سلسلة الدورات المفتوحة
(3)
محاضرات
الدورة المفتوحة الثالثة في شرح كتاب الجهاد من صحيح البخاري رحمه الله
الشيخ محمد طرهوني
حفظه الله
جمعها ورتبها
أبو عمر القلموني
عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الأولى
( الجهادُ : أقسامُه وأنواعُه وحكمُه وفضلُه )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدْيِ هديُ محمد ? وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثة بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكل ضلالة في النار .
لقاؤنا هذه الليلةَ سيكون بإذن الله تعالى افتتاحيةَ الدورةِ المباركة التي اعتزمنا على القيام بها لحاجة الأمة الإسلامية في وقتنا الحاضر إلى مثل هذه الدورات للأزمة التي تمر على وجه الخصوص في الحرب الدائرة في العراق والتي انقض فيها أهلُ الكفر على ديار الإسلام يريدون أن يستبيحوا بيضةَ الإسلام ابتداءً من العراق في هذه الحرب الصليبية الخبيثة ، والله أعلم إلى أي مكان يريدون الانتهاء ، ولكن نسأل الله ( أن يردَّ كيدَهم في نحرِهم وأن ينصرَ المسلمين عليهم وأن يجعلَهم غنيمةً لهم فإنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه .(1/1)
وهذه الدورةُ إن شاء اللهُ تعالى إنما تتعرض إلى الحديث عن أمورٍ من فقهِ الجهاد ، وسوف نحاول بإذن الله تعالى أن نستوعبَ القدرَ الأكبرَ الذي يتيسرُ أن نستوعبَه من فقه هذه الشعيرةِ الهامةِ العظيمةِ التي زالَ رسمُها من بلاد المسلمين وغابَ أو أَفَلَ نجمُها بين كثير من المنتسبين إلى هذا الدين ، بل إنه للأسف غابت من مصطلح كثيرٍ من أهل العلم ، وهذا أمرٌ يَنْدَى له الجبينُ ؛ فإن الجهادَ هو ذروةُ سنام الإسلام كما أخبر بذلك النبيُّ ( ولا أريدُ أن أستبقَ الحديثَ لأن اللقاءَ اليومَ جُلُّهُ في فضلِ الجهاد ومنزلةِ الجهاد وثِقَلِ الجهادِ وما يتعلق بذلك .
لقد وقع الاختيارُ على صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى لأنه كما هو معلوم لدى الجميع أنه الكتابُ الذي يُعتَبر أصحَّ كتاب بعد كتاب الله ( على وجه الأرض ، وقد تَلَقَّتِ الأمةُ أحاديثَه بالقَبول ، بالإضافة إلى أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى قذفَ الله له الحبَّ في قلوب المسلمين ، ومعلومٌ ما لديه من فقهٍ عظيم في الحديث يظهرُ من خلال تراجم الأبواب ، وقد نبَّهَ على ذلك الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله تعالى في غير موضعٍ في شرحه الماتِعِ لهذا الكتاب العظيم ، بالإضافة إلى أن هذا الكتاب ـ كتاب الصحيح للإمام البخاري ـ قد شُرِح شروحاً عدة ، وكان من أجملِ وأكملِ وأتمِ هذه الشروح هو [ فتح الباري ] الذي ألَّفَهُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله فجمع فيه فأبدعَ فرحمة الله عليه رحمة واسعة ، حتى إن بعض أهل العلم كان يقول ( لا هجرة بعد الفتح ) يعني : لا يوجدُ كتابٌ في منزلةِ كتابِ فتحِ الباري للإمامِ ابنِ حجر رحمه الله .(1/2)
ودورتُنا إن شاء الله تعالى سوف نستعرضُ فيها كتابَ الجهادِ كاملاً وبه ثلاثُمِائةٍ وثمانية أحاديث وفيه مائةٌ وتسعةٌ وتسعون باباً ، وكذلك سنستعرضُ كتابَ فرضِ الخمس بعد كتاب الجهاد لعلاقته به ويحوي أربعةً وستين حديثاً وفيه عشرون باباً ، وكذلك سنعطف على كتاب الجزية والموادعة لأنه أيضاًَ ذا علاقة ماسة بمسألة الجهاد وفقهه وبه ثلاثةٌ وثلاثون حديثاً واثنان وعشرون باباً .
وعلمُ الجهاد أصلاً يتكلم في أحوالِ الحرب وكيفيةِ ترتيب العسكر واستعمالِ السلاح ونحو ذلك ، ولكن الذي يعنينا هنا هو علمُ فِقْهِ الجهادِ وهو الذي اعتُبِرَ من أبوابِ الفقه ويُذكر فيه الأحكامُ الشرعيةُ المتعلقةُ بالجهاد .
وقد صُنِّف في هذا العلم كتبٌ مستقلةٌ ، وصُنِّفَ في فضلِ الجهادِ كتبٌ كثيرةٌ مستقلةٌ ، فقد اهتَمَّ العلماءُ قديماً وحديثاً بالجهاد لأنه كما قلت ذروةُ سنام الإسلام ، والنبي ( قضى جُلَّ حياته بعد الهجرة وبعد أن أُمِرَ بقتال المشركين في الجهاد في سبيل الله ( .(1/3)
وأوَّلُ من ألَّفَ في هذا العلمِ من العلماءِ الإمامُ الحَبْرُ العلامةُ المجاهدُ الزاهدُ العابدُ الإمامُ عبدُ الله بن المبارك رحمة الله عليه الذي جمع بين العلم والعمل والعقيدة والمنهج والفقه والجهاد ، وكان مثالاً حقيقياً للعالم الرباني . كان على خُلُقٍ عالٍ جداً يجمع بين الأخلاق الحميدة والخصال الفاضلة والأفعال النَّيِّرة المباركة ، فقد كان بروزُه في علمِ الحديث إماماً فقيهاً سلفيَّ العقيدة يتبع مذهب السلف الصالح زاهداً متعبداً ، صنف في الزهد وصنف في الرقائق . كان يتعبد ولم تشغلْهُ العبادةُ عن العلم والجهاد ؛ فكان له قَصَبُ السبق في التصنيف في الجهاد ، وهو أول من صنف في هذا العلم وتبعه على ذلك علماءُ أفاضلُ ؛ منهم الإمامُ الحافظ ابن عساكر رحمه الله ألف في الجهاد رسالة سماها ( الاجتهاد في إقامة فرض الجهاد ) وكذلك صنف في الجهاد الإمامُ الحافظُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله صاحبُ التفسير رسالة سماها ( الاجتهاد في طلب الجهاد ) ، وهناك رسائلُ أخرى لعلماءَ كُثُرٍ من أراد أن يرجع إليها فعليه بكتاب [ كشف الظنون ] فإنه قد ذكر طائفةً طيبةً من كتب أهلِ العلم التي صنفت في فضل الجهاد وما ورد فيه .
وكذلك أَدْرَجَ أهلُ العلم فقهَ الجهاد في أبوابٍ مستقلةٍ في كتب الفقه سواءٌ كتب فقه الحديث [ كنيل الأوطار ] ونحوه أو كتب الفقهاء عامة [ كالمغني ] ونحوه .(1/4)
وكذلك جاء كتابُ الجهادِ كما هو الحال الآن في دورتنا ضمنَ كتب أهل السنة الذين صنفوا في أحاديث النبي ( على أبوابِ السُّنَنِ كصحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم وكتبِ السنن الأربعة وغيرها من الكتب المصنفة على الأبواب ، فقد أفردوا كتاباً يختص بالجهاد وأحكامه ، وهذا هو المدخلُ الذي سندخل منه في حديثنا في هذه الدورة عن فقه الجهاد ، فسوف يكون إن شاء الله تعالى من خلال كتاب الجهاد الذي ضمنه الإمام البخاري صحيحه ضمنَ أبوابه التي بَوَّبَها ، ونسأل الله التوفيق .
ـ ملاحظة :
حديثُنا كما ذكرتُ عن فقهِ الجهادِ ولن نستطيعَ أن نشرحَ أحاديثَ الصحيحِ والحديثَ عن فوائدِها وما يستنبطُ منها ؛ لأن الدورةَ ليستْ في شرحِ أحاديثِ صحيحِ البخاري وإنما تتعلقُ بفقهِ الجهاد ، فسوفَ نقتصرُ على نُقاطٍ معينةٍ تُسْتَفادُ من هذه الأحاديث والتي هي ذاتُ علاقةٍ ماسَّةٍ بموضوعِ الجهاد الذي هو موضوعُ الدورةِ ، وكذلك سوف لا أتكلم عن لطائفِ الإسناد وغرائبِ المسائلِ الحديثيةِ للغرضِ نفسه لأننا لو اشتغلْنا بشرحِ أحاديثِ الصحيحِ واللَّطائفِ الحديثيةِ التي في الأسانيد والمتونِ لاستغرقَ ذلك وقتاً طويلاً جداً وخرجنا عن الهدف المنشودِ من وراءِ تلك الدورةِ التي أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعَ بها وأن نستطيعَ أن نُتِمَّها لكثرة الأحاديثِ الموجودةِ في الصحيح في هذا الكتاب ، والله سبحانه وتعالى هو الموفق .
كلامنا عن فقه الجهاد لا بد أن نبدأه بمعنى كلمة ( فقه ) ومعنى كلمة ( الجهاد ) .
ـ ( الفقه ) هو : الفهم . يقول الله ( : . ويقول النبي ( : " من يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدينِ " ، وقال : " ... ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى من هو أفقهُ منه " . فالفقه : هو العلم والفهم . والنصوص الشرعية في معنى الفقه كثيرة .
وأما ( الجهاد ) ، فأصله في اللغة : المشقة . وشرعاً : هو بذل الجهد في قتال الكفار .(1/5)
ويطلق الجهاد أيضاً على مجاهدةِ النفس ، وعلى مجاهدةِ الشيطان ، وعلى مجاهدةِ الفساق وكلٌ بحسبه في المعنى . فمجاهدةُ النفس هو تَعَلُّمُ أمور الدين وتربيةُ النفس على العملِ بها وتعليمِها وأما مجاهدة الشيطان فدفعُ الشبهاتِ التي يقذفُها في قلبِ العبدِ ودفعُ ما يُزَيِّنُهُ له من الشهوات . وأما مجاهدةُ الفساق فتكون باليد ثم باللسان ثم بالقلب من باب تغيير المنكر .
وحديثنا عن مجاهدة الكفارِ وهي باليد وباللسان وبالمال وبالقلب أيضاً . فهذه المراتبُ الأربعةُ من أنواع مجاهدة الكفار .
فإذاً ، حديثنا عن فقه الجهاد يرادُ به : العلمُ المتعلِّقُ ببذلِ الجُهد في قتال الكفار ومجاهدتِهم ، سواءٌ كان ذلك باليد أو باللسان أو بالمال أو بالقلب .
ـ أنواع الجهاد :
أقول : الجهاد نوعان : جهادُ طَلَبٍ وجهادُ دفعٍ .
وجهادُ الطلبِ وهو ما يسمى ( بالغزو ) : هو خروجُ المسلمينِ من ديارِ الإسلام إلى ديار الكفرِ لفَتْحِها ونشرِ الدعوةِ فيها وتطهيرِها من الشركِ والكفرِ ورفعِ رايةِ لا إله إلا الله فوقَ رُبُوعِها
هذا هو جهادُ الطلبِ . وللأسفِ أُلْغِيَ هذا الجهادُ من قاموسِ المسلمينَ منذ فترةٍ طويلةٍ ، وهذا خَطَرٌ عظيمٌ ؛ فإنَّ أهلَ العلمِ ـ كما سيأتي الحديثُ عن ذلك بشيء من التفصيلِ خلالَ هذهِ الدورةِ إن شاء الله ـ ذهبوا إلى وجوبِ حصولِ جهادِ الطلبِ وهو الغزوُ في سبيلِ الله مرةً في السنةِ على الأقلِّ ، هذا أقلُ ما قيل في وجوبِ الجهادِ على المسلمين . والنبي ( يقول : " من لم يَغْزُ ولم يُحدِّثْ نفسَه بالغزوِ ماتَ على شُعْبَةٍ من النفاقِ " ، فهذا جهادُ الطلبِ ، والقولُ الراجحُ فيه أنه فرضُ كفايةٍ ؛ فهو واجبٌ على كلِّ المسلمينَ ويسقطُ إذا قامَ به البعضُ .(1/6)
وأما جهادُ الدفعِ ، فالمرادُ بهِ : دفعُ الصائلِ الذي يقدُمُ إلى بلادِ المسلمينَ لينتَهِكَها ويستبيحَها ويحتَلَّها كما هو الوضعُ في العراقِ اليومَ وكما كان الوضعُ في أفغانستان قبلَ عامين أو أقل ، وكما هو الوضع في فلسطين ، وكما كان الوضع في الأندلس وغير ذلك ، فهذا الجهاد يسمى جهادَ دفعٍ . وسوف يأتي الحديثُ عن حكمِ هذا الجهادِ أيضاً بشيءٍ من التفصيلِ عندما نتحدثُ عن حكمِ الجهادِ ووجوبِ النفيرِ العامِ أثناءَ الشرحِ إن شاء الله تعالى .
وهذا النوعُ من الجهادِ ـ جهادُ الدفع ـ فرضُ عينٍ على كل مسلمٍ ومسلمةٍِ صغيرٍ وكبيرٍ حرٍ وعبدٍ ولا يُشتَرَطُ له أيُّ شرطٍ ثانٍٍ وإنما يدفَعُ كلُّ مسلمٍ بما يستطيعُ ، وهذا الجهادُ يجب على أهلِ البلدِ الذي دَهَمَها العدوُّ أولاً ثم بعدَ ذلك بصورةٍ دائريةٍ على ما حولها من بلادِ المسلمين حتى يتمكنَ المسلمون من ردِّ هذا العدوِّ الذي دَهَمَ أرضَهم لا يشترطُ في ذلك أيُّ شرطٍ من شروطِ الجهادِ التي هي متعلقةٌ بجهادِ الطلبِ لا بجهاد الدفع . هذا باتفاقِ أهلِ العلمِ لا يخالِفُ في ذلك أحدٌ إطلاقاً حسبَ علمي وحسبَ ما ذكر العلماءُ والله تعالى أعلم .
وبالحقيقةِ : هناك خَلْطٌ في مفاهيمِ الجهادِ ليس بين العامةِ فحسب ، وإنما للأسفِ بين كثيرٍ مِمَّنْ ينتسبُ إلى العلم .
فمثلاً : يحصُلُ خلطٌ بَيْنَ الجهادِ وما يسمى الآن بالإرهاب . فالإسلامُ لا يُعرَف فيه حقٌّ للكافرِ في أرضٍ ، فلا يقالُ : إن للكفارِ سيادةً على أرضهم وإن لهم الحقَّ في العيشِ آمنينَ في هذه الأراضي ، ونحو ذلك من الخرافات التي يسمونها الشرعيةَ الدوليةَ ونحو ذلك .(1/7)
فالجهادُ الذي هو جهادُ الطَّلَبِ مبنيٌّ على وطءِ أراضي الكفارِ وإخراجِهم منها والتحكمِ فيها وأن تكون بيد المسلمين لهم السلطةُ فيها والأمرُ والنهيُ ، ويكونُ هؤلاء الكفارِ الذين هم في أرضهم أصلاً أذلاءَ تحت رايةِ المسلمين يدفعون الجزيةَ وهم صاغرون . فهذا يسميه كثيرٌ من الناسِ من الإرهابِ .
كذلك هناك من يقول مثلاً : الذي في العراق ليس بجهاد ، والذي في أفغانستان ليس بجهاد ، فهذا أيضاً خَلْطٌ بين جهادِ الطلبِ وجهادِ الدفعِ .
فهذا الذي يقولُ ليس بجهادٍ لم يفهم معنى جهادِ الطلب ولم يفهم معنى جهاد الدفع ؛ لأنه اعتبرَ هذا ليسَ جهاداً عندما نظر إلى الشروطِ التي تكون في جهادِ الطلب ولم يعلم أن جهادَ الدفع ليس له شروطٌ أصلاً ، وإنما هو يجبُ فوراً على المسلمين من غير قيدِ ولا شرط ويسمى جهاداً بلا إشكال بين أهل العلم ، والله تعالى أعلم .
والآن نبدأ بأحاديثِ صحيحِ البخاري التي ذكرها في كتاب الجهاد ضمن كتابه الصحيح ، وسوف إن شاء اللهُ تعالى أسوقُ أحاديثَ الصحيح بإسنادِها ومتنِها وأبدأُها بذكرِ إسنادي إلى صحيحِ الإمام البخاري : فقد أخبرني به إجازةً شيخُنا أبو عبد الله حُمودُ بنُ عبدِ الله التُّوَيْجِرِيُّ رحمه الله تعالى عن الشيخِ عبدِ الله العَنْقَرِيِّ عن الشيخِ سعدِ بنِ حمدِ بنِ عتيقٍ عن الشيخِ حسين الأنصاري عن الشيخِ محمد الحازمي عن الشيخ محمد عابد السِّنْدي عن الشيخ صالح بن محمد بن نوح الفُلاني عن الشيخ محمد بن سِنَّة عن الشيخ أحمد العَجِل عن الإمام يحيى بن مَكرَمٍ الطبري عن جده الإمامِ محبِّ الدين الطبري عن البرهانِ إبراهيمَ بنِ محمد بن محمدِ بنِ صديق الدمشقي عن الشيخ عبد الرحمنِ بن عبد الأول عن محمد بن شاذْبَخْتِ الفارسي عن يحيى بن عمار بن مقبل بن شاهان الخُتَّلاني عن الفَرَبْرِي عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى .(1/8)
وهذا الإسنادُ بيني وبين الإمام البخاري فيه ستةَ عشرَ رجلاً ، والأحاديثُ الثلاثيةُ التي رواها الإمام البخاريُّ وبينه وبين النبي ( ثلاثةٌ يكون بيني وبين النبي ( عشرون واسطةً . وهناك إسنادٌ أعلى من ذلك بثلاثِ درجاتٍ ولكنه عن طريقِ الإجازةِ العامة فلا أطيلُ بذكرِهِ وهو أعلى إسنادٍ في الدنيا الآن حسب علمي ، والله تعالى أعلم .
وبهذا الإسناد الذي ذكرتُه يقول الإمامُ البخاريُّ رحمه الله :
كتاب الجهاد والسير
باب فضل الجهاد والسير ، وقول الله تعالى : إلى قوله تعالى قال ابن عباس : الحدود : الطاعة .
قال الإمام البخاري بالسند المذكور سابقا إليه :
1ـ حدثنا الحسنُ بن صَبّاح ، حدثنا محمدُ بنُ سابقٍ ، حدثنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ قال : سمعتُ الوليدَ بنَ العَيْزارِ ذَكَرَ عن أبي عمروٍ الشَّيْبَانيِّ قال : قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ ( : سألتُ رسولَ الله ( قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ العملِ أفضلُ ؟ قال : " الصلاةُ على ميقاتِها " . قلتُ : ثم أيُّ ؟ قال : " ثم بِرُّ الوالدينِ " . قلت : ثم أي ؟ قال : " الجهادُ في سبيل الله " . فسكتُّ عن رسولِ الله ( ولو اسْتَزَدْتُهُ لزادني .
2ـ حدثنا عليُّ بنُ عبدِ اللهِ ، حدثنا يحيى بنُ سعيدٍ ، حدثنا سفيانُ قال : حدثني منصورٌ ، عن مجاهدٍ ، عن طاووسَ ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( : " لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكن جهادٌ ونيةٌ ، وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا " .
3ـ حدثنا مُسَدَّدٌ ، حدثنا خالدٌ ، حدثنا حبيبُ بنُ أبي عَمْرَةَ ، عن عائشةَ بنتِ طلحةَ ، عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت : يا رسولَ الله ، نرى الجهادَ أفضلَ العملِ ، أفلا نجاهدُ ؟ قال : " لكُنَّ أفضلُ الجهادِ : حجٌّ مبرورٌ " .(1/9)
4ـ حدثنا إسحقُ بنُ منصورٍ ، أخبرنا عَفّاُن ، حدثنا هَمّامٌ ، حدثنا محمدُ بنُ جُحادةَ قال : أخبرني أبو حُصَيْنٍ أن ذَكْوانَ حدثه أن أبا هريرةَ ( حدثه قال : جاء رجلٌ إلى رسولِ الله ( فقال : دُلَّنِي على عملٍ يعدلُ الجهادَ ، قال : " لا أجِدُهُ " . قال : " هل تستطيعُ إذا خرجَ المجاهدُ أن تَدْخَلَ مسجدَك فتقومَ ولا تَفْتُرَ وتصومَ ولا تُفطر " ؟ قال : ومن يستطيعُ ذلك ؟ قال أبو هريرة : إن فرسَ المجاهدَ لَيَسْتَنُّ في طِوَلِهِ فيُكتَبُ له حسناتٌ ".
بالنسبة للآية : الشاهد منها هو بيانُ أن اللهَ ( يُبَشِّرُ الذينَ باعُوا أنفسَهم له سبحانه وتعالى بالجهادِ في سبيله بأن لهم الجنةَ وربح البيع ، والله ( يقول : فهذا ضمانٌ من الله ( للمؤمنِ المجاهدِ في سبيلِهِ أن يدخلَه الجنةَ .
وأما قولُ ابنِ عباسٍ ( : ( الحدودُ الطاعةُ ) فلِمَا جاء في الآيةِ بعد الآيةِ التي تَلَوْنَاها فقال : الحدودُ الطاعة ، أي : الذين يحفظون حدودَ اللهِ بطاعتِهِ فيما أَمَرَ واجتنابِ ما نهى عنه وزَجَرَ .
وأما حديثُ عبدِ الله بنِ مسعودٍ ( وقوله : أيُّ الأعمالِ أفضلُ وأي العملِ أفضل ؟ فذكر الصلاةَ أولاً ثم برَّ الوالدينِ ثم الجهادَ ، يقول : ( فسكتُّ عن رسولِ الله ( ولو استزدته لزادني ) أي : لو طلبتُ منه بعدَ ذلك أن يُعَدِّدَ أمورَ الدينِ حسبَ الأفضليةِ لزادني عن هذه الثلاثة .
وإنما قَدَّمَ النبيُّ ( في هذا الحديثِ الصلاةَ على الجهادِ والبرِّ لأنها تَلزمُ المُكَلَّفَ في كلِّ أحيانِهِ وقَدَّمَ البرَّ على الجهادِ لأن الجهادَ المذكورَ الأصلُ فيه أنه جهادُ الطلبِ وهو مشروطٌ بإذنِ الأبَوَيْن ، فإن لم يأذنِ الأبوانِ فإنه لا يجوزُ للمسلمِ أن يذهبَ إليه ، لأن هذا الجهادَ كما ذكرنا الأصلُ فيه أنه فرضُ كفايةٍ إلا إذا عَيَّنَ الإمامُ شخصاً أو حَضَرَ الشخصُ الصفَّ فهنا يجبُ وُجوباً عينياً عليه .(1/10)
فتقديمُ الصلاةِ وبِرِّ الوالدينِ على الجهادِ لهذا المَلْحَظِ الذي ذكرتُه الآن .
ثم إنَّ مُضَيِّعَ الصلاةِ المفروضةِ الأرجحُ فيه أنه كافرٌ ، فهو لما سواها أضيعُ ولا عبرةَ بجهادِه وهو قدْ خرج من الإسلامِ ، وكذلك إذا ضَيَّعَ بