشعار في الدنيا والآخرة، وشر ما يُدّخر من الأعمال في العُقْبى»(4).
وقال ابن تيمية: «المؤمنون يتمادحون بالشجاعة والكرم، وكذلك يتذامّون بالبخل والجبن»(5).
مظاهر الشح والبخل
تمهيد
قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}[النساء:128].
قال القرطبي: «قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} إخبار بأن الشح في كل أحد، وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره» ا.هـ(6).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج» قالوا: وما الهرج؟ قال: «القتل، القتل» خرّجه البخاري في صحيحه(7).
والمعنى أنه يوضع في القلوب فيكثر، وهو قول الأكثر، ذكره الحافظ ابن حجر(8).
__________
(1) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص307).
(2) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص195).
(3) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص196).
(4) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص198).
(5) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (ج28)، (ص154).
(6) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (ج5)، (ص260).
(7) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج10)، (ص560)، (رقم6037).
(8) «فتح الباري» لابن حجر,(ج10)( ص564)(1/8)
والمقصود: أن الإنسان مجبول على الشح، لو أنه أُوتي ما في الأرض جميعاً، بل لو أنه امتلك خزائن الله لما طوَّعت له نفسه أن تنفق منها بسعة، ولقامت له من طبيعته الضيِّقة علل شتى تضع في يديه الأغلال(1)؛ قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر» خرّجه مسلم في صحيحه(2).
قال الحافظ ابن كثير: «والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو–إلا من وفقه وهداه- فإن البخل والجزع والهلع صفة له(3) كما قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً - إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] » ا.هـ
ومع هذا كله، يجب أن يقف المسلم موقفاً حازماً من هذه النفس، فيخاصم هذه النزعة بعنف، ويقاوم دسائسها بيقظة ونشاط، حتى تتعوّد نفسه التكرم والسخاء، وينخلع من هذه السجية المذمومة(4).
هذا، وإن مظاهر الشخ والبخل كثيرة، ويقع فيه كثير من الناس، إلاّ من نجا بنفسه، ومنها:
1- ترك الإنفاق في سبيل الله عز وجل؛ قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}[محمد:38].
__________
(1) «خلق المسلم» للغزالي (ص118).
(2) «صحيح مسلم» بشرح النووي (7/144-145) (رقم1047).
(3) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج5)، (ص122).
(4) «خلق المسلم» للغزالي (ص118).(1/9)
قال القاسمي: «سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير وفائدة وقربة ومثوبة، وإنما اقتصر المفسِّرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر، وجزيئه الأهم وقت نزول الآيات، وإلا فلا ينحصر فيه» ا.هـ(1).
فإذا دُعي أحد لنصرة ضعيف، أو معونة محتاج، أو مشاركة في عمل خيري بالمال، أو تجهيز غاز في سبيل الله, تنكَّب ونكس رأسه، وقال: «الله كريم»، «الله يرزقنا وإياه»، وما درى أن الذي أوقع بأخيه المصيبة قادر على أن يوقعها به. وبعض هؤلاء يعتذر ويقول: «السائل غني»، «أكثر هؤلاء فسّاق»، «الله أعلم ما يفعلون بهذه الأموال» وما درى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال رجل: لأتصدّقنّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدّثون: تُصُدِّق على سارق. فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدّقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدّثون: تُصُدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدّقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدّثون: تُصُدِّق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وعلى زانية، وعلى غني؛ فأتي فقيل له: أمّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر، فينفق مما أعطاه الله» خرّجه البخاري في صحيحه(2).
وفي بعض روايات الحديث: «فأتي، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية....» خرّجه مسلم في صحيحه(3).
قال النووي: «في الحديث ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقاً وغنياً...» ا.هـ(4).
__________
(1) «محاسن التأويل» للقاسمي (ج15)، (ص61).
(2) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج3)، (ص366)، (رقم1421).
(3) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج7)، (ص115)، (رقم1022).
(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (ج7)، (ص116).(1/10)
2- ترك السلام على الناس، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أعجز الناس من عجز في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام» خرّجه الطبراني في الدعاء، وهو حسن(1).
والذي يترك السلام على الناس يُظنُّ به الكبر والخيلاء، ويحرم نفسه الأجر والحسنات، ولا يزده فعله من الناس إلا بُعداً.
3- ترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثله السلام عليه، عليه الصلاة والسلام. وترك السلام أخف.
وفي حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يُصلِّ عليَّ» خرّجه الترمذي(2) وغيره، وهو صحيح(3).
وفي حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ أبخل الناس من ذكرت....» أخرجه القاضي إسماعيل وهو صحيح(4). قال النووي: «إذا صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فليجمع بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصر على أحدهما؛ فلا يقل (صلى الله عليه) فقط، ولا (عليه السلام) فقط» ا.هـ(5).
قال ابن كثير: «وهذا الذي قاله –يعني النووي- منتزع من هذه الآية الكريمة؛ وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56] فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلم تسليما» ا.هـ(6).
__________
(1) «الدعاء» للطبراني (ج2)، (ص811)، (رقم60). محقق.
(2) «سنن الترمذي، تحفة الأحوذي» (ج9)، (ص531)، (رقم3614).
(3) «صحيح الجامع» للألباني (ج1)، (ص557)، (رقم2878).
(4) «فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - » للقاضي إسماعيل (ص43)، (رقم37). محقق.
(5) «الأذكار» للنووي (ص157).
(6) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج6)، (ص469).(1/11)
4- منع الصدقة عن الأقارب المحتاجين، وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، من أبر.... وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يسأل رجلٌ مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه، إلا دُعي له يوم القيامة فضله الذي منعه شجاعاً أقرع» خرّجه أبو داود(1) وغيره، وهو حسن(2).
قال في عون المعبود: «مولاه أي معتقه أو المراد بالمولى القريب، أي ذو القربى وذو الأرحام» ا.هـ(3).
وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من ذي رحمٍ يأتي ذا رحمه، فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه، فيبخل عليه، إلاّ أخرج الله له من جهنّم حية يقال لها شجاع يتلمَّظ فيطوَّق به». رواه الطبراني في الأوسط والكبير بإسناد جيد(4). وكثير من الناس اليوم يمتنع عن إقراض المحتاج شحًّا أو عداوة، وفي حديث البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من منح منيحة لبن أو ورِق أو هدى زُقاقاً كان له مثل عتق رقبة» خرّجه الترمذي وغيره، وهو صحيح(5).
5- ترك النفقة الواجبة؛ سواء على الزوجة أو الولد أو الوالدين، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند أم معاوية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليَّ جناح أن آخذ من ماله سرًّا؟ قال: «خذي أنتِ وبنوكِ ما يكفيكِ بالمعروف» خرّجه البخاري في صحيحه(6).
__________
(1) «سنن أبي داود» (ج5)، (ص351)، (رقم5139).
(2) «صحيح أبي داود» للألباني (ج3)، (ص967)، (رقم4286).
(3) «عون المعبود» (ج14)، (ص33).
(4) «مجمع الزوائد» للهيثمي (ج8)، (ص154)، «الترغيب والترهيب» للمنذري (ج1)، (ص684)، (رقم1316).
(5) «سنن الترمذي، تحفة الأحوذي» (ج6)، (ص90)، (رقم2023).
وانظر «صحيح الترمذي» للألباني (ج2)، (ص186)، (رقم1595).
(6) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج4)، (ص512)، (رقم2211).(1/12)
6- البخل بأداء الحق الواجب في المال، فيمنع زكاة ماله شحًّا وخوفاً على ماله من الانقراض، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له وادٍ ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب(1).
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من آتاه الله مالاً فلم يُؤدِّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزِمَتيه –يعني شدقيه-، ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزُك، ثم تلا {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ....}[آل عمران:180] الآية. خرّجه البخاري في صحيحه(2).
ومن ذلك أيضاً عدم إخراج زكاة بهيمة الأنعام طمعاً في ماشيته واستكثاراً بها، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت، إذا هو لم يعطِ فيها حقها تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت، إذا لم يُعطِ فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن تُحلَبَ على الماء. قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاةٍ يحملها على رقبته لها يُعارٌ، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلّغتُ، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاءٌ فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغت» خرّجه البخاري في صحيحه(3).
__________
(1) أصله بمعناه قطعة من حديث خرّجه البخاري في «صحيحه» من حديث سهل بن سعد مرفوعاً، «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج11)، (ص305)، (رقم6438).
(2) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج3)، (ص338)، (رقم1403).
(3) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج3)، (ص338)، (رقم1402).(1/13)
7- البخل بالنفس؛ فلا يُضحِّي بها ولا يبذلها فداءً لدين الله عز وجل، ومع ذلك يرى حرمة الدين تنتهك، من نشرٍ للشرك والإلحاد، وسفك للدماء، وانتهاكٍ للأعراض، وسلب للأموال، وعدوان على المُقدَّسات. ويسمعُ الباطل يُزَمْجِر ويُهدِّد، ويستهزئ ويشتم، ونفسه لا تملُّ نوماً، ولا تكلُّ شجباً، متشبثاً بدنياه.
8- البخل بنفع البدن؛ من مواساة ذوي الحاجة، وقضاء حوائج الناس، والعدل بينهم، وإرشاد الضال منهم، والإفساح في المجلس له إذا دخل، وإماطة الأذى عن الطريق، والسعي في تنفيس كربات الناس بشفاعة ونحوها، وفتح الأبواب لهم بسماع مشاكلهم وإيجاد حلولها، وتقديم كل ما بوسعه لنفع الإسلام والمسلمين.
9- البخل بالعلم؛ فيُحبس في الصدر، ويحبس العالم نفسه عن الناس وإن سألوه، تراه يتزين عند الناس بالورع البارد المُقنَّع؛ فهو لا يزال في الطلب، وهناك من هو أكفأ منه، ويخشى الوقوع في الخطأ، والناس ليسوا بحاجة ماسة، ويوجد فلان وفلان.
والأدهى من ذلك، الشح بالجواب الشافي عند السؤال، يبتغي بذلك العلم لنفسه، فلا يطّلعوا على قول أو دليل أو استنباط، وإذا أجاب قال: نعم أو لا، حلال أو حرام. إن قلت: عالمٌ فهو عالم، وإن قلت جاهل، فهو جاهل. فقل لي بربك، كيف يتعلم الناس ويرفعوا الجهل عن أمتهم(1).
10- الشح بالأوقات، فترى كثيراً منهم يسعى بجدٍّ واهتمام في مصالحه، فإذا دُعي لبذل بعض وقته في سبيل الله كأمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر، أو جولة دعوية، أو تحفيظ قرآن، أو تعليم علم، أو نفعِ أحد كالسفر معه لتعليمه ,امتنع واعتذر بضيق الأوقات وكثرة المشاغل، حتى أن بعضهم صار يترك الحج والعمرة بحجة أنها تستهلك أياماً كثيرة، وعمر الإنسان محدود.
ولا أدري ما هو صانعٌ بين جدران أربعة، أو استراحات مزخرفة؟ أو ما هو فاعل أمام أجهزة فاتنة، أو عند زوجة مشغلة، وأولاد مُجْبِنَة؟
__________
(1) انظر «آفات على الطريق» للسيد محممد نوح (ج4)، (ص80-81).(1/14)
أسباب الشح والبخل
فالبخل والشح له أسباب وبواعث,تدعو إليه وتوقع فيه(1)، ومن أهمها:
1- حب الدنيا مع توهم الفقر؛ فمن ابتلي بحب الدنيا توهم أنه إن أعطى فسيخلو جيبه، وستضيع صحته وعافيته، وتذهب مكانته ومنزلته بين الناس، ويُبدِّد أوقاته، ويُعرِّض نفسه لما لا تُحمد عُقباه من الأذى.
ويرى أن يُمسك بره ومعروفه عن الناس، كي تدوم له دنياه، وما درى أنه يتشبّه بمن ذمهم الله عز وجل في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ}[القيامة:20-21]، وقوله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ - الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}[إبراهيم:2-3].
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حبِّ الدنيا وطول الأمل» خرّجه البخاري في صحيحه(2).
2- عدم اليقين بما عند الله عز وجل، وأن الله تعالى يخلف على العبد أكثر مما يُعطي.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:8-10]، قال قتادة: أي بموعود الله الذي وعده أن يثيبه. وقال الحسن: بالخَلَف من عطائه. واختاره ابن جرير الطبري(3).
فمن لا يقين عنده بموعود الله تراه يبخل في كل شيء؛ يخشى عدم ثواب الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص206)، «آفات على الطريق» للسيد محمد نوح (ج4)، (ص85-91).
(2) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج11)، (ص287)، (رقم6420).
(3) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (ج20)، (ص57).(1/15)
3- حب المال؛ فمن استولى على قلبه، نسي كل شيء، وشحَّ به حتى على نفسه؛ فلا تسمح نفسه بإخراج الزكاة، ولا بمداواة نفسه عند المرض، بل ولا يأكل ولا يشرب ما تشتهيه نفسه؛ إذِ المال صار محبوباً أكثر من نفسه عنده، يجد لذة بوجوده في يده وبتخزينه في أرصدته، وهو يعلم علم اليقين أنه سيموت، فيضيع أو يأخذه أعداؤه.
وما عَلِم أن ما حُبِس من المال، مثَلُه مَثَلُ الحَجَر. وهذا مرض مزمن لا يُرجى علاجه(1).
قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ - وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ - وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات:6-8].
قال ابن كثير: «الخير هو المال، وفيه مذهبان: أن المعنى: وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني: وإنه لحريص بخيل، من محبة المال، وكلاهما صحيح» ا.هـ(2).
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يكبر ابن آدم، ويكبُر معه اثنتان: حب المال، وطول العمر» خرّجه البخاري في صحيحه(3).
قال النووي: «ومعناه: أن قلب الشيخ كامل الحب للمال، متحكِّم في ذلك، كاحتكام قوة الشاب في شبابه، هذا صوابه....» ا.هـ(4).
4- الحقد؛ فإذا كان المرء حاقداً على غيره، فإنه سيسعى جاهداً وبكل ما يستطيع ألاّ ينفعه بشيء من مال أو نفس أو جاهٍ أو بها كلها، وهذا أقل ما يفعله الحقد لهؤلاء.
5- الإعجاب بالنفس؛ فبعض الناس ممن أغناهم الله تعالى يرسمون لأنفسهم صورة معينة، أملاها عليهم الهوى، وزيَّنها لهم الشيطان؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}[الحديد:23-24].
__________
(1) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص276-277).
(2) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج8)، (ص488).
(3) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج11)، (ص287)، (رقم6421).
(4) «شرح النووي على مسلم» (ج7)، (ص144).(1/16)
وهي ألا يأتي هذا الغني ما فيه عون وبرِّ للآخرين، إذ الناس هم المطالبون، في نَظَرِه أن يكونوا في خدمته وحاجته، لا أن يكون هو في خدمتهم وحاجتهم.
وهذا هو الشح؛ الشح بجاهه وكلمته ونفسه.
6- خبث النفس، فبعض من لا خلاق له إذا وُصِفَ عنده أحد بحُسن حالِه، ونعمة الله عليه، شق ذلك عليه، وإذا وُصِف له اضطراب حياة أحد، وتنغّص عيشه فرح بذلك؛ فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله تعالى على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته.
7- إهمال محاسبة النفس؛ ذلك أن المرء مجبول بفطرته على الشح، ومطالب هو بالبعد عنه، وفعل الأسباب المخلِّصة منه، ولكن واقع كثير من الناس أنهم ينسون أنفسهم، ويستسلمون لهذا الداء، ولا يهتمون بمجاهدة نفوسهم وتصفيتها من أدرانها.
8- الوسط الذي يعيش فيه المسلم؛ سواء كان بيته أو مجتمعه، فقد يكون ذلك الوسط معروفاً بالشح فيتأثر به، وتنتقل عدواه إليه، فيبخل بكل بر أو معروف، مالاً أو غيره.
9- الغفلة عن عواقب الوقوع في الشح؛ فإن من يجهل عاقبة الشيء وأثره المهلك، فهو يقع فيه من حيث لا يشعر.
آثار الشح والبخل
الشح والبخل لهما آثار ضارة، وعواقب مهلكة؛ منها ما هو على الفرد، ومنها ما هو على الجماعة، ومنها ما هو على العاملين في حقل الدعوة إلى الله عز وجل، ومنها ما هو على العمل الإسلامي.
ومن تلك العواقب:
1- النفاق؛ قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ}[التوبة:75-77].(1/17)
والمعنى أن من المنافقين من عاهد الله، لئن أنعم الله عليه ورزقه، ليبذلن الصدقة وليصلحن العمل، وكان ذاك في وقت فقره وعسرته؛ وقت الرجاء والطمع، فلما استجاب الله له نسي عهده، وتنكَّر لوعده، وأدركه الشح والبخل، فقبض يده، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد(1).
قال ابن كثير: «فأعقبهم هذا الصنيع نفاقاً سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل» ا.هـ(2).
وقال الشوكاني: «فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم، والإعراض، نفاقاً كائناً في قلوبهم، متمكناً منها، مستمراً فيها» ا.هـ(3).
2- الشقاوة؛ وفي حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعملوا، فكلٌّ ميسر لما خُلِقَ له؛ أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:5-10] خرّجه البخاري في صحيحه(4).
والمعنى أن من ترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله عز وجل، واستغنى عن الله فترك عبوديته، وكذّب بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة، فسوف يُيسر له سلوك الطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبدي؛ بأن يكون مُيسّراً للشر أينما كان، ومُقيِّضاً له أفعال المعاصي(5).
__________
(1) «في ظلال القرآن» لسيد قطب (ج3)، (ص1678-1679).
(2) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج4)، (ص124).
(3) «فتح القدير» للشوكاني (ج2)، (ص438).
(4) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج8)، (ص906)، (رقم4949).
(5) ينظر «محاسن التأويل» للقاسمي (ج17)، (ص173)، «تفسير السعدي» (ص857).(1/18)
قال ابن القيم: «والتيسير للعسرى يكون بأمرين: أحدهما: أن يحول بينه وبين أسباب الخير، فيجري الشر على قلبه ونيته ولسانه وجوارحه.
والثاني: أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر، كما حال بينه وبين أسبابه» ا.هـ(1).
وفي حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك وأن تُمْسِكَه شرٌ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» خرّجه مسلم(2).
فما يفضل عن حاجة الإنسان وحاجة عياله إمساكه شر، فإن كان عن الواجب فقد استحق العقاب، وإن كان المندوب فقد نقص ثوابه، وفوّت مصلحة نفسه في آخرته، وهذا كله شر. كما ذكر النووي(3).
وقال محمد بن المنكدر: «كان يُقال إذا أراد الله بقوم شرًّا، أمّر عليهم شرارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم» ا.هـ(4).
3- الهلاك؛ في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «....واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» خرّجه مسلم(5).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» خرّجه أحمد في الزهد(6)، وغيره، وهو حسن(7).
__________
(1) «التبيان في أقسام القرآن» لابن القيم (ص60).
(2) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج7)، (ص132)، (رقم1036).
(3) ينظر «شرح النووي على مسلم» (ج7)، (ص132-133).
(4) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص270).
(5) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج16)، (ص371)، (رقم2578).
(6) «الزهد» لأحمد بن حنبل (ص24)، (رقم51).
(7) «صحيح الجامع» للألباني (ج2)، (ص715)، (رقم3845).(1/19)
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث كفارات، وثلاث درجات، وثلاث منجيات، وثلاث مهلكات.... وأما المهلكات: فَشُحٌّ مُطاع، وهوىً مُتَّبَع، وإعجابُ المرء بنفسه» رواه البزَّار(1) وغيره، وهو حسن(2).
وعن الهلاك هنا قال النووي: «قال القاضي: يُحتمل أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة» ا.هـ(3).
ومما جاء بأنهم هلكوا به في الدنيا بسبب البخل والشح: أنهم سفكوا الدماء واستحلوا المحارم، وقطّعوا الأرحام، وانبعثوا في المعاصي؛ كما في الحديث السابق وكما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إياكم والفُحش.... وإياكم والشح؛ فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم، ودعا من قبلكم فقطعوا أرحامهم، ودعا من قبلكم فاستحلوا حرماتهم» خرّجه الحاكم وصحّحه(4)، وهو صحيح(5).
وكما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: «خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشحّ؛ أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» خرّجه أبو داود(6) وغيره، وهو صحيح(7).
__________
(1) «مجمع الزوائد» للهيثمي (ج1)، (ص91).
(2) «السلسلة الصحيحة» للألباني (ج4)، (ص412)، (رقم1802).
(3) «شرح النووي على مسلم» (ج16)، (ص370).
(4) «المستدرك» للحاكم (ج1)، (ص56)، (28).
(5) هامش تخريج أحاديث مسند الإمام أحمد «المحقق» (ج9)، ص(248)، (رقم9534).
(6) «سنن أبي داود» (ج2)، (ص324)، (رقم1698).
(7) «صحيح أبي داود» للألباني (ج1)، (ص318)، (رقم1489).(1/20)
وعلى إثر ذلك، تقع النفس في كل إثم ورذيلة؛ قال الماوردي: «وقد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة –وإن كان ذريعة إلى كل مذمّة- أربعة أخلاق، ناهيك بها ذماًّ، وهي: الحرص، والشَّرَه، وسوء الظن، ومنع الحقوق.... وإذا آل البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو، ولا صلاح مأمول» ا.هـ(1).
وقال أيضاً: «وآفة من بُلي بالجمع والاستكثار، ومُني بالإمساك والادخار، حتى انصرف عن رشده فغوى، وانحرف عن سنن قصده فهوى، أن يستولي عليه حب المال وبُعد الأمل، فيبعثه حب المال على الحرص في طلبه، ويدعوه بعد الأمل إلى الشح به، والحرص والشح أصل لكل ذم، وسببٌ لكل لؤم، لأن الشح يمنع من أداء الحقوق، ويبعث على القطيعة والعقوق.... وأما الحرص فيسلب فضائل النفس لاستيلائه عليها، ويمنع من التوفر على العبادة لتشاغله عنها، ويبعث على التورط في الشبهات لقلَّة تحرُّزه منها، وهذه الثلاث خصال، هي جامعات الرذائل، وسالبات الفضائل» ا.هـ(2).
وقد فهم ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ؛ فعن أبي الهيّاج الأسدي قال: «كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: «اللهم قني شح نفسي» لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: «إني إذا وُقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزنِ ولم أفعلْ» وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف» رواه ابن جرير(3).
4- حرمان النفس؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}[محمد:38].
قال القرطبي: «أي يمنعها الأجر والثواب» ا.هـ(4).
وقال ابن الجوزي: «يبخل عن نفسه، أي: بما ينفعها عن الآخرة» ا.هـ(5).
__________
(1) «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص299-300).
(2) «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص356).
(3) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج8)، (ص98).
(4) «الجامع لأحكام القرآن» لابن كثير (ج16)، (ص170).
(5) «زاد المسير» لابن الجوزي (ج7)، (ص415).(1/21)
وهو بذلك، كما قال القاسمي: «أي يمسكه عنها؛ لأنه يحرمها الأجر، ويكسبها الوزر» ا.هـ(1).
وهو مع ذلك لن يضر الله بترك الإنفاق شيئاً(2).
وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - : «إذا مات السخي قالت الأرض والحفظة: ربِّ تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا» ا.هـ(3).
5- البغض من الله والناس؛ وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله» إلى أن قال: «ويبغض الشيخ الزاني، والبخيل، والمتكبِّر» خرّجه ابن حبان وغيره، وهو جيد(4).
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والسخي: قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل: بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، والجاهل السخي: أحب إلى الله من عابد بخيل» خرّجه الترمذي وغيره(5)، وهو ضعيف جداً(6).
قال ابن القيم: «والسخي قريب من الله تعالى، ومن خلقه، ومن أهله، وقريب من الجنة، وبعيد من النار، والبخيل بعيد من خلقه، بعيد من الجنة، قريب من النار، فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغّضه إلى أولاده» ا.هـ(7).
وقال بشر بن الحارث الحافي: «ما أقبح القارئ أن يكون بخيلاً» ا.هـ(8).
__________
(1) «محاسن التأويل» للقاسمي (ج15)، (ص61).
(2) «تفسير السعدي» (ص735).
(3) «مختصر منهج القاصدين» لابن قدامة (ص229).
(4) «ابن حبان» «موارد الظمآن» للهيثمي (ج3)، (ص108)، (رقم813)، «محقق».
(5) الترمذي «تحفة الأحوذي» (ج6)، (ص95)، (رقم2027).
(6) «ضعيف الترمذي» للألباني (ص221)، (رقم334).
(7) «الوابل الصيب» لابن القيم (ص64).
(8) «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص297).(1/22)
وقال الأصمعي: «سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال: «لقد صغرفلان في عيني لِعظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل مَلَك الموت إذا أتاه» ا.هـ(1).
وقال يحيى بن معاذ: «ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كان فجاراً، وللبخلاء بغض ولو كانوا أبراراً» ا.هـ(2).
6- القدح في المروءة؛ فلا يكون البخيل معدوداً من الكرماء الفضلاء.
قال حبيش بن مُبشِّر الثقفي: «قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً» ا.هـ(3).
وقال ابن عبد البر في ترجمة أبي الأسود الدؤلي: «كان ذا عقل ودين ولسان وبيان وفهم وذكاء وحزم، غير أنه كان يُنسب إلى البخل، وهو داء دوي يقدح في المروءة» ا.هـ.
وهذا بحدّ ذاته يُشوِّه شخصية العالم أو العابد أو الصالح.
7- ترك المعاشرة والخلة؛ فتجد الناس ينصرفون عن صحبته ومعاملته، بل كثير منهم يضيق بلقائه، لئلا يتضرّر بخُلُقه، أو يتطبّع بخُلته. قال بشر بن الحارث الحافي: «النظر إلى البخيل يُقسِّي القلب، ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين» ا.هـ(4).
وقال بعض الأدباء: «البخيل ليس له خليل» ا.هـ(5).
وقال بشر بن الحارث الحافي: «لا تزوج البخيل ولا تعامله» ا.هـ(6).
8- القلق والاضطراب؛ ذلك أن الشحيح، أودى به شحه إلى الغرق في الآثام والرذائل، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فكانت عاقبته في الدنيا قبل الآخرة؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124].
__________
(1) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص270-271).
(2) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص271).
(3) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص313).
(4) «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص271).
(5) «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص298).
(6) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص313).(1/23)
قال ابن كثير: «قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل مال أعطيته عبداً من عبادي، قلَّ أو كثر، لا يتقيني فيه، فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة» ا.هـ(1).
وقال القرطبي: «والمعرض عن الدين مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلَّط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشته ضنك، وحالُه مظلمة» ا.هـ(2).
والآية سيقت فيمن ترك كتاب الله على وجه الإعراض عنه، ولم يتّبعه، أو ما هو أعظم منه؛ كالإنكار له والكفر به، كما ذكره المفسرون(3).
قال ابن القيم في معرض الحديث عن العقوبات التي رتّبها الله على الذنوب.
«ومنها: المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة..... والآية تتناول ما هو أعم منه –يعني بذلك عذاب القبر- قال: فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعّم في الدنيا بأصناف النعم؛ ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه.....» ا.هـ(4).
وقال أيضاً: «ولما كان البخيل محبوساً عن الإحسان، ممنوعاً عن البر والخير، كان جزاؤه من جنس عمله، فهو ضيق الصدر، ممنوع من الانشراح، ضيق العطن، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تُقضى له حاجة، ولا يُعان على مطلوب» ا.هـ(5).
__________
(1) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج5)، (ص316).
(2) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (ج11)، (ص171).
(3) «محاسن التأويل» للقاسمي (ج11)، (ص202-203)، «تفسير السعدي» (ص464-465).
(4) «الجواب الكافي» لابن القيم (ص181، 184-185).
(5) «الوابل الصيب» لابن القيم (ص62)، «زاد المعاد» لابن القيم (ج2)، (ص25-26).(1/24)
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق: فلا ينفق إلا سبغت –أو فرت- على جلده حتى تخفي بنانه وتعفوا أثره، وأما البخيل: فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسِّعها ولا تتَّسع» خرّجه البخاري في صحيحه وغيره(1).
قال الخطابي: «وهذا مَثَلٌ ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - للبخيل والمتصدِّق، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستتر به من سلاح عدوِّه، فصبها على رأسه ليلبسها.... وجعل البخيل مثل رجل غُلّت يده إلى عنقه، كلما أراد لبسها، اجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوته.....» ا.هـ(2).
وقال ابن القيم: «فهو كرجل عليه جُبة من حديد، قد جُمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها، أو توسيع تلك الجُبّة، لزمت كل حلقة من حلقها موضعها، وهكذا البخيل كلّما أراد أن يتصدّق، منعه بخله، فبقي قلبه في سجنه كما هو» ا.هـ(3).
وقال المنذري: «والبخيل: كلما أراد أن ينفق منعه الشح والحرص وخوف النقص، فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وأن تتسع عليه النعم فلا تتَّسع، ولا تستر منه ما يروم ستره» ا.هـ(4).
قال الخطابي: «والمراد أن الجواد إذا همّ بالصدقة، انفسح لها صدره وطابت نفسه، فتوسّعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدَّث نفسه بالصدقة شحَّت نفسه، فضاق صدره وانقبضت يداه» ا.هـ(5).
__________
(1) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج3)، (ص385)، (رقم1443).
(2) «فتح الباري» (ج3)، (ص386).
(3) «الوابل الصيب» لابن القيم (ص62).
(4) «الترغيب والترهيب» للمنذري (ج1)، (ص697).
(5) «فتح الباري» (ج3)، (ص387).(1/25)
قال أبو حاتم السجستاني: «سأل كسرى: أي شيء أضرّ على ابن آدم؟ قالوا: الفقر، قال: الشح أضرّ منه؛ إن الفقير إذا وجد اتسع، وإن الشحيح لا يتّسع إذا وجد» ا.هـ(1).
وقال ابن عقيل: «والشح يُفوِّت النفس كلّ لذة، ويُجرّعُها كل غصة» ا.هـ(2). وما دامت نفس الشحيح كذلك، فهي في سجن من حديد.
9- إمساك النعم؛ فالبخيل يمنع زكاة ماله شحًّا، ويبيع ويشتري بالغش والتدليس والكذب، حرصاً وطمعاً في الاستكثار من المال.
وهذا كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة: «ما نقض قوم العهد، إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قطّ إلا سلّط الله عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حَبَس الله عنهم القطر» خرّجه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي(3)، وهو صحيح(4).
ورواه الطبراني في الأوسط ولفظه(5): «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» وهو حسن(6).
وفي حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خمس بخمس، قيل: يا رسول الله، ما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد.... ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القطر، ولا طفّفوا المكيال إلا حُبِس عنهم النبات وأخذوا بالسنين» رواه الطبراني في الكبير(7). وهو حسن(8).
__________
(1) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص196).
(2) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص303).
(3) «المستدرك» للحاكم (ج2)، (ص136)، (رقم2577).
(4) «الصحيحة» للألباني (ج1)، (ص169)، (رقم107).
(5) «الترغيب والترهيب» للمنذري (ج1)، (ص598-600)، (رقم1134-1135-1136).
(6) «الصحيحة» للألباني (ج1)، (ص171).
(7) «مجمع الزوائد» للهيثمي (ج3)، (ص65).
(8) «صحيح الجامع» للألباني (ج1)، (ص616)، (رقم3240).(1/26)
والقطر هو المطر من السماء، قال المنذري: والسنين: جمع سنة، هي العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئاً، سواءً وقع مطر أو لم يقع» ا.هـ(1).
وهذه نعم وأرزاق وخيرات يُحرم العباد والبلاد إياها، ببخل بخيل وشح شحيح.
10- الفُرقة والتمزُّق؛ فإذا كان الشح بينهم، كل ينظر مصلحته، فلا يمكن أن يجمع الله هؤلاء على قلب رجلٍ واحد أبداً، ولا يصدرون عن رأي واحد(2).
ومن ثمَّ تتولد الضغائن، وتكثر العداوات، وينخر الشيطان فيهم نخراً.
والشحيح لا يمكن أن يُقدِّم معونة لمحتاج، ولا ينفع بجاههِ مسكين؛ تراه دائماً يهتم بنفسه، لا يهتم بغيره، كأنَّ الأمر لا يعنيه، وما درى أنه بتصرفه ذلك يُوسّع الفجوة بينه وبين الناس، وينقطع المعروف بينهم، ثم لا تسلْ عن الشتات والأنانية، واختلاق المعاذير المخجلة عن إسداء المعروف إلا لمصلحة يرجوها، بطريق المكافأة، ولسان حاله يقول: ماذا سنستفيد إذا حققنا مطلب فلان؟ إنْ هو إلا رجلٌ به مِنّة!.
11- غياب الأعمال الخيرية؛ وينتج عن ذلك ما يلي:
أ- ضعف وانقطاع وسائل الدعوة والتعليم كالمراكز والمعاهد والجمعيات.
ب- فشو الجهل بسبب ترك طباعة الكتاب أو نسخ الشريط أو إقامة الدورات الشرعية أو الدروس العلمية أو الملتقيات النافعة.
ج- تعطّل المشاريع التعليمية والتربوية والدعوية والاجتماعية والطبية.
د- قوة انتشار البدعة والمنكرات، ولا زاجر لها.
و- ترك بناء المساجد ودور العلم.
هـ- ضياع الأرامل والأيتام.
م- هوان المسلمين وتسلُّط الكافرين عليهم، بسبب ترك النفقة في الجهاد في سبيل الله.
__________
(1) «الترغيب والترهيب» للمنذري (ج1)، (ص600)، وينظر «فيض القدير» للمناوي (ج3)، (ص452).
(2) ينظر: «آفات على الطريق» للسيد محمد نوح (ج4)، (ص93).(1/27)
ي- ارتكاب الفواحش والموبقات. طلباً للمال، وفي الحديث الضعيف: «كاد الفقر أن يكون كفراً»(1) والناس مستنكفون عن بذلك الصدقات للفقراء والمساكين.
علاج الشح والبخل
قد وقفنا فيما سبق على ماهية الشح والبخل ومظاهره وأسبابه وآثاره، وإذا كانت معرفة ذلك تحدث نوعاً من الوقاية من الوقوع في آفة الشح والبخل، أو شيئاً من علاجها إذا وقعت؛ إذا كان الأمر كذلك فإنّ هناك أموراً عديدة هامة وأخرى لازمة للوقاية من هذه الآفة، أو علاجها إذا حصلت(2). فمن ذلك:
1- القناعة؛ والمقصود الاقتصار على ما سنح من العيش، والرضا بما تسهّل من المعاش، وترك الحرص على اكتساب الأموال وطلب المراتب العالية، والتقنُّع باليسير(3). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه» خرّجه مسلم في صحيحه(4)، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وارضَ بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس» خرّجه الترمذي(5) وغيره، وهو حسن(6).
والقانع تعزف نفسه عن حطام الدنيا رغبة فيما عند الله عز وجل فينجو.
__________
(1) البيهقي في «الشعب» (ج9)، (ص12)، (رقم6188)، وضعّفه العراقي «هامش الإحياء» (ج3)، (199)، والألباني «الضعيفة» (ج9)، (ص77)، (رقم4080)، وانظر «المقاصد الحسنة» للسخاوي (ص311)، (رقم789)، و«تخريج أحاديث الإحياء» للحداد (ج4)، (ص1837)، (رقم2917).
(2) انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (ج3)، (ص276-278)،
«آفات على الطريق» للسيد محمد نوح (ج4)، (ص94-100).
(3) «تهذيب الأخلاق» للجاحظ (ص22).
(4) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج7)، (ص151)، (رقم1054).
(5) سنن الترمذي «تحفة الأحوذي» (ج6)، (ص590)، (رقم2407).
(6) «صحيح الترمذي» للألباني (ج2)، (ص266)، (رقم1876).(1/28)
قال ابن تيمية: «ينبغي للإنسان أن يأخذ المال بسخاوة نفس، ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع، بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه، من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء» ا.هـ(1).
2- التفكُّر في مقاصد المال؛ وأنه مسؤول عن ماله: من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وأنه لا يحفظ منه للدنيا إلا بقدر حاجته، والباقي يدخره لنفسه في الآخرة بأن يحصل له ثواب بذله، وأن يكون ماله في يده لا في قلبه بحيث لو ضاع أو سُرِقَ أو أقرضه لم يحزن.
3- فتح مجالات أو ميادين يمارس فيها الأشحاء صنوف البر والمعروف؛ كالتبرعات المادية أو المعنوية، أو النفع العام بجاهٍ أو كلمة، وكثرة العرض عليهم وترغيبهم حتى يهون عليهم أن يُوظِّفوا ما لديهم من طاقات وإمكانات.
4- تشجيع هذا الصنف من الناس؛ حين يأتي برًّا أو معروفاً، أو يقوم بعمل نبيل أو خدمة فريدة، فيُثنى عليه ويُدعى له، ويُمدح بما هو أهله، ويُعلن في الناس عمله، تحفيزاً لغيره، ووفاء بحقه.
5- اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه النعمة؛ وكيف كان أحرص الخلق على إنفاق هذه النعمة، وتوظيفها في مرضاة الله عز وجل، ونفع العباد بما هو مستطاع؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة» خرّجه البخاري في صحيحه(2).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: «ما سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط، فقال: لا» خرّجه مسلم في صحيحه(3).
__________
(1) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (10/663).
(2) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج1)، (ص43)، (رقم7).
(3) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج15)، (ص78)، (رقم2311).(1/29)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدّخر شيئاً لغد» خرّجه الترمذي(1) وغيره، وهو صحيح(2).
6- مطالعة أخبار الأجواد من البشر؛ كيف جادوا بأنفسهم في سبيل الله عز وجل، وأنفقوا أموالهم ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، وفي طليعة هؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حكى الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].
ومن هؤلاء الأجواد: قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - ؛ قال الذهبي: «وجودُ قيس يضرب به المثل»(3).
«وكان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف؛ ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثاً»(4).
«وكان أويس القرني يتصدّق بثيابه، حتى يجلس عرياناً لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة»(5).
وكان الليث بن سعد يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة، ويقول: «ما وجبت عليّ زكاة قط»، وكان يعطي العلماء بالآلاف وكان يقضي الديون(6).
__________
(1) سنن الترمذي «تحفة الأحوذي» (ج7)، (ص26)، (رقم2467).
(2) «صحيح الترمذي» للألباني (ج2)، (ص276)، (رقم1925).
(3) «سير أعلام النبلاء» للذهبي، (ج3) (ص107).
(4) «سير أعلام النبلاء» للذهبي، (ج1) (ص88).
(5) «سير أعلام النبلاء» للذهبي، (ج4) (ص30).
(6) «سير أعلام النبلاء» للذهبي، (ج8) (ص148-149).(1/30)
7- كثرة التأمل في أحوال البخلاء، ونفرة الطبع عنهم؛ فإنه ما من بخيل إلا ويستقبح البخل من غيره، ويستثقل كل بخيل من أصحابه، وإذا عَلِمَ أنه مُستثقِلٌ ومُستقذَرٌ في قلوب الناس مثل سائر البخلاء في قلبه، استقبح أن يكون منهم. وهكذا الوقوف على عواقب الأشحاء والبخلاء؛ فإن ذلك مما يحمل العقلاء غالباً على تجنُّب ما يُؤدي إلى هذه العواقب.
قال ابن الجوزي: «ورأيت بعض أشياخنا وقد بلغ الثمانين، وليس له أهل ولا ولد، وقد مرض فألقى نفسه عند بعض أصدقائه يتكلّف له ذلك الرجل ما يشتهيه وما يشفيه، فمات فخلف أموالاً عظيمة. وكان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي، وكان يجمع المال، فسُرِق منه نحو مائة دينار، فتلهف عليها، وكان ذلك سبب هلاكه» ا.هـ(1).
8- دوام النظر في الأخبار الواردة في مدح السخاء، وما وعد الله به الأسخياء من التوفيق والتيسير في الدنيا، وكشف الكربات، وخلف النفقات، وتكفير السيئات.
وأن الإحسان إلى الخلق ونفعهم يجعل الإنسان أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً(2). وهكذا الأخبار الواردة في ذم البخل، وما توعَّد الله به على البخل من العقاب العظيم؛ فإن هذا مما يخوِّف النفوس، ويُحرِّكها من داخلها.
9- كثرة الدعاء؛ ومنه التعوذ بالله عز وجل من الشح والبخل؛ وفي حديث أنس بن مالك أنه قال: «كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل، فكنت أسمعه كثيراً أنه يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال....» خرّجه البخاري في صحيحه(3).
__________
(1) «صيد الخاطر» لابن الجوزي (ص258).
(2) «زاد المعاد» لابن القيم (ج2)، (ص25).
(3) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج6)، (ص106)، (رقم2893).(1/31)
ومنه الدعاء بالقناعة وعدم التشوف للدنيا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: «اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، وأخلف على كل غائبة لي بخير» خرّجه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي(1).
وعن أبي الهيَّاج الأسدي قال: كنتُ أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: «اللهمَّ قني شُحَّ نفسي» لا يزيد على ذلك، فقلتُ له: فقال: «إني إذا وقيت شُحَّ نفسي لم أسرق ولم أزنِ ولم أفعل» وإذ الرجل عبد الرحمن بن عوف. رواه ابن جرير وغيره(2).
نداء وتذكير
الإسلام دين يقوم على البذل والإنفاق، ويضيع بالشح والإمساك، ولذلك حَبَّب إلى بنيه أن تكون نفوسهم سخية، وأكفهم ندية، ووصاهم بالمسارعة إلى دواعي الإحسان ووجوه البر، وأن يجعلوا تقديم الخير إلى الناس شغلهم الدائم، لا ينكفون عنه في صباح أو مساء(3).
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:274].
ودعوة الإسلام إلى الجود والإنفاق، وحربه على الكزازة والبخل موصولة متَّقدة. إنه لم يوجد في الدنيا، ولن يوجد، نظام يستغني البشر فيه عن التعاون والمواساة، ولن تنجح أمة في هذا المضمار إلاّ إذا وثقت الصلات بين أبنائها، فلم تُبقِ محروماً يقاسي ويلات الفقر، ولم تبقِ غنيًّا يحتكر مباهج الغنى.
__________
(1) «المستدرك» للحاكم (ج2)، (ص388)، (رقم3360).
(2) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (ج8)، (ص98).
(3) انظر «خلق المسلم» للغزالي (ص115-127).(1/32)
وإن كنز الأموال والإمساك بها، متوعّد عليه بقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[آل عمران:180].
قال ابن كثير: «لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة، فقال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران آية 180 [
إن الأموال المستخفية في الخزائن، المختبئ فيها حق المسكين والبائس، شر جسيم على صاحبها في الدنيا والآخرة؛ إنها أشبه شيء بالثعابين الكامنة في جحورها، كأنها رصيد الأذى للناس، بل إن الإسلام أبان أنها تتحول فعلاً إلى حيات قد مرقت واحتدت أنيابها، تطارد صاحبها لتقضم يده التي غلّها الشح.
في حديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «... ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحوّل يوم القيامة شُجاعاً أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفرّ منه، وفي رواية يتبَعُه فاتحاً فاه، ويقال هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل» خرّجه مسلم في صحيحه(1).
والكانزون لأموالهم لا يُتوقّع لهم إلا الضياع؛ فلن يخلدوا مع المال أو يخلد معهم المال، وقد حُكي أن هشام بن عبد الملك لمَّا ثَقُل بكى عليه ولده، فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا، وجُدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له!.
فأخذ هذا المعنى محمود الوراق ، فقال:
تمتَّعْ بمالك قبل الممات
وإلا فلا مال إنْ أنت مِتّا
شَقيتَ به ثم خلَّفته
__________
(1) «صحيح مسلم بشرح النووي» (ج7)، (75-76)، (رقم988).(1/33)
لغيرك بُعدًا وسُحقًا ًومَقتا
فجادوا عليك بزُور البكاء
وجُدتَ عليهم بما قد جمعتا
وأرهنتهم كلَّ ما في يديك
وخلَّوك رهنًا بما قد كسبتا(1)
وقال أحد الشعراء:
إذا كنت جمَّاعًا لمالكَ ممسِكًا
فأنت عليهِ خازنٌ وأمينُ
تؤدِّيه مذمومًا إلى غير حامدٍ
فيأكُله عفوًا وأنت دفينُ
وقال آخر:"البخيل حارس نعمته ، وخازن ورثته "(2).
وقال بعض الأدباء :"ربَّ حظِ أدركه غير طالبه،ودرٍّ أحرزه غير حالبِه "(3).
وعجيب أن يشقى امرؤ في جمع ما يتركه لغيره ، وإذا لم يستفد المسلم من ماله فيما يصلح معاشه ويحفظ معاده ، فمم يستفيد بعد.
وقد أماط الرسول - صلى الله عليه وسلم - اللثام عن هذه الحقيقة ؛ قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - :قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا: يا رسول الله ، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه ، قال : فإن ماله ما قدَّم ، ومال وارثه ما أخّر" خرّجه البخاري في صحيحه(4).
وقد وصف أعرابي ذلك المرء فقال: «عجباً للبخيل المتعجّل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم تر بخيلاً إلا غيره أسعد بماله منه، لأنه في الدنيا مهتم بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همِّه، وناج في الآخرة من إثمه»(5).
__________
(1) أدب الدنيا والدين،للماوردي ،ص353.
(2) انظر هذا وما قبله في موسوعة نضرة النعيم بإشراف،صالح بن حميد وعبدالرحمن بن ملوح ،ج9،ص 4045رقم32،33.
(3) أدب الدنيا والدين للماوردي،ص 357.
(4) صحيح البخاري ومعه فتح الباري /ج11،ص 313رقم6442.
(5) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص318).(1/34)
إن ذلك الممسك لماله وقد أغناه الله عز وجل، هو كما قال أبو حاتم: «ومن أراد أن يُهتك عرضه، ويُثلم دينه ويَملّه إخوانه، ويَستثقله جيرانه، فليلزم البخل»(1).
وقال بعض الحكماء: «الغني البخيل كالقوي الجبان»(2).
فإياك أخي الكريم أن تكون من هؤلاء، بل اربأ بنفسك عن هذا الخلق الذميم، واعلم كلام الحكماء: «الرزق مقسوم، والحريص محروم، والحسود مغموم، والبخيل مذموم»(3).
واعلم أن بذل المال محمود؛ قال أبو حاتم: «من أراد الرفعة العالية في العقبى، والمرتبة الجليلة في الدنيا، فليلزم الجود بما مَلك»(4).
وقال بعض البلغاء: «من بذل ماله أدرك آماله».
وقال بعض الشعراء:
أترجوا أن تسود بلا عناءٍ ... وكيف يسود ذو الدعة البخيلُ(5)
بل إن المنفق ماله في سبيل الله قد برئ من البخل، ومن برئ من البخل نال الشرف.
وقد يسبق الظن إليك أن السخاءُ ينقص الثروة ويُقرِّب من الفقر، ويسلبك نعمة الطمأنينة في ظل مالك الممدود وخيرك المشهود، وهذا الظن من وساوس الشيطان التي يلقيها في النفوس، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
__________
(1) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص197).
(2) «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص356).
(3) «الآداب الشرعية» لابن مفلح (ج3)، (ص307).
(4) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان (ص197).
(5) «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص305).(1/35)
وما من شيء أشق على الشيطان، وأبطل لكيده، وأقتل لوساوسه من إخراج الصدقات؛ فعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفكَّ عنها لحْيَيْ سبعين شيطانا» خرّجه أحمد(1) وغيره، وهو حسن(2).
والحق أن الكرم طريق السعة، وأن السخاء سبب النماء، وانظر إلى المحتاجين الذي يقصدونك نظرتك إلى أسباب التجارة الرابحة.
واعلم أن البذل الواسع عن إخلاص ورحمة يغسل الذنوب ويمسح الخطايا؛ قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].
وقال ابن تيمية: «الحلم والكرم ملزوزان في قرن، فإذا كان الكريم عفيفاً، والسخي حليماً اعتدل الأمر» ا.هـ(3).
وقد اعتبر الله العطاء الجميل قرضاً حسناً، لا يرده لصاحبه مثلاً أو مثلين، بل يرده أضعافاً مضاعفة؛ قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17].
بل وأغرى العبد بالإنفاق، ليتولى الله تبارك وتعالى الإغداق عليه من خزائنه التي لا يلحقها نفاد؛ قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39].
__________
(1) «مسند أحمد» المحقق، (ج16)، (ص482)، (رقم22858).
(2) «الصحيحية» للألباني (ج3)، (ص264)، (رقم1268).
(3) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (ج15)، (ص432).(1/36)
وقد ظن بعض الناس أن الأجور والحسنات على من ينفق الشيء الكثير، بينما الذي يجود بالشيء اليسير، ليس له من ذلك نصيب. وهذا ظنٌّ سقيم؛ فقد ورد ما يدل على أن الصدقة بالشيء اليسير عظيمة، ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيّب –ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبَّلُها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوه، حتى تكون مثل الجبل» خرّجه البخاري في صحيحه(1).
وعن يزيد بن أبي حبيب قال: «كان مرثد بن عبد الله المزني أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقه؛ إما فلوس وإما خبز وإما قمح، حتى ربما رأيت البصل يحمله، قال، فأقول: يا أبا الخير: إن هذا ينتن ثيابك، قال: فيقول: يا ابن حبيب، أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غيره....» خرّجه ابن خزيمة في صحيحه، وهو صحيح(2).
وفي رواية لابن حبان(3): قال يزيد: «فكان أبو الخير مرثد لا يُخطئه يوم إلاّ تصدَّق فيه بشيء، ولو كعكة أو بصلة» وهي صحيحة(4).
فانظر أخي كيف يتصدق هذا بالكعكة وهي قطعة الخبز، أو البصل، وكثير منا لا يُفكِّر أن ينفق ريالاً أو ديناراً أو درهماً.
__________
(1) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج3)، (ص351)، (رقم1410).
(2) «صحيح ابن خزيمة» (ج4)، (ص95)، (رقم2432) «هامش ألباني» وفي بعض المصادر «ابن أبي حبيب» و«مرثد اليزني».
(3) 4- ) ابن حبان «موارد الظمآن» للهيثمي (ج3)، (ص113-114)، (رقم817) «محقق».(1/37)
أوما علمْتَ أن الصدقة تزيد المال وتنميه –ولو كان قليلاً- كما في حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: قال: ما نقص مال عبد من صدقة....» خرّجه الترمذي(1) وغيره، وهو صحيح(2).
أوما علمت أن الصدقة تمحو الخطيئة، كما في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار.وفيه "ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة , والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.. " خرّجه الترمذي(3) وغيره، وهو صحيح(4).
بل إن أعظم ما يرجوه المؤمن أن يستظل بظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظِلُّه، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: الإمام العادل و....» قال: «ورجل تصدَّق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه....» خرّجه البخاري في صحيحه(5).
وفي حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل امرئ في ظلِّ صدقته حتى يُقضى بين الناس» خرّجه ابن حبان في صحيحه وغيره، وهو صحيح(6).
__________
(1) الترمذي «تحفة الأحوذي» (ج6)، (ص615)، (رقم2427).
(2) «صحيح الترمذي» للألباني (ج2)، (ص270)، (رقم1894).
(3) الترمذي «تحفة الأحوذي» (ج7)، (ص362)، (رقم2749).
(4) «صحيح الترمذي» للألباني (ج2)، (ص328)، (رقم2110).
(5) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج2)، (ص186)، (رقم660).
(6) ابن حبان «موارد الظمآن» للهيثمي (ج3)، (ص113-114)، رقم(817)، «محقق»، «مشكاة المصابيح» للتبريزي، تحقيق الألباني (ج1)، (ص601)، (رقم1925).(1/38)
ونحن حينما ندعو إلى الصدقة نريدها بالمعروف، لا إسراف فيها ولا شَطَط؛ ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى، وابدأ بمن تعول» خرّجه البخاري في صحيحه(1).
وفي قصة توبة كعب بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أمسك بعض مالك فهو خير لك» خرّجه البخاري في صحيحه(2).
وعليك أن تتعرّف المطالب المعقولة لأهلك وولدك، فلا تدع زوجك أو أولادك في ضيق، وتضع مالك في مصرف آخر، فروابط الأسرة مهمة وعظيمة.
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدَّقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» خرّجه مسلم(3).
وأذكرك أخي الكريم أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، فلا تتردّد في نفع إخوانك بما تجود به نفسك، واعلم أنه كثيراً ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل، فإنّ كلاهما فيه ترك، فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة جبناً وبخلاً(4)، فاحذر.
واعلم أن الجزاء من جنس العمل، فمن أحسن أحسنِ إليه، ومن جاد جُود عليه، ومن أنفق أُنفِق عليه، ومن أَقَرض أُقرِض، ومن وسَّع وُسِّع عليه.
وكثير من الناس اليوم يلجأ إلى المعاملات المحرَّمة طلباً للمال، وذلك حينما تُوصد الأبواب أمامه، فلا يجد من يُسهِّل له معاملته مع مصرف حلال.
__________
(1) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج3)، (ص371)، (رقم1426).
(2) «صحيح البخاري» ومعه فتح الباري (ج8)، (ص433)، (رقم4676).
(3) «صحيح مسلم، بشرح النووي» (ج7)، (ص86)، (رقم995).
(4) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (ج28)، (ص291).(1/39)
فيضطر إلى المصارف المحرَّمة، أو يطلب الإقراض ممن وسَّع الله عليه، فيمتنع.
ولكن كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، قال: «ليس من عمل يُقرِّب من الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يُقرِّب من النار إلا وقد نهيتكم عنه، فلا يستبطئن أحدٌ منكم رزقه، فإن جبريل ألقى في روعي أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله تعالى؛ فإن الله لا يُنال فضله بمعصيته» خرّجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي(1).
فلتصبر أخي على هذا الضيق، ومن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه: «ومن انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا، وكله الله إليها»(2).
وفي حديث أبي قتادة وأبي الدهماء قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقلنا: هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً؟ قال: نعم، سمعته يقول: «إنك لن تدع شيئاً لله عزّ وجل إلا بدّلك الله به ما هو خير لك منه» خرّجه أحمد(3)، وهو صحيح(4).
أرجوا الله تعالى أن يوفقني وإياك، وأن يُسدِّد على درب الخير خطاك. والله يتولانا وإياك، والسلام.
الخاتمة
__________
(1) «المستدرك» للحاكم (ج2)، (ص5)، (رقم2136).
(2) حديث خرّجه البيهقي في «الشعب» وغيره من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - مرفوعاً، (ج2)، (ص351)، (رقم1044)، و(ص487)، (رقم1289). وهو معلول؛ ذكره ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (ج2)، ص(801)، رقم(1338)؛ وضعّفه الألباني: «ضعيف الترغيب والترهيب» للألباني (ج1)، (ص527)، (رقم1061)
(3) «مسند أحمد» (ج16)، (ص516)، (رقم22969) «محقق».
(4) «الضعيفة» للألباني (ج1)، (ص19).(1/40)
وهذا آخر الكلام مما جمعته ورتّبته حول الشح والبخل: معناهما، والفرق بينهما؛ وذكرت بعضاً من النصوص في الترهيب منهما، ثم أتيت على مظاهرهما وأسبابهما وآثارهما، ثم علاج هذين الدائين، ثم ختمت ذلك بنداء وتذكير حول هذه الخصلة الذميمة علها أن تلامس قلب كل شحيح أو بخيل فتصنع شيئاً.
وأحسب أني أتيت على خلل في نفوسنا، لا أريد إلا إصلاحه.
فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، والحمد لله أولاً وآخراً ,ظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين
تم بحمد الله
المحتويات
- المقدمة................................................... 2
- التمهيد.................................................... 4
- معنى الشح والبخل........................................ 5
- حقيقة الشح والبخل........................................ 6
- الفرق بين الشح والبخل.................................... 8
- الترهيب من الشح والبخل................................. 8
- مظاهر الشح والبخل...................................... 12
- أسباب الشح والبخل....................................... 18
- آثار الشح والبخل......................................... 20
- علاج الشح والبخل....................................... 30
- نداء وتذكير.............................................. 35
- الخاتمة................................................... 43
- المحتويات................................................ 44(1/41)