الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم
وأساليبه في التعليم
بقلم
عبد الفتاح أبو غُدّة
الناشر
مكتب المطبوعات الإسلامية بحَلَب
المقدِّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يَعلم ، وصلّى الله على رسوله سيِّدِنا محمد وسلَّم ، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وكرَّم .
أما بعد ، فهذه الكلمات المنيفة ، والأحاديثُ المباركةُ الشريفة ، أصلُها محاضرة عامّة ، كانت منّي استجابةً لطلب إدارة كليّة الشريعة وكليّة اللغة العربية في الرياض ، من المملكة العربية السعودية ، لأوّل سنةٍ من تدريسي فيهما، وذلك في العام الدراسي 1385 ـ 1386 (1) .
واخترتُ هذا الموضوع للمحاضرة : (الرسولُ المعلِّم وأساليبُه في التعليم) ، لعظيم صلته بالعلم والعلماء والتعليم والمتعلِّمين ، ثم أضفتُ إليه إضافات كثيرة ، ومباحث هامة متممة ، وأطلتُ في بعض التعليقات إيفاءً للمقام ، وأوجزتُ في بعضها ، فغدا كتاباً كاملاً ، وحرصتُ أن يكون ميسَّراً لكل قارىء ، ونافعاً لكل مستفيد ومثقف . وهو من الأهمية بمكان ، إذْ أنه يتعلق بجانب هام جداً من جوانب حياة الرسولِ المعلِّم صلى الله عليه وسلم وسيرته الشريفة ، فهو كتاب توجيه وتربية وتعليم للمعلِّمِ والمتعلِّمِ جميعاً .
__________
(1) 1 ـ ألقيتها في قاعة المحاضرات العامة في مبنى الكليات بالرياض ، مساء نهار الاثنين 17 / من شوال سنة 1385 .(1/1)
وموضوعُه موضوعٌ طريف فريد ، افتتحتُه منذ أكثر من ثلاثين سنة ، لم أعلم أحداً كتب فيه من قبلُ على هذا المنوال ، وقد مضى على تأليفه هذا الوقتُ الطويل ، منتظراً اللمساتِ الأخيرة لزيادة الكمالِ ، وكم أماتت رغبةُ الكمال إنجازَ كثير من جليل الأعمال! كما أمات التراخي والتسويف كثيراً من فريد التأليف!! وقد طُلِبَ مني إخراجُه من كثيرين ممن وقفوا على الإعلان مني عن قرب طبعه ، فما تيسّضر إخراجه إلاّ الآن ، فالحمد لله على فضلِه وحُسن توفيقه (1) .
وقد أوردتُ فيه الأحاديث الكثيرة ، من هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم وأساليبه فيه ، وجعلتُه شطرين ، الشطرُ الأولُ يختصُّ ببيانِ شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم وذاتِهِ الشريفة ، وبيانِ رفيع مزاياه وتصرفاته الحكيمة ، والشطرُ الثاني لعرض أساليبه في التعليم وسَديدِ إرشاداتِهِ وتوجيهه . وتحرَّيتُ أن تكون تلك الأحاديث الكريمة ، تَحوي إلى جانب التمثيل والبيان : وضوحَ التوجيه التربوي والتعليمي أيضاً ، فهي أمثلةٌ مختارة هادفة ، ونماذِجُ معلِّمة مُوَجِّهة ، تحت عناوين مرشدة ، عازياً كلَّ حديث إلى مصدره .
وإذا عزوتُ الحديثَ إلى أحَدٍ من الأئمة المحدِّثين أصحابِ ((الكتب الستة)) ، وهم : البُخاري ،، ومُسلِمْ ، وأبو داود ، والنَّسائيّ ، والتّشرمِذي ، وابن ماجَهْ ، فأعني بذلك أنه أخرجه في كتابه المشهور به ، فعَزْوُ الحديثِ إلى البخاري يعني أنه أخرجه في صحيحه ، وكذلك عزوه إلى مسلم يفيد إخراجَه له في صحيحه .
__________
(1) 2 ـ وقد ألَّف على أثري ومن بعدي حولَ هذا الموضوع بعض الأساتذة الزملاء الفضلاء .(1/2)
وعَزْوُ الحديث إلى أبي داود ، أو النسائي ، أو الترمذي أو ابن ماجه ، يعني أنه أخرجه في سُنَنه . وإنما طَوَيْتُ أسماء كُتُبهم هذه عند العَزْوِ إليها ، اختصاراً واكتفاءً بذكرِ أسمائِهم عن ذكرها ، وما نقلتُه من غير هذه ((الكتب الستّة)) سَمَّيتُ الكتابَ مع مؤلِّفه عند النقلِ منه .
ثم إن الحديثَ الواحدَ قد يحتوي أكثر من وجهٍ تعليمي وأُسلوبٍ إرشادي وتربوي ، فيكون صالحاً أن يُستشهَدَ به في أكثر من جانب ، فليس إيرادي له في جانب معناه أنه قاصِرٌ عليه فقط .
واللهَ الكريمَ أسألُ أن يَنفعَ بهذا الكتاب ، ويَقبَله مني عملاً صالحاً زاكياً عنده ، ويَجعل فيه حافزاً على الأُسوةِ بسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، في الأقوالِ والأفعالِ ، وجميعِ الشؤون والأحوال ، وفي ذلك لنا الخيرُ كلُّ الخير ، والله الهادي لمن استهداه ، إنه ربُّنا ولا ربَّ سِواه ، وبيده التوفيق ، وهو على كل شيء قدير ، والحمدُ لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً .
في الرياض 26 من المحرم سنة 1416 .
وكتبه
عبد الفتاح أبو غُدّة
الرسول المعلّم صلى الله عليه وسلم
نصُّ القرآن الكريم على كون الرسول صلى الله عليه وسم معلِّماً
لقد أثبَتَ القرآن الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معلِّمٌ للناسِ والبشريةِ جميعاً ، على أُمِّيَّتِه وصَحراويَّة بيئته .
قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (1) .
وقال تعالى : (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً) (2) .
__________
(1) 1 ـ سورة الجمعة ، الآية 2 .
(2) 2 ـ من سورة النساء ، الآية 79 .(1/3)
وقال تعالى أيضاً : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (1) .
إثباتُ السنّة أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ بصير
لقد أثبتَتْ السُّنّةُ المطهّرة أيضاً أن رسول صلّى الله عليه وسلم معلِّمٌ هادٍ بصير .
1 ـ روى ابنُ ماجَهْ في ((سُنَنه)) والدّارِميُّ في ((سننه)) ، واللفظ لابن ماجه (2) ، عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما (3) ،
__________
(1) 3 ـ من سورة سبأ ، الآية 28 .
(2) 4 ـ ابن ماجه 1 : 83 في المقدمة ، (باب فضل العلماء والحث على طلب العلم) ، والدارمي ص 54 من الطبعة الهندية . وقد روى الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه ((الفقيه والمتفقه)) 1 : 10 ـ 11 هذا الحديث من طرق متعددة ، فليعد إليه من شاء التوسع في هذا الحديث الشريف .
قال الحافظ السخاوي : هذا حديث غريب ضعيف ، لضعف راوٍ في سنده ، هو (زياد بن أَنْعُم الإفريقي) لسوءِ حفظه ، ولكن للمتن شواهد . انتهى . نقله شيخنا حافظ المغرب عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى في ((التراتيب الإرادية)) 2 : 220 . قال عبد الفتاح : ومن شواهده الصحيحة : حديثُ ((صحيح مسلم)) الذي أوردتهُ بعده .
(3) 5 ـ قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ، في مقدمة ((شرحه على صحيح مسلم)) 1 : 39 : ((فصل : يُستَحَبُّ لكاتب الحديث إذا مَرَّ بذكر الله عزَّ وجلَّ أن يكتُبَ (عزَّ وجلَّ) أو (تعالى) أو (سبحانه وتعالى) أو (تبارك وتعالى) أو (جَلَّ ذكرُه) أو (تبارك اسمُه) أو (جَلَّت عظَمَتُه) أو ما أشبَهَ ذلك .
وكذلك يكتُبُ عند ذكرِ النبي صلى الله عليه وسلم : (صلى الله عليه وسلم) بكاملها ، لا رامِزاً إليهما ـ أي الصلاةِ والتسليم ـ ولا مقتصراً على أحدهما .
وكذلك يقول في الصحابي : (رضي الله عنه) ، فإن كان صحابياً ابنَ صحابي قال : (رضي الله عنهما) . وكذلك يَترضّى ويتَرحَّم على سائر العلماء والأخيار ـ أي يُستَحَبُّ ذلك أيضاً ـ ، ويَكتُبُ كلَّ هذا وإن لم يكن مكتوباً في الأصل الذي يَنقُلُ منه ، فإن هذا ليس روايةً وإنما هو دُعاء .
وينبغي أن يَقرأ كلَّ ما ذكرناه وإن لم يكن مذكوراً في الأصل الذي يَقرأ منه ، ولا يَسأمَ من تكرُّرِ ذلك ، ومن أَغفَلَ هذا حُرِمَ خيراً عظيماً ، وفَوَّتَ فضلاً جسيماً)) .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في كتابه ((الأذكار)) ص 100 ، في آخر (باب الصلاة على الأنبياء وآلهم تبعاً لهم) : ((يُستَحَبُّ التَّرضّي على الصحابة والتابعين فمن بعدَهم ، من العلماءِ والعُبّادِ وسائر الأخيار ، فيقال : رضي الله عنه ، أو رحمه الله ، ونحوَ ذلك .
ويقال في غيرهم : (رحمه الله) ، فقط : فليس كما قال ، ولا يُوافَقُ عليه ، بل الصحيحُ الذي عليه الجمهورُ استحبابُه ، ودلائلُه أكثَرُ من أن تُحصَر .
فإن كان المذكور صحابياً ابنَ صحابي ، قال : (قال ابنُ عُمَر رضي الله عنهما) ، وكذا ابنُ عباس ، وابنُ الزُّبير ، وابنُ جعفر ، وأسامةُ بن زيد ، ونحوُهم ، لتَشْمَلَه وأباه جميعاً .(1/4)
قال : ((خَرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم من بعض حُجَره ، فدخلَ المسجد ، فإذا هو بحَلْقَتين : إحداهما يَقرؤون القرآن ويدَدعون الله تعالى ، والأخرى يَتعلَّمون ويُعلِّمون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلٌّ على خير ، هؤلاء يقرؤون القرآن ويَدْعون الله ، فإن شاء أعطاهم وإن شاء مَنَعهم ، وهؤلاء يُعلمون ويَتعلمون ، وإنما بُعِثتُ مُعلِّماً ، فَجَلَسَ معهم)) (1) .
__________
(1) 6 ـ نعم : إنما بَعَثه الله مُعلِّماً صلى الله عليه وسلم . وهذا المُعلم المُربّي الكبير ـ ولا أكبرَ منه مُعلماً في البشر ـ ، والهادي الأُمّي البصير، والرسولُ المبلِّغ المُنير : هو الذي تَدينُ لتعليمِه وتربيتِه أُممٌ كثيرة ، وتُبَجِّلُه شُعوبٌ وأقوامٌ مختلفة في شَتّى أنحاء المعمورة ، تُعَدُّ بمِئات الملايين ، تَخْضَعُ لقولِه ، وتَسترشِدُ بهَدْيه ، وتلتمِسُ رِضوانَ الله تعالى في اتِّباعِه والاقتداء به . =
= ومن تأمَّلَ حُسْنَ رعايتِه للعَرَبِ مع قَسوةِ طِباعِهم ، وشِدّة خُشونتهم ، وتنافُرِ أمزجتِهم ، وكيف ساسَهم واحتمَل جَفاءَهم ، وصبر على أذاهم ، إلى أن انقادوا إليه ، والتفّوا حوْلَه ، وقاتلوا أمامَه ودونَه أعزَّ الناسِ عندهم : آباءَهم وأقاربَهم ، وآثروه على أنفسهم ، وهجروا في طاعته ورِضاه أَحِبّاءَهم وأوطانهم ، وعشيرتَهم وإخوانهم ، وكان كلُّ ذلك ـ وأعظَمُ منه ـ منهم له صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يُمارِس الكتاابة والقراءة ، ولا طالَعَ كُتُبَ الماضين ، ولا أخبار المُرَبّين السّالفين ...
ومن تأمَّل هذا تحقّضقَ له بنظرِ العقلِ أنه صلّى الله عليه وسلم هو المعلِّمُ الأوَّلُ ، والنبيُّ المرسَل ، وأنه سيِّدُ العالمين . صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليه .
يقول كارليل في حال العرب : ((هم قومٌ يَضرِبون في الصحراء ، لا يُؤْبَهُ لهم عِدّةَ قرون ، فلما جاءهم النبي العربي ، أصبحوا قبلةَ الأنظار في العلوم والعِرفان ، وكثُروا بعد القِلّة ، وعزّوا بعد الذِلّة ، ولم يَمضِ قَرْنٌ حتى استضاءَتْ أطرافُ الأرضِ بعقولِهم وعُلومِهم)) .(1/5)
2 ـ وروى مسلم في كتاب الطلاق من ((صحيحه)) (1) ، في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم زوجاتِه الشريفات رضي الله عنهن ، وقد بَدأ بعائشة منهن فاختارَتْه رضي الله عنها ، ورَغِبَتْ منه أن لا يُخبِرَ غيرها أنها اختارته ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : ((إنَّ الله لم يَبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعنِّتاً ، ولكن بعثني مُعلِّماً مُيَسِّراً)) (2) .
3 ـ وروى مسلم أيضاً (3) عن معاوية بن الحَكَم السُّلَمي رضي الله عنه ، قال : ((بَيْنا أنا أُصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عَطَس رجلٌ من القوم ، فقلتُ : يَرحمُك الله ، فرَماني القوم بأبصارهم!
__________
(1) 1 ـ 10 : 81 .
(2) 2 ـ المعنِّت : الذي يُوقع غيرَه في العَنَت ، والعنتُ له معان كثيرة ، والمناسِب منها هنا : المشقّة ، والأذى . والمتعنِّت : هو الذي يطلب زَلّة الآخَر وأذاه .
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : وفي إبهامه صلى الله عليه وسلم وعدَمِ مصارحته ومواجهته لعائشة بالزجر ، إشعارٌ بأنَّ من دقائق صناعة التعليم أن يَزجُرَ المعلّشمُ : المتعلِّمَ عن سوء الأخلاق ، باللّثطفِ والتعريضِ ما أمكن ، من غير تصريح ، وبطريقِ الرحمةِ من غير توبيخ ، فإن التصريح يَهتك حجاب الهيبة ، ويورِثُ الجُرأةَ على الهجوم بالخلاف ، ويُهيِّجُ الحرصَ على الإصرار . أفاده المُناوي في ((فيض القدير)) 2 : 573 .
(3) 3 ـ 5 : 20 في كتاب الصلاة (باب تحريم الكلام في الصلاة ...) .(1/6)
فقلتُ : واثُكْلَ أُمِّياه (1) ! ما شأنُكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يَضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتُهم يُصمِّتونني سكَتُّ .
فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعاني ، فبأبي هو وأُمّي (2) ، ما رأيتُ مُعلِّماً قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليماً منه ، فوالله ما كَهَرني (3) ، ولا ضربني ، ولا شَتَمني (4) ، قال : إنَّ هذه الصلاة لا يَصْلُحُ فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن)) (5) .
__________
(1) 4 ـ وا : حَرْفٌ للنُّدبة والحسرة . والثُّكل : فِقدانُ المرأةِ ولَدَها . وأُمِّياه بضم الهمزة وكسر الميم المشددة ، بعدها ياء ثم ألف ثم هاء ساكنة للسكت . وهي : نَدْبُ أُمّي ، بياء المتكلم ، قتُقلَبُ الياء ألفاً لمدّ الصوت وتلحقها هاء السكت ، فيقال : يا أُمّاه . وقد يُجمع بين الألف والياء فيقال : يا أُمِّيَاه ، كما هنا . للمبالغة في الندب والتحسُّر . والمعنى : وا فَقْدَ أُمّي إيايَ فإني هلكتُ! أي ما أعظَمَ مُصابَ أمي بي فقد هلكتُ وفَقَدَتْني!
(2) 5 ـ أي أَفديه بأبي وأمي .
(3) 6 ـ أي ما نَهَرني .
(4) 7 ـ أي ما سبَّني ولا عابني .
(5) 8 ـ ولفظُ رواية الإمام أحمد في ((المسند)) 5 : 448 ((إنما هي التسبيحُ ، والتكبيرُ ، والتحميدُ ، وقراءة القرآن)) . يعني أن الذي يقال في الصلاة هو هذا : التكبير ، وحمدُ الله والثناء عليه ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتشهد ، والدعاء ، كما وردت فيها الأحاديث أيضاً . وأما ما سوى ذلك من كلام الناس فيُمنع منه في الصلاة ، فلا يجوز فيها تشميتٌ لعاطس ، ولا رَدُّ سلام لمسلم ، ولا جوابُ سؤال لسائل ، إذ كلُّ ذلك من الكلام المبطِل للصلاة .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((شرح صحيح مسلم)) 5 : 20 تعليقاً على هذا الحديث الشريف : ((وفيه بيانُ ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من عظيم الخُلُق الذي شَهِدَ الله تعالى له به ، ومن رِفْقِهِ بالجاهل ، ورَأفتِهِ بأمته وشفقته عليهم . وفيه التخلُّقُ بخُلُقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل ، وحُسْنِ تعليمه ، واللطفِ به ، وتقريب الصواب إليه)) .(1/7)
شهادة التاريخ بكمال شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية
وكذلك أثبتَ التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معلِّماً وأيَّ معلم؟ فنظرةً يسيرةً إلى ما كانت عليه البشرية قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى ما آلَتْ إليه البشريّة بعد رسالته ، تُعطينا أوضحَ شاهدٍ ودليلٍ على ثبوت ذلك .
وإذا لاحظنا النماذج المعلِّمة الهادية من النوع الإنساني ، التي شاهدتها البشرية بعد الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلم رأيناها تدلُّ أقوى الدلالة على عِظم هذا المعلِّم المربّي الكبير ، الذي تَتقاصَرُ أمامَه أسماء كلِّ الكبار الذين عُرِفوا وذُكروا في عالَم التعليم والتربية وتاريخِهما .
فأيُّ معلِّم من المربّين تخرَّج على يديه عددٌ أوفَرُ وأهدى من هذا الرسول الكريم ، الذي تخرَّج به هؤلاء الأصحابُ والأتباع؟ فكيف كانوا قبلَه؟ وكيف صاروا بعده؟! إن كل واحد من هؤلاء الأصحاب دليلٌ ناطق على عِظَم هذا المعلِّم المربّي الفريد الأوحد . وهذا يُذكِّرنا بكلمةٍ طيبةٍ جدّاً لبعض الجَهابذة الأصوليين ، يقول فيها : لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزةٌ إلا أصحابَه ، لَكَفَوْه لإثبات نبوته .
حَضُّه صلى الله عليه وسلم على محوِ العاميّة وتحذيرُه
من الفتور في التعليم والتعلُّم
ولا غرابة أن يَتخرَّجَ على يديه صلى الله عليه وسلم هذا العددُ الجمُّ الغفيرُ من الناس ، في فترة وجيزةٍ من الزمن ، فإنه قد سَلَك بهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسلكَ التعليم الجَماعي المستَنْفَر ، ودَفَعَهُم إلى محْوِ العاميّةِ دَفْعاً ، وحَضَّهم على ذلك ونَدَبَهم إليه ، وحذَّرهم من الفُتور فيه تحذيراً شديداً .
ولذلك أقبل أولئك الناس يَتلقَّون العلم ، ويتفقَّهون في الدين ، ويُعلِّم بعضهم بعضاً ، ويتعلَّم بعضهم من بعض ، حتى أزالوا العاميّة عنهم في وقتٍ قصير عاجل .(1/8)
أورد الحافظ المُنْذِري في كتابه ((الترغيب والترهيب)) ، في كتاب العِلْم ، في (باب الترهيب من كَتْمِ العلم) ، وكذلك الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) ، في كتاب العلم أيضاً ، في (باب تعليم من لا يَعْلَم) (1) الحديث الشريف التالي :
4 ـ عن علقمة بن سعد بن عبد الرحمن بن أَبْزى ، عن أبيه ، عن جدِّه : عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال: ((خَطَب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم ، فحمِدَ الله وأثنى عليه ، ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيراً ، ثم قال : ما بالُ أقوامٍ لا يُفَقَّهون جيرانَهم؟! ولا يُعلِّمونهم؟! ولا يُفَطِّنونهم (2) ؟! ولا يَأمُرونهم؟! ولا يَنْهَوْنَهم (3) ؟! .
__________
(1) 1 ـ ((الترغيب والترهيب)) 1 : 86 ، و((مجمع الزوائد)) 1 : 164 . وذكره السيوطي في ((الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور)) 2 : 301 فقال : ((أخرج ابن راهُوْيَهْ والبخاري في (الوحدانيّات) ، وابن السَّكَن وابن مَنْدَه والبارودي في (معرفة الصحابة) ، والطبراني وأبو نعيم وابن مَرْدُوْيَه ، عن ابن أبْزى ، عن أبيه... )) . وقد صحَّحتُ بعض ما وقع في هذا الحديث ، ومن تحريفٍ في بعض الكتب عن بعضها .
(2) 2 ـ في رواية ((الترغيب والترهيب)) هنا وفي كل ما يأتي : (ولا يَعِظونهم) .
(3) 3 ـ أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ...) ، إلى عِظَم حقهم على إخوانهم العالمين ، وجيرانهم العارفين ، وذلك لحق أُخوّة الإسلام بينهم ، ولحقّ الجِوار معها أيضاً .
وحقُّ الجوار في الإسلام كاد يكون بمنزلة حق الرحم الموجِب للميراث : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه)). فقد نبَّه عليه الصلاة والسلام بهذا على أن الجار قارَبَ أن يكون وارثاً من مال جاره ، بسبب الجوار ، وهو قُربُ الدار .
وللجوار مراتب : منها المُلاصَقة ، ومنها المخالَطة ، بأن يَجمعهما مسجدٌ أو مدرسة أو محلة أو سوق أو نحوُ ذلك ، والميراث قسمان : حِسّي ومعنوي ، فالحسّي هو المال ، والمعنوي هو العلم ، فإن حقَّ الجار على جاره تعليمُه ما يجب وما ينفع ، وأنفَعُ ما ينفع هو العلم ، فهو من آكد حقوق الجار على الجار ، صلواتُ الله وسلامُه على معلِّم الناس الخيرَ ، وهادي البشر جميعاً .(1/9)
وما بال أقوام لا يتعلَّمون من جيرانِهم؟! ولا يتفقَّهون؟! ولا يتفطَّنون (1) ؟! .
واللهِ ليُعلِّمَنَّ قومٌ جيرانهم ، ويُفقِّهونهم ، ويُفطِّنونهم ، ويأمُرونهم ، وينهونهم . وليتعلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم ، ويتفقَّهون ، ويتفطَّنون ، أولأُعاجِلَنَّهم العقوبة في الدنيا .
ثم نزل فدخل بيته ، فقال قوم : من تروْنَه عنى بهؤلاء؟ قالوا : نراه عنى الأشعريّين ، هم قومٌ فقهاء ، ولهم جيرانٌ جُفاةٌ من أهلِ المياهِ والأعراب (2) . فبلغ ذلك الأشعريين ، فاتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، ذكرت قوماً بخير ، وذكرتنا بشر ، فما بالُنا؟
فقال : لَيُفَقِّهَنَّ قوم جيرانهم (3) ، وليُفطِّنُنَّهم ، وليَأمُرونَّهم ، ولينْهَوُنَّهم ، وليتعلَّمَنَّ قومٌ من جيرانهم ، ويتفقَّهون ، ويتفطَّنون ، أولأُعاجِلَنَّهم العقوبة في الدنيا .
فقالوا : يا رسول الله أنُفَطِّنُ غيرنا؟ فأعاد قولَه عليهم ، فأعادوا قولهم : أنُفَطِّنُ غيرنا؟ فقال ذلك أيضاً .
فقالوا : أمهِلنا سنةً ، فأمهلَهم ينة ليُفقِّهوهم ، ويُعلِّموهم ويُفطِّنوهم .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (4) . انتهى (5) .
__________
(1) 4 ـ في ((الترغيب)) هنا وفي كل ما يأتي (يَتَّعِظون) .
(2) 5 ـ أي من سكّان البادية .
(3) 6 ـ وفي روايةٍ : (وليُعَلِّمَنَّ) .
(4) 7 ـ من سورة المائدة ، الآيتان 78 ـ 79 .
(5) 8 ـ قال الحافظ ابنُ السَّكَن : ((إسنادُ هذا الحديث صالح)) ، كما نقله في ((كنز العمال)) 3 : 685 الحافظ المنذري : ((رواه الطبراني في (الكبير) عن بُكَير بن معروف ، عن علقمة)) .
وقال الحافظ الهيثمي : ((رواه الطبراني في (الكبير) وفيه بُكَيْر بن معروف ، قال البخاري : ارْمِ به ، ووَأحمد في رواية ، وضعَّفه في أخرى . وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به)) .
فعلى هذا يكون سَندُ الحديث ضعيفاً إن لم نَعتَدَّ بالرواية عن أحمد في توثيقه ، وإن اعتَدَدْنا بها فهو حديثحسن أو يُقارِبُ الحَسَن . وهذا الذي جَزَم به الحافظ المنذري في ((الترغيب والترهيب)) فإنه أورده فيه بلفظ ((عن علقمة ...)) . =
= واصطلاحُه في هذا التعبير كما أفصَحَ عنه في أول كتابه ص 3 بقوله : ((فإذا كان إسنادُ الحديث صحيحاً أو حسناً أو ما قاربهما : صدَّرتُه بلفظة (عن) . وإذا كان في الإسناد من قيل فيه : كذّاب ... أو ضعيفٌ فقط ، أو لم أر فيه توثيقاً بحيث لا يَتطرَّقُ إليه احتمال التحسين : صدَّرتُه بلفظة (رُوي) . ولا أذكر ما قيل في ذلك الراوي البتة . فيكون للإسناد الضعيف دلالتان : تصديره بلفظة (رُوي) ، و: إهمال الكلام عليه في آخره)) . انتهى .
فالحديث حسنٌ أو يُقارِبُه عند الحافظ المنذري . والحمد لله رب العالمين .(1/10)
وقال شيخنا وأستاذنا العلامة الجليل مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى في كتابه العظيم ((المدخل الفقهي العام)) (1) ، تعليقاً على هذا الحديث الشريف ما يلي : ((إنّ هذا الموقف العظيم في اعتبار التقصير في التعليم والتعلُّم جريمةً اجتماعية ، يستحق مرتكبُها العقوبة الدنيوية : موقفٌ لم يَرْوِ التاريخ له مثيلاً في تقديس العلم ، قبلَ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده .
ويدخل في ارتكاب المنكَر و استحقاقِ العقوبةِ التعزيريةِ عليه : إهمالُ الواجبات الدينية ، ومن جملتِها : التعليمُ والتعلُّم . فإذا قصَّر العالم في واجب التعليم ، أو قصَّر الجاهل في تعلُّم القدر الواجب شرعاً من العلم : استحقّا عقوبة التعزير على التقصير ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :
5 ـ ((طَلَبُ العلم فريضة على كل مسلم)) (2) . ولفظُ (اللمسلم) هنا : يَشمَلُ الرجلَ والمرأة ، لأن الحكمَ مَنُوط بصفةٍ مشتركةٍ هي الإسلام)) . انتهى كلامُ شيخنا مصطفى الزرقا أمتع الله به ورعاه .
وأُضيفُ إليه فيما يتعلَّق بحديث ((طلبُ العلم فريضة على كل مسلم)) : أنه لما ناط النبي صلى الله عليه وسلم فَرْضَ طلبِ العلم باتصافِ المرء بالإسلام ـ رجلاً كان أو امرأة ـ ، كان في ذلك تنبيهٌ منه صلى الله عليه وسلم على ان كل من انتَسَب إلى الإسلام لزِمَه طلبُ العلم وتحصيلُه ، إذ لا جَهْلَ في شِرْعَةِ الإسلام الذي أوَّلُ كلمةٍ من كتابه نزلت تقول : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
__________
(1) 1 ـ 2 : 641 من الطبعة السابعة ، في الفقرة 335 .
(2) 2 ـ رُوي بطرقٍ كثيرةٍ ، وقد حسَّنها الحافظ المِزّي ، وحَكَم السيوطي رحمه الله تعالى بصحته ، وقد جَمَع في طرقه جزءاً ، كما في ((فيض القدير)) للمناوي 4 : 267 .(1/11)
إلمامة سريعة بكمالاته صلى الله عليه وسلم في التعليم وخُلُقِهِ العظيم
هذا ، ونحن الذين نُحبُّ أن نتملّى من هذا المعلِّم الأوَّل والنبي الأُمّي الكريم ، من كل جانب من جوانب هَدْيه في الوسائل والغايات جميعاً ، لا تتسعُ لنا هذه الصفحات لأكثر من ان نَمُرَّ ببعض أساليبه صلى الله عليه وسلم في التثقيف والتعليم ، أما الأهداف الكبرى التي وجَّه إليها هذا المعلِّم الكبير ، فللحديث عنها مجالاتٌ أخرى ، نسأل الله تعالى التوفيق للنهوض بها .
هذا المعلِّم للخير صلى الله عليه وسلم ـ على أنه أُمّي لا يقرأ ولا يكتب ـ قد منحه الله تعالى العلمَ الذي لا يُدانيه أحدٌ من البشر ، وأتمَّ عليه النعمة بما آتاه من شخصيةٍ فَذّة جامعةٍ فريدة ، وامتنَّ عليه بقوله سبحانه : (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (1) .
فنهض صلى الله عليه وسلم يَنشُرُ العلم في الناس ويُذيعه بينهم ، وكان بحقٍّ المعلِّم الأوَّل للخير في هذه الدنيا ، في جَمال بيانه ، وفَصاحة لسانه ، ونَصاعةِ منطقه ، وحلاوة أسلوبه ، ولُطفِ إشارته ، وإشراق روحه ، ورحابة صدره ، ورِقّة قلبه ، ووَفْرةِ حَنانه ، وحَكيم شِدَّتِه ، وعظيم انتباهه ، وسُموِّ ذكائه ، وبالِغ عنايته ، وكثيرِ رِفْقِه بالناس ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : ((إنما بُعثتُ مُعلِّماً)) (2) .
تحذيرُه صلى الله عليه وسلم من العلم الذي لا ينفع
وقبلَ الدخول في بيان أساليبه في التعليم ، أرى من المناسب أن أذكر كلمةً وجيزة في حَذَرِ هذا المعلِّم الكريم وتحذيره من العلم الذي لا ينفع ، حتى جَعَل ذلك دُعاءً له يدعو به في أكثر أحيانه صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) 3 ـ من سورة النساء ، الآية 113 .
(2) 4 ـ رواه ابن ماجه 1 : 83 . وتقدم بتمامه في ص 8 ـ 10 .(1/12)
6 ـ روى مسلم (1) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهمَّ إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع (2) ، ومن قلبٍ لا يخشع ، ومن نفسٍ لا تشبع ، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها)) .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلِّماً بحالِهِ ومَقالِه جميعاً ، فهذا الدعاء منه تعليمٌ للعالِمِ والمتعلِّم جميعاً أن لا يَتعلَّموا أو يُعلِّموا إلا ما فيه نفعٌ بميزان الشرع الحنيف الأغرّ .
كلمة وجيزة عن شخصيته التعليمية
__________
(1) 5 ـ 17 : 41 في كتاب الذكر والدعاء (باب في الأدعية) .
(2) 6 ـ هو العلمُ الذي يؤدّي إلى ضرر لصاحبه أو لغيره من الناس ، فهو مذموم من حيث ما يؤدي إليه ، إذ الوسيلةُ إلى الشرِّ شرٌ بلا ريب. فالعلمُ بالحِيَل والإفساد والطُّرقِ التي يتمكن بهاعالِمُها من إضاعة الحقوق : مذموم يُتعوَّذ بالله منه ، وكذلك العِلمُ الذي يتمكن به صاحبُه من سَرِقة أموال الناس والسطوِ عليها وطمسِ آثار الجريمة فيها : عِلْمٌ لا ينفع ، وهو شرٌّ لا ريب فيه .
فمِثلُ هذا العلم أو ذاك ، الجهلُ به أحسنُ على الإنسان مآلاً من العلم به ، ولا يُنكَرُ كونُ بعض العلم ضاراً لبعض الناس ، كما يَضرُّ لحمُ الطير وأنواعُ الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع ، بل رُبَّ شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور . =
= وكم من إنسان خاضَ فُضولاً منه في علم لا حاجة له به ، فاستَضَرَّ به في دينه أو دنياه ، وأضاع فيه جزءاً كبيراً من عمره الذي هو أنفسُ ما يملكه ، وذلك غايةُ الخُسران . وما كان أغناه عن مثل هذا العلم الفضولي ، الذي لو لم يَخُض فيه لكان خيراً له ، فاللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وجنِّبنا ما يَضرُّنا في ديننا أو دُنيانا ، يا أرحم الراحمين .(1/13)
كما أرى من المناسب أيضاً أن أذكر كلمةً وجيزة عن شخصيته التعليمية صلى الله عليه وسلم ، تُعرِّفنا بتلك النفس الكريمة ، التي منحها الله تعالى لرسوله ، لتَصنعَ الخير للناس ، وتُبلِّغ الدين للبشر كافة .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة ، وتَرْكِ العَنَتِ وحُبّ اليُسر ، والرِّفق بالمتعلِّم ، والحِرصِ عليه ، وبَذْلِ العلم والخير له في كل وقت ومناسبة : بالمكان الأسمى والخُلُقِ الأعلى قال الله تعالى : (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ (1) حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (2) .
__________
(1) 1 ـ قال الحافظ ابن كثير في ((تفسيره)) 2 : 403 : ((أي يَعَزُّ عليه ـ ويَشُقُّ ـ الشيءُ الذي يُعنِّتُ أُمَّتَه ويشُقُّ عليها ، ولهذا جاء في الحديث المروي من طُرق عنه صلى الله عليه وسلم قوله : بُعِثتُ بالحَنبفيّة السَّمْحة)) .
(2) 2 ـ من سورة التوبة ، الآية 128 .(1/14)
7 ـ وروى البخاري ومسلم (1) واللفظ للبخاري ، عن مالك بن الحُوَيرث رضي الله عنه ، قال : ((أَتَينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌ مُتَقاربون (2) ، فأقمنا عنده عِشرين ليلة ، وكان رسول الله رَحيماً رَفيقاً ، فلما ظَنَّ أنّا قد اشتَقْنا أَهلنا ، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه ، قال : ارجعوا إلى أهليكم ، فأقيموا فيهم ، وعلِّموهم ومُروهم ، وصلّوا كما رأيتموني أصلّي ، فإذا حضرتْ الصلاة ، فليُؤَذِّن لكم أحدُكم ، ولْيَؤمَّكم أكبركم)) (3) .
__________
(1) 3 ـ البخاري 2 : 93 في كتاب الأذان (باب الأذان للمسافرين) ، ومسلم 5 : 174 في كتاب المساجد (باب من أحق بالإمامة) .
(2) 4 ـ الشببة جمعُ شابّ . ومتقاربون أي في السِّنّ والعُمر .
(3) 5 ـ في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية : ارتحالُ الشباب جماعةً إلى العالِم ، ليتلقّوا منه العِلم ، وليأخذوا عنه الفقه في الدين ، ولِيَصْطحِبوه فترةً من الزمن ، فيَشهدوا منه سُلوكه ، وهَدْيَهُ وعَمَله ، فتَستَنير بذلك أفهامهم بقُربهم منه ومُلازمتهم له ، ويأخذوا العلم مصحوباً بالعمل به ، فيكون أوضح في نفوسهم ، وأطيب في سلوكهم ، كما كان شأن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم معه .
وفي هذا الحديث أيضاً النظرُ إلى ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم التي هي مَجْمَعُ القُدوة ونموذج الإنسان الكامل . وفيه أيضاً : تعلُّم أحكام الشريعة منه صلى الله عليه وسلم ، وفيه أيضاً : أن الأفضل بالمتعلِّم أن يقصد من علماء عصره : الأوفى علماً ، والأعلى فهماً .. فقد كان آباءُ هؤلاء الشباب صَحابةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، التَقَوْا به وأخذوا عنه ، وعَلِموا منه ، فما اكتفى هؤلاء الشباب بالأخذ منهم ، بل قَصَدوا سيدَ العلماء ، وتاجَ الأنبياء ، وأعلم البشر صلى الله عليه وسلم .
وخصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا : الأكبر بالإمامة للصلاة فيهم ، نظراً إلى تساويهم في العلم والتعلم منه عليه الصلاة والسلام ، فإذْ تساوَوْا في ذلك كان وصف الكِبَر فيهم صفة مميزة للكبير على من دونه في السن ، فيُقدَّمُ الكبير .
أما إذا كان بعضهم أعلَم من بعض فيقدَّم الأعلم على من سواه ، لأن صفة العلم أعلم وأشرف من صفة كِبَر السن . وانظر حقوق الكبر وصفة العلم في كُتَيِّبي : ((من أدب الإسلام)) ، في الأدب 16 ، 17 ، 18 .(1/15)
8 ـ وروى الترمذي في ((الشمائل)) (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ كسَرْدِكم هذا (2) ولكن كان يتكلم بكلامٍ بيِّنٍ فَصْل (3) ، يحفظه من جلس إليه)) .
9 ـ وروى فيها أيضاً (4) عن أنس رضي الله عنه قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعيدُ الكلمة ثلاثاً لِتُعقَلَ عنه)) (5) .
__________
(1) 6 ـ ص 140 .
(2) 7 ـ أي ما كان يأتي بالكلام متتابعاً يستعجل به ، فإنه ـ إذا كان كذلك ـ يورِث لَبْساً على السامعين ، ولا يُمكِّنهم من فهمه وحفظه .
(3) 8 ـ أي ظاهرٍ واضحٍ مفصولٍ متميزٍ بعضُه من بعض ، بحيث يتبيَّنُه من يسمعُه ، ويُمكنُه عدُّه لو أراد عدَّه مثلاً . وهذا أدعى لحفظه ورُسوخِه في ذهن السامع ، إذْ يتروّاه تروِّياً ، فلا تبقى له فيه شُبهة ولا غموض .
(4) 9 ـ ص 140 .
(5) 10 ـ أي لتُفهم عنه ، وتَثبُت في ذهن السامعين . وذلك لكمالِ هدايته وشفقته صلى الله عليه وسلم بأُمَّتِه عامّة ، وبالمتعلِّمين خاصة . ويدلُّ هذا الحديث الشريف على أنه ينبغي للمعلِّم أن يتمهل في تقريره لما يُعلِّمُه ، ويبذُل الجهد في بيانه ، ويُعيدَه حتى يُفهم عنه .(1/16)
10 ـ وروى فيها أيضاً (1) عن الحَسَن بن علي رضي الله عنهما ، قال : سألتُ خالي هِنْدَ بن أبي هالة ، وكان وَصّافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ : صِفْ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ((كان رسول الله مُتواصِلَ الأحزان (2) ، دائمَ الفِكرة ، ليست له راحة ، طويلَ السَّكْت ، لا يتكلم في غير حاجة ، يَفتَتِحُ الكلام
ويختِمُه باسم الله تعالى ، ويتكلَّم بجوامع الكَلِم (3) ،
__________
(1) 11 ـ ص 141 ـ 143 .
(2) 12 ـ قال العلماء : ليس المراد بهذا : التألُّمَ على فَوْتِ مطلوب أو حصول مكروه من أمور الدنيا ، فإن هذا لم يكن من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل المراد : أنه كان دائم الاهتمام والتفكير فيما يستقبله من الامور العظيمة ، وشؤون الدعوة إلى الله تعالى ، = = وجَلْبِ الناس إليها وإدخالهم فيها ، مع ما هو عليه من جهادِ المشركين ، وتعليمِ الجاهلين ، والقيام بعبادة الله تعالى على أكملِ وجه . ويُفسِّرُ ذلك قولُ واصِفِه بعد هذه الجملة : ((دائمَ الفِكرة ، ليست له راحة ، طويلَ السَّكْت)) .
وهذه حاله في نفسه صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي قريباً في ص 28 أنه كان في مجلسه مع الناس دائم البِشْر ...
(3) 1 ـ أي يتكلَّم صلى الله عليه وسلم بالكلمات القليلة ، الجامعةِ للمعاني العظيمة الكثيرة ، مثل :
قولِهِ : ((الدين النصيحة)) .
وقوله : ((احفظ الله يحفظك)) .
وقوله : ((اتق الله حيثما كنت)) .
وقوله : ((الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن)) .
وقوله : ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) .
وقوله : ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبك)) .
وقوله : ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) .
وقوله : ((إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً)) .
وقوله : ((حُفَّتْ الجنّة بالمَكاره ، وحفت النار بالشهوات)) .
وقوله : ((المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويَدِه)) .
وقوله : ((مِن حُسْن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه)) .
وقوله : ((إنَّما الأعمال بالنيّات ، وإنَّما لكل امرىءٍ ما نوى)) .
وقوله : ((إنَّ الشيطان يَجري من ابن آدم مَجرى الدم)) .
وقوله : ((لا يُؤمِنْ أحدُكثم حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه)) .
وقوله :((ازهَدْ في الدنيا يُحِبُّكَ الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) .
وقوله : ((ما نَهَيْتُكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)) .
وقوله : ((لو يُعْطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى رجالٌ دِماءَ قومٍ وأموالَهم ، ولكن البيِّنةُ على المُدَّعي واليَمينُ على من أنكر)) .
وقوله :((لا ضَرَرَ ولا ضِرار)) . أي لا يجوز للإنسان ان يَضُرَّ نفسَه ، ولا أن يُلحق الإضرار بغيره .
وقوله : ((البِرُّ ما اطْمَأَنَّتْ إليه النفسُ واطمأَنَّ إليه القلب ، والإثمُ ما حاكَ في النفس وتردَّد في الصَّدر ، وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك)) .
وقوله : ((إنَّ خير الهَدي هَدْيُ محمد ، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة)) .
وقوله : ((من أَحدَثَ في أَمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) . أي كلُّ عَمَلٍ لا يكون على وَفْق أَمرِ الله وأمر رسوله ، فهو مردودٌ على عامِلِه ، إذ لا يُقبَلُ من الاعمال إلاّ ما كان جارياً على هَدْيِ أحكام الشريعة مُوافقاً لها . وأمثالُ هذه الاحاديث الشريفة ، من بدائع جَوامِعِه صلى الله عليه وسلم التي اختصه الله تعالى بها : كثيرةٌ ، اكتفيتُ بإيرادِ هذه النماذج منها ، وأغلَبُ ما أوردتُه هنا منها ، ذكره الإمام النووي رحمه الله تعالى في آخر كتابه ((الأذكار)) ، مع بيان مَصدرِه الذي أُخرِجَ فيه من كتب الحديث الشريف المعتمدة . ...(1/17)
كلامُه فَصْل (1) ، لا فُضولَ ولا تقصير (2) .
ليس بالجافي ولا المَهين (3) ، يُعظِّمُ النِّعمةَ وإن دَقَّتْ (4) ، لا يَذُمَّ منها شيئاً ، غيرَ أنه لم يكن يَذُمُّ ذَواقاً ولا يَمدَحُه (5) ، ولا تُغضِبُه الدنيا ولا ما كان لها (6) ، فإذا تُعدِّيَ الحقُّ لم يَقُمْ لغضبه شيءٌ حتى ينتصر له (7) ، ولا يَغضَبُ لنفسه ولا ينتصر لها .
إذا أشارَ بكفِّه كلِّها ، وإذا تَعجَّب قَلَبها ، وإذ تحدّضث اتَّصل بها وضرب براحتِه اليُمنى بَطنَ إبهامِه اليُسرى ، وإذا غضِب أعرضَ وأشاح (8) ، وإذا فرِح غضَّ طرْفَه ، جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبسُّم ، يَفْتَرُّ عن مثل حَبِّ الغمام)) (9) .
__________
(1) 2 ـ أي فاصِلٌ مُبينٌ لما قاله فيه أتمَّ البيان ، تَقبَلُه العقول لنصاعته وحَقِّيَّتِه ، وتَستلِذُّهُ الأسماعُ لفصاحتِه وجَزالتِه .
(2) 3 ـ أي لا إفراطَ فيه ولا تفريط .
(3) 4 ـ أي ليس بغليظِ الطبع ثقيل النفس . وقولُه : ولا المَهين : أي ليس هو بالمحتَقَرِ المبتذَل ، بل كان مَهيباً مُوَقَّراً ، من رآه بَديهةً هابَهُ ، ومن خالطَهُ معرفةً أحبَّه .
(4) 5 ـ أي صغُرَت وقلَّت .
(5) 6 ـ الذَّواقُ : الشيءُ المَذوق ، سواءٌ كان طعاماً أو شراباً . فلم يكن صلى الله عليه وسلم يُذكَرُ في مجلسه الشريف المُفاضلة بين الأطعمة أو الاشرِبة ، كشأن بعض أهل الدنيا الذين يَهتمُّن بالطعام والشراب والملذّات ، وتكون حديث مجالسهم! .
(6) 7 ـ بل كان صلى الله عليه وسلم لا يَغضَبُ إلا لله تعالى .
(7) 8 ـ أي لم يقُم لدفع غضبه حتى ينتصر للحق .
(8) 9 ـ أي قبض وجهه عمن غضِب عليه ، فلا يُقابله بما يقتضيه الغضب .
(9) 10 ـ أي يضحكُ عن أسنانٍ جميلةٍ بيضاء ناصعة ، مثل اللؤلؤ المشيَّهِ بحبِّ الغمام وهو البرد .
والضَّحك في مواطنه فِعلٌ حسنٌ محمود ، لما فيه من الخير الملاقي للطباع ، والمُواتي للمقام ، فلا غرابة أن يَضحك سيِّدُ الناس وأعظم البشر صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عمرو الجاحظ في فاتحة كتابه ((البخلاء)) ص 5 : بعدَ أن تحدَّث عن فوائد البكاءِ ومنافعِهِ التي تعود على الروح والجسم جميعاً ، قال ((فما ظَنُّك بالضَّحِك الذي لا يزال صاحبُه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببُه . ولو كان الضَّحِك قبيحاً من الضاحك أي في مواطن الضحك ـ وقبيحاً من المُضْحِك ، لما قيل للزّضهرة ، والحِبَرة ، والحَلْي ، والقَصْر المبنيِّ : كأنه يَضحكُ ضَحِكاً . وقد قال الله جلَّ ذِكرُه : (وأنَّه هو أضحكَ وأبكى وأنَّه هو أَماتَ وأحيَى) . فوََع الضَّحِك بحذاءِ الحياة ، ووضع البكاء بِحِذاءِ الموت . وإنه لا يُضيفُ اللله إلى نفسه القبيح ، ولا يمُنُّ على خَلْقِه بالنقص .
وكيف لا يكون موقِعُه من سرور النَّفس عظيماً ، ومن مَصلحة الطِّباع كبيراً ، وهو شيء في أصل الطباع ، وفي أساس التركيب ، لأن الضحك أوَّل خيرٍ يظهر من الصَّبي ، وبه تَطيب نفسه ، وعليه يَنْبُتُ شَحْمهُ ، ويكثر دمُه الذي هو عِلّة سروره ، ومادَّةُ قُوَّته . =
= ولفضلِ خِصالِ الحك عند العرب ، تُسمّي أولادَها : بالضحّاك ، وبِبسّام ، وبطَلْق ، وبطليق . وقد ضَحِكَ النبي صلى الله عليه وسلم ومَزَحَ ، وضحك الصالحون ومزحوا . وإذا مدحوا قالوا : هو ضَحوكُ السن ، وبسّامُ العَشِيّات ، وهشٌّ إلى الضَّيف ، وذوا أَرْيَحيّضةٍ واهتزاز .
وإذا ذَمّوا قالوا : هو عَبوس ، وهو كالح ، وهو قطوب ، وهو شيِّم المُحَيّا ، وهو مُكْفَهِرٌّ أبداً ، وهو كريهومُقبَّض الوجه ، وحامِضُ الوجه ، وكأنما وجهه بالخلِّ منضوح .
ــــ قال عبد الفتاح : وما اجمل قولَ الشاعر الوَصّاف المبدع :
ضَحوكُ السِّنِّ إنْ نطقوا بخيرٍ وعندَ الشَّرِّ مِطراقٌ عَبوسُ ـــــ
وللضحك موضعٌ وله مقدار ، وللمرح موضعٌ وله مقدار ، متى جازَهُما أحدٌ ، أو قصَّر عنهما أحد ، صار الفاضِل خطلاً والتقصير نَقْصاً . فالناسُ لم يعيبوا الضحك إلا بقدَر ، ولم يَعيبوا المزح إلا بقدر ، ومتى أُريد بالمزح النفعُ ، وبالضَّحِكِ الشيءُ الذي له جُعِل الضحك ، صار المزح جِدّاً والضحكُ وقاراً)) .(1/18)
11 ـ وروى الترمذي في ((الشمائل)) أيضاً (1) عن الحسن بن علي ، قال : قال الحُسين بن علي : سألتُ أبي ـ علي بن أبي طالب ـ عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جُلسائِه فقال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائِم البِشْر (2) ، سَهْلَ الخُلُق ، ليِّن الجانب ، ليس بفَظٍّ (3) ، ولا غليظ (4) ، ولا صَخّاب (5) ، ولا فَحّاش (6) ، ولا عَيّاب (7) ، ولا مَدّاح (8) ،
__________
(1) 1 ـ ص 221 ـ 224 .
(2) 2 ـ أي دائم طلاقةِ الوجه والبشاشةِ مع الناس .
(3) 3 ـ أي ليس بغليظ الكلام ولا جافي القول .
(4) 4 ـ أي وليس بغليظ الطبع ، بحيث يَجفوه الناس ، بل كان سهْل الخُلُق ليِّن الجانب ، قال تعالى : (ولو كُنْتَ فظّاً غليظَ القلب لانفضّوا من حوْلِك) .
(5) 5 ـ الصَّخَبُ هو اضطراب الأصوات وشِدَّتُها للخصومة . وصيغةُ (صخّاب) هنا صيغة نَسَب في سياق النفي ، فهي لنفي الصَّخب عن حديثه صلى الله عليه وسلم إطلاقاً ، لا في قليل ولا كثير ، على حَدِّ صيغة (ظلاّم) في قوله تعالى : (وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد) أي لا يُنْسَبُ له سبحانه الظلمُ في قليل ولا كثير .
(6) 6 ـ الفُحش هو كل ما يشتَدُّ قُبحُه من الأقوال أو الأفعال . و(فحّاش) صيغة نسب أيضاً في مَساق النفي ، فتُفيد نفي أصل الفُحش عنه صلى الله عليه وسلم قليلِه وكثيرِه .
(7) 7 ـ أي لا يعيب الناس ، أو الأشياء ، على سبيل الانتقاص لهم ، أو الإزراءِ بها ، بل كان عفّاً متعالياً عن ذلك كلِّه .
(8) 8 ـ أي لا يُبالغ في المدح والثناء ، وإنما يُنزِّلُ الناس منازلَهم ، ويقول فيهم بالعدل والإنصاف ..(1/19)
يتغافَلُ عما لا يشتهي (1) ، ولا يُؤْيِسُ منه راجِيَهُ (2) ، ولا يُخيبُ فيه (3) .
قد تَرَكَ نفسه من ثلاث : المِراء (4) ، والإكثار (5) ، وما لا يعنيه .
وترك الناس من ثلاث : كان لا يذُمُّ أحداً ولا يَعيبُه ، ولا يطلُبُ عَوْرَتَه (6) ، ولا يتكلَّم إلاّ فيما رَجا ثوابه .
وإذا تكلَّم أطرَقَ جُلساؤه (7) ، كأنَّما على رؤوسهم الطَّيرُ (8) ، فإذا سكتَ تكلَّموا ، لا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلَّم عنده أنصتوا حتى يَفرُغ .
__________
(1) 9 ـ أي يُظهر الغفلة والإعراض عما لا يستحسنه من الأقوال والأفعال ، تلطُّفاً بأصحابه ، ورفقاً بهم ، وترفُّعاً عن التدخُّل في كل شيء ، وقد قال أبو الطيب : ليس الغبيُّ بسيِّدٍ في قومه لكنَّ سيِّدَ قومِه المتغابي
(2) 10 ـ أي لا يجعل راجيَه آيساً من كرمه وجوده وتلبيةِ ما أمَّله منه .
(3) 11 ـ أي لا يُخيِّب الراجي فيه صلى الله عليه وسلم ، بل يُلبّي له رجاءَه .
(4) 12 ـ أي الجِدال ولو بحقّ .
(5) 13 ـ أي من الكلامِ أو المال .
(6) 14 ـ أي لا يَتتبَّعُ عوراتِ الناس وسَقَطاتِهم ، ولا يَتجسِّس عليهم ويَتفحَّصُ عن عُيوبِهم وزلاّتِهم .
(7) 15 ـ أي نظروا بأبصارهم إلى الأرض ، وأَصغَوْا إليه لاستماع كلامه ، مع سُرورهم وارتياحهم بحديثه ، وذلك من أعلى الأدبِ والتبجيلِ للسادةِ والكُبراء .
(8) 16 ـ أي يسكنون السكون التامَّ ـ مع السكوتِ ـ عند كلامه ، هيبةً له وإجلالاً ، وتعلُّماً واستفادة .
وقولُه : (كأنَّما على رؤوسهم الطير) كنايةٌ عن ذلك السُّكوتِ والسُّكونِ التامّ . وأصلُهُ أنَّ الغراب يقعُ على رأس البعير ، فيلقُطُ منه القُراد ، فلا يتحرَّك البعير حينئذٍ ، لئلا ينفِرَ عنه ويبقى القُرادُ في رأس البعير فيُؤلِمُه ، فقيل منه : كأنَّ على رؤوسِهم الطير .(1/20)
حديثُهم عنده حديث أوَّلِهم (1) . يضحكُ مما يضحكون ، ويتعجَّبُ مما يتعجَّبون منه .
ويصبِر للغريب على الجَفْوَةِ في مَنْطِقِه ومَسْألَتِه (2) ، حتى إنْ كان أصحابُه ليَستجلبونهم (3) .
__________
(1) 17 ـ أي من بَدَأ أوَّلاً بالحديث منهم فهو المتحدِّثُ حتى يَفرغ ولو كان أدناهم ، ثم يَتحدَّثُ غيرُه بعده .
(2) 18 ـ أي يصبر عليه في جفاِ نُطقِه وغِلْظَةِ كلامه وخُشونة سؤاله . وقد كان يقع هذا من جُفاةِ الأعراب أهلِ البادية ، الذين لم يختلطوا بالناس .
(3) 19 ـ أي يستجلبون أولئك الأعراب إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم ، ليستفيدوا من سؤالهم له ، إذ يسألونه ما يَهاب أصحابُه السؤال عنه توقيراً له .
قال أنس رضي الله عنه : ((كنا نُهينا في القرآن أن نَسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يُعجِبُنا أن يَجيء الرجلُ من أهل البادية العاقلُ فيسألَه ، ونحن نسمع)) . رواه مسلم 1 : 169 و171 ، والنسائي 4 : 121 .
والآية التي يُشير أنسٌ رضي الله عنه إلى وُرودِ النهي فيها ، هي قولُه تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسُؤكم) ، وقد كانوا قبلَ نزولها يسألون ، ويكثرون السؤال ، عما هو ضروري وغير ضروري ، فنُهوا عن السؤال غير الضروري ، وسُمِح لهم بالسؤال عما يُفيدُ ويُحتاجُ إليه .
ولذا قال : (كان يُعجبُنا أن يجيء الرجل العاقل) وذلك لكونه أعرف يكيفية السؤال وآدابه والمهم منه ، وأدْرى بحُسن المراجعة ، وبهذا يَعظُمُ الانتفاع بالسؤال ويعُمُّ النفعُ بجوابه أيضاً . =
= قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((زاد المعاد)) 3 : 121 : ((وكانوا يورِدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُشكِلُ من الأسئلة والشُّبُهات ، فيُجيبُهم عنها بما يُثلِجُ صدورهم ، وقد أورد عليه صلى الله عليه وسلم الأسئلة أعداؤه وأصحابه ، أعداءه للتعنُّت والمُغالبة ، وأصحابُه للفهْمِ والبيان ، وزيادة الإيمان ، وهو يُجيبُ كُلاًّ عن سؤاله ، إلاّ ما لا جواب عنه ، كسؤالهم عن وقت السّاعة)) .(1/21)
ويقول : إذا رأيتم
طالبَ حاجةٍ يطلُبها فارْفِدوه (1) ، ولا يَقبَلُ الثناء إلاّ من مُكافىء (2) ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجور (3) ، فيقطعُه بنهيٍ أو قيام)) (4) .
وكان صلى الله عليه وسلم يُعطي كل واحد من جُلسائه وأصحابه حقَّه من الالتفات إليه والعناية به ، حتى يظُنَّ كل واحد منهم أنه أحبُّ الناس إلى رسول الله .
12 ـ روى الترمذي في ((الشمائل)) أيضاً (5) عن سيدنا علي رضي الله عنه في وصفه لمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ((كان يُعطي كل جُلسائِه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أنَّ أحداً أكرم عليه منه)) .
وكان صلى الله عليه وسلم أتَمَّ ما يكون تواضُعاً للمتعلِّم والسائل المستفيد والضعيف الفَهْم .
13 ـ روى البخاري في ((الأدب المفرد)) ، ومسلم والنسائي (6) واللفظُ لمسلم عن حُمَيد بنِ هِلال ، عن أبي رِفاعة العَدَوي رضي الله عنه قال : ((انتهَيْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يَخطُبُ ، قال : فقلتُ : يا رسول الله ، رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينِه ، لا يدري ما دينُه .
