الردة وخطرها على المجتمع الإسلامي
لفضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
المدرس بكلية القرآن الكريم
ألقيت ليلة الجمعة 4/4/1394هـ
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد، فإن أكبر نعم الله على عبده أن يهديه للإيمان، ويشرح صدره للإسلام، وأن يديم عليه تلك النعمة حتى يلقاه وهو على ذلك.
كما أن أعظم الخسارة في الدنيا والآخرة أن يدخل الإنسان في دين الله ويذوق حلاوته، ويستضيء بنوره، ثم يخرج مختارا من النور إلى الظلمات فيترك دين الله، ويدخل في دين الشيطان، أيا كان ذلك الدين، فيرتد على عقبيه بعد أن كان على نهج سوي، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقد دعاني ذلك الفضل العظيم، وهذا الشقاء المهلك أن يكون موضوع هذه المحاضرة: (الردة وخطرها على المجتمع الإسلامي).
تعريف الردة(1/1)
الردة في اللغة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، وفي الاصطلاح: "رجوع المسلم عن الإسلام إلى الكفر"، والارتداد بمعنى الردة، إلا أنه يستعمل في الكفر وفي غيره بخلاف الردة فإنها مختصة بالكفر. قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}، وقال: {فَارْتَدَّ بَصِيراً}.
ويظهر من التعريف أن الردة قد تحصل بالقول والفعل والاعتقاد، إلا أن الاعتقاد إذا لم يطلع عليه بإظهار صاحبه ما يدل عليه لا يمكن الحكم على صاحبه في الظاهر بالردة.
ولا عبرة بمن خص الردة بالنطق بالكفر، بدليل حكم العلماء على من رمى المصحف بقذر بالكفر، وغير ذلك كثير كما سيأتي إن شاء الله.
ما يشمله اسم الإسلام
لا أريد الخوض – هنا – في الفرق بين الإسلام والإيمان، ويكفي أن أشير إلى أن الصحيح من أقوال المحققين أنه إذ أنفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا فيراد بالإيمان الاعتقاد القلبي، وبالإسلام الأقوال والأعمال الظاهرة، وحديث جبريل المشهور واضح في هذا المعنى.
والذي أريد توضيحه هو: أن الإسلام يطلق إطلاقين في الشرع:
الأول: عام يراد به: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهو بهذا المعنى دين جميع الرسل وأهل السموات، وأهل الطاعة، في الأرض. كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. والآيات في هذا كثيرة.
الإطلاق الثاني: يراد به ذلك، ومعنى خاص هو: التفصيلات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب الله، والسنة المطهرة وهو بهذا الإطلاق يشمل الإيمان والعمل والنطق والأخلاق وغيرها.(1/2)
فدين الله الذي أرسل به رسله واحد في أصوله الإيمانية والعملية – في الجملة – ثم تختلف شريعة كل نبي في تفصيلها حسب المصلحة التي علمها الله لكل أمة من الأمم، والقاسم المشترك بينها تحقيق الخير للأمم في الدين والدنيا.
وقد نسخت شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم كل الشرائع السابقة، وهيمن كتابنا على كل الكتب، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.
وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الدين الإيمانية والعملية في حديث جبريل المشهور، ومن الأحاديث الدالة على شمول الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
قال السيد سابق: "الإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة تنتظم الإيمان بالإلهيات والنبوات والبعث والجزاء، والشريعة تنتظم العبادات.. والآداب والأخلاق والمعاملات المدنية.. والروابط الأسرية.. والعقوبات الجنائية.. والعلاقات الدولية.. وهكذا نجد أن الإسلام منهج عام ينتظم شئون الحياة جميعا"اهـ.
قلت: ولهذا كان أحد عناوين: معالم في الطريق: "لا إله إلا الله منهج حياة".
من المسلم؟
الداخلون في الإسلام أصناف:(1/3)
الصنف الأول من دخل في الإسلام، ولم يصل إلى درجة المعرفة بحقائقه، لعدم تيسر ذلك له، وهو في الواقع ملتزم بطاعة الله ورسوله، بحيث لو أطلع على أمر أمتثله وإن أطلع على نهي أجتنبه، ويمثل هذا القسم بالداخلين في الإسلام حديثا، فهو مسلم ظاهرا وباطنا، ولكنه ليس مؤمنا حقا، وعليه حمل بعض العلماء قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وخالفهم آخرون في معنى الآية(1)[1].
الصنف الثاني: من دخل في الإسلام في الظاهر، وهو في الواقع باقي في الكفر، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.
الصنف الثالث: من دخل في الإسلام، وعلم حقائقه، وعمل بها، وهذا هو المؤمن الحق الذي قال الله تعالى عنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}.
فالصنف الأول والثالث مسلمان ظاهرا وباطنا، إلا أن الثالث مؤمن حقا والأول ناقص إيمان أو ليس مؤمنا حقا، أما الصنف الثاني فهو في الواقع كافر وإن أخذ أحكام الإسلام في الظاهر، وكلهم أمام الردة سواء(2)[2].
معنى الكفر
الكفر في اللغة: الستر والتغطية، ولذلك سمي الفلاح: كافرا، لأنه يستر البذر ويغطيه في الأرض، كما يسمى الليل كافرا، لأنه يغطي ما على وجه الأرض بظلامه، قال الشاعر:
يعلو طريقة متنه متواترا ... في ليلة كفر النجوم غمامها(1/4)
أما في الشرع فالكفر تغطية الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم – وأعلى هذا الحق توحيد الله تعالى – بالباطل الذي دعا إليه إبليس، وأقبح ذلك الباطل: الإشراك بالله تعالى.
فالكافر هو الذي يغطي بكفره وجحوده توحيد الله تعالى وطاعته.
أنواع الكفر
الخروج من الإسلام قسمان: شرك وكفر، وكل منهما قسمان: أكبر وأصغر، فالكفر والشرك الأصغران لا يخرجان صاحبهما مع الإسلام، ولمنه في خطر عظيم والكفر والشرك الأكبران يخرجان صاحبهما عن الإسلام ويخلدانه في النار.
والكفر غالبا يكون عن تكذيب الرسل مع اعتقاد صدقهم، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}، وقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(1)[3].
الخروج من كفر إلى كفر
يتضح من تعريف الردة السابق الذكر: "خروج المسلم عن الإسلام إلى الكفر" إن الانتقال من كفر إلى كفر لا يعتبر ردة. فهل الأمر كذلك؟
اختلف العلماء في ذلك، وهذه أقوالهم:
1- فذهب الحنفية والمالكية وبعض الشافعية إلى أن المنتقل من كفر إلى كفر يقر على ذلك، ولا يعتبر مرتدا، واستدلوا على ذلك بأمور:
الأول: أن الكفر ملة واحدة كله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ..} إلى أن قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
الدليل الثاني: أن الكافر إذا اعتنق كفرا آخر لو اعتبر مرتدا للزم إكراهه على الإسلام، وذلك خلاف نص القرآن: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.(1/5)
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: إحداها: التارك لدينه المفارق للجماعة"، فقوله: "التارك لدينه". بعد قوله: "امرئ مسلم" دليل واضح أن الدين الذي يعتبر تاركه إلى غيره مرتدا هو دين الإسلام، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".
2- وذهب الظاهرية وبعض الشافعية – وهو رواية عن أحمد – أنه لا يقبل من الكافر المنتقل إلى كفر آخر إلا الإسلام، واستدلوا على ذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وهو استدلال بعيد إذا تذكرنا ما مضى من استدلال أهل القول الأول.
