الرحالة العبدري
د. علي إبراهيم كردي
يعد العبدري من أهم الرحالين المغاربة في القرن السابع الهجري، وكان الهدف من رحلته أداء فريضة الحج، وطلب العلم.
وقد دون العبدري مشاهداته قي رحلة جليلة الفوائد، عظيمة القيمة، هي " رحلة العبدري" (1) أو " الرحلة المغربية ".
قام العبدري برحلته في 25 ذي القعدة من سنة 677هـ براً من بلده " حاحة " على المحيط الأطلسي في المغرب الأقصى، وقطع كثيرا من المدن في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر، ثم دخل أراضى الحجاز، فأدى فريضة الحج، ويمم شطر فلسطين فزار بعض مدنها ثم عاد إلى بلده برا.
اهتم العبدري في رحلته بالناحية العلمية للبلدان التي مر بها، وترجم لعدد من الشيوخ الذين لقيهم، ودوَّن ما أخذ عن كل واحد منهم من فقه، وحديث و أدب، وغير ذلك، مما جعل الرحلة اقرب ما تكون إلى فهرس لشيوخه.
ولم يغفل العبدري النواحي العمرانية في البلدان التي مر بها، ولا الآثار الباقية، ولا النواحي الاجتماعية والاقتصادية، والجغرافية والتاريخية، مما يزيد في قيمة الرحلة ويجعلها مصدرا مهما للدارسين.
اسمه ونسبه:
لم تسعفنا المصادر القديمة بترجمة وافية لحياة العبدري، إذا خلت كتب التراجم والطبقات والفهارس من ذكره، وأقدم من ترجم له – فيما نعلم – ابن القاضي المكناسي (ت 1025هـ) في كتابه " جذوة الاقتباس " (2) غير أن هذه الترجمة جاءت مختصرة لا تكاد تفيد كثيرا، فهي لا تذكر حديث ولادته، ولا زمن وفاته. ولا تفصِّل في أخبار نشأته. ويبدو أن ابن القاضي استقى ترجمة العبدري من رحلته، وكذلك فعل من جاء بعده، وترجم لصاحبه الرحلة.(3)
فالرحلة فيما نظن هي المصدر الرئيس الذي أفاد منه كل الذين ترجموا للمؤلف، ولولاها لضاع ذكر العبدري فيما ضاع من تراث الأمة.(1/1)
وثمة احتمال أن يكون ابن عبد الملك المراكشي، (ت 703 هـ)ترجم للعبدري ترجمة وافية في كتابه " الذيل والتكملة " (4) لما كان بينهما من علاقة وطيدة، إذ يبدو انه جمعت بينهما بعض حلقات الدرس في مراكش، ولا سيما حلقة شيخهما قاضي الجماعة بمراكش أبى عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن يحيى المدعو بالشريف. (5) ونجد العبدري يذكر ابن عبد الملك بقوله: صاحبنا الفقيه الأوحد ويصف كتابه بالإتقان والإفادة (6)، ولكن هذا الاحتمال يبقى رهناً بعثورنا على الجزء الخاص الذي ترجم فيه للمحمّدين.(7)
ولذلك كان لزاما علينا أن نسعى وراء الأخبار، وما استيسر من دلالاتها، لنجمع ترجمة اقرب ما تكون إلى الصحة لهذا الرحالة الأديب.
والعبدري كما جاء في صدر مخطوطات رحلته: محمد بن محمد علي بن أحمد بن سعود. وينتهي نسبه إلى عبد الدار بن قصي بن كلاب، واليهم نسبة العبدري.
اختلفت الآراء في أصله، فبعض مترجميه (8) عَدُّوه أندلسياً هاجر من الأندلس أيان اشتعالها بالحروب والفتن، واستقر في "حاحة " على شاطئ المحيط الأطلسي.
وبعضهم (9) يرى أن أسرة العبدري كانت تقطن في بلنسية، ثم هاجرت إلى المغرب، وأقامت، وفيها كانت ولادة المؤلف.
ولعل نشأة العبدري في "حاحة " هي التي حملت الأستاذ محمد الفاسي على القول: إن العبدري مغربي لا أندلسي(10).