__________
(1) 1 ـ أي فأعينوه أو أَعطوه ، يُقال : رَفَدَه وأرْفَده إذا أعانه أو أعطاه .
(2) 2 ـ أي لا يَقبل المدح إلا من مُكافىء على إنعام حصل من النبي له ، فهو لا يُحِبُّ أن يُحمَد بما لم يفعل ، صلى الله عليه وسلم .
(3) 3 ـ أي حتى يقع في الجوْر ومُجاوزة الحق في كلامه .
(4) 4 ـ وفي هذا الحديث الشريف ما لا يخفى من نهاية كماله صلى الله عليه وسلم ، ورفقِه ، ولُطفِه ، وحِلْمِه ، وصبرِه ، وصفْحِه ، ورأفَتِه ، ورحمَتِه ، وعظيم أخلاقِه ... وكلُّ ذلك مطلوبٌ من المعلِّم منا الاقتداءُ فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم المعلِّم الناصح الأمين .
(5) 5 ـ ص 212 .
(6) 6 ـ ((الأدب المفرد)) ص 511 رقم 1164 (باب الجلوس على السرير) ، ومسلم 6 : 165 في كتاب الجمعة ، والنسائي 8 : 220 في كتاب الزينة (باب الجلوس على الكرسي) .(1/22)
قال : فأقبلَ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك خُطبتَه حتى انتهى إليَّ ، فأُتي بكُرسيٍّ حَسِبْتُ قوائمه حديداً، قال : فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يُعلِّمُني مما علَّمه الله ، ثم أتى خُطبته فأتمَّ آخِره)) (1) .
__________
(1) 7 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 6 : 165 : ((في هذا الحديث تواضُعُ النبي صلى الله عليه وسلم ورِفقُه بالمسلمين ، وشفقتُه عليهم ، وخفْضُ جناحِه لهم ، وفيه استحبابُ تلطُّفِ السائلِ في عبارتِه وسؤالِه العالمَ .
وفيه المبادَرةُ إلى جواب المستفتي ، وتقديم أهمِّ الأمور فأهمِّها ، ولعله كان سأل عن الإيمان وقواعده المهمّة ، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وَجَب إجابتُه وتعليمُه على الفور .
وقعودُه صلى الله عليه وسلم على الكرسي ليسمَع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم)) . انتهى كلام النووي . قلتُ : وفيه أيضاً جواز جلوس المعلِّم على الكرسي أثناء التعليم ، وأنه لا يلزمه أن يعلِّم واقفاً .(1/23)
14 ـ وروى البخاري ، والنسائي ، وابنُ ماجه (1) عن شريك بن أبي نَمِرٍ أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : ((بينما نحن جُلوسٌ في المسجد ، دخل رجلٌ على جَمَلٍ فأناخَه في المسجد (2) ، ثم عَقَلَهُ (3) ، ثم قال لهم : أيُّكُم محمدٌ؟ ـ والنبي صلى الله عليه وسلم مُتَّكِىءٌ بين ظَهْرانَيْهم (4) ـ فقلنا : هذا الرجل الأبيض المُتَّكِىءُ .
فقال له الرجل : يا ابن عبد المطَّلب ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجبتُك (5) ، فقال له الرجل : يا محمد ، إني سائلُك ومُشدِّدٌ عليك في المسألة ، فلا تَجِدنَّ عليَّ في نفسِك (6) ،
__________
(1) 8 ـ البخاري 1 : 148 ـ 149 فقي كتاب العلم ، النسائي 4 : 122 ـ 123 في فاتحة كتاب الصوم ، ابن ماجه 1 : 194 في كتاب إقامة الصلاة . والحديث بنحوِ ما هنا في ((مسلم)) 1 : 169 ـ 171 ، و((سنن الدارمي)) 1 : 130 .
(2) 9 ـ أي في ساحة المسجد ، ففي رواية الدارمي 1 : 131 من طريق ابن عباس رضي الله عنهما : ((فأناخَ بعيره على باب المسجد ، ثم عَقَلَه)) .
(3) 10 ـ أي ربطه بشيء عند باب المسجد لئلا يشرد .
(4) 11 ـ قوله : (بين ظهرانيهم) أي بينهم . وفيه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من التواضُع وترك التكبُّر ، وفيه أيضاً جوازُ اتكاءِ الإمام بين أتباعه .
(5) 12 ـ أي سَمِعتُك ، فقُل ما تريد .
(6) 13 ـ وفي ((سنن الدارمي)) 1 : 130 ـ 131 من طريق ابن عباس رضي الله تعالى عنه : ((إني سائلُك فمشدِّد مسألتي إياك ، ومُناشِدُك فمُشدِّد مناشدتي إياك)) . وفي رواية : ((إني سائلك ومُغلِّظٌ في المسألة فلا تجِدَنَّ في نفسك)) .
وقوله (لا تجِدنَّ) أي لا تغضبنَّ من مُساءلتي وتشدُّدي فيها .(1/24)
فقال : سلْ ما بدا لك (1) .
فقال : أسألك بربِّك وربِّ من قبْلك ، آلله أرسلَك إلى الناس كلِّهم؟ فقال : اللهمَّ نعم (2) . قال : فأنشدُك بالله (3) ، آلله أمرك أن نُصلّي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال : اللهم نعم .
قال : فأَنشُدُك بالله ، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة (4) ؟ قال : اللهم نعم . قال : فأنشدُك بالله ، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة (5) من أغنيائنا فتَقْسِمَها على فُقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهمَّ نعم .
فقال الرجل : آمنتُ بما جئتَ به ، وانا رسولُ من ورائي من قومي ، وانا ضِمامُ بنُ ثعلَبة ، أخو بني سعد بنِ بَكْرٍ)) (6) .
__________
(1) 14 ـ وفي ((سنن الدارمي)) 1 : 131 : ((لا اجِدُ في نفسي فسَلْ عما بدا لك)) . وفي الحديث بيان تواضعِه صلى الله عليه وسلم ، ورِفقُه بالسائل المستفيد على تشديده في السؤال وتغليظِه فيه ، وفيه أنه ينبغي للمتعلِّم أن يقدِّم بين يدي سؤالِه مقدِّمة يتلطَّفُ فيها ويعتذر فيها ليَحسُنَ موقِعُ سؤالِه عند المعلِّم ، وهو من حُسن التوصُّل إلى المقصود .
(2) 15 ـ أصلُ الجواب قوله (نعم) ، وذكر لفظ (اللهم) للتبرُّك وليدُلَّ على تيقُّنِه في الجواب ، فكأنه قال : يا الله إني أُشهدُك أنَّ ما أقولُ حقٌ .
(3) 16 ـ أي أسألُك بالله .
(4) 1 ـ أي شهر رمضان .
(5) 2 ـ أي الزكاة .
(6) 3 ـ وأخرج النسائي والبغوي هذا الحديث عن أبي هريرة ، وجاء في آخرة : ((فلما أنْ ولّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَقِهَ الرجل)) .
قال عبد الفتاح : ما أغفل هذا الرجل السائل ، وما أحسنَ مدْخَلضهُ وتقديم اعتذاره بهذا التمهيد لأسئلته التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستحلفه على جواب كل سؤال منها ، فقد توثَّق تمام التوثق من صِدق الصادِق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
فلما استوفى أسئلته وأُعطي أجوبتها أعلَن إسلامه ، وانه رسول قومه الذين أوفدوه وهم تبعٌ له ، ليعلموا صدق الرسول الداعي للإيمان بما جاء به من عند الله ، فيُسلموا ، فهم لم يوفدوه عنهم إلاّ وهم على تمام الثقة من رجاحة عقله ، وثاقبِ نظرِه ، وصادقِ تفرُّسِه ، فلله دَرُّهم ودَرُّه ، ولذا قال سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما : ما سمِعنا بوافد قوم قطُّ ، كان أفضل من ضِمام . وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : ما رأيتُ أحداً أحسنَ مسأَلةً ، ولا أوجَزَ من ضِمام بن ثعلبة . رضي الله عنه وأرضاه .
واسم (ضِمام) مأخوذ من ضِمام الشيء ، وهو ما يَشملُه وينطوي عليه . يقال : التقوى ضِمامُ الخير كلِّه .(1/25)
15 ـ وروى مسلم (1) عن أبي أيوب رضي الله عنه ((أن اعرابياً عرضَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر ، فأخذ بخِطامِ ناقتِه أو بزِمامِها (2) ، ثم قال : يا رسول الله أو يا محمد ، أخبرني بما يُقرِّبني من الجنة وما يُباعدني من النار .
قال : فكفَّ النبي صلى الله عليه وسلم (3) ثم نظر في أصحابه (4) ، ثم قال : لقد وُفِّق أو لقد هُدي (5) ، قال : كيف قلتَ؟ قال : فأعاد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تَعبُدُ الله لا تُشرِك به شيئاً ، وتُقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصِلُ الرَّحِم ، دَعْ الناقة)) (6) .
__________
(1) 4 ـ 1 : 172 ـ 173 في كتاب الإيمان . وأصلُ الحديث عند البخاري 3 : 261 في فاتحة كتاب الزكاة ، والنسائي 1 : 234 في كتاب الصلاة (باب ثواب من أقام الصلاة) .
(2) 5 ـ قوله (بخطام ناقته) أي ناقةِ النبي صلى الله عليه وسلم . والخِطام هو الزِّمامُ ، وهو كلُّ ما وُضِع في أنف البعير ليُقْتادَ به .
(3) 6 ـ أي سكت عن الجواب هُنَيهة .
(4) 7 ـ تعجُّباً من حُسن سؤاله .
(5) 8 ـ أي وُفِّق للسؤال عما يَهُمُّه ويحتاج إليه ، أو هُدي إلى ذلك بفضل الله تعالى ، والشكُّ من الراوي ، والمعنى في اللفظين متقارب .
(6) 9 ـ إنما قال ذلك لأن الأعرابي كان مُمسكاً بزِمام الناقة ليتمكّضن من سؤاله بلا مشقّة ، فلما حصل جوابُه قال : دعها . وفي الحديث بيانُ غايةِ تواضُعِه صلى الله عليه وسلم للسائل وشفقته عليه ، ومع جفائه وتعرُّضه للسؤال في غير وقته .(1/26)
16 ـ وروى ابن السَّكن ، والطَّبراني في ((المعجم الكبير)) وأبو مسلم الكَجّي في ((السنن)) (1) عن المُغيرة بن عبد الله اليَشْكُري أنَّ أباه حدَّثه ، قال : ((انطلقتُ إلى الكوفة فدخلتُ المسجد ، فإذا رجلٌ من قَيْس يقالُ له ابن المُنتَفِق ، وهو يقول : وُصِف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبتُه ، فلقيتُه بعرَفات ، فزاحمتُ عليه ، فقيل لي : إليك عنه (2) ، فقال (3) : دَعوا الرجلَ ، أَرَبٌ ما لَهُ (4) ، قال : فزاحمتُ عليه حتى خَلَصْتُ إليه (5) ، فأخذتُ بخِطامِ راحلتِه فما غِيرَ عليَّ (6) .
ـ ثم قلتُ ـ : شيئين أسألُك عنهما : ما يُنْجني من النار؟ وما يُدخلني الجنة؟ قال : فنظَر إلى السماء ، ثم أقبل عليَّ بوجهِهِ الكريم ، فقال : لئن كنتَ أوجزْتَ المسألة لقد أعظَمْتَ وطوَّلتَ ، فاعْقِلْ عليَّ (7) :
اعبُدْ الله لا تُشرِك به شيئاً ، وأَقِمْ الصلاة المكتوبة ، وأدِّ الزكاة المفروضة ، وصُمْ رمضان .
__________
(1) 10 ـ كما في ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) 3 : 264 ـ 265 في أول كتاب الزكاة .
(2) 11 ـ أي ابعُد عنه .
(3) 12 ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم .
(4) 13 ـ قوله (أربٌ) أي الحاجة ، و(ما) زائدة ، كأنه قال : له حاجةٌ ما .
(5) 14 ـ أي وصلتُ إليه .
(6) 15 ـ يعني فما غَضِب عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيرُه من أصحابه . وفيه من تواضُع النبي صلى الله عليه وسلم وخفضِ جَناحِه للسائل المستفيد ما لا يخفى .
(7) 16 ـ أي فافهم ما أقوله جيِّداً .(1/27)
17 ـ وروى مسلم وأبو داود والترمذي في ((الشمائل)) (1) واللفظ لمسلم ، عن أنس رضي الله عنه : ((أنَّ امرأةً كان في عقلِها شيء ، فقالت : يا رسول الله إنَّ لي إليك حاجة ، فقال : يا أُمَّ فلان ، انظري أيَّ السِّكَكِ (2) شِئتِ حتى أقضي لكِ حاجتك ، فخلا معها في بعض الطُّرُق ، حتى فَرَغَتْ من حاجتها)) . وفي رواية أبي داود : ((فجلسَت فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى قضتْ حاجتها)) (3) .
هذا ، وقد استحسنتُ أن أُرِد ما قاله الإمام الماوَرْديُّ في بيان جوانب من شخصية هذا الرسول الكريم والمعلِّم العظيم صلى الله عليه وسلم . وفيما قاله رحمه الله تعالى تتميمٌ لما ذكرتُه هنا ، وإليك كلامه في الصفحات التالية :
كلمات جامعة
في بيان خصائص هذا الرسول المعلِّم وفضائِله ،
وشَرَفِ أخلاقِهِ وشمائِله ، تتبدّى منها جوانبُ شخصيتِه العامّة
ومعرفَتُها من تمام معرفة شخصيته التعليميّة ، التي هي جزء منها ولا يَستقلُّ عنها ، كما يتبدّى منها أيضاً مَبعثُ قبول أقواله وأحكامه الصادرة عنه ، والتأسّي بأفعاله الواردة منه ، ومَدى وَقْعِها في النفوس ، وهي تشمل كلَّ جانبٍ من جوانب الحياة والدين .
__________
(1) 17 ـ مسلم 15 : 82 ، وأبو داود 4 : 257 ، و((الشمائل)) ص 205 .
(2) 18 ـ أي الطُّرُق .
(3) 1 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 15 : 82 : ((في هذا الحديث بيانُ تواضُعِه صلى الله عليه وسلم ، بوقوفه مع المرأة الضعيفة ، ليَقضي حاجتَها ويُفتيَها في الخَلْوةِ ، ولم يكن ذلك من الخَلْوةِ بالمرأة الأجنبية ، فإن هذا كان في مَمَرِّ الناس ومُشاهدتِهم إياه وإياها ، ولكن لا يَسمعون كلامَها ، لأن مسألتها مما لا يُظهَرُ ، والله أعلم)) .(1/28)
وفي هذه الكلمات أيضاً هَدْيٌ وإرشادٌ لما ينبغي أن يكون عليه المعلِّم في سيرتِه ، وفِكرِه ، وخُلقِه ، وعملِه ، ومعاملتِه ، ومنطِقِه ومَظهرِه ، ومخبرِه ... (لقد كان لكم في رَسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنة) (1) .
قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماورْدي البَصْري البغدادي ، أقضى قضاة عصره ، المولود سنة 364 ، والمتوفى سنة 450 رحمه الله تعالى ، في كتابه ((أعلام النُبُوّة)) في (الباب العشرين) وغيره ، وهو يتحدَّثُ عما خَصَّ اللهُ به رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من المزايا والخصائص ما مُلَخَّصُهُ (2) :
__________
(1) 2 ـ من سورة الأحزاب ، الآية 21 . وقد جاء في هذه الكلمات بعضُ جُمَل تتصل بحال النبوة وسِماتها ، فأبقيتُها ، لأنها من تمام الحديث عن هذا النبي الكريم والمعلِّم العظيم ، صلوات الله وسلامُه عليه . وقد نقلَ هذه الكلمات بطولها العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى ، في كتابه ((دلائل التوحيد)) ص 181 ـ 196 من طبعة دمشق ، وص 156 ـ 169 من طبعة جمعية النشر والتأليف الأزهرية بالقاهرة ، حين تحدَّث عن الرسول الكريم ودلائل نبوته وصفاته الشخصية العظيمة .
ووقع في النسخة المطبوعة من كتاب ((أعلام النبوة)) للماوردي المنقول عنه هذه الكلمات ، تحريفات وتصحيفات كثيرة ، وكذلك وقعَ ـ تبعاً ـ في كتاب ((دلائل التوحيد)) ، فاجتهدتُ أن أَخلُصَ منها ، وما استطعتُ أن أنجو منها جميعاً في نظري ، والله ولي التوفيق .
(2) 3 ـ ومن غريب التوافق أن المعاني التي أشار إليها الإمامُ الماورديُّ إمامُ المشرق في عصره ، في كلماته الآتية في بيان مزايا الشخصية النبوية الكريمة ، قد أشار إليها بإجمالٍ عَصْرِيُّهُ إمام المغرب الإمام ابن حَزْم ، في كتابه ((الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) 2 : 88 ـ 91 من طبعة صُبيح بالقاهرة سنة 1384 ، حتى كأنَّ أحدهما قد استَقى من الآخَرِ فِكرَه أو حاوَرَه فيه .
ولكن لا غرابة في تقارُب النَّظر ، وتوافُق الفِكَر بين إمامي المشرق والمغرب ، لأنهما ينطلقان من مَهْيَعٍ واحد ، هو تشخيصُ المزايا التي اتَّصفَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي باديةٌ للمَشْرِقي كما تبدو للمَغْرِبي على سواء ، وقد كانت وفاةُ الماوردي سنة 450 ببغداد ، ووفاةُ ابن حزم سنة 456 في بلدة لَبْلَبة من بلاد الأندلس ، رحمهما الله تعالى .(1/29)
((لمّا كان أنبياءُ الله صفوة عباده وخيرةَ خَلْقِه ، لِما كلَّفَهم من القيام بحقِّه ، استخلصهم من أكرم العناصر ، وأمدَّهم بأوكد الاواصر ، حِفظاً لنسبِهم من قَدْح ، ولمنصبِهم من جَرْح ، لتكون النفوس لهم أوطى ، والقلوب لهم أصفى ، فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ، ولأوامرهم أطوع .
وقد كانت آياتُ النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم باهرة ، وشواهِدُهُ قاهرة ، تشهَدُ مَباديها بالعواقب ، فلا يَلتبِسُ فيها كِذبٌ بصدق ، ولا مُنْتَحِلٌ بمُحِقّ ، وقد أرسله الله بعد الاستخلاص ، وطهَّره من الأدناس فانتفَتْ عنه تُهَمُ الظنون ، وسَلِمَ من ازدراءِ العيون ، لا يَدفعُهُ عقل ، ولا يأباه قلب ، ولا تَنفِرُ عنه نفس .
فهو المهيَّأُ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال ، المؤهَّلُ لأعلى المنازل وأفضل الأعمال ، لأنها أصولٌ تَقودُ إلى ما ناسَبَها ووافقَها ، وتنفِرُ ما باينها وخالفها . ولا منزِلة في العالم أعلى من النبوّة التي هي سِفارةٌ بين الله تعالى وعبادِه ، تبعَثُ على مصالح الخَلْق وطاعةِ الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخصَّ ، وأكملهم بشروطها أحقَّ وأمَسّ.
ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما دانى طَرَفَيْهِ من قارَبَه في فَضْلِهِ ، ولا داناه في كماله ، خَلقاً وخُلُقاً ، وقولاً وفعلاً ، وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله : (وإنَّك لعلى خُلُقٍ عظيم) (1) .
والفضل وإن لم يكن من مُعجزات النبوة ، لانه قد يُشارَكُ فيه ، فهو من أمارتها . وتكامُلُ الفضل مُعْوِز (2) ، فصار كالمُعْجِز ، وكمالُ الفضل موجِبٌ للصدق ، والصَّدق موجِبٌ لقبول القول ، فجاز أن يكون الفضلُ من دلائل الرُّسُل .
فإذا وَضَح هذا ، فالكمال المعتَبَر في البَشَر ، يكون من أربعة أوجه :
__________
(1) 4 ـ من سورة القلم ، الآية 4 .
(2) 5 ـ أعوزَ الشيءُ فهو مُعْوِز ، إذا عَزَّ فلم يوجَد . أي تكامُلُ الفضل عزيز .(1/30)
1 ـ كمالُ الخَلْق ، 2 ـ وكمالُ الخُلُق ، 3 ـ وفضائل الأقوال ، 4 ـ وفضائل الأعمال .
1 ـ فأمّا الوجه الأول في كمال خَلْقِهِ بعد اعتدال صورته ، فيكون بأربعة أوصاف :
أحدها : السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم ، الداعية إلى التقديم والتسليم ، وكان أعظم مَهيب في النفوس ، حتى ارتاعت رُسُل كسرى من هَيْبَتِه حين أتوه ، مع ارتياضِهم بصَوْلَةِ الأكاسرة ، ومكاثرة الملوك الجبابرة ، فكان صلى الله عليه وسلم في نفوسهم أهْيَب ، وفي أعينهم أعظم ، وإن لم يتعاظم بأُبَّهة ، ولم يتطاول بسَطْوة ، بل كان بالتواضع موصوفاً ، وبالسهولة معروفاً .
والثاني : الطلاقةُ الموجة للإخلاص والمحبّة ، الباعثة على المصافاة والمودّة ، وقد كان صلوات الله عليه وسلامه محبوباً ، ولقد استحكمتْ محبّةُ طلاقَتِه في النفوس ، حتى لم يَقْلِهِ مُصاحِب (1) ، ولم يتباعد منه مُقارب ، وكان أحبَّ إلى أصحابه من الآباء والأبناء ، وشُرْب البارد على الظَّمَاء (2) .
والثالث : حُسنُ القبول ، الجالبُ لممايلة القلوب حتى تُسرِع إلى طاعته ، وتُذعِن بموافقته ، وقد كان قبولُ منظره صلى الله عليه وسلم مستولياً على القلوب ، ولذلك استَحكمت مصاحبتُه في النفوس ، حتى لم ينفِر منه مُعانِد ، ولا استوحَشَ منه مُباعِد ، إلاّ من ساقه الحسَد إلى شَقوتِه ، وقادهُ الحرمانُ إلى مخالفتِه .
والرابع : مَيْلُ النفوس إلى متابعته ، وانقيادُها لموافقته ، وثباتُها على شدائدِه ومُصابرتِه ، فما شَذَّ عنه معها من أخلصَ ، ولا نَدَّ عنه فيها من تخصص (3) .
وهذه الأربعة من دواعي السعادة ، وقوانين الرسالة ، وقد تكاملت فيه ، فكَمَل لما يوازيها ، واستحقَّ ما يقتضيها .
2 ـ وأما الوجه الثاني في كمالِ خُلُقه ، فيكون بسِتّ خِصال :
__________
(1) 1 ـ أي لم يُبغضه أو يكرهه مُصاحب .
(2) 2 ـ الظَّماء : العطش الشديد .
(3) 3 ـ أي عاشره طويلاً واختصَّ بصحبته .(1/31)
الخِصلة الأولى : رجاحةُ عقله ، وصحّة وَهْمِه (1) ، وصدقُ فِراسته ، وقد دلَّ على وفور ذلك فيه صحةُ رأيه ، وصوابُ تدبيره ، وحسنُ تألُّفه ، وانه ما استُغْفِلَ في مكيدة ، ولا استُعجِزَ في شديدة ، بل كان يَلحَظُ الأعجاز في المبادي (2) ، فيكشِفُ عيوبَها ، ويحُلُّ خُطوبَها ، وهذا لا ينتظم إلاّ بأصدق وَهْم ، وأوضح حَزْم .
والخَصْلة الثانية : ثباتُه في الشدائد وهو مطلوب (3) ، وصبرُه على البأساء والضرّاء وهو مكروبٌ ومحروب (4) ، ونفسُهُ في اختلاف الأحوال ساكنة ، لا يَخور في شديدة (5) ، ولا يَستكين لعظيمة (6) ، وقد لَقِيَ بمكة من قريش ما يُشيبُ النواصي ، ويَهُدُّ الصَّياصي (7) ، وهو مع الَّعْف يُصابِر صبْرَ المستعلي ، ويثبُتُ ثبات المستولي .
والخَصلة الثالثة : زهدُه في الدنيا وإعراضُه عنها ، وقناعتُه بالبلاغ منها (8) ، فلم يَمِلْ إلى نضارتها ، ولم يَلْهُ بحلاوتها (9) ، وقد مَلَك من أقصى الحجاز إلى عِذارِ العراق (10) ، ومن أقصى اليَمَن إلى شَحْرِ عُمان (11) ، وهو أزهد الناس فيما يُقتنى ويُدَّخَر ، وأعرضُهم عما يُستفاد ويُحتَكَر .
__________
(1) 4 ـ أي صحة ما يقع في ذهنه من الخواطر ، تقول في لغة العرب : وَهَمْتُ أهِمُ وَهْماً ـ على وزن وعَدَ يَعِدُ وَعْداً ـ إذا وقع الشيءُ في خاطرك وخَلَدك .
(2) 5 ـ أي يبصر عواقب الأمور في مبادئِها .
(3) 6 ـ أي مطلوب من أعدائه .
(4) 7 ـ أي مُحارَب .
(5) 8 ـ لا يخور : لا يضعف .
(6) 9 ـ لا يستكين : لا يذل ولا يخضع .
(7) 10 ـ الصياصي : الحصون المنيعة .
(8) 11 ـ البلاغ : اليسير الذي يُتوصَّل به إلى الغاية .
(9) 12 ـ أي لم يأنس بها ويعجب بلذتها .
(10) 13 ـ العِذار : الجانب .
(11) 14 ـ أي ساحل بحر عُمان .(1/32)
لم يُخلِّف عيْناً ولا دَيْناً (1) ، ولا حَفر نهراً ، ولا شيَّد قصراً ، ولم يُورِّث ولده وأهله متاعاً ولا مالاً ، ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها ، فيكونوا على مِثلِ حالِه في الزُّهد فيها .
وحقيقٌ بمن كان في الدنيا بهذه الزَّهادة ، حتى اجتَذَب أصحابَه إليها ، أن لا يُتَّهَم بطلبها ، ويكذب على الله في ادّعاء الآخرة بها ، ويَقنَع في العاجل ، وقد سُلِب الآجل ، بالميسور النَّزْر ، ورضيَ بالعيش الكَدْر .
والخَصلة الرابعة : تواضُعُه للناس وهم أتباع ، وخفضُ جناحه لهم وهو مُطاع ، يمشي في الأسواق ، ويجلس على التُراب ، ويَمتزِجُ بأصحابه وجُلسائِه ، فلا يتميَّز عنهم إلاّ بإطراقِهِ وحيائِه ، فصار بالتواضع متميِّزاً ، وبالتذلُّل متعزِّزاً .
ولقد دخل عليه بعض الأعراب ، فارتاع من هيْبته ، فقال له : خَفِّضْ عليك (2) ، فإنما أنا ابنُ امرأةٍ كانت تأكل القَديد بمكة (3) .
__________
(1) 15 ـ أي دَيْناً له على الناس ، بل قد مات صلى الله عليه وسلم ودِرعُه مرهونة عند يهودي في طعام أهله .
(2) 16 ـ أي سكِّن قلبك واطمئن ولا تجزع مني .
(3) 17 ـ القديد اللحمُ المجفَّف بالشمس . =
= وأراد بقوله صلى الله عليه وسلم : (إنما أنا ابنُ امرأةٍ كانت تأكل القَديد بمكة) : نفيَ صفة الملوكية عنه التي يلزمها الجبروتية والتكبر . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (أنا ابن امرأة ...) نَسَب نفسه إلى المرأة ، ولم يقل : (أنا ابن رجل) زيادةً في شدة التواضع وتسكينِ الرَّوْع ، لِما عُلِمَ من ضعف النساء . ثم وصَفَها بأنها (تأكل القديد) تواضعاً ، لأن (القديد) أكلٌ مَفْضول ، وهو مأكول المساكين الفقراء ، والمتكبرون الجبابرة لا يأكلون من اللحم إلاّ ما ذُبح حديثاً ، فكأنه قال : إنما أنا ابنُ امرأةٍ مسكينة ، تأكل مَفْضول الأكل ، فكيف تَخافُ مني؟ . أفاده العلامة القَسطلاّني رحمه الله تعالى في ((المواهب اللدنية)) 4 : 319 ـ 320 بشرح الزرقاني .(1/33)
وهذا من شرف أخلاقه ، وكريم شِيَمه ، فهي غَريزة فُطِرَ عليها ، وجِبِلّةٌ طُبِعَ بها (1) ، لم تَنْذُرْ فتُعَدُّ (2) ، ولم تُحْصر فتُحَدّ .
والخصلة الخامسة : حِلمُهُ ووَقارُه عن طَيْشٍ يهُزُّه ، أو خُرْقٍ يستفِزُّه (3) ، فقد كان أحلمَ في النِّفار من كل حليم (4) ، وأسلمَ في الخِصام من كل سليم ، وقد مُني بجفوة الأعراب (5) ، فلم يوجد منه نادرة (6) ، ولم يُحفظ عليه بادِرة (7) . ولا حليمَ غيرَه إلاّ ذو عَثْرة ، ولا وَقور سِواه إلاّ ذو هَفْوة ، فإن الله تعالى عَصَمه ، من نَزْغِ الهوى ، وطَيْشِ القُدرة بهفوة أو عَثْرة ، ليكون بأُمَّته رؤوفاً ، وعلى الخلق عَطوفاً .
وقد تناولتْهُ قريشٌ بكل كبيرة ، وقصدَتْهُ بكل جَريرة (8) ، وهو صبورٌ عليهم ، ومُعرِض عنهم ، وما تفرَّدَ بذلك سُفهاؤهم دون حُلمائهم ، ولا أراذِلُهم دون عُظمائهم ، بل تَمالأَ عليه الجِلّةُ والدُّون (9) .
فكلما كانوا عليه من الأمر ألحَّ ، كان عنهم أعرضَ وأصفَح ، حتى قَهرَ فعفا ، وقدَرَ فغفَر .
__________
(1) 1 ـ الجِبِلّة : الخِلْقة .
(2) 2 ـ لم تندر ، أي لم تكن نادرة قليلةً فتعد .
(3) 3 ـ الخُرْقُ : الجهل ، والحُمق .
(4) 4 ـ النِّفار : الجَزَعُ والخوف .
(5) 5 ـ مُني : أُصيبَ .
(6) 6 ـ أي كلمةٌ نابيةٌ خارجةٌ عن المعتاد .
(7) 7 ـ البادِرة : حِدّة الغضب السريعة .
(8) 8 ـ الجريرة : الجناية .
(9) 9 ـ يقال : تمالأ القوم على كذا ، إذا اجتمعوا وتعاونوا عليه . وجِلّةُ القوم : عظماؤهم . والدّون : الخسيس الحقير .(1/34)
وقال لهم حين ظَفِر بهم عامَ الفتح (1) ، وقد اجتمعوا إليه : ما ظنُّكم بي؟ قالوا : ابنُ عمٍّ كريم (2) ، فإنْ تعْفُ فذاك الظنُّ بك ، وإن تنتقِمُ فقد أسأنا ، فقال : بل أقول كما قال يوسف لإخوته : (لا تَثْريبَ عليكم اليومَ ، يَغفِرُ الله لكم وهو أرْحَمُ الراحمين) (3) .
وأتَتْهُ هندٌ بنتُ عُتْبة ـ وقد بَقَرَتْ بطنَ عمِّه حمزة ، ولاكَتْ كَبِدَهُ (4) ـ فصفحَ عنها ، وبايَعَها .
والخَصْلة السادسة : حِفظُه للعَهْد ، ووفاؤُه بالوَعْد ، فغنه ما نَقَض لمحافظ عهداً ، ولا أخلَفَ لمُراقِبٍ وعداً ، يرى الغَدْرَ من كبائر الذنوب ، والإخلافَ من مساوىء الشِّيَم ، فيَلتزِم فيهما الأغلظ ، ويرتكبُ فيهما الأصعب ، حِفظاً لعهده ، ووفاءً بوعده ، حتى يَبتدىء مُعاهِدوه بنقضه ، فيجعل اللهُ تعالى له مخرجاً ، كفعل اليهود من بني قُريظة وبني النَّضير ، وكفعل قُريش بصُلْح الحُدَيْبِية ، فجعل الله تعالى له في نَكْثِهم الخِيَرة (5) .
__________
(1) 10 ـ أي فتح مكة .
(2) 11 ـ كذا وقع في كلام الماوردي : ابن عمٍّ كريم ، والمحفوظ في هذا الخبر : ((قالوا : أخٌ كريم ، وابنُ أخٍ كريم ..)) . كما في ((السيرة)) لابن اسحاق ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 8 : 15 ، والزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية)) 2 : 377 ، وكما في ((مغازي الواقدي)) 2 : 835 ، و((عيون الأثر)) لابن سيد الناس 2 : 178 ، و((زاد المعاد)) لابن القيم 2 : 394 ، و((بهجة المحافل)) لليمني 1 : 410 . وبقية ألفاظ الخبر في هذه الكتب قريبة المعنى من النص المذكور هنا .
وجاء في رواية ثانية : ((ما تُرَوْن أني فاعل بكم ..)) . و(تُرَوْن) بضم التاء ، بمعنى تظنون ، كما ضبطها في ((بهجة المحافل)) .
(3) 12 ـ من سورة يوسف ، الآية 92 .
(4) 13 ـ أي مضَغَت كَبِد عمِّه حمزة في فمها حين بقَرَتْ بطنَه ، زيادة في التشفي بقتله رضي الله عنه .
(5) 14 ـ أي ما هو الأفضل .(1/35)
فهذه سِتُّ خصال تكاملتْ في خُلُقِه ، فضَّلَه الله تعالى بها على جميع خَلْقِه .
3 ـ وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله ، فمعتَبَرٌ بثمانِ خصال :
الخَصْلةُ الأولى : ما أوتي من الحكمة البالغة ، وأُعطيَ من العلوم الجَمّة الباهرة ، وهو أُمّيٌّ من أُمّةٍ أُمِّيّة ، لم يقرأ كتاباً ، ولا درس علماً ، ولا صَحِب عالماً ولا مُعلِّماً ، فأتى صلى الله عليه وسلم بما بَهَر العقول ، وأذهَلَ الفِطَن ، من إتقانِ ما أبان ، وإحكام ما أَظهر ، فلم يَعْثُر فيه بزلَل ، في قولٍ أو عمل .
وما هذه الفِطرة في الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلاّ من صَفاءِ جوهرِه ، وخُلوصِ مَخبَرِه .
والخَصْلة الثانية : حِفظُه لِما أطلعه الله تعالى عليه ، من قِصَص الانبياء مع الأمم ، وأخبار العالم في الزمن الأقدم ، حتى لم يَعزُب عنه منها صغير ولا كبير ، ولا شَذَّ عنه منها قليلٌ ولا كثير ، وهو لا يَضبطها بكتاب يَدْرسُهُ ، ولا يَحفَظُها بعينٍ تَحرُسُه ، وما ذاك إلاّ من ذِهنٍ صحيح ، وصدْر فسيح ، وقلبٍ شَريح (1) ، وهذه الثلاثة آلةُ ما استُدِعَ من الرسالة ، وحُمِّلَ من أعباء النبوة ، فجديرٌ أن يكون بها مبعوثاً ، وعلى القيام بها مَحثوثاً .
والخصلة الثالثة : إحكامُه لما شَرََع بأظهرِ دليل ، وبيانُه بأوضح تعليل ، حتى لم يَخرُجْ عنه ما يوجبُه معقول ، ولا دَخَلَ فيه ما تَدفَعُه العُقول ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ((أوتيتُ جوامع الكَلِم ، واختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً)) (2) .
__________
(1) 15 ـ أي قلب واسع .
(2) 1 ـ رواه أبو يعلى في ((مسنده)) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وإسناده حسن ، ولفظُه : ((أعطيتُ جوامع الكلِم ، واختُصِرَ لي الكلام اختصاراً)) . وهو قريبُ المعنى من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، الذي رواه ابن أبي شيبة والطبراني وأبو يعلى بسند حسن : ((أُعطيتُ فواتحَ الكَلِم ، وجوامعَه ، وخواتمَه)) .
و(فواتحُ الكَلِم) وفي رواية (مَفاتحُ الكلِم) : هما جمعُ مِفتاح ومِفْتَح ، وهما في الأصل : كلُّ ما يُتوصَّل به إلى استخراج المُغْلَقات التي يتعذَّر الوصول إليها . و(الكَلِمُ) جمع كَلِمة .
والمراد بهما هنا : أنه صلى الله عليه وسلم أُعطِيَ البلاغة والفصاحة ، والتوصُّل إلى غوامض المعاني وبدائع الحِكَم ، ومحاسنِ العبارات والألفاظ التي أُغلِقَتْ على غيره وتعذَّرتْ ، وواسع المعاني الجليلة الشاملة ، بلفظٍ موجز لطيف جامع ، لا تعقيد فيه ولا التواء ولا غموض .
و(جوامع الكلم) ـ واحدُها : كلمةٌ جامعة ـ هي الكلمات التي يُعبَّرُ بها عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة .
و(خواتمُ الكلم) ـ واحدها : كلمةٌ خاتمة ـ هي الكلمات الخاتمة الحاوية للمعاني الكثيرة بحيث لا يَخرُجُ عنها شيء عن طالبه ، مع عُذوبتها وجزالتها وإستيفائها ، وحسنِ الوقف ورعاية الفواصل .
وقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس ، يفتتح كلامَه بأعذب لفظ وأجزله ، وأفصحِه وأوضحِه ، ويختمه بمقطع وجيز بليغ جامع ، يشوِّقُ السامع إلى الإقبل على الاستماع له والحرصِ عليه .
وقولُه : (واختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً) يعني أوجِزَ لي الكلام ، حتى صار ما أتكلم به كثيرَ المعاني قليلَ الألفاظ .
وذلك كلُّه مما اختصَّه الله به ، وفضَّله به على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام . وتقدَّم تعليقاً في ص 24 ـ 25 جملةٌ من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .(1/36)
لأنه نبَّهَ بالقليل على الكثير ، فكفَّ عن الإطالة ، وكشَفض عن الجهالة ، وما تيسَّر له ذلك ، إلاّ وهو عليه مُعان ، وإليه مُقاد .
والخصلة الرابعة : ما أمَرَ به من محاسن الأخلاق ، ودَعا إليه من مُستحسَن الآداب ، وحَثَّ عليه من صِلةِ الأرحام ، ونَدَبَ إليه من التعطُّفِ على الضعفاء والأيتام .
ثم ما نهى عنه من التباغُض والتحاسُد ، وكفَّ عنه من التقاطع والتباعُد ، لتكونَ الفضائلُ فيهم أكثر ، ومحاسِنُ الأخلاق بينهم أنشَر ، ومُستحسَنُ الآدابِ عليهم أظهر ، ويكونوا إلى الخير أسرع ، ومن الشرِّ أمنَع .
فيتحقَّقُ فيهم قولُ الله تعالى : (كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنّاس ، تأمُرون بالمعروف ، وتَنْهَوْنَ عن المنكر) (1) . فلَزِموا أوامرَه ، واتَّقوا زواجِرَه ، فتكاملَ بهم صَلاحُ دينهم ودُنياهم ، حتى عَزَّ بهم الإسلامُ بعدَ ضعفِه ، وذلَّ بهم الشِّركُ بعد عِزِّه ، فصاروا أئمةً أبراراً ، وقادةً أخياراً .
والخصلة الخامسة : وُضوحُ جوابِه إذا سُئل ، وظُهورُ حِجاجِه إذا جودِل (2) ، لا يَحْصُرُه عِيّ (3) ، ولا يَقطَعُه عَجْز ، ولا يُعارِضُه خَصْمٌ في جدال ، إلاّ كان جوابُه أوضح ، وحِجاجُه أرجح .
والخصلة السادسة : أنه محفوظُ اللسان من تحريفٍ في قول ، واسترسالٍ في خبرٍ يكون إلى الكذب منسوباً ، وللصدقِ مُجانباً ، فإنه فإنه لم يَزَلْ مشهوراً بالصدق في خَبَرِه ناشِئاً وكبيراً ، حتى صار بالصِّدق مَرقوماً (4) ، وبالأمانة مَوسوماً (5) .
__________
(1) 2 ـ من سورة آل عمران ، الآية 110 .
(2) 3 ـ الحِجاج : المُجادلة .
(3) 4 ـ أي لا يضايقه ولا يمنعه عن أداء مراده ضعف .
(4) 5 ـ أي مزيَّناً ومعرَّفاً .
(5) 6 ـ أي صارت الأمانة له وِساماً وعلامة .(1/37)
وكانت قريش بأَسْرِها تتيقَّنُ صِدقَه قبل الإسلام ، فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه (1) ، فمنهم من كذَّبه حَسَداً ، ومنهم من كذَّبه عناداً ، ومنهم من كذَّبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً . ولو حَفِظوا عليه كِذبةً نادرةً في غير الرسالة ، لجعلوها دليلاً على تكذيبه في الرسالة .
ومن لَزِمَ الصدقَ في صِغَره ، كان له في الكبر ألزَم ، ومن عُصِمَ منه في حقِّ نفسه ، كان في حُقوقِ الله تعالى أعصَم . وحَسْبُك بهذا دَفْعاً لجاحِد ، ورَدّاً لمعانِد .
والخصلة السابعة : تَحريرُ كلامه في التوخّي به إبّانَ حاجتِه ، والاقتصارُ منه على قَدْرِ كفايتِه ، فلا يَسترسِلُ فيه هَذَراً (2) ، ولا يُحْجِمُ عنه حَصَراً (3) ، وهو فيما عدا حالتيْ الحاجة والكِفاية ، أجملُ الناسِ صَمْتاً ، وأحسنَهُم سَمْتاً (4) ، ولذلك حُفِظَ كلامُه حتى لم يَخْتَل ، وظَهَرَ رَوْنَقُهُ حتى لم يَعْتَلّ ، واستَعذَبَتْه الأفواه ، حتى بقي محفوظاً في القلوب ، ومُدوَّناً في الكُتُب .
__________
(1) 7 ـ أي حين طلب منهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من الدين .
(2) 8 ـ يقال : هذر الرجلُ في منطقه هَذْراً وهَذَراً : إذا تكلَّم بما لا ينبغي . وهَذِرَ كلامُه هَذَراً : كثُرَ فيه الخطأ والباطل .
(3) 9 ـ الحَصَر : العجزُ عن البيانِ والقولِ المُفهِم .
(4) 10 ـ السَّمتُ هنا : السكينةُ والوقار .(1/38)
والخصلة الثامنة : أنه أفصحُ الناس لِساناً ، وأوضَحُهم بياناً ، وأوجَزُهم كلاماً ، واجْزَلُهم ألفاظاً ، وأصحُّهم مَعانيَ ، لا يَظهَرُ فيه هُجْنَهُ التكلُّف (1) ، ولا يَتخَلَّلُه فيْهَقَةُ التَّعسُّف (2) ، وقد دُوِّنَ كثيرٌ من جوامع كَلِمه ومن كلامه الذي لا يُشاكَلُ في فصاحته وبلاغته (3) ، ومع ذلك فلا يأتي عليه إحصاء ، ولا يَبلُغُه استقصاء .
ولو مُزِجَ كلامُه بغيره لتميَّز بأسلوبه ، ولظَهَر فيه آثارُ التنافر، فلم يَلتبس حَقُّه من باطِله ، ولَبانَ صِدقُه من كذبِه (4) .
هذا ، ولم يكن مُتعاطِياً للبلاغة ، ولا مُخالِطاً لأهله من خُطَباءَ أو شُعراءَ أو فُصحاء (5) ، وإنما هو من غرائز فِطْرَتِه ، وبِدايةِ جِبِلَّتِه (6) ، وما ذاك إلاّ لِغايةٍ تُراد ، وحادثةٍ تُشاد (7) .
4 ـ وأما الوجه الرابع في فضائل أفعاله ، فمختَبَرٌ بثمانِ خِصال :
__________
(1) 1 ـ هُجنةُ التكلُّفِ : قُبحُه وعَيْبُه .
(2) 2 ـ فيْهَقَةُ التَّعسُّف : التوسُّع والتنطُّع في النطق .
(3) 3 ـ أي لا يُشابَهُ ولا يُماثَل في فصاحته وبلاغته . وقد تقدَّم تعليقاً في ص 24 ـ 25 نماذجُ كثيرة من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم ، فعُدْ إليها إذا شئت .
(4) 4 ـ يعني : لو كُذِبَ عليه صلى الله عليه وسلم ، وقيل على لسانه كلامٌ لم يقله ، لعُرِفَ كلامُه الحقُّ من الكلام الباطل المكذوب عليه ، بأمارةِ فصاحته وتميُّزِ أسلوبه .
(5) 5 ـ أي لم يكن صلى الله عليه وسلم مخالطاً لهؤلاء على سبيل التعلُّم والتلقف منهم .
(6) 6 ـ أي خِلْقتِه .
(7) 7 ـ وهي القيام بأعباءِ النبوة وإبلاغِها للناس .(1/39)
الخَصْلة الأولى : حُسُن سيرته ، وصِحّةُ سِياستِه ، في دينٍ نقلَ به الأُمّة عن مألوف ، وصَرَفهم به عن معروفٍ إلى غير معروف (1) ، فأذْعَنَتْ به النفوسُ طوْعاً ، وانقادَتْ له خوفاً وطَمَعاً ، وليس ذلك بالسهل اليسير ، إلاّ لمن كان مع التأييد الإلهي مُعاناً بحَزْمٍ صائب ، وعزْمٍ ثاقب .
ولئن كان مأموراً بما شرع ، فهي الحُجّةُ القاهرة ، ولئن كان مجتهداً فيه فهي الآيةُ الباهرة ، وحسبُك بما استقرَّتْ قواعدُه على الأبد ـ حتى انتقَلَ عن سَلَفٍ إلى خَلَف تزدادُ فيهم حلاوتُه ، وتشتدُّ فيهم جِدَّتُه ، ويَرَوْنه نظاماً لأعصار تتقلَّبُ صُروفُها ، ويختلف مألوفُها ـ أن يكون لمن قام به بُرهاناً ، ولمن ارتاب به بياناً .
والخَصْلة الثانية : أنه جَمَع بين رغبةِ من استمال ، ورهبةِ من استطاع ، حتى اجتمع الفريقان على نُصرتِه ، وقاموا بحقوقِ دعْوتِه ، رَغَباً في عاجل وآجل ، ورَهباً من زائلٍ ونازِل ، لاختلافِ الشِّيَم والطباع في الانقياد الذي لا يَنتظمُ بأحدهما ، ولا يَستديمُ إلاّ بهما ، فلذلك صار الدّين بهما مستقراً ، والصلاح بهما مستمراً .
والخَصْلة الثالثة : أنه عَدَلَ فيما شَرَعه من الدين عن الغُلوِّ والتقصير ، إلى التوسُّط ، وخيرُ الأمور أوساطُها . لأنه العَدْلُ بين طرَفَيْ سَرَفٍ وتقصير ، وليس لما جاوَزَ العدلَ حظٌّ من رشاد ، ولا نصيبٌ من سَداد .
__________
(1) 8 ـ أي صَرَفهم عن شيء معروف عندهم مألوف بينهم ، إلى أمرٍ جديد عليهم ، غير معروفٍ لديهم ، وفي التمكن من ذلك صُعوباتٌ لا تخفى جَسامتُها .(1/40)
والخَصْلة الرابعة : أنه لم يَمِلْ بأصحابه إلى الدنيا ، ولا إلى رَفْضِها ، وإنما أمَرهم فيها بالاعتدال ، وقال : ((خيرُكم من لم يترُكْ دُنياه لآخِرَتِه ، ولا آخِرتَه لدنياه ، ولكن خيرُكم من أخَذَ من هذه وهذه)) (1) .
وهذا صحيح ، لأن الانقطاع إلى أحدهما اختلال ، والجمعَ بينهما اعتدال .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((نعم المطيّةُ الدُّنيا ، فارتحلوها تُبَلِّغُكم الآخِرة)) (2) . وإنما كانت كذلك ، لأن منها يَتزوَّدُ المرءُ لآخرتِه، ويستكثر فيها من طاعتِه ، ولأنه لا يخلو تاركُها من أن يكون محروماً مُضاعاً ، أو مرحوماً مُراعى ، وهو في الأوَّل كَلّ ، وفي الثاني مُستَذَلّ .
والخَصْلة الخامسة : تَصدّيه لمعالِم الدين ، ونوازِل الأحكام ، حتى أوضح للأُمّة ما كُلِّفوه من العبادات ، وبيّن لهم ما يَحِلُّ ويَحرُمُ من مُباحاتٍ ومحظورات ، وفصَّلَ لهم ما يجوزُ ويمتنعُ من عقود ومناكحَ ومُعاملات ، حتى احتاجَ أهلُ الكتاب في كثيرٍ من معاملاتهم ومَواريثهم لشرعِه ، ولم يَحتَجْ شرعُه إلى شَرْعِ غيره .
__________
(1) 9 ـ رواه الديلمي وابن عساكر في ((تاريخه)) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولفظه قريب مما ذُكر هنا وهو : ((ليس بخيركم من تَرَك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه ، حتى يُصيبَ منهما جميعاً ، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ، ولا تكونوا كَلاًّ على الناس)) .
(2) 10 ـ لم أجده بهذا اللفظ ، وقريبٌ منه حديثُ : ((الدنيا قنطرةُ الآخرة ، فاعبروها ولا تَعمُروها)) ، ذكره الديلمي في ((الفردوس)) 2 : 351 ولم يذكر له سنداً .
وروى الحاكم في ((المستدرك)) 4 : 312 عن طارق بن أشيَم مرفوعاً ((نِعْمَتْ الدارُ الدنيا لمن تَزَوَّد منها لآخرته حتى يُرضي ربَّه عز وجل)) . صحَّحه الحاكم إلاّ أن في سنده عبد الجبار بن وهب ، وهو لا يُعرَف .(1/41)
ثم مهَّدَ لشرعه أُصولاً تَدُلُّ على الحوادث المُغْفَلة ، وتُستنْبَطُ لها الاحكام المعلَّلة ، فأغنى عن نَصٍّ بعد ارتفاعه ، وعن التباس بعد انقطاعه (1) ، ثم أمَرَ الشاهد أن يُبلِّغَ الغائب ليَعلضم بإنذاره ، ويحتجَّ بإظهاره ، فقال صلى الله عليه وسلم : ((بلِّغوا ولا تكْذِبوا عليّ ، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقَهُ منه)) (2) .
__________
(1) 11 ـ هذا المقطع وقع فيه تحريف لم أهتد إلى تصويبه! وجاء في الأصل : (وعن التباس بعدَ إغفالِه) فأثبته كما ترى ، لعله أقرب للصواب؟ .
والإمام الماوردي يعني : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَهَّدَ وأصَّلَ لهذا الشرعِ أصولاً يُرجَع إليها لمعرفة الأحكام التي لم يُنَصَّ عليها ، فأغنى بتلك الأصول المَقيسِ عليها ـ بعد ارتفاع النصّ أي الوحي وانقطاعهـ عن التخبُّط والاشتباه في معرفة الأحكام والحوادث والوقائع غيرِ المنصوص عليها . وفي هذا يُسرٌ عظيمٌ للناس .
(2) 1 ـ كأنَّ الماوردي رحمه الله تعالى جَمَع في هذا السياقِ بين أحاديثَ مختلفةٍ ، وهي كما يلي :
روى البخاري 3 : 574 في كتاب الحج (باب الخطبة أيام مِنىً) ، ومسلم 11 : 169 في كتاب القَسامة ، عن أبي بَكْرَة رضي الله عنه قال : خَطَبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ((ليُبَلِّغ الشاهِدُ الغائبَ ، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع)) .
وروى أبو داود 3 : 438 ، والترمذي 4 : 141 ، واللفظُ له ، وابن ماجَهْ 1 : 84 ، عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نضَّر اللهُ مرءاً سَمع منا حديثاً فَحفِظه حتى يُبلِّغه غيرَه ، فرُبَّ حامِل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، ورُبَّ حامِل فقهٍ ليس بفقيهٍ)) . قال الترمذي : ((حديث حسن)) .
وروى البخاري 6 : 496 في كتاب أحاديث الأنبياء (باب ما ذُكِرَ عن بني إسرائيل) ، والترمذي 4 : 147 في العلم ، عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بلِّغوا عني ولو آيةً ، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج ، ومن كَذَب علي متعمِّداً فليتبوَّأ مقعدَه من النار)) . ...
وروى البخاري أيضاً 1 : 199 ومسلم 1 : 66 عن علي رضي الله تعالى عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تكذِبوا عليَّ ، فإنه من يكذِبْ عليَّ يَلِجْ النار)) .(1/42)
فأحكَمَ ما شَرَعَ من نصٍّ وتنْبيه (1) ، وعمَّ الناس بما أمر من حاضرٍ وبعيد ، حتى صار لما تَحَمَّلَه من الشرع مُؤَدِّيا ، ولما تَقلَّده من حقوقِ الأُمّة مُوَفِّيا ، لئلا يكون في حقوق الله زَلَل ، ولا في مصالح الأمّة خَلَل ، وذلك في بُرهةٍ من زمانه ، لم يَستوفِ تَطاوُلُ الاستيعاب ، حتى أوجَز وأنجَز ، وما ذاك إلاّ بديعٌ مُعْجِز .
__________
(1) 2 ـ المراد بالنَّص والتنبيهِ هنا : ما اصطلح عليه علماء أصول الفقه ، وهو أن (النص) : ما جاء فيه لفظُ التعليل للحُكمِ صَراحةً ، مِثلُ قولِه تعالى : (لكيلا تأسَوْا على ما فاتكم) . وقولِهِ صلى الله عليه وسلم : ((إنَّما جُعِلَ الاستئذان من أجل البصر)) .
و(التنبيه) : الإيماء والإشارة إلى علةِ الحكم ، مِثلُ قوله تعالى : (السارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما) . فأشار بلفظ الفاء الداخلة على الحكم : (فاقطعوا) إلى أن علته هي السرقة . ومثلِ قوله صلى الله عليه وسلم : ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) . أي تحوَّل عن الإسلام لغيره . وقوله : ((القاتل لا يرث)) . فأشار إلى أن عِلّة قتلِه رِدَّتُه عن الإسلام ، وأن علة حرمانه من الميراث هي أنه قتلَ مورِّثه .
وهذان المسلكان لبيان الأحكام ـ إلى مسالك أخر ـ يدلان على اتساع الشريعة وشمولها لبيان أحكام الوقائع والحوادث مهما تجدَّدَتْ ، وذلك بقياسِ ما لم يُنصَّ عليه منها ، على ما نُصَّ عليه ، استناداً إلى علةِ الحكم المشتركة بينهما .(1/43)
والخَصْلة السادسة : انتصابُه لجهادِ الأعداء ، وقد أحاطوا بجهاته ، وأحدقوا بجَنَباته ، وهو في قُطْرٍ مهجور ، وعَدَدٍ محقور ، فزاد به من قَلَّ ، وعزَّ به من ذَلّ ، وصار بإثخانِه في الأعداء مَحذوراً (1) ، وبالرُّعبِ منه منصوراً ، فجمع بين التصدّي لشرع الدين حتى ظَهَر وانتشَر ، وبَيَْ الانتصاب لجهاد العدو حتى قَهَر وانتصر ، والجمعُ بينهما مُعْوِز إلاّ لمن أمَدَّه الله بمعونته ، وأيَّده بلُطفه ، والمُعْوِز مُعْجِز .
والخَصْلة السابعة : ما خُصَّ به من الشجاعة في حُروبه ، والنَّجدةِ في مُصابرةِ عَدوِّه ، فإنه لم يَشهد حَرْباً فيها أَفْزاع (2) ، إلاّ صابَرَ حتى انجلَتْ عن ظَفَرٍ أو دِفاع ، وهو في مَوقفِه لم يَزُلْ عنه هَرَباً ، ولا انحاز منه رَغَباً ، بل ثَبَتَ بقلبٍ آمن ، وجأْشٍ ساكِن .
قد ولّى عنه أصحابُه يوم حُنَيْن ، حتى بَقِيَ بإزاءِ جَمْعٍ كثير ، وجَمٍّ غَفير ، في تِسعةٍ من أهل بيته وأصحابِه ، على بَغْلةٍ مسبوقةٍ إن طُلِبَتْ ، غير مستعدةٍ لهَرَبٍ ولا طَلَب ، وهو ينادي أصحابه ، ويُظهِرُ نفسه ، ويقول : إليَّ عِباد الله : ((أنا النبيُّ ولا كَذِب ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِب)) .
فعادوا أفذاذاً وأرْسالاً (3) ، وهَوَازِنُ تراه وتُحجِمُ عنه ، فما هاب حَرْبَ مَنْ كاثَرَه ، ولا انكفَأَ عن مُصاوَلةِ من صابَرَه ، وقد عَضَده الله بإنجادٍ وأجْناد فانحازوا وصَبَر ، حتى أَمَدَّه الله بنصره ، وما لهذه الشجاعة من عَديل .
__________
(1) 3 ـ أثْخَن في العدوّ إذا بالغ في قتاله .
(2) 4 ـ الأفزاع : جمع فَزَع ، وهو الخوف والذعر .
(3) 5 ـ الأفذاذ جمع فَذّ ، وهو الفَرْد . والأرسال جمع رَسَل ، وهو الجماعة .(1/44)
ولقد طرَقَ المدينة فَزَعٌ ، فانطلقَ الناسُ نحو الصَّوْت ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سَبَقهم إليه ، فتلقَّوْه عائداً ، على فَرَسٍ عُرْيٍ (1) ، لأبي طلحة الأنصاري ، وعليه السيف ، فجعل يقول : أيها الناس لمْ تُراعوا لم تُراعوا (2) ، ثم قال لأبي طلحة : إنّا وجدْناهُ بَحْراً (3) ، وكان الفرس يُبطىء ، فما سبقَه فرسٌ بعد ذلك .
وما ذاك إلاّ عن ثِقَةٍ من أنَّ الله تعالى سينصُرُه ، وأنَّ دينه سيُظهِرُه تحقيقاً لقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلِّهِ) (4) ، وتصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((زُوِيَتْ لي الأرضُ ، فرأيتُ مَشارقَها ومَغاربَها ، وسيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتي ما زُوِيَ لي منها)) (5) . وكفى بهذا قياماً بحقه ، وشاهداً على صِدقِه .
والخَصْلة الثامنة : ما مُنِحَ من السَّخاء والجود ، حتى جادَ بكل موجود ، وآثَرَ بكل مطلوب ومحبوب ، ومات ودِرْعُهُ مَرهونةٌ عند يَهوديّ ، على آصُعٍ من شعيرٍ لطعامِ أهلِه (6) .
__________
(1) 6 ـ أي ليس عليه سَرْج ولا شيء .
(2) 7 ـ هكذا الرواية : (لم تراعوا) ، كما في مواضع من ((صحيح البخاري)) . و(لم) بمعنى (لا) وجاء في رواية مسلم في ((صحيحه)) : (لن تُراعوا) . قال المحقق الزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية)) 4 : 335 : ((ولن هنا بمعنى لم ، بدليل رواية البخاري (لم تراعوا) . أي ليس هناك شيء تخافونه)) .
(3) 8 ـ أي واسع الجري .
(4) 9 ـ من سورة التوبة ، الآية 33 .
(5) 10 ـ رواه مسلم 18 : 13 ، وأبو داود 4 : 138 ، وابنُ ماجه 2 : 1304 كلهم في الفِتَن ، عن ثوبان رضي الله تعالى عنه مرفوعاً ، واللفظ المذكورُ هنا أولُه لابن ماجه ، وآخره لمسلم وأبي داود .
(6) 11 ـ الآصُع : جمعُ صاعٍ ، وهو مكيالٌ تُكالُ به الحبوبُ ونحوها . =
= والحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها ، ولفظه : ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودِرعُه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير)) . وفي رواية الإمام احمد من حديث أنس : ((فما وَجَد النبي صلى الله عليه وسلم ما يَفَتكُّها به حتى مات)) .(1/45)
وقد مَلَك جزيرة َ العرب وكان فيها ملوكٌ وأقيال (1) ، لهم خزائنُ وأموال ، يقتنونها ذُخْراً ، ويتباهون بها فخْراً ، ويستمعون بها أشَراً وبَطَراً ، وقد حاز مُلكَ جميعِهم ، فما اقتنى ديناراً ولا دِرهماً .
لا يأكلُ إلاّ الخَشِبَ (2) ، ولا يلْبَسُ إلاّ الخَشِنَ ، ويُعطي الجَزْلَ الخطير ، ويَصِلُ الجمَّ الغفير ، ويَتجرَّعُ مَرارةَ الإقلال ، ويَصبرُ على سَغَب الاختلال (3) .
وقد حاز غنائمَ هوازن ، وهي من السَّبي : ستةُ آلافِ رأس ، ومن الإبل : أربعةٌ وعشرون ألفَ بعير ، ومن الغنم : أربعون ألفَ شاة ، ومن الفضة : أربعةُ آلاف أُوقيّة ، فجادَ بجميع حقِّه وعاد خِلْواً .
وروى أبو وائل ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها : قالت : ((ما تَرَك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا شاةً ولا بعيراً ، ولا أوصى بشيء)) (4) .
وروى عَمْرو بن مُرّة ، عن سُوَيد بن الحارث ، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما يَسرُّني أنَّ لي أُحُداً ذهباً ، أُنفِقُه في سبيل الله ، أموتُ يوم أموتُ وعندي منه دينار ، إلاّ أن أُعِدَّه لغريم)) (5) .
__________
(1) 1 ـ الأقيال جمع قَيْل وهو الملِكُ من ملوك اليمن في الجاهلية ، دون الملك الأعظم .
(2) 2 ـ الخَشِبُ كالخَشِن لفظاً ومعنى . واخشَوشَب في مطعمه صار صُلباً خشِنا فيه .
(3) 3 ـ السَّغب : الجوع .
(4) 4 ـ رواه مسلم 11 : 89 وأبو داود 3 : 152 ، كلاهما في الوصية من طريق أبي وائل كما ذكره الماوردي . وكيف يمكن أن يوصي بشيء وهو مَدينٌ بالرهن!
(5) 5 ـ رواه من هذا الطريق الدارمي في ((سننه)) 2 : 223 ، ولفظُه : ((ما يَسرُّني أنَّ جبل أُحُدٍ لي ذهباً ، أموتُ يومَ أموتُ وعندي دينارٌ أو نصفُ دينار إلاّ لغريم)) . أي لدائنٍ استدنتُ منه لأجَل .(1/46)
وكان إذا سُئل ـ العطاءَ ـ وهو مُعْدِم ، أمَرَ السائل بالشراءِ عليه ، ولم يَرُدَّه صِفراً ، روى هشام بن سعد ، عن زيد بن أسْلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما عندي شيء ،ولكن ابتَعْ عليّ ، فإذا جاءني شيء قضيتُه .
فقال عمر : يا رسول الله ، قد أعطيتَه ، فما كلَّفك الله ما لا تَقْدِرُ عليه ، فكرِه صلى الله عليه وسلم قول عمر .
فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، أنفقْ ولا تَخَفْ من ذي العرش إقْلالاً ، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعُرِف في وجهه البِشْرُ لقول الأنصاري ، ثم قال : بهذا أُمِرتُ (1) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ((أنا أَولى بالمؤمنين من أَنفُسِهم ، فمن تُوفّي من المؤمنين فتَرَك دَيْناً فعليَّ قضاؤُه ، أو ضَياعاً فليأتِني وأنا مولاه (2) ،
__________
(1) 6 ـ رواه الترمذي في ((الشمائل)) في (باب ما جاء في خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم) ص 225 .
(2) 7 ـ الضَّياع بفتح الضاد ، مصدر ضاع يَضيعُ ضياعاً . سُمّي به : ما هو في مَعرِض أن يَضيع إن لم يُتَعهَّد ، كالذُّرية الصِّغار ، والزَّمْنى الذين لا يَقومون بأمر أنفسهم ، ومن يَدْخُل في معناهم . ويجوز فيه الضَّياع بكسر الضاد : جمع ضائع كجائع وجِياع . وهو من حيث المعنى كلفظِ الضَّياع بالفتح .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((شرح صحيح مسلم)) 11 : 60 ((ومعنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنا قائمٌ بمصالحكم في حياة أحدِكم وموْتِه ، وأنا وَليُّه في الحالَيْن ، فإن كان عليه دَينٌ قضَيْتُه من عندي إنلم يُخلِّف وفاءً ، وإن كان له مال فهو لِورَثَتِه لا آخُذُ منه شيئاً ، وإن خلَّفَ عيالاً مُحتاجين ضائعين فليأتوا إليَّ ، فعليَّ نفقتُهم ومَؤونَتُهم)) .(1/47)
ومن ترَك مالاً فلِوَرَثَتِه)) (1) .
فهل مثلُ هذا الكرم والجود ، كرمٌ وجود؟ أم هل مِثل هذا الإعراضِ والزَّهادة ، إعراضٌ وزُهْد؟
هيهات أن يُدْرَكَ شَأْوُ مَنْ هذه شُذورٌ من فضائِلِه ، ويَسيرٌ من مَحاسِنِه ، التي لا يُحصى لها عَدَد ، ولا يُدرَكُ لها أمَد . لم تكْمُلْ في غيرِه فيُساويه ، ولا كَذَّبَ بها ضِدٌّ يُناويه (2) .
ولقد جَهَد كلُّ مُنافق ومُعانِد ، وكلُّ زِنديق ومُلْحِد ، أن يُزرِيَ عليه في قولٍ أو فعل ، أو يَظفَرَ بهفْوةٍ في جِدٍّ أو هَزْل ، فلم يَجِد إليه سبيلاً وقد جَهَد جُهدَه ، وجَمَعَ كَيْدَه!
فأيُّ فضلٍ أعظَمُ من فَضْلٍ شاهَدَه الحَسَدةُ والأعداء ، فلم يَجدوا فيه مَغْمَزاً لثالِبٍ أو قادِح ، ولا مَطعَناً لجارحٍ أو فاضح ، فهو كما قال الشاعر :
شَهِدَ الأنامُ بفضلِهِ حتى العِدا والفَضْلُ ما شَهِدَتْ بهِ الأعداءُ
وحقيقٌ بمن بَلَغ من الفضائل غايتَها ، واستكمَلَ لغاياتِ الأمور آلتها ، أن يكون لزعامةِ العالَم مُؤهَّلاً ، وللقيام بمصالح الخلق مُوكَّلاً ، وأن يَعُمَّ به الصلاح ، ويَنْحَسِمَ به الفساد ، ولا غايَةَ بعد النُّبوّة ، فاقتضى أن يكون لها أهلاً ، وللقيام بها مؤهَّلاً .
ولذلك استقرَّتْ به حين بُعِثَ رسولاً ، ونَهَضَ بحُقوقِها حين قام بها كفيلاً ، فناسبَتْه ، ولم يَذْهَلْ لها حين أتَتْه ، وكلُّ مُتَناسِبَيْنِ مُتَشاكِلانِ ، وكلُّ مُتَشاكِلينِ مؤتلِفان ، وكلُّ مؤتلِفَينِ متفقان ، والاتفاقُ وِفاق ، وهو أصلُ كلِّ انتظام ، وقاعدةُ كلِّ التئام .
__________
(1) 8 ـ رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه البخاريُّ في مواضع 4 :390 و 8 :397 و 9 :451 و 12 :7 و 23 و 42 ، ومسلم 11 : 60 ـ 61 ، واللفظ للبخاري مجموعاً بين رواية المواضع الأول والثاني .
(2) 9 ـ أي يُعاديه . بل أقرَّ بها أعداؤه وأولياؤه جميعاً .(1/48)
فكان ذلك من أوضح الشواهِدِ على صِحّةِ نُبوَّتِه ، وأظهرِ الأماراتِ في صِدْقِ رسالتِه ، فما يُنكِرُها بعد الوُضوح ، إلاّ مَفْضوح ، والحمد لله الذي وفَّق لطاعتِه ، وهَدى إلى التصديقِ برسالتِه)) . انتهى كلامُ الإمام الماوردي ملخصاً مع زيادة وتصرُّفٍ يسير .
أعود بعد هذا العَرْض الموجَز عن شخصيةِ الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلم وذاتِهِ الشريفة ...، إلى عَرْضِ جملةٍ كبيرة من (أساليبه في التعليم) وسَديدِ إرشاداتِه وتوجيهه ، مستقاةً من كتب السُّنّةِ المطهرة المعتمدة ، فأقول :
أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار في تعليمه من الأساليب أحسنَها وأفضَلَها ، وأَوْقَعَها في نفسِ المخاطب وأقربَها إلى فهمه وعقلِه ، وأشدَّها تثبيتاً للعلم في ذهن المخاطب ، وأكثرها مُساعَدةً على إيضاحه له .
ومن دَرَس كُتُب السُّنّة وقرأها بإمعان رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُلوِّن الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة ، فكان تارةً يكون سائلاً ، وتارةً يكون مُجيباً ، وتارةً يُجيبُ السائلَ بقَدْرِ سُؤالِه ، وتارةً يَزيدُه على ما سأل ، وتارةً يَضرِبُ المثلَ لما يُريد تعليمَه ، وتارةً يُصحِبُ كلامَه القَسَمَ بالله تعالى ، وتارةً يَلْفِتُ السائلَ عن سُؤاله لحكمةٍ بالغةٍ منه صلى الله عليه وسلم ، وتارةً يُعلِّم بطريق الكتابة ، وتارةً بطريق الرَّسْم ، وتارةً بطريق التشبيه أو التصريح ، وتارةً بطريق الإبهام أو التلويح .(1/49)
وكان صلى الله عليه وسلم تارةً يورِدُ الشبهة ليَذكُرَ جوابَها ، وتارة يَسلُكُ سبيل المُداعبة والمُحاجاةِ فيما يُعلِّمُه ، وتارةً يُمهِّدُ لما يَشاءُ تعليمَه وبيانَه تمهيداً لطيفاً ، وتارةً يَسلُكُ سبيلَ المُقايَسةِ بين الأشياء ، وتارةً يُشيرُ إلى عِلَلِها لذِكرِ جوابِها ، وتارةً يَسألُ أصحابَه وهو يَعْلَم ليمْتَحِنَهم بذلك ، وتارةً يَسألُهم لِيُرشِدَهم إلى موضع الجواب ، وتارة يُلقي إليهم العلمَ قبل السُّؤال ، وتارةً يَخُصُّ النساءَ ببعض مجالسه ويعلمهُنَّ ما يحتجن إليه من العلم ، وتارةً يُراعي حالَ من بحضرتِه من الأطفال والصِّغار ، فيَتنزَّلُ إليهم بما يُلاقي طفولتهم ولَهوَهم البريء ، إلى غير ذلك من فُنون تعليمِه صلى الله عليه وسلم التي سَنَمُرُّ بها .
وأسوق فيما يلي نماذجَ كثيرةً للأساليب والطرائق المذكورة وغيرها ، من خلال تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم المدوَّنةِ في كتب السنة المطهَّرة ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب .
1 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالسيرة الحسنة والخلق العظيم
وكان من أهم وأعظم وأبرز أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم العملُ والتخلُّق بالسيرةِ الحَسَنة والخلقِ العظيم ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أَمَر بشيء عَمِل به أولاً ثم تأسّى به الناس وعمِلوا كما رأَوْه ، وكان خلُقُه القرآن ، فكان على الخُلُق العظيم ، وجَعَله الله تعالى أسوة حسنةً لعبادِه ، فقال عَزَّ من قائل : (لقد كان لكم في رسول الله أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمن كان يَرْجو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذكَرَ اللهَ كثيراً) (1) فهو صلى الله عليه وسلم أسوةٌ لأمتِه في أخلاقِه وأفعالِه وأحوالِه .
__________
(1) 1 ـ من سورة الأحزاب ، الآية 21 .(1/50)
ولا ريب أن التعليمَ بالفعلِ والعَمَل أقوى وأوقعُ في النفس ، وأعونُ على الفهم والحفظِ ، وأدْعى إلى الاقتداء والتأسّي ، من التعليمِ بالقولِ والبَيان ، وأن التعليمَ بالفعلِ والعَمَل هو الأسلوبُ الفطري للتعليم ، فكان ذلك أبرزَ وأعظمَ أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم (1) .
جاء في ((الإصابة في تمييز الصحابة)) للحافظ ابن حجر (2) في ترجمة الصحابي الجليل (الجُلَنْدى مَلِك عُمان) : ((ذَكرَ وَثيمَةُ في كتاب (الرِّدّة) عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَث إليه عَمْرو بنَ العاص يَدعوه إلى الإسلام ، فقال :
((لقد دَلَّني على هذا النبي الأمي : أنه لا يأمُرُ بخيرٍ إلاّ كان أولَ آخِذٍ به ، ولا يَنْهى عن شرٍّ إلاّ كان أولَ تاركٍ له ،
__________
(1) 2 ـ قال العلامة الحَجْوي في ((الفِكْر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي)) 1 :154 : ((ومن شواهد أن البيانَ بالفعل أقوى من البيان بالقول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تَمَّ الصُلحُ بينه وبين كفارِ قُريش في الحُدَيْبيّة ، أَمَر أصحابه أن يَتحلّوا من إحرامهم ، ويَنْحُروا هَدْيَهم ، فقال لهم : ((قوموا فانحَروا ، ثم احلِقوا)) ، فَتَوانَوا في ذلك إذ لم يَستَحْسِنوا الصلحَ ورأو القتال أفضل .
فدخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجِه أمِّ سَلَمة رضي الله عنها واخبرَها بتَخلُّفِ الناس عن أمرِهِ ، فأشارَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يَحلق رأسَه ، ويَنْحَر هَدْيَه ، فإنهم لا محالةَ يقتدون به ، ففَعَلَ ، فلما رأوا ذلك قاموا فَنَحروا ، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضاً حتى كاد بعضُهم يقتُلُ بعضاً غَماً .
وهذا من كمالِ عقلِ السيدةِ أم سلمة رضي الله عنها ، إذ فهِمتْ أنهم استَصعَبوا التحلُّلَ من النسك قبل استيفاء المناسك ، وأن البيان بالفعل أقوى من القول ، فكان الأمر كما فَهِمتْ رضي الله عنها)) . انتهى بزيادة يسيرةٍ .
(2) 3 ـ 1 : 538 .(1/51)
وأنه يَغلِبُ فلا يَبْطَر ، ويُغْلَبُ فلا يُهْجِرُ ـ أي لا يقولُ القبيحَ من الكلام ـ (1) ، وأنه يَفي بالعهد ، ويُنجِزُ الوعدَ ، وأشهَدُ أنه نبي)) . انتهى .
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الاعتصام) (2) : ((وإنما كان عليه الصلاة والسلام خُلُقُه القرآن ، لأنه حكَّم الَحْي على نفسِه ، حتى صار في عِلْمه وعَمَلِه على وَفْقِه ، فكان للوحي موافقاً قائلاً مذعِناً ملبياً واقفاً عند حُكمِه .
وهذه الخاصّةُ كانت من أعظم الأدلة على صِدقِه فيما جاء به ، إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتَمِر ، وبالنهي وهو مُنْتهٍ ، وبالوعظِ وهو مُتَّعِظ ، وبالتخويف وهو أول الخائفين ، وبالترجية وهو سائقُ دابّةِ الراجين .
وحقيقةُ ذلك كلِّه : جعلُه الشريعةَ المنزَّلةَ عليه حُجّةً حاكمةً عليه ،ودلالةً له على الصراطِ المستقيمِ الذي سارَ عليه صلى الله عليه وسلم .
ولذلك صار عبدَ الله حقاً ، وهو أشرف اسم تُسمّى به العبادُ ، قال تعالى : (سبحان الذي أَسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام) (3) . وقال أيضاً : (تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده) (4) . وقال أيضاً : (وإن كُنتُم ف رَيبٍ مما نَزَّلنا على عبدِنا) (5) . وما أشبَه ذلك من الآيات التي وقع مدحُه فيها بصفةِ العُبودية .
__________
(1) 1 ـ ويمكن أن تقرأ : (ويُغلَبُ فلا يُهجَرُ) ، لتآخي السجعتين وزناً أي لا يُهْجَرُ من أصحابه ليقينهم بصدقِ نُبُوَّتِهِ وأنه بَشَرٌ سَوِيّ .
(2) 2 ـ 2 : 339 ـ 340 في أوائل الفصل الرابع من (الباب العاشر) .
(3) 3 ـ من سورة الإسراء ، الآية 1 .
(4) 4 ـ من سورة الفرقان ، الآية 1 .
(5) 5 ـ من سورة البقرة ، الآية 23 .(1/52)
وإذا كان ذلك فسائرُ الخلقِ حَرِيّون بأن تكون الشريعةُ حاكمةً عليهم ، ومناراً يهتدون بها إلى الحق . وشرَفُهم إنما يَثبُت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامِها ، والعمل بها قولاً واعتقاداً وعملاً ، لا بحسب عقولِهم فقط ، ولا بحسب شرفِهم في قومِهم فقط ، لأن الله تعالى إنما أثبت الشرفَ بالتقوى لا غير ، لقوله : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (1) .
فمن كان أشَدَّ محافَظَةً على اتِّباعالشَّرَف ، فهو أولى بالشَّرَفِ ، ومن كان دون ذلك لم يكن ـ له ـ أن يَبْلُغَ في الشرف مَبلَغَ الأعلى في اتباعِها . فالشَّرَفُ إذاً إنما هو بحسب المُبالغة في تحكيم الشريعة)) .
انتهى باختصارٍ يسيرٍ مصحَّحاً ما فيه من الأغلاط المطبعية .
وإذْ كان هذا الأسلوب أبرز أساليبِه صلى الله عليه وسلم وأكثرَها استعمالاً في تعليماتِه ، فأكتفي هنا بذكر نماذجَ من تعليماتِه صلى الله عليه وسلم التي تَدخُل في هذا الأسلوب ، إذ لا سبيلَ إلى استقصائها :
__________
(1) 6 ـ من سورة الحجرات ، الآية 13 .(1/53)
18 ـ (1) روى مسلم وأبو داود (2) واللفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا ، وفي يده عُرْجونُ ابنِ طاب (3) ، فرأى في قِبلةِ المسجد نُخامةً (4) ، فحكَّها بالعُرْجون.
ثم أقبل علينا فقال : أيكم يحب أن يُعرِضَ الله عنه؟! قال : فخَشَعْنا (5) ، ثم قال : أيُّكم يُحِبُّ أن يُعرِضَ الله عنه؟! قال : فخشعنا ، ثم قال : أيكم يحب أن يُعرض الله عنه؟ قلنا : لا أَيُّنا يا رسول الله (6) .
__________
(1) 7 ـ هذا الرقمُ لأحاديث الكتاب ، من أولِه إلى آخره ، وقد سَبَقَتْ في الشطر الأول من الكتاب (الرسولُ المعلِّم صلى الله عليه وسلم) 17 حديثاً ، السابع عشر منها في ص 37 .
(2) 8 ـ مسلم 18 :136 في كتاب الزهد والرقائق (باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليَسَر) ، وأبو داود 1 :131 في كتاب الصلاة (باب كراهية البُزاق في المسجد) .
(3) 9 ـ ابنُ طاب : رجل من أهل المدينة ، ينسب إليه نوعٌ من تمرها . ومن عادتهم أنهم ينسبون ألوان التمر كلَّ لون إلى نسبة . والعُرجون هو العود الأصفر العريض الخالي من الرُّطَب إذا يَبِسَ واعوج . وسُمي (عُرْجوناُ) لانعراجه وانعطافه . أي كان بيده صلى الله عليه وسلم عود من شجر ذلك التمر .
(4) 10 ـ النخامة هي : البزْقة تخرجُ من أقصى الحَلْق ، وهي البلغم .
(5) 11 ـ يعني : أطرقنا برؤوسنا وأبصارنا إلى الأرض .
(6) 12 ـ يعني : لا أحَدٌ منا يحب ذلك يا رسول الله .(1/54)
قال : فإنَّ أحدكم إذا قام يصلي ، فإن الله تبارك وتعالى قِبَلَ وجهه (1) ، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهه ، ولا عن يمينه ، ولْيَبصُقْ عن يساره تحتَ رِجْلِه اليُسرى (2) ، فإن عَجِلَتْ به بادرة ،
__________
(1) 13 ـ هذا من التعبير المجازي ، كما يقال : (بيت الله) و(كعبة الله) . والمراد : أن القبلة التي أمَرَ الله المصليَ بالتوجه إليها للصلاة : قِبَلَ وجهه ، فليَصُنها عن النخامة . وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى ، على سبيل التكريم والتعظيم ، مثل قوله : (ناقَةَ الله وسُقْياها) .
(2) 14 ـ إنما يسوغ هذا الفعل في أثناء الصلاة ، وفي داخل المسجد ، إذا اضطرَّ إليه المصلي ، وكانت أرض المسجد تراباً أو رملاً أو حصى أو نحو ذلك ، كما كانت المساجد في العهد النبوي . أما إذا كان المسجد مبلَّطاً أو مجصَّصاً أو مفروشاً بشيء ، كما هي حالُ المساجد اليوم ، فيتعيَّن على المصلي البُصاق في ثوبه إذا احتاج إليه ، إذْ تجب صيانة المسجد عن كل مستقذَرٍ أو مكروهٍ أو مُذهِبٍ للنظافة . ورحم الله الإمام البخاري ورَضِيَ عنه ، ما أجلَّ ورعَه وأشدَّ رعايتَه للمسجد ، حكى الحافظ ابن حجر في ((هَدْي الساري مقدمة فتح الباري)) 2 :196 ، في خلال ترجمة الإمام البخاري ، قال رحمه الله تعالى : ((قال محمد بن منصور : كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفَعَ إنسانٌ قَذاةً من لحيته وطَرَحها إلى الأرض . فرأيتُ البخاري ينظر إليها وإلى الناس ، فلما غفل الناس ، رأيتُه مدَّ يدَه فرفع القذاة من الأرض فأدخلها كُمَّه ، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض)) .انتهى . =
= فقد صان الإمام البخاري أرضَ المسجد عما تُصانُ عنه لِحيتُه ، إنها بصيرةُ العلم والعمل ، (فبهُداهُمْ اقْتَدِهْ) .(1/55)
فلْيَقُلْ بثوبه هكذا (1) ، ثم طَوى ثوبَه بعضَه على بعض ـ وفي رواية أبي داود : ووضَعَ ثوبَه على فيه ثم دَلَكه ـ .
ثم قال : أَروني عَبيراً (2) ، فقام فتىً من الحيّ يَشتَدُّ إلى أهلِه (3) ، فجاء بخَلوقٍ في راحَتِه ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعَلَه على رأسِ العُرْجون (4) ، ثم لَطَخَ به على أَثَر النُّخامة (5) .
قال جابر : فمن هنا جَعلتُم الخَلوقَ في مَساجِدكم)) (6) .
__________
(1) 1 ـ أي فليفعل بثوبه هكذا ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) 2 ـ أي هاتوا لي عبيراً . والعَبير ـ مثلُه الخَلوقُ الآتي ذكره بعد قليل ـ أنواعٌ من الطيب تُجمع وتُخلط بالزعفران .
(3) 3 ـ أي يسعى ويعدو عدواً شديداً .
(4) 4 ـ أي على رأس العود الذي كان بيده صلى الله عليه وسلم .
(5) 5 ـ أي مسحَ به أثر النخامة ليُزيل الطيِّبُ الخبيثَ .
(6) 6 ـ في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية :
إعادةُ الكلمة ثلاثاً ، لتَبْلُغَ من نفوس المخاطبين كلَّ مبلغ .
وفيه : البيان بالفعل ، ليكون أوقع في نفس السامع ، وليكون أوضح دلالةً على ما يُرادُ تعليمُه .
وفيه : عِظَمُ تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ باشَرَ حكَّ النخامة بنفسه .
وفيه : تقبيحُ المنكر باللسان .
وفيه إزالة المنكر باليد لمن قَدَر عليه .
وفيه من الفقه والأحكام الشرعية الاجتماعية :
طلَبُ إزالة ما يُستقذَرُ أو يُتنزَّه عنه ، من المسجد .
وفيه : تعظيمُ المساجد وصيانتُها من كل ما يكدِّرُها من الأوساخ ونحوها .
وفيه : أن البزاق والمخاط والنخامة ـ على تقزُّر النفوس منها ـ طاهرة ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تَفَل في ثوبه وأراهم كيف يفعل من بادَرَه وغلَبَه البصاق .
وفيه : أن البصاق في الصلاة لا يبطل الصلاة ، وكذا التنخُّم ، إن لم يتبين منه حَرْفانِ أو كان مغلوباً عليه .
وفيه : احترامُ جهة القِبلة وتعظيمها .
وفيه : أنه إذا بزَقَ يبزق عن يساره ، ولا يبزق أمامه للقبلة تشريفاً للقبلة ، ولا عن يمينه تشريفاً لليمين ولو كان خارج الصلاة، وإنما يبزق عن يساره ما لم يكن مانع ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ما بصقتُ عن يميني منذ أسلمت .
وفيه : أن التحسين أو التقبيح إنما هو بالشرع ، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار ، وإن اليد مفضلة على القدم ، وإن يوم الجمعة مفضل على سواه . وأخطأ أبو الطيب المتنبي إذ جعَلَ ذلك التفضيلَ من باب الجَدّ والحظّ ، لا من باب الشرع والنقل فقال :
هو الجَدُّ حتى تَفضُلُ العينُ أختَها وحتى يكونَ اليومُ لليومِ سيِّدا
وفيه : الحثُّ على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً ، لكون النبي صلى اللهعليه وسلم ـ هو سيد الأنبياء والمتقين ـ باشر الحكَّ بنفسه صلوات الله وسلامه عليه .
وفيه : مشروعيةُ تطييب المساجد .
وفيه : تفقُّدُ الإمام الأعظم حالَ المساجد وتعهدُها . وهي حَرِيّةٌ بالتعهد والعنايةِ كلَّ العناية من إمام المسلمين ، لأنها مجامع المسلمين ، ومواطن عبادتهم ، ومدارس تعليمهم وثقافتهم ، ومنتداهم ومجلس شوراهم ، ومركز قيادتهم ، ومنطلق جيوشهم ، وموئل لقائهم ، ومتعلَّقُ قلوبهم وأفئدتهم ، وملتقى الوفود لديهم ... فما أحراها بالتفقد والاهتمام . ... ...(1/56)
19 ـ وروى مسلم ، والترمذي ، والنسائي وابن ماجَهْ (1) واللفظُ لمسلم ، من حديث سليمان ابنِ بُرَيدةَ ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رجلاً سأَله عن وقت الصلاة ، فقال له : صَلِّ معنا هذين ، يعني اليومين (2) .
فلمّا زالتْ الشمسُ أمَرَ بلالاً فأذَّن ، ثم أمَرَه فأقام الظهر ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مُرتفعةٌ بيضاءُ نَقيّة ، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ، ثم أمره فأقام العِشاء حين غاب الشفقُ ثم أمره فأقام الفجرَ حين طلَع الفجرُ .
فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبْرَدَ بالظهرِ ، فأبرَدَ بها فأنعَمَ أن يُبرِد بها (3) ، وصلّى العصرَ والشمسُ مُرتَفِعةٌ ، أخَّرَها فوقَ الذي كان ، وصلّى المغربَ قبل أن يَغيبَ الشَّفَقُ ، وصلّى العشاءَ بعد ما ذهب ثلثُ الليلِ ، وصلّى الفجرَ فأسْفَرَ بها .
ثم قال : أين السائلُ عن وقت الصلاة ، فقال الرجلُ : أنا يا رسول الله ، قال : وقتُ صلاتِكمِ بين ما رأيتم)) (4) .
__________
(1) 7 ـ مسلم 5 :114 في كتاب المساجد (باب أوقات الصلوات الخمسة) ، والترمذي 1 :102 في أول كتاب الصلاة ، والنسائي 1 :258 في كتاب المواقيت (أول وقت المغرب) ، وابن ماجَهْ 1 :219 في أول كتاب الصلاة .
(2) 8 ـ أي لتَعرِف الوقتَ عَمَليّاً ، ويحصُلَ لك البيانُ بالفعل .
(3) 9 ـ أي فأطالَ الإبرادَ وأخّر الصلاة .
(4) 10 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 5 :114 : ((في هذا الحديث البيانُ بالفعلِ ، فإنه أبلَغُ في الإيضاحِ ، والفعلُ تَعُمُّ فائدتُه السائلَ وغيرَه ، وفيه تأخرُ البيان إلى وقت الحاجة ،وهو مذهبُ جُمهورِ الأصوليين)) .(1/57)
20 ـ روى أبو داود والنسائي وابن ماجه (1) ، واللفظ لأبي داود ، من حديث عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جَدِّه : ((أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف الطُّهورُ (2) ؟
فدَعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بماءٍ في إناء ، فغَسَل كَفَّيه ثلاثاً ، ثم غسَلَ وجهَه ثلاثاً ، ثم غسل ذِراعَيْه ثلاثاً ، ثم مسَحَ برأسِه ، فأدخَلَ إصبعَيْه السبّاحَتَيْنِ في أُذُنَيْه ، ومسح بإبهامَيْه على ظاهر أُذُنَيه ، وبالسبّاحتين باطِنَ أُذنَيه ، ثم غسل رِجلَيْه ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : هكذا الوُضوء ، فمن زاد على هذا أو نَقَص ، فقد أساءَ وظَلَم ، أو ظَلَم وأساء)) .
__________
(1) 11 ـ أبو داود 1 :33 في كتاب الطهارة (باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً) ، والنسائي 1 :88 ، وابن ماجه 1 :146 .
(2) 12 ـ أي كيف الوضوء؟ .(1/58)
21 ـ وروى البخاري (1) عن مُعاذ بن عبد الرحمن ، أن ابنَ أبان أخبره ، قال : ((أتيتُ عثمان بن عَفّان بطَهورٍ ، وهو جالسٌ على المَقاعِد، فتوضأ فأحسَنَ الوضوءَ ثم قال : رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ وهو في هذا المجلس ، فأحسَنَ الوضوءَ ثم قال : من توضأ مثلَ هذا الوضوء ثم أتى المسجِدَ وصلّى ركعتين لا يُحدِّثُ فيها نفسَه (2) ، ثم جلسَ ، غُفِر له ما تَقدَّم من ذنبه . قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لاتغتَرّوا)) (3) .
وقد صلّى مرّةً بالناس إماماً ، وهو على المِنْبَر ، لِيَرَوْا صَلاتَه كلُّهم ، ولِيَتَعلَّموها من أفعالِه ومُشاهَدَتِه صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) 1 ـ البخاري 11 : 213 ، في كتاب الرقاق (باب قول الله تعالى : يا أيها الناس إن وعد الله حق الآية) .
(2) 2 ـ أي لا يَشْغَلُ فيهما نفسه وخاطِرَه بشيء من أمور الدنيا .وهذه الجملة (لا يحدث فيهما نفسه) من رواية أخرى عند البخاري1 :227 .
(3) 3 ـ قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :228 و 11 :214 : ((في الحديث التعليمُ بالفعلِ لكونه أبلَغَ وأضبطَ للمتعلِّم ، وقولُه صلى الله عليه وسلم (ولا تغتَرّوا) معناه : لا تَحمِلوا الغفرانَ على عمومِه في الذنوب ، فتَستَرسِلوا في الذنوب اتكالاً على غفرانِها بالصلاة ، فإن الصلاةَ التي تُكفِّر الذنوبَ هي المقبولة ، ولا اطِّلاعَ لأحدٍ عليه . ثم المُكفَّرُ بالصلاة هي الصغائرُ فقط ، دون الكبائرِ وحقوقِ العباد)) . انتهى ملخصاً بزيادة يسيرة .(1/59)
22 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظ للبخاري ، عن سَهْل بن سَعْد السّاعِدي رضي الله عنه قال : ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المِنبر ، فاستَقبَلَ القِبلة ، وكَبَّر ، وقامَ الناسُ خلْفَه ، فقرأ وركع ، وركعَ الناسُ خلفَه ، ثم رفَع رأسَه ، ثم رجَعَ القَهْقَرى فسجَدَ على الأرض (2) ، ثم عاد إلى المِنبر ، ثم قرأ ، ثم رَكع ، ثم رفَع رأسه ، ثم رجع القهقرى حتى سجَدَ بالأرض ، فلما فرَغَ أقبَلَ على الناس فقال : أيها الناس ، إنما صَنَعْتُ هذا لِتَأْتمّوا بي ، ولِتَعلَّموا صلاتي)) (3) .
__________
(1) 4 ـ البخاري 1 :409 في كتاب الصلاة (باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب) ، و2 :331 في كتاب الجمعة (باب الخطبة على المنبر) ، ومسلم 5 :35 في كتاب المساجد (باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة) .
(2) 5 ـ القهقرى : المَشْيُ إلى خَلْف ، والحامِلُ على رُجوعِه القهقرى هو المحافظةُ على استقبال القِبلة .
(3) 6 ـ أي لِتتعلَّموا صلاتي . قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 5 :75 : ((فبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أنَّ صُعودَه المِنبر ، وصلاتَه عليه ، إنما كان للتعليم ، لِيرى جميعُهم أفعالَه صلى الله عليه وسلم ، بخلاف ما إذا كان على الأرض ، فإنه لا يَراه إلاّ بعضُهم ممن قَرُب منه)) .
وقال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 2 :331 ((وعُرِفَ من قوله صلى الله عليه وسلم : (أيها الناس إنما صَنعتُ هذا ، لِتأتَمّوا بي ، ولِتَعلَّموا صلاتي) ، أنَّ الحكمة في صلاته في أعلى المِنبر لِيراه من قد يَخفى عليه رُؤيتُه إذا صلى على الأرض .
ويُستفادُ منه أن من فعلَ شيئاً يُخالِفُ العادة : ـ ينبغي ـ أن يُبيِّن حِكمتَه لأصحابه . وفيه جوازُ تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفِعل ، وجوازُ العَمَلِ اليسير في الصلاة ، وكذا الكثيرُ إن تَفرَّق . وفيه استحبابُ اتخاذِ المنبر لكونه أبلَغ في مشاهدةِ الخطيب والسماع منه)) . انتهى .(1/60)
23 ـ وروى أبو داود في (باب الوضوء من مس اللحم النَّيِّىء وغَسْلِه) وابن ماجه في كتاب الذبائح (باب السَّلْخ) (1) ، واللفظُ لابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله تعالى عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بغُلامٍ يَسلُخُ شاةً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تَنَحَّ حتى أريَك ، فأدخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَه بين الجِلْدِ واللَّحم ، فدَحَس بها حتى تَوارَتْ إلى الإبط (2) .
__________
(1) 7 ـ أبو داود 1 :86 ، وابن ماجه 2 :1061 .
(2) 8 ـ قوله : (فدَحَسَ بها ـ أي بيده ـ حتى توارت إلى الإبط) . الدَّحْسُ أن يُدخِلَ الرجلُ يدَهُ بين جِلْدِ الشاةِ وصِفاقِها ليَسلخَها . وجاء لفظُ (دَحَسَ) في شعرٍ عالٍ رفيع ، ومعنىً نبيل بديع ، أَحببت ذكره هنا ـ استطراداً ـ لبداعته وحصافتِه ، وصدقِهِ وبلاغته ـ قاله الصحابيُّ الجليلُ العلاءُ بن الحَضرَمي ـ من حضرموت ـ فاتحُ البحرين وأميرُها ولاّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقي عليها حتى توفي في خلافة عمر سنة 14 أو 21 رضي الله عنهما قال :
وحَيِّ ذَوي الأضغانِ تَسْبِ قُلوبَهم تحيَّةَ ذي الحُسنى فقد يُرقَعُ النَّقَلْ
فإنْ دَحَسوا بالشرِّ فاعْفُ تكرُّماً وإن كتموا عنك الحديثَ فلا تَسَلْ
فإنَّ الذي يُؤذيكَ منه سَماعُهُ وإنَّ الذي قالوا وراءَك لم يُقَلْ
قوله : (فقد يُرقَعُ النَّقَل) ، النَّقَلُ بفتح النون والقاف جميعاً : الخُفُّ الخَلَقُ ، والنَّعْلُ الخَلَق ، قال في ((القاموس)) في (نقل) : ((المَنْقَل كمَقْعَد : الخُفُّ الخَلَقُ ، وكذا النَّعلُ كالنَّقْل ، ويكسَرُ فيهما ، ويُحرَّك ، جمعُه أَنْقالٌ ونِقال ، والنَّقيلةُ رُقعةُ النَّعُلِ والخُفّ)) . انتهى .
فانظر إلى هذا الشعر البليغ والتوجيه الرفيع والمعنى البديع ، فهو يوصي مُخاطَبَه بان لا يُجافيَ ولا يقاطعَ الضاغنين عليه ، بل يُسلِّمُ عليهم ويُحيّيهم إذا لَقِيَهم ، فإنَّ العداوة والجفوة قد تزول ، وتعودُ المُواصلةُ والمداخلة ، وضَرَب لذلك مثلاً بالخُفِّ والنَّعْلِ الخَلَق ، فإنه يُترَكُ لتمزُّقِه ، ولكنه قد يُرقَعُ فيعودُ نافعاً جيداً كما كان قبلَ تمزُّقِه ، ثم استرسل في النصح المتمم للتعامل مع ذوي الأضغان ، فأحسن وأجاد . =
= ووقع في مقدمة ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي 1 :3 من طبعة بولاق ، تحريفُ (النَّقَل) إلى (النَّعْل) بالعين المهملة ، و(النَّعْل) بسكون العين لا غير ، والصوابُ فيه كما ضبطتُه وحتى لا ينكسر البيت ، ومعذرة من هذه الاستطرادة ، فقد غلبني حُسنُ الأبيات وعُلُوُّ معانيها وشَدَّني إلى إيرادها هنا ، ليَنتفع بها من يقرأها إن شاء الله تعالى .(1/61)
وقال : يا غلامُ هكذا فاسْلُخ ، ثم مَضى وصلّى للناس ولم يتوضأ)) .
2 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم الشرائعَ بالتدريج
وكان صلى الله عليه وسلم يُراعي التدريجَ في التعليم ، فكان يقدِّمُ الأهمَّ فالأهمَّ ، ويُعلِّمُ شيئاً فشيئاً نَجْماً نجماً ، ليكون أقربَ تَناولاً ، وأثبتَ على الفُؤاد حفظاً وفهماً .
24 ـ روى ابنُ ماجه (1) عن جُنْدَب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : ((كُنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن فِتْيان حَزاوِرة (2) ، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن ، ثم تعلَّمنا القرآن ، فازدَدْنا به إيماناً)) .
25 ـ وروى البخاري ومسلم (3) ، واللفظ له ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مُعاذاً إلى اليمن ، فقال : إنك ستأتي قوماً من اهل الكتاب ، فادعُهم إلى شهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأني رسولُ الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعْلِمْهُم أن الله افتَرَض عليهم صدقةً ، تُؤخَذ من أغنيائِهم فتُرَدُّ على فُقرائِهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكَرائِمَ أموالِهم ، واتَّق دعوةَ المَظلومِ ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) (4) .
__________
(1) 1 ـ 1 :23 في المقدِّمة (باب في الإيمان) .
(2) 2 ـ حزاورة جمعُ حَزْوَرٍ وحَزَوَّر ، وهو الذي قارَبَ البلوغ .
(3) 3 ـ البخاري 3 :357 في كتاب الزكاة (باب أخذ الصدقة من الأغنياء ...) ، ومسلم 1 :196 في كتاب الإيمان .
(4) 4 ـ ومن فوائد هذا الحديث الكثيرة : البدءُ بالاهمِّ فالأهمِّ في الدعوةِ والتعليم ، إذ المطالبةُ بجميع الشرائع مرةً واحدةً توجبُ التَنفيرَ ، وكذا إلقاءُ جميع العُلوم على المتعلِّم دفعةً واحدةً يؤدّي إلى تضييع الكلِّ .
قال الإمام البخاري في ((صحيحه)) 1 :160 في كتاب العلم (بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعمَل) : ((يُقال : الرَّبّانيُّ : الذي يُرَبّي الناسَ بِصِغارِ العلم قبل كبارِه)) . قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :162 :
((المرادُ بصغار العلم ما وَضَح من مسائِلِه ، وبِكبارِه ما دقَّ منها ، وقيل : يُعلِّمُهم جزئياتِه ، قبل كلّياتِه ، أو فُروعَهُ قبل أصولِه ، أو مقدِّماتِه قبل مَقاصِدِه)) .
وروى ابن عبد البر في ((جامع بيانِ العلم)) 1 :431 ، عن يونس بن يزيد قال : قال لي ابنُ شهاب : ((يا يونس ، لا تُكابِِرْ العلمَ ، فإن العلمَ أودِيةٌ ، فأيُّها أخذتَ فيه قَطَع بك قبل أن تَبلُغَهُ ، ولكنْ خُذْه مع الأيام والليالي ، ولا تأخذ العلمَ جملةً ، فإن من رام أخذَه جملةً ذَهَب عنه جملةً ، ولكن الشَّيءَ بعد الشَّيءِ مع الأيّامِ والليالي)) .(1/62)
26 ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) (1) عن محمد بن فُضَيلٍ عن عطاء ـ هو ابنُ السائب ـ ، عن أبي عبد الرحمن ـ هو السُّلَمي المقرىء ـ قال : ((حَدَّثَنا من كان يُقرِئُنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يَقْتَرئونَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آياتٍ ، فلا يأخذون في العَشْرِ الأُخرى حتى يَعلَموا ما في هذه من العلم والعمل)) .
27 ـ وأخرج الطَّبَري في ((تفسيره)) (2) عن الحُسين بن واقد ، حدَّثنا الأعمشُ ، عن شَقيق ، عن ابن مسعود ، قال : ((كان الرجل منا إذا تعلَّم عشرَ آياتٍ لم يُجاوِزهُنَّ حتى يَعرِفَ معانيَهُنَّ والعَمَل بِهنَّ)) .
3 ـ رِعايتُه صلى الله عليه وسلم في التعليم الاعتدالَ والبُعدَ عن الإملال
وكان صلى الله عليه وسلم يتعهَّد أوقاتَ أصحابه وأحوالَهم في تذكيرهم وتعليمهم ، لئلاّ يَمَلّوا ، وكان يُراعي في ذلك القَصْدَ والاعتدال .
__________
(1) 5 ـ 5 :410 .
(2) 6 ـ 1 :35 .(1/63)
28 ـ روى البخاري في ((صحيحه)) في كتاب العلم (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتخَوَّلُهم بالموعِظةِ والعلمِ ، كيْ لا يَنْفِروا) ، ومسلم في ((صحيحه)) في (باب الاقتصاد في الموعظة) (1) واللفظُ له ، عن الأعمش ، عن شَقيقٍ أبي وائل قال : ((كُنّا جُلوساً عند بابِ عبدِ الله ـ بن مسعودٍ ـ ننتَظِرُهُ ، فمرَّ بنا يزيدُ بنُ مُعويةَ النَّخَعي ، فقلنا : أَعْلِمْهُ بمَكانِنا (2) ، فدخَلَ عليه ، فلم يَلْبَثْ أن خَرَجَ علينا عبدُ الله ، فقال : إني أُخبَرُ بمَكانِكم فما يمنَعني أن أخرُجَ إليكم إلاّ كَراهِيةُ أن أُمِلَّكُم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَتَخَوَّلُنا (3) بالموعِظةِ في الأيام مَخافةَ السَّآمةِ علينا)) (4) .
__________
(1) 7 ـ البخاري 1 :162 ، ومسلم 17 :163 .
(2) 8 ـ أي بكَوْنِنا هنا بانتظاره .
(3) 9 ـ أي كان يَتَعَهَّدُنا ، فيُراعي أوقاتَنا ويَتَطَلَّبُ أحوالَنا التي نَنْشَطُ فيها للموعظةِ ، ولا يفعل ذلك كلَّ يومٍ لئلا نَمَلَّ .
(4) 10 ـ السَّآمةُ : المَلالةُ ، والمعنى : كان يتَعهَّدُنا أي يُعلِّمُنا أياماً ويدَعُنا بعضَ الأيام كراهية أن نَمَلَّ شفقةً علينا ، ليكون أخذُنا عنه بنَشاطٍ وحِرصٍ وشوق ، لا عن ضَجَر ومَلال فيَفوت مقصودهُ .(1/64)
29 ـ وروى البخاري أيضاً في كتاب العلم (باب من جَعَل لأهلِ العلم أياماً معلومةً) ، ومسلم في الباب السابق ، واللفظُ منهما (1) ، عن منصورٍ عن شقيقٍ أبي وائل قال : ((كان عبدُ الله يُذكِّر الناس في كلِّ خميسٍ ، فقال له رجلٌ : يا أبا عبد الرحمن ـ هذه كنيةُ عبدِ الله بن مسعود ـ ، إنّا نُحِبُّ حديثَك ونَشْتَهيهِ ، ولوَدِدنا أنك حَدَّثتنا كلَّ يوم ، فقال : ما يَمنعُني أن أحَدِّثَكم إلاّ كراهيةُ أن أُمِلَّكُم ، وإني أتَخوَّلُكُم ، بالمَوْعظةِ ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَخوَّلُنا بها مخافةَ السَّآمةِ علينا)) (2) .
30 ـ وروى البخاري ومسلم أيضاً ، الأولُ في كتاب العلم ، (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهم بالموعظة كيْ لا يَنْفِروا) ، والثاني في كتاب الجهاد (3) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((يَسِّروا ولا تُعسِّروا ، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا)) (4) .
__________
(1) 1 ـ البخاري 1 :163 ومسلم 17 :163 ـ 164 .
(2) 2 ـ قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :163 : ((يُستفاد من هذا الحديث استحبابُ ترك المُداومةِ في الجِدِّ في العمل الصالح خشيةَ المَلال ، وإن كانت المُواظَبةُ مَطلوبةً ، لكنها على قسمين : إمّا كلَّ يومٍ مع عدم التكلُّفِ ، وإمّا يوماً بعد يومٍ فيكون يومُ الترك لأجل الراحة ، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، والضابط الحاجةُ مع مُراعاةِ وجودِ النَّشاط)) .
(3) 3 ـ البخاري 1 :163 ومسلم 12 : 42 في كتاب الجهاد والسِّير (باب تأميرِ الإمام الأمراءَ على البُعوث ، ووصيَّتِه إياهم بآداب الغزو وغيرِها) .
(4) 4 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 12 :41 : ((في هذا الحديث الامرُ بالتبشيرِ بفضلِ الله وعظيم ثوابِه ، وجَزيل عَطائِه وسعةِ رحمتِه ، والنهيُ عن التنفير بذكر التخويفِ وأنواع الوعيد مَحْضةً من غير ضَمِّها إلى التبشير .
وفي هذا الحديث أيضاً بيانُ تأليفِ من قَرُب إسلامُهُ وتركِ التشديدِ عليهم ، وكذلك من قارَبَ البُلوغَ من الصبيان ومن بَلَغَ ومن تابَ عن المعاصي ، كلُّهم يُتلَطَّفُ بهم ، ويُدَرَّجون في أنواع الطاعةِ قليلاً قليلاً .
وقد كانت أمورُ الإسلام في التكليف على التدريج ، فمتى يُسِّرَ على الداخلِ في الطاعةِ أو المُريدِ للدخولِ فيها سَهُلَتْ عليه ، وكانت عاقبتُه غالباً التزايد ، ومتى عُسِّرتْ عليه أوْشَكَ أن لا يدخُل فيها ، وإن دخل أوْشَكَ أن لا يدوم أو لا يَستَحليها)) .
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :163 : وكذا تعليمُ العلم ينبغي أن يكون بالتدريج ، لان الشيءَ إذا كان في ابتدائه سهْلاً حُبِّبَ إلى من يدخُلُ فيه ، وتَلَقّاه بانبساط ، وكانت عاقبتُه غالباً الازديادَ ، بخلاف ضدِّه)) .(1/65)
31 ـ ولفظُ مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث أحداً من أصحابِه في بعض أمرِهِ ، قال : بشِّروا ، ولا تُنَفِّروا ، ويسِّروا ولا تُعسِّروا)) .
4 ـ رعايتُه صلى الله عليه وسلم الفروقَ الفردية في المتعلمين
وكان صلى الله عليه وسلم شديدَ المراعاة للفروقِ الفردية بين المتعلِّمين من المُخاطَبين والسائلين ، فكان يُخاطِبُ كلَّ واحدٍ بقدرِ فَهْمِه وبما يُلائِمُ منزلتَه ، وكان يُحافِظ على قُلوبِ المبتدئين ، فكان لا يُعلِّمُهم ما يُعلِّم المنتهين . وكان يجيب كلَّ سائلٍ عن سؤالِهِ بما يَهُمُّه ويُناسِبُ حالَه .
32 ـ روى البخاري في كتاب العلم (باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قومٍ كراهيةَ أن لا يَفهموا) ، ومسلم في كتاب الإيمان (1) واللفظ منهما ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ـ ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَديفُه على الرَّحْلِ ـ قال : يا مُعاذ ، قال : لَبَّيك رسول الله وسَعْدَيْكَ ، قال : يا مُعاذ : قال : لَبَّيك رسول الله وسَعْدَيْكَ ، قال : يا مُعاذ ، قال : لَبَّيك رسول الله وسَعْدَيْكَ . قال : ما من عَبْدٍ يَشْهَدُ أن لا إله إلاّ الله ، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه ، صِدْقاً من قلبِه إلاّ حَرَّمه الله على النار ، قال : يا رسول الله ، أفلا أُخبرُ به الناس فيَسْتَبْشِروا؟ قال : لا ، إذاً يَتَّكِلوا (2) .
__________
(1) 5 ـ البخاري 1 :225 ـ 227 ومسلم 1 :240 .
(2) 6 ـ أي لا تُبَشِّرهم بذلك فإنهم يَمتَنِعون من العمل اعتماداً على ما يَتَبادَرُ من ظاهرِه من أن مجردَ الشهادةِ بالوحدانية والرسالةِ تكفي للنجاة من النار ، ولا يَنتَبِهون إلى ان المرادَ الإتيانُ بالشهادتين مع أداءِ حقوقهما من إطاعةِ الله وإطاعةِ رسولِه في الشرائعِ والأحكام ِ .
وفي الحديث بيانُ وجوبِ أن يُخَصَّ بالعلم الدَّقيق قومٌ فيهم الضبطُ وصحةُ الفهم ، وأن لا يُبذَل لمن لا يَستأهلُه من الطلبة ومن يُخافُ عليه الترخُّصُ والاتكال لتقصيرِ فهمِه ، قاله البدرُ العيني في ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) 2 :208 .
وقال الحافظ ابنُ رجب في ((شرح البخاري)) : ((قال العلماء : يُؤخذ من مَنْع معاذ من تبشير الناس لئلا يَتَّكِلوا ، أن أحاديثَ الرُّخَص لا تُشاعُ في عُمومِ الناس ، لئلا يَقْصُر فهمُهم عن المُرادِ بها، وقد سَمِعَها مُعاذ فلم يَزْدَدْ إلاّ اجتهاداً في العمل وخشيةً لله عزَّ وجلَّ ، فأما من لم يَبلُغ منزلتَه فلا يُؤمَنُ أن يُقَصِّر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر)) . كذا في ((فتح الملهم شرح صحيح مسلم)) للعلاّمة شَبِّير أحمد العثماني 1 :588 .
وعلى هذا المنوال من تركِ التحديث لكلِّ واحدٍ بكلِّ شيء ، جَرى عملُ الصحابة ، فمن بعدهم من أهل العلم ، فقد روى الإمام البخاري في كتاب العلم ، في الباب السابق الذكر : (باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم ...) عن على رضي الله تعالى عنه قال : حَدِّثوا الناسَ بما يَعرِفون ، أتُحبّون أن يُكذَّب الله ورسولُه؟ ))
وزاد آدمُ ابنُ أبي إياس في ((كتاب العلم)) له : ((... ودَعوا ما يُنكِرون)) . نقله الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :225 .
والمرادُ بقوله (بما يعرفون) أي يَفهَمون ، وقولُه (ما يُنكِرون) أي يَشْتَبِه عليهم فهمُه ، وأما قولُه (... أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه) ، فذلك لأن الشخصَ إذا سَمِع ما لا يَفهمُه وما لا يَتَصوَّرُ إمكانَه يَعتقدُ استحالتَه جَهْلاً ، فلا يُصدِّقُ وجودَه ، فإذا ذُكِرَ له مثلُ هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يلزَم منه تكذيبُه ، وفي تكذيبِ النبي صلى الله عليه وسلم تكذيبٌ لله عز وجَل . =
= قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :225 : ((فيه دليل على أن المُتَشابِه لا ينبَغي أن يُذكَر عند العامة . ومثلُه قولُ ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه : ما أنت بمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تَبلُغُه عقولُهم إلاّ كان لبعضِهم فتنةً ، رواه مسلم ـ في مقدمة ((صحيحه)) 1 :76 ـ .
وممن كَرِه التحديث ببعضٍ دون بعضٍ أحمدُ في الأحاديث التي ظاهرُها الخروجُ على السلطان ، ومالكٌ في أحاديث الصفات ، ـ أي التي يوهِمُ ظاهرُها التشبيهَ ـ ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومِنْ قبلِهم أبو هُريرة ، وحذيفةُ ...
وضابطُ ذلك أن يكون ظاهرُ الحديث يُقَوّي البدعةَ ، وظاهرُه في الأصل غيرُ مرادٍ ، فالإمساكُ عنه عند من يُخشى عليه الأخذُ بظاهِره مطلوبٌ ، والله أعلم)) . انتهى .
وهذا أصلٌ عظيم في باب التعليم ، أن يُراعي المُعلِّمُ مقدارَ عقلِ الطالب وفهمِه ، فيُعطيه ما يَتحمَّله عقلُه ، ويُمسِك عنه ما وراء ذلك .
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في ((إحياء علوم الدين)) 1 :57 ـ 58 : ((من وظائف المُعلِّم أن يَقتَصِر بالمتعلِّم على قدر فهمِه ، فلا يُلقي إليه ما لا يَبلُغُه عقلُه فيُنفِّرُهُ أو يُخَبِّطُ عليه عقله ، اقتداءً في ذلك بسيِّد البَشر صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان يُراعي ذلك في تعليمِه وتحديثِه ووعظه ـ ، فليَبُثَّ إليه الحقيقة إذا عَلِم أنه يَستَقِلُّ بفهمِها .
ولا ينبغي أن يُفشيَ العالمُ كلَّ ما يَعلَم إلى كلِّ أحد ، هذا إذا كان يَفهمُه المتعلِّمُ ولم يكن أهلاً للانتفاع به ، فكيف فيما لا يَفهَمُه؟ ولذلك قيل ـ قائله أبو طالب المكي في ((قوت القلوب)) ـ : ((كِلْ لكل عبدٍ بمِعيارِ عقلِه ، وزِنْ له بميزان فهمِه ، حتى تَسلَم منه ويَنتفِعَ بك ، وإلاّ وَقَع الإنكار لتفاوُتِ المِعيارِ .
وقد قال الله تعالى : (ولا تؤتوا السُّفَهاءَ أموالَكم) ، تنبيهاً على أنَّ حفظَ العلم ممن يُفسِدُه ويَضُرُّه أولى ، وليس الظلمُ في إعطاء غيرِ المُستَحقِّ بأقلَّ من الظلمِ في منع المُستَحِق .
قال : والمتعلِّم القاصرُ ينبغي أن يُلقيَ إليه الجَليَّ اللائقَ به ، ولا يَذكرَ له أنَّ وراءَ هذا تدقيقاً وهو يَدَّخِرُه عنه ، فإن ذلك يُفتِّر رغبته في الجَليّ ، ويُشوِّشُ عليه قلبَه ، ويوهِمُ إليه البُخلَ به عنه ، إذ يَظُن كلُّ أحدٍ أنه أهلٌ لكلِّ علمٍ دقيقٍ .