3- وذهب بعض الشافعية أنهم لا يقرون على كفرهم الذي انتقلوا إليه إلا أنهم يرون أن ينبذ إليهم عهدهم، ويخرجوا إلى دار الحرب، فإذا ظفر بهم لا يقبل منهم إلا الإسلام.
4- ويروى عن الإمام أحمد – وهو قول عن الشافعي – أنه إن انتقل من دين أعلى إلى دين أدنى، كالنصراني أو اليهودي ينتقل إلى المجوسية فلا يقبل منه إلا الإسلام، وإن انتقل من أدنى إلى أعلى أو إلى دين مساو، كالمجوسي يتنصر والنصراني يتهود أقر على دينه الذي انتقل إليه. وهذا التفصيل لا دليل يسنده فيما أرى، وكون أهل الكتاب يمتازون ببعض الأحكام عن غيرهم من بقية الملل لا يصلح دليلا لهذا التفصيل.
مواقف العلماء من التكفير
سبق أن الإسلام اعتقاد وعمل وقول، وأن له أصولا وفروعا وضد الإسلام الكفر، وهو كذلك اعتقاد وقول وعمل، وله أصول تخرج صاحبها من الإسلام، وفروع لا يخرج بها عن دائرة الإسلام، وهي تتفاوت في الاقتراب والابتعاد من الأصل.
وأمر التكفير خطير، لأن له نتائج خطيرة، كما أن التساهل في عدم الحكم بالكفر على من يستحقه خطير كذلك، ولذا رأينا من عبارات العلماء: من لم يكفر الكافر فهو كافر مثله.
والواجب الوقوف عند نصوص الشريعة وقواعدها، دون إفراط أو تفريط، فالحكم في ذلك لله وحده.(1/6)
وقد تشعبت آراء الطوائف في هذا الباب: فمنهم من فرط ومنهم من أفرط، ومنهم من اعتدل.
والمقصود – هنا – ذكر الآراء باختصار، ليتضح حكم مرتكب الذنب عند كل طائفة:
الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة، وخلاصته أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار إذا لم يتب، هذا بالنسبة للجزاء الأخروي أما حكمه في الدنيا فيرى الخوارج أنه كافر يأخذ أحكام الكفار، ويرى المعتزلة أنه لا يطلق عليه اسم المؤمن ولا الكافر، وإنما اسم الفاسق وهو ما يعبرون عنه بمنزلة بين المنزلتين.
واستدل الجميع بنصوص الوعيد الواردة في الكتاب والسنة.
الثاني: مذهب غلاة المرجئة، وعلى رأسهم جهم بن صفوان إذ يرون أن مجرد التصديق القلبي والعلم إيمان لا يضر معه ذنب، واو كان هذا الذنب سب الله ورسوله وإهانة المصحف ومعاداة أولياء الله المؤمنين، وموالاة أعدائه الكافرين.
واستدلوا على هذا المذهب الفاسد الذي يسوي بين أبر خلق الله وأفجر خلق الله بنصوص الوعد، عكس استدلال الخوارج والمعتزلة.
الثالث: مذهب جماهير سلف الأمة الإسلامية وخلفها، وخلاصته: إن الذنب الذي يخلد صاحبه في النار، ويخرجه من دائرة الإسلام هو الكفر أو الشرك الأكبران، وما عداهما من الكبائر لا يخرج صاحبه من دائرة الإسلام ولا يخلده في النار، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له من أول وهلة وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه من النار إلى الجنة ولا بد.(1/7)
وعلى هذا المذهب الحق دلت نصوص الكتاب والسنة، فقد وردت نصوص ترد على المذهب الأول، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وفي الأحاديث الصحيحة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أو يدخل الجنة من كلن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما وردت نصوص أخرى ترد على المذهب الثاني – مذهب المرجئة – قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
وفي الحديث الصحيح: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، والنصوص في هذا وذاك لا تحصى كثرة.
ولهذا نرى أن أهل الحق عملوا بالنصوص كلها وأهل الباطل افترقوا فأخذت كل طائفة طائفة منها.
كفوا عن الافتراء
وبهذه المناسبة أجدني مضطرا إلى التطرق لتهمة كاذبة واختلاق صريح أشاعهما أعداء التوحيد الخالص الذين أساءهم أن تكشف شمسه الوهاجة ظلمات الشرك والباطل والجهل الذي أسدلوه على أبصار أجيال وأجيال، طالما اشرأبت إلى النور الهادي إلى صراط الله المستقيم.
وخلاصة هذه التهمة المختلقة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يكفر جميع الناس عالمهم وجاهلهم إلا من اتبعه وهاجر إليه.
وقد تولى كبر هذه التهمة الجائرة قادة الاستعمار وأذنابهم من عمي البصائر الذين أنتنت قلوبهم بالخرافات الغربية عن دين الإسلام، والذين لا يقدرون على العيش في وضح النهار، وإنما يعيشون في ظلمات الليل الكافر مثل الخفافيش.(1/8)
ولا أريد أن أدافع عن الشيخ بما سجله أحفاده في كتبهم من دفع تلك التهمة، ولا بكلام أسجله من إنشائي، فذلك كله لا يكفي، ولكني أنقل هذه الجملة المختصرة من رسالة بعث بها الشيخ نفسه إلى أحد علماء بغداد يرد على نفس التهمة قال: "وما ذكرت أني أكفر جميع الناس إلا من أتبعني وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة فيا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون.. إلى أن قال: "وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسل ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك"اهـ.
ومن هذه الجملة القصيرة نستفيد ما يأتي:
1- أن الشيخ اتهم في حياته بتلك التهمة الكاذبة تنفيرا للناس عن التوحيد الذي دعا إليه.
2- أنه نفى عن نفسه تلك التهمة نفيا صريحا وكاتب العلماء بذلك ليكونوا على بينة من دعوته.
3- أنه لا يكفر إلا من عرف دين الله معرفة صحيحة ثم بعد أن عرفه نهى الناس عنه وسبه، ومعنى ذلك أنه لا يكفر الجاهل حتى يعلم ثم يعاند، وهذا هو ما سار عليه شيخه القديم شيخ الإسلام ابن تيمية كما سيأتي.
4- أنه يرى أن أكثر الأمة ليسوا كذلك أي لم تعرف الدين الحق ثم نهت عنه وسبته.
وبهذا يتضح أن التهمة كذب وافتراء أريد بها تنفير الناس عن الدعوة الحقة.
وبنظرة إلى كتاب التوحيد الذي هو أهم كتبه التي ألفها نجده يقتفي طريقة الإمام البخاري رحمه الله من التبويب والاستدلال فيأتي بالباب ثم يشبعه بالآيات والأحاديث الواردة فيه، ثم يزيد فيستنبط بعد ذلك ما تدل عليه تلك النصوص في آخر كل باب.(1/9)
وإذا وجدنا للشيخ أو لغيره مثل هذه العبارة: الذبح لغير الله كفر، أو من دعا لغير الله فقد كفر، فإن هذا لا يعني تكفير شخص بعينه على ما سيأتي في القاعدة التي فصلها شيخ الإسلام وعلى هذا فالمراد أن من فعل ذلك وقد قامت عليه الحجة فهو كافر، ولا يلزم من ذلك تكفير الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة بالعلم.راجع مصباح الظلام للإمام العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ.