وليس بين أيدينا ما يرجح أحد القولين، وان كنا لا نلمس في رحلته ولا في شعره ذكرا للأندلس يدل على تعلق العبدري بها، على حين انه كان يذكر مراكش على أنها موطنه.(11)(1/2)
وإذا نظرنا إلى تراجم العبدريين في المصادر الأدبية، وكتب التراجم المختلفة فإننا نجد أن موطنهم بلنسية (12)، ولعل هذا الأمر هو الذي حمل بعضهم إلى رد نسبته إلى الأندلس، غير أن من رحل من المشرق من بني عبد الدار سكنوا بلنسية، فمن المحتمل أن يكون اصل قوم الرجل أقاموا في الأندلس، غير أن أهله الادنيين رحلو ا إلى المغرب و أقاموا في حاحة، وثمة ولادته ونشأته كما سلف.
قام العبدري برحلته في الخامس والعشرين من ذي القعده عام ثمانية وثمانين وستمائة، وكان عندها في عنفوان عمره كما قال له شيخه أبو زيد الدباغ (13).فإذا فرضنا انه كان حينذاك في الخامس والأربعين لأنه قال عن ابن خميس التلمساني – الذي كان – حين لقبه بتلمسان في الثامنة والثلاثين من عمره – بأنه " فتي السن " فتكون ولادته زهاء سنة (643هـ) ونظن أن وفاته كانت بعد سنة (700هـ) وهذا قريب مما قدمه الدكتور عمر فروخ، إذ جعل وفاته سنة (720هـ)(15)
ويبدو أن الأمر قد التبس على الزركلي إذ صنع ترجمتين متتاليتين للعبدري على انه شخصان مختلفان (16) ووقع في الوهم نفسه عمر رضا كحالة، والحقيقة أن الترجمتين هما للعبدري صاحب الرحلة.
وثمة خلاف آخر في كنية الرجل، فبعضهم يكنيه أبا محمد (18)، وبعضهم الآخر أبا عبد الله (19)، ولا حاجة للإطالة في الحديث عن هذا الخلاف، فكنية الرجل هي أبو عبد الله كما وردت في صدر النسخ المخطوطة للرحلة، وكناه بها أيضا البلوي الذي أورد له أبياتا ثانية في رحلته .(20)
أما الكنية الأخرى فقد تأتت من ذكره لابنه محمد في رحلته. ولا يعضدها أي دليل آخر.
ثقافته(1/3)
لا يذكر العبدري شيئا عن دراسته الأولى، ولا تسعفنا المصادر بمعرفة بدايات تكوينه الثقافي. ولا يستبعد انه تتلمذ على يد والده، ودخل الكتاب في بلدته " حاحة "، فحفظ القران الكريم، وتعلم على الطريق المتبعة عصرئذٍ من التدرج في حفظ المتون، وتعلم العمليات الحسابية، ثم ارتقى إلى أن أصبح من الطلاب ، فانتقل حينئذ إلى مراكش التي كانت مركزا علميا مرموقا فاخذ، عن علمائها ما استطاع وذكر منهم محمد بن علي بن يحيى الشريف(21).
وقد أفاد العبدري من كثرة مشايخه وتنوع ثقافتهم، فجاءت ثقافته منوعة شاملة كثير من الفنون، وهذا ما ظهر جليا في رحلته الذي يظهر فيها المؤلف حافظا القران والحديث، مطلعا على الأدب العربي نثره مشعره وخطبه ورسائله، عارفا بأيام العرب وغزواتهم، وفصحاء خطبائهم وله معرفة بالأسماء والألقاب والكنى، وأسماء الأماكن وبمصطلحات علوم الأدب والبلاغة والعروض.