بل لا ينبغي ان يُخاضَ مع العوام في حقائق العلومِ الدقيقةِ ، بل يُقتَصَر معهم على تعليم العباداتِ وتعليم الامانة في الصناعاتِ التي هم بصددِها ، ويَمْلأُ قُلوبَهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار ، كما نَطَق به القرآن ، ولا يُحرِّك عليهم شبهةً فإنه ربما تعلَّقتْ الشبهةُ بقلبه ويَعسُرُ عليه حَلُّها فيَشقى ويَهلِك)) . انتهى مختصراً .(1/66)
وأخبَرَ بها مُعاذٌ عند موتِه تأثُّماً)) (1) .
33 ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) (2) عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : ((كُنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء شابٌّ فقال : يا رسول الله ، أُقَبِّلُ وأنا صائم؟ قال : لا ، فجاء شيخٌ فقال : أقبِّل وأنا صائم؟ قال : نعم ، فنَظَر بعضُنا إلى بعضٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد علمتُ لِمَ نَظَر بعضُكم إلى بعض ، إن الشيخَ يَملِكُ نفسَه)) (3) .
__________
(1) 1 ـ قولُه (تأثُّماً) أي تَجنُّباً للإثم ، والمراد الإثم الحاصل من كِتْمانِ العلم .
قال الإمام أبو عَمْرو بنُ الصلاح في ((شرح صحيح مسلم)) ص 185 : ((وإخبارُ مُعاذٍ بذلك عند موتِه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَعه من أن يُخبِر به الناسَ ، وجُهُهُ عندي : أنه مَنَعَه من التبشيرِ العام خوفاً من أن يَسْمَعَ ذلك مَن لا خِبرةَ له ولا علمَ فيغتَرَّ ويَتَّكِلَ .
ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم به على الخصوص مَن أَمِنَ عليه الاغترارَ والاتكالَ من أهلِ المعرفةِ بالحقائق ، فإنه أخبَرَ به مُعاذاً ، فسَلَك مُعاذ هذا المَسلَكَ ، وأخبر به من الخاصةِ مَنْ رآه أهلاً لذلك تأثُّماً من أن يَكتُمَ علماً أهلَه ، والله أعلم)) .
(2) 2 ـ 2 :180 و 250 . وفي سنده ابنُ لَهيعة ، وهو حسنُ الحديث عند بعض الأئمة ، وللحديث شاهد أبي هريرة عند أبي داود في ((سننه)) 2 :419 .
(3) 3 ـ أي فلا يُخشى عليه إفسادُ الصوم بالوقوع في الجماع ، بخلاف الشابِّ فقد يَجرُّه التقبيلُ إلى الجماعِ أو الإنزالِ فيُفسِدُ عليه صومَه . فاختَلَفَ الجوابُ لاختلاف حالِ السائلَينِ .(1/67)
34 ـ وروى البخاري ومسلم (1) عن عبد الله بنِ عَمْرو قال : ((جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَستأذِنُه في الجهاد ، فقال : أحيٌّ والدك؟ قال : نعم ، قال: ففيهما فجاهِدْ)) (2) .
35 ـ وروى مسلمٌ (3) عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : ((أقبلَ رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أبايعك على الهجرةِ والجهادِ أبتغي الأجرَ من الله ، قال : فهل من والدَيْكَ أحدٌ حيٌّ؟ قال : نعم ، بل كلاهما ، قال : فتَبتَغي الأجرَ من الله؟ قال : نعم ، قال : فارجِعْ إلى والدَيكَ فأحسِنْ صُحبَتَهما)) .
هذا مع ما عُرِف عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحضِّ على الجهادِ والهجرةِ والترغيبِ فيهما ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لاحظَ حالَ هذا السائِل بخصوصِهِ ، فرأى بِرَّ الوالدينِ أهمَّ وأفضلَ في حقه من الجهاد .
واختلافُ أجوبةِ النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوالِ السائلين وظُروفِهم وقُدْراتِهم : بابٌ واسعٌ له أمثلةٌ كثيرة في كتب السنة المُطهَّرة .
ومن ذلك وصايا النبي صلى الله عليه وسلم المختلِفةُ لأناسٍ طَلَبوا منه الوصيةَ ، فأوصى كلَّ واحدٍ بغير ما أوصى به الأخَرَ ، ووجهُ ذلك يرجِع إلى اختلاف أحوالِ الذين سألوه الوصيةَ .
36 ـ روى الإمام أحمد ، واللفظُ له ، والترمذي (4) عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ((قلتُ : يا رسول الله ، أوصِني ، قال : اتقِ الله حيثما كنتَ ، وأتْبِعْ السيِّئةَ الحسنة تَمْحُها ، وخالِقْ الناسَ بخلُقٍ حسنٍ)) .
__________
(1) 4 ـ البخاري 6 :140 في كتاب الجهاد (باب الجهاد بإذن الأبوين) ، ومسلم 16 :103 في كتاب البر والصلة (باب بر الوالدين ...) .
(2) 5 ـ أي إن كان لك أبوان فأبلِغْ جُهْدَك في برِّهما والإحسانِ إليهما ، فإن ذلك يَقومُ لكَ مقامَ قتالِ العدو والجهاد .
(3) 6 ـ 16 :104 .
(4) 7 ـ ((مسند أحمد)) 5 :158 والترمذي 3 :239 في أبواب البر والصلة (باب ما جاء في معاشرة الناس) .(1/68)
37 ـ وروى البخاري والترمذي (1) ، واللفظُ منهما ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوْصِني بشيءٍ ، ولا تُكْثِر عليَّ لَعَلّي أَعيهِ (2) ، قال : لا تَغْضَبْ . فردَّد ذلك مِراراً ، كلُّ ذلك يقول : لا تَغْضَبْ)) (3) .
38 ـ وروى البخاري ومسلم (4) ، واللفظُ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : ((أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، دُلَّني على عَمَلٍ إذا عَمِلتُه دخلتُ الجنةَ ، قال : تَعبُدُ الله لا تُشرِكُ به شيئاً ، وتُقيمُ الصلاةَ المكتوبةَ ، وتؤدّي الزكاةَ المفروضةَ ، وتصوم رمضانَ ، قال : والذي نفسي بيده لا أزيدُ على هذا شيئاً أبداً ولا أنقُصُ منه .
فلما وَلّى قال النبي صلى الله عليه وسلم : منْ سرَّه أن يَنظُرَ إلى رجلٍ من اهلِ الجنةِ فليَنْظُرْ إلى هذا)) (5) .
__________
(1) 1 ـ البخاري 10 :431 في كتاب الأدب (باب الحذر من الغضب) ، والترمذي 4 :371 في كتاب البر والصلة (باب ما جاء في كثرة الغضب) .
(2) 2 ـ أي أحفَظُه وأعقِلُه .
(3) 3 ـ قولُه (لا تغضَبْ) قال الخطابي : ((معناه : لا تتعرَّض لأسباب الغَضَب ، وللأمور التي تَجْلِبُ الغضب ، إذ نفسُ الغضب مَطبوعٌ في الإنسان لا يُمكِنُ إخراجُه من جِبِلَّتِه ، أو معناه : لا تفعَلْ ما يأمرُك الغَضبُ ويَححمِلُك عليه من الأقوالِ والأفعال)) . كذا في ((عمدة القاري)) للبدر العيني 22 :164 .
(4) 4 ـ البخاري 3 :261 في كتاب الزكاة (باب وجوب الزكاة) ، ومسلم 1 :174 في كتاب الإيمان .
(5) 5 ـ هذه الجملة المبشِّرة : (من سرَّه أن ينظر .. فلينظُر إلى هذا) يقولُها بعضُ الناس في بعض الصالحين ، ولكن ينبغي التحفُّظُ من قولها ، لأن فيها الجزم والقطع لمن قيلَتْ فيه بانه من أهل الجنة ، وهذا لا يعلمه إلاّ اللهُ ورسولُه بوحي الله له ، فاقتضى التنبيه .(1/69)
39 ـ وروى الترمذي ، واللفظُ له ، وابن ماجَهْ (1) ، عن عبد الله بن بُسْرٍ : ((أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كَثُرتْ عليَّ ، فأخبرني بشيءٍ أتَشَبَّثُ به ، قال : لا يَزالُ لسانُك رَطْباً من ذكرِ الله)) .
40 ـ وروى مسلم والترمذي ، وابن ماجه (2) عن سُفْيانَ بن عبد الله الثَّقَفي ، قال : ((قلتُ يا رسول الله ، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً بعدك ، قال : قُلْ : آمنتُ بالله فاستَقِم)) (3) . هذا لفظ مسلم .
ولفظُ الترمذي وابن ماجه : ((قلتُ : يا رسول الله ، حَدِّثني بأمرٍ أعتصِمُ به ، قال : قُلْ ربي الله ، ثم استَقِمْ ، قلتُ : يا رسول الله ما أكثَرُ ما تَخاف عليَّ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانِ نفسِه ، ثم قال : هذا)) .
41 ـ وروى الترمذي (4) عن عقبة َ بنِ عامِرٍ رضي الله عنه قال : ((قلتُ : يا رسول الله ما النَّجاةُ؟ قال : أَمْلِكْ عليك لِسانَكَ ، ولْيَسَعْكَ بيتُك ، وابْكِ على خَطيئتِك)) .
__________
(1) 6 ـ الترمذي 5 :126 ـ 127 في كتاب الدعوات (باب ما جاء في فضل الذكر) ، وابن ماجه 2 :1246 في كتاب الأدب (باب فضل الذكر) .
(2) 7 ـ مسلم 1 :8 ـ 9 في الإيمان (باب جامع أوصاف الإسلام) ، والترمذي 4 :22 في الزهد (باب ما جاء في حفظ اللسان) ، وابن ماجه 2 :1314 في الفتن (باب كفِّ اللسان في الفتنة) .
(3) 8 ـ قال القاضي عياض رحمه الله : ((هذا من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم ، وهو مُطابِق لقوله تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استَقاموا) أي وَحَّدوا الله وآمنوا به ، ثم استقاموا فلم يَحيدوا عن التوحيد ، والتَزَموا طاعتَه سبحانه وتعالى إلى أن تُوُفّوا على ذلك)) . نَقَله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) .
(4) 9 ـ 4 :30 ـ 31 في الزهد (باب ما جاء في حفظ اللسان) .(1/70)
وأحاديث أخر في هذا الباب ، جاءَتْ فيها وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الجامعةُ المختلفةُ مُراعاةً لاختلاف أحوالِ السائلين وحاجاتِهم .
ومن هذا القبيل أيضاً أجوبةُ النبي صلى الله عليه وسلم المختلفةُ حول أفضلِ الأعمال أو أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى ، فقد أجاب كلَّ سائلٍ بما رآه في حقِّه أو في حينِ سؤالِه أفضلَ وأهمَّ نظراً إلى حاجاتِه وظروفِه .
42 ـ فقد روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظُ له ، عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله تعالى عنهما : ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الإسلامِ خيرٌ (2) ؟ قال : تُطْعِمُ الطعامَ ، وتَقرأُ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تَعرِفْ)) .
43 ـ وروى مسلم (3) عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله تعالى عنهما : ((أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أيُّ المسلمين خير (4) ٌ؟ فقال : من سَلِم المسلمون من لسانِه ويدِه)) .
44 ـ وروى البخاري ومسلم (5) ، واللفظ للبخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ الأعمال أفضَلُ؟ قال : إيمان بالله ورسولِه ، قيل : ثم ماذا؟ قال : جهادٌ في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا؟ قال : حجٌّ مَبرور)) .
__________
(1) 10 ـ البخاري 1 :55 في كتاب الإيمان (باب إطعام الطعام من الإسلام) ، ومسلم 2 :9 في كتاب الإيمان أيضاً (باب بيان تفاضُل الإسلام وأيُّ أمورِه أفضلُ) .
(2) 11 ـ أي : أيُّ خِصالِ الإسلام خيرٌ؟
(3) 12 ـ 2 :10 في كتاب الإيمان (باب بيان تفاضل الإسلام) .
(4) 13 ـ أي من حيث اتِّصافُه بخِصالِ الإسلام .
(5) 1 ـ البخاري 3 :381 في كتاب الحج (باب فضل الحج المبرور) ، ومسلم 2 :72 في كتاب الإيمان (باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال) .(1/71)
45 ـ وروى البخاري ومسلم (1) ، واللفظُ له ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ((سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ العمل أفضَلُ؟ ـ وفي روايةٍ : أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ ـ قال : الصلاةُ لوقتِها ، قال : قلت : ثم أيٌّ؟ قال : برُّ الوالدين ، قال : قلتُ : ثم أيٌّ؟ قال : الجهاد في سبيلِ الله ، فما تركتُ أستزيدُهُ إلا إرْعاءً عليه)) (2) .
46 ـ وروى أبو يَعْلى (3) عن رجل من خَثْعَم قال : ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في نَفَر من أصحابه . فقلتُ : أنت الذي تَزعُمُ أنك رسولُ الله؟ قال : نعم ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال : الإيمانُ بالله ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ (4) ؟ قال : ثم صِلَةُ الرَّحِم ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ؟ قال : ثم الأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكَرِ .
__________
(1) 2 ـ البخاري 2 :9 في كتاب مواقيت الصلاة (باب فضل الصلاة لوقتها) ، ومسلم 2 :73 ـ 74 في كتاب الإيمان (باب بيان كون الإيمان بالله أفضل) .
(2) 3 ـ أي لم أزد في السؤالِ عن بقيةِ الاعمال وترتيبِها في الفضل رِفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه بيانُ رِفقِ المتعلِّم بالمعلِّم ، ومُراعاةُ مَصالِحِه ، والشفقةُ عليه . قاله الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 : 79 .
(3) 4 ـ قال الحافظ المنذري في ((الترغيب والترهيب)) 3 :336 في كتاب البرّ والصِّلة (باب الترغيب في صلة الرَّحِم وإن قَطَعَتْ والترهيب من قَطْعِها) : ((إسنادُه جيِّد)) .
(4) 5 ـ أي ثم ماذا؟(1/72)
قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ الأعمالِ أبغَضُ إلى الله؟ قال : الإشراكُ بالله ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ؟ قال : ثم قطيعةُ الرَّحِم ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ؟ قال : ثم الأمرُ بالمنكَرِ والنهيُ عن المعروف)) (1) .
وهناك أحاديثُ أخر من هذا القبيل مما اختَلَفت فيه الأجوبةُ في بيان أفضلِ الأعمال أو أحبِّها ، وإنما يَرجِع الاختلافُ فيها إلى رعايةِ الفروقِ الفردية بين أفرادِ السائلين وجماعاتِهم أو أوقات سُؤالِهم ، فأعلَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كُلاًّ بما يَحتاجُ إليه ، أو بما لم يُكْمِله بعدُ من دعائمِ الإسلام ولا بَلَغَهُ عِلمُه ، أو بما له فيه رغبةٌ ، أو بما هو لائق به .
أو أعلَمَ السائلَ بما كان الأفضَلَ من غيرِه في وقتِ سُؤالِه ، فقد كان الجهادُ في ابتداء الإسلامِ أفضَلَ الاعمال لأنه الوسيلةُ إلى القيامِ بها والتمكُّنِ من أدائها ، وقد تَضافَرَتْ الأدلةُ على أن الصلاةَ أفضَلُ من الصدقة ، ومع ذلك ففي وقت مُؤاساةِ المُضطرِّ تكون الصدقةُ أفضَل (2) .
__________
(1) 6 ـ وفي هذا الحديث والذي قبله بيانُ صَبْرِ المُفتي والمُعلِّم على من يُفتيه أو يُعلِّمُه ، واحتمالُ كثرةِ مَسائِلِهِ وتقريراتِهِ .
(2) 7 ـ وبعضُ هذا الاختلاف في الجواب قد يكون مَرَدُّهُ إلى اختلافِ ألفاظ السّائلين ، وإلى رعايةِ النبي صلى الله عليه وسلم لوُجوهِ الأفضليةِ وشؤون المَزِيَّة ، فإنها لا تنحَصِر في وصفٍ واحدٍ وحيثيةٍ واحدةٍ ، بل إن أصنافَ الفضل متنوعةٌ ، ومراتبَ الفضلِ ومَدارجَ الخير مختلفةٌ ، فيكونُ اختلافُ الجواب في بعض الروايات متفرِّعاً على رعايةِ النبي صلى الله عليه وسلم الفُروقَ الفرديةَ بين وُجوهِ الأفضليةِ وأسبابِ الخيرِ ، ولشَرحِ كلِّ ذلك موضعٌ غيرُ هذا .
وانظر كلامَ أهل العلم على هذه الأحاديث الشريفة في ((شرح صحيح مسلم)) للإمام النووي 2 :77 ـ 78 ، و((فتح الباري)) للحافظ ابن حجر 2 :9 ، و((فتح المُلْهِم بشرح صحيح مسلم)) للعلامة شبّير أحمد العثماني 1 :623 ـ 627 من الطبعة المحققة ، و((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) للعلامة الكشميري 1 :80 ـ 81 .(1/73)
والنبي صلى الله عليه وسلم هو المعلِّم المُرشِد والهادي البَصير ، يُبَصِّرُ كلاًّ بما يحتاج إليه وبما يليق به ، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وبارَك وسلَّم .
5 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالحِوارِ والمُساءَلة
وكان من أبرز أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم الحِوارُ والمُساءلةُ ، لإثارةِ انتباهِ السّامِعين وتشويقِ نفوسِهم إلى الجوابِ ، وحَضِّهم على إعمال الفِكْر للجوابِ ، ليكون جوابُ النبي صلى الله عليه وسلم ـ إذا لم يستطيعوا الإجابة ـ أقربَ إلى الفهمِ وأوقعَ في النَفس.
47 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أَرأيتُم لو أنَّ نَهْراً ببابِ أحدِكم ، يَغتسِلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات ، هل يَبقى مِن دَرَنِه شيء (2) ؟ قالوا : لا
يَبقى مِن دَرَنِه شيء ، قال : فذلكَ مَثَلُ الصَّلواتِ الخَمْسِ يمحو اللهُ بهنَّ الخَطايا)) (3) .
__________
(1) 8 ـ البخاري 2 :9 في كتاب مواقيت الصلاة (باب الصلوات الخمس كفارة) ، ومسلم 5 :170 في كتاب المساجد (باب فضل الصلاة المكتوبة في جماعة وفضل انتظار الصلاة و ...) .
(2) 9 ـ الدَّرَن : الوَسَخ .
(3) 10 ـ وفي هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية ـ إلى جانب طريقة الحِوار ـ التمثيلُ للمعقول بالمحسوس ، ليَزْدادَ الشيءُ المتحدَّثُ =
= عنه وضوحاً في نَفْسِ المتعلِّم . ووجهُ التمثيل أن المَرْء كما يَتدنَّس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ، ويُطَهِّرُه منها الماءُ الكثير النقيّ ، فكذلك الصلواتُ الخمس تُطهِّرُ العبدَ من أقذارِ الذنوب والخطايا .(1/74)
48 ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) (1) ، عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((تَدْرون مَنْ المُسلِم؟ قالوا : اللهُ ورسولُه أعلم ، قال : المُسلِمُ من سَلِمَ المسلمون من لِسانِهِ ويَدِه (2) . قال : تَدرون من المُؤْمِن؟ قالوا : اللهُ ورسولُه أعلم : قال : من أمِنَه المؤمنون على أنفُسِهم وأموالِهم . والمُهاجِرُ من هَجَرَ السُّءَ فاجْتنبَه)) .
__________
(1) 1 ـ 2 :206 وإسناده صحيح .
(2) 2 ـ لفظ (المسلمون) هنا ، ومثلُه (المؤمنون) في الجملة التالية : لا يُرادُ به الاحترازُ من غيرهم ، بل هو وصفٌ خَرَجَ مخرَج الاتفاق ، نظراً للمخاطَبين به ، إذ الإيذاءُ أو الخِيانَةُ كلٌّ منهما حرامٌ في الإسلام ، سَواء وقع ذلك على مسلم أم ذِمّي .
بل أَرى أنَّ الإيذاءَ أو الخِيانةَ في جَنْبِ الذِّمّي أشدُّ تحريماً ، لما جاء في الحديث عند أبي داود في ((سنَنه)) 3 :171 بإسناد جيِّد : ((ألا مَنْ ظَلَم مُعاهَداً ـ أي ذِمياً ـ أو انتقَصَه ، أو كَلَّفه فوقَ طاقتِه ، أو أخَذَ منه شيئاً بغير طِيْبِ نفْس : فأنا خَصْمُه يوم القيامة)) .
فقد أقام الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم نَفْسَه خَصْماً لمن يَظلِمُ الذِّمّي(1/75)
49 ـ وروى مسلم (1) : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أتَدْرون ما المُفلِس (2) ؟ قالوا : المُفْلِس فينا من لا دِرْهَمَ له ولا مَتاع .
قال : إنَّ المُفلِس مِن أُمَّتي مَنْ يَأتي يومَ القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة ، ويأتي وقد شَتَم هذا ، وقَذَفَ هذا ، وأكَلَ مالَ هذا ، وسَفَك دَمَ هذا ، وضَرَب هذا ، فيُعْطى هذا من حَسَناتِه ، وهذا من حسناتِه ، فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضى ما عليه ، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه ثم طُرِحَ في النار)) .
__________
(1) 3 ـ 16 :135 في كتاب البر والصلة (باب تحريم الظلم) .
(2) 4 ـ كذا الرواية (أتدرون ما المفلس) بلفظ (ما) ، والسؤال هنا عن حقيقة المُفلس ، فلذا جا التعبير بلفظة (ما) دون لفظة (مَنْ) . قال السَّنوسِيُّ في (شرحه على صحيح مسلم)) 8 :18 ، عند قوله صلى الله عليه وسلم : (أتدرون ما المفلس) : قال القرطبي : كذا الرواية ، وأصلُها ـ يعني لفظة (ما) ـ لما لا يَعقِل ، وهي هنا لمن يَعقِل . قال الأُبيُّ : حكى بعضُهم أنَّ مذهب سيبويه جوازُ وقوعها على من يعقل ، وأخذَه ابن الحاج من قوله في (الكتاب) ـ أي كتاب سيبويه ـ لمّا فرغ من الكلام على (مَنْ) ، قال: ومثلُها (ما) ، مُبْهَمةً تقعُ على كل شي .
قلتُ ـ أي السَّنوسِي ـ : لقائلٍ أن يقول : السؤالُ هنا بما ، إنما هو عن الحقيقة ، والحقيقةُ من حيث هي حقيقة لا تَعقِل ، وهذا كما لو قلتَ : ما الإنسان؟ أو ما زيد؟ أو نحوَ ذلك ، ومنه : (قال فِرْعَونُ : وما رَبُّ العالَمين) . ولم يقل : ومَنْ ، ف (ما) إذاً واقعةٌ في محلِّها)) انتهى . وهو الصواب .
وقد جاء هذا الحديث في بعض الكتبِ الناقلةِ عن ((صحيح مسلم)) مثلِ ((رياض الصالحين)) ، بلفظ (أتدرون من المفلس؟) . وهو خلافُ الرواية كما علمت ، ولعلَّه من تصرُّفاتِ بعضِ الناقلين . والله أعلم .(1/76)
فكان مِن سُؤالِه لهم أوَّلاً ، ثم تَبْيينِه ما هو جوابُ سؤالِه ثانياً : تنبيهٌ منه صلى الله عليه وسلم للأذهان ، أنَّ الإفلاسَ الحقيقيَّ هو الإفلاسُ يوم القيامة!
ومن أشهَرِ أمثلةِ الحِوار حديثُ جبريل في تعليم أركانِ الإيمان ، الذي رواه عُمَرُ بنُ الخطاب وغيرُه من الصحابة ، فقد عُرِضَتْ أهمُّ أركان الإيمان على الصحابةِ على شكل حِوارٍ بين الرسول وبين جبريل عليهما الصلاة والسلام ، ليُعلِّمَهم مَعالِمَ دينهم .
50 ـ روى مسلمٌ (1) وغيرُه من الأئمةِ عن عُمَر بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : ((بينما نحنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ ، إذ طَلَع علينا رجلٌ شديدُ بَياضِ الثِّياب ، شديدُ سَوادِ الشَّعرِ ، لا يُرى عليه أَثَرُ السَّفَرِ ، ولا يَعرِفُه منا أحدٌ ، حتى جَلَسَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسنَد رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ ، ووضَع كَفَّيه على فَخِذيه (2) .
وقال : يا مُحمدُ ، أَخبِرْني عن الإسلام ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : الإسلامُ ان تَشهَدَ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله ، وتُقيمَ الصلاةَ ، وتُؤتي الزكاة ، وتصومَ رمضانَ ، وتحُجَّ البيتَ إن استطعتَ إليه سبيلاً .
__________
(1) 5 ـ 1 :157 ـ 160 في أولِ كتاب الإيمان ، والحديثُ عند البخاري 1 :114 في كتاب الإيمان (باب سؤالِ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ، والإسلامِ ، والإحسان ، وعلمِ الساعةِ ، وبيانِ النبي صلى الله عليه وسلم له...) من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه . ومِن أوسَعِ المَصادِر جمعاً لطُرُقِ هذا الحديث وألفاظِه المختلفةِ ((كتابُ الإيمان) للحافظ ابن مَنْدَهْ في أول المجلد الاول منه ، و((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) للحافظ ابن حجر 1 :115 ـ 125 .
(2) 6 ـ يعني أن الرجلَ الداخلَ وَضَع كَفَّيه على فَخِذَي نفسه ، وجَلَس على هيئةِ المُتعلِّم المتأدِّب ، قاله النووي .(1/77)
قال : صَدَقتَ ، قال ـ عمر : فعَجِبنا له يَسألُه ويُصَدِّقُه (1) .
قال : فأَخبِرْني عن الإيمان ، قال : أن تؤمِن بالله ، وملائكتِه ، وكُتُبِه ، ورُسِله ، واليومِ الآخِرِ ، وتُؤمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّه . قال : صَدَقتَ .
قال : فأخبِرْني عن الإحسانِ ، قال : أن تَعبُدَ الله كأنك تَراه ، فإن لم تكن تَراهُ فإنه يَراك (2) .
__________
(1) 7 ـ وجهُ التعجُّب ان السُّؤالَ يَقتضي ـ في الغالب ـ الجهلَ بالمَسؤول عنه ، والتصديقُ يقتضي علمَ السائلِ به ، ومما يزيدُ في التعجُّب أن ما أجابه صلى الله عليه وسلم لا يُعرَف إلاّ من جهتِه ، وليس هذا الرجلُ ممن عُرِف بلقائِه صلى الله عليه وسلم فضلاً عن سماعِه منه .
وفي بعض روايات حديث جبريل : ((ما رأينا رجلاً مثلَ هذا ، كأنه يُعلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، يقولُ له : صَدَقتَ صَدَقتَ)) .
(2) 8 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 1 :157 ـ 158 و ((شرح صحيح البخاري)) ص 245 ـ 246 : ((لو قَدَّرنا أن أحدَنا قام في عبادةٍ وهو يُعاينُ ربَّه سبحانه وتعالى لم يَترُك شيئاً مما يَقدِرُ عليه من الخُضوعِ والخُشوعِ ، وحُسنِ السَّمْتِ ، واجتماعِه بظاهِرِه =
= وباطنِه على الاعتناء بتَتْميمِها على أحسنِ وُجوهِها إلاّ أتى به ، فقال صلى الله عليه وسلم :
اعبُد اللهَ في جميع أحوالك كعبادتِكَ في حال العِيان ، فإن التتميمَ المذكورَ في حال العِيان إنما كان لعلم العبدِ باطّلاع الله سبحانه وتعالى عليه ، فلا يُقدِمُ العبد على تقصيرٍ في هذه الحال للاطلاع عليه ، وهذا المعنى موجودٌ مع عدم رؤيةِ العبد ، فينبغي أن يَعمَل بمُقتضاه .
فمَقصودُ الكلام الحثُّ على الإخلاص في العبادةِ ومُراقَبةِ ربِّه تبارك وتعالى في إتمام الخُشوع والخُضوعِ وغير ذلك ، وقد نَدَبَ أهلُ الحقائق إلى مُجالَسةِ الصالحين ، ليكون ذلك مانعاً من تلبُّسِه بشيء من النقائصِ احتراماً لهم واستِحياءً منهم ، فكيف بمن لا يَزالُ الله تعالى مُطَّلِعاً عليه في سِرِّه وعلانيتِه؟!
فحاصلُ معنى الحديث أنك إنما تُراعي الآداب المذكورةَ إذا كنتَ تَراه ويَراك ، لكونِه يراكَ ، لا لكونك تراه ، فهو دائماً يَراك ، فأحسِنْ عبادتَه ، وغن لم تَرَه ، فتقديرُ الحديث : فإن لم تكن تَراه فاستَمِرَّ على إحسان العبادة ، فإنه يَراك)) .
قال : ((وهذا القدرُ من الحديث أصلٌ عظيم من أصولِ الدين ، وقاعدةٌ مهمةٌ من قواعد المسلمين ، وهو عُمدةُ الصِّدّيقين ، وبُغيةُ السالكين ، وكنزُ العارفين ، ودأبُ الصالحين ، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتِيَها النبي صلى الله عليه وسلم)) .
انتهى مُلخَّصاً مع زيادة يسيرة من ((فتح الملهم بشرح صحيح مسلم)) 1 :482 ـ 483 .(1/78)
قال : فأخبرني عن السّاعةِ ، قال : ما المَسؤولُ عنها بأعلَمَ من السائِل (1) .
قال : فأخبِرْني عن أمارَتِها، قال : أن تَلِدَ الأمةُ رَبَّتَها (2) ، وأن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العَالةَ الشَّاءِ يَتَطاوَلون في البُنيان (3) .
__________
(1) 1 ـ لم يقُل : لستُ بأعلَمَ بها منك ، كما يقتضيه المقامُ ظاهراً ، ليُشْعِرَ بالتعميم ، تعريفاً للسامعين أن كلَّ مسؤولٍ وكلَّ سائلٍ عن وقت قيامِ السّاعةِ فهو كذلك .
وقال النووي رحمه الله تعالى في ((شرح صحيح مسلم)) 1 :158 : ((يُستَنبَط منه أن العالمَ والمفتي وغيرَهما إذا سُئِل عما لا يعلَم ينبغي له أن يقول : لا أعلمُ ، وأن ذلك لا يَنقُصُه ، بل يُستَدَلُّ به على وَرَعِه وتقواه ووُفور علمِه)) .
(2) 2 ـ هذا مجاز ، والمرادُ أن يَكثُرَ العقوقُ في الاولاد ، فيُعامِلُ الولدُ أمَّه معاملةَ السيِّد أمتَه ، من الإهانةِ بالسبِّ والضربِ والاستخدامِ ، فأطلِق عليه (رَبُّها) مجازاً لذلك .
(3) 3 ـ قوله (الحُفاة) جمعُ الحافي وهو من لا نَعْلَ له . و(العُراة) جمعُ العاري ، وهوصادقٌ على من يكونُ بعضُ بدنِه مكشوفاً مما ينبغي ان يكون مستوراً . و(العَلة) جمعُ عائل ، وهو الفقير كثيرُ العِيال . و(رِعاء) جمعُ راعٍ ، و(الشّاء) جمعُ شاة .
والمقصودُ الإخبارُ عن تبدُّلِ الحال بأن يَستَولي أهلُ البادية على الامر ويَتَمَلَّكوا البلادَ بالقهرِ ، فتكثُرَ أموالُهم وتنصَرِف هِمَمُهُم إلى تشييدِ البُنيانِ والتفاخُر به ، ومنه الحديث الآخر : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تكون أسعدَ الناس بالدنيا لُكَعُ ابنُ لُكَعَ)) واللُّكَعُ هنا : اللَّئيمُ . ومنه أيضاً حديثُ : ((إذا وُسِّد الأمرُ ـ أي أُسْنِدَ ـ إلى غيرِ أهلِه فانتَظِرْ الساعةَ)) ، وكلاهما في ((الصحيح)) ، انتهى من ((فتح الباري)) 1 :123 و((فتح المهم)) 1 :487 ـ 488 .(1/79)
قال ـ عُمَرُ ـ : ثم انطلَقَ ـ الرجلُ ـ ، فلَبِثْتُ مَلِيّاً (1) ، ثم قال لي ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ : يا عمر أتَدري من السّائلُ؟ قلتُ : اللهُ ورسولُه أعلَمُ ، قال : فإنه جِبريلُ أَتاكُم يُعَلِّمكُم دينَكم)) (2) .
وفي الحديث تصريحٌ بأن مَجِيءَ جِبْريل عليه السلام وحِوارَه مع الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيما سَأَلهُ عنه إنما هو لغايةٍ تعليميةٍ كريمةٍ .
__________
(1) 4 ـ أي زمناً طويلاً أياماً .
(2) 5 ـ من الفوائد التعليمية التي تُستفادُ من هذا الحديث أنه ينبغي لمن حَضَر مجلسَ العالم إذا عَلِم بأهلِ المجلِس حاجةً إلى مسألةٍ لا يسألون عنها أن يسألَ هو عنها ، ليَحصُل الجوابُ للجميع ، وفيه أنه ينبغي للعالِم أن يَرفُقَ بالسائلِ ويُدنِيَه منه ، ليَتَمكَّنَ من سؤالِه غيرَ هائبٍ ولا مُنقَبِضٍ ، وأنه ينبغي للسائلِ أن يَرفُقَ في سؤالِه ، أفاده الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 1 :160 .
ويُستنبَط من هذا الحديث أيضاً جوازُ سؤالِ العالِم ما لا يَجهَلُه السائلُ ليَعلَمَه السامع .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم (... يُعلِّمُكم دينَكم) دلالةٌ على أن السؤالَ الحَسَن يُسَمّى علماً وتعليماً ، لأن جبريلَ لم يَصدُرْ منه سوى السؤال ، ومع ذلك فقد سَمّاه النبيُّ مُعلِّماً ، وقد اشتهَرَ قولُهم : حُسنُ السؤالِ نصفُ العلم . أفاده في ((فتح الباري)) 1 :119 و 125 .
وقال القاضي عِياض رحمه الله : ((حديثُ جبريل قد اشتَمَل على شرح جميع وَظائِف العبادات الظاهرةِ والباطنةِ ، من عُقود الإيمان ، وأعمالِ الجَوارِح ، وإخلاصِ السَّرائِر ، والتحفُّظ من آفاتِ الأعمالِ ، حتى إن علومَ الشريعةِ كلُّها راجعةٌ إليه متشعبةٌ منه ، إذ لا يَشُذُّ شيءٌ من الواجباتِ والسننِ والرغائب والمحظوراتِ والمكروهات عن أقسامِه الثلاثة : الإيمان ، والإسلام ، والإحسان)) . نَقَله النووي في ((شرح مسلم)) 1 :158 .(1/80)
6 ـ تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُحادَثةِ والموازنة العقلية
ومن أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم أنه كان يَسلُك في بعض الاحيان سبيلَ المحاكمةِ العقليةِ على طريقة السؤالِ والاستجواب ، لقلعِ الباطلِ من نفسِ مستحسِنه ، أو لترسيخ الحقِّ في قلب مُستبعِدِه أو مُستَغرِبهِ .
فمن النوع الأولِ :
51 ـ ما رواه أحمدُ ، واللفظُ له ، والطبراني (1) عن أبي أُمامة الباهِلي رضي الله تعالى عنه : ((أن فتى شابّاً أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ الله ، ائذنْ لي بالزنى ، فأقبلَ القومُ عليه فزَجَروهُ وقالوا : مَهْ مَهْ (2) .
فقال صلى الله عليه وسلم : ادْنُهْ (3) ، فدنا منه قريباً فجلَسَ ، فقال صلى الله عليه وسلم له : أتُحِبُّهُ لأمِّك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لأمَّهاتِهم .
قال : أفتُحِبُّهُ لابنتك ؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لبَناتِهم .
قال : أفتُحِبُّهُ لأختِك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لأخواتِهم .
قال : أفتحبُّهُ لعمتِك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لعمّاتِهم .
__________
(1) 6 ـ ((مسند أحمد)) 5 :256 ، ورواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي 1 :129 ، قال الهيثمي : ((رجالُ إسناد هذا الحديث رجالُ الصحيح)) . وقال الحافظ العراقي في ((تخريج أحاديث الإحياء)) في كتاب الأمر بالمعروف ، في باب آداب المحتسِب ، : ((روى هذا الحديثَأحمد بإسنادٍ جيِّدٍ رجالُه رجالُ الصحيح)) .
(2) 7 ـ لفظ (مَهْ) اسمُ فعلِ أمر ، معناه : اكفُفْ .
(3) 8 ـ هو فعلُ أمرٍ من الدنو ، وهو القربُ ، والهاءُ فيه للسَّكتِ جيءَ بها لبيان الحَرَكةِ ، كما في ((النهاية)) لابن الأثير 2 :33 .(1/81)
قال : أفتحبُّهُ لخالتِك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لخالاتِهم .
قال : فوَضَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَه عليه ، وقال : اللهُمَّ اغفِرْ ذنبَهُ ، وطَهِّرْ قلبَهُ ، وحَصِّن فَرْجَهُ . قال : فلم يَكنْ الفتى بعد ذلك يَلتفتُ إلى شيءٍ)) .
فانظُر كيف استأصَلَ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس الفَتى تعلُّقَه بالزنى ، عن طريقِ المُحادثَةِ والمُحاكَمةِ النفسيّة والمُوازنةِ العقلية ، دون أن يَذكُر له الآياتِ الواردة في تحريم الزنى والوعيدِ للزاني والزانيةِ ، نظراً منه أن هذا أقلَعُ للباطل ـ في ذلك الوقت ـ من قلبِ الشابِّ بحَسَب تصوُّرِه وإدراكِهِ .
وفي هذا إرشادٌ للدعاةِ أن يَلجَؤوا إلى العقلِ في بعضِ الأحيان وبعضِ الناس إذا كانت الحالُ تَستدْعي ذلك ، كحالِ هذا الشابِّ الذي طَهَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قلبَه من الزنى بتلك المُحاكَمةِ العقليةِ الهادية .
ومن النوع الثاني من المُحادَثةِ والمُوازَنةِ العقلية :
52 ـ ما رواه البخاري ومسلم (1) ، والفظ للبخاري ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فِطر إلى المصلّى (2) ، فقال : يا معشر النساء تَصدَّقْنَ ، فإني أُرِيتُكُنَّ أكثرَ أهل النار (3) ، فقُلْنَ : وبِمَ يا رسول الله؟ قال : تُكْثِرنَ اللَّعْن ، وتَكْفُرن العَشير (4) ، ما رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أذهَبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحداكُنّ .
__________
(1) 1 ـ البخاري 1 :345 في كتاب الحيض (باب ترك الحائض الصومَ) ، ومسلم 2:67 في كتاب الإيمان (باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات) .
(2) 2 ـ أي مصلّى العيد .
(3) 3 ـ إن الله تعالى أراهن له كذلك في ليلةِ الإسراء .
(4) 4 ـ أي الزوج . تكفرن نعمته وتجحدنها لأدنى خصومة أو خلاف .(1/82)
قلن : وما نقصانُ دينِنا وعقلِنا يا رسول الله؟ قال : أليس شهادةُ المرأةِ مثلَ نصفِ شهادة الرجل؟ قلن : بلى ، فقال : فذلِكِ (1) من نقصانِ عقلها ، أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُم؟ قلن : بلى ، قال : فذلِكِ من نقصانِ دينها)) .
7 ـ سؤالُه صلى الله عليه وسلم أصحابَه ليَكشِف ذكاءهم ومعرفتهم
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَسألُ أصحابَه عن الشيء وهو يَعلَمُه ، وإنما يَسْألُهم ليُثيرَ فِطْنَتَهم ، ويُحرِّك ذكاءَهم ، ويَسقِيَهم العلمَ في قالَب المُحاجاة ليَختَبِر ما عندهم من العلم .
__________
(1) 5 ـ قال الحافظ ابن حجر : ((بكسر الكاف خطاباً للواحدة التي تولت الخطاب . ويجوز فتحها على أنه للخطاب العام)) .(1/83)
53 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : ((بَيْنا نحنُ عند النبي صلى الله عليه وسلم جُلوس ، إذْ أُتِيَ بِجُمّارِ نَخْلَة (2) ، فقال وهو يأكُلُه : إنَّ من الشَّجَر شَجَرة خضراءُ ، لَما بَرَكَتُها كبَرَكَةِ المسلم (3) ، لا يَسْقُطُ وَرَقُها ، ولا يَتَحاتُّ (4) ، وتُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذْنِ رَبِّها (5) ، وإنها مِثْلُ المُسْلِم (6) ،
__________
(1) 6 ـ سيأتي بيانُ موضعه عند البخاري ومسلم تعليقاً عند نهاية الحديث لطول التخريج .
(2) 7 ـ الجُمّار بوَزْن رُمّان : قَلْبُ النَّخْلَةِ وشَحْمُها ، تَموتُ بقطعه ، ويُستَخْرَجُ منها بعد قَطْعِها . ويقال له : الجامور أيضاً . وقال أبو بكر بن العربي في ((عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي)) : 10 :310 : ((الجُمّار شحْمُ النخلة الذي يؤكل بالعَسَل)) . وللأستاذ عباس العَزّاوي العراقي كتاب ((النَّخل في تاريخ العراق)) في 134 صفحة ، استوفى فيه كلَّ ما يتعلق بالنخلة من جميع أحوالها ، وقال فيه في ص 128 : ((والجُمّار من النَّخْلَةِ كالمُخِّ من الغنسان)) .
(3) 8 ـ بَرَكَتُها أي خَيْرُها ونَفْعُها .
(4) 9 ـ أي لا يَتَساقَطُ ورقُها ولا يتناثر .
(5) 10 ـ أي تُعطي ثَمَرَها كلَّ وقتٍ أَقَّتَه الله تعالى لذلك الثمر ، بإرادةِ خالقها سبحانه .
(6) 11 ـ رُوي لفظ (مِثْل) بكسر الميم وسكون الثاء ، كما روي (مَثَلُ المسلم) بفتح الميم وفتح الثاء ، وكلاهما بمعنى واحد . قال الجوهري في ((الصحاح)) : ((مِثْلُ الشيءِ ، ومَثَلُه : كلمةُ تسوية ، كما يقال : شِبْهُه وشَبَهُه بمعنى واحد)) .
وجاء في بعض روايات البخاري ومسلم : ((مَثَلُها كمَثَل المُؤْمِن)) .
ووجْهُ تشبيهِ النخلة بالمسلم أو المؤمن قائمٌ من جهات كثيرة ، وذلك في أنها تُعَدُّ أشرَفَ الشجرَ وأعلاها مرتبة ، وفي كثرةِ خيرها ، ودَوامِ ظلِّها ، وطيبِ ثَمَرِها ، ووُجودِهِ على الدوام ، فإنه من حين يَطلُعُ ثَمَرُها لا يَزالُ يؤكل أنواعاً حتى يُجَدَّ تَمْراً ويُقطَع .
وإذا يَبِسَتْ النَّخْلة يُتَّخَذُ منها منافعُ كثيرة ، فخَشَبُها ، ووَرَقُها ، وأغصانُها ، تُستعمَلُ جُذوعاً وحَطَباً وعِصِيّاً وحِبالاً ومَخاصِرَ وأوانيَ وغيرَ ذلك . ثم آخِرُ ذلك . ثم آخِرُ شيء يُنتَفَعُ به منها هو نَواها ، فإنه يُتَّخَذُ عَلَفاً للإبِل .
أما جَمالُ نباتِها ووَرَقِها ، وحُسْنُ خِلْقَتها وثَمَرِها ، وفارغُ طولِها وانبساقِها ، ودوامُ خُضرة أوراقِها ، وتماسُكُ جِذْعها أن تَلعَبَ به الرياح والاعاصير ، وكريمُ ظِلِّها وفَيْئِها ، لمن كان في جزيرة العرب : فمنافعُ مشهودة ، ومُتَعٌ متكاثرةٌ معروفة محمودة . وقد مدَحَها الله في القرآن بآياتٍ كثيرة أيَّما مَدْح .
وكذلك المسلم أو المُؤْمِن كلّه خيرٌ ونَفْع ، وبَرَكتُه عامّة في جميع الاحوال ، ونفعُه مستمِرٌّ له ولغيرِه حتى بعد موته . فهو ذو عَمَلٍ صالح ، وقولٍ حسن ، كثيرُ الطاعات على ألوانها ، ما بين صائمٍ ، ومُصَلٍّ ، وتالٍ للقرآن ، وذاكرٍ لله ، ومُذكِّرٍ به ، ومُتَصَدِّقٍ ، وآمرٍ بالمعروف ، وناهٍ عن المنكر . =
= يُخالِطُ الناس ويَصبِرُ على أذاهم ، آلِفٌ مألوف ، ينفعُ ولا يَضُرُّ ، جميلُ المَظهر والمَخبَر ، مَكارمُ أخلاقِه مبذولة للناس ، يُعطي ولا يَمنع ، ويُؤْثرُ ولا يَطمَع ، لا يَزيده طولُ الأيام إلاّ بُسوقاً وارتفاعاً عن الدنايا ، ولا تَجِدُ فيه الشَّدائِدُ والأهوالُ إلاّ رُسوخاً على الحق وثباتاً عليه ، وسُمُوّاً إلى الخيرِ والنفع ، وشُفوفاً عن السَّفاسِف .
عَمَلُه صاعِدٌ إلى ربِّه بالقبول والرضوان ، إنْ جالسْتَه نَفَعَك ، وإن شاركْتَه نَفَعَك ، وإن صاحَبْتَه نَفَعك ، وإن شاوَرْتَه نَفَعك ، وكلُّ شأن من شؤونه مَنْفَعة ، وما يَصْدُر عنه من العلوم فهو قُوْتٌ للأرواح والقلوب ، لا يزالُ مستوراً بدِيْنِه ، لا يَعْرى من لِباسِ التقوى ، ولا يَنقطِعُ عملُه في غِنىً أو فقر ، ولا في صِحّةٍ أو مرض .
بل لا يَنقطع عملُه حتى بعدَ موتِه ، إذا نَظَر من حياتِه لآخِرتِه ، واغتَنَم من يومِه لِغَدِه ، يُنتَفَعُ بكل ما يَصْدُرُ عنه حَيّاً وميتاً ، إذْ مَبْعَثُ تصرُّفاتِه كلِّها الإيمانُ بالله ، والنفعُ لعبادِ الله ، سبحان الله ما أعظَمَ المؤمن؟!(1/84)
فحدِّثوني ما هي؟
قال عبد الله : فوقَعَ الناسُ في شَجَر البَوادي ، فقال القوم : هي شَجَرةُ كذا ، هي شجرةُ كذا ، ووَقَع في نَفْسي أنَّها النَّخلة ، فجَعَلْتُ أُريدُ أن أقولَها ، فإذا أَسنانُ القوم ، فأهابُ أن أتكلَّم وأنا غلامٌ شابّ ، ثم التَفَتُّ فإذا أنا عاشِرُ عَشْرٍ أنا أَحدَثُهم أصغَرُ القوم ، ورأيتُ أبا بكر وعمر لا يَتكلَّمان ، فسَكَتُّ .
فلما لم يتكلَّما ، قالوا : حدِّثنا ما هِيَ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي النَّخلة .
فلما قُمنا قُلتُ لعمر أبي : واللهِ يا أبَتاهُ ، لقد كان وَقَع في نفسي أنها النخلة ، فقال : ما منَعَك أن تقولَها؟ قلتُ : لم أرَكم تتكلَّمون ، لم أرَكَ ولا أبا بكر تكلَّمتُما ، وأنا غلامٌ شابّ ، فاستَحيَيْتُ ، فَكرِهتُ أن أتكلَّم أو أقولَ شيئاً ، فسكتُّ . قال عمر : لأن تكون قُلتَها أحبُّ إليَّ من أن يكونَ لي كذا وكذا)) (1) .
__________
(1) 1 ـ رواه البخاري في أحد عشر موضعاً في ((صحيحه)) ، وانا أُشيرُ إليها مع ذكر عناوين الأبواب التي رواه فيها ، لأن تلك العناوين تُعَدُّ بمثابةِ شرحٍ وجيزٍ لمعاني الحديث .
رواه في أربعة مواضع من كتاب العِلْم ، في (باب قول المحدِّث : حدَّثَنا وأخبَرَنا وانبَأَنا) 1 :133 ، وفي (باب طَرْح الإمام المسألة على أصحابه ليَختَبِرَ ما عندهم من العلم) 1 :136 ، وفي (باب الفَهْم في العلم) 1 :151 ، وفي (باب الحياء في العلم) 1 :203 . وفي كتاب البيوع ، في (باب بَيْع الجُمّارِ وأكْلِه) 4 :337 . وفي كتاب التفسير ، في (تفسير سورة إبراهيم) 8 :286 . وفي موضعين من كتاب الاطعمة ، في (باب أكْلِ الجُمّار) 9 :492 ، وفي (باب بركةِ النخلة) 9 :495 . وفي ثلاثة مواضع من كتاب الادَب ، في (باب ما لا يُسْتَحْيى من الحقّ للتفقُّه في الدين) 10 :435 ، ورواه مرةً أخرى فيه بلفظ آخر ، وفي (باب إكرام الكبير ، ويَبدأُ بالأكبر بالكلامِ والسُّؤال) 10 :443 .
ورواه مسلم في ((صحيحه)) من خمس طرق ، في أواخر (كتاب صِفَةِ القيامة والجنّةِ والنار) ، قبلَ (كتاب الجنة وصِفَةِ نعيمها واهلها) 17 :153 ـ 155 . وبوَّب عليه الإمامُ النووي في ((شرح صحيح مسلم)) بقوله : (باب مَثَلِ المُؤمِنِ مَثَلُ النَّخلة) .
وقد جَمَعْتُ في الرواية المذكورة هنا بين رواياتِ البخاري ومسلم ، لاستيفاء ما فيها من المعاني لهذا الحديث الكريم .
ورواه غيرُ البخاري ومسلم من أصحاب ((الكتب الستة)) ، والإمامُ أحمد في ((المسند)) ، وغيرُه من المحدِّثين .
وهو حديثٌ جليلُ القدر ، غزيرُ العلم ، كبيرُ الصلة بالتعليم وأسبابه وقد جَمَعْتُ رواياتِه من تلك الكتب أيضاً ، وشرحتُه مستقلاً في محاضرة عامّة ، ألقيتها في الرباط بالمغرب الأقصى في رمضان سنة 1387 ، بدعوة من عاهل المغرب الحسن الثاني ، أرجو من الله تعالى تيسير نَشْرِها للناس .
وقد رأيتَ فيما تقدَّم أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى رواه في ((صحيحه)) في أحد عشر موضعاً .
قال الصَّديق المفضال العلاّمة الأريب الأديب والداعيةُ الكبير الشيخ أبو الحسن الحَسَني النَّدْوي حفظه الله تعالى ، في (تقديمه) لكتاب ((الأبواب والتراجم للبخاري)) لشيخنا الحافظ المحدِّث الكبير مولانا محمد زكريا الكانْدهْلَوي رحمه الله تعالى :
((اشتَهر بين العلماء أنَّ فِقْهَ البخاري في (تراجم صحيحه) ، ولتنوُّع مقاصد الإمام البخاري ، وبُعْدِ مَراميه ، وفَرْطِ ذكائه ، وحِدّةِ ذهنه ، وتعمُّقِه في فهم الحديث ، وحِرصِه على الاستفادة والإفادة منه أكبرَ استفادةٍ ممكنة : أورَدَ الحديثَ الواحدَ في مواضع كثيرة في أبواب متنوِّعةِ العنوانِ ، والمعنى ، والموضوع ، فهو كنَخْلَةٍ حريصة تَوّاقة ، تَجتهدُ أن تتََشرَّب من الزهرة آخِرَ قطرةٍ من الرَّحيق ، ثم تُحوِّلُها إلى عَسَلٍ مُصَفّىً فيه شِفاء للناس .
وشأنُ الإمامِ البخاري مع الحديث النبوي الصحيح : شأنُ العاشِقِ الصادق ، والمحبِّ الوامِق ، مع الحبيبِ الذي أَسبغ الله عليه نعمةَ الجمال والكمال ، وكساه ثوباً من الرَّوعة والجلال ، فهو لا يكاد يَملأ عينيه منه ، وهو كلما نَظَر إليه اكتَشَف جديداً من آيات جماله ، فازداد افتتاناً وهُياماً ، ورأى جمالَه يَتجدَّدُ في كل حين .
ولذلك نَرى الإمام البخاري ، لا يكاد يَشبع من استخراجِ المسائلِ ، واستنباطِ الفوائد ، والنزولِ إلى أعماق الحديث ، والتقاط الدُّرَر منه ، والخروجِ على قُرّائه بها ، حتى يَذكُرَ حديثاً واحداً أكثرَ من عشرين مرة .
وقد روى (حديثَ بَريرَة عن عائشة) أكثرَ من اثنتين وعشرين مرة ، واستخراج منه أحكاماً وفوائدَ جديدة .
وروى (حديث جابر قال : كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فأبطأَ بي جَمَلي وأَعْيا ...) الحديث ، أكثرَ من عشرين مرة .
وروى (حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ، ورَهَنهُ دِرْعاً من حَديد) في أحدَ عشَرَ موضعاً ، وعَقَدَ له أبواباً وتراجمَ لها .
وروى حديثَ ابن عمر : إنَّ من الشَّجَر شَجَرةً لا يَسقُطُ وَرَقُها ...) الحديث ـ في أحد عشر موضعاً ـ واستخراج منها فوائد جديدة .
وسِرُّ ذلك أن الإمام البخاري لا يقتصر على ما يَتَبادَرُ إليه الذهنُ من الأحكام الفقهية المستخرجة من الاحاديث ، شأنَ أقرانِهِ ومن سَبَقَه من المؤلِّفين في علم الحديث والفقه ، بل يَستخرِجُ من الاحاديث فوائدَ عِلمية وعَمَلِيّة ، لا تَدخُلُ تحت باب من أبواب الفقه المعروفة ، رحمه الله تعالى)) . انتهى ملخصاً .
وأُشيرُ هنا إلى جُلِّ ما يُؤخَذ من هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية :
استحبابُ إلقاءِ العالم المسألة على أصحابه ، ليَختَبِرَ أفهامَهم ، ويُرغِّبَهم في الفِكر والاعتناء ، مع بيانِه لهم ما خفي عليهم إن لم يفهموه .
التحريضُ على الفهم في العلم .
ضَرْبُ الأمثالِ والأشباه ، لزيادةِ الإفهام وتصويرِ المعاني لتَرْسُخ في الذهن ، ولتحديدِ الفكر في النظر في حكم الحادثة .
أنَّ تشبيه الشيء بالشيء ، لا يَلزَمُ منه أن يكون نظيرَه من جميع وجوهه ، فإنَّ المؤمن لا يُماثِلُه شيء من الجَمادات ولا يُعادِلُه .
استحبابُ الحياء ما لم يؤدِّ إلى تفويتِ مصلحة ، ولهذا تمنّى عمرُ أن يكون ابنُه لم يَسكت .
توقيرُ الكبير ، وتقديمُ الصغير أباه في القول ، وأنه لا يُبادِرُه بما فَهِمَه ، وإن ظَنَّ أنه الصواب . =
أنَّ العالِمَ الكبير قد يَخفى عليه بعضُ ما يُدركه من هو دونه ، لأن العلم مَواهب ، واللهُ يُؤتي فضله منْ يَشاءُ .
ما استَدلَّ به الإمام مالك رضي الله عنه ، على أن الخواطر التي تقع في القلب ، من مَحبَّةِ الثناء على أعمالِ الخير ، لا يُقْدَحُ فيها إذا كان أصلُها لله تعالى وذلك مُستفاد من تمنّي سيدنا عمر رضي الله عنه أن يكون ابنُه قد قال ما فَهِمَهُ ووقَعَ في نفسه من الصواب .
ووَجْهُ تمنّي عمر رضي الله عنه : ما طُبِعَ الإنسانُ عليه من مَحبّةِ الخير لنفسه ولوَلَدِه ، ولِتَظهَرَ فضيلةُ الولد في الفَهْم من صِغَره ، وليزدادَ من النبي صلى الله عليه وسلم حُظوة ، ولعله كان يرجو أن يَدعوَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذْ ذاك بالفهم ، كما دعا صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس ، لمّا أَدْنى إليه الماءَ إلى بيت الخلاء ، مِن تلقاءِ نفسه دون سابق إشارةٍ منه صلى الله عليه وسلم ، فقال : ((اللهم فَقِّهْهُ في الدّين وعَلِّمْه التأويل)) . فكان رضي الله عنه كذلك .
فَرَحُ الرجل بإصابةِ ولدِهِ وتوفيقِهِ للصواب .
الإشارةُ إلى حَقارةِ الدنيا في عينِ عمر رضي الله عنه ، لأنه قابل فَهْمَ ابنه لمسألةٍ واحدة بحُمُرِ النَّعَم ـ كما جاء في رواية ـ ، مع عِظَمِ قَدْرِها وغلاءِ ثمنها .
أنه لا يُكْرَهُ للوَلَد أن يُجيب بما عَرَف في حضرةِ أبيه ، وإن لم يَعرفه الأبُّ ، وليس في ذلك إساءةُ أدبٍ عليه .
ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحياءِ من أكابرهم وأَجِلاّئِهم ، وإمساكُهم عن الكلام بين أيديهم .
وقد أورد الإمامُ ابن فَرْحون هذا الحديث الشريف في كتابه : ((دُرَّةُ الغَوّاص في مُحاضرة الخَواصّ)) ـ وهو المعروف بأَلغاز ابن فرحون ـ ، ثم قال : ((قال العلماء : وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنه ينبغي للعالم أن يُميِّز أصحابَه بإلغازِ المسائل العَويصات عليهم ، لِيَختبِرَ أذهانَهم ، في كشف المُعْضِلات وإيضاح المُشْكِلات .
وهذا النوع سَمَّتْهُ الفقهاءُ : الإلغاز ، وأهلُ الفرائض سَمّوه : المُعاياة ، والنحاةُ يُسمّونه : الأَحاجِيَّ ، وقد ألَّف العلماء في ذلك تصانيف عديدة)) . انتهى من ((التراتيب الإدارية)) 2 :232 لشيخنا محدِّث المغرب عبد الحي الكَتّاني رحمه الله تعالى . ...(1/85)
8 ـ تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُقايَسةِ والتمثيل
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُقايِسُ لأصحابه الأحكامَ ويُعلِّلُها لهم ، إذا اشتبهتْ عليهم مَسالِكُها ، وغَمُضَ عليهم حُكمُها ، فيَتَّضِحُ لهم ما اشتَبَه أمْرُه ، وخَفِيَ فَهْمُه ، ويكونُ لهم من تلك المقايَسةِ معرفةٌ بمسالِكِ الشريعة ومقاصِدِها ، وفِقهٌ بمراميها البعيدة :
54 ـ روى البخاري (1) عن ابن عباس : ((أنَّ امرأةً من جُهَيْنة ، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إنَّ أُمّي نذَرَتْ أن تَحُجّ ، فلم تَحجَّ حتى ماتَتْ ، أفأحُجَّ عنها؟ قال : نعم ، حُجّي عنها ، أرأيتِ (2) لو كان على أُمُّكِ دَيْن أكنتِ قاضِيَتَه؟ قالت : نعم ، فقال : اقْضوا اللهَ الذي له (3) ، فإنَّ الله أحقُّ بالوفاء)) .
55 ـ ومن ذلك أيضاً ما رواه مسلم (4) عن أبي ذر الغِفاري رضي الله عنه : ((أنَّ ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ذهَبَ أهلُ الدُّثور بالأُجور (5) ، يُصَلّون كما نُصلّي ، ويَصومون كما نصوم ، ويَتصدَّقون بفُضولِ أموالِهم؟! (6) .
__________
(1) 1 ـ 4 :55 في أبواب المحصر وجزاء الصيد (باب الحج والنذور عن الميت) .
(2) 2 ـ أي أخبِريني .
(3) 3 ـ جملة (الذي له) في آخر الحديث ليست في رواية نسخة البخاري المطبوعة مع ((فتح الباري)) ، وإنما هي من ((نصب الراية)) للحافظ الزيلعي 3 :158 ، وقد روى الحديث فيها عن البخاري .
(4) 4 ـ 7 :91 في كتاب الزكاة (باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) .
(5) 5 ـ يعني : ذهب أهلُ الغِنى بالثواب .
(6) 6 ـ أي بما لديهم من أموال فائضة عن الحاجة .(1/86)
قال : أوَليس قد جعَلَ لكم ما تَصَدَّقون (1) ؟ إنَّ بكل تسبيحةٍ صَدَقةً ، وكلِّ تكبيرةٍ صَدَقةً ، وكلِّ تحميدةٍ صَدَقةً ، وكلِّ تَهْليلةٍ صَدَقةً (2) ، وأمْرٌ بالمعروفِ صَدَقةٌ ، ونَهْيٌ عن منكرٍ صَدَقةٌ ، وفي بُضْعِ أحدِكم صَدَقةٌ (3) .
قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحَدُنا شَهْوَتَه ويكونُ له فيها أجر؟ قال : أرأيتُم (4) لو وضَعَها في حرامٍ أكان عليه فيها وِزْر؟ فكذلك إذا وَضَعَها في الحلال كان له أَجْر)) .
فقايَسَ لهم صلى الله عليه وسلم مُقايَسةً عقليةً بين الأمرين ، حتى اتَّضح لهم الحكم ، وفهِموا ما لم يكن يَدورُ في خَلَدِهم ، وهو أنَّ مِثلَ هذا الاستمتاعِ المشروعِ يكون به للمرء أجرٌ وثواب ، لما يترتب عليه من الآثار الحسنة .
56 ـ وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن (5) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : سمعتُ النبي
صلى الله عليه وسلم يُسألُ عن شِراءِ التَّمْرِ بالرُّطَب (6) ؟
فقال لمن حوله : ((أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ قالوا : نعم ، فنهى عن ذلك)) .
__________
(1) 7 ـ أي تَتَصدَّقون به .
(2) 8 ـ التهليلة قولُ الإنسان : لا إله إلاّ الله .
(3) 9 ـ أي في معاشرة الرجل زوجته الحلال له صدقة . وسمّى جزاءَ هذه الأعمال من التسبيح والتكبير والتحميد ... صَدَقةً على سبيلِ المقابلة وتجنيسِ الكلام ، أي كما أن للصدقةِ التي يَجودُ بها الاغنياءُ أهلُ الدثور ، على إخوانهم الفقراء المُعْوَزين أجراً وثواباً ، فكذلك لهذه الأعمال والطاعات أجرٌ وثوابٌ لفاعليها .
(4) 10 ـ أي أخبروني .
(5) 11 ـ أبو داود 3 :341 في كتاب البيوع (باب في الثمر بالثمر)، والترمذي 3 :519 في البيوع أيضاً (باب ما جاء في النهي عن المُحاقَلة والمُزابَنة) ، والنسائي 7 :269 باب (اشتراء الثمر بالرطب) ، وابن ماجه 2 :761 في كتاب التجارات (باب بيع الرُّطب بالتمر) .
(6) 12 ـ الرُّطَبُ هو التمر قبل أن يَتمَّ استِواؤُه ويُبسُهُ .(1/87)
وبدَهيٌّ كلَّ البَداهةِ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً أن الرطب ينقص إذا يبس ، فهو يعيشُ في قلب جزيرة العرب بلاد التَّمر والرُّطب ، وذلك أمرٌ لا يَخفى على أقلِّ الناس فيها ، ولكنه صلى الله عليه وسلم سألهم : هل ينقص الرطب إذا يبس؟ ليُنبِّه أصحابه وسامعيه وتابعيه ، إلى أنَّ علةَ النَّهي عن بيع الرطب بالتمر ، هي نقصه عند يُبسه ، فلا يجوز أن يباع هذا بهذا على سبيل التساوي بالكيل ، فأشعرَهم بعلةِ الحكم إذْ كان خَفِيّاً عليهم ، فكان ذلك قاعدةً في البيوع إلى آخر الزمن .
9 ـ تعليمُه صلى الله عيله وسلم بالتشبيهِ وضَرب الأمثال
وكان صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان يَستَعين على توضيح المعاني التي يُريد بيانَها بضَرْبِ المثل ، مما يَشْهَدُه الناسُ بأبصارِهم ، ويَتَذَوَّقونَه بألسنتِهم ، ويَقَع تحت حواسِّهم وفي مُتناوَلِ أيديهم ، وفي هذه الطريقة تيسيرٌ للفهمِ على المتعلِّم ، واستيفاءٌ تامٌ سريعٌ لإيضاح ما يُعلِّمُه أو يُحذِّرُ منه .
وقد تقرَّر عند علماء البلاغة أن لضربِ الأمثالِ شأناً عظيماً ، في إبراز خَفِيّاتِ المعاني ورَفْعِ أستارِ مُحجَّباتِ الدَّقائق ، وقد أكثرَ الله سبحانه من ضَرْبِ الأمثال في كتابه العزيز ، واقتدى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بالكتاب العزيز فكان يُكثِرُ من ذكر الأمثالِ في مُخاطباتِه ومَواعِظِه وكلامِه .
وقد جَمَع غيرُ واحد من الحفاظ (الأمثال) من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كُتُب مُستقلّةٍ كما فعله الحافظ أبو الحسن العَسْكري ، المتوفى سنة 310 ، وأبو أحمد العسكري ، والقاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خَلاّد الرّامَهُرْمُزي ، وكتابُه مطبوع متداوَل .
وفي كتب الصحاح والسنن والمسانيد من تلك الأحاديث جملةٌ وافرةٌ فمن ذلك :(1/88)
57 ـ ما رواه أبو داود (1) عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ المؤمنِ الذي يَقرأ القرآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّة (2) ،
__________
(1) 1 ـ 4 :357 في كتاب الأدب (باب من يُؤمَرُ أن يُجالَس) . والحديث عند البخاري 9 :65 ومسلم 6 :83 من حديث أنس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، سوى قوله (ومَثَل الجليس الصالح ...) إلى آخره .
(2) 2 ـ الأُتْرُجَّة بتشديد الجيم ، وقد تُخفَّف ، ثَمَرٌ معروف في جزيرة العرب ، وموجود فيها حتى الآن ، الواحدة : أُتْرجّة ، والجمع أُتْرُجّ ، ويقال له أيضاً : تُرُنْج . ويقال له في بلاد الشام : (الكَبّاد) . وهو ثمر جامعٌ إلى طيب الطعم والرائحةِ حُسْنَ اللونِ والمنظر ، وله منافع كثيرة ذكَرَتْها كتبُ الطب .
والمقصودُ بضرب المثل به : بيانُ عُلوِّ شأنِ المؤمن وارتفاعِ عمله ، وكشفُ انحطاطِ شأنِ الفاجر ، وسقوطِ عمله . وفي الحديث أيضاً : ضربُ المثل لتقريب الفهم .
قال الشيخ الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((مفتاح دار السعادة)) 1 :55 : ((وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الناسَ أربعةَ أقسام : الأول أهلُ الإيمان والقرآن ، وهم خيار الناس . الثاني أهلُ الإيمان الذين لا يقرأون القرآن ، وهم دونهم ، فهؤلاء هم السعداء . والأشقياء قسمان : أحدهما من أوتي قرآناً بلا إيمان فهو منافق . والثاني من لم يُؤتَ قرآناً ولا إيماناً .
والإيمانُ والقرآنً هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده ، وإنهما أصلُ كل خير في الدنيا والآخرة ، وعِلْمُهما أجلُّ العلوم وأفضلُها ، بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبَه إلاّ عِلمُهما)) .(1/89)
ريحُها طَيِّبٌ ، وطَعْمُها طَيِّب . ومثلُ المؤمنِ الذي لا يقرأُ القرآنَ كمثَلِ التَّمْرة ، طعمُها طيِّب ولا ريحَ لها . ومثلُ الفاجر الذي يقرأ القرآنَ كمثلِ الرَّيحانة ، ريحُها طيِّبٌ وطَعْمُها مُرّ ، ومثلُ الفاجرِ الذي لا يَقرأ القرآن كمثلِ الحَنْظَلة ، طَعْمُها مُرٌّ ولا ريحَ لها .
وةثلُ الجليسِ الصّالِح كمثلِ صاحبِ المِسْك ، إنْ لم يُصِبْكَ منه شيء ، أصابك من ريحه . ومثلُ جليسِ السّوءِ كصاحبِ الكِيْر (1) ، إن لم يَصِبْك من سَوادِه أصابك من دُخانِه)) .
وفي هذا التشبيه النبوي الكريم أبلغُ ترغيبٍ في الخير ، وأزجَرُ تحذيرٍ عن الشر، بأقربِ أسلوبٍ يُدرِكه المخاطبون ، وفيه إرشاد إلى الرغبة في صحبةِ الصُّلَحاء والعُلَماء ومُجالَستِهم ، فإنها تنفَع في الدنيا والآخرة ، وفيه أيضاً تحذيرُ من صحبة الأشرار والفُسّاق .
ومن هذا الأسلوب أيضاً ما رواه البخاري ومسلم (2) :
__________
(1) 3 ـ الكِيْرُ هو الزِّقُّ الذي يَنفُخُ فيه الحدّاد ، لزيادةِ اشتعالِ النار وامتدادِ لَهَبها ، ليَلُفَّ ما يوضَعُ فيها .
(2) 4 ـ البخاري 1 :175 في كتاب العلم (باب فَضْلِ من عَلِمَ وعَلَّم) ، ومسلم 15 :46 في كتاب الفضائل (باب بيان ما بُعِثَ به النبي صلى الله عليه وسلم من الهُدى والعلم) ، واللفظُ المسوقُ مأخوذ منهما .(1/90)
58 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إن مثَلَ ما بَعَثَني الله به من الهُدى والعلم، كمثلِ الغَيْثِ الكثير أصاب أرضاً ، فكانتْ منها طائفةٌ طيِّبَةٌ نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الماءَ فأنبتَتْ الكَلأَ والعُشْبَ الكثير (1) . وكانت منها أَجادِبُ (2) أمسَكَتْ الماءَ فنفَع الله بها الناسَ فشَرِبوا وسَقَوا وزَرَعوا .
وأصابَ طائفةً أخرى منها إنما هي قِيْعان لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً (3) .
فذلك مثلُ منفَقِه في دجين الله ونَفَعَه الله به فعَلِم وعَلَّم ، ومثلُ من لم يَرفَعْ بذلك رأساً ولم يَقْبَلْ هدَى الله الذي أُرسِلْتُ به)) (4) .
__________
(1) 5 ـ (الغيثُ) المطر ، و(الكَلأُ) النبات رطباً كان أو يابساً ، و(العُشْب) النبات إذا كان رَطْباً .
(2) 6 ـ (أجادِب) جمعُ أجدَب ، والأجادبُ : صِلابُ الأرض التي تُمسكُ الماء ولا تَشرَبُهُ سريعاً .
(3) 7 ـ (قيعان) جمعُ قاعٍ ، وهي الأرضُ المُستويةُ الملساءُ التي لا تُنبِتُ .
(4) 1 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :177 : ((قال القُرطبي وغيرُه : ضَرَب النبي صلى الله عليه وسلم لِما جاء به من الدينِ مثلاً بالغيثِ العام الذي يأتي الناسَ في حالِ حاجتِهم إليه ، وكذا كان حالُ الناسِ قبل مَبعَثِه صلى الله عليه وسلم ، فكما أن الغيثَ يُحيي البلد الميِّت ، فكذا عُلومُ الدين تُحيي القلبَ الميِّتَ .
ثم شَبَّه السامعين له بالأرضِ المختلفةِ التي يَنزِلُ بها الغيث .
فمنهم العالمُ العامِلُ المُعلِّمُ ، فهو بمنزلةِ الأرض الطيِّبةِ شَرِبَتْ فانتفَعَتْ في نفسِها وأنبَتَتْ فنَفَعتْ غيرَها .
ومنهم الجامعُ للعلمِ المُستَغرِقُ لزمانه فيه غيرَ أنه لم يَعمَلْ بنوافِله أو لم يَتَفقَّه فيما جَمَع لكنَّهُ أدّاه لغيرِه ، فهو بمنزلة الأرض التي يَسْتَقِرُّ فيها الماء فيَنتَفِعُ الناس به ، وهو المشارُ إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : ((نَضَّرَ الله امرءاً سَمِعَ مَقالتي فوَعاها ، ثم أدّاها كما سَمِعَها ، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيهٍ ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه)) .
ومنهم من يسمع العلمَ فلا يَحفَظُه ولا يعمَلُ به ولا يَنقُلُه لغيرِه ، فهو بمنزلةٍ الأرض السَّبِخَةِ أو المَلْساء التي لا تَقبَلُ الماءَ أو تُفسِدُه على غيرِها. وإنما جَمَع في المَثَل بين الطائفتين الأُوْلَيين المحمودتين لاشتِراكِهما في الانتفاعِ بهما ، وأفراد الطائفةَ الثالثةَ المذمومةَ لعدم النفع بها ، والله أعلم)) . انتهى .
فالصنفُ الأولُ هم أهلُ روايةٍ ودِرايةٍ ودعوةٍ وعَمَلٍ ، والصنفُ الثاني أهلُ رِوايةٍ ورِعايةٍ وعَمَلٍ ، ولهم نصيبٌ من الدِّراية ، والصنفُ الثالث الأشقياء لا رِوايةَ عندهم ولا دِرايةَ ولا رِعايةَ ، ولا حِفظَ ولا فَهْمَ ، لم يَقْبَلوا هُدى الله ولم يَرفعوا به رأساً ، بل أعرضوا عنه ، كما أوضحه الشيخُ ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((الوابل الصَيِّب من الكِلم الطيِّب)) ص57 ـ 59 ، فانظره لزاماً .
وقال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 15 : 48 : ((في هذا الحديث أنواع من العلم ، منها ضربُ الأمثال ، ومنها فضلُ العلم والتعليم ، وشدةُ الحَثِّ عليهما ، وذمُّ الإعراض عن العلمِ ، والله أعلم)) .(1/91)
وما رواه البخاري والترمذي (1) :
59 ـ عن النُّعمان بنِ بَشيرٍ رضي الله تعالى عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ القائمِ على حدودِ الله والواقِعِ فيها والمُدْهِنِ فيها قوم استَهَموا سفينةً فصارَ بعضُهم في أسفلِها ، وصارَ بعضُهم في أعلاها ، فكان الذين في أسفَلِها يَمُرّون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذّوا به ، فأخَذَ فأساً فجَعَل يَنْقُرُ أسفلَ السفينةِ ، فأتوه فقالوا : ما لك؟ قال : تأذَّيتم بي ولا بُدَّ لي من الماء ، فإن أخَذوا على يديه أَنجَوهُ ونَجّوا أنفُسَهُم ، وإن تَركوه أهلَكوهُ وأَهْلَكوا أنفُسَهم)) (2) .
وما رواه النسائي (3) :
__________
(1) 2 ـ البخاري 5 : 132 في كتاب الشَّرِكة (باب هل يُقرَع في القِسْمةِ؟) و5 : 292 في كتاب الشهادات (باب القرعة في المشكلات) ، والترمذي 3 : 318 في كتاب الفتن ، واللفظُ للبخاري مجموعاً من الموضعين .
(2) 3 ـ فالذين أرادوا خرقَ السفينةِ بمنزلةِ الواقع في حدود الله ، ومن عَداهم إما مُنكِرُ عليهم وهو القائمُ على حدود الله ، وإما ساكتُ عنهم وهو المُدْهِن ، ـ والمُدْهِنُ المُحابي ـ .
والمعنى أن إقامة الحدودِ يَحصُل بها النجاةُ لمن أقامَها وأقيمَتْ عليه ، وإلاّ هَلَكَ العاصي بالمعصيةِ ، والسّاكتُ بالرضا بها .
وفي الحديث بيانُ استحقاقِ العقوبةِ بتركِ الأمرِ بالمعروف ، وتَبيينُ العالم الحُكمَ بضربِ المَثَل ، ووجوبُ الصَّبْرِ على أذى الجارِ إذا خَشِي وقوعَ ما هو أشدُّ ضرراً . أفاد كلَّ ذلك في ((فتح الباري)) 5 : 295 ـ 296 .
(3) 4 ـ 8 : 124 في كتاب الإيمان وشرائعه (مثل المنافق) .(1/92)
60 ـ عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((مَثَلُ المُنافِقِ كمَثَل الشاةِ العائِرةِ بين الغَنَمينِ (1) ، تعيرُ في هذه مَرَّةً ، وفي هذه مرَّةً ، لا تدْري أيّها تَتْبَعُ)) .
10 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالرَّسْمِ على الأرض والتراب
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَستعين على توضيح بعضِ المعاني بالرَّسمِ على الأرضِ والتراب ، ومن ذلك ما رَواه الإمام أحمد في ((مسنده)) عن جابرٍ وابن مسعود رضي الله عنهما ، وأبو عبد الله المروزي في كتاب ((السُّنّة)) عن جابر وابن عباسٍ رضي الله عنهم (2) :
61 ـ قال جابر:((كنا جلوساً عند النبي صلَّى الله غليه وسلم, فخطَّ بيده خطاً هكذا أمامه, فقال: هذا سبيلُ الله عزَّ وجلَّ, وخطَّ خطين عن يمينه, وخطين عن شِمالِه, وقال :هذه سُبلُ الشيطان, ثم وضع يده في الخط الأوسط, ثم تلا هذه الآية :(وأنَّ هذا صِراطي مستقيماً فاتَّبِعوه, ولا تَتَّبعوا السُّبُلَ فَتَفرَّق بكم عن سَبيله, ذلكم وصَّاكم به لعلكم تَتَّقون)) (3) .
__________
(1) 5 ـ أي المُتَرَدِّدةِ بين قَطيعين من الغنم . يقال : عارَتْ الشاةُ تَعيرُ : تردَّدَتْ بين القطيعين ، لا تَدري أيَّهما تتبع!
(2) 6 ـ في ((المسند)) للإمام أحمد 3 : 397 . وفي كتاب ((السنة)) للمروزي ص 6 , عن جابرٍ وابن عباس .
ولفظ الحديث في رواية كتاب ((السنة)) : ((فخطّ بيده في الأرض خطاً هكذا , فقال : هذا سبيلُ الله, وخطّ خطَّين عن يمينِه , وخطين عن شِمالِه , وقال : هذه سُبُلُ الشيطان, ثم وضعَ يده في الخطِّ الأوسط, ثم تلا ...)) .
ورواية ((المسند)) فيها ((فخطَّ خطّاً هكذا أمامه , فقال : هذا سبيلُ الله, وخطينِ عن يمينِه ... ثم وَضعَ يده في الخطِّ الأسودِ, ثم تلا ... )) . فجمعتُ بين روايتيهِما .
(3) 1 ـ من سورة الأنعام ، الآية 153 .(1/93)
62 ـ وروى البخاري (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ((خَطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خَطّاً مُربَّعاً ،
وخطاً خطاً في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خُطوطاً صِغاراً إلى هذا الذي في الوَسَط (2) ، من جانِبِه الذي في الوسَط، فقال : هذا الإنسانُ ، وهذا أَجَلُه مُحيطٌ به ، وهذا الذي هو خارجٌ (3) أمَلُه ، وهذه الخُطوطُ الصِّغارُ : الأعراضُ (4) ، فإنْ أَخطأه هذا نهَشَه هذا (5) ، وإنْ أخطأه هذا نَهَشه هذا ، وإن أخطأَهُ كلُّها أصابَهُ الهَرَمُ (6) ) .
فبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم بما رسَمَه أمامَهم على الأرض ، كيف يُحالُ بين الإنسانِ وآمالِه الواسعة ، بالأجَل المُباغِت ، أو العِلَلِ والأمراضِ المُقْعِدة ، أو الهَرَمِ المُفني ، وحَضَّهم على قِصَر الأملِ والاستعدادِ لِبَغْتَةِ الأجل ، وكانت وسيلةُ الإيضاح في ذلك : الأرض والتُّرابَ كما رأينا .
__________
(1) 2 ـ 11 :202 في كتاب الرقاق (باب في الأمل وطوله) .
(2) 3 ـ لفظُ رواية نسخة البخاري المطبوعة مع ((فتح الباري)) : ((وخَطَّ (خُطُطاً) صِغاراً ...)) ، في هذا الموضع وفي الموضع التالي أيضاً . وفي روايةٍ ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في ((فتح الباري)) 11 :202 ، وذكرها الفقيه ابنُ حَجَر الهَيْثَمي في ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) للنووي في شرح الحديث (الأربعين) عن البخاري : ((وخَطَّ خُطوطاً ...)) فأثبتها هنا .
(3) 4 ـ أي خارجٌ عن الخط .
(4) 5 ـ أي الحوادثُ والنوائبُ المفاجِئة .
(5) 6 ـ عبَّر بالنَّهْش ـ وهو لَدْغُ الأفعى ذاتِ السُّم ـ مبالَغةً في الإصابة والإهلاكِ السريع .
(6) 7 ـ هذه الجملة ليست في نسخة البخاري المطبوعة ، وإنما هي من رواية ابن حجر الهَيْثَمي في ((الفتح المبين)) عن البخاري ، فأثبتُّها .(1/94)
63 ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) (1) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : ((خَطَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعةَ خُطوط، وقال : أَتَدْرون لِمَ خَطَطْتُّ هذه الخطوط؟ قالوا : اللهُ ورسولُه أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضلُ نِساءِ أهلِ الجنة : خَديجةُ بنتُ خُوَيلد ، وفاطِمةُ بنتُ محمد ، ومريم ابنةُ عِمْران ، وآسِيَةُ بنتُ مُزاحِم امرأةُ فِرْعَون)) (2) .
11 ـ جمعه صلى الله عليه وسلم بين القولِ والإشارة في التعليم
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَجمَعُ في تعليمه بين البيان بالعبارة ، والإشارة باليدين الكريمتين ، توضيحاً للمَرام وتنبيهاً على أهميةِ ما يذكُره للسامعين أو يُعلِّمُهم إياه ، وإليك طائفةً من الأحاديث في ذلك :
64 ـ روى البخاري ومسلم (3) ، واللفظ للبخاري ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((المؤمِنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضاً ، ثم شَبَّك رسولُ الله بين أصابِعه)) .
__________
(1) 8 ـ 1 :293 و 316 و 322 .
(2) 9 ـ لم أرَ من بيَّن المعنى الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطِّه لتلك الخطوط الأربعة ، وهو يُبيِّنُ أفضليةَ هؤلاء النسوة الأربع ، والظاهرُ عندي ـ والله أعلم ـ أنَّ المعنيَّ من ذلك توكيدُ أفضلية هؤلاء النسوة الأربع على سائر نساء أهل الجنة ، فيكون إعلامُ ذلك حاصلاً من طريق السماع للقول من فمه صلى الله عليه وسلم ، والمشاهدةِ لخَطِّه بيده ، فيكون آكدَ ما يكون البيانُ في حَصْرِ الأفضلية فيهن ، والله أعلم .
(3) 10 ـ البخاري 5 :72 في كتاب المظالم (باب نصر المظلوم) ، و10 :376 (باب تعاوُن المؤمنين بعضهم بعضاً) ، ومسلم 16 :139 في كتاب البر والصلة (باب تراحُم المؤمنين وتعاطُفُهم وتعاضدهم) .(1/95)
65 ـ وروى مسلم (1) ، من حديثِ جابر بن عبد الله ، الطويلِ في حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم قولَه : ((لو أني استَقبَلْتُ من أمري ما استَدبرْتُ ، لم أَسُق الهَدْيَ ، وجعَلتُها عُمْرةً ، فمن كان منكم ليس معه هَدْي فليَحِلَّ ولْيَجعلْها عُمرة . فقام سُراقَةُ بن مالك بن جُعْشُم فقال : يا رسول الله ، أَلِعامِنا هذا أمْ لأَبَدٍ؟ فشبَّك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصابعَه واحدةً في الاخرى وقال : دخَلَتْ العُمرةُ في الحجّ ، دخَلَتْ العُمرةُ في الحجّ ، بل لأبَدٍ أَبدٍ)) (2) .
66 ـ وروى البخاري (3) عن سَهْل بن سَعْد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا وكافِلُ اليتيم فيالجنَّةِ كهاتَيْنِ ، وأشار بإصبعَيْه : السبَّابةِ والوُسْطى ، وفَرَّجَ بينهما شيئاً)) .
__________
(1) 11 ـ 8 :178 في كتاب الحج (باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم) .
(2) 12 ـ أظهَرُ ما قيل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ((دخَلَتْ العُمرةُ في الحجّ)) : أنَّ العمرة يجوز فعلُها في أشهر الحج ، خلافاً لما كانت الجاهلية تَزعمُهُ من امتناع العمرة في أشهر الحج ، فهذا إبطالٌ منه صلى الله عليه وسلم لما زعموه .
وهناك وجوه أخرى في معنى هذه الجملة تراها في ((شرح صحيح مسلم)) للنووي 8 :166 ، و((فتح الباري)) لابن حجر 3 :485 .
(3) 13 ـ 9 :389 في كتاب الطلاق (باب اللعان) ، و10 :365 في كتاب الأدب (باب فضل من يعول يتيماً) .(1/96)
67 ـ وفي حديث الثلاثة الذين تكلَّموا في المَهْد ، الذي رواه البخاري ومسلم (1) ، واللفظ للبخاري ، عن أبي هريرة ، فذكَرَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : عيسى ابنَ مريم عليه السلام ، وغُلامَ جُرَيجٍ الراهب ، ثم قال :
((كانت امرأةٌ تُرضِعُ ابناً لها من بني إسرائيل ، فمَرَّ بها رجلٌ راكبٌ ذو شارَة (2) ، فقالت : اللهمَّ اجْعَلْ ابني مِثلَه ، فتَرَك ثَدْيَها فأقبَلَ على الراكب فقال : اللهمَّ لا تَجعلْني مِثلَه ، ثم أقبَلَ على ثَدْيها يَمَصُّه .
قال أبو هريرة : كأني أَنظُرُ إلى النبي يَمَصُّ إصْبَعَه .
ثم مُرَّ بأمَةٍ ، تُجرَّرُ ويُلعَب بها (3) ، وتُضرَب ، فقالت : اللهمَّ لا تَجعَلْ ابني مِثلَ هذه ، فتَرَك ثَدْيَها فقال : اللهمَّ اجعلْني مِثلَها ، فقالت : لِمَ ذاكَ؟ فقال : الراكبُ جَبّارٌ من الجبابرة ، وهذه الأمَة يقولون : سَرَقْتِ زَنَيتِ ، ولم تَفْعل ، وهي تقول : حَسْبِيَ اللهُ ونعم الوكيل)) (4) .
68 ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) (5) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قَريبِ ثمانين رجلاً من قُرَيش ، ليس فيهم إلاّ قُرَشي ، لا واللهِ ما رأيتُ صَفْحَةَ وُجوهِ رجالٍ قَطُّ أَحْسَنَ من وجوهِهم يومئذ .
فذكروا النساءَ فتحدَّثوا فيهن ، فتحدَّثَ معهم حتى أحببتُ أن يَسكت ، ثم أتيتُه فتَشهَّدَ ثم قال :
__________
(1) 1 ـ البخاري 6 :344 ـ 348 في كتاب أحاديث الأنبياء (باب قول الله تعالى واذكر في الكتاب مريم ...) ، ومسلم 16 :106 ـ 108 في كتاب البر والصلة (باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها) .
(2) 2 ـ أي ذو هيئةٍ جميلة ومَلْبَسٍ حسن .
(3) 3 ـ هذه الجملة من رواية ثانية عند البخاري 6 :371 في كتاب أحاديث الأنبياء (باب بعد باب ما ذُكر عن بني إسرائيل) .
(4) 4 ـ هذه الجملة من بعد الفاصلة من رواية الإمام أحمد في ((مسنده)) 2 :308 .
(5) 5 ـ 1 :458 .(1/97)
أما بعدُ يا مَعْشَرَ قُرَيش فإنكم أهلُ هذا الامر ، ما لم تَعْصوا الله تعالى ، فغذا عَصَيْتُموه بَعَثَ إليكم من يَلْحاكم كما يُلْحى هذا القَضيبُ ، لِقَضيبٍ في يدِه ، ثم لَحا القَضيبَ فإذا هو أبيَضُ يَصْلِدُ)) (1) .
69 ـ روى مسلم والترمذي (2) ، واللفظ له ، عن سفيان بن عبد الله الثَّقَفي رضي الله عنه قال : ((قلتُ يا رسول الله حَدِّثني بأمْرٍ أَعتصِمُ به ، قال : قُلْ : ربِّيَ الله ، ثم استقِمْ . قلتُ : يا رسول صلى الله عليه وسلم ، ما أَخوَفَ ما تخافُ عليَّ؟ فأخَذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانِ نَفْسه ثم قال : هذا)) .
70 ـ وروى الدّارَقُطْنيُّ في ((سُنَنِه)) (3) عن ابن عباس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ((سُئِلَ يومَ النَّحْر عمن قَدَّم شيئاً قبلَ شيء (4) ، وشيئاً قبلَ شيء؟ قال : فرفَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وقال : لا حَرَج ، لا حَرَج)) .
__________
(1) 6 ـ يَصْلِدُ : يَبْرُق .
(2) 7 ـ مسلم 2 :8 في كتاب الإيمان (باب جامع أوصاف الإسلام) ، والترمذي 4 :607 في كتاب الزهد (باب ما جاء في حفظ اللسان) .
(3) 8 ـ في كتاب الحج 2 :252 و 253 .
(4) 9 ـ يعني : قدَّم أفعالِ الحج على بعض .(1/98)
71 ـ وروى مسلم (1) عن المِقداد بن الأسود رضي الله عنه ، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((تُدْنى الشَمْسُ يومَ القيامة من الخَلْق ، حتى تكونَ منهم كمِقدارِ مِيْل ، فيكون الناسُ على قَدْرِ أعمالِهم في العَرَق ، فمنهم من يكونُ إلى كَعْبَيه ، ومنهم من يكونُ إلى رُكْبَتَيْه ، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيْه (2) ، ومنهم من يُلْجِمُه العَرَقُ إلجاماً ، وأشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِهِ إلى فِيْه (3) ) .
72 ـ وذكَرَ الحافظُ الهَيْثَمي في ((مَوارِد الظمآن إلى زوائد ابن حبان)) على ((الصحيحين)) (4) ، عن عُقْبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تَدْنو الشمسُ من الأرض ، فيعرَق الناسُ! فمِن الناسِ من يَبْلُغُ إلى الفَخِذ ، ومنهم من يَبلُغ إلى الخاصِرةِ ، ومنهم من يَبلُغ إلى عُنُقِه ، ومنهم من يبلُغُ إلى وَسَطِ فيه ، وأشار عُقبةُ بيده ، فألجَمَ فاه ، وقال : رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُشيرُ هكذا ، ومنهم من يُغطّيه عَرَقُه ، وضَرَب (5) بيده إشارةً)) (6) .
12 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم برفعِ المنهي عنه بيده تأكيداً لحرمتِه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَحمِلُ بيده الشيءَ الذي يَنهى عنه ، ويَرفعُه إلى أنظارِ المخاطَبين ، فيَجمعُ لهم بين النَّهي عن الشيء بالقَوْلِ والمُشاهَدةِ للمنهيِّ عنه بالعَيْن ، فيكون ذلك أَوعى للنفوس ، وأوضحَ في الدلالةِ على التحريم والمنع :
__________
(1) 10 ـ 17 :196 في كتاب الجنة وصفة نعيمها (باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالِهِ) .
(2) 11 ـ الحَقوْ بفتح الحاء وكسرها مع سكون القاف : هو الموضع الذي يُعْقَدُ عليه الإزار ، أي يَبْلُغ به العَرَقُ إلى وسَطه .
(3) 12 ـ أي أشار إلى فَمِهِ الشريف صلى الله عليه وسلم .
(4) 13 ـ ص 64 .
(5) 14 ـ أي أشار .
(6) 15 ـ أي أشارَ إشارةً إلى ما فوقَ رأسِه!(1/99)
73 ـ روى أبو داود والنَّسائي وابن ماجه (1) ، واللفظ له ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ((أخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَريراً بشِماله ، وذَهَباً بيمينه ، ثم رفَعَ بهما يَدَيْه فقال : إنَّ هذينِ حرامٌ على ذُكورِ أُمَّتي ، حِلٌّ لإناثِهم)) .
74 ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) (2) ، عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ((إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوَبَرة من جَنْب البعير من المغنم فيقول : مالي فيه إلاّ مثلُ ما لأحدكم منه ، إياكم والغُلول ، فإن الغلولَ خِزي على صاحِبِه يومَ القيامة ، أَدّوا الخيط والمِخْيَط وما فوق ذلك ، وجاهِدوا في سبيل الله تعالى القريبَ والبعيدَ ، في الحضرِ والسفرِ ، فإن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة ، إنه ليُنجي الله تبارك وتعالى به من الهمِّ والغمِّ ، وأقيموا الحدودَ في القريب والبعيد ، ولا يأخُذْكم في الله لومةُ لائم)) .
13 ـ ابتداؤه صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالإفادة دون سؤال منهم
وكان صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان يَبتَدىءُ أصحابَه بالإفادةِ من غير سؤالٍ منهم ، لا سيما في الأمور المهمةِ التي لا يَنتَبِهُ لها كلُّ واحدٍ حتى يَسألَ عنها ، فكان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه جوابَ الشُّبْهة قبلَ حُدوثها ، خشية أن تقع في النفوس فتستَقِرَّ بها ، وتَفعلَ فعلَها السيِّىء :
__________
(1) 1 ـ أبو داود 4 :50 في كتاب اللباس (باب في الحرير للنساء) ، والنسائي 8 :160 في كتاب الزينة (باب تحريم الذهب على الرجال) ، وابن ماجه 2 :1189 في كتاب اللباس (باب لباس الحرير والذهب للنساء) .
(2) 2 ـ 5 :330 ، وإسنادُه لا بأس به ، وأصلُ الحديث عند ابن ماجه 2 :95 في كتاب الجهاد (باب الغُلول) ، وإسنادُه ـ كما قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) 2 :121 ـ حَسَنٌ .(1/100)
75 ـ روى البخاري ومسلم (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يأتي الشيطانُ أحدَكم ، فيقول : من خلَقَ كذا وكذا؟ حتى يقول له : من خَلَق ربّك. فإذا بَلَغ ذلك ، فليستَعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ)) (2) .
__________
(1) 3 ـ البخاري 6 :240 في كتاب بدء الخلق (باب صفة إبليس وجنوده) ، و13 :230 في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (باب ما يكره من كثرة السؤال ...) ، مسلم 2 :154 في كتاب الإيمان (باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها) .
(2) 4 ـ أي وليقطع ذِهْنَهُ عن الاسترسال معه في ذلك ، بل يلجأ إلى الله تعالى في دفعه ، ويعلَمُ أن الشيطان يريد إفسادَ دينه وعقله بهذه الوسوسة ، فينبغي أن يجتهد في دفعها وقطعها بالاشتغال بغيرها .
قال الخطابي : وجهُ هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك ، فاستعاذ الشخصُ بالله منه ، وكفَّ عن مطاولته في ذلك اندفع . والشيطان ليس لوسوسته انتهاء ، كلما أُلزِمَ حُجّةً زاغ إلى غيرها ، إلى أن يُفضِيَ بالمرء إلى الحَيْرة نعوذ بالله من ذلك .
على أن قولَه : (مَنْ خَلَق ربَّك) كلامٌ مُتَهافِت ، يَنقُضُ آخِرُه أوَّلَه ، لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقاً ، ثم لو كان السؤالُ متَّجِهاً لاستلزَم التسلسل ، وهو مُحال . وقد أثبَتَ العقلُ أن المُحدَثات مفتقِرة إلى مُحْدِث ، فلو كان هو مفتقِراً إلى مُحدِث ، لكان من المُحدَثات .
قال ابن بطّال : فإن قال المُوَسْوِسُ : فما المانعُ أن يَخلق الخالقُ نفْسَه؟ قيل له : هذا يَنْقُضُ بعضُه بعضاً ، لأنك أثبتَّ خالِقاً ، وأوجبتَ وجودَه ، ثم قلتَ : يَخلُقُ نفسَه ، فأوجبتَ عدمَه ، والجمعُ بين كونه موجوداً معدوماً فاسدٌ لتناقضه ، لأن الفاعل يتقدم وجودُهُ على وجودِ فِعلِه ، فيَستَحيل كونُ نفسِهِ فِعلاً له . انتهى .
قال ابن الّين : لو جاز لمُختَرِع الشيء أن يكون له مُختَرِع لَتَسَلْسَلَ ، فلا بد من الانتهاء إلى موجِد قديم ، والقديم من لا يَتَقدَّمه شيء ، ولا يصح عدمه ، وهو فاعل لا مفعول ، وهو الله تبارك وتعالى . انتهى من ((فتح الباري)) 13 :273 ـ 274 .
قال الشيخ محمد عبده في كتابه ((رسالة التوحيد)) ص 58 و59 و60 و61 ، مبيناً عجزَ العقل البشري عن إداك كُنهِ الحقائق الكونية ، فضلاً عن إدراكِ كُنْهِ ذاتِ الله تعالى : ((إذا قَدَرْنا عَقْلَ البشَرَ قَدْرَه ، وجدنا غايةَ ما ينتهي إلى كماله ، إنما هو الوصولُ إلى معرفة عَوارِض بعض الكائنات ، التي تقع تحت الإدراك الإنساني ، حِسّاً كان أو وِجْداناً أو تعقُّلاً ، ثم التوصُّلُ بذلك إلى معرفةِ مَناشِئها ، وتحصيل كُليّاتٍ لأنواعها ، والإحاطة ببعض القواعد لِعُروض ما يَعرِضُ لها .
وأما الوصولُ إلى كُنْهِ حقيةٍ مّا ، فمما لا تَبلُغُه قُوّةُ العقل ، لأن اكتناه المركَّبات إنما هو باكتناه ما تركَّبَتْ منه ، وذلك ينتهي إلى البسيط الصِّرْف ، وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة ، وغايةُ مل يُمكنُ عِرفانُه منه : عَوارضُهُ وآثارُه .
هذا أظهرُ الأشياء واجلاها (الضَّوْءُ) ، قرَّر الناظرون فيه : له أحكاماً كثيرة ، فصَّلوها في عِلمٍ خاصّ به ، ولكن لم يستطع ناظرٌ أن يَفهم ما هو؟ ولا أن يَكتَنِهَ معنى (الإضاءة) نفسِه ، وإنما ما يَعرفه كلُّ بصير له عينان ، وعلى هذا القياس ـ غيرُ (الضَّوْء) من الكائنات ـ .
ثم إنَّ الله تعالى لم يجعل للإنسان حاجةً يدعو إلى اكتناه شيء من الكائنات ، وإنما حاجتُه إلى معرفة العَوارض والخَواصّ .
ولَذّةُ عقْلِه إن كان سليماً ، إنما هي تحقيقُ نسبةِ تلك الخواص إلى ما اختَصَّتْ به ، وإدراكُ القواعد التي قامَتْ عليها تلك النِّسَبُ ، فالاشتغالُ بالاكتناهِ إضاعةٌ للوقت ، وصَرْفٌ للقوة إلى غير ما سيقت له .
وأما الفكر في ذات الخالق سبحانه ، فهو طلَبٌ للاكتناه من جهة ، وهو ممتنع على العقل البشري ، لما علمتَ من انقطاع النسبة بين الوجودَيْن ، ولاستحالة التركُّب في ذاته . و : تطاولٌ إلى ما لا تَبْلغُهُ القوة البشرية من جهةٍ اخرى ، فهو عَبَثٌ ومَهْلَكة ، عَبَثٌ لأنه سَعْيٌ إلى ما لا يُدْرَك ، ومَهْلَكة لأنه يؤدّي إلى الخَبْط في الاعتقاد ، لأنه تحديدٌ لما لا يجوز تحديدُه ، وحَصْرٌ لما لا يصحُّ حصْرُه ...)) انتهى . وقد قال تعالى : (ليس كمِثْلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصير) .
وإذا كان العقل البشري عاجزاً عن إدراك كُنْهِ المخلوق ، فهو من بابِ أولى : يكون عاجزاً عن إدراك كُنْهِ الخالق سبحانه وتعالى . =
= قال العلاّمة عبد الله النبراوي في شرحه على ((الأربعين النووية)) ص 136 ، عند شرح الحديث الثلاثين الذي رواه الدارقطني وغيره بإسناد حسن عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيان فلا تبحثوا عنها)) .
قال رحمه الله تعالى : ((ومن البَحْث عما لا يَعني : البحثُ عن أمور الغيب التي أُمِرنا بالإيمان بها ، ولم تُبيَّن كيفيتها ، لأنه قد يوجب البحثُ عنها الحَيْرة والشك ، ويرتقي الأمر إلى التكذيب والإنكار ، ومن ثم قال ابن إسحاق : لا يجوز التفكُّرُ في الخالق ولا في المخلوق بما لم يُسمَع فيه من الشرع ، كأن يقال في قوله تعالى : (وإنْ من شيء إلاّ يُسبِّحُ بحمده) : كيف يسبح الجماد؟ لأنه سبحانه وتعالى أخبَرَ به ، فيجعله كيف شاء كما شاء . اه .
وفي ((الصحيحين)) ما يؤيد حرمة التفكر في الخالق ، كخبر البخاري : ((يأتي الشيطان أحدَكم فيقول : من خَلَق كذا؟ من خلَقَ كذا؟ ، حتى يقول : من خلق ربَّك؟ فإذا بلغَه فليستعذ بالله ولينته)) . وأخرج مسلم : ((لا يزال الناس يسألون حتى يقال : هذا اللهُ خَلَق الخلق ، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل : آمنتُ بالله)) .
وقد أطلتُ هذه التعليقةَ ، لأنها تَتَعلَّق بموضوعٍ خطيرٍ ، يَعرِض لكثيرٍ من الشباب في المدارس اليوم ، فمعذرةً .(1/101)
76 ـ وروى أبو داود (1) عن أبي هريرة أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يَزالُ النّاسُ يَتَساءَلونَ (2) ، حتى يُقال هذا : خَلقَ اللهُ الخلقَ ، فمن خلَقَ اللهَ؟ فمن وجَدَ من ذلك شيئاً فليَقُلْ : آمنْتُ بالله)) (3) . وفي رواية ثانية : ((فإذا قالوا ذلك ، فقولوا : (اللهُ أحَد (4) ، اللهُ الصَّمَد (5) ، لم يَلِدْ ، ولم يولَدْ ، ولم يكنْ له كُفُواً أحد) (6) ، ثم ليَتْفُلْ عن يساره ثلاثاً (7) ، ولْيَسْتَعِذْ من الشيطان)) (8) .
__________
(1) 1 ـ 4 :231 في كتاب السنة (باب في الجهمية) . قال الحافظ المنذري في ((مختصر السنن)) 7 :91 : ((وأخرجه النسائي)) .
(2) 2 ـ أي يَسألُ بعضُهم بعضاً .
(3) 3 ـ أي فليُعرِض عن هذا الخاطِرِ الباطِلِ ، ليُؤيِّدَ ويُؤكِّدَ الإيمانَ المُستَقِرَّ في قلبِه بالقولِ بلسانِه : آمنتُ بالله . وفي ذلك رَدٌّ لوسوسةِ الشيطان ، ودَحْرٌ لكيدِه الخبيث .
(4) 4 ـ يعني قولوا في ردِّ هذه المقالةِ والوسوسةِ : الله أحد ، أي الله تعالى ليس مخلوقاً ، والأحَدُ هو الذي لا ثانيَ له في الذاتِ ولا في الصفات .
(5) 5 ـ أي هو المرجعُ في الحوائج كلِّها ، وهو المُستَغني عن كلِّ أحد .
(6) 6 ـ أي لم يكن له مُكافياً أو مُماثِلاً أحد .
(7) 7 ـ أي لِيَبصُق ثلاث مرّاتٍ من جهة يَسارِه . والتَّفْلُ والبَصْقُ في هذا عبارةٌ عن كراهةِ الشيءِ والنفورِ عنه ، كمن يَجدُ جيفةً! وتكرارُ ذلك ثلاث مرّاتٍ : مُراغَمةٌ للشيطانِ وتَبعيدٌ له ، ليَنفِرَ من المؤمِن ، ويعلمَ أنه لا يُطيعه ، وأنه يَكرَهُ الكلامَ المذكور .
(8) 8 ـ والاستعاذةُ هي طَلَبُ المُعوَنةِ من الله على دفعِ الشيطان ..قال العلاّمة الطيبي : وإنما أمرَهُ بالاستعاذة والاشتغال بأمرٍ آخر ، ولم يأمُرُهُ بالتأمُّلِ والاحتجاج ، لأن العلمَ باستغناء الله جلَّ وعلا عن الموجِد أمرٌ ضروري لا يَقبَلُ المُناظَرة ، ولأن الاسترسالَ في الفكر في ذلك لا يزيد المرءَ إلاّ حَيْرةً ، ومَنْ هذا حالُه فلا علاجَ له إلاّ الملجأُ إلى الله تعالى والاعتصامُ به .(1/102)
77 ـ وقال ابن حبان في ((صحيحه)) بترتيب الأمير علاء الدين الفارسي (1) : ((ذكرُ الخبر الدال على إباحة إلقاء العالم على تلاميذه المسائل التي يريد أن يعلمهم إياها ابتداءً ، وحَثُّه إياهم على مثلها .
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى لهم صلاة الظهر ، فلما سلَّم قام على المنبر ، فذكَرَ الساعة ، وذكر أنَّ قبلها أموراً عِظاماً ، ثم قال :
من أحبَّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه ، فواللهِ لا تسألوني عن شيء إلاّ حدثتكم به ما دُمتُ في مقامي .
قال أنس بن مالك : فأكثَرَ الناسُ البكاءَ حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكثَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : سَلوني سَلوني .
فقام عبد الله بن حُذافة ، فقال : من أبي يا رسول الله؟ قال : أبوك حُذافة)) (2) .
__________
(1) 9 ـ 1 :286 ، وفي طبعة ثانية 1 :306 .
(2) 10 ـ سيأتي تعليقاً في الرواية الثانية لهذا الحديث هنا بيانُ سببِ سؤالِهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم : (من أبوه؟) .
وكان عبدُ الله بن حُذافة رضي الله عنه أحَدَ العقلاء النبلاء والمجاهدين الصناديد الشجعان من الصحابة الكرام ، وهو أبو حُذافة أو أبو حُذَيفة عبدُ الله بن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السَّهْمي . وأمُّهُ بنت حَرثان من بني الحارث بن عبد مَناة من السابقين الأولين .
أسلم عبد الله قديماً ، وكان من المهاجرين الأولين ، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة ، ويقال : إنه شَهِدَ بدراً ، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على بعض البعوث ، وكان فيه فطانة وحَصافة ودُعابة ، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه رسولاً وسفيراً إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ، فمزَّق كسرى الكتابَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مزِّق مُلكه ، وقال : إذا مات كسرى فلا كسرى بعده ، فسلَّط الله على كسرى ابنه شِيْرَوَيْهِ ، فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع .
ووجَّهَ عمر جيشاً إلى الروم سنة 19 ، وفيهم عبد الله بن حذافة ، فأسرَتْهُ الروم في بعض المعارك ، فأرادوه على الكفر فأبي ، فقال له مَلِكُ الروم : تنصَّر أُشرِكْك في مُلكي ، فأبى ، فأمَرَ به فصُلِبَ وأَمر بِرَمْيِهِ بالسِّهام فلم يجزَعْ ، فأُنزِل وأَمر بِقِدْر فصُبَّ فيها الماء وأُغليَ عليه ، وأَمر بإلقاء أسيرٍ فيها ، فإذا عِظامُه تلوحُ ، فأمَرَ بإلقائه إن لم يتنصَّر ، فلما ذهبوا به بكى .
قال الملك : رُدّوه ، فقال : لِمَ بكيتَ؟ قال : تمنَّيتُ أن لي مِئةَ نفسٍ تُلقى هكذا في الله ، فعَجِبَ فقال : قبِّلْ رأسي وأُطلِقُك ، قال : لا، قال : قبِّل رأسي وأُطلِقُك ومَنْ معك من المسلمين ، فقبَّلَ رأسَه ، ففَعَل وأطلَق معه ثمانين أسيراً ، فقَدِمَ بهم على عمر ، فقال عمر : حَقّ على كل مسلم أن يُقبِّل رأسَ عبدِ الله ، وانا أبدأ ففعلوا . وشهد عبد الله بن حذافة فتحَ مصر ، ودفن في مقبرتها في خلافة عثمان رضي الله عنهما .
ومن دُعابته ما حكاه عبدُ الله بنُ وهب ، عن الليث بن سعد ، قال : بلغني أن عبد الله بن حذافة حَلَّ حِزامَ راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع ، قال ابنُ وهب فقلتُ للَّيثِ : ليُضحكَهُ؟ قال :نعم ، كانت فيه دُعابة.(1/103)
78 ـ وروى هذا الحديثَ أيضاً البخاري ومسلم واللفظُ لمسلم (1) : عن أنس رضي الله عنه ((أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس ، فصلّى صلاةَ الظهر ، فلمّا سلَّم قام على المنبر ، فذكَر الساعة ، وذكر انَّ قبلها أموراً عِظاماً (2) ، ثم قال : من أحبَّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه ، فواللهِ لا تسألوني عن شيء إلاّ حدثتكم به ما دُمتُ في مقامي هذا (3) .
قال أنس : فأكثَرَ الناسُ البكاءَ حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) ، وأكثَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : سَلوني ، فقام عبد الله بن حُذافة ، فقال : من أبي يا رسول الله؟ قال : أبوك حُذافة (5) .
__________
(1) 1 ـ البخاري 1 :187 ، في كتاب العلم (باب من بَرك على ركبتيه عند الإمام أو المحدَّث) ، ثم رواه في أحد عشر موضعاً ، ومسلم 15 :112 في كتاب الفضائل (باب توقيره صلى الله عليه وسلم وتركِ إكثار سؤاله) .
(2) 2 ـ قوله : (فذكر أموراً عظاماً) ، الظاهر أنها من أمور الساعة وما يتقدمها أو يصحبها من أهوال عظام .
(3) 3 ـ فسألوه وأكثروا عليه الأسئلة ، وفيها ما يُشبهُ التعنُّتَ او الشك ، كسؤال أحدهم : أين ناقتي؟! وسؤال بعضهم عن الحج : أفي كل عام؟! وسؤال بعضهم : أين أنا؟ قال : في النار . ونحو هذه الأسئلة ، فغَضِبَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وغَضَبُ النبي صلى الله عليه وسلم لا يَخرُج فيه ـ فداه أبي وأمي ـ عن الحق ، فإنه لا يقول إلاّ الحقَّ في الرضا والغضب .
(4) 4 ـ لخشيتهم أن تَنزل بهم العقوبةُ بسبب ذلك فبكَوْا بكاءً شديداً .
(5) 5 ـ وسبَبُ سؤالِهِ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (من أبي يا رسول الله) : أنَّه كان إذا لاحى الرجالَ ـ أي خاصَمَ ـ يُدعى لغير أبيه ويُطعَنُ في نسبه على عادة أهل الجاهلية من الطعن في الانساب . كما بيَّن هذا أنسٌ في الحديث نفسِه في رواية أخرى عند البخاري .(1/104)
فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ان يقول : سلوني ، بَرَك عمر فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ رسولاً (1) .
فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوْلى (2) ، والذي نَفْسُ محمد بيده ، لقد عُرِضَتْ عليَّ الجنةُ والنارُ آنفاً في عُرْضِ هذا الحائط (3) ، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر)) (4) .
__________
(1) 6 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :270 ((وفي مُرْسَلِ السُّدّي عند الطبري في نحو هذه القصة : فقام إليه عمر يقبِّلُ رِجْلَهُ ، وقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن إماماً ، فاعفُ عَفا الله عنك ، فلم يَزل به حتى رضي)) .
(2) 7 ـ قولُه : (أولى) ، قال المُبَرِّد : يقال للرجل إذا أُفلِتَ من معضلة : أولى لك ، أي كدتَ تَهْلِكُ . وقال غيره : هي بمعنى التهديد والوعيد . من ((فتح الباري)) .
(3) 8 ـ أي جانِبِهِ أو وسطِه .
(4) 9 ـ جاء في رواية من روايات هذا الحديث عن أنس عند البخاري 2 :232 ، في كتاب الأذان (باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة) : ((صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رقأ المنبر ، فأشار بيده قِبَلَ قِبلةِ المسجد ثم قال : لقد رأيتُ الآن منذ صليتُ لكم الصلاة : الجنة والنار ممثَّلتينِ في قبلة هذا الجدار ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، لم أر كاليوم في الخير والشر ، لم أر كاليوم في الخير والشر)) . وفي رواية كتاب الفتن 13 :43 ((صُوِّرتْ لي الجنة والنار حتى رأيتُهما دون الحائط)) .(1/105)
ثم روى مسلم عن عُبَيد الله بن عُتبة قال : ((قالت أم عبد الله بن حُذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعتُ بابنٍ قَطُّ أعَقَّ منك! أأمِنتَ أن تكون أُمُّك قد قارفَتْ بعضَ ما تُقارفُ نساءُ أهل الجاهلية؟! فتفضَحَها على أعينِ الناس؟ قال عبد الله بن حذافة : واللهِ لو ألحقني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعبدٍ أسْوَدَ للحقتُه (1) .
فلما أكثر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ان يقول : سلوني ، بَرَك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، قال : يا رسول الله رَضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً .
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، لقد عُرِضَ عليَّ الجنةُ والنارُ آنفاً (2) في عُرْض هذا الحائط ، فلم أر كاليوم في الخير والشر)) .
14 ـ إجابتُه صلى الله عليه وسلم السائلَ عما سأل عنه
وكان صلى الله عليه وسلم يجيب السائلَ عن سؤالِهِ ، وقد علَّم كثيراً من الشرائع والأحكام ومَعالِمِ الدين بالإجابة على أسئلة أصحابه ، وقد حَضَّ أصحابَه على السؤال عما يَهمُّهم من الحوادثِ والنوائب أو مما يحتاجون إلى معرفته من الفرائض والشرائع ، فقد روى أبو داود (3) :
__________
(1) 10 ـ أي لانتسبتُ إليه بالبنوّة . وفهمتُ من قوله : (لو ألحقني بعبدٍ أسوَدَ للحِقتُه) أنه كان أبيض اللون ، لأن الذي يقابل الأسودَ : الأبيضُ ،والمرادُ من كلمته هذه أنه لو نسبني إلى نقيض ما أنا عليه وما لا أُنسَبُ إليه لانتسبتُ . فالكلمة على طريق المجاز والمبالغة في التزام قوله صلى الله عليه وسلم وشديدِ صحته عنده .
(2) 11 ـ معنى (آنفاً) الآن .
(3) 12 ـ 1 :142 في كتاب الطهارة (باب في المجروح يَتيمَّم) ، ولهذا الحديث شاهد من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود أيضاً 1 :142 ، وابن ماجه 1 :189 في كتاب الطهارة (باب في المجروح تصيبُه الجنابة ...) .
والحديثُ قد صحَّحَه ابنُ السَّكَن كما في ((التلخيص الحبير)) 1 :147 ، وسَكَتَ عنه أبو داود ثم المنذري في ((مختصر السنن)) 1 :208 .(1/106)
79 ـ عن جابرٍ رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ)) (1) .
__________
(1) 13 ـ العِيِّ بكسر العين ، وهو هنا : الجَهلُ . يعني لا شفاءَ لداء الجَهْلِ إلاّ السؤالُ والتعلُّم ، قال تعالى : (فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إن كنتم لا تعلمون) . وأما ما ورد في الكتاب والسنة من ذمِّ السؤال فإنما هو محمول على السؤالِ عما لا حاجة إليه ، وعلى السؤالِ عن أمورٍ =
= مُغيَّبةٍ ورَدَ الشرعُ بالإيمانِ بها مع تركِ كيفيتِها ، وعلى الإكثار من الأسئلة غيرِ المُهمّةِ مع الإعراض عن تعلُّم ما يُحتاج إليه من الشرائع والعمل بمقتضاه ، وعلى السؤال للمراءِ والجدالِ والعِناد دون التعلُّم والتفقُّه ، وقد بيَّنتُ هذه المسألة بإسهاب في رسالتي ((منهَجُ السلف في السؤال عن العلم وفي تعلُّم ما يَقَع وما لم يَقَع)) ، وفي الوقوف عليها فوائدُ ومُتعةٌ ، وهي مطبوعة ببيروت عام 1412 .
هذا ، وقد استحسنتُ هنا أن أوردَ كلامَ الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في ذكرِ أنواعِ السؤالِ وأحكامِه ، فإنه قد أجاد البحثَ فيه كعادته .
قال رحمه الله تعالى في ((كتاب المُوافَقات)) 4 :311 ـ 313 ما نصُّه : إن السؤالَ إما أن يَقَع من عالمٍ أو غير عالم . وأعني بالعالم المجتهدَ ، وغير العالم المقلِّد ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المَسؤول عالماً أو غير عالمٍ ، فهذه أربعةُ أقسام :
الأول : سؤالُ العالمِ ، وذلك في المشروع ، يَقَع على وجوه ـ سنة ـ ؛ كتحقيقِ ما حَصَل ، أو رفع إشكال عَنَّ له ، وتذكُّرِ ما خشِي عليه النسيانَ ، أو تنبيهِ المسؤولِ على خطأ يورِدُه مورد الاستفادة ، أو نيابةً منه عن الحاضرين من المُتعلّمين ، أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم .
الثاني : سؤالُ المتعلِّم لمثلِه ، وذلك أيضاً يكون على وجوه ـ أربعة ـ ؛ كَمُذاكَرَتِهِ له بما سَمِع ، أو طلبِهِ منه ما لم يَسمع مما سَمِعه المسؤولُ ، أو تمرُّنِهِ معه في المسائل قبلَ لقاءِ العالم ، أو التهدّي بعقلِه إلى فهم ما ألقاه العالمُ .
الثالث : سؤالُ العالِم للمتعلِّم ، وهو على وجوه ـ أربعة ـ كذلك ، كتنبيهِهِ على موضِعِ إشكالٍ يُطلَبُ رفعُه ، أو اختبارِ عقلِه أين بلغ؟ والاستعانةِ بفهمه إن كان لفهمه فضلٌ ، أو تنبيهِهِ على ما عَلِم ليستدل به على ما لم يعلم .
ـ وهذه الكلمةُ القصيرةُ ـ وهي قوله : أو تنبيهه ... ـ تَضَمَّنَت أهمَّ أركانِ فنِّ التربية العملية المسمى بالبيداجوجيا . وهو بناءُ المعلم تعليمَ تلميذِهِ شيئاً جديداً على ما تعلَّمه قبلُ ، فقد كان نتيجةً لمقدِّمات ، ثم يصير بعدَ علمِهِ به مقدمةً لمسألةٍ جديدة ، وهكذا ـ .
الرابع : وهو الأصلُ الأولُ ، سؤالُ المتعلِّم للعالم . وهو يَرجِعُ إلى طلب علمِ ما لم يعلم .
فأما الأول والثاني والثالث فالجوابُ عنه مُستَحَقُّ إن عَلِم ، ما لم يَمْنَعْ من ذلك عارضٌ مُعتَبَرٌ شرعاً ، وإلاّ فالاعترافُ بالعجز .
وأما الرابعُ فليس الجوابُ بمُسْتَحَقٍّ بإطلاقٍ ، بل فيه تفضيل ، فيلزم الجوابُ إذا كان عالماً بما سُئِل عنه مُتعيِّناً عليه في نازلةٍ واقعةٍ ، أو في أمرٍ فيه نصٌّ شرعي بالنسبةِ إلى المتعلِّم ، لا مطلقاً ، ويكون السائلُ ممن يَحتمِلُ عَقلُه الجوابَ ، ولا يؤدي السؤالُ إلى تعمُّق ولا تكلُّفٍ ، وهو مما يُبنى عليه عملٌ شرعي ، وأشباهُ ذلك .
وقد لا يلزم الجوابُ في مواضع ، كما إذا لم يَتَعيَّن عليه .
وقد لا يجوز ، كما إذا لم يَحتَمِلْ عقلُه الجوابَ ، أو كان فيه تَعمُّقٌ ، أو أكثَرَ من السؤالاتِ التي هي من جنس الأغاليط ...)) انتهى كلامُ الشاطبي رحمه الله تعالى بزيادة ما بين العارضتين .(1/107)
وكان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يوردون عليه ما يُشكِلُ عليهم من الأسئلة والشُّبهات للفهم والبيان وزيادة الإيمان ، فكان يُجيبُ كُلاًّ عن سؤالِهِ بما يُثْلِجُ صُدورَهم .
وكُتُبُ الحديث مَشْحونةٌ بأجوبة النبي صلى الله عليه وسلم على أسئلة أصحابه في أمور الدين ، وتَجِدُ طائفةً منها في هذا الكتاب من مواضع مُتفرِّقةً ، وإليك أحاديث أخر في هذا الباب :
80 ـ روى مسلم (1) عن النَّوّاس بن سِمْعان الكِلابي رضي الله عنه قال : ((أقمتُ مع رسول الله صلى الله عليه بالمدينة سنةً ، ما يَمنَعُني من الهجرةِ إلاّ المسألةُ ، كان أحدُنا إذا هاجَر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء (2) ،
__________
(1) 1 ـ 16 :111 في كتاب البر والصلة (باب تفسير البر والإثم) .
(2) 2 ـ معناه ـ كما قال النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 165 :11 ـ : ((أنه أقامَ بالمدينةِ كالزائر من غير نُقْلةٍ إليها من وطنِه ، لاستيطانها ، وما منعه من الهجرة ـ وهي الانتقال من الوطن واستيطانِ المدينة ـ إلاّ الرغبةُ في سؤالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين ، فإنه كان سُمِحَ بذلك للطّارئين دون المهاجرين ، وكان المهاجرون يَفرحون بسؤال الغُرَباء الطارئين من الأعراب وغيرِهم ، لأنهم يُحتَملون في السؤال ويُعذَرون ، ويَستفيدُ المهاجرون الجوابَ ، كما قال أنس في الحديث الذي رواه مسلم أيضاً ـ وسَبَق ذكرُه تعليقاً في ص 30 ـ : ((وكان يُعجِبُنا أن يجيء الرجلُ العاقِلُ من أهل الباديةِ فيَسألُه)) . انتهى .
والمُهاجرون لم يُمنَعوا من السؤال عما يُحتاج إليه من أمور الدين ، وإنما كانوا يَهابون ان يَسألوا النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ إذا اشتدَّت الحاجةُ ، وفي حديث جبريل من طريق أبي هريرة رضي الله عنه : ((قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : سلوني ، فهابوه أن يسألوه ، فجاء رجلٌ فجلس عند رُكبتيه فقال : يا رسول الله ، ما الإسلام ...)) الحديث ، رواه مسلم في ((صحيحه)) 1 :165 .
وفي كُتُب الحديث من أسئلة المُهاجرين والأنصار المُستَوطنين بالمدينة ، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم عنها : نظائرُ كثيرةٌ ، وقد سَبَق بعضُها .
وسيأتي في الأسلوب 24 في ص 168 تعليقاً حديث ابن أبي مُلَيْكَةَ أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت لا تسمع شيئاً لا تَعرِفُه إلاّ راجَعَت فيه حتى تعرِفَه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من حوسِبَ عُذِّب)) ، قالت عائشة فقلتُ : أوَليس يقولُ الله تعالى : (فسوف يُحاسَبُ حساباً يسيراً) ، قالت : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما ذلكِ العَرْضُ ، ولكن مَنْ نوقِشَ الحسابَ يَهْلِكْ)) .
وقال الحافظُ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :197 في شرح هذا الحديث : ((في هذا الحديث بيانُ أن السُّؤالَ عن مثل هذا لم يَدخُل فيما نُهي الصحابةُ عنه ، في قوله تعالى : (لا تَسألوا عن أشياء) ، وفي حديث أنس : ((كنا نُهينا أن نَسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شيء)) . وقد وقع نحوُ ذلك لغير عائشة ، ففي حديث حفصة أنها لما سَمِعَتْ : ((لا يَدخُل النارَ أحدٌ ممن شَهِدَ بدراً والحُديبية)) قالتْ : أليس الله يقول : (وإن منكم إلاّ وارِدُها) فأُجيبت بقوله (ثم نُنجّي الذين اتقوا) الآية .
وسأَل الصحابة لما نَزَلَتْ (الذين آمنوا ولم يَلْبِسوا إيمانهم بظلمٍ) : أيُّنا لم يَظلِمْ نفسه؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشِّركُ ...
فيُحمَلُ ما وَرَدَ من ذمِّ من سأل عن المُشكلات على من سأل تعنُّتاً ، كما قال تعالى (فأما الذين في قُلوبِهم زَيغٌ فيتَّبعون ما تَشابَهَ منه ابتغاءَ الفِتنةِ) ، وفي حديث عائشة : ((فإذا رأيتم الذين يَسألون عن ذلك فهم الذين سَمّى الله فاحذروهم)) ، ومِن ثَمَّ أنكَرَ عمر رضي الله تعالى عنه على صَبيغٍ بن عِسْل التميمي لمّا رآه أكثَرَ من السؤال عن مثل ذلك ، وعاقَبَه)) . انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى .(1/108)
فسألُه عن البِرِّ والإثمِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : البِرُّ حُسنُ الخُلُق ، والإثمُ ما حاكَ في نفسِك وكَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه الناسُ)) (1) .
81 ـ وروى مسلم وأبو داود (2) ، واللفظُ له ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ((بَعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلاناً الأَسْلَمي ، وبعثَ معه بثمانَ عَشْرة بَدَنَةً ، فقال ـ الأسلميُّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ـ : أرأيتَ إن أُزْحِفَ عليَّ منها شيء (3) ؟ ، قال تَنْحَرُها ثم تَصْبُغُ نَعلَها في دمِها ، ثم اضربها على صَفْحَتِها ولا تأكُلْ منها أنتَ ولا أحد من أهلِ رُفْقَتِك)) .
__________
(1) 3 ـ قوله : (البِرُّ حسنُ الخُلُق) قال العلماء : البر يكون بمعنى الصِّلة وبمعنى اللُّطفِ والمَبَرَّةِ وحُسنِ الصحبةِ والعِشْرةِ ، وبمعنى الطاعة ، وهذه الأمورُ هي مَجامِعُ حُسنِ الخلق .
وقولُه : (حاك في صدرِك) أي تحرَّك فيه وتردَّدَ ، ولم يَنشَرِح له الصدرُ ، وحَصَل في القلب منه الشكُّ وخوفُ كونِه ذنباً ، كما في =
= ((شرح صحيح مسلم)) للنووي 16 : 111 .
قوله : (كَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه الناسُ) أي وُجوهُ الناس وأماثِلُهم الذين يُستَحْيا منهم ، والمرادُ بالكَراهةِ هنا الكراهةُ الدينيةُ الخارِمةُ للمُروءةِ والدّين ، فخرج العاديةُ ، كمن يَكرَهُ أن يُرى آكلاً لنحو حياءٍ ، وخرج أيضاً غيرُ الخارِمةِ كمن يَكرَهُ أن يَركب بين مُشاةٍ لنحوِ تواضُعٍ .
وإنما كان التأثيرُ في النفس علامةً للإثم لأنه لا يَصدُر إلاّ لشعورِها بسوءِ عاقبتِه ، والحديثُ من جوامع الكَلِم ، لأن البِرَّ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ ، والإثمُ جامعٌ للشرِّ . أفاد كلَّ ذلك المناويُّ في ((فيض القدير)) 3 :218 .
(2) 1 ـ مسلم 9 :77 في كتاب الحج (باب ما يفعل بالهدي إذا عَطِب في الطريق) ، أبو داود 2 :202 في كتاب المناسِك (باب في الهدي إذا عَطِبَ قبل أن يَبلُغ) .
(3) 2 ـ أي أعيا وعَجَزَ عن المشي .(1/109)
82 ـ وروى البخاري ومسلم (1) عن رافعِ بنِ خَديج قال : ((قلتُ : يا رسول الله ، إنا نخافُ أن نَلقى العَدوَّ غداً ، وليسَتْ معنا مُدَىً (2) ، قال : ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله فكُلْ ، ليس السِّنَّ والظُّفُرَ (3) ، وسأحدِّثُك (4) ، أما السِّنُّ فعَظْمٌ ، وأما الظُّفُر فمُدى الحَبَشَةِ)) (5) .
83 ـ وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ، واللفظ للبخاري ، عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه ، قال : ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، إنّا بأرضِ قومٍ أهلِ كتاب (6) ، أفنأكل في آنيتِهم (7) ؟ وبأرضِ صَيْد ، أصيدُ بقوسي ، وبكلبي الذي ليس بمعلَّم ، وبكلبي المعلَّم فما يَصلُحُ لي؟
__________
(1) 3 ـ البخاري 9 :633 و638 في كتاب الذبائح والصيد (باب : لا يذكى بالسِّنِّ والعظم والظفر) و(باب ما نَدَّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش) ، ومسلم 13 :122 في كتاب الأضاحي (باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم) ، واللفظُ للبخاري مجموعاً من الموضعين .
(2) 4 ـ (مُدَىً) جمع مُدْية وهي السِّكّين .
(3) 5 ـ أي إلاّ السِّنَّ والظُفُرَ .
(4) 6 ـ أي عن سبب نهي الذبح بهما .
(5) 7 ـ هذا الذبحُ كان يفعله أهل الجاهلية ، فكانوا ـ أحياناً ـ يذبحون الطيورَ ، كالعصفور ، والحيوانات الصغيرة ، كالأرنب ونحوه ، بالسِّنِّ والظُّفُر ، فلما جاء الإسلامُ حَظَر هذا الذبحَ وحَرَّمه ، كما تراه في هذا الحديث .
(6) 8 ـ كان أبو ثعلبة هو وقومُه بنو خُشَين من العرب الذين يسكنون الشام .
(7) 9 ـ سبب سؤاله عن الأكل في آنية أهل الكتاب : أنهم يطبخون فيها الخنزير ، ويشربون فيها الخمر ، كما سيأتي ذكره صريحاً في رواية أبي داود .(1/110)
قال: أمّا ما ذكرتَ من أنك بأرضِ أهلِ الكتاب ، فلا تأكلوا في آنيتهم (1) ، إلاّ أن لا تجدوا بُدّاً (2) ، فاغسلوها وكلوا فيها.
وأما ما ذكرتَ من أنك بأرضِ صَيْد ، فما صِدتَ بقوسك فذكرتَ الله فكُل (3) .
وما صِدتَ بكلبك المعلَّم فذكرتَ الله فكُلْ (4) ، وما صِدتَ بكلبك الذي ليس بمعلَّم ، فأدركت ذكاته فكُل)) (5) .
وروايةُ أبي داود هذا لفظها : ((يا رسول الله ، إنا نجاوزُ أهل الكتاب ، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ، ويشربون في آنيتهم الخمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنْ وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا ، وإن لم تجدوا غيرَها ، فارْحَضوها بالماء (6) ، وكلوا واشربوا)) (7) .
15 ـ جوابُه صلى الله عليه وسلم السائلَ بأكثرَ مما سأل عنه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُجيب السائلَ بأكثرَ مما سأل ، إذا رأى أنَّ به حاجةً إلى معرفةِ الزائدِ عن سُؤاله ، وهذا من كمالِ رأفتِه صلى الله عليه وسلم ، ومن عظيم رعايتِه بالمتعلِّمين والمتفقِّهين :
__________
(1) 10 ـ لنجاستها بطبخهم فيها الخنزير ، وشربهم فيها الخمر . وكلٌّ من الخنزير والخمر نَجِس ، فتنجس الأواني بحلوله فيها .
(2) 11 ـ أي لا تجدوا سِواها ، فاغسلوها ثم كلوا أو اشربوا فيها .
(3) 12 ـ أي إذا ذكرتَ اسم الله عند رميك القوس ، فكُل الصيدَ لحِلِّهِ بالتسمية عند رميك له .
(4) 13 ـ أي إذا سمَّيت الله على الصيد عند إشلائك الكلب المعلَّم وإرسالك إياه على الصيد ، فكُلْه ، لحِلِّه بالتسمية عليه عند إرسال الكلب المعلَّم .
(5) 14 ـ أي صيدُ الكلب الذي ليس بمعلَّم ، لا يحل أكلُه إلاّ إذا أدركته قبل أن يموت ، فذكَّيتَه أي ذَبحتَه ، فحينئذٍ يحل لك أكلُه .
(6) 15 ـ أي اغسِلوها غسلاً جيداً .
(7) 16 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 9 :523 ((وفي هذا الحديث من الفوائد : جَمْعُ المسائل وإيرادُها دفعةً واحدة ، وتفصيلُ الجواب عنها واحدةً واحدةً بلفظ إمّا وإمّا)) . انتهى .(1/111)
84 ـ روى الإمام مالك في ((الموطَّأ)) ، وأبو داود (1) ، واللفظُ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((سألَ
رجلٌ ـ من بني مُدْلِجٍ ـ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نَركبُ البحرَ ، ونحمِلُ معنا القليلَ من الماء (2) ، فإن توضَّأنا به عَطِشْنا ، أفنتوضَّأُ بماءِ البحر؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : هو الطَّهورُ ماؤُه (3) ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ (4) ) .
فأجاب صلى الله عليه وسلم ذلك المُدْلِجيَّ البَحّار ، عن حكم التوضُّؤ بماء البحر ، بأنَّ ماءَه طَهور يَصِحُّ التوضُّؤُ به ، ثم أشفَقَ صلى الله عليه وسلم على ذلك البحّار أن يَشتَبِهَ عليه حُكمُ مَيْتَةِ البحر ، وهي شيء يقَعُ له أثناءَ إبحاره ، فبيَّن له انَّ ميتة البحر حلالٌ أكلُها والانتفاعُ بها ، فقال له زيادةً على سؤالِه : ((الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) .
فهذه الزيادة في الجواب مهمة لأنها بيَّنت طهارةَ ماءِ البحر وإن مات فيه ما مات ، وبيَّنَتْ حِلَّ تلك المَيتةِ أيضاً ، ومعرفةُ ذلك ضروريةٌ للبحار ، لأنه قد يحتاج إلى أكلِ تلك المَيتة في بعض الأحيان اختياراً أو اضطراراً ، فيأكُلُ منها ويَدَّخر ولا حرج عليه .
وهذا الصنيعُ منه صلى الله عليه وسلم من لُبابِ الخير في أُسلوب التعليم واستيفاءِ ما يَحتاجُ إليه المتعلِّم .
__________
(1) 17 ـ في ((الموطأ)) 1 :22 في كتاب الطهارة (باب الطهور للوضوء) ، وأبو داود1 :21 في كتاب الطهارة (باب الوضوء بماء البحر).
(2) 1 ـ أي الماء العذب ليَشربوه .
(3) 2 ـ أي ماؤه بالغ في الطهارة أتَمَّها .
(4) 3 ـ أي الحلال .(1/112)
85 ـ وروى مسلم في كتاب الحج في (باب صحة حَجِّ الصبيّ وأجرِ من حَجَّ به) وأبو داود والنسائي (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ((رَفَعتْ امرأةٌ صبيّاً لها ـ وهي حاجّة ـ فقالت : يا رسولَ الله ألهذا حجٌّ؟ قال : نعم ، ولكِ أجرٌ)) (2) .
فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأكثَرَ مما سألتْ عنه ، فقد سألت عن حَجّ الصبي ، فقال : له حَجٌّ ، وزادها : ولكِ أجر . إذْ هي المتوليةُ لأمرِه ، فأفادها بثبوتِ الأجر لها ، وذلك باعِثٌ قويٌّ على حُسنِ فعلِها والاقتداءِ بها ممن يأتي بعدها من الأمهات والآباء ، في تحمُّلِ المشقّات الشديدةِ باصحاب الاولاد الصغار للحج إلى بيت الله المعظم ، ليُغرَس في قلوبهم ومَشاهد أنظارهم هذا المشهدُ العظيم ، وينطبعَ في نفوسهم هذا الركنُ الخامسُ الجسيم ، ولِما في مَشهَد الصغار حول البيت من تحريكٍ للقُلوب والأرواحِ والدُّموع .
16 ـ لَفْتُه صلى الله عليه وسلم السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَلفِتُ السائلَ عن سؤالِه لحكمةٍ بالغةٍ ومن ذلك :
__________
(1) 4 ـ مسلم 9 :99 ، وأبو داود 2 :194 في كتاب المناسك (باب في الصبي يحج) ، والنسائي 5 :120 في كتاب مناسك الحج (الحج بالصغير) .
(2) 5 ـ قال العلماء : هذا الحديث دليل على أن حَجَّ الصبي ـ أي الصغير ، ومثله البنت ـ منعقدٌ يثاب عليه وإن كان لا يُجزيه عن حجّة الإسلام ، ويقع تطوعاً .(1/113)
86 ـ ما رواه البخاري ومسلم (1) ، واللفظُ للبخاري ، عن انسٍ رضي الله عنه ((أنَّ رجلاً قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم : متى الساعةُ يا رسولَ الله؟ قال : ما أعددتَّ لها؟ قال : ما أعددتَّ لها من كثيرِ صلاةٍ ولا صومٍ ولا صَدَقةٍ ، ولكني أحبُّ الله ورسولَه ، قال : أنت مع من أحببتَ)) .
فلَفَتَه صلى الله عليه وسلم عن سؤالِه عن وَقْتِ قيام الساعة ، الذي اختَصَّ الله تعالى بعلمِه ، إلى شيءٍ آخَرَ هو أحوجُ إليه ، وأفضَلُ نفعاً عليه ، وهو إعدادُ العملِ الصالح للسّاعةِ ، فقال : ما أعددتَّ لها؟ فقال : حُبَّ اللهِ ورسولِه ، فقال : أنت مع من أحببتَ .
فزاده صلى الله عليه وسلم أياً أن الإنسان يُحشَرُ مع من يُصاحِبُ ويُحبُّ . وفي هذا تبصيرٌ للإنسان وتحذيرٌ من أن يتَّخذ في الدنيا قريناً له غيرَ صالحٍ ، فيكونَ معه في الآخرةِ حيث يكون!
وهذا الأسلوبُ في لَفْتِ السائل يُسمّى : أسلوبَ الحكيمِ ، وهو تَلَقّي السائلِ بغير ما يَطلُب ، مما يَهُمُّه أو مما هو أهمُّ مما سأَل عنه أو أنفَعُ له .
ومن هذا الباب أيضاً ما رواه البخاري ومسلم (2) :
__________
(1) 6 ـ البخاري 7 :40 في كتاب المناقب (باب مناقب عمر بن الخطاب) ، و10 :463 في كتاب الأدب (باب علامة الحب في الله) ، و13 :116 في كتاب الأحكام (باب القضاء والفتيا في الطريق) ، ومسلم 16 :185 في كتاب البر والصلة (باب المرء مع من أحب) .
(2) 7 ـ البخاري 1 :203 ـ 204 في كتاب العلم ، (باب من أجاب السائلَ بأكثر مما سأله) ومسلم 8 :73 في كتاب الحج .(1/114)
87 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما ((أنَّ رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يَلْبَسُ المُحْرِم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَلْبَسُ القَميصَ ، ولا العِمامةَ ، ولا السَّراويلَ ، ولا البُرْنُسَ ، ولا ثوباً مسَّهُ الوَرْسُ أو الزَّعْفرانُ ، فإنْ لم يَجِد النَّعلَيْنِ ، فلْيَلْبَسْ الخُفَّين ، ولْيَقْطَعْهُما حتى يكونا تحت الكعبينِ)) .
فأنت ترى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عما يَلْبَسُ المُحْرِم ، فأجاب ببيانِ ما لا يَلبَسه المُحرِم ، وتَضمَّن ذلك الجوابَ عما يَلْبَسُه ، فإنَّ ما لا يَلبَسُه المُحْرم محصور ، وما يَلبَسُه غير محصور ، فعدَل عما لا ينحصرُ تعدادُه إلى ما ينحصر ، طلباً للإيجاز ، ولو عدَّدَ له ما يلبَسُ لطال به البيان ، وربما يَصعُبُ على السائل ضبطُه واستيعابُه .
ثم بيَّن له صلى الله عليه وسلم زيادةً عما سأل : حُكمَ لُبسِ الخُفِّ عند عدَمِ وجودِ النَّعْل ، فزاده بيانَ حالةِ الاضطرار هذه ، وهي مما يتصل بالسؤال ، فقال : ((فإنْ لم يجد النَّعْلَين ، فلْيَلْبَسْ الخُفَّين ، ولْيَقْطَعْهُما حتى يكونا تحت الكعبين)) . ومن هذا القبيل أيضاً :(1/115)
88 ـ ما رواه البخاري ومسلم (1) ، واللفظُ له ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ((أنَّ رجلاً أعرابياً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : الرجلُ يُقاتِلُ للمَغْنَم ، والرجلُ يُقاتِلُ لِيُذكَر (2) ، والرجلُ يُقاتِلُ لِيُرى مَكانُه (3) ،
__________
(1) 1 ـ البخاري 1 :197 في كتاب العلم (باب من سأل ـ وهو قائم ـ عالماً جالساً) ، و6 :21 في كتاب الجهاد (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) ، و159 باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره . ومسلم 13 :49 في كتاب الإمارة (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) .
(2) 2 ـ أي ليُذكَر بين الناس بالشجاعة والبطولة .
(3) 3 ـ أي ليُريَ الناسَ أنه شجاع قوي . فمرجع هذا الفعل إلى الرياء ، ومرجع الفعل الذي قبله إلى السُّمْعة والشهرة ، وكلاهما مذموم . وفي رواية عند البخاري 1 :197 ((ويُقاتِلُ غَضَباً)) أي لأجل حظّ نفسِه . ((ويقاتل حَمِيّةً)) أي لمن يقاتل لأجله ، من أهلٍ أو عشيرة أو صاحبٍ أو جار .
ولما كان كل من هذه المقاصد في القتال تناوله المدح والذم بحسب الباعث الأول ، لم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنَعَمْ أو لا . قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :22 : ((فإذا كان أصلُ الباعثِ الصِّرْفِ على القتال هو إعلاءَ كلمة الله ، فلا يَضرُّه ما عرَضَ له بعد ذلك ، والمحذور أن يَقصِدَ غير الإعلاء ـ قصداً أولياً ـ .
ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً ، لا يَقدحُ في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعثَ الأصلي : ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حَوالة ، قال : بَعَثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم ، فرجعنا ولم نغنم شيئاً . فقال : اللهم لا تَكِلهم إليَّ فأضعُفَ عنهم ، ولا تَكِلهم إلى أنفسهم فيَعجِزوا عنها الحديث)) . انتهى .(1/116)
فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قاتل لتكونَ كلمةُ اللهِ أعلى (1) فهو في سبيل الله)) (2) .
ففي هذا الحديث عُدولُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن الجواب عن عينِ ما سألَ السائلُ عنه إلى غيره ، إذْ كان لا يصلح أن يُجاب عما سأل عنه بنعم أو : لا ، فقد عدَلَ عن جوابه عن ماهِيّةِ القتالِ التي يَسأل عنها ، إلى بيان حالِ المُقاتِل ، وأفاده أن العِبرةَ بخُلوص النية والقصد .
وفي إجابةِ الرسول صلى الله عليه وسلم بما ذَكَر ـ ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ـ غايةُ البلاغة والإيجاز .
وقد عُدَّ هذا الحديثُ من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم ، لأنه لو أجاب بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله ، احتَمَل أنَّ ما عدا ذلك كلُّه في سبيل الله ، وليس كذلك ، وقد يكون الغضبُ والحميةُ لله تعالى فيكون ذلك في سبيل الله ، فعَدَل صلى الله عليه وسلم إلى لفظ جامع لمعنى السؤال والزيادةِ عليه ، فأفاد دَفْعَ الالتباس وزيادةَ الإفهام .
17 ـ استِعادتُه صلى الله عليه وسلم السؤالَ من السائِل لإيفاء بيان الحكم
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَستعيدُ السائلَ سؤالَه ـ وقد أحاط بسؤالِهِ علماً ـ ليَزدَه علماً أو ليَستدرِك على ما أجابَه به ، أو ليوضحه له ، ومن ذلك :
__________
(1) 4 ـ هكذا رواية مسلم . ورواية البخاري : (لتكون كلمةُ الله هي العُلْيا) .
و(العُليا) تأنيث (أعلى) . و(كلمةُ الله) هي دعوةُ الله إلى الإسلام ، ودينُه وشريعتُه .
(2) 5 ـ وفي هذا الحديث من الامور التعليمية : جوازُ سؤال المتعلم عن علة الحكم ، لقوله : (فمن في سبيل الله؟) وتقديمُ تحصيل العلم على الدخول في العمل ، إذ المطلوب من المسلم أن يعلم ثم يعمل ، ليكون عمله على بصيرة وهدى من الشرع الحنيف .(1/117)
89 ـ ما رواه مسلمٌ والنسائي (1) ، واللفظُ لمسلم ، عن أبي قتادة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم ، فذكرَ لهم أن الجهادَ في سبيل الله ، والإيمان بالله : أفضلُ الأعمال .
فقام رجل فقال : يا رسول الله ، أرأيتَ إن قُتِلتُ في سبيل الله تُكَفَّر عني خطاياي؟ فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : نعم إن قُتِلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ مُحتَسِبٌ مُقبِلٌ غيرُ مُدْبِر (2) .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف قلتَ؟ قال : أرأيتَ إن قُتِلتُ في سبيل الله أتُكَفَّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأنت صابرٌ مُحتَسِبٌ غيرُ مُدبِر إلاّ الدَّينَ (3) ، فإنَّ جبريلَ قال لي ذلك)) (4) .
18 ـ تفويضُه صلى الله عليه وسلم الصحابي بالجواب عما سُئل عنه ليُدرِّبه
__________
(1) 6 ـ مسلم 13 :28 في كتاب الإمارة (باب من قُتِل في سبيل الله كفرت خطاياه إلاّ الدين) ، والنسائي 6 :34 في كتاب الجهاد (من قاتل في سبيل الله تعالى وعليه دين) .
(2) 7 ـ المُحتَسِب : هو المخلِصُ لله تعالى الذي يُقاتِل ابتِغاءَ وجهِه ، لا لعصبيةٍ ، ولا لغنيمةٍ ، ولا لصيتٍ أو سُمْعةٍ .
(3) 8 ـ أي الدَّينُ الذي لا يَنوي أداءَهُ ووَفاءَهُ . وذكرُ الدَّين هنا نموذجٌ لباقي حقوقِ الآدميين ، إذ ليس المَدينُ أحقَّ بالوعيدِ والمطالبةِ من الجاني ، أو الغاصب ، أو الخائن ، أو السارِق ...، فنبَّه صلى الله عليه وسلم بذكر الدَّينِ على جميع حُقوقِ العِباد ، وأنها لا يُكَفِّرها الجهادُ والشهادةُ في سبيل الله وما دونهما من أعمالِ البِرِّ ، وإنما يُكفِّر الجهادُ والشهادةُ حقوقَ الله تعالى .
(4) 9 ـ وفي رواية النسائي 6 :33 ـ 34 من حديث أبي هريرة : ((نعم إلاّ الدين ، سارَّني به جبريلُ آنفاً)) . أي الآن ، يعني أن جبريل =
= أوصى له بذلك بعد إخباره السائل بجوابه الأول ، فلذا استعاد السائلَ وأخبرَه بالجواب ثانياً .(1/118)
وكان صلى الله عليه وسلم يُفوِّض أحَدِ أصحابِه الجوابَ عن السؤالِ الذي رُفع إليه ليُدرِّبه على الإجابة في أمور العلم ، ومن ذلك :
90 ـ ما رواه البخاري، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (1) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ((كان أبو هريرة يحدث أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفَهُ من أُحُد ، فقال :
إني رأيتُ الليلة في المنام ظُلّةً يَنطُفُ منها السَّمنُ والعَسَلُ (2) ، ورأيتُ الناس يتكفَّفون منها بأيديهم (3) ، فالمستكثِرُ والمستقِلُّ ، ورأيتُ سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض (4) ، رأيتُك يا رسول الله ، أخذتَ به فعلوتَ به ، ثم أخَذَ به رجل آخر من بعدك فعَلا به ، ثم أخَذَ به رجل آخر بعده فعَلا به ، ثم أخَذ به رجل آخر بعده فانقطع به ، ثم وُصِلَ له فعَلا به .
__________
(1) 1 ـ البخاري 12 :345 و 379 في كتاب التعبير (باب رؤيا الليل) و(باب من لم ير الرؤيا لأول عابرٍ إذا لم يصب) ، ومسلم 15 :28 في كتاب الرؤيا (باب في تأويل الرُّؤيا) ، وأبو داود 4 :288 في كتاب السنة (باب في الخلفاء) ، والترمذي 3 :252 في آخر كتاب الرؤيا ، وابن ماجه 2 :1289 في كتاب تعبير الرؤيا (باب تعبير الرؤيا) ، واللفظُ المذكور هنا مأخوذ من مجموع رواياتهم .
(2) 2 ـ الظُلة : السحابة التي لها ظِل ، وكلُّ ما أظَلَّ من سَقيفة ونحوها ، ويَنطِفُ بضم الطاء وكسرها أي يَقْطُرُ قليلاً قليلاً .
(3) 3 ـ أي يأخذون بأكفّهم .
(4) 4 ـ السَّبب : الحَبْل ، والواصل بمعنى الموصول .(1/119)
قال أبو بكر : يا رسول الله بأبي وأُمّي أنتَ ، واللهِ لَتَدَعَنّي فلأُعَبِّرَنَّها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعْبُرْها . قال أبو بكر : أما الظُّلّةُ فظُلَّةُ الإسلام ، وأما الذي يَنِطُفُ من السمن والعسل فهو القرآن حلاوتُه ولينُه . وأما ما يتكفف الناسُ من ذلك فالمستكثِرُ من القرآن والمستقِلُّ منه . وأما السببُ الواصلُ من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه ، تأخُذُ به فيُعليك الله ، ثم يأخُذُ به بعدك رجلٌ فيَعْلو به ، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخُذُ به رجل آخر فينقطع ، ثم يوصلَ له فيعلو به .
فأخبِرني يا رسول الله بأبي أنت ، أصبتُ أم أخطأتُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً (1) ،
__________
(1) 5 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 15 :19 عند هذا الحديث الشريف : ((اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً) ، فقال ابن قتيبة وآخرون : معناه أصبتَ في بيان تفسيرها ، وصادفتَ حقيقة تأويلها ، واخطأتَ في مبادرتك بتفسيرها من غير أن آمرك به .
وقال آخرون : هذا الذي قاله ابن قتيبة وموافقوه فاسد ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أذِنَ له في ذلك ، وقال : اعْبُرها ، وإنما أخطأ في تركه تفسير بعضها فإن الرائي قال : رأيتُ ظلة تنطف السمن والعسل ، ففسره الصديق رضي الله عنه بالقرآن حلاوته ولينه. وهذا إنما هو تفسيرُ العسل ، وتَرَك تفسير السمن وتفسيرُهُ السُّنّة ، فكان حقه أن يقول : القرىن والسنة . وإلى هذا أشار الطحاوي .
وقال آخرون : الخطأ وقع في ـ إغفال ـ خَلْع عثمان ، لأنه ذُكِرَ في المنام أنه أَخَذ بالسبب فانقطع به ، وذلك يدل على انخلاعه بنفسه ، وفسَّره الصديق بأنه يأخذ به رجل فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به ، وعثمان قد خُلع قهراً وقُتِل ، ووُلّي غيره ، فالصواب في تفسيره أن يحمل أنَّ وصْلَه على ولاية غيره من قومه .
وقال آخرون : ((الخطأ في سؤاله ليعبرها)) . وانظر ((فتح الباري)) 12 :381 ـ 383 للازدياد والتمحيص إذا شئت .
وقال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) أيضاً 12 :384 وهو يذكر ما في الحديث من أمور التعليم : ((وفيه جواز إظهار العالم ما يُحسِنُ من العلم إذا خَلَصَتْ نيتُه وأمِنَ العُجب ـ وبهذا المعنى تَرجَم ابن حِبّان لهذا الحديث في ((صحيحه)) 1 :272 ـ ، وفيه كلامُ العالم بالعلم بحضرة من هو أعلمُ منه إذا أذِن له في ذلك صريحاً أو ما قام مَقامه ، ويؤخذ منه جوازُ مثله في الإفتاء والحكم ، وأن للتلميذ أن يُقسِمَ على معلمه أن يفيده الحكم .(1/120)
فقال : فوالله يا رسول الله ، لَتُحدِّثني ما الذي أخطأتُ (1) ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تُقسِمْ يا أبا بكر)) .
ومن باب التدريب والتمرين أيضاً أمرُه صلى الله عليه وسلم لبعضِ أصحابِه بأن يَقضي بين يديه ، فيما رُفع إليه من الخصومات .
91 ـ فقد روى أحمد في ((مسنده)) ، والدارقطني في ((سننه)) (2) ، واللفظُ له ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال : ((جاء رجلان يَختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَمْرو بنِ العاص : اقضِ بينهما ، قال : وأنت ها هنا يا رسولَ الله؟
قال : نعم ، قال : على ما أقضي؟ قال : إن اجتهدتَ فأصبتَ فلك عشرةُ أُجورٍ ، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك أجر واحد)) .
__________
(1) 6 ـ هذا الحديث دليل لما قاله العلماء أن إبرار القسم المأمور به ، إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدةٌ ، ولا مشقةٌ ظاهرة ، فإن كان لم يؤمر بالإبرار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَبر قسمَ أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة .
(2) 7 ـ في ((مسند أحمد)) 2 :185 ، و((سنن الدارقطني)) 4 :203 ، وفي سند هذا الحديث ضعف . كما قاله الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :319 في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (باب أجرُ الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) .
وفي متن هذا الحديث غرابة في ذكر (عشرة أجور) ، فإن الحديث هو حديثُ عمرو بن العاص ، والحديثُ الصحيح عنه : (إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهذا هو المحفوظ .(1/121)
92 ـ وروى أحمد والدارقطني أيضاً (1) ، عن عُقبة بن عامر الجُهَني رضي الله عنه قال : ((جاء خَصْمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَختصمان ، فقال لي : قُمْ يا عُقبةُ اقضِ بينهما ، قلتُ : يا رسول الله ، أنت أولى بذلك مني ، قال : وإن كان ، اقْضِ بينهما ، فإن اجتهدتَ فأصبتَ فلك عشرةُ أُجورٍ ، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك أجر واحد)) .
93 ـ وروى ابن ماجه والدارقطني (2) ، واللفظُ له ، عن جارية بن ظَفَر الحَنَفي اليَمامي رضي الله عنه ، قال : ((إنَّ داراً كانت بين أخوين ، فحَظَرا في وسطها حِظاراً ، ثم هَلَكا وتَرَك كلُّ واحد منهما عَقِباً ، فادَّعى كلُّ واحدٍ منهما أن الحِظارَ له من دون صاحبه ، فاختَصَم عَقِباهُما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسَلَ حُذيفة بنَ اليمان ، فقَضى بينهما ، فقَضى بالحِظار لمن وَجَد معاقِدَ القُمُط تليه (3) ، ثم رجع فأخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أصبتَ وأحسنتَ)) .
__________
(1) 1 ـ في ((مسند أحمد)) 4 :205 ، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) 4 :195 : ((رجاله رجال الصحيح)) . و((سنن الدارقطني)) 4 :203 . قلت : وهذا الحديث فيه ضعف قاله الحافظ ابن حجر 13 :319 . قلتُ : وفيه غرابة في ذكر (عشرة أجور) .
(2) 2 ـ ابن ماجه 2 :785 في كتاب الأحكام (باب الرجلان يدعيان في خُصٍّ) ، والدارقطني 4 :229 في كتاب الأقضية والأحكام .
(3) 3 ـ الحِظار : ما يُحظَر به من السَّعَف والقَصَب ، وهو حائط الحظيرة .
والقُمُط جمعُ قِماط ، وهو في الأصل : خِرقةٌ عريضة يُشدُّ بها الصغير ، ثم أطلق على الحبل .
قال الفَيّومي في ((المصباح المنير)) ـ وهو يَشرَح هذه الجملة ـ : ((القُمُط : الشُّرُط جمعُ شريط ، وهو ما يُعمَلُ من لِيْف وخوصٍ . وقيل : القُمُط : الخُشُب التي تكون على ظاهر الخُصِّ أو باطنه ، يُشدُّ إليها حَرادي ـ أي الحُزُم التي يحزم بها ـ القَصَب أو رؤوسُه)) .(1/122)
19 ـ امتحانُه صلى الله عليه وسلم العالم بشيء من العلم ليقابله
بالثناءِ عليه إذا أصاب
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يمتحنُ بعضَ أصحابِه ، فيسألُه عن شيء من العلم ليَكشِف ذَكاءه ومعرفتَه ، فإذا هو أصاب في جوابِه مَدَحه وأثنى عليه وضَرَب في صدرِه ، إشعاراً باستحقاقِه حُبَّ رسول الله وتقديراً منه صلى الله عليه وسلم لحُسْنِ إجابتِه ، ومن هذا الباب :
94 ـ ما رواه مسلم (1) عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه ـ وكانت كنيتُه ـ أبا المُنْذِر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أبا المُنذر ، أيُّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم . قال : يا أبا المنذر أتَدري أيُّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قال : قلتُ : (الله لا إله إلاّ هو الحيُّ القيّوم) .
قال : فضَرَب في صدري وقال : لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر)) . أي لتَهْنَأ به .
95 ـ وما رواه أبو داود ،والترمذي ، والدارميُّ ، وابن سعد ، والقاضي وكيع (2) ، عن مُعاذ بنِ جبل رضي الله عنه قال : ((لمّا بَعَثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليَمَن ، قال لي : كيف تقضي إن عَرَض لك قضاء؟ قلتُ : أقضي بكتاب الله ، قال : فغن لم تَجِد في كتاب الله؟ قلتُ : أقضي بسُنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد في سنّة رسول الله؟ قلتُ : أجتَهِدُ برأيي ولا آلو ـ أي لا أقصِّر ـ .
__________
(1) 4 ـ 6 :93 في كتاب صلاة المسافرين (باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي) .
(2) 5 ـ أبو داود 3 :303 في كتاب الأقضية (باب اجتهاد الرأي في القضاء) ، والترمذي 6 :68 في كتاب الأحكام (باب ما جاء في القاضي كيف يقضي) ، والدارمي في ((سننه)) 1 :55 ، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) 2 :437 ، والقاضي وكيع في ((أخبار القضاة)) 1 :98 ، واللفظُ مجموع من رواياتهم . قال ابنُ كثير في ((تفسيره)) 1 :7 : ((هذا الحديثُ في المسانيد والسنن بإسنادٍ جيد ، كما هو مقرر في موضعه)) .(1/123)
قال : فضَرَب رسول الله صدري بيده ، وقال : الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله)) .
20 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه
هذا أحدُ أقسام السُّنّة ، ويُعبِّرُ عنه الأصوليّون والمحدِّثون بالتقرير ، فما حَدَث أمامَ النبي صلى الله عليه وسلم من مُسْلمٍ قولاً أو فعلاً ، وأقرَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالسكوت عليه أو إظهارِ الرِّضا به فهو بيانٌ منه صلى الله عليه وسلم لإباحة ذلك القولِ أو الفعل ، وكثيرٌ من الأمور العلمية أُخِذ من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق .
وأكتفي هنا بذكر حديثين من هذا الباب :
96 ـ روى البخاري (1) عن أبي جُحَيفة وَهْبِ بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : ((آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم
بين سَلْمان وأبي الدَّرْداء (2) ،
__________
(1) 6 ـ 4 :182 في كتاب الصوم (باب من أقسم على أخيه ليُفطر في التطوع ولم ير عليه قضاءً ...) ، و10 :442 في كتاب الأدب (باب صنع الطعام والتكلف للضيف) .
(2) 1 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 4 :182 ((ذكَرَ أصحابُ المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعَتْ مَرَّتين ، الأولى قبلَ الهجرة بين المهاجرين خاصَّةً ، على المُواساة والمُناصرة ، فكان من ذلك أُخوَّةُ زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب .
ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بن الهاجرين والأنصار ، بعدَ أن هاجَرَ ، وذلك بعدَ قدومِهِ المدينة ، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف : لما قَدِمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سَعْد بن الرَّبيع)) .(1/124)
فزار سلمانُ أبا الدرداء ، فرأى أُمَّ الدرداء مُتَبَذِّلَةً (1) ، فقال لها : ما شأنُكِ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا (2) .
فجاء أبو الدرداء فصَنَع له طعاماً ، فقال لسلمان : كُلْ فإني صائم ، قال : ما أنا بآكلٍ حتى تأكل ، فأَكَل . فلمّا كان الليل ذهَبَ أبو الدرداء يَقوم ، فقال : نَمْ ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَمْ ، فلما كان آخِرُ الليلِ قال سلمان : قُمْ الآن ، قال : فصَلَّيا ، فقال له سلمان : إنَّ لِرَبِّك عليك حقّاً ، ولِنفْسِك عليك حقّاً ، ولأهلِك عليك حقّاً (3) ، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حَقَّه .
فأتى ـ أبو الدرداء ـ النبي صلى الله عليه وسم فذَكَر ذلك له (4) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صَدَق سلمان)) (5) .
__________
(1) 2 ـ أي لابسةً الثياب الخَلَق البالية ، وتاركةً لِلُبس الثياب المعتادة المستحسنة .
(2) 3 ـ تعني أنه عزوف عن النساء ، منصرِفٌ إلى العبادة كلَّ الانصراف .
(3) 4 ـ وزاد في رواية الترمذي : ((ولِضيفِكَ عليك حقّاً)) . وزاد في رواية الدارقطني : ((فصُمْ وأَفطِرْ وصلِّ ونَمْ ، وأْتِ أهلَك)) .
(4) 5 ـ في رواية الترمذي : ((فأتَيا)) بالتثنية ، وفي رواية الدارقطني : ((ثم خَرجا إلى الصلاة ، فدَنَا أبو الدرداء ليُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي قال له سلمان ...)) .
(5) 6 ـ أي في جميع ما ذكره . وفي إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان مَنْقَبةٌ عظيمةٌ ظاهرة له رضي الله عنه .
وفي رواية ابن سعد : ((قال : لقد أُشْبِعَ سلمانُ عِلماً)) .(1/125)
97 ـ وروى أبو داود (1) عن عمرو بن العاص قال : ((احتلمتُ في ليلةٍ باردة في غزوةِ ذات السَّلاسِل (2) ، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أَهلِك ، فتيمَّمتُ ثم صلَّيتُ بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عمرو ، صلَّيتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعتُ الله يقول : (ولا تَقتُلوا أنفسَكم إن الله كان بكم رحيماً) ، فضَحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسم ولم يقل شيئاً)) (3) .
21 ـ انتِهازُه صلى الله عليه وسلم المناسباتِ العارِضةَ في التعليم
وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يَنْتهِزُ المناسَبَةَ المُشاكِلةَ لما يُريدُ تعليمَه ، فيَربِطُ بين المناسبةِ القائمة ، والعلمِ الذي يُريد بَثَّه وإذاعتَه ، فيكون من ذلك للمخاطبين أبيَنُ لوضوح ، وأفضلُ الفَهْم ، وأقوى المعرفة بما يَسمعون ويُلقى إليهم .
__________
(1) 7 ـ 1 :141 في كتاب التيمم (باب إذا خاف الجنبُ البردَ) .
(2) 8 ـ اسمُ ماء بأرض جُذام ، وهي وراء وادي القُرى ، بينها وبين المدينة عشرةُ أيام ، وكانت تلك الغزوة في جُمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة .
(3) 9 ـ في تبسُّمه صلى الله عليه وسلم دليلُ على جواز التيمم عند شدةِ البرد ، لأن تبسُّمه يُعدُّ إقراراً منه صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يُقرُّ على باطلٍ ، والتبسُّم والاستبشارُ منه صلى الله عليه وسلم أقوى دلالةً على الجواز من السكوت .(1/126)
98 ـ روى مسلم (1) عن جابر رضي الله عنه : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسّوق ، داخلاً من بعضِ العالِيَة (2) ، والناسُ كنَفَتَيْه (3) ، فمرَّ بجَدْيٍ ميِّتٍ أسَكَّ (4) ، فتناولَه فأخذَ بأُذُنِه ، ثم قال : أيُّكم يُحِبُّ أنَّ هذا له بدرهم؟ قالوا : ما نُحِبُّ أنه لنا بشيء ، وما نَصنَعُ به؟ قال : أتُحِبّون أنه لكم (5) ؟ قالوا : واللهِ لو كان حيّاً كان هذا السَّكَكُ عَيْباً فيه ، لأنه أسَكّ ، فكيف وهو ميِّت؟! فقال : فواللهِ للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم)) .
__________
(1) 10 ـ 18 :93 في أول كتاب الزهد والرقائق .
(2) 11 ـ العالية : قُرى بظاهر المدينة .
(3) 12 ـ أي جانِبَيهْ .
(4) 13 ـ أي صغيرِ الأذنين .
(5) 14 ـ أي بلا شيء مّا .(1/127)
99 ـ وروى البخاري ومسلم (1) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ((قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ (2) ، فإذا امرأةٌ من السبي تَحلَّبَ ثَدْياها (3) تَسْعى (4) ، إذْ وَجَدَتْ صَبِياً ـ لها ـ في السبي ، أخذَتْهُ فألصَقَتْه ببطنها وأرضعته (5) ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : أتُرَوْن (6) هذه طارحةً ولدَها في النار؟ قلنا : لا ، وهي تَقْدِرُ على أن لا تَطرحه (7) ، فقال : للَّهُ أرحمُ بعِبادِه من هذه بوَلَدِها)) (8) .
__________
(1) 15 ـ البخاري 10 :360 في كتاب الأدب (باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته) ، ومسلم 17 :70 في كتاب التوبة (باب سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه) .
(2) 16 ـ السَّبْيُ : الأسرى ، وكان هذا السبي سبي هَوازِن .
(3) 17 ـ أي سال حليبُ ثدييها .
(4) 18 ـ أي تمشي بسرعة باحثة عن رضيعها الذي ذهب منها .
(5) 1 ـ يعني وهي على تلك الحال فوجئت بلقاءِ طفلها في السبي ، فأخذَتْه بحنانٍ شديد وشفقةٍ بالغة ، فضمَّتْه إلى قلبها وصدرِها فرِحةً مسرورةً بلُقياه ، فهو عندها أغلى الأطفال ، وأحبُّ الراضعين ، وقُرّةُ العين والقلب جميعاً .
(6) 2 ـ أي أتظنون؟
(7) 3 ـ أي لا تطرحه ما دامت تقدر على حفظه معها ووقايتِه .
(8) 4 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 10 :361 وهو يشرح فوائد هذا الحديث وما يستخرج منه من أحكام : ((فيه ضَرْبُ المَثَلِ بما يُدرَك بالحواسِّ لما لا يُدرَكُ بها ، لتحصيل معرفةِ الشيء على وجهه ، وإن كان الذي ضُرِبَ به المَثلُ لا يُحاطُ بحقيقته ، لأن رحمة الله لا تُدرَك بالعقل ، ومع ذلك فقد قَرَّبها النبيُّ صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأةِ المذكورة .
وفي الحديث أيضاً : جواز نظرِ النساءِ المَسْبِيّات ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عن النظر إلى المرأةِ المذكورة ، بل في سِياق الحديث ما يقتضي إذْنَه في النظر إليها)) .(1/128)
فانتَهَزَ صلى الله عليه وسلم المُناسبةَ القائمةَ بين يديه مع أصحابه ، المشهودَ فيها حنانُ الأُمِّ الفاقِدة ، على رَضيعها إذْ وَجَدَتْه ، وضرَبَ بها المُشاكَلَةَ والمُشابهةَ برحمة الله تعالى ، ليُعرِّفَ الناسَ رحمةَ رَبِّ الناسِ بعباده ، ولم يَبتدِئهم أو يقْتَبِلهم بهذا المعنى اقتبالاً وابتداءً دون مناسبة ، بل أورده لهم في هذه المناسبة ، فكان ذلك دَرْساً وشَرْحاً لسَعَةِ رحمة الله تعالى ورأفتِه بمخلوقاته سبحانه (واللهُ رَؤوفٌ بالعِباد) (1) .
100 ـ وروى البخاري (2) عن جَرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه ، قال : ((كنا جلوساً ليلةً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ نَظَرَ إلى القمر ليلةَ البَدْر ، فقال : إنكم سَتَرَوْن ربَّكم يومض القيامة ، كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رُؤيَتِه (3) ،
__________
(1) 5 ـ من سورة البقرة ، الآية 207 .
(2) 6 ـ 2 :27 في كتاب مواقيت الصلاة (باب فضل صلاة العصر) ، و8 :458 في كتاب التفسير (تفسير سورة ق) ، و13 :357 في كتاب التوحيد (باب قول الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة) . وقد جمعتُ بين هذه الروايات هنا .
(3) 7 ـ أي لا يَحصُلُ لكم ضَيمٌ حينئذٍ . ورُوي : (لا تَضامّون في رؤيَته) . أي تتضامّون من الضمّ ، والمراد نفيُ الازدحام ، كما يقع للذين يَشهدون الهلالَ في أوَّلِ الشهر ، أنهم يَتضامّون لتتركَّزَ أحداقُهم على موضعٍ معيَّن ، فيشتركوا في رؤيتِه دون سواهم .
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :357 وهو يُفسِّرُ رواية (لا تَضامّون في رؤيتِه) : ((أي لا تَضامّون في رؤيته باجتماعٍ في جهة ، فإنكم تَرَوْنَه سبحانه في جهاتكم كلِّها ، وهو مُتعالٍ عن الجهة . والتشبيهُ برؤية القمر ، للرُّؤية دون تشبيه المَرْئي ، تعالى الله عن ذلك)) .
ورُوي : (لا تُضارّون في رؤيته) أي لا يَلْحَقُكم في رؤيته سبحانه مَشقّةٌ أو ضَرر .(1/129)
فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس ، وصلاةٍ قبل غروبها ، فافعلوا ، ثم قرأ : (وسَبِّحْ بحَمْدِ ربِّك قبلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وقبلَ الغُروب) (1) .
فانتهز صلى الله عليه وسلم مُشاهدةَ الصَّحابةِ للقمر ليلةَ البدر ، فبيَّنَ لهم أن رؤية الله تعالى في الآخرة ، ستكون للمؤمنين في الجنة بهذا الوضوح وتلك السُّهولةِ واليُسْر .
22 ـ تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُمازَحةِ والمُداعَبة (2)
__________
(1) 8 ـ من سورة ق ، الآية 39 .
(2) 9 ـ الدُّعابةُ اللطيفة تُروِّح عن الإنسان ، وتُلطِّفُ من ثِقَلِ المتاعِب التي تَنْتابُه أو تُصاحِبُه ، فإن الحياةَ لا تخلو من المرارة والمَكارِه ، فالدُّعابةُ تُخَفِّفُ من وَطأةِ ذلك على النفسِ . والمرءُ يَتعلَّمُ بالابتسامِ والبِشْر أكثرَ مما يَتعلَّمُ بالعُبوس والقُطوب .
وما أعذَبَ الدُّعابةَ المُعلِّمةَ ، والإحْماضَةَ الهاديةَ المُبَصِّرةَ ، فإن الجِدَّ الدائمَ يورِثُ رَهَق الذهنِ ، وكلَلَ الفِكرِ ، فالمزاحُ اللطيفُ الهادي بين الحين والحين ، يُعيدُ إلى الإنسانِ نشاطَه وانتباهَه ، فما أعْلَمَ هذا المُعلِّمَ الحكيمَ ، الوقورَ الرؤوفَ الرحيمَ صلى الله عليه وسلم .
قال العلاّمة ابنُ قُتَيبة رحمه الله تعالى : إنما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَمزَحُ ، لأنَّ الناسَ مأمورون بالتأسّي به والاقتداءِ بهَدْيه ، فلو ترك الطَّلاقةَ والبَشاشَةَ ، ولزم العُبوسَ والقُطوبَ ، لأخَذَ الناسُ أنفُسهم بلك على ما في مخالفةِ الغَريزة من المشقةِ والعَناءِ ، فمَزَح ليَمزحوا . وكان لا يقولُ إلاّ حقاً)) . انتهى من ((الفتوحات الربانية على الأذكار النووية)) للشيخ ابن عَلاّن 6 :297 .
وقال الإمام النووي في كتاب ((الأذكار)) ص29 : ((المِزاحُ المنهيُّ عنه هو الذي فيه إفراطٌ ، ويُداوَمُ عليه ، فإنه يورث الضحكَ ،وقسوةَ القلب ، ويَشغلُ عن ذكر الله تعالى ، والفكرِ في في مُهمّاتِ الدين ، ويَؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورِثُ الأحقاد ، ويُسقِط المَهابَةَ والوقار .
فأما ما سَلِم من هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسم يَفعَلُه في نادرٍ من الأحوال ، لمصلحةٍ وتَطييبِ نفسِ المُخاطَبِ ومُؤانَستِه ، وهذا لا مَنْعَ منه قطعاً ، بل هو سنة مستحبَّةٌ إذا كان بهذه الصفة ، فاعتمِدْ هذا ، فإنه مما يَعظُم الاحتياجُ إليه وبالله التوفيق)) .(1/130)
وكان صلى الله عليه وسلم يُداعِبُ أصحابَه في بعضِ الأحيانِ ويُمازِحُهم ، ولكنه ما كان يقولُ إلاّ حقاً (1) ، وكان يُعلِّم كثيراً من أمورِ العلم خلال المُداعَبةِ والمُمازحةِ .
101 ـ روى البخاري (2) ، ومسلم (3) ، وأبو داود (4) ، والترمذي (5) ، وابنُ ماجه (6) ، واللفظُ لأبي داود ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدخُل علينا ، ولي أخ صغيرٌ يُكنَّى أبا عُمَير ، وكان له نُغَرٌ يَلعَبُ به ، فمات ، فدخَلَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم فرآه حزيناً ، فقال : ما شأنُه؟ قالوا : مات نُغَرُه ، فقال : يا أبا عُمير ما فَعَل النُّغَير؟)) (7) .
__________
(1) 10 ـ روى الترمذي 3 :241 في البر والصلة (باب ما جاء في المزاح) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((قالوا : يا رسول الله ، إنك تُداعِبُنا؟ قال : إني لا أقولُ إلاّ حقاً)) .
قال الترمذي : ((هذا حديث حَسَنٌ ، ومعنى قولهم : (إنك تُداعِبُنا) إنك تُمازِحنا)) .
(2) 1 ـ 1 :526 في كتاب الأدب (باب الانبساط إلى الناس) و10 :582 (باب التكنية للصبي وقبل أن يولَدَ للرجل) .
(3) 2 ـ 14 : 128 في كتاب الآداب (باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير) .
(4) 3 ـ 4 :293 في كتاب الأدب .
(5) 4 ـ 2 :128 في كتاب الصلاة مختصراً (باب الصلاة على البُسُط) ، و8 :157 في البر والصلة (باب ما جاء في المِزاح) .
(6) 5 ـ 2 :1231 في كتاب الأدب ، مُقتَصِراً على ذكر الكنية .
(7) 6 ـ (النُّغَير) تصغير النُّغَر ، وهو طائر يُشبِهُ العُصفورَ أحمرُ المِنقار .
وفي حديث أنسٍ هذا من الفوائد والأمور التعليمية :
تخصيصُ الإمام بعضَ الرعية بالزيارة .
مخالطة بعض الرعية دون بعض .
جوازُ حَمْلِ العالم علمَه إلى من يستفيدُه .
جوازُ الممازحة وأن ممازحة الصبي الذي لم يُميِّز جائزة .
جوازُ تكنية من لم يولَد له ولد .
جوازُ لعب الصغيرِ بالطَّير دون تعذيب له ، وجواز تمكين الولي إياه من ذلك .
جواز إنفاقِ المال فيما يَتَلَهّى به الصغير من المباحات .
جوازُ إمساكِ الطير في القفص ونحوِه .
معاشرةُ الناس على قَدْر عقولِهم ومَدارِكهم .
جوازُ نداءِ الشخصِ باسمِه المصغَّر عند عدم الإيذاء به لقوله (يا أبا عُمَير) .
جواز السؤالِ عما السائلُ به عالم من غير أن يكون استهزاءً ، لقوله (ما فعل النُّغَير)؟ بعد علمه بأنه مات .
وبعضُ العلماء شرَح هذا الحديث في جزءٍ مستقل ، استخراج منه أكثرَ من ستين فائدةً كما في ((فتح الباري)) 10 :481 ، وبعضُهم أوصلَها إلى أكثر من ثلاث مئة فائدةٍ ، كما أشار إلى ذلك شيخُنا عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى في ((التراتيب الإدارية)) 2 :150 .
وقال العلاّمةُ المؤرِّخُ الأديبُ المَقَّري في ((نفح الطيب)) 6 :215 في (الباب الخامس) عند ذكر كلام لسان الدين ابن الخطيب في وصف مدينة (مكناسة) : ((أَملى ابن الصَّبّاغ بمجلسِ درسِه بمِكْناسة في حديث (يا أبا عمير ، ما فعل النغير) أربعَ مئةِ فائدة)) .(1/131)
102 ـ وروى أبو داود والترمذي (1) عن أنس رضي الله عنه قال : ((إنَّ رجلاً استَحمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) : إني حامِلُك على وَلَدِ النّاقة ، فقال الرجل : يا رسول الله ، ما أصنَعُ بولدِ الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل تَلِدُ الإبلَ إلاّ النّوقُ؟)) .
فأفهمه صلى الله عليه وسلم من طريق هذه المداعبة اللطيفة ، أن الجمَلَ ولو كان كبيراً يَحملُ الأثقال ، ما يَزالُ وَلَد الناقة (3) .
23 ـ تأكيدُه صلى الله عليه وسلم التعليم بالقَسَم
__________
(1) 7 ـ أبو داود 4 :300 في كتاب الأدب(باب ما جاء في المزاح) ، والترمذي 8 :158 في كتاب البر والصلة (باب ما جاء في المزاح) ، وفي ((الشمائل)) للترمذي ص152 ، واللفظُ للترمذي .
(2) 8 ـ أي سأله أن يُعطِيَه بعيراً من إبل الصدقة ، ليَحمِل عليه مَتاعه .
(3) 9 ـ وفيه من الأمور التعليمية : تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم المتعلِّمَ وغيرَه على أنه إذا سمع قولاً ينبغي له أن يتأمَّلَه ، وأن لا يُبادِرَ بردِّه . وهذا خُلقٌ هامٌّ جداً يتعيَّن سلوكُه على المتعلِّم ليُفلِح . وفيه أيضاً : أن الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلم يمزَحُ ولا يقول إلاّ حقاً ، إذ الإبلُ كلُّها وَلَدُ النّوق . وفيه لَفْتُ الذهن إلى إدراكِ المعاني الدقيقة .(1/132)
وكان صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان ، يَبدأُ حديثَه بالقَسَم بالله تعالى ، تنبيهاً منه إلى أهميّة ما يقولُه وتقويةً للحكم وتأكيداً له (1) .
103 ـ روى مسلم (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفْسي بيده ، لا تَدْخُلون الجنّة حتى تُؤْمِنوا ، ولا تُؤْمِنوا حتى تَحابّوا (3) ، أوَلا أَدُلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تَحاببْتُم؟ أَفشوا
__________
(1) 10 ـ قال الإمام ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقِّعين)) 4 :165 و((زاد المعاد)) 2 :313 : ((أقْسَمَ النبي صلى الله عليه وسلم على ما أَخبَر به من الحق ، في أكثرَ من ثمانين موضعاً ، وهي موجودة في الصحاح والمسانيد ، وأمَرَه الله تعالى بالحَلِفِ على تصديق ما أخبَر به في ثلاثة مواضع من القرآن ، في سورة يونس : 53 (قُلْ إيْ وربّي إنه لَحَقٌّ) ، وفي سورة سبأ : 3 (قُلْ بَلى وربّي لتَاْتِيَنَّكم) ، وفي سورة التغابُن : 7 (قُلْ ورَبّي لَتُبْعَثُنَّ) .
(2) 11 ـ 2 :35 في كتاب الإيمان (باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلاّ المؤمنون ، وأن محبة المؤمنين من الإيمان) .
(3) 12 ـ كذا الروايةُ في ((صحيح مسلم)) بحذفِ النون في قوله : (ولا تؤمنوا حتى تَحابوا...) ، قال العلماء : وإنما حُذِفَت النونُ هنا من هذا الفعل : (ولا تؤمنوا) ، مُشاكَلَةً لحذفها من الفعل السابق : (حتى تؤمنوا) ، فكأنه أورده بحذف النون في الثاني على الحكاية ، لِحذفها في الأول . =
= وانظر ـ إذا ـ شئت ـ كلام العلماء مطوَّلاً على حذف النون في هذا الحديث في ((شرح صحيح مسلم)) للنووي 2 :26 ، و((المِرقاة شرح المشكاة)) لعلي القاري 4 : 555 . ويُروى بحذف النون في قوله : (لا تدخلوا الجنة ...) كما أشار إليه في ((المرقاة شرح المشكاة)) .(1/133)
السلامَ بينكم)) (1) .
__________
(1) 1 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 :10 و36 : ((في هذا الحديث : الحثُّ العظيمُ على إفشاءِ السلام وبَذْلِه للمسلمين كلّهم ، من عَرَفْتَ ومن لم تَعْرِف . والسَّلامُ أوَّلُ أسبابِ التألُّف ، ومِفتاحُ استجلابِ المودّة . وفي إفشائه تمكُّنُ أُلْفَةِ المُسلمين بعضِهم لبعض ، وإظهارُ شِعارِهم المميَّزِ لهم من غيرهم من أهل المِلَل ، مع ما فيه من رياضةِ النفس ـ أي ترويضِها على التواضع ـ ، ولزومِ التواضع ، وإعظامِ حُرُمات المسلمين .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : والأُلفَةُ إحدى فرائض الدّين وأركان الشريعة ، ونظامُ شَمْلِ الإسلام . وفي الحديث : إفشاءُ شِعار هذه الأُمّة ، وهو السَّلام)) . انتهى .
وفي هذا الحديث الشريف وما يليه مما جاء فيه قسمه صلى الله عليه وسلم : جواز الحلف ـ من المعلِّم وغيره ـ من غير استحلاف ، لتفخيم ما يخبر به ، وتعظيمه ، والمبالغة في صحته وصفته وأثره . وقد كثرت الأحاديث التي جاء فيها القَسَمُ من الصادق المَصْدوقِ صلى الله عليه وسلم ، حتى زادَتْ على ثمانين حديثاً كما تقدَّم نقلُه عن الإمام ابن القيم .(1/134)
104 ـ وروى مسلم (1) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((والذي نفسي بيده ، لا يُؤْمِنُ عبدٌ حتى يُحِبَّ لجارِهِ ـ أو قال : ـ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِه)) (2) .
105 ـ وروى البخاري (3) عن أبي شُرَيح الخُزاعي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((واللهِ لا يُؤمِن! واللهِ لا يؤمن! والله لا يؤمن! قيل : من يا رسول الله؟ قال : الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَه)) (4) .
وما كان القَسَمُ منه صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث ، ـ وهو الصّادِقُ المَصْدوق ـ إلاّ للتنبيهِ على أهمية أثَرِ السَّلام ـ الذي هو شِعارُ الإسلام ـ في توثيق الصِّلة والتَّحابِّ بين الناس ، والتنبيهِ على لزومِ محبّة الخيرِ للجارِ والأخ ، والتنبيه على شَناعةِ أذى الجار وتنغيصِه ، حتى نَفى الإيمانَ عمن خالَفَ هَدْيَه صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث .
24 ـ تكرارُه صلى الله عليه وسلم القولَ ثلاثاً لتأكيد مضمونه
__________
(1) 2 ـ 2 :17 في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير) .
(2) 3 ـ قال العلماء : المرادُ بالأخ في قوله : ((حتى يحب لأخيه) عُمومُ الإخْوة حتى يَشمَلَ الكافرَ والمسلمَ ، فيُحِبُّ لأخيه الكافرِ ما يحب لنفسه من دخولِهِ في الإسلام ، كما يحب لأخيه المسلم دَوامَه على الإسلام . ولهذا كان الدُّعاءُ بالهداية للكافر مُستَحَبّاً . ونفيُ الإيمان في هذا الحديث مَحمولٌ على نفي الإيمان الكاملِ عمن لم يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه .
(3) 4 ـ 10 :370 في كتاب الأدب (باب إثم من لا يأمن جارُه بوائقَه) .
(4) 5 ـ أي شُرورَه وأذاياه .(1/135)
وكان صلى الله عليه وسلم يُكرِّرُ حديثَه تأكيداً لمضمونِه ، وتنبيهاً للمخاطب على أهمِّيَّته ، وليفهَمَه السامعُ ويُتقِنَه، وقد تَرجَمَ الإمام البخاري لهذا المعنى (بابَ من أعادَ الحديث ثلاثاً ليُفهَمَ عنه) (1) ، وأخرجَ فيه الحديثين التّاليين :
__________
(1) 6 ـ 1 :188 ـ 189 في كتاب العلم . قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :189 : ((قال ابنُ المنيِّر : نَبَّه البخاري بهذه الترجمة على الرد على من كَرِه إعادةَ الحديث ، وأنكَرَ على الطالب الاستعادة ، وعَدَّه من البَلادَةِ .
قال : والحقُّ أن هذا يَختَلِفُ باختلاف القَرائحِ ، فلا عيب على المُستفيد الذي لا يَحفَظ من مرةٍ إذا ستعادَ ، ولا عُذرَ للمفيدِ إذا لم يُعِد ، بل الإعادةُ عليه آكدُ من الابتداء ، لأن الشروعَ مُلزِم .
وقال ابنُ الِّيْن : في هذا الحديث أنَّ الثلاثَ غايةُ ما يَقَع به الاعتذارُ والبيان)) . انتهى كلام الحافظ ابن حجر .
وقد عَقَد البخاري نفسُه 1 :196 (بابَ من سمع شيئاً فلم يَفهَمْه فراجَعَ حتى يَعرِفَه) ، وأخرج فيه حديثَ ابن أبي مُلَيكَةَ أن عائشة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرِفُه إلاّ راجعَتْ فيه حتى تَعرِفه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من حوسِبَ عُذِّب)) . قالت عائشة فقلتُ : أوَليس يقولُ الله تعالى : (فسوف يُحاسَبُ حساباً يسيراً) ، قالت : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما ذلكِ العَرْضُ ، ولكن مَنْ نوقِشَ الحسابَ يَهْلِكْ)) .
قال ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :197 : ((في هذا الحديث بيانُ ما كان عند عائشة من الحرص على تفهُّم معاني الحديث ، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يَتَضَجَّرُ من المُراجَعَةِ في العلم ، وفيه بيانُ جوازِ المناظرة ، ومُقابَلَةِ السنةِ بالكتاب ، وتفاوُت الناس في الحساب)) .(1/136)
106 ـ عن أنس رضي الله تعالى عنه ، ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تَكلَّم بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً حتى تُفهَم عنه)) .
107 ـ وعن عبد الله بنِ عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : ((تَخلَّفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ سافَرناه ، فأدرَكنا وقد أرْهَقَتْنا صلاةُ العصر (1) ِ ، ونحن نتوضَّأ ، فجَعلْنا نَمسَحُ على أرجُلِنا ، فنادى بأعلى صوتِه
(ويلٌ للأعْقاب من النار) مرَّتين أو ثلاثاً)) (2) .
__________
(1) 7 ـ قولُه (أَرْهَقَتْنا) أي أدركَتْنا الصلاةُ وضاق وقتُها .
(2) 1 ـ قوله (ويلٌ للأعقاب من النار) الويلُ : وادٍ في جهنَّم ، يريدُ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا تهديدَ من لم يَستوف غَسْل قدمَيْه بالماء . و(الأعقاب) جمعُ عَقِب ، وهو مؤخَّر القَدَم ، قال البغوي : معناه ويلٌ لأصحاب الأعقاب المُقصِّرين في غَسْلِها .
وفي الحديث من المسائل : تعليمُ الجاهل ، ورفعُ الصوت بالإنكار ، وتكرارُ المسألة لتُفهم ، كما في ((فتح الباري)) 1 :266 .
وقولُه (مرتين أو ثلاثاً) قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :189 : ((هو شك من الراوي ، وهو يَدُلُّ على أن الإعادةَ ثلاثَ مرَاتٍ ليستْ شرطاً ، بل المرادُ التفهيمُ ، فإذا حَصَل بدونِها أجزأ)) .(1/137)
108 ـ وروى أحمد في ((مسنده)) (1) عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن مُعاذ بن جبَل رضي الله تعالى عنه : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قِبَلَ غزوةِ تَبوك ، فلما أن أصبح صلّى بالناسِ صلاةَ الصبح ، ثم إن الناسَ رَكِبوا ، فلمّا أنْ طَلَعتْ الشمسُ نَعَس الناسُ على أثر الدُّلْجةِ (2) ، ولَزِم مُعاذٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتلو أثَرَه ُ...
ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَشَف عنه قِناعَه ، فالتَفتَ فإذا ليس من الجيشِ رجلٌ أدنى إليه من مُعاذ ، فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا مُعاذُ ، قال : لَبَّيك يا نبي الله ، قال : ادْنُ ، دونَكَ ، فدَنا منه حتى لَصِقَتْ راحلتاهما إحداهما بالأخرى .
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما كنتُ أحسِبُ الناسَ مِنّا كمَكانِهم من البُعد ، فقال معاذ : يا نبي الله ، نَعَس الناسُ فتفرَّقَتْ بهم رِكابُهم تَرتَعُ وتَسيرُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا كنتُ ناعِساً .
فلما رأى معاذٌ بُشْرى (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وخَلْوَتَه له ، قال : يا رسول الله ، ائذَنْ لي أسألُك عن كلمةٍ قد أمرضَتْني وأسْقَمَتْني وأحْزَنَتْني ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم سَلْني عَمَّ شئت .
__________
(1) 2 ـ 5 :245 ـ 246 ، وإسنادُه حَسَنٌ ، وأصلُ الحديث من طريقٍ آخر عند الترمذي 4 :124 ـ 125 في أبواب الإيمان (باب ما جاء في حروة الصلاة) ، وعند ابن ماجه 2 :1314 ـ 1315 في كتاب الفِتَن (باب كفِّ اللسان في الفتنة) . قال الترمذي : ((حديث حسنٌ صحيحٌ)) .
(2) 3 ـ الدُّلْجَةُ السفر من أول الليل ، أي بسبب سفرهم من أول الليل نَعَسوا .
(3) 4 ـ أي ارتياحَه وتوجهه إليه .(1/138)
قال : يا نبي الله ، حَدِّثني بعمل يُدْخِلُني الجنةَ لا أسألُك عن شيءٍ غيرِها (1) ، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بَخْ بَخْ بَخْ ، لقد سألتَ عن عظيمٍ ، لقد سألتَ عن عظيمٍ ، لقد سألت عن عظيمٍ ، وإنه ليَسيرٌ على من أراد الله به الخير ، وإنه ليَسيرٌ على من أراد الله به الخيرَ ، وإنه ليَسيرٌ على من أراد الله به الخيرَ ، فلم يُحدِّثه بشيءٍ إلاّ قاله ثلاث مرّاتٍ ، يعني ثلاثَ مرّاتٍ ، حِرصاً لكيما يُتْقِنَه .
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : تُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِر ، وتُقيمُ الصلاةَ ، وتَعبُدُ الله وحده لا تُشرِك به شيئاً حتى تموتَ وأنتَ على ذلك ، فقال : يا نبي الله ، أعِدْ لي ، فأعادها له ثلاث مرّات .
ثم قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : إن شئتَ حدَّثتُك يا مُعاذ برأسِ هذا الأمرِ ، وقِوامِ هذا الأمرِ ، وذُرْوَةِ السَّنام ، فقال معاذ : بَلى بأبي وأمي أنتَ يا نبيَّ الله فحدِّثني ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم :
إن رأسَ هذا الأمرِ (2) أن تَشهَد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه .
وإنَّ قِوامَ هذا الأمرِ إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة .
وإنَّ ذُرْوَةَ السَّنام منه الجهادُ في سبيلِ الله .
إنما أمِرتُ أن أقاتِلَ الناسَ حتى يُقيموا الصلاةَ ، ويؤتوا الزَّكاةَ ، ويَشهَدوا أنْ لا إله إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريك له ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ، فإذا فَعَلوا ذلك فقد اعتَصَموا ، وعَصَموا دِماءهم وأموالَهُم إلاّ بحقِّها ، وحِسابُهم على الله عز وجل ...)) .
25 ـ إشعارُه صلى الله عليه وسلم بتغيير جِلْسَتِه وحاله ، وتكرار المقال
__________
(1) 5 ـ كذا اللفظة في ((المسند)) ، وليست واردة عند الترمذي وابن ماجه ، والسياقُ يقتضي أن تكون (لا أسألك عن شيء غيرِه) .
(2) 6 ـ المرادُ بقوله (هذا الأمر) الدّين ، أو العَمَلُ الذي يُدخِلُ الجنة .(1/139)
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُغيِّر جِلسته وحالَه ، مع تكرار مقالِه تعبيراً عن الاهتمام والخُطورَةِ لما يقولُه أو يُحذِّرُ منه .
109 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظُ للبخاري ، عن أبي بَكْرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكَبائر؟ ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائر؟ ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكَبائر (2) ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ،
قال : الإشراكُ بالله (3) ، وعُقوقُ الوالدين (4) ، وكان متَّكِئاً فجلسَ فقال : ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور ، ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور (5) ،
__________
(1) 7 ـ البخاري 1 :405 في كتاب الادب (باب عقوق الوالدين من الكبائر) ، ومسلم 2 :81 ـ 82 في كتاب الإيمان (باب الكبائر وأكبرها).
(2) 8 ـ قالها ثلاث مراتٍ ، جرياً على عادتِه صلى الله عليه وسلم في تكرير الشيء ثلاث مراتٍ تأكيداً ، ليُنبِّه السامع إلى إحضارِ قلبِه وفهمِه للخبر الذي يَذكُره .
(3) 1 ـ قوله ((الإشراكُ بالله)) يُرادُ به مطلقُ الكفرِ ، لأنَّ بعضَ الكفر ـ مثل الإلحاد وجحد الخالق ـ أعظمُ من الإشراك بالله ، وإنما خَصَّه بالذكرِ لغَلَبةِ الشِّركِ آنئذٍ في بلادِ العرب ، فذكره تنبيهاً على غيرِه من أصنافِ الكفر .
(4) 2 ـ قال الشيخ أبو عمرو بنُ الصلاح رحمه الله تعالى في ((فَتاويه)) 1:201 : ((العقوقُ المحرَّم كلُّ فعل يتأذى به الوالدُ أو الوالدةُ تأذِّياً ليس بالهيِّن ، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة ، قال : وربما قيل : طاعةُ الوالدين واجبةٌ في كلِّ ما ليس بمعصيةٍ ، ومُخالفَةُ أمرِهما في ذلك عقوق)) . نَقَله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 :87 .
(5) 3 ـ قول الزور وشهادة الزور بمعنى واحد ، وعطفُ أحدِهما على الآخر عطفُ تفسيرٍ ، ومن باب التوكيد وزيادة التفظيع له .
وإنما كرَّر قوله : ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور ، ولم يُكرِّر قوله : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، اهتماماً منه صلى الله عليه وسلم بالزجر عن شهادة الزور ، لأنها أسهلُ وُقوعاً على الناس ، والتهاوُنِ بها أكثر ، ومفسدتُها أيسرُ وقوعاً .
لأن الشرك يَنبو عنه المسلم ، والعقوق ينبو عنه الطبعُ ، وأما شهادةُ الزور فالدَّوافعُ والبواعثُ عليها كثيرة ، فحَسُنَ الاهتمامُ بها ، وليس التكرارُ لعِظَمِها بالنسبةِ إلى ما ذُكِر معها ، فالشركُ أو الكفرُ أعظمُ الذنوبِ جميعاً .
وشهادة الزور هي الشهادةُ بالكذبِ ليَتَوصَّل بها إلى الباطل من إتلافِ نَفْسٍ ، أو أخذِ مالٍ ، أو إلى إبطالِ حقٍّ للغير ، ولا شيء من الكبائر أعظمُ ضرراً منها ، ولا أكثرُ فساداً ، بعد الشرك بالله ، ومن ثم جُعِلَتْ عَدْلاً للشرك ، ووَقع من النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكرِها من الغضب والتكرير ما لم يَقَع منه عند ذكر أكبَرَ منها كالقتلِ والزنا .(1/140)
فما زال يقولُها حتى قلتُ : لا يَسكُتُ)) . وفي روايةِ مسلم : ((فما زال يُكرِّرُها حتى قلنا : ليتَه سَكَت)) (1) .
وما هذا التكرارُ وتغييرُ الحال التي هو عليها إلاّ للَفْتِ أذهانِ السامعين إلى خُطورةِ ذلك العمل الذي يُحذِّر منه ، وهو شهادةُ الزّور .
26 ـ إثارتُه صلى الله عليه وسلم انتِباهَ السامعِ بتكرار النداء مع تأخير الجواب
وكان صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يُكرِّرُ نداء المُخاطَب مع تأخير الجواب ، لتأكيد الانتباه والاهتمام بما يُخبِرُه به ، وليُبالِغَ تفهُّمِه وضبطِه عنه .
110 ـ روى البخاري ومسلم (2) ،
__________
(1) 4 ـ قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 10 :412 : ((وفي هذا الحديث : استحبابُ إعادة الموعظة ثلاثاً لتُفهَم ، وانزِعاجُ الواعظِ في وعظِه ليكون أبلغَ في الوعي عنه ، والزجرِ عن فعل ما يَنهى عنه .
وفيه إشفاقُ التلميذ على شيخِه إذا رآه مُنزعِجاً وتمنّي عدم غضبه لما يترتَّب على الغضب من تغيُّر مزاجه)) . انتهى .
وفيه أيضاً : أنه ينبغي للعالم أن يَعرِضَ على أصحابِه ما يُريدُ أن يُخبِرهم به ، لحَثِّهم على التفرُّغِ والاستماعِ له .
(2) 5 ـ البخاري في الجهاد (باب اسم الفَرَس والحِمار) 6 :44 ، واللباس (باب إرداف الرجلِ خَلْفَ الرجل) 10 :334 ، وفي الاستئذان (باب من أجاب بلبَّيك وسَعْديك) 11 :52 ، وفي الرِّقاق (باب من جاهدَ نفسَه في طاعة الله) 11 :290 ، وهنا شَرَحه الحافظ ابنُ حجر بتوسُّعٍ ، وفي التوحيد (باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه إلى توحيد الله تبارك وتعالى) 13 :300 .
ومسلم 1 :229 في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخَل الجنة قطعاً) .(1/141)
واللفظُ للبخاري ، عن مُعاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ((بينما أنا رَديفُ النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس بيني وبينه إلاّ آخِرةُ الرَّحْلِ (1) ، فقال : يا مُعاذ ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك (2) . ثم سار ساعةً ، فقال : يا مُعاذ ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك. ثم سار ساعةً ، فقال : يا مُعاذ بن جبل ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك (3) .
قال : هل تَدري ما حقُّ الله على عبادِه (4) ، قلتُ : الله ورسوله أعلمُ ، قال : حقُّ الله على عبادِه : أن يَعبُدوه ولا يُشركوا به شيئاً .
__________
(1) 6 ـ الرَّحْل للبعير كالسَّرْج للفَرَس والحِمار ، وآخِرَةُ الرَّحْل : هي العود الذي يُجعَلُ خلف الرّاكِب يَستَنِدُ إليه . وفائدةُ ذكر ذلك بيانُ شدة قُربِه من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ هو رديفُه خلفَ ظهرِه على الدّابةِ ، فهو أوعى ما يكون وأضبطُ ما يكون لما يسمَعُه منه ، فهو يَذكُرُ الهيئةَ والحالَ التي كان عليها وقت سماعه هذا الحديث ، وهذا قرينُه زيادةِ الضبط .
وكان مركوبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحال حِماراً ، كما جاء ذلك مُصرَّحاً به في رواية مسلم 1 :232 عن عمرو بن ميمون ، عن معاذ بنِ جبل ، وفي رواية ((مسند أحمد)) 5 :238 عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن معاذ ، فيكون المرادُ (بآخِرَةِ الرَّحْلِ) موضعُ آخِرَةِ الرَّحل .
(2) 7 ـ معنى (لبيك) : أجبتُك إجابةً بعدَ إجابةٍ ، و(سعديك) : ساعَدتُ طاعتَك مُساعدةً بعدَ مُساعَدةٍ .
(3) 8 ـ هذا النداءُ المكرَّر ثلاثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُعاذ ، مع تأخير جوابِ النداء ، لتأكيد الاهتمام بما يُخبِره ، وليَكْمُلَ انتباه معاذ فيما يَسمعُه ، ليتَدبَّره ويَعيَه كما ينبغي .
(4) 9 ـ أي ما يَستحقُّه الله تعالى على عبادِه مما جَعَله حَتْماً عليهم .(1/142)
ثم سار ساعةً ، ثم قال : يا مُعاذ ، قلتُ : لبَّيك يا رسول الله وسَعْدَيك ، قال : هل تَدري ما حقُّ العباد على الله (1) إذا فَعَلوه (2) ؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم ، قال : حقُّ العبادِ على الله : أن لا يُعَذِّبَهم)) (3) .
27 ـ إمساكُه صلى الله عليه وسلم بيد المُخاطَب أو منكِبِه لإثارةِ انتباهِه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُثيرُ انتباهَ المخاطبِ بأخذ يدِه أو منكِبِه ، ليَزدادَ اهتمامُه بما يُعلِّمهُ ، وليُلقِيَ إليه سمعَه وبصَرَه وقلبَه ، ليكون أوعى له وأذكَر .
__________
(1) 10 ـ قال بعضُ العلماء : يُريد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (حق العباد على الله) : حقّاً عُلِم من جهةِ الشرع ، لا بإيجابِ العقلِ ، فهو كالواجب في تحقُّقِ وقوعِهِ . أو هو على جهة المُشاكَلَةِ ، كقوله تعالى : (فيَسخَرون منهم سَخِرَ الله منهم) ، وقوله سبحانه على لسان سيدنا عيسى عليه السلام : (تعلَمُ ما في نفسي ولا أعلَمُ ما في نفسك) .
(2) 11 ـ أي إذا فَعَلوا العبادة له مُخلِصين له فيما دون إشراكِ أحَدٍ معه .
(3) 12 ـ وذلك فضلاً منه وكرماً ، بحكم وعدِه الصادقِ . وفي الحديث من الأمور التعليمية ـ كما قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 11 :291 ـ : ((حُسنُ أدب معاذ رضي الله عنه =
= في القولِ ، وفي العلم بردِّه لما لم يُحِطْ بحقيقتِه إلى علمِ الله ورسولِه ، وفيه قُرب منزلتِه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه تكرار الكلام لتأكيدِه وتفهيمه ، وفيه استِفسارُ الشيخِ تلميذَه عن الحكم ليَختَبِر ما عنده ، ويُبَيِّن ما يُشكلُ عليه منه .(1/143)
111 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظُ للبخاري عن عبد الله بنِ سَخْبَرَةَ أبي مَعْمَر قال : سمعتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ : ((علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفّي بين كفّيه ، التشهّثدَ ، كما يُعلِّمني السورةَ من القرآن (2) :
التحيّاتُ لله ، والصلواتُ والطيِّباتُ ، السلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُه ، السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحين ، أشهَدُ أن لا إله إلاّ الله ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه)) .
__________
(1) 1 ـ البخاري 11 :56 في كتاب الاستئذان (باب الأخذ باليد) ، ومسلم 4 :118 في كتاب الصلاة (باب التشهُّدِ في الصلاة) .
(2) 2 ـ هذه العبارةُ تُصوِّرُ شدةَ اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا التشهُّد . وفي الحديث من أمورِ التعليم : أنَّ المعلِّم ينبغي له أن يُبدي الاهتمامَ البالغَ بالأمر الهام يُعلِّمُه للمُستفيدين ، وأن يُشعِرَهم بذلك ، ليُلقوا إليه بسمعِهم وبَصرِهم وقُلوبِهم ، وليكونوا على كمالِ التيقُّظ فيما يَتَحمَّلونه عنه ، فيَضبِطوا لفظَه وفعلَه وإشارتَه وعبارتَه ، دون زيادةٍ أو نقصٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ أو تهاوُنٍ .
وفيه أيضاً : التعليمُ والتلقين في حالةٍ مذكِّرةٍ ، من شدة القرب ، والأخذ بيد المتعلِّم ، ليَزدادَ انتباهُه بما يُعلَّمه ، وليكون أذكَر لما يُلقى إليه ، من تعليمِه بخطابٍ عامٍّ وحالٍ عاديّةٍ .
وفيه زيادةُ عنايةِ المتعلِّم ببعض المُتعلِّمين لفرطِ ذكائهم ، أو توسُّمِ الخير فيهم ، أو لَمْحِ مَخايِل الرَّجاحةِ والأصالةِ فيهم .(1/144)
112 ـ وروى البخاري والترمذي (1) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ((أَخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنْكِبي ، فقال : كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل ، وعُدَّ نفسَك من أهل القبور)) (2) .
__________
(1) 3 ـ البخاري 11 :199 في أوائل كتاب الرقاق ، والترمذي 4 :567 في كتاب الزهد (باب ما جاء في قِصَر الأمَل) .
(2) 4 ـ لأنك ميِّت يقيناً ، والموتُ كامنٌ في بُنيتك وكيانِك ، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : إنَّ رجلاً ليس بينه وبين أبيه آدم إنسانٌ حيّ لعريقٌ في الموت ، ولأنك تَشهدُ بعينيك الناس من أقارب وأباعد يموتون يوماً بعدَ يوم ، فلا بُدَّ أن يكون لك يوم . وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : كلَّ يوم يقال : مات فلان وفلان ، ولا بُدَّ من يومٍ يقال فيه : مات عمر . فنحن كما قال القائل : نموتُ ونحيا كلَّ يومٍ وليلةٍ ولا بد من يومٍ نموتُ ولا نحيا
وقد تدرَّج النبي صلى الله عليه وسلم في تذكير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فذكر له الغريب ، ثم عابرَ السبيل ، ثم ساكن القبور . فالغريب المتنقل من بلد إلى بلد ، قلبُه معلَّقٌ بوطنه ، لا يُثقِل على نفسه بالتوسع في أمتعته لعزمه العودة إلى بلده ، فلا يستقر بدار غربته إلاّ بقدر الضرورة أو الحاجة .
وعابرُ السبيل أي المارُّ على الطريق من جانب إلى جانب ، لا أرب له إلاّ فيما يُبلِّغُه إلى مقصِده فلا يلتفتُ إلى شيء يُحوِّلُه عنه ، ولا يُغريه بالتوقف بُستانٌ جميل ، ولا هواء بليل ، ولا ظل ظليل .
وساكنُ القبور هم الموتى الذين سبقوا إلى لقاء الله تعالى ، ومصيرُ الأحياء إلى ما صاروا إليه ، فلذا كان عبد الله بن عمر يقول : إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ...(1/145)
وكان ابن عمر يقول : ((إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخُذْ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمُك غداً)) (1) .
ومن هذا الباب أيضاً ضربُ النبي صلى الله عليه وسلم على فخِذ بعضِ أصحابه في بعضِ الأحيان .
113 ـ روى مسلم (2) عن التابعي الجليل أبي العالِية ، قال : ((أخَّر ـ الأميرُ ـ ابنُ زياد الصلاةَ .
فجاءني عبدُ الله بنُ الصامت ، فألقيتُ له كُرْسياً فجلَس عليه ، فذكرتُ له صنيعَ ابن زياد ، فعضَّ على شفته وضَرَب فخذي ، وقال : إني سألتُ أبا ذر كما سألتَني ، فضَرَب على فخذي كما ضربتُ على فخذك ، وقال : إني سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني ، فضَرَب على فخذي كما ضربتُ على فخذك (3) ، وقال : صَلِّ الصلاة لوقتها ، فإن أدركَتْك الصلاةُ معهم فصَلِّ ، ولا تقل : إني قد صلَّيتُ فلا أصلّي ، فإنها زيادةُ خير)) .
28 ـ إبهامُه صلى الله عليه وسلم الشيءَ لحملِ السامِع
__________
(1) 5 ـ جملة (وعُدَّ نفسَك من أهل القبور) ، وجملة (فإنك يا عبد الله ...) جاءت في رواية الترمذي ، وليست في رواية البخاري .
قال الحافظ ابن حجر : ((وفي الحديث : مَسُّ المعلِّم أعضاء المتعلم عندالتعليم ، والموعوظِ عند المَوعِظةِ ، وذلك للتأنيس والتنبيه ، ولا يُفعَل ذلك غالباً إلاّ بمن يميل إليه . وفيه : مخاطبةُ الواحد وإرادةُ الجمع ، وحرصُ النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لأمته ، والحضُّ على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بُدَّ منه)) .
(2) 6 ـ 5 :15 في كتاب المساجد (باب كراهية تأخيرِ الصلاة عن وقتِها)
(3) 7 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) : قوله : فضرب على فخذي ، أي للتنبيه وجَمْعِ الذهن على ما يقوله)) .(1/146)
على الاستِكشافِ عنه للترغيب فيه أو الزَّجْر عنه (1)
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُبهِمُ الشيءَ ترغيباً فيه لحملِ السامع على الاستِكشافِ عنه فيكونَ أوقعَ في نفسِه وأحَضَّ له على إتيانِه .
114 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (2) : ((كُنّا جُلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يَطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنةِ ، فطلَعَ رجلٌ من الأنصار (3) ،
__________
(1) 8 ـ تقدّم مثال لما كان الإبهام فيه للزجر عنه في ص167 ، في الحديث 105 ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((والله لا يؤمن من لا يَأمَنُ جارُه بوائقه ...)) .
(2) 1 ـ رواه الإمام أحمد في ((المسند)) في (مسند أنس) 3 :166 ، من طريق (عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس ...) .
وهو كذلك في ((المصنَّف)) لعبد الرزاق 11 :287 ، و((الزهد)) لابن المبارك ص241 ، من طريق معمر ، عن الزهري ، عن أنس . واللفظُ عندهم متوافق إلاّ قليلاً .
واللفظ المذكور هنا من ((المسند)) ومن ((الترغيب والترهيب)) للحافظ المنذري عنه ، في (باب الترهيب من الحسد) 5 :178 ، وقال المنذري : ((إسناده على شرط البخاري ومسلم)) .
(3) 2 ـ هو (سعد بن أبي وقّاص) رضي الله عنه ، كما جاء مصرَّحاً باسمه في ((البداية والنهاية)) للحافظ ابن كثير 8 :74 ، في ترجمة (سعد بن أبي وقاص) من طريق ابن وَهْب : ((عن انس بن مالك ، قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يَطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهلِ الجنة ، فطلَعَ سعد بن أبي وقاص ...)) إلى آخر القصة بنحوِ اللفظ المذكور .
وكما جاء مُصرَّحاً باسمه أيضاً في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري 5 :178 ، من رواية البزّار عن أنس بن مالك ، وكذا من رواية البيهقي : ((عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ـ عبد الله بن عمر ـ ، قال : كنا جُلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لَيَطْلُعَنَّ عليكم رجلٌ من هذا الباب من أهل الجنة ، فجاء سعد بن مالك فدخل منه ...)) إلى آخر الحديث المذكور هنا بنحو لفظه . و(سعد بن مالك) هو (سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه .
وروى الإمام أحمد هذا الحديث مختَصَراً في (مسند عبد الله بن عمرو) في ((مسنده)) 2 :222 ، بسندٍ ضعيف ((عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوَّلُ من يَدخُلُ من هذا الباب رجلٌ من أهلِ الجنة ، فدخل سعد بن أبي وقاص)) . ولم يذكر القصة التي في الحديث .
وقال الحافظ الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) 2 :282 في ترجمة (سعد بن أبي وقاص) أيضاً : ((وجاء عبد الله بن عمر ، وأنس ، وعبد الله بن عمرو من وجوهٍ ضعيفةٍ : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أوَّلُ من يَدخُلُ من هذا الباب عليكم رجلٌ من أهل الجنة ، فدخل سعد بن أبي وقاص)) . وذكر الحافظُ الذهبي أيضاً نحوَ هذا في ((سِيَر أعلام النبلاء)) 1 :72 ـ 73 .
و(سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه : مكيٌّ مُهاجِريّ ، وليس من (الأنصار) قولاً واحداً ، فيكون لفظُ (من الأنصار) في رواية ((المسند)) وغيرِه : ((فطَلَعَ رجلٌ من الأنصار ...)) : مَزيداً سَهْواً من بعض الرواة فيما يبدو ، والله أعلم ، وقد خَلَتْ منه روايةُ ابن وَهْب من طريق أنس نَفْسِه ، كما ساقها الحافظ ابن كثير في ((البداية والنهاية)) 8 :74 .
ويحتمل ـ على بعد ـ أن يكون المراد بقوله : (من الأنصار) المعنى الأعم ، لا المعنى الذي في مقابل (المهاجري) ، كما وُجِّهَ ما رُوي في قصة إسلام (عبد الله بن أبي السَّرْح) يوم فتح مكة : فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، ألا أومأتَ إلينا بقتله؟ ... ، قال الزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية)) 2 :371 ((الرجل : عباد بن بشر الأنصاري ، وقيل : عمر ، وتسمية (عمر) أنصارياً بالمعنى الأعم : (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله) )) انتهى .
هذا ، وقد قال الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)) 3 :187 عند هذا الحديث ما نصُّه : ((رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ على شرط الشيخين ، ورواه البزّارُ وسمّى الرجلُ المبهم في روايةٍ له سعداً ، وفيها ابنُ لهيعة)) . انتهى .
وقد تصحَّف (سعد) في نسخةِ العلامة الزَّبيدي من ((تخريج الإحياء)) إلى (سفيان) كما تراه في ((إتحاف السادة المتقين) له 8 :51 ، فلم يتبيَّن له سفيان هذا من هو؟ والواقع أنه (سعد) كما في ((مسند البزار)) (3 :208 كشف) ، وكما في عِدَّةِ نُسَخٍ صحيحةٍ من ((تخريج الإحياء)) .
وقول الحافظ العراقي رحمه الله تعالى : ((وفيها ابنُ لهيعة)) فيه نظر ، فليس في رواية البزار ابن لهيعة ، بل فيها (عبد الله بنُ قيس الرَّقاشي) فاعلمه .
وقع في اسم الصحابي الذي بايَتَ (سعد بن أبي وقاص) تحريفٌ في كثير من الكتب ، فقد وقع في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري 5 :178 ، عند ذكر رواية البيهقي لهذا الحديث هكذا : (فقال عبد الله بن عمر ...) . ووقع مثله تماماً في ((الزواجر)) لابن حجرٍ المكي ، في (الكبيرة الثالثة : الغَضَبُ بالباطل ، والحقدُ والحسد) . وما نقله ابن حجر في كتابه و نصُّ المنذري بحروفه في ((الترغيب)) ولكنه لم يَعْزُه إليه ، فدلَّ على أن التحريف في ((الترغيب)) قديم ، إذ الحادثةُ لا تَحتمِلُ التعدُّد .
ووقع في ((مجمع الزوائد)) للحافظ الهيثمي 8 :78 هكذا : (وعن ابن عمر أن النبي قال ... وتَبِعَه عبد الله بن عمر) . انتهى .
وقد جاء في هذه المواطن كلها تسمية التابعِ المُبايِتِ له بلفظ (عبد الله بن عمر) من غير واوٍ بعد الراء . وهو تحريفٌ مقطوع به . وصوابُه : (عبد الله بن عمرو) بفتح العين في أوَّله ، وبالواو بعد الراء في آخره ، فقد جاء في ((المسند)) للإمام أحمد ، و((المصنَّف)) لعبد الرزاق ، و((الزهد)) لابن المبارك التصريح باسمه : (عبد الله بن عمرو بن العاص) ، ولتصريحِ كُتُبِ ((الأطراف)) بذلك أيضاً .
فقد ذكَرَ الحافظ المِزّيُّ في كتابه ((تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف)) 1 :394 طَرَفاً من الحديث ، من طريق (مَعْمَر بن راشد عن الزُّهري عن انس) كما هي رواية ((المسند)) ، ثم عزاه إلى ((المسند)) وإلى النسائي في ((اليوم والليلة)) ، وقال : ((وفيه قِصّةُ عبد الله بن عمرو بن العاص)) . وأقرَّه عليه الحافظ ابن حجر في ((النُّكَتِ الظِّراف)) . وأفاد أن البيهقي رواه في ((الشُّعَب)) ، ورواه الخرائطي في ((مَكارم الأخلاق)) .
فتبين من هذا أن الذي بايَتَ (سعداً) هو (عبد الله بن عمرو بن العاص) ، لا (عبد الله بن عمر بن الخطاب) رضي الله عنهم ، إذ الحادِثةُ لا تَحْتَمِلُ التعدُّدَ كما أسلفتُه ، والحمد لله على توفيقِه وفضلِه ..(1/147)
تنطُفُ لحيتُه من وَضوئه (1) ، قد علَّق نعلَيْهِ بيده الشِّمال (2) ، فلما كان الغَدُ قال النبي صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذلك ، فطلع ذلك الرجلُ مثلَ المرةِ الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقالتِه أيضاً ، فطلع ذلك الرجلُ مثلِ حالِه الأولى .
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تَبِعَه عبد الله بن عمرو ـ أي تبعَ ذلك الرجل ـ ، فقال : إني لاحَيتُ أبي فأقسمتُ أني لا أدخُل عليه ثلاثاً (3) ، فإن رأيتَ أنْ تُؤوِني إليك حتى تمضي فعلتَ ، قال : نعم .
__________
(1) 3 ـ أي يَقطُرُ منها قطراتٌ من ماء الوضوء . والوَضوء بفتح الواو : الماءُ الذي يتوضأُ به .
(2) 4 ـ أشار بقوله (علَّق نعليه بيدشه الشِّمال) إلى أن الرجل متمثِّلٌ بالسنّة في حَمْلِ الحِذاء ، فهو يحمله باليد اليُسرى كما هي السنة .
(3) 5 ـ قوله : (لاحيت أبي) أي خاصمتُه وجادلتُه في أمرٍ . وإنما احتال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه بهذه الطريقة ليتوصَّل بها إلى الوقوف على عَمَل ذلك الرجلِ الصالِحِ فيَقتَدي به ، وهذا من الحِيَل المشروعةِ التي لا تُناقِضُ مقاصِدَ الشرع . =
= والضابطُ العام في الحِيَل المشروعة أنها ما كان المقصودُ بها إحياءَ حقٍّ ، أو دفع ظلم ، أو فعل واجبٍ ، أو تركَ محرَّمٍ ، أو إحقاقَ حق ، أو إبطال باطل ، أو جَلْبَ محبوبٍ مشروعٍ ، أو دفعَ مكروهٍ ، أو نحو ذلك مما يُحقِّقُ مصلحةً مشروعةٍ ولا يُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم ، ولا يكون فيه تفويتُ حق للخالق أو المخلوق .
وقد أوسعَ بيانَ ذلك بحثاً وتمحيصاً واستدلالاً من الكتابِ والسنةِ وآثارِ السلف الصالح ، شيخُنا العلاّمة الأستاذ محمد عبد الوهاب البُحَيري رحمه الله تعالى في كتابه ((الحِيَل في الشريعة الإسلامية)) ص303 ـ 432 ، فقِفْ عليه إذا شئت .(1/148)
قال أنسٌ فكان عبد الله يُحدِّثُ أنه باتَ معه تلك الثلاثَ اللَّيالي فلم يَرَهُ يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تَعارَّ وتقلَّبَ على فِراشِهِ ذكَرَ الله عز وجل (1) ، وكبَّرَ حتى يقومَ لصلاةِ الفجر .
قال عبد الله : غير أني لم أسمعْهُ يقولُ إلاّ خيراً ، فلما مَضَتْ الثلاثُ اللّيالي ، وكِدْتُ أن أحتقِرَ عملَه قلتُ : يا عبد الله (2) لم يكنْ بيني وبين أبي غَضَبٌ ولا هَجْرٌ ، ولكن سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرّاتٍ : يَطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فطَلَعتَ أنت الثلاثَ المرّات .
فأردتُ أن آوي إليك ، فأنظُر ما عَمَلُك ، فأقتدي بك ، فلم أرك تعمَلُ كثيرَ عملٍ ، فما الذي بَلَغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : ما هو إلاّ ما رأيتَ ، فلما ولَّيتُ دَعاني ، فقال : ما هو إلاّ ما رأيتَ يا ابن أخي غيرَ أني لا أجدُ في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشّاً ، ولا أحسُدُ أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه .
فقال عبدُ الله : هذه التي بَلَغَتْ بك وهي التي لا نُطيقُ)) (3) .
__________
(1) 1 ـ يقال : تَعارَّ فلان : أَرِقَ وتقلَّب في فراشه ليلاً مع كلام وصوت .
(2) 2 ـ ناداه بأعمِّ أسمائِه ، فإن الخلقَ كلُّهم عبدُ الله ، وإلاّ فاسمُه (سعد بن أبي وقاص) كما سبق .
(3) 3 ـ في هذا الحديث : فضلُ سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وشهادةُ النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من أهل الجنة ، وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة ، وفيه حرصُ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه على الاقتداء بالصالحين في أعمالِهم .
وفيه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وترغيبُه في الخير والبِرِّ بالثناء على أهلِهما بإبهامِ الأمر على المخاطَب ، ليقومَ هو بالكشفِ عنه فيكون أوقَعَ في نفسه ، وفيه فضلُ تزكيةِ القلب وطهارتِه من الغِلِّ والحَسَد وأن ذلك من الأعمال التي يَستحِقُّ المرءُ بها الجنةَ .(1/149)
29 ـ إجمالُه صلى الله عليه وسلم الأمر ، ثم تفصيلُه
ليكون أوضحَ وأمكَنَ في الحفظ والفهم
وكان صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يُجمِل الأمرَ في حديثِه لحضِّ المخاطَب على السؤالِ ، وتَشويقِه إلى الاستكشافِ عنه ، ثم يُفصِّلُه ببيانٍ واضحٍ فيكون أوقع في نفس المخاطَب وأمكن في حفظِه وفهمه .
115 ـ روى البخاري ومسلم وابن ماجه ، واللفظ لمسلم (1) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ((مُرَّ بجنازةٍ فأُثنِيَ عليها خيراً (2) ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت . ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شراً ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت (3) .
__________
(1) 4 ـ البخاري 3 :238 في كتاب الجنائز (باب ثناء الناس على الميت) ، و5 :252 في كتاب الشهادات (باب تعديل كم يجوز) ، ومسلم 7 :18 ، وابن ماجه 1 :478 كلاهما في كتاب الجنائز .
(2) 5 ـ قوله هنا : فأُثنِيَ عليها خيراً ، ثم قوله بعد قليل : وأثنِيَ عليها شراً ، هو بالبناء للمجهول فيهما . والثناء يُستعمل في الخير وفي الشر ، فيقال : أثنيتُ عليه خيراً ، وأثنيت عليه شراً ، لأنه بمعنى وصفتُه ، نصَّ عليه جماعة من أئمة اللغة المحققين ، كما بسطه الفيومي في ((المصباح المنير)) في (ثنى) ، وغلَّط من قال : لا يُستعمل الثناء إلاّ في الخير ، وزعم أنه جاء في الحديث مستعملاً في الشر للازدواج والمشاكلة . وأسهب في تغليطه وأجاد .
(3) 6 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :19 ((هكذا جاء هذا الحديث في الأصول : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت ثلاث مرات ، وأنتم شهداء الله في الأرض ثلاث مرات)) . وقال الإمام العيني في ((عمدة القاري)) 8 :195 ((والتكرير في الحديث لتأكيد الكلام ، لئلا يشكّوا فيه)) .(1/150)
قال عمر : فِدىً لك أبي وأمي ، مُرَّ بجنازة فأُثني عليها خيراً ، فقلتَ : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت . ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شراً ، فقلت : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أَثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، ومن أَثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شُهداء الله في الأرض ، أنتم شُهداء الله في الأرض ، أنتم شُهداء الله في الأرض)) (1) .
__________
(1) 7 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (أنتم شُهداء الله في الأرض) ، خطابٌ منه صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم ، ولكن قال العلماء : ليس هذا القولُ الكريم مخصوصاً بهم فحسب ، بل يَدخلُ فيه الصحابة ومن كان صفتهم من المتقين والمتقيات والمؤمنين والمؤمنات .
واختلف العلماء في فهم معنى هذا الحديث الشريف ، قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :19 ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 3 :231 : ((قال بعضهم : معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أَثنى عليه أهلُ الفضل والدين ، وكان مطابقاً للواقع ، فهو من أهل الجنة ، فغن كان غيرَ مطابق فلا ، وكذا عكسُه .
تعالى الناسَ الثناء عليه بخير ، كان دليلاً على أنه من أهل الجنة ، سواء كانت أفعالُه تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة ، فإذا أَلهم الله عز وجل الناسَ الثناءَ عليه بالخير ، استدللنا بذلك على أنه سبحانه قد شاء المغفرة له .
وبهذا تظفر فائدةُ الثناءِ وقولِهِ صلى الله عليه وسلم : ((وجبت ، وأنتم شهداءُ الله في الأرض ...)) . ولو كان لا ينفعه ذلك إلاّ أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء عليه فائدة ، وقد أثبَتَ النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة)) . انتهى .
وفي الحديث من الأمور التعليمية : استحبابُ توكيد الكلام المُهِمّ بتكراره ، ليُحفَظ ، وليكون أبلغ في نفس سامعه . وفيه من أساليب التعليم : الغجمال ثم البيان ليكون أشوق وأوقع في السمع ، فقد أَجملَ صلى الله عليه وسلم في قوله (وجبت) لكل من الجنازتين ، ثم بيَّن أن = = قوله لذي الخير : (وجبت) أي وجبت له الجنة ، وأنَّ قولَه لذي الشر : (وجبت) أي وجبت له النار . والمرادُ بالوجوب هنا : الثبوت ، لتحقق وقوعه . والأصل أنه لا يجب على الله شيء ، بل الثوابُ فضلُه ، والعقاب عدلُه .(1/151)
116 ـ وروى مسلم (1) عن مَعْبَد بن كعب بن مالك ، عن أبي قَتادة بن رِبْعِيّ رضي الله عنه ، أنه كان يُحدِّث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة ، فقال : مُستريحٌ ومُستَراحٌ منه .
قالوا : يا رسول الله ، ما المستريحُ والمُستراحُ منه؟ فقال : العبدُ المؤمِنُ يَستريحُ من نَصَب الدنيا (2) إلى رحمة الله ، والعبدُ الفاجر يستريحُ منه العِبادُ والبلادُ والشجرُ والدوابُّ)) (3) .
ومن الإجمال ثم التفصيل قولُه صلى الله عليه وسلم في التحذير من أَذى الجار :
117 ـ روى البخاري (4) : عن أبي شُرَيح الخُزاعي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((واللهِ لا يؤْمِن! واللهِ لا يؤْمِن! واللهِ لا يؤْمِن! قيل : من يا رسول الله؟ قال : الذي لا يَأمَنُ جارُهُ بَوائِقَه)) (5) .
__________
(1) 1 ـ 7 :20 في كتاب الجنائز (باب ما جاء في مستريح ومستراح منه) .
(2) 2 ـ نَصَبُ الدنيا : تَعَبُها .
(3) 3 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :20 ((معنى الحديث أن الموتى قسمان : مستريح ، ومستراح منه .
وأما استراحةُ العباد من الفاجر ، فمعناه اندفاعُ أذاه عنهم ، وأذاه يكون من وجوه ، منها ظُلمُهُ لهم ، ومنها ارتكابُه للمنكرات ، فإن أنكروها قاسَوْا مشقةً من ذلك ، وربما نالهم ضَررُه ، وإن سكتوا عنه أَثِموا .
واستراحةُ الدوابّ منه كذلك ،، لأنه كان يؤذيها ويَضرِبُها ويُحمِّلُها ما لا تُطيقُه ، ويُجيعها في بعض الأوقات ، وغيرُ ذلك .
واستراحةُ البلاد والشجر ، فقيل : لأنها تُمنع القطرَ بمَعْصِيَتِه ، قاله الداودي وقال الباجي : لأنه يَغْصِبُها ويَمنعُها حقَّها من الشُّرب وغيره)) .
(4) 4 ـ تقدم هذا الحديث الشريف في ص167 برقم 105 ، شاهداً لأسلوب القَسَم منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان ، وأوردته هنا شاهداً لأسلوب الإجمال ثم التفصيل .
(5) 5 ـ أي شُرورَه وأذاياه .(1/152)
ومن هذا الباب أيضاً قولُه صلى الله عليه وسلم في التحذير من التقصير في بِرِّ الوالِدَين :
118 ـ روى مسلم عن أبي هررة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) : ((رَغِمَ أَنْفُه! ثمّ رَغِمَ أَنْفُه! ثمّ رَغِمَ أَنْفُه! قيل : من يا رسول الله؟ قال : مَن أدرَك والِدَيْهِ عند الكِبَرِ أحَدَهما أو كليهما ، ثم لم يَدْخُل الجنّة)) .
30 ـ إجماله صلى الله عليه وسلم للمعدودات ثم تفصيلُها
ومما يقرُبُ من الأسلوب المتقدِّم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَختارُه في التعليم ، من الإجمالِ للمعدودات ثم بيانِها واحداً بعدَ واحدٍ ، لتكون أضبط لدى السامع وأعون له على الحفظِ والفهم .
119 ـ روى الحاكم في ((المستدرك)) (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اغْتَنِمْ خمساً قبلَ خمس : شَبابَك قبل هَرَمِك ، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك ، وغِناكَ قبل فَقْرِك ، وفَراغَك قبل شُغُلِك ، وحَياتَك قبل موتِك)) (3) .
__________
(1) 6 ـ 16 :108 في كتاب البر والصلة (باب رغم أنف من أدرك أبويه ... عند الكبر فلم يدخل الجنة) .
(2) 7 ـ 4 :306 وقال : ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)) .
(3) 8 ـ في الحديث التنبيهُ على أهمِّيّةِ الأمور الخمسةِ المذكورة وعِظمِ نفعها ، وكلٌّ من هذه الأمور الخمسةِ لا يُعرَف قدرُه إلاّ بعدَ زوالِهِ واحتلالِ مُقابِله مَقامَه ، وفي الحديث : ((نعمتان مَغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصحةُ والفراغ)) .(1/153)
120 ـ وروى البخاري ومسلم (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((تُنكَحُ المرأةُ لأربع : لمالِها ولحَسَبِها ، وجمالِها ، ولدينِها ، فاظْفَر بذاتِ الدين ، تَرِبَتْ يداك)) (2) .
31 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالوعظ والتذكير
ومن أهمِّ وأبرزِ أساليبِه صلى الله عليه وسلم في التعليم ، الوعظُ والتذكير ، اقتداءً بالقرآن الكريم ، في قوله : (وذكِّرْ فإن الذِّكرى تَنفَعُ المؤمنين) (3) ، وقولِهِ : (إنّما أنتَ مُذَّكِّر) (4) ، وكثيرٌ من تعليماتِه صلى الله عليه وسلم إنما
أُخِذَتْ منه في مَواعِظِه وخُطبه العامة (5) .
__________
(1) 9 ـ البخاري 9 :132 في كتاب النكاح (باب الأَكْفاء في الدين) ، ومسلم 10 :51 في كتاب الرضاع (باب استحباب نكاح ذات الدين) .
(2) 10 ـ قوله : (تربت يداك) أي لَصِقَتا بالتراب ، وهي كنايةٌ عن الفقر ، وهو خبرٌ بمعنى الدعاء ، لكن لا يُراد به حقيقتُه ، كما في قولهم (وَيْحَكَ) و(وَيْلَكَ) .
قال النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 10 :52 : ((في هذا الحديث الحثُّ على مُصاحَبةِ أهل الدين في كل شيءٍ ، لأن صاحبَهم يَستفيدُ من أخلاقِهم وبركتِهم وحُسنِ طرائِقِهم ، ويأمَنُ المفسدةَ من جِهتِهم)) .
(3) 11 ـ من سورة الذّاريات ، الآية 55 .
(4) 12 ـ من سورة الغاشية ، الآية 21 .
(5) 1 ـ وقد وقفتُ على كلمةٍ علميةٍ مهمةٍ لإمام العصر الشيخ محمد أنور الكشميري ، في إيضاحِ جانب (التذكير) في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيانِ الفرق بين وظيفةِ الواعِظِ المذكِّرِ ووظيفةِ المَعلِّم الفقيه ، وقد أردتُ ذكر تلك الكلمةِ هنا بطولِها لما فيها من الفوائد ، قال رحمه الله تعالى في ((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) 1 :280 ما لفظُه : ((اعلم أنَّ هناك وظيفتين :
الأولى : وظيفةُ الواعظِ والمذكِّر ، فإنه يُحرِّضُ على العمل ويُرغِّب إليه فيختارُ من التعبيرات ما يكون أدعى لها ، ولا يَلتفتُ إلى تحقيق المسألة واستيفاءِ شرائِطها وموانِعها ، بل يُرسلُ الكلامَ فيعِدُ ويوعِدُ ، ويُرغِّبُ ويُرهِّبُ مطلقاً ، ويأمُرُ ويَنهى ولا يَلتفتُ إلى مزيدِ التفاصيل .
والثانيةُ : وظيفةُ المعلِّم والفقيه وهو يُريدُ تلقينَ العلم وبيانَ المسألة ، أما العملُ بها فبمَعزل عن نظره ، فيُحقِّقُ البيانَ ، ويُدقِّقُ الكلامَ ، ويَستوفي الشروطَ ويختارُ من التعبيرات ما لا يكون مُوْهِماً بخلاف المقصود ، بل يكون أدلَّ عليه وأقربَ إليه ، فلا يُرسِلُ الكلامَ بل يذكُرُه بشرائطِه ، ويَعِدُ ويوعِدُ ويُرغِّبُ ويُرهِّبُ بشرائطِه .
فهاتان وظيفتان ، ومَنصِبُ الشارع منصِبُ المُذكِّر ، قال الله تعالى : (إنما انتَ مُذَّكِّر لستَ عليهم بمسيطر) ، وليس له مَنصِبُ المعلِّم فقط فهو مُذَّكرٌ ومعلِّم معاً ، فوَجَب أن يُعبِّر بما هو أدعى للعمل وأبعدُ عمّا يوجِب الكَسَلَ .
وهذا هو التعليم الفطري ، فإن أكثرَ تعليماتِه صلى الله عليه وسلم مستفادٌ من عمله ، فما أَمَر به الناسَ عَمِل به أولاً ثم تَعلَّم منه الناسُ ، ولذا لم يَحتاجوا إلى التعليم والتعلُّم ، ولو كان طريقُه كما في زماننا لَما شاع الدينُ إلى الأبد ، ولكنَّه علَّم الناس بعمله .
ثم إذا قال لهم أمراً اختار فيه الطريق الفِطري أيضاً ، وهو الامرُ بالمطلوب والنهيُّ عن المكروهِ ، ولم يَبحَثْ عن مراتِبه ، قال الله تعالى : (وما آتاكم الرسولُ فخُذوه وما نَهاكم عنه فانتهوا) ، فهذا هو السبيلُ الأقوم .
أما البحثُ عن المراتب فهو طريقٌ مُستحدَث سَلَكه العلماءُ لفساد الزمان ، وأما الصحابةُ رضي الله عنهم فإنهم إذا أُمِروا بشيءٍ أخذوه بجميع مَراتِبه ، وإذا عنه تركوه بالكلية ، فلم تكن لهم حاجةٌ إلى البحث .
ولو كان الشارعُ تعرَّض إلى المراتبِ لفاته منصبُ المُذكِّر ولانعدم العملُ ، فإنه إذا جاء البحثُ والجدال لبطل العمل ، مثلاً لو قال تعالى : ((فاعتزلوا النساءَ عن مَوضِع الطَّمْث ، ولا تَقربوه فقط ، واستَمتِعوا بسائرِ الأعضاء)) ، لربما وقَعَ الناسُ في الحرام ، لان من يَرتَع حول الحِمى يوشِكُ أن يَقَع فيه ، وإنما أخَذَ الاعتزالَ في التعبير ليكون أسهلَ لهم في العمل ، ولا يَقَعوا في المعصية .
وكذلك إذا أحب أمراً أمَرَ به مطلقاً ، ليأتمر به الناسُ بجميع مراتبه ، ويَقَع في حيز مرضاةِ الله تعالى ، مثلاً قال : ((من تركَ الصلاةَ فقد كفَر)) ، ولم يقل : فَعَل فِعلَ الكفر ، أو مُستَحِلاًّ ، أو قارَبَ الكفرُ ، مع أنه كان أسهلَ في بادىء النظر ، لأنه لو قال كذلك لفات غرضُه من التشديد ولانعدم العملُ ، ولذا كان السلفُ يَكرهون تأويلَه .
فالحاصلُ أنه إذا أمَرَنا بشيءٍ فكأنه يُريدُ العَمَل به بأقصى ما يمكن ، بحيث لا تبقى مرتبةٌ من مراتِبه متروكةً ، وكذلك في جانب النهي ، ولذا كان يقولُ عند البيعة : ((فيما استطعتم)) فبذلُ الجهد والاستِطاعة لا يكون إلاّ إذا أُجمِلُ الكلامُ ، وإذا فُصِّل يحدث التهاوُن ، كما هو مشاهد في عمل العوام وعامةِ العلماء الذين مالهم وجاهة عند الله وقبولٌ في جنابِه ، فهم ليسوا من الذين لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله)) .(1/154)
121 ـ روى أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (1) ، والسياق لأبي داود ، عن عبد الرحمن بن عمرو السُلمي وحُجْر بن حُجر ، قالا : أتينا العِرباضَ بن سارية ، فسَلَّمنا وقلنا : أتيناك زائرين وعائدين ومُقْتَبِسين ، فقال العِرْباضُ : ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم ، ثم أقبَلَ علينا فوَعَظَنا مَوعِظةً بليغةً ، ذَرَفَتْ منها العيونُ ، ووَجِلت منها القلوبُ .
فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظةُ مُودِّع؟ فما تَعهَدُ إلينا؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعةِ وإن عَبْداً حبشياً ، فإنه من يعِش منكم بعدي فسَيَرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين ، تمسَّكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجِذ ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور! فإن كلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ)) .
122 ـ وروى مسلم والنسائي وابن ماجه ، واللفظ لمسلم (2) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما ، قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خَطَب احمرَّتْ عيناه ، وعلا صوتُه ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذِرُ جيش يقول : صبَّحكم مسّاكم .
ويقول : بُعِثتُ انا والسّاعةَ كهاتين ، ويَقْرُن بين إصبعيه : السَّبّابةِ والوُسْطى .
ويقول : أما بعد ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُها ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة .
ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمنٍ من نفسِه ، من ترَكَ مالاً فلأهله ، ومن تَرَك دَيْناً ، أو ضَياعاً : فإليَّ وعليّ)) .
__________
(1) 2 ـ أبو داود 4 :280 ـ 281 في كتاب السنة ، والترمذي 4 :150 في كتاب العلم ، وقال : ((هذا حديثٌ حسن صحيح)) ، وابن ماجه 1 :15 ، في المقدِّمة (باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين) .
(2) 3 ـ مسلم 6 :153 ـ 156 في الجمعة ، والنسائي 3 :188 في العيدين ، وابن ماجه 1 :17 في المقدِّمة (باب اجتناب البدع والجدل) .(1/155)
32 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالترغيب والترهيب
ومن أجلى أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم الترغيبُ في الخير الذي يدعو إليه ، والترهيبُ عن الشرِّ الذي يُحذِّر منه ، فكان صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في الخير بذكر ثوابِه والتنبيه على مَنافِعِه، ويُرهِّبُ عن الشرِّ بذكرِ عقابِه والتنبيه على مساويه .
وكان يَجمَع في أحاديثه بين الترغيب حيناً والترهيب حيناً آخر ، وما كان يَقتَصِرُ على الترهيب فيُؤدّي إلى التنفير ، ولا على الترغيب فيؤدي إلى الكَسَل وترك العمل .
وقد جَمَع أئمةُ الحديث رضوانُ الله تعالى عليهم (أحاديثَ الترغيب والترهيب) من السنة النبوية الشريفة ، في كُتُبٍ مستقلةٍ ، وأوفى تلك الكُتُب جمعاً لأحاديث هذا الصنف ، وأكثرُها فائدةً ، وأقربُها منالاً : كتابُ ((الترغيب والترهيب من الحديث الشريف)) للإمام الحافظ أبي محمد زكي الدين عبد العظيم المُنذِري رحمه الله تعالى ، وهو مطبوع متداول .
وقد سبقَتْ في الأساليب السابقة أحاديثُ كثيرة من باب الترغيب والترهيب فاكتفيتُ بها عن ذكرِ أمثلةٍ أخرى لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب والترهيب .
33 ـ تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالقَصَصِ وأخبار الماضين
وكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَه بطريق القَصَصِ والوقائع التي يُحدِّثُهم بها عن الأقوام الماضين ، فيكونُ لها في نفوسِ سامعيها أطيبُ الأثر ، وأفضلُ التوجيه ، وتَحْظى منهم بأوفى النشاطِ والانتباه ، وتقَعُ على القلبِ والسَّمع أطيب ما تكون ، إذ لا يُواجَهُ فيها المخاطَبُ بأمْرٍ أو نَهْي ، وإنما هو الحديثُ عن غيره ، فتكونُ له منه العِبْرةُ والموعظةُ والقُدوةُ والائتساء . وقد سنَّ الله تعالى هذا الأسلوبَ الكريم في تعليمه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فقال سبحانه : (وكُلاًّ نقُصُّ عليك مِن أنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ به فُؤادَكَ) .(1/156)
ومن ذلك حَديثُه صلى الله عليه وسلم في الترغيبِ في الحُبِّ في الله ، والمؤاخاةِ الخالِصَةِ للخيرِ والدّين .
123 ـ روى مسلم (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنَّ رجلاً زار أخاً له في قريَةٍ أخرى ، فأرصَدَ الله له على مَدْرَجَتِه مَلَكاً (2) ، فلما أتى عليه قال (3) : أين تريد؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نِعمةٍ تَرُبّثها (4) ؟ قال : لا ، غير أني أحببتُه في الله عز وجل ، قال : فإني رسول الله إليك ، بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه)) .
ومن تعليمه صلى الله عليه وسلم بطريق القصص والوقائع الماضية أيضاً : حديثُه في الحضِّ على الرحمةِ بالحيوان والإحسان إليه ، والتحذيرِ من أذاه والإساءةِ إليه .
__________
(1) 1 ـ 16 :124 في كتاب البر والصلة (باب فضل الحب في الله تعالى) .
(2) 2 ـ المدرجة : الطريق . وأرصده : أقعَدَه يرقُبُه ، والملَكُ الذي أرصده الله تعالى على طريق الرجل الزائر لأخيه في الله تعالى ، كان في صورة إنسان عاديّ ، لا في صورتِهِ على خِلْقتِهِ الحقيقيّة .
(3) 3 ـ أي الملَكُ للزائر المسافِرِ لزيارة أخيه في بلدٍ آخر .
(4) 4 ـ أي تقومُ بإصلاحها وتُسافِرُ إليه بسببها ، وتزورُهُ من أجلها .(1/157)
124 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش ، فوجَدَ بِئراً فنزَلَ فيها ، فشَرِب ثم خَرَج ، فإذا كلبٌ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرى من العطش (2) ، فقال الرجل : لقد بلَغَ هذا الكلب من العطش مثلُ الذي كان بلغَ مني! فنزل البئرَ فملأ خُفَّه ماءً ، ثم أمسك بفيه حتى رَقِيَ فسقى الكلب (3) ، فشكر اللهُ له فغفر له .
قالوا : يا رسول الله ، وإنَّ لنا في البهائم لأجراً؟ فقال : في كل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْر)) (4) . يعني : في الإحسان إلى كل ذي روحٍ وحياةٍ أجر .
125 ـ وروى البخاري ومسلم (5) ، واللفظ منهما ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بينما كلبٌ يُطيفُ ببئرٍ قد كان يَقتُله العطشُ ، إذ رأته بَغِيٌّ من بَغايا بني إسرائيل ، فنزعَتْ خُفَّها فأوثَقَتْهُ بخِمارِها ، فنزعَتْ له من الماء ، فسَقَتْه إياه ، فغُفِر لها بذلك)) .
__________
(1) 5 ـ البخاري 10 :366 في كتاب الأدب (باب رحمة الناس والبهائم) ، ومسلم 14 :241 في كتاب السلام (باب فضل سقي البهائم المحرمة وإطعامها) .
(2) 6 ـ الثرى : التراب النَّدِيّ . ومعنى (يأكلُ الثرى) أي يَلْحَسُ الثرى بلسانه من شدة العطش ، ليتبرَّد بطراوته ونداوته .
(3) 7 ـ أمسكه بفيه أي بفمه . وذلك لأنَّ يدَيْه مشغولتان بصُعودِه من البئر!
(4) 8 ـ أي في كل كبدٍ حيَّةٍ . والمرادُ بالرطوبة في الكبد : رُطوبةُ الحياة فيها ، وهي لازمةٌ لكبد الإنسان أو الحيوان ما دام حياً ، والمعنى : في الإحسان إلى كل ذي حياة ـ حيواناً كان أو إنساناً ـ أجْر .
(5) 9 ـ البخاري 6 :256 في آخر كتاب بدء الخلق ، ومسلم 14 :242 في الموضع السابق .(1/158)
126 ـ وروى البخاري ومسلم (1) ، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((عُذِّبَتْ امرأةٌ في هِرَّة ربَطَتْها حتى ماتتْ (2) ، فدخَلَتْ فيها النار ، لا هي أطعمتها ، ولا هي
تركتها تأكُلُ من خَشاشِ الأرض)) (3) .
127 ـ وروى البخاري ومسلم (4) ، واللفظ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لم يتكلَّم في المَهْدِ إلاّ ثلاثة (5) :
1 ـ عيسى بنُ مريم .
2 ـ وصاحبُ جُرَيج (6) ، وكان جريجٌ رجلاً عابداً ، فاتَّخَذَ صَوْمَعة فكان فيها (7) ، فأتَتْهُ أُمُّه وهو يُصلّي فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربّ أمّي وصلاتي (8) ، فأقبل على صلاتِه ، فانصرفَتْ!
__________
(1) 10 ـ البخاري 6 :380 في آخر كتاب أحاديث الأنبياء ، ومسلم 14 :240 في الموضع السابق .
(2) 11 ـ وفي رواية : سجنَتْها .
(3) 1 ـ أي هَوامِّها وحشراتِها من فأرةٍ ونحوها من الحيوانات الصغيرة .
(4) 2 ـ سبَقَ العزوُ إليهما في ص122 برقم 67 .
(5) 3 ـ ذكر الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :344 أن هناك غيرَ هؤلاء الثلاثة تكلَّموا في المهد ، كما جاء ذلك في السنّة الثابتة ، وأشار إلى وجهِ التوفيق بين ظاهرِ هذا الحَصْر في الحديث والأحاديث الأخرى ، فراجعه إذا شئت .
(6) 4 ـ أي الغلامُ الذي اتُّهِمَ به جريج .
(7) 5 ـ الصومعة : البناء المرتفع المحدَّد أعلاه . مأخوذة من صَمَعْتُ إذا دَققتُ ، لأنها دقيقة الرأس .
(8) 6 ـ أي اجتمع عليَّ إجابةُ أمي وإتمام صلاتي ، فوفِّقْني لأفضلهما . قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :345 : ((وكلُّ ذلك قاله ـ أي في المرات الثلاث من مُناداةِ أُمِّه حال صلاتِه ـ محمولٌ على أنه قالَهُ في نَفْسِه ، لا أنه نَطَق به ، ويُحتمَلُ أن يكون نَطَق به على ظاهره ، لأن الكلام كان مُباحاً عندهم ، وكذلك كان في صدر الإسلام)) .(1/159)
فلما كان من الغَدِ أتتْهُ وهو يُصلّي ، فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فانصرفت !
فلما كان من الغَدِ أتتْهُ وهو يُصلّي ، فقالت : يا جريج ، فقال : أيْ ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فقالت : اللهمَّ لا تُمِتْهُ حتى يَنْظُرَ إلى وجوهِ المُوْمِسات (1) !
فتذاكَرَ بنو إسرائيل جريجاً وعبادتَه ، وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ يُتَمثَّلُ بحُسْنِها ، فقالت : إن شئتم لأفتِننَّهُ لكم ، قال : فتعرَّضَتْ له فلم يَلتفِت إليها ، فأتَتْ راعِياً كان يأوي إلى صوْمَعَتِه ، فأمكَنَتْه من نفسِها فوقَعَ عليها فحَمَلَتْ .
__________
(1) 7 ـ المومسات : الزَّواني المتجاهِراتُ بذلك . وفي رواية ثانية عند مسلم 16 :105 .
فقالت : اللهم إنَّ هذا جريج وهو ابني ، وإني كلَّمتُه فأبى أن يُكلذِمني ، اللهم فلا تُمِتْهُ حتى تُريَه وجوه المومسات ، قال : ولو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لفُتِن!)) . أي لفتن بالزنى أو القتل! ولكن كانت رفيقةً رحيمةً به ، فكانت دَعْوَتُها أن تكون عُقوبتَهُ رؤيةَ وجوهِ الزَّواني فقط ، وما أشدَّها من عقوبة على قلوبِ العابدين الصالحين ، نسألُ الله السلامةَ والعافية .(1/160)
فلما ولدَتْ قالت : هو جريج ، فأتَوْه ، فاستَنزلوه ، وهَدَموا صوْمعتَه ، وجعلوا يضربونه (1) ، فقال : ما شأنُكم؟ قالوا : زَنَيْتَ بهذه البَغِيَّ فولَدَتْ منك (2) ! فقال : أين الصَّبيّ؟ فجاؤا به ، فقال : دَعوني حتى أُصلّي ، فصلّى (3) ، فلما انصرَفَ أتى الصبيَّ فطَعَنَ في بَطْنِه (4) ، وقال : يا غُلام من أبوك؟ قال : فُلانٌ الراعي .
قال فأقبلوا على جريج يُقبِّلونَه ويتمسَّحون به وقالوا : نَبْني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا (5) .
__________
(1) 8 ـ جاء في رواية : ((وجعَلوا يَطوفون به في الناس ، ويقولون : مُراءٍ تُخادِعُ الناس بعَمَلِك ، فلما مَرّوا به نحو بيت الزَّواني خَرَجْنَ يَنْظُرْنَ ، فتبسَّم! فقالوا : لم يَضْحَكْ حتى مرَّ بالزَّواني!)) وسيأتي بيانُ جريج سبب ضحكه في التعليقة الرابعة .
(2) 9 ـ وكان في حُكمهم أنَّ من زنى قُتِل .
(3) 10 ـ وقد صلى ركعتين ، وكانت الصلاةُ مشروعة عندهم .
(4) 11 ـ في روايةٍ ثانية عند مسلم 16 :106 ((ثم مَسَحَ رأس الصبي فقال : من أبوك؟)) .
(5) 12 ـ جاء في رواية : ((فرجَعَ في صومعته ، فقالوا له : باللهِ مِمَّ ضَحِكت؟ فقال : ما ضحكتُ إلاّ من دَعْوةٍ دَعَتْها عليَّ أُمّي )) . أي أنه تذكَّرَ أن هذه العُقوبة بسبب تلك المعصية!
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :347 و3 :63 ، ((وفي الحديث إثارُ إجابةِ الأمّ على صلاة التطوُّع ، لأنَّ الاستمرار فيها : نافلة ، وإجابَةَ الأم وبِرِّها : واجبٌ . وفي حديث يَزيد بن حَوشَب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لو كان جريج فقيهاً ـ وفي رواية : عالِماً ـ لعلِمَ أنَّ إجابة أُمِّه أولى من عبادة ربه)) أخرجه الحسن بن سفيان . و(يزيد) والد حَوْشَب : مجهول )) .(1/161)
3 ـ وبَيْنا صبيٌّ يرضع من أمه ، فمرَّ رجلٌ راكبٌ على دابّة فارِهة (1) ، وشارَةٍ حسنة (2) ، فقالت أمُّه : اللهمَّ اجعل ابني مِثلَ هذا، فتَرَك ثَدْيَها وأقبَلَ إليه، فنظر إليه فقال : اللهمَّ لا تَجعلْني مِثلَه ، ثم أقبَلَ على ثَدْيه فجعلَ يرتَضِع ، قال : فكأني أَنظُرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتِضاعَهُ بإصبعه السبّابة في فمه ، فجعل يَمَصُّها .
قال : ومرّوا بجاريةٍ وهم يَضْرِبونَها ، ويقولون : زَنَيتِ سَرَقْتِ ، وهي تقول : حَسْبِيَ اللهُ ونعم الوكيل ، فقالتْ أُمُّه : اللهمَّ لا تَجعَلْ ابني مِثلَ هذه ، فتَرَك الرَّضاعَ ونظَرَ إليها فقال : اللهمَّ اجعلْني مِثلَها .
فهناك تراجَعا الحديث (3) ، فقالت : حَلْقى (4) ! مرَّ رجلٌ حسَنُ الهيئةِ فقلتُ : اللهم لا تجعلني مِثلَه ، ومرّوا بهذه الأمةِ
وهم يضرِبونَها ويقولون : زَنَيتِ سَرَقْتِ ، فقلتُ : اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فقلتَ : اللهم اجعلني مثلها؟
قال : إنَّ ذاك الرجل كان جبّاراً! فقلتْ : اللهم لا تجعلني مثله ، وإنَّ هذه يقولون لها : زنيتِ ولم تزْنِ ، وسرقتِ ولم تسرِق ، فقلت : اللهم اجعلني مثلها)) (5) .
وفي هذا القَصَصِ الحقِّ ، والخيرِ اليقينِ من التوجيه ، ترغيباً وترهيباً ، وتنفيراً وتحذيراً ، ما هو غَنِيٌّ عن الشرح والبيان .
__________
(1) 13 ـ أي نشيطة قوية .
(2) 14 ـ أي هيئةٍ حسنة وملبَسٍ حسن ، يُتعجَّبُ منه ويُشارُ إليه لحُسنه وجماله .
(3) 15 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 16 :107 ((قوله (تراجعا الحديث) ، أي أقبلَتْ الأم على الرضيع تحدثه ، وكانت أولاً لا تراه أهلاً للكلام ، فلما تكرَّر منه الكلام ، علمَتْ أنه أهل ، فسألتْه وراجَعْته)) .
(4) 16 ـ أي عجباً لكَ؟!
(5) 1 ـ أي سالماً من المعاصي كما هي سالمة منها ، وليس المراد : اجعلني مِثلَها في النسبة إلى باطلٍ أكونُ منه بريئاً .(1/162)
34 ـ تمهيده صلى الله عليه وسلم التمهيدَ اللطيف
عند تعليم ما قد يُستَحيا منه
وكان صلى الله عليه وسلم تارةً يُمهِّدُ التمهيدَ اللطيفَ الرقيقَ ، إذا شاء أن يُعلِّم أصحابَه ما قد يُستَحيا من التصريح به :
128 ـ روى مسلم مختصراً وأبو داود والنسائي وابن ماجه تامّاً ـ واللفظ لابن ماجه (1) ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنما أنا لكم مثلُ الوالِدِ لولدِهِ أُعلِّمُكم ، إذا أتيتم الغائط (2) ، فلا تستقبلوا القِبلة (3) ، ولا تَستَدْبِروها (4) ، وأمرَ بثلاثةِ أحجار (5) ، ونهى عن الرَّوْث (6) ، والرِّمّة (7) ، ونهى أن يَستطيبَ الرجلُ بيمينه)) (8) .
__________
(1) 2 ـ مسلم 3 :153 ، أبو داود 1 :30 ، النسائي 1 :38 ، ابن ماجه 1 :114 في كتاب الطهارة (باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرِّمّة) .
(2) 3 ـ الغائط هنا على أصل معناه اللغوي ، وهو المكانُ المنخفِضُ من الفضاء والعراء ، وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة فيه ، بغيةَ السَّتْر بارتفاع ما حوله ، وذلك قبل أن تُتخَذَ المراحيضُ في المنازل والبيوت . ثم أطلِق لفظ (الغائط) على الخارج نفسه من الإنسان ، تجوُّزاً ، وهذا غيرُ مراد هنا .
(3) 4 ـ المراد بالقِبلة : الكعبةُ المعظمة . وأراد جهتها ، ولذلك عبَّر بلفظ (القِبلة) . والنهي يشمل قضاء الحاجة ببول أو غائط .
(4) 5 ـ أي لا تستدبروا الكعبة المعظمة عند قضاء الحاجة .
(5) 6 ـ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من يستنجي بالحجر ، أن يستنجي بثلاثة أحجار ، لأن النَّقاء يحصل بها غالباً . والاستنجاءُ بالماء لمن يجده أفضل .
(6) 7 ـ الرَّوْث هو خُرءُ ذوات الحوافر كالبقرة والفرس والغنمة . والاستنجاءُ به إنما يتصوَّر عند يُبْسِه ، بدلاً من الحجر ، وإنما نهى عنه لأنه النجاسة بعينها .
(7) 8 ـ الرِّمّة : العَظْمُ البالي . والمراد هنا مطلق العظم .
(8) 9 ـ الاستطابة : الاستنجاء ..يقال : استطاب الرجلُ يستطيبُ فهو مستطيب إذا استنجى ، ومعنى الطيب هنا الطهارة . وذكرُ (الرَّجُل) في قول أبي هريرة رضي الله عنه : (ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه) لفظ اتفاقي ، إذ المرأة مثله . وهذا النهي إنما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم رعايةً منه للنظام العام الذي رَسَمه الإسلامُ في أعمال اليدين : فكلُّ عمل رفيع يكون باليد اليمنى ، وكلّث عمل وضيع يكون باليد اليسرى .
وفي هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية : تواضعُ المعلِّم الأول صلى الله عليه وسلم ، وكمالُ شفقته على المتعلمين ، وجميلُ تلطفه بهم لتعليمهم ما يُستحيا منه ، وتعليمُه لهم التزامَ النظام في تصرفاتهم وشؤونهم وأمور نظافتهم .
ولفظُ الحديث من رواية أبي داود هكذا : ((إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدُكم الغائط ، فلا يستقبِل القِبلة ، ولا يستدبِرْها ، ولا يستطِبْ بيمينه . وكان يَأمُرُ بثلاثة أحجار ، وينهى عن الرَّوث والرُّمّة)) .
وقد أجاد العلاّمة المُناوي في ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) 2 :570 ، في شرح هذا الحديث الشريف أيَّما إجادة ، فأنا أنقل لك كلامه بطوله لنفاسته واحتوائه المعاني الرائعة ، فقال رحمه الله تعالى ما خلاصته :
((قوله صلى الله عليه وسلم : إنما أنا لكم ، أي لأجلكم ما أنا لكم إلاّ مثلُ الوالد وبمنزلةِ الوالد ، في الشفقة والحُنُوّ ، لا في الرُّتْبة والعُلُوّ ، وفي تعليم ما لا بُدَّ منه ، فكما يُعلِّمُ الأبُ ولدَه الأدب ، فأنا أُعلِّمُكم ما لكم وما عليكم . وأبو الإفادة أقوى من أبي الوِلادة ، وهو الذي أنقَذَنا الله به من ظلمة الجهل ، إلى نور الإيمان . وقدَّم صلى الله عليه وسلم هذه المقدِّمة أمام المقصود :
إعلاماً بانه يجب عليه تعليمُهم أمرض دينهم ، كما يَلزم الوالد تعليمُ ولده ما يَحتاج إليها مطلقاً ، ولا يُبالي بما يُستحيا من ذكره ، فهذا تمهيد منه صلى الله عليه وسلم لما بيَّنه لهم من آداب قضاءِ الحاجة ، وهي من الأمور التي يُستحيى من ذكرها ، ولا سيما في مجالس العظماء .
وإيناساً منه صلى الله عليه وسلم للمخاطَبين ، لئلا يحتشموا عن السؤال عما يَعرِضُ لهم ، مما يُستحيى منه .
وبَسْطاً للعُذْرِ عن التصريح بقوله : (فإذا أتى أحدُكم الغائط) أي محلِّ قضاء الحاجة ، (فلا يَستقبلْ القِبلة) بفَرْجِه والخارج منه ، (ولا يَستدبِرْها) ببول ولا غائط وجوباً في الصحراء وندباً في غيرها ، (ولا يستطب بيمينه) أي لا يستنجِ بها بغَسْلٍ أو مَسْح ، فيُكرَهُ ذلك تنزيهاً ، وقيل تحريماً . وسُمّي هذا الفعلُ بالاستطابة لِطيب الموضع بطهارته من النجاسة ، أو لطيب نفس المستطيب بإزالة النجاسة .
وقد أفاد الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأُمّةِ كالأب ، وكذا أزواجُه أُمَّهاتُ المؤمنين ، لأنَّ منه ومن أزواجه تعلَّمَ الذكورُ والإناثُ معانيَ الدين كلِّه ، ولم يتولَّد خيرٌ إلاّ منه ومنهن ، فبِرُّه وبِرُّهنَّ أوجَبُ من كل واجب ، وعقوقُه وعقوقُهن أهلَك من كل مُهلِك .
قال ابن الحاج في كتابه ((المَدْخَل)) : أُمّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة أولادُه ، لأنه السببُ للإنعام عليهم بالحياةِ السَّرْمَدِيّة ، والخلود في دار النعيم فحقُّهُ أعظَمُ من حقوق الوالدين . قال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه : ((ابدَأْ بنفسِك ثم بمن تَعول)) ، فأفادَهُ تقديمَ نفسه على غيره والله سبحانه قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على نفس كل مؤمن فقال : (النبيُّ أولى بالمؤمنين من =
= أنفسهم) ، ومعناه إذا تعارَض للمؤمن حقّان حقٌّ لنفسه وحقٌّ لنبيه ، فآكدُهما وأوجبُهما حقُّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يَجعلُ حقَّ نفسه تبعاً للحق الأوَّل .
وإذا تأمَّلتَ الأمرَ في الشاهد أي الواقع ، وجدتَ نفع المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظمَ من نفع الآباء والأمَّهات ، وجميعِ الخلق ، فإنه أنقَذَك وأنقذ آباءك من النار ، وغاية أمرِ أبويك أنهما أوجداك في الحِسّ ، فكانا سبباً لإخراجك إلى دار التكليف والبلاء والمِحَن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً لنجاتك ودخولك إلى دار التشريف والمِنَح ، فجزى الله عنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهلُه)) . انتهى بزيادة يسيرة وتصرف يسير .
ومن أجلِ هذا المعنى العظيم الذي تقدَّم في كلام ابن الحاج رحمه الله تعالى ، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في ((إحياء علوم الدين)) 1 :55 ، وهو يتحدَّثُ عن عِظَم مسؤولية المعلِّم نحو المتعلِّمين منه ، ولزومِ شفقتِه عليهم ـ في الوظيفة الأولى من وظائف المعلِّم ، في الباب الخامس من آداب المتعلم والمعلِّم ـ : ((ولذلك صار حقُّ المعلِّم أعظمَ من حق الوالدين ، فإن الوالد سبَبُ الوجود الحاضر والحياة الفانية ، والمعلِّم سبب الحياة الباقية ، ولولا المعلِّم لانساق ما حصل من جهة الوالدين إلى الهلاك الدائم ، وإنما المعلِّم هو المُفيدُ للحياة الأخروية الدائمة ، أعني معلِّمَ علوم الآخرة ، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة ، لا على قصد الدنيا . فأما التعليمُ على قصد الدنيا ـ أي على قصد تحصيل حُطام الدنيا ، والتمكن في زينتها ، والتفاخر بها في الملابس والمآكل والمراكب ـ فهو هلاك وإهلاك ، نعوذ بالله منه)) . انتهى .
ومعذرةً من إطالتي هذه التعليقة ، فقد اقتضاني ذلك ما تضمَّنَتْه من نفائس العلم الرفيع ، أكرمني الله وإياك بالعلم والعمل والتقدير المستحقّ علينا مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/163)
35 ـ اكتفاؤه صلى الله عليه وسلم بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يكتفي بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه .
129 ـ روى البخاري ومسلم (1) ، واللفظ له ، عن عائشة رضي الله عنها : ((أنَّ أسماء بِنْتَ شَكَل ، سألَتْ النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسْلِ المَحيض (2) ؟ فقال : تأخُذُ إحْداكُنَّ ماءها وسِدْرَتَها (3) فتَطَهَّرُ ، فتُحسن الطُّهور ،ثم تصُبُّ على رأسها ، فتَدْلُكُه دلْكاً شديداً حتى تبْلُغَ شؤونَ رأسِها (4) ، ثم تصُبُّ عليها الماء ، ثم تأخذ فِرْصةً مُمَسَّكَةً فتطهَّرُ بها (5) .
__________
(1) 1 ـ البخاري 1 :353 و354 في كتاب الحيض (باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض) ، ، ومسلم 4 :15 في كتاب الحيض أيضاً .
(2) 2 ـ أي عن الغُسْلِ بعد انتهاء الحَيْض .
(3) 3 ـ السِّدْرة : واحدةُ ورق السِّدر ، وهو شجرٌ معروف ينبُت في الأرياف والجبال والرَّمْل ، ويُسْتَنْبَتُ فيكون أعظمَ ورقاً وثمراً . وثمرةُ الرّيفيِّ منه طيذِبةُ الرائحة ، وورقُه يَقلَعُ الأوساخ ويُنقّي البشرة ويُنعِّمُها ، ويشُدُّ الشعر . وإذا أُطلِقَ (السِّدر) في (باب الغُسل) فالمراد به الورق المطحون منه . أفاده الفيومي في ((المصباح المنير)) والحكيم داود الأنطاكي في ((تذكرته)) .
(4) 4 ـ شؤون الرأس : مَواصِلُ قبائل قُرون الشعر ومُلتَقاه . والمراد : طلبُ إيصال الماء إلى منابت الشعر ، مُبالغة في الغسل والنظافة .
(5) 5 ـ الفِرْصة بكسر الفاء : قِطعة من القُطن أو نحوه . و(مُمَسَّكةً) أي مُطيَّبةً بالمِسْك وهو من أفضل أنواع الطيب : أي تأخُذُ قطعة قطنٍ أو نحوِه مطيَّبةً تتطيَّبُ بها في موضع خروج الدم ، لدفع الرائحة الكريهة .
وهذا الفعل من المرأة أمرٌ مستحبٌّ شرعاً ، أخذاً من هذا الحديث الشريف .(1/164)
فقالت أسماء : وكيف تطهَّرُ بها؟ قال : سبحان الله تطهَّرين بها (1) .
فقالت عائشة ـ وكأنها تُخفي ذلك (2) ـ : تتبَّعي أثر الدم (3) .
وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال : تأخذ ماء فتطهَّرُ فتُحسِنُ الطُّهور ، أو تُبلِغُ الطُّهور ، ثم تَصُبّث على رأسها فتدْلُكُه حتى تبلُغ شؤون رأسها ، ثم تُفيض عليها الماء (4) .
فقالت عائشة : نِعْمَ النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ في الدين)) (5) .
__________
(1) 6 ـ لم يُفصِح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تتطهَّرُ بتلك القِطعة الممسَّكة ، إذْ كان موضع ذلك مما يُستحيا من ذكره ، واكتفى بالتسبيح إيذاناً أن ذلك ينبغي أن يكون معلوماً لديها من أمثالِها من النساء .
(2) 7 ـ معناه : قالت لها عائشة كلاماً خَفِيّاً تَسمعُهُ المخاطَبة وحدها ، ولا يسمعه الحاضرون في المجلس . وجملة (كأنها تُخفي ذلك) مُدرجةٌ من كلام الراوي في الحديث ، وليست من كلام عائشة رضي الله عنها .
(3) 8 ـ أي موضعه الذي يخرُج منه ، فادلُكيه بتلك القُطنة المطيَّبةِ الممسَّكة ، لتزول الرائحة المُنفِّرة من بقايا الحيض .
(4) 9 ـ أرشدها صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف إلى أن الغسل من الحيض ، يزيد على غُسل الجنابة ، باستحباب وضع السِّدر في مائه ، ثم بتطييب موضع الدم بعد الفراغ من الاغتسال منه .
(5) 10 ـ في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية الشيءُ الكثير :
التسبيحُ من المعلِّم عند التعجُّب . ومعناه هنا : كيف يخفى عليكِ هذا الظاهرُ الذي لا يُحتاجُ في فهمه إلى فكر .
واستحبابُ الكنايات عند تعليم ما يتعلَّق بالعَوْرات .
وسؤالُ المرأةِ العالم عن أحوالها التي يُحتشَمُ منها .
والاكتفاءُ بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجَنة .
وتكريرُ الجواب لإفهام السائل . وإنما كرَّره عليه الصلاة والسلام ، مع كونها لم تفهمه أوَّلاً ، لأن الجواب به يؤخذُ من إعراضه صلى الله عليه وسلم بوجهه عند قولِه للسائلة : (تطهَّري) ، أي في المحلِّ الذي يُستحيا التصريحُ به في مواجهة المرأة . فاكتفى بلسانِ الحال عن لسانِ المقال . وفهمَتْهُ عائشة رضي الله عنها ، فتَولَّتْ تعليمَ السائلة .
وفيه أيضاً من الأمور التعليمية : سَواغِيَةُ تفسير كلام العالم بحضرتِهِ ووجودِه لمن خَفِيَ عليه ، إذا عَرَف أن ذلك يُعجِبُه .
وجوازُ الأخذِ عن المفضولِ ـ وهو عائشة ـ بحضرة الفاضل وهو سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وصحّةُ العَرْضِ ـ أي القراءة من الطالب ـ على (المُحَدِّث) إذا أَقَرَّه، ولو لم يَقُل عَقِبَ ما عرَضه عليه : (نَعَمْ) .
وأنه لا يُشترَطُ في صحة تحميل العلم فهم السامع لجميع ما يسمعُه .
والرِّفْقُ بالمتعلِّم ، وإقامةُ العُذْر لمن لا يفهم . =
وأنَّ المرءَ مطلوبٌ منه ستر عيوبِه ، وإن كانت مما جُبِلَ عليها ، وذلك من جهة أمرِهِ صلى الله عليه وسلم للمرأة بالتطيُّبِ ، لإزالة الرائحة المكروهة . ...
وعدم مواجهة السائل بجوابه في مثل ... هذه الأمور المُستحيا منها ، فإنه قال لها : (تأخُذُ إحداكُنَّ) ولم يقل لها : (تأخذين) رعايةً لزيادةِ الأدب في هذا المقام .
وحُسْنُ خُلُق المعلِّم الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وعظيم حاله وحَيائِه ، زاده الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً بأبي هو وأمي .
...(1/165)
36 ـ اهتمامُه صلى الله عليه وسلم بتعليم النساء ووعظِهن
وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بتعليم النساء ما يحتجن إليه ، فكان يَخصُّهن ببعض مجالسِه ومواعظِه .
130 ـ روى البخاري في كتاب العلم من ((صحيحه)) ، في (باب عِظةِ الإمام النساءَ وتعليمهن) ، ومسلم (1) ، واللفظ له ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : ((أشهدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لَصَلّى ـ صلاة العيد ـ قبل الخطبةِ ، قال : ثم خَطَب فرأى أنه لم يُسْمِعْ النساء فأتاهُنَّ فذكَّرهُنَّ ، ووعظهُنَّ ، وأمرهُنَّ بالصدقة ، وبلال باسط ثوبَه ، فجعلت المرأة تُلقي الخاتم والخُرْصَ والشيءَ)) (2) .
__________
(1) 1 ـ البخاري 1 :192 ، ومسلم 6 :173 في أول كتاب صلاة العيدين .
(2) 2 ـ (الخُرْص) الحلقة الصغيرة من حَلْي الأذن . وقوله (بلال باسط ثوبه) معناه أنه بسطه ليَجمَع الصدقة فيه ، ثم يُفرِّقُها النبي صلى الله عليه وسلم على المحتاجين ، كما كانت عادته صلى الله عليه وسلم في الصدقات المتطوع بها والزكَوات .
وفي هذا الحديث استحبابُ وعظِ النساء وتذكيرهن الآخرة وأحكام الإسلام ، وحثِّهن على الصدقة ، وهذا إذا لم تترتَّب على ذلك مفسدة وخوف على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما .
وفيه أيضاً أن النساء إذا حضرن صلاة الرجال ومجامعَهم يكُنَّ بمعزل عنهم خوفاً من فتنةٍ او نظرةٍ أو فكرٍ ونحوِه . قاله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 6 :172 .
وجاء في روايةٍ أخرى لهذا الحديث عند مسلم 6 :174 قولُ ابن جُريج راويها لشيخه عطاء بن أبي رباح : أحقاً على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يَفرُغ ـ من خطبة الرجال ـ فيُذكِّرُهُنَّ؟ قال عطاء : ((أي لعَمري إن ذلك لحقٌ عليهم ، ومالهم لا يفعلون ذلك؟)) .(1/166)
131 ـ وروى البخاري أيضاً في كتاب العلم في (باب : هل يُجعَلُ للنساء يومٌ على حدةٍ في العلم) ، ومسلم (1) ، واللفظ منهما ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : ((قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غَلَبنا عليك الرجالُ ، فاجعلْ لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تُعلِّمُنا مما علَّمَك الله ، قال : اجتَمِعْنَ يوم كذا وكذا ، فاجتمعْنَ فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلَّمَهن مما علَّمه الله ، ثم قال :
ما منكُنَّ من امرأةٍ تُقدِّمُ بين يديها من ولدِها ثلاثةً إلا كانوا لها حِجاباً من النار ، فقالت امراةٌ : واثنين واثنين واثنين؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : واثنين واثنين واثنين)) .
37 ـ غضبُه وتعنيفُه صلى الله عليه وسلم في التعليم إذا اقتضت الحالُ ذلك
وكان صلى الله عليه وسلم يغضبُ الغضب الشديد إذا جاوز المُتعلّشم ببحثِه وسؤالِه إلى ما لا ينبغي السؤال عنه والدخول فيه . ومن ذلك ما رواه ابن ماجه (2) :
132 ـ عن عمرو بن شعيبٍ ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال : ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابِه وهم يختصمون في القَدَر ، فكأنما يُفقأ في وجهِهِ حَبُّ الرُّمّان من الغضب (3) ،
__________
(1) 3 ـ البخاري 1 :195 ، ومسلم 16 :181 في كتاب البر والصلة (باب فضل من يموت له ولد فيحتسِبهُ) .
(2) 4 ـ 1 :33 في المقدمة (باب في القَدَر) . قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) 1 :53 عن إسناد هذا الحديث : ((هذا إسنادٌ صحيحٌ رجالُه ثقات)) .
(3) 5 ـ أي فغَضِب فاحمرَّ وجهه احمراراً يشبه فقْأ حب الرمان في وجهه ، وهذا كناية عن مزيد حُمرة وجهه الشريف المنبئةِ عن مزيد غضبه ، وإنما لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ، وطلبُ سر الله منهيٌ عنه ، ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن تزِلَّ قدمه كما زلَّت الجبريةُ والقدريةُ .
والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرعُ من غير ان يَطلُبوا سر ما لا يجوز طلبُ سِرِّه .(1/167)
فقال : بهذا أُمرتِم؟! أو لهذا خُلِقتُم؟! (1) تضرِبون القرآن بعضَه ببعضٍ ، بهذا هلكَتْ الأممُ قبلكم)) (2) .
قال : فقال عبد الله بن عمرو : ((ما غَبَطتُ نفسي بمجلسٍ تخلَّفتُ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غَبَطتُ نفسي بذلك المجلس وتخلُّفي عنه)) (3) .
وما رواه الترمذي (4) :
133 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتنازع في القدر ، فغضب حتى احمرَّ وجهه ، حتى كأنه فقىء في وجنتيه الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم؟! أم بهذا أرسلتُ إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمتُ عليكم ، عزمت عليكم (5) ، أن لا تتنازعوا فيه)).
38 ـ اتخاذُه صلى الله عليه وسلم الكتابة وسيلةً في التعليم والتبليغ ونحوِهما
__________
(1) 6 ـ أي للخوض في بحث القدر والاختصام فيه؟! هل هو المقصود من خلقِكم! أو هو الذي وقع التكليف به؟ حتى اجترأتم عليه! يُريد أنه ليس بشيء من الأمرَيْن ، فأيُّ حاجةٍ إليه؟!
(2) 7 ـ في رواية ((مسند احمد)) 2 :196 ما يوضح المراد من هذه الرواية ، ففيها : ((... فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم : ألم يقل الله كذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج كأنما فُقِىءَ في وجهه حب الرمان! فقال : بهذا أُمرتم؟! أو : بهذا بعثتم : أن تَضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، إنما ضلَّت الأمم قبلكم في مثل هذا! إنكم لستم هاهنا في شيءٍ! انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به ، والذي نُهيتم عنه فانتهوا)) .
(3) 8 ـ أي ما استحسنتُ فعل نفسي وتغيُّبي مرةً عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ في هذا المجلس الذي اشتدَّ فيه غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلوجِ أصحابه فيما لا يعنيهم .
(4) 1 ـ أي أقسمتُ عليكم ، أو أوجَبْتُ عليكم .
(5) 2 ـ 8 :295 في أول (أبواب القدر) .(1/168)
ومن أساليبه صلى الله عليه وسلم أيضاً التعليمُ عن طريق الكتابة ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كُتّابٌ أكثرُ من خمسةَ عشر كاتباً ، يكتبون عنه القرآن ، وكُتّابٌ آخرون خَصَّهم بكتابة رسائله إلى الآفاق والملوك لتبليغهم الإسلام ودعوتهم إليه ، وكتاب آخرون خصهم بكتابة أمور اخرى ، كما ترى تفصيل كل ذلك مُستوعباً في كتاب شيخِنا حافظ المغرب في عصره العلامة عبد الحي الكتاني : ((التراتيب الإدارية)) (1) .
ومن الذين كانوا يكتبون القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه : الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ومنهم زيد بنُ ثابت وأُبيّ بن كعب ، والزبير بنث العوام ، وخالد بن سعيد ، وأخوه أبانُ بن سعيد بن العاص ، وحنظلةُ بنُ الربيع ، ومعاوية بنُ أبي سفيان ، وغيرهم رضي الله عنهم ، كانوا إذا نزل الوحيُ بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعاهم فكتبوه تلقِّياً من فم النبي صلى الله عليه وسلم .
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أَذِنَ لبعض أصحابه بكتابة حديثه بل أمَرَ بعض أصحابِه بكتابتِه أيضاً :
134 ـ روى أبو داود عن عبد الله بن عمرةو بن العاص رضي الله عنهما قال : ((كنتُ أكتبُ كلَّ شيء أسمعُهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أُريدُ حِفْظَه ، فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كل شيء تسمعه؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرِّضا؟ فأمسكتُ عن الكِتاب ـ أي الكتابة ـ .
فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ بإصبعه إلى فيه ، فقال : اكتُبْ فوالذي نفسي بيده ما يَخرُجُ منه إلاّ حق)) .
__________
(1) 3 ـ 1 :114 ـ 172 .(1/169)
135 ـ وروى البخاري ومسلم (1) ، واللفظ للبخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((لمّا فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، قام في الناس فحمِد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنَّ الله حبَس عن مكة الفِيلَ ، وسلَّط عليها رسولهُ والمؤمنين ، فإنها لا تحِلُّ لأحدٍ بعدي ، فلا يُنفَّر صيْدُها ، ولا يُختلى شوكثها ، ولا تحِلُّ لُقطَتُها إلاّ لمُنشِد ، ومن قُتل له قتيل فهو بخيرِ النظرينِ : إما أن يُفديَ وإما أن يُقيد .
فقال العباس : إلاّ الإذْخِرَ ، فإنّا نجعله لقبورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلاّ الإذخر .
فقام أبو شاه رجلٌ من أهل اليَمَن ، فقال : اكتبوا لي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتُبوا لأبي شاه .
قلتُ للأوزاعي : ما قوله : اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال : هذه الخُطبة التي سَمِعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
__________
(1) 4 ـ البخاري 5 :87 في كتاب اللُّقطة (باب كيف تُعرَّف لقطة أهل مكة) ، ورواه في كتاب العلم (باب كتابة العلم) 1 :205 بأتمَّ مما هنا ، ومسلم 9 :128 ـ 129 في كتاب الحج (باب تحريم مكة وتحريم صيدها) .(1/170)
136 ـ وروى البخاري (1) ، عن أبي جُحَيفة قال : قلتُ لعليّ : ((هل عندكم كتابٌ (2) ؟ قال : لا ، إلاّ كتابُ الله ، أو فَهْمٌ أُعطِيَهُ رجلٌ مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة (3) . قال : قلتُ : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العَقْلُ ، وفَكاكَ الأسير ، ولا يُقتَلُ مسلمُ بكافرٍ)) (4) .
وقد أرسل صلى الله عليه وسم كُتُباً باسمِه الشريف إلى الآفاق والملوك ، منها ما فيه الدعوةُ إلى الإسلام والإيمان بالله تعالى ، ومنها ما فيه بيانُ الأحكام وشرائع الإسلام للداخلين فيه ، وقد حَفِظَتْ كُتُبُ السيرة والحديث والتاريخ نصوصُ تلك الكتب الكريمة وألفاظها .
وقد جُمِعَتْ تلك الكُتُب والرسائلُ في مجاميع مستقلّةٍ بعضُها مطبوع ومتداول ، ومن أجمعها كتاب ((إعلام السائلين عن كُتُب سيد المرسلين)) صلى الله عليه وسلم ، لابن طولون المشقي ، المتوفى سنة 953 رحمه الله تعالى (5) .
39 ـ أمرُه صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعلُّم اللغة السُّريانية
__________
(1) 5 ـ البخاري 1 :204 في كتاب العلم (باب كتابة العلم) .
(2) 6 ـ أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحيَ إليه ، وإنما سأله أبو جُحيفة عن ذلك لأن جماعةً من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت ـ لاسيما علياً ـ أشياءَ من الوحي خَصَّهم النبي صلى الله عليه وسم بها لم يطَّلع غيرُهم عليها .
(3) 7 ـ أي الورقة المكتوبة ، وقد كتب فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(4) 8 ـ وكانت في هذه الصحيفة أحاديثُ أخرى في غير هذه الموضوعات الثلاثة ، كما ترى تفصيل ذلك في ((فتح الباري)) 1 :205 ، و((فيض الباري)) للشيخ أنور الكشميري 1 :213 .
(5) 1 ـ طَبَعه الأستاذ حسام الدين القدسي رحمه الله تعالى بدمشق قبل سنة 1348 . ومن الكتب الجامعة في هذا الموضوع كتاب ((مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة)) للأستاذ محمد حميد الله حفظه الله تعالى ورعاه وأمتع به .(1/171)
137 ـ روى البخاري (1) ، والترمذي ، واللفظ له ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه زيد بنِ ثابتٍ قال : ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلَّم له كلماتٍ من كتاب يهود ، وقال : إني واللهِ ما آمَنُ يهود على كتابي ، قال : فما مرَّ بي نصف شهر حتى تعلَّمتُه ، قال : فلما تعلمتُه كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ إليهم ، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابَهم)) .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد رواه الأعمشُ عن ثابت بن عُبَيد ، عن زيد بن ثابتٍ يقول : ((أمرَني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلَّم السريانية)) .
فاستخدامُ اللغات الاجنبية في مجال التعليم والدعوة والتبليغ ، عند الحاجةِ إليها مما ثبت من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أحدُ أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم .
ثم اللّثغاتُ اليوم مفتاحُ العلوم الكونية التي أصبحَتْ ضروريةً ، لمُجاراة العَجَم والفَرَنجة ، والترقي بين الامم ، وصارت مفتاحاً للتعارُف الذي أصبح ضرورياً للعيش وأمنِ الإنسان على حقوقِه حين الاختلاط ، وللشيخِ صفي الدين الحِلّي وهو ممن كان يحفَظُ عِدّة لُغاتٍ :
بقَدْرِ لُغاتِ المرءِ يَكثُرُ نفعُهُ وتلك له عندَ المُلِمّاتِ أعوانُ
فبادِرْ إلى حفظِ اللغاتِ مُسارعاً فكلُّ لِسانٍ في الحقيقةِ إنسانُ
40 ـ التعليم بذاتيتِه الشريفة صلى الله عليه وسلم
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعلِّماً اختاره الله تعالى لتعليم البشرية دينَ الله وشريعتَه الخاتمةَ والخالدةَ ، وليس في الدنيا أغلى على الله من (دين الله تعالى) ، فاختار الله سبحانه لنشرِه وتعليمِه أفضلَ الأنبياء والرُّسُل محمداً عليه وعليهم أفضلُ الصلاة والسلام .
__________
(1) 2 ـ البخاري 13 :185 في كتاب الأحكام (باب ترجمة الحكام) ، ورواه أيضاً في ((التاريخ الكبير)) ½ : 380 ـ 382 ، والترمذي 4 :167 في كتاب الاستئذان والآداب (باب في تعليم السُّريانية) .(1/172)
وكان هذا المُعلِّم المصطفى من الله تعالى لتبليغ شريعتِه للناس ، معلِّماً بمظهَرِه ومَخبَرِه ، وحالِه ومقالِه ، وجميع أحوالِه ، فتكامُلُ شخصيتِه الشريفة أسلوبٌ مُعلِّم للمُتعلِّمين أن يكونوا كمثالِه الشريف وهَدْيِه المُنيف .
ومن أهم صفاتِ المعلِّم أن يكون في ذاته مُتكامِل المحاسِن عقلاً وفضلاً ، وعلماً وحكمةً ، ومَنظراً ورُواءً ، ولَباقةً ولَياقةً ، وحركةً وسكوناً ، وطِيبَ حديثٍ ، وذكاءَ رائحةٍ ، ونظافةَ ثيابٍ ، وجمالَ طَلْعةٍ ، وحُسنَ منطِقٍ وتَصرُّفٍ وإدارةٍ ...
وقد كان كلُّ هذا في ذاتِ الرسول المُعلِّم صلى الله عليه وسلم على أتمِّ وجهٍ وأعلى حُسنٍ واكتمال ، فهو معلِّم بذاتِه الشريفة النَّموذجية لكل متعلِّم ومُسترشِد ، فهو صلى الله عليه وسلم تَتَمثَّل فيه غايةُ التعليم بأساليبِه المختلفة ، لأن كلَّ تلك الوسائل والأساليب تتوجَّه لأن يكون المسلمُ مُحقِّقاً لقوله تعالى : (كنتم خيرَ أمةٍ أُخرِجَتْ للناس) ، فهذا الكمالُ الجامعُ فيه صلى الله عليه وسلم غايةُ الغايات من جميع الأساليب ، وزُبدةُ التعليم والتهذيب ، ولقد حَظِيَتْ ذاتُه الشريفة بأعلى الثناء العزيز الفريد ، المؤكَّد من الله تعالى كلَّ التأكيد ، بقوله تعالى : (وإنك لَعَلى خُلُقٍ عظيم).
فلا غرابةَ أن تُعدَّ محاسِنُه الشريفة من أساليب التعليم ، وأيُّ مُعلِّمٍ أثَّر في البشرية تأثيرَه ، وتقبَّل الناسُ ـ على اختلاف ألوانِهم وألسنتِهم ـ دينَه وشريعتَه؟ واتخذوه القدوة والأسوةَ الحسنةَ في سائر شؤونِ الحياة سوى هذا الرسول الكريم والنبي العظيم ، عليه من الله أفضلُ الصلاة والتسليم .
هذه كُلَيمةٌ أحببتُ أن أجعلَها ختامَ الأساليب النبوية في التعليم ، لتكون أربعين أسلوباً ، وختامَ المِسكِ الذكي الذي تَعَطَّرَتْ به الصفحاتُ السابقةُ ، والحمد لله رب العالمين .
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ(1/173)
وبعدُ فهذه نماذجُ من أساليبِ التعليم سلكها وأرشد إليها سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوردتُها على سبيل الذكرِ والبيان ، لا على سبيل الاستقصاء والحصر .
ولا شك أن المتتبِّعَ الباحثَ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الشريفة ، سيَقِفُ على غيرها مما يزيدُ عليها ويُضاف إليها ، ولم أقصد إلى ذلك الآن ، بل اكتفيتُ بما تيسَّر لي الوقوفُ عليه على سبيل المصادفة أثناء قراءاتي ومُطالعاتي ، راجياً من الله التوفيق والإخلاصَ وشفاعةَ سيِّد الناس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسأل الله سبحانه الرضا والقبولَ ، والتشرُّفَ باتّباع سنة الرسول ، كما أسأله الرضوانَ عن صحابته الأكرمين ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
فاتن علوان(1/174)