خطر الردة على الإسلام
كانت الردة توجد في القرون الماضية، وكان أسبقها الردة التي حصلت في عهد نوح عليه السلام، وهكذا كانت توجد بين آن وآخر، وهي ذات خطر عظيم لاسيما الردة عن الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
فقد دلت الأدلة القاطعة، والشواهد الواضحة أنه لم يعد في الأرض دين حق سوى دين الإسلام، والشخص الذي يدخل في هذا الدين لاسيما الذي يعرفه عن كثب معرفة تامة، ويذوق حلاوته، وينعم بالعيش الهنيء في ظلاله الوارفة، ويقطع بصدق أخباره وعدل أحكامه، ويستضيء بنوره في خضم الحياة ثم ينكص بعد ذلك على عقبيه، ويخرج من هذا النور الهادي إلى غيره من ظلمات الشرك والإلحاد والمعاصي بعد أن أنقذه الله منها، أقول: هذا الشخص يكون ولا شك سببا في هد بنيان نظام حياة فريدة في الأرض، وفي تخلخل صف أمة هي خير أمة أخرجت للناس، ومن هنا كان الخطر.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله(1)[4]: "وأما المرتد فالمبيح عنده – أي المبيح عند الإمام أحمد للقتل – هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين، وللدين، فإن ذلك يمنعهم من النقص ويمنعهم من الخروج، بخلاف من لم يدخل فيه".اهـ.(1/10)
وقال السيد سابق في: "فقه السنة"- بعد أن بين قيام البراهين والأدلة على صحة هذا الدين وشموله لجميع مجالات الحياة -: "فإذا خرج منه وارتد بعد الدخول فيه، وإدراكه له كان في الواقع خارجا على الحق والمنطق، ومنكرا للدليل والبرهان، وحائدا عن العقل السليم والفطرة المستقيمة، والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد أرتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ومثل هذا الإنسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه، لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل".اهـ.
وفي: "المسئولية الجنائية" لأحمد فتحي بهنسي: "جريمة الردة في الفقه الإسلامي فيها شيء من المماثلة لجريمة تغيير النظام الاجتماعي في الفقه الغربي، كالفوضية وغيرها من المذاهب الهدامة"اهـ.
وبالجملة ففي الارتداد عن الإسلام خروج على العقيدة، وتمرد على النظام، وشذوذ عن الجماعة وإضعاف لها، وتكثير لسواد الأعداء وإفشاء لأسرار المسلمين، وغير ذلك مما لا بتسع له المقام.
والمؤسف أن القوانين التي تحكم الشعوب الإسلامية، وتنظم حياتها لم تشر حتى مجرد إشارة إلى هذا الحكم الخطير، ولكن الغرابة تزول عندما يتذكر المسلم أن وضع هذه القوانين قصد به إبعاد الإسلام عن حياة المسلمين، ومن جهة أخرى فإن كثيرا من المسئولين عن الشعوب الإسلامية يدخلون دخولا أوليا في عداد المرتدين، وهل يعقل أن يضع المرتد لنفسه حكما يكون فيه حتف أنفه، أو حتف أنف الهالة التي تحيط به.(1/11)
وقد حملت إلينا الصحف هذه الأيام عن أمثال من ذكر أن في القرآن تناقضا لم يعد يقبله العقل، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عب الصحراء ويستمع الخرافات السائدة في ذلك العصر ثم ينقل تلك الخرافات إلى القرآن، وأن المسلمين وصلوا إلى تأليه محمد لأنهم يقولون إذا ذكروه: صلى الله عليه وسلم، وأن محمدا أبقى للعرب بعض الأوثان كالحجر الأسود والجمرات حتى لا ينفرهم باقتلاع جميع الأصنام وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم مصلحة الدولة على عبادة الله عند التعارض، ولم يدر أن مصلحة الدولة هي من عبادة الله في الشريعة الإسلامية.
وليس هناك تناقض بين الشعائر الدينية وتسيير دفة أمور الدولة. ولا أريد في هذا المقام أن أرد عليهم وإنما أنبه فقط على ما يجري عمليا من قادة شعوب العالم الإسلامي فأين أنتم يا علماء وأين الصفات التي فضلكم الله بها على سائر الناس ورفعكم بها درجات، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أخذ عليكم الله تبيانه للناس وعدم كتمانه.
أقسام الردة، ولمحة عن سيرها عبر التاريخ الإسلامي
الردة قسمان: ردة فردية، وردة جماعية، فالردة الفردية أن يخرج من الإسلام فرد أو أفراد متفرقون لا تجمعهم رابطة نظام ولا قيادة كما يحصل ذلك في كل الأزمنة.
والردة الجماعية أن يخرج من الإسلام جماعة متبرابطة منظمة تحت قيادة واحدة، سواء كانت القيادة مكونة من شخص واحد أو عدة أشخاص.(1/12)
والردة الجماعية – كما هو واضح – أعظم خطرا من الردة الفردية لأن الردة الجماعية لا تتمكن الدولة – إن وجدت دولة إسلامية تتصدى لها – بكاملها من إنهائها إلا بقتال واستبسال ونفقات باهضة لترابط أفراد هذا النوع ووقوفهم صفا واحدا لحرب المسلمين، بخلاف الردة الفردية فإن الأفراد فيها لا يشكلون خطرا عاما على الأمة الإسلامية كما تشكله الردة الجماعية، بل يكون الفرد أو الأفراد المرتدون يكونون عرضة للقضاء عليهم أو تشردهم إن كان المسلمون الذين حصلت الردة بينهم واعين لخطر الردة.
وقد حصلت الردتان: الفردية والجماعية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ارتد الحارث بن قيس، وطائفة معه، وعبد الله بن أبي سرح – وقد عاد هذا إلى الإسلام عام الفتح – وحصلت الردة الجماعية بظهور الأسود العنسي المتنبئ الذي تبعه خلق كثير وعاث في الأرض فسادا.
وبهذه المناسبة أشير إلى أن محاميا وطنيا ظهر في هذا العصر يدافع عن الأسود العنسي، ويدين لائمية، ويقول: الأسود كان رجلا وطنيا مخلصا لشعبه، وكانت ثورته ضد الظلم الذي بسببه تؤخذ زكاة اليمنيين وتملأ بها بطون الحجازيين ولذلك تنالت عليه لعنات أهل الحجاز.
أقول: أشير إلى ذلك إشارة فقط بدون تعليق.
ثم نجمت ردة عظيمة ذات قيادة وأعداد هائلة مقاتلة في عهد الصديق أبي بكر أول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شملت هذه الردة الجزيرة العربية ما عدا الحرمين والطائف، وكان من المرتدين من تنبأ، ومنهم من صدق المتنبين وتابعهم، وهذا النوع هو الردة الحقيقية ومنهم من منع الزكاة فقط محتجا بأن الزكاة إنما كانت تؤدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يصلي على دافعيها، وهو الذي تكون صلاته سكن لهم بخلاف غيره وقد اختلف العلماء في مانعي الزكاة أهم مرتدون أم لا؟(1/13)
والظاهر أنهم غير مرتدين لأمرين: الأول: أن منع الزكاة إذا لم يكن عن جحود لوجوبها لا يكون كفرا عند أكثر العلماء. الثاني: أن المانعين كانوا متأولين، والمتأول لا يحكم عليه بالكفر.
وعلى هذا فإطلاق الردة على مانعي الزكاة كان من باب التغليب(1)[5].
ولقد وقف الصديق رضي الله عنه من تلك الردة الشاملة الكاسحة موقفه الفذ الذي كان نيتجته القضاء على شوكة المرتدين وإنهاء الردة بعد جهود شاقة مضنية، حقق الله للمسلمين أبا بكر في كل زمان للقضاء على الردة والمرتدين.
ثم كانت الردة تقع في كل عصر من العصور فردية في الغالب وجماعية في بعض الأحيان، ولكنها بلغت مبلغا خطيرا في الأندلس فقد كانت ردة جماعية مؤلمة، إذ لم تجد من ينهيها ويقضي عليها، بل وجدت من عمقها وأذكى نارها بأقسى أنواع التنكيل وأبشع أساليب القتل لإجبار المسلمين على ترك دينهم، وعلى إدخال أولادهم في مدارس النصارى المتعصبين لتلقي تعاليم المسيحية، وحظر التعليم الإسلامي حتى لم يبق من يستطيع ذكر الله فكانت مصيبة عظيمة أفقدت المسلمين أرضا لا زالت تحن إلى صوت المؤذن وراية الجهاد، وعدل الحاكم وحلقة العالم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الردة في هذا العصر
ثم جاءت الطامة الكبرى في هذا العصر الذي يسمى عصر العلم والنور الذي يتبجح به المتبجحون إلى حد أنه إذا ذكر القرن العشرون انحنت له الرقاب، وطؤطئت له الرؤوس، وطربت لرنينه الأسماع.
نعم لقد حقق فيه الإنسان – باستدراج من الخالق – ما لم يحققه في غيره من العصور السابقة من الاكتشافات العلمية المادية، ولو كان هذا الإنسان الذي حقق تلك الأمور يأخذ توجيهاته من ربه الذي خلقه وخلق هذا الكون وسخره له لكانت هذه الاكتشافات نعمة على الإنسانية كلها، وليست مصدر قلق واضطراب وشقاء كما هو الحال.(1/14)
ولقد استيقظ أعداء الإسلامي ذلك الاستيقاظ المادي في حال غياب القيادة الإسلامية الموجهة وأعني بها الخلافة الراشدة الرائدة الشاملة التي لا يجد المسلمون القوة الظاهرة لأعدائهم إلا في حال رايتها الخفاقة على كل جزء يتحرك فيه مسلم في أرض الله.
في غياب هذه القيادة استيقظ الأعداء وأخذوا يضعون الخطط المدروسة لزيادة توسعة الهوة بين المسلمين وإسلامهم حتى أبعدوا ناشئتهم عن الإيمان والقيم والأخلاق، فصاروا أساتذة أكثر حماسا واندفاعا وقضاء على مقومات الإسلام من روادهم الغربيين فكانت كما قال الأستاذ الجليل أبو الحسن الندوي: "ردة ولا أبا بكر لها".
الفرق بين الردة الحاضرة وغيرها(1)[6]
فرق كبير جدا بين الردة نراها تسرح وتمرح في القرن العشرين وغيرها من نواح كثيرة، أوجز أهمها فيما يأتي:
1- الشعور العام عند المسلمون
كان المسلمون في الماضي يشعرون بالردة وخطرها، ويتخذون منها الموقف المناسب سواء كانت فردية أو جماعية، كما وقف الصديق وغيره في الصدر الأول من العصر الإسلامي الأول، وكما وقف علماء الإسلام وأمراؤهم أمام كل ردة في العصور الماضية.
فما موقف المسلمين الآن؟ لقد تبلد هذا الشعور عند أكثر المسلمين الآن، فأصبحوا يخالطون المرتد، ويعاملونه معاملة غيره من أفرادهم فالأب مع ابنه والأخ مع أخيه، والصديق مع صديقه في مودة وألفة بل قد يجد المرتد من يدافع عنه ويسعى للحصول له على أرقى مناصب الدولة دون اكتراث، فأين هذا الشعور من شعور الأسلاف؟
2- التميز
كان المرتد يتميز عن سائر المسلمين أعظم من تميز المجذوم الذي لا يجد من يخالطه إلا النادر من أقاربه.
أما الآن فقد كاد التميز ينعدم، إذ تجد في البيت الواحد المسلم الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المحرمات، ويخشى عذاب الله وتجد ابنه ملحدا، يهزأ بالله وكتبه ورسله، ومع ذلك تجد الاثنين معا يأكلان ويشربان ويقيلان وينامان ويتعاملان سواء في محبة ووئام حتى اختلط الحابل بالنابل.(1/15)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
يجب الإنصاف
إن ما وصفته من حال الأمة الإسلامية هو الغالب، ولكن ذلك لا يعني أن الأرض خلت من حزب الله، فحزب الله موجود – وإن قل أفراده وتفرقوا في أنحاء المعمورة، فكل بلد من بلاد العالم مسلمة وكافرة لا يخلو من أسد أو أسود تزأر داخل أسوارها، ساخرة من المثبطين، ممتدة عيونها إلى السماء وإلى كل جزء من الكرة الأرضية، تنتظر الساعة التي تنطلق فيها محطمة تلك الأسوار، وصانعيها وطواغيتها.
وهذه طلائع البعث الإسلامي يؤذن لها من بيت الله الحرام في غير موسم الحج، فتتخلل تلك الأسوار وترد مسرعة إلى منهلها الصافي من كل فج وصوب، معاهدة خالقها على السير في طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأولئك روادهم ترتفع أنوفهم شامخة على مشانق الطغاة مكبرة ربها وحده لا ترضى بدينه بديلا.
وكأني بمولد الخلافة الإسلامية قد اقترب محمولا في دعوة التضامن الإسلامي التي ارتفعت من عرفات ومنى ومزدلفة مواكبة كلمات الأذان من بيت الله الحرام ترن في آذان الشباب المسلم فتوقظه من سباته العميق.(1/16)
فلينطلق العلماء في الدرب هادين العالم بمعالم الحق علما وعملا وأملا، لا تثبيطا وثرثرة وتيئيسا وكسلا، فلينطلق العلماء حاملين الراية لأمتهم فالعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء مشاعل هداية وحملة خير وفلاح.
وغدا ستشرق شمس النصر على رؤوس الخفافيش فتختفي إلى الأبد بإذن الله والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أركان الردة
للردة ركنان:
1- الركن المادي: وهو الفعل والقول أو الاعتقاد الذي يأتيه المسلم.
2- القصد الجنائي:
ولنبدأ الكلام على الركن الأول:
ما يتعلق بالله تعالى.
إنكار وجود الله تعالى
وجود الله تعالى من البدهيات التي لا تحتاج إلى جهد في الاستدلال على إثباتها، لأن الكون كله ناطق بوجوده:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
من أجل لم تكن بالرسل من حاجة لدعوة قومهم إلى الإقرار بوجوه تعالى، لأنهم يقرون به ابتداء، وإنما كانوا يستدلون عليهم بذلك لإثبات ألوهية الله وحده.
وإذا كانت بعض الفطر قد انحرفت عن هذا الخطر الواضح الجلي محاولة إنكار وجوده تعالى فقد كانت من القلة بمكان، بل كانت أندر من الكبريت الأحمر.
وقد ألجمهم القرآن الحجة وأقام عليهم البرهان من يوم نزل فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ}.
3- الشمول
كانت الردة في العصور الماضية – ولو كانت جماعية – غير شاملة شمولها الآن، فقد ارتدت غالبية قبائل العرب في عهد أبي بكر، ولكن بعض المناطق بقيت على الإسلام.
وعندما حدثت الردة في الأندلس بقيت الأقطار الأخرى على الإسلام.(1/17)
أما في هذا العصر فإنك إذا أنعمت النظر وخالطت المنتسبين إلى الإسلام فستجد حاكما مرتدا (يرأس شعبا مسلما) سماه أبوه مجد الدين أو نور الدين أو محمدا أو عبد الرحمن تفاؤلا وتيمنا، وشابا مثقفا بالإسلام كافرا بالإسلام في أسرة متدينة، وحزبا ملحدا قابضا على أزمة أمور الدولة يبعث في شعبه الإرهاب ويسومه سوء العذاب، ويجبره على قبول الحكم بما جاء به ماركس ولينين، ومدرسا معاديا للدين وهو من أبناء حملة هذا الدين يدرس أبناء المسلمين الكفر، وهكذا قلما تجد بلدا خاليا من ردة ومرتدين إلا ما شاء ربك وقليل ما هم!.
الأساليب المتخذة لارتداد المسلمين
من المسلم به أن أعداء الإسلام لا يقر لهم قرار ما داموا يرون المسلمين متمسكين بإسلامهم حقا، كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم}، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم}.
وقد دأب الكفار على ذلك في كل زمان ومكان.
كما أنه من المسلم به كذلك أن ضعف الإيمان عند المسلم هو محور دوافع ردته عن الإسلام، ولكن للأساليب المتخذة لإخراج المسلمين عن الإسلام دورها الخطير.
فقد لا يقوى بعض الأساليب على إخراج المسلم من الإسلام إلى الكفر، وإن كان ضعيف الإيمان، وقد يزعزع بعضها الآخر إيمان من هو أقوى إيمانا من السابق.
وأقوى الأساليب وأكثرها تأثيرا لارتداد المسلمين هي أساليب هذا العصر التي اتخذت لهذا الغرض، سواء كانت عن طرق الإغراء أم عن طريق التهديد.
ومصادر هذا الأساليب هي: اليهود، والنصارى، والشيوعيون، ومن أهم الأساليب الخادعة هي إخفاء الهدف الذي يتحرك للوصول إليه هذا الثالوث، فالهدف الحقيقي هو إخراج المسلمين عن الإسلام، والهدف البارز هو: العامل الاقتصادي أو الاجتماعي أو الجغرافي وغيرها.(1/18)
وسأذكر في هذا البحث الموجز بعض تلك الأساليب التي حققوا عن طريقها الوصول إلى الهدف الخفي:
1- التعليم، وعن طريقه خرجوا تلاميذ مرتدين في الغالب من أبناء المسلمين، وأسندوا إليهم الإجهاز على ما بقي من دين وخلق.
2- وسائل الإعلام، وتمتاز بعمومها وشمولها، فما من فرد كبير أو صغير، ذكر أو أنثى، عالم أو جاهل إلا وفي إمكانه أن يسمع أو يقرأ أو يرى، وقد وجهت هذه الوسائل توجيها دقيقا ومركزا ومغريا وأعد لها جيوش من دعاة الإلحاد والكفر والتحلل.
وأقل ما يمكن أن تحدثه هذه الوسائل في نفوس ضعاف الإيمان هو الميوعة وردم ما بقي من فطرة في النفوس.ولو أحسن استعمال هذه الأجهزة لكانت مدارس نافعة ورائدة خير كثير، ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
4- التبشير والاستعمار والاستشراق
ولكل منها دوره الخطير الذي ليس المقام هنا مقام بسطه، وما يجري في العالم الإسلامي في كل من آسيا وإفريقيا، وملحقاتهما لا يخفى على المهتم بشئون المسلمين، وإن كانت وكالات الأنباء العالمية لا تنقل الحقائق المرة، بل تذكر النادر منها مزيفا.
وما تحاوله الصليبية واليهودية والشيوعية الآن في أرجاء المعمورة، كأندونيسيا والفلبين والصين وروسيا وقارة إفريقيا وهنا في أرض فلسطين وعدن وظفار ليس بخاف ولا بعيد.
وما كل وسيلة من هذه الوسائل بمؤدية حتما إلى الارتداد ولكنها قد تؤدي وقد تمهد.
5- التصدي لإنهاء الردة(1/19)
وأخيرا فإذا كان قد تصدى لإنهاء الردة والقضاء عليها في الماضي قائد مؤمن ثابت شجاع كأبي بكر، معتصمة بحبل الله كبقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت فيهم الصفات اللازمة لحزب الله، من محبتهم لله، ومحبة الله لهم وذلة على المؤمنين، وعزة على الكافرين، وتخليص الولاء لله ولرسوله والمؤمنين ومعاداة للكافرين، ومن إعداد وتنفيذ للجهاد في سبيل الله، وعدم خوف لومة لائم فيه، إذا كان وجد ذلك القائد وهذه الأمة بهذه الصفات فإن هذه الردة "لا أبا بكر لها" فقواد العالم الإسلامي أغلبهم بعيد عن الإسلام، والأمة الإسلامية يسودها التفرق والجهل والأثرة ديدنها الخروج على أحكام الله، تعادي أولياء الله وتوالي أعداءه أصبح الجهاد عندها نسيا منسيا، أغلب علمائها يهمهم لقمة العيش والسلامة حتى من كلمة تقال باللسان، والمتصدون للعمل متفرقون وكثير منهم مثبطون يحوفوننا من أمريكا وصواريخها، وروسيا ونفاثاتها، فهل يؤمل من أمة هذه حالها أن تقضي على ردة هذا العصر المعقدة المنظمة المدعمة من الداخل والخارج؟ بل لا يوقنون.
والمؤسف أن هذا العصر الذي تفتحت فيه العقول على كثير من مخلوقات الله وعجائب صنع مما لم يكن متيسرا لها قبل ذلك والذي كان من المفروض أن يزيد الناس إيمانا بالخالق وتعرفا عليه – وقد زاد العقلاء منهم فعلا – في هذا العصر نجد من يجترئ قائلا: ما الدليل على وجود الله؟!،
سبحان الله:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
أيوجد هذا السؤال في عصر النور والعلم والعرفان؟!.
أعقولكم قادرة على الإحاطة بكل موجود؟!(1/20)
والأكثر أسفا أن هذه الفئة الشاذة في تاريخ البشرية قد قامت لها دولة عظمى – كما تسمى – في القرن العشرين، أولئك هم الشيوعيون، وقد أثرت عقيدتهم على كثير من شباب المسلمين حتى أصبح الشاب في بلاد الإسلام في وسط أسرته المسلمة تحيط به المآذن من كل مكان ويطرق سمعه التكبير كل يوم يقول في كبرياء أين الله؟ إن كان موجودا فأرونيه؟!.
فصاروا بذلك مرتدين أعظم ردة وجدت على ظهر الأرض.
إنكار أسمائه وصفاته
من أنكر اسما من أسماء الله أو صفة من صفاته التي وردت في كتابه أو سنة رسوله الصحيحة، كالسميع البصير، الرحمن الرحيم، القدير المقتدر، وكالعلم والرحمة فقد جحد ما أثبته الله لنفسه، وذلك هو الكفر بعينه.