ولعل في سرد أسماء الشيوخ الذين التقاهم في رحلته وما أخذ عن كل واحد منهم ما ينهض دليلاً على سعة ثقافته وتنوعها:
1- محمد بن صالح الكناني الشاطبي (22)(ت 699هـ) وكان عالما بالحديث، لقيه العبدري في بجاية، وقرأ عليه بعض كتاب " الموطأ " وبعض كتابي " التيسير " و"المقنع " لأبي عمر الداني (ت444هـ) وجميع قصيدة الشاطبي في القراءات وبعض كتاب "شمائل النبي" للترمذي ، وبعض كتاب " رياضة المتعلمين " للحافظ أبى نعيم (ت 430هـ) وكتاب " فضل قيام الليل " و " فضل تلاوة القران " للإمام أبي بكر الآجري، كما قرأ عليه " قصيدة معراج المناقب " لابن أبي الخصال، وأنشده بعض شعر ابن برطلة (ت 661هـ) وأجازه إجازة عامة.
2- الحسن بن بلقاسم بن باديس (23) (ت 688هـ) لقيه في قسنطينة، وسمع عليه صدرا من " الموطأ"
3- حسين بن محمد الطبلي (24)(ت 688هـ) لقيه في باجة وقرأ عليه بعض كتاب " المقرب في النحو " لابن عصفور.(1/4)
4- أبو محمد بن هارون (25)(ت 702هـ) لقيه العبدري في تونس عند الورود والصدور، وقرأ عليه بعض كتاب "الموطأ" وبعض كتاب "التيسير " للداني، ودولا من " صحيح مسلم "، وقرأ عليه " فهرسة جده أبى جعفر بن خلصه الحميري " " وفهرسة أبى القاسم بن بقي " وقرأ عليه " برمجة في أسماء شيوخه " وكتاب " الوعد والإنجاز "، لابن الطيلسان (ت 642هـ)، وكتاب " درر السمط " لابن الابار (ت 658 هـ).
5- أبو جعفر اللبلي (ت 691هـ) (26): لقيه في تونس، وقر أعليه بعض " الموطأ"، و " جامع الترمذي "، وكتاب " شمائل النبي " و " قصيدة الشاطبي في القراءات " و: كتاب التيسير " للدلني، وأجازه إجازة عامة.
6- أبو عبد الله بن هريرة (ت بعد 691هـ)(27): لقيه في تونس، وقرأ عليه كتابه الذي جمعه في "وفيات المشاهير "، وقرأ عليه"القصيدة الشقراطسية " لأبي محمد الشقراطسي (ت 466هـ).
7- أبو زيد الدباغ (ت 699هـ) (28): عالم بالحديث والفقه، لقيه العبدري في القيروان، وقرأ عليه بعض أحاديثه الثنائية الإسناد من حديث مالك بن أنس، وبعض أحاديثه التساعية، وناوله " الأحاديث الأربعين في عموم رحمة الله لسائر المؤمنين "، وسمع عليه كثيرا من الأحاديث والشعر.
8- أبو العباس الغماز (ت 693هـ)(29): لقيه في تونس، وأخذ عنه " جامع البخاري " وسمع عليه دولا من "الموطأ " و" صحيح مسلم " و" سنن أبى داوود " و" جامع الترمذي "، وقرأ عليه "أكثر التيسير" لأبي عمرو الداني،وقرأ عليه " برنامجه في أسماء شيوخه"، وسمع منه دولاً من كتاب "الاكتفاء في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم "، و"مغازي الثلاثة الخلفاء " لأبي الربيع بن سالم (ت 634هـ)، وكتاب "مفاوضة القلب العليل " لأبي الربيع بن سالم (ت 634هـ)، و" دولا من التيسير " لأبي عمرو الداني، وأجازه إجازة عامة.(1/5)
10- أبو الحسن بن رزين المرسي (ت 692هـ((31): له عناية في الأدب، لقيه في تونس فقرأ عليه " فهرسته في أسماء شيوخه" وكتاب "الصلة" لابن بشكوال، وقرأ عليه " الأمثال الكامنة في القران"، وأجازه إجازة عامة.
11- أبو الحسن التجاني (ت 714هـ)(32): لقيه في تونس في الورد والصدور، فقرأ عليه " المقامة الدوحية " لمحمد بن عياض الليثي، وقصيدة " ابن الأبار السينية " و "مقامات الحريري "، و" رياضة المتعلمين " للحافظ أبى نعيم.