ولكن هنا ملاحظتان هامتان:
الأولى: أن بعض الفرق الإسلامية أثرت فيها فلسفات أجنبية عن دينها في ظروف خاصة، فوقعت في شباك تلك الفلسفات فنفت بعض الصفات، أو أولتها وأخرجتها عن معناها ظنا منها أن في ذلك تنزيها لله عن مشابهة المخلوقين، لأنهم – بسبب انحراف فطرهم عن طريق تلك الفلسفات – لم يفهموا من تلك الصفات إلا ما فهموه من صفات أنفسهم، ومعنى ذلك أنهم نفوا أو أولوا عن اجتهاد أو حسن نية وتقليد.(1/21)
الملاحظة الثانية: أن إتيان بعض الأعمال أو الأقوال أو الاعتقاد يكون كفرا في حد ذاته، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كل من أتاه يكون كافرا، وهذه قاعدة عظيمة نبه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد غفل عنها كثير من العلماء فوقعوا بسبب ذلك في مأزق خطير، إذ تجد فريقا منهم يقدم على تكفير الشخص بمجرد ارتكابه ما يعتبر كفرا في حد ذاته بصرف النظر عن الفاعل وما يحيط به، كما تجد فريقا آخر يتحاشى أن يصف ما اعتبره الشارع كفرا بوصفه اللائق به خوفا من أن يقع في تكفير مرتكبه، وكلا الأمرين خطر وخطأ والصحيح أنه لا يحكم على كل من صدر منه ما يعتبر كفرا في حد ذاته بأنه كافر، لأنه قد يكون مستحقا للكفر بتوفر الشروط فيه وقد لا يكون كذلك لعدم توفرها، كما أنه لا يجوز الإحجام عن وصف ما وصفه الشارع بالكفر بأنه كذلك.
ولذلك نرى أئمة الإسلام يحكمون بأن منكر القدر كافر في الجملة ثم يتوقفون في تكفير القدرية.
وبهاتين الملاحظتين يتضح المقصود في هذا الباب وغيره.
الإشراك به تعالى
الله تعالى خلقنا لنعبده كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ونفى عمن أشرك به مغفرته، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
فمن صرف لغيره سبحانه شيئا من أنواع عبادته فقد أشرك وصار مرتدا، مثل دعاء غيره أو الذبح له أو النذر وما شابه ذلك.
نسبة الظلم إليه تعالى
من نسب الظلم إلى الله تعالى فقد كفر، لأنه تعالى نفى عن نفسه الظلم في نص كتابه وسنة رسوله، قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}،
وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
وفي الحديث القدسي الصحيح: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
الاستهزاء بأسمائه وصفاته(1/22)
من استهزأ باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته فقد كفر ومن هؤلاء من يسخر من دعاء الله أوطلب الشفاء منه، أو قضاء أي حاجة يطلبها منه العبد ويعتبرون ذلك من الخرافات، قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
عدم محبة الله تعالى، أو مساواة المخلوق به في المحبة
إن هذا الخالق الذي خلق هذا الكون، وسخره للإنسان، وأعطى هذا الإنسان العقل والقدرة على استخدام كثير من مما خلق الله في مصالحه إذا انعدمت محبة هذا الخالق المسخر المانح من قلب هذا المخلوق الممنوح أو ارتفعت في قلبه محبة غير الله حتى ساوت محبة الله فذلك دليل عدم الإيمان بالله، وإذا كان الشاعر قد سمى الإحسان الصادر من مخلوق إلى مخلوق استعبادا:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
فأي إحسان يوازي إحسان الخالق إلى خلقه لاسيما هذا الإنسان؟!
أليس المخلوق المحسن نفسه من إحسان الله الخالق؟!
وهذه المحبة هي محبة الخضوع والتذلل والتعظيم المسلتزم للإيثار المطلق، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}.
وهناك محبتان أخريان تكونان لغير الله – وليس فيهما محظور – بل الأولى منهما عبادة تابعة لمحبة الله، وهي محبة من يحبه الله، كمحبة الرسل وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومحبة عباده الصالحين كالصحابة وغيرهم، إلا أن محبة الرسول كرتبته في البشر لا تصل إليها محبة غيره، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين".
وهكذا محبة ما يحبه الله من الأعمال الصالحة فإنه عبادة تابع لمحبته تعالى.(1/23)
المحبة الثانية: العادية أو الطبيعية، وهي التي تحصل عادة من الأب لابنه، أو من الزوج لزوجه، أو من الصديق لصديقه، وهذه قد تكون عبادة إذا ما تدخلت فيها النية الصالحة فقلبتها من محبة طبيعية إلى محبة في الله، ومن المحبة الطبيعية قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} على أحد تفسيرين للعلماء فيها.
إعطاء حق التشريع لغيره فيما لم يأذن به
وفي هذا البحث مسألتان:
الأولى: بيان أنواع الحكم بغير ما أنزل الله وهي في الجملة أربعة أنواع:
النوع الأول: أن يستحل الحاكم الحكم بغير ما أنزل الله فيحل الزنا وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله بغير حق.
النوع الثاني: أن يصرح بأن الحكم بما أنزل الله ليس صالحا للعصر، وأن القوانين الوضعية أصلح وأنفع للناس.
وحكم صاحب هذين النوعين هو أنه كافر خارج عن دائرة الإسلام، ولا خلاف بين أهل الحق في ذلك.
النوع الثالث: ألا يصرح بالاستحلال ولا عدم صلاحية الحكم بما أنزل الله نطقا، ولكنه يعمل ما يدل على ذلك، كمن يتولى منصب رئيس الدولة في بلاد يطبق فيها الحكم بما أنزل الله فيلغي ذلك إلغاء كاملا، ويحل محله القانون الوضعي الذي ينظم التعامل بالأمور المحرمة، كوضع الضرائب على الزنا وترك السكيرين يشربون الخمر علنا، وعدم إقامة الحدود والقصاص وبالجملة إلغاء المحاكم الشرعية بكاملها إلى حد التدخل في الأحوال الشخصية فيساوي بين الذكر والأنثى في الإرث ويحرم تعدد الزوجات ويجعل للمرأة الحق في الطلاق كالرجل.
النوع الرابع: أن يحكم بغير ما أنزل الله في جزئية الشريعة، مع اعتقاد هذا الحاكم أنه عاص بذلك وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله.
هذه هي الأنواع، وسبق حكم النوعين: الأول والثاني، فما حكم الثالث والرابع؟ هذا ما أريد توضيحه في المسألة الآتية:
المسألة الثانية(1/24)
الذي يظهر أن الذي يحكم بغير ما أنزل الله في بعض الجزئيات وهو يعتقد أنه عاص، وأن الواجب عليه هو الحكم بما أنزل الله أنه لا يكون كافر بذلك، بل عاصيا، وإذا أطلق عليه الكفر فهو كفر دون كفر، وعلى هذا تدل عبارات العلماء رحمهم الله.
هذا بالنسبة للنوع الرابع، أما النوع الثالث فهو قريب فيما أرى من النوعين الأول والثاني، لأن إلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية وهو قائم في شعب مسلم، والاستعاضة عن ذلك بالقوانين الوضعية المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله بتحليل الحرام وتحريم الحلال وحماية ذلك بقوة السلطة كل ذلك يدل على الرغبة عن حكم الله إلى غيره، ولا أظن أن علماء المسلمين يختلفون في كونه كافرا وهم الذين يصرحون بارتداد من أنكر وجوب الطهارة أو رمى المصحف بقذر.
ما يتعلق بالملائكة
الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، وفي حديث جبريل المشهور: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره".
فإنكار وجودهم تكذيب لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو ردة إن صدر من مسلم، ومثل إنكار وجودهم إنكار ما أخبر الله به من صفات لهم جميعا أو لبعضهم، أو إثبات ما نفاه الله عنهم. وكل ذلك يحتاج إلى بحث طويل لا يتسع له المقام.(1/25)
ولكني أحب أن أنبه على شناعة اعتقاد غلاة الشيعة الذين يكذبون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فينتقصون خير سفير بين الله ورسله وينسبون إليه الخيانة ويعادونه في وصف اليهود الذين عادوه من قبل، ويزعمون أنه لم يبلغ الرسالة إلى مستحقها – وهو علي رضي الله عنه – وإنما ذهب بها إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، لا من عند الله، والله يقول: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}، وقال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين َبِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
فماذا يريد الروافض واليهود بعد هذا؟!!
ما يتعلق بكتب الله المنزلة على رسله
لم يزل الله تعالى ينزل على رسله عليهم السلام آياته التي توجه البشرية إلى ما فيه صلاحها في الدينا والآخرة، فقد خاطب آدم: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}، وقال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}، وقال على وجه العموم: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، على وجه التفصيل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}.(1/26)
وأمر تعالى المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يذيعوا إيمانهم بكل ما أنزل على رسله فقال:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ}.
وأخبر تعالى عنهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل دون تفريق، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ...} إلى أن قال: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
فمن جحد كتب الله المنزلة إجمالا أو تفصيلا فهو كافر. وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف الذي يجب أن نقفه من الكتب السابقة بما يأتي:
1- ما وافق كتابنا أو سنة نبينا منها صدقناه.
2- وما خالفهما كذبناه.
3- وما لم يوافق أو يخالفهما لا نصدقه ولا نكذبه خشية أن يكون ما صدقناه كذبا أو ما كذبناه صدقا.
ولكن هنا ملاحظة، وهو أنه قد يقول قائل: أنا لا أؤمن بالتوراة ولا الإنجيل – مثلا – وهو يريد التوراة والإنجيل الموجودين حاليا بما فيهما من تحريف، فهل يعتبر ذلك ردة؟
الجواب: لا، ولكن الإطلاق خطأ، فينبغي أن يصرح بمقصوده حتى لا يحدث لبس وشك.
ما يتعلق بالقرآن الكريم
القرآن كلام الله، نزله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل الأمين عليه السلام، أخباره صدق، وأحكامه عدل، تحدى الله الجن والإنس مجتمعين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أنزل لتطبقه البشرية: إيمانا وعبادة ومعاملة يهدي لأقوم سبيل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
فمن جحد هذا القرآن، أو شك في صدقه، أو عدل أحكامه فهو خارج عن ملة الإسلام، وقد نفى الله عنه الشك في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه}.(1/27)
ومن زعم نقصه كبعض الروافض، أو عدم حفظه من التحريف فقد كفر كذلك، لأن الله عز و جل يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، ويقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}، وزعم نقص القرآن كزعم نقص الدين.
ولا يدخل في زعم نقص القرآن اعتقاد أن في السنة أحكاما أخرى زائدة على ما جاء في القرآن، فالسنة وحي كالقرآن، وإن اختلفت عنه في بعض الأمور.
ومن اعتقد أن القرآن لم ينسخ كل الكتب المتقدمة أو أن لكتاب منها حق الطاعة مستقلا أو مع القرآن فقد كفر، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ} والآيات والأحاديث كثيرة جدا في هذا المعنى.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
وإذا كان هذا شأن الكتب المحرفة أمام القرآن وهذا حكم من أعطاها حق التوجيه معتقدا أنها من عند الله فما شأن القوانين الوضعية وعبادها؟
ومن سخر بالقرآن الكريم واستهزأ به، كان مرتدا ومن ذلك: رمي المصحف بقذر، أو حرقه احتقارا له، ونكاية بالمسلمين، قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم}.
ما يتعلق بالرسل عليهم السلام(1/28)
يمتاز المؤمنون بالإيمان بالغيب، قال تعالى في وصفهم: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فجعل الإيمان بالغيب أول صفة لهم بعد التقوى.
وقد سبق بعض النصوص الدالة على أن المؤمنين يؤمنون بالرسل كلهم لا يفرقون بين أحد منهم.
ووعد الله المؤمنين الذين لا يفرقون بين الرسل بالأجر والمغفرة والرحمة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}، ووصف الكافرين به وبرسله أو المفرقين بينهم بأنهم هم الكافرون حقا وهددهم بالعذاب المهين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}.
فمن لم يؤمن بالرسل إجمالا وتفصيلا فهو خارج عن دائرة الإسلام.
ما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
مما لا شك فيه أن الداعي إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم قائم إلى يوم القيامة، وعن طريق هذا الداعي يمكن الاستدلال على وجوب الإيمان بغيره من الرسل عليهم السلام، فالآيات التي آمن الناس عن طريقها بالرسل السابقين من المعجزات انتهت أما الآية التي تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فهي باقية إلى يوم القيامة ألا وهي القرآن الكريم الذي تحدى الله به الجن والإنس مجتمعين كما مضى، فمن لم يؤمن به بعد هذا فمن يشك في كفره؟! هذا بالإضافة إلى أن دين الإسلام الذي جاء به صلى الله عليه وسلم فلم ير في الأرض له مثيل في كل مجالاته.(1/29)
وهو عليه السلام خاتم النبيين كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وأخبر عن نفسه فقال: "إن لي أسماء فأنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر وأنا العاقب – والعاقب من لا نبي بعده –" واعتبر مدعوا النبوة بعده صلى الله عليه وسلم كفارا مرتدين كمسيلمة وسجاح وأخبر أن الدجالين كثيرين سيدعون النبوة بعده.
وقد حصل ذلك فعلا، وما الدجال الكبير مبرز أحمد الذي انتشر أتباعه في كل مكان بعيد عن الأذهان.
ومثل من لم يؤمن بأنه خاتم النبيين في الكفر من اعتقد أن أحدا شاركه في الرسالة، كزاعمي مشاركة علي رضي الله عنه له في ذلك.
وكذلك من لم يؤمن بعالمية رسالته، في الزمان أو المكان أو الأجيال البشرية، كالذين يزعمون أنه رسول إلى العرب خاصة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، وقال صلى الله عليه وسلم: "وبعثت إلى الناس عامة".
ومن استهزأ به بأي أنواع أسلوب سواء كان بالكلام أو التصوير في الصحف أو الأفلام أو غير ذلك فقد كفر.
وسبقت الآية الكريمة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم}.
والمؤسف كل الأسف أن كثيرا من الناس – لاسيما الكثير من رؤساء الشعوب الإسلامية لو علم أن شخصا ما يسخر منه ويسبه لأنزل به أشد العقاب ولكنه لو بلغه أنه سب الله ورسوله لم يتحرك قلبه لذلك فأين إسلام مثل هؤلاء؟!
ما يتعلق بالواجبات التي علم وجوبها من الدين بالضرورة
هناك واجبات من أصول الإسلام، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، يعلم وجوبها خاصة المسلمين وعامتهم لاسيما الناشئ في ديار الإسلام، وقد دل على وجوبها نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.(1/30)
فمن جحد وجوب هذه الأصول فهو مرتد، ولا حاجة إلى الإطالة في هذا الموضوع لعدم الخلاف فيه.
وإذا فرض أن الجاحد جاهل، كأن يكون حديث عهد بالإسلام أو في مكان ناء عن العلماء فله حكمه الذي سيأتي قريبا في الركن الثاني من أركان الردة، وهو: القصد الجنائي.
فإن ترك هذه العبادات تكاسلا ففيها للعلماء أقوال: القول الأول: أنه لا يكفر ولو عزم على تركها أبدا استدلالا بالنصوص الدالة على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.
القول الثاني: أنه يكفر فيما عدا الحج.
القول الثالث: أنه يكفر بترك الصلاة فقط.
القول الرابع: أنه يكفر بترك الجميع.
والقول الثالث: هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وظاهر النصوص تدل على كفر تارك الصلاة كقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر" إلا أن الذين لا يرون التكفير يحملونه على كفر دون كفر قالوا: وفيه جمع بين النصوص الدالة على التكفير والنصوص الدالة على أنه يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وغير ذلك.
وللعلامة ابن ا لقيم رحمه الله كتاب قيم في هذا الباب هو كتاب الصلاة فليرجع إليه من شاء.
والظاهر من سياقه التكفير معللا ذلك بأمرين:
الأول: ظواهر النصوص التي مرت الإشارة إليها.
الثاني: أن من في قلبه شيء من الإيمان لا يدعه هذا الإيمان مهما قل أن يترك الصلاة طول عمره لاسيما إذا هدد وحبس وضرب. وعلى هذا فالذين يرون كفره لم يخرجوا على القاعدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة، وهي: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بكبيرة غير الشرك، لأن المكفر يرى أن تارك الصلاة طول عمره ليس مؤمنا، ولكن هنا إشكال لم أستطع الإجابة عليه ولعل والدنا وشيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي اعتدنا منه التنبيه على كثير من النقاط في مثل هذا المقام يفيدنا في هذا الإشكال وغيره.
ما يتعلق بالمحرمات المجمع على تحريمها(1/31)
وكما أن في الشريعة الإسلامية واجبات ظاهرة تعتبر أصولا فيه كما مضى، ففيها كذلك محرمات ظاهرة تعتبر أصولا وقد علم تحريمها من الدين بالضرورة، كالزنا وقتل النفس التي حرم الله بغير حق وأكل لحم ا لميتة، واستحلال أخذ أموال الناس بالباطل.
وبنظرة إلى ما يجري في أغلب الشعوب الإسلامية التي يحكمها من لم يلتزموا بشرع الله بل بقوانين ساداتهم وأهوائهم نجد أن كثيرا من هذه المحرمات تصدر بها قوانين تنظمها وتجبي من ورائها الضرائب لخزائن الحكام كما أن تلاميذ الشيوعيين الذين فاقوهم في الخروج على الفطرة والمنطق يستحلون أموال الناس ظلما في قوانين أساتذتهم الأصليين، فأين نضع هؤلاء؟ ندعهم لله يضعهم في المقر المناسب لهم.
الركن الثاني: القصد الجنائي
قد يصدر من الشخص ما يعتبر كفرا في حد ذاته، ولكنه قد يصدر منه عن جهل بحكمه، أو غير ذلك مما يجعل الشخص غير مسئول جنائيا عنه.
فصدور الكفر منا لجاهل المعذور في جهله لا يخرجه من الإسلام قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل}.(1/32)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكثير من الناس قد نشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة فلا يعلم كثيرا مما بعث الله به رسوله ولا يكون هناك م يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث عهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقد دل على هذا الأصل ما جاء في الصحيحين في شأن الذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت ؟ قال: خشيتك، فغفر له.
ففي هذه القصة:
1- إنكار قدرة الله على إعادته وهذا كفر لأنه إنكار للقدرة.
2- وفيه إنكار للمعاد ومع ذلك فقد غفر له لجهله"(1)[7].
وكذلك الخطأ لا يحكم على صاحبه بالكفر وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وصح أنه تعالى قال جوابا على هذا الدعاء. نعم. وفي الحديث: "تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
فقد يشتد الفرح بصاحبه – وكذلك الغضب – فيصدر منه ما يعتبر كفرا لو ألقى له بالا ولكنه يعذر لعدم قصده. كالفاقد راحلته في فلاة وعليها طعامه وشرابه ثم وجدها بعد أن يئس منها فقال: من شدة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك".(1/33)
وكذلك المتأول الذي تدل القرائن أنه صادق في تأوله كالذين استحلوا الخمر في أول الإسلام مستدلين بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، ظنا منهم أنها تعني تحليل شرب الخمر ولم يكفروا ولو لم يكونوا متأولين لكانوا مرتدين، وكذلك الخوارج الذين استحلوا دماء المسلمين وأموالهم فإن المحققين من العلماء لم يكفروهم لأنهم كانوا متأولين ولهذا لما سئل علي رضي الله عنه عن كفرهم قال: "هم من الكفر فروا".
وكذلك المكره على فعل أو قول ما يعتبر كفرا فإنه وإن كان الأفضل في حقه أن يصبر ولا يقدم على قول أو فعل الكفر كما فعل بلال الذي كان يعذب وهو يقول: أحد أحد – أقول: وإن كان الأفضل في حقه الصبر إلا أنه لا يعتبر كافرا لو أقدم على ما طلب منه ما دام مطمئن القلب بالإيمان كما فعل عمار والله لا يكلف إلا وسعها.
وفي الهازل الذي يطلق كلمة الكفر استخفافا غير قاصد لما قال خلاف:
فيرى الشافعي والظاهرية أنه لا يكفر لأن الأعمال بالنيات ويرى غيرهم أنه يكفر لأن الشارع قد جعل بعض المعاصي الظاهرة أمارة على الكفر وذلك كالسجود للأصنام.
شروط الردة
يشترط لصحة الردة أهلية الشخص المحكوم عليه بالردة وهذه الأهلية لا تكتمل إلا بالعقل والبلوغ:
1- فالمجنون الذي لا يفيق من جنونه مطلقا لا تصح ردته فإن كان يفيق تارة ويجن تارة فلا فلا تصح ردته في حال جنونه وتصح في حال إفاقته.
فإن غاب عقله بسكر محرم فيرى الإمام مالك والشافعي رحمهما الله صحة ردته. وأظهر الروايتين عن أحمد رحمه الله قالوا: لأنه تسبب في السكر مختارا فكان ذلك عقابا له ويرى أبو حنيفة رحمه الله عدم صحة ردته لزوال عقله وذلك رواية عن الإمام أحمد أيضا وهذا هو الصحيح
فإن السكران لا إرادة له يعتد بها. أما العقاب فقد قرر الشرع عقاب السكران فلا يزاد على ما قرره الشرع إلا بدليل ولا دليل.(1/34)
2- والصبي غير المميز لا تصح ردته عند الجميع. فهو كالمجنون أما المميز ففيه خلاف:
فرأى أبو حنيفة صحة ردته. ورأى غيره عدم صحتها وهذا هو الصواب للحديث: رفع القلم عن ثلاثة منها: وعن الصبي حتى يبلغ.
كما يشترط في ثبوت الردة أن يقر المرتد على نفسه أو يشهد عليه شاهدا عدل بذلك.
هذا آخر كما استطعت الإدلاء به في هذه المحاضرة عن الردة.
وبه يظهر أن البحث كله يدور حول تعريف الردة وأركانها وشروطها، ولم يتطرق لأي حكم من أحكام المرتد التي فصلها فقهاء الإسلام في كتبهم ولعل الله يهيئ لي إكمال ذلك لتتم الفائدة وترتبط أجزاء الباب بعضها ببعض.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
---
[1] راجع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/238/285/351/475).
[2] راجع المصدر السابق نفس الجزء وصفحاته المذكورة.
[3] راجع مدارج السالكين (1/335-347).
[4] مجموع الفتاوى (20/103)، (28/413).
[5] إلا أن بعض المحققين رأوا أن مانع الزكاة إذا قاتل على منعها الإمام أو نائبه فإنه يكون مرتدا لأن المسلم لا يمكن أن يقاتل على منعها وهذا تنزيل للقرينة الدالة على الجحود منزلة الجحود، كان هذا معنى ما علق به سماحة رئيس الجامعة على هذه الفقرة.
[6] راجع رسالة (ردة ولا أبا بكر لها) للأستاذ الندوي.
[7] مجموع الفتاوى (3/231)، (11/406-413).(1/35)