12- أبو العباس احمد بن محمد بن ميمون الأشعري المالقي (ت688هـ)(33): لقيه العبدري في تونس، وقرأ عليه أشعاره في الزهد، وقصيدته التي نظمها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
13- عبد الله بن يوسف بن موسى الخلاصي الأندلسي (ت 697هـ)(34): لقيه في تونس وقرأ عله" الأربعين حديثا" لابن مسدي (ت 697هـ)، وكتاب "الإعلام بقواعد الإسلام" للقاضي عياض بن موسى، و" مختصر السيرة " لأحمد بن فرس اللغوي، وكتاب " المغني في حصر الأحاديث الضعيفة " لأبي حفص عمر بن بدر الحنفي (ت 622هـ) وأنشده كثيرا من الشعر.
14- محمد بن أبى القاسم القسي: (ت 708هـ)(35): لقيه في تونس، وقرأته جزء في " فضيلة من اسمه محمد وأحمد " وهو مجموع يشتمل على مجموعة من الأحاديث الضعيفة.
15- جابر بن محمد الوادي آشي (ت 694هـ)(36): لقيه العبدري في تونس، وقرأ عليه قصيدة "الشاطبي في القراءات "، و"أرجوزة السخاوي في المتشابه من ألفاظ القرآن " وأجازه إجازة عامة.
16- أبو القاسم بن زيتون (ت 690هـ)(37): لقيه في تونس ، وأجازه إجازة عامة بكل ما يجمله.
17 – يوسف بن إبراهيم بن عقاب الجذامي (ت 692هـ)(38): لقيه في تونس، وسمع عليه أحاديث من الموطأ و" جامع البخاري " و " سنن الدارقطني ".
18 – أبو العباس البطرني (ت 703هـ)(39): لقيه في تونس، وقرأ عليه " الأربعين حديثا المسلسلة" لأبي الحسن بن المفضل المقدسي (ت 611هـ)، وأجازه إجازة عامة.(1/6)
19- أبو عبد الله بن صالح (ت بعد 688هـ) (40): لقيه في تونس وقرأ عليه برنامجه في أسماء شيوخه وبعض " درر السمط " لابن الأبار، وبعض كتاب "المحتوي على الشواذ من القراءات "، وكتاب" القربة إلى رب العالمين في فضل الصلاة على سيد المرسلين " و " مختصر حلية الأولياء " وكتاب "المصابيح " تأليف الحسين بن سعود (ت 642هـ).
20- أبو الحسن بن المنير (ت 691هـ)(41): لقيه العبري في الإسكندرية، وقرأ عليه بعض شرحه على البخاري، "و الأربعين حديثا البلدانية " للإمام أبى طاهر السلفي (ت 576هـ)، وقرأ عليه بعض الجزء الثاني من المختصر ابن الحاجب في الفقه على مذهب الإمام مالك.
21- تاج الدين الغرافي (ت 704هـ)(42): لقيه في الإسكندرية، وقرأ عليه ثلاثيات البخاري " وسمع منه صحيح البخاري "، وسمع منه بعض الشعر وقرأ عليه بعض كتاب " شرح الو صيد في شرح القضيد " للسخاوي. وقيد اسم العبدري ونسبته في برنامج شيوخه.
22- محيي الدين المازوني (ت 693هـ) (43): لقيه في الإسكندرية وسمع عليه كثيرا من شعره.
23 – شرف الدين الدمياطي (ت 705 هـ)(44): لقيه في القاهرة، وكتب عنه أحاديث كثيرة، وأنشده كثيرا م الشعر.
24- ابن دقيق العيد (ت 702هـ)(45): لقيه في القاهرة، وأجازه في جميع مسموعاته، وجميع ما صدر عنه من نظم ونثر.
25 – عبد السلام بن محمد بن مزروع البصري الثمار(ت 696هـ)(46): لقيه في الحرم النبوي، وسمع منه عددا من الأحاديث النبوية الشريفة، وأجاز ه إجازة عامة بكل ما يحمل.
26- أبو الحجاج يوسف بن حكم النُّجيبي (ت 691هـ)(47): لقيه العبدري في مكناسة في العودة وقرأ عليه الحديث من "الموطأ ".
ودوّن العَبْدري في رحلته إلى جانب شيوخه أسماء أصحابه الذين روى عنهم، وسجل ذكرياته معهم، وأورد لخم كثيرا من مروياتهم وأشعارهم كالشاعر ابن خميس التلمساني (ت 703هـ)، الذي أثبت له كثيرا من شعره(48).(1/7)
ولعلنا نجد في بعض النماذج التي سنوردها من رحلته دليلا واضحا على سعة ثقافة العبدري، وتنوع معرفته ومدى ما أفاد من شيوخه:
قال منكراً على أهل مصر اشتغالهم بعلم المنطق (49): "... وأن الأمر المنكر عليهم، و النكر المألوف لديهم تدارسهم لعلم الفضول، وتشاغلهم بالمعقول عن المنقول، في إكبابهم على علم المنطق واعتقادهم أن من لا يُحسنه لا يحسن أن ينطق، فليت شعري هل قرأه الشافعي ومالك ؟ أو هو أضاء لأبي حنيفة المسالك ؟ وهل عاركه احمد بن حنبل ؟ أو كان الثوري (50) على تعلمه قد أقبل ؟ وهل استعان به اياس (51) في ذكائه ؟ أو بلغ عمرو (52) ما بلغ من دهائه ؟ أو تمرس به قس وسحبان (53)؟........"
وقال في ذكر مدينة " بونة " مستخدمًا بعض مصطلحات العروض في وصفها (54): " ثم وصلنا إلى مدينة بونا فوجدناها بطوارق الغير مغبونة، مبسوطة البسيط، ولكنها بزحف النوائب مطوية مخبونة...."
وأدل دليل على عمق ثقافة العبدري، وتمكنه من العلوم المختلفة تصديه بالنقد لمشاهير العلماء، وتغليطه لهم، مع ما يتحلون به من مكانة علمية مرموقة، فهو لا يتردد في نقد القاضي عياض بن موسى وتغليطه فيقول عند الكلام على الجُحفة (55): " قال عياض: إنما سميت الجُحفة من سبب سيل الجحاف الذي اجتحف الحجاج عام ثمانون ولا ادري كيف ينطلق اللسان بحكاية مثل هذا ؟ وبعد أن يحكى كيف لا ينتبه عليه ؟ وذلك أنها كانت تسمى الجُحفة قبل الإسلام والى الآن.. وكان سيل الجحاف في إمارة عبد الملك بن مروان وكيف سميت به قبل وجوده ؟ وأغرب من ذلك أن سيل الجحاف كان بمكة واجتحف الحجاج من المحصب، وذهب بهم وبأمتعتهم، وهدم بمكة دور كثيرة ودخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وكان ذلك سحر يوم التروية من عام ثمانين، وما شأنه والجُحفة حتى سميت به ؟ وهذا مما يكون الإضراب عنه صفحًا أولى ".(1/8)
وتصدى العبدري لأبي القاسم السهيلي (ت 581هـ) وصحح له كثيرا من المعلومات التي أوردها في كتابه " الروض الآنف " (56).
وتعقب العبدري أبا عبيد البكري (ت هـ) في مصنفه " المسالك والممالك " خطوة خطوة، وصوَّب له المعلومات التي أوردها وكانت تصويباته صادرة عن شاهد عيان، رأى المواضع وعاينها ممّا جعل كلامه يتصف بالدقة والموضوعية، سنكتفي بإيراد مثال واحد للدلالة على ذلك، قال العبدري (57): " وما زال أهل الإتقان يقعون في مثل هذا، ألا ترى إلى أبي عُبيد البكريّ، مع تحقيقه وفرط اعتنائه، ونبل تواليفه قد أودع في (مسالكه) من الغلط في صفات البلدان، وتحديدها وترجمتها إلى مالا غاية ورائه فمن ذلك قوله في الياء مدينة بيت المقدس: أن الجبال محيطة بها، و إنما هي نَشَز من الأرض كما ذكر، وليس بالقرب منها جبل..."
ومما يُضاف إلى ما تقدم أن العبدري كان عارفاً باللغة البربرية، ومتقنا لها، ولا عجب في ذلك لان قبيلته كانت تستوطن في منطقة يقطنها البربر، وآية ذلك تغليطه لأبي عبيد البكري في تسميته " تاد مكة " بقوله (58):... ومن ذلك انه ذكر من بلاد الصحراء بلدة يقال لها: تاد مكة، وترجمها فقال: معنى(تاد) الهيئة، أي أنها على هيئة مكة. وليس معنى تاد الهيئة كما ذكر، ولا الهيئة اسم في لسانهم البتة، و إنما معنى تاد هذه، وهي من أسماء الإشارة عندهم، يقولون لهذا: واد، ولهذين وهؤلاء ويد، ولهذه تاد، ولهاتين وهؤلاء تيد، وليس للمثنى عندهم عبارة سوى الجمع إلا في ألفاظ العدد، فمعنى تاد مكة: أي مشبهتها ".
مكانته العلمية(1/9)
لئن كان أصحاب كتب التراجم من معاصري العبدري لم يعطوه ما يستحق فإن الشيوخ الذين لقيهم في رحلته عاملوه بقدر كبير من الإجلال والتقدير اللذين يتناسبان ومكانته العلمية، إذ كان العبدري يعامل باحترام حيثما حلّ، لأن مناقشته العلمية ومناظراته كانت مثار إعجاب هؤلاء، وموضع تقديرهم، فالشيخ تاج الدين الغرافي، على علو منزلته، يعامله معاملة الند، فيأخذ كل منهما عن الآخر، يقول العبدري (59): " وقيد اسمي ونسبي في برنامج شيوخه، وقيد عني أبياتا من شعري، وكتب بخطه جميع القصيدة التي كتبتها إلى ولدي محمد بن القيروان " .
أما الشيخ شرف الدين الدمياطي فقد كتب له و لأبنائه الثلاثة بالإجازة على صغر سنهم.(60)
وهذا هو الشيخ المسن أبو القاسم الحضرمي البيدي يقدمه ليؤمّ به في الصلاة مع انه كان قارب التسعين من عمره.(61)
وبلغ من علم الرجل ومكانته انه أمسك عن الأخذ عن رجال رآهم دونه في العلم، ولا يحسن له أن يأخذ عنهم، فهو لم يأخذ عن محمد بن عبد السيد في طرابلس (62)، ولا عن أبى البدر بن جماعة (ت 733هـ) في القدس (63).
شخصية العبدري وأخلاقه
إن وسيلتنا إلى دراسة شخصية العبدري شبه قاصرة لضياع أكثر أخباره، وسنعتمد على شعره، وعلى ما تناثر من أخباره مع العلماء الذين لقيهم في رحلته، وأقوالهم فيه، في رسم ملامح الشخصية.
وأول ما يطالعنا في شخصية العبدري هو حرصه على مكارم الأخلاق، وبره بأبنائه
لنستمع إليه وهو يخاطب ابنه:
أصِخْ سَمعاً أُوصِّكَ يابُنيّ وصيَّةَ والد بَرٍّ حَفِي
جَرى القدرُ المُتاحُ لنا ببين قضاءٌ جاءَ مِن مَلك عليّ
وأُبْدِلت المآقي من كراها دُموعاً فيضُها مثلُ الآتي(1/10)
وتتصف شخصية العبدري بالصراحة في كل ما كتبه، وقد كان وفيا لما قرره في مفتتح رحلته حين قال (65): " وبعد، فاني قاصد بعد استخارة الله سبحانه إلى تقييد ما أمكن تقييده، ورسم ما تيسر رسمه وتسويده، مما سما إليه الناظر المطرق، في خبر الرحلة إلى بلاد المشرق، من ذكر أوصاف البلدان، وأحوال من بها من القطان، حسبما أدركه الحس والعيان ، وقام عليه بالمشاهدة شاهد البرهان ".
ويرى صلاح الدين المنجد أن العبدري " اختص بميزة في رحلته لم يشاركه به أحد من الرحالين، وهي الجرأة في التعبير عن رأيه وشعوره، والنقد اللاذع "(66) فمن ذلك قوله في مدينة قابس وأهلها (67): "... ثم وصلنا إلى مدينة قابس، ذات المخبر الخبيث و المحيا العابس، هواء وخيم، ولؤم طبع وخيم (68) وتضييع المصليات والمساجد، وقلة اعتناء بكل راكع وساجد ".
على أن العبدري كان شخصية محببة للناس، يلقى عناية كبيرة من الشيوخ حيث حل، ويحتفون به ويستأنسون، ويشعرون بالوحشة لفراقه(69)، وكان بعضهم يهديه كتابه الخاص (70)، وبعضهم يجلس معه طوال النهار، وهو يملي عليه، فلا يقوم إلا لتجديد الطهارة (71)
والمؤلف رجل متمسك بدينه متضلع بالفقه، مطلع على كتب الحديث المختلفة صحيحه وضعيفه، عارف بعلله وأحكامه، لذلك لم يكن يؤمن إلا بما يطابق تعاليم القران، وما صح على النبي صلى الله عليه وسلم، ونراه يحارب الخرافات وندد بمن يعتقدها، ويخضع كثيرا من الأمور إلى منطق العقل والعلم، فنراه مثلا عند كلامه على الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق في جبل ثور عند هجرتهما إلى المدينة يذكر انه " غار له بابان، وأحدهما ضيق اقل من شبرين، فيتكلفون النفوذ فيه، وشاع من جهلهم أن من لم ينفذ به فهو ولد زنى، وتقرر ذلك في معتقدهم الفاسد"(72)(1/11)
ومن ذلك أيضا انه اخبر أن مدينة عسقلان بئر في مسجدها عظيمة متقنة العمل، عجيبة الصفة تعرف ببئر إبراهيم، قال: " ويحكى في فضائلها أشياء لا تقع الثقة في صحتها " (73)
فشخصية العبدري إما تبرز من خلال هذه الأخلاق التي طبعت على الخير فهو امرؤ مؤمن كل الإيمان بالله تعالى، وتتمثل فيه أخلاق المسلم الحق من صدق، وأمانة في الرواية، وحرص على العلم، وتحلّ بمكارم الأخلاق.
الوارقة
أ - الحواشي
1)…طبعت بتحقيقنا بدمشق سنة 1419هـ/ 1999م، دار سعد الدين.
2)…اسمه كاملا: جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الإعلام مدينة فاس، طبع بالمغرب
3)…ينظر مثلا في ترجمته:
- الأعلام فيمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، للعباس ابن إبراهيم 4/287-330
- تاريخ الأدب الجغرافي، لكراتشكوفسكي 1/367.
- جذوة الاقتباس، لابن القاضي 286- 288.
- شجرة النور الزكية، لمحمد مخلوف 1/217
- تاريخ الأدب العربي، لعمر فروخ 6/401
- الأعلام، للزركلي 7/31-32.
4)…هو كتاب " الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة " طبعت أجزاء منه في بيروت والرباط.
5)…مقدمة محمد بن شريف للسفر الثامن من كتاب الذيل والتكملة 8/1-42
6)…الرحلة 302
7)…عثر على جزء منه، طبع في الرباط بتحقيق محمد بن شريفة.
8)…منهم بروكلمان 1/428، بلانثيا في تاريخ لفكر الأندلسي 318، فروخ في تاريخ الأدب العربي 6/401.
9)…منهم: كراتشكوفسكي في الأدب الجغرافي 1/367، زكي محمد حسن في الرحالة المسلمون 132.
10)…مقال محمد الفاسي في معهد الدراسات الإسلامية بمدريد مج 9- 10 سنة 1961م- 1962 م، ص 4 وما بعد، مقدمة طبعة الرباط.
11)…الرحلة 302.
12)…نفح الطيب 2/219، الذيل والتكملة 4/72-74، 5/23،309،624
13)…الرحلة 164
14)…الرحلة 53
15)…تاريخ الأدب العربي 6/401.
16)…الأعلام 7/31-32.
17)…معجم المؤلفين 11/244و 12/3
18)…منهم: بروكلمان، كراتشكوفسكي، عمر فروخ، بالنثيا.
19)…منهم: محمد مخلوف، حسين مؤنس / محمد بن تاويت.(1/12)
20)…تاج المفرق 2/109
21)…الرحلة 187
22)…الرحلة 84
23)…الرحلة 95
24)…الرحلة 105
25)…الرحلة 114
26)…الرحلة 116
27)…الرحلة 117
28)…الرحلة 163
29)…الرحلة 489
30)…الرحلة 495
31)…الرحلة 512
32)…الرحلة 521
33)…الرحلة 544
34)…الرحلة 497
35)…الرحلة 534
36)…الرحلة 539
37)…الرحلة 519
38)…الرحلة 549
39)…الرحلة 557
40)…الرحلة 558
41)…الرحلة 228
42)…الرحلة 245
43)…الرحلة 267
44)…الرحلة 289
45)…الرحلة 299
46)…الرحلة 429
47)…الرحلة 564
48)…الرحلة 53
49)…الرحلة 284
50)…سفيان بن سعيد ين مسروق، مفسر، محدث، كان عالم الأمة و عابدها و زاهدها توفي بالبصرة 161هـ.
51)…إياس بن معاوية، قاضي البصرة، ضرب به المثل بالذكاء والفطنة، توفي ستة 12هـ
52)…عمرو بن العاص، أحد عظماء العرب ودهاتهم، فاتح مصر، توفي سنة 43هـ.
53)…قس بن ساعدة الأيادي، وسحبان وائل، فصيحان من فصحاء العرب يضرب بهما المثل في البلاغة
54)…الرحلة 104
55)…الرحلة 350
56)…هو كتاب الروض الآنف في شرح السيرة النبوية لأبي القاسم السهيلي، طبع غير مرّة.
57)…الرحلة 338
58)…الرحلة339
59)…الرحلة 266-267
60)…الرحلة299
61)…الرحلة 296
62)…الرحلة 187
63)…الرحلة 473
64)…الرحلة 176
65)…الرحلة 28
66)…المشرق في نظر المغاربة.
67)…الرحلة 180
68)…الخيم: الأصل أو الشيمة والطبيعة والخلق والسجية.
69)…الرحلة 266
70)…الرحلة164
71)…الرحلة490
72)…الرحلة 391
73)…الرحلة 476
المصادر والمراجع
1. بلانثيا، انخل. تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة 1955م.
2. البلوي، خالد، ناج المفرق في تحلية علماء المشرق، تحقيق الحسن السائح، المحمدية، بدون تاريخ.
3. ابن تاويت، محمد، الوافي بالأدب العربي بالمغرب الأقصى، الدار البيضاء 1982م.
4. حسن، زكي محمد، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، القاهرة، بدون تاريخ.
5. الزركلي، خير الدين، الأعلام، بيروت 1981م.(1/13)
6. زيادة، نقولا.الجغرافيا والرحلات عند العرب. بيروت 1980م.
7. زيادة، نقولا. الرحالة العرب القاهرة 1956م.
8. زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية القاهرة 1956م.
9. العبدري، محمد بن محمد، رحلة العبدري، تحقيق علي إبراهيم كردي، دار سعد الدين، دمشق 1419هـ، 1999م.
10. فروخ، عمر، تاريخ الأدب العربي، بيروت 1983م.
11. ابن القاضي المكناسي، احمد. جذوة الاقتباس في ذكر من حل بالأعلام. مدينة فاس، الرباط 1974م.
12. كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، بيروت بدون تاريخ.
13. كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي، ترجمة صلاح الدين هاشم. القاهرة 1963م.
14. مخلوف، محمد. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية بيروت بدون تاريخ.
15. المراكشي، العباس بن إبراهيم، الأعلام فيمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، الرباط 1974م.
16. المراكشي، محمد بن عبد الملك، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، إحسان عباس ومحمد بن شريفة، بيوت والرباط 1964م وما بعد.
17. المقري، شهاب الدين أحمد، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1968م.
18. المنجد، صلاح الدين. المشرق في نظر المغاربة بيروت بدون تاريخ.(1/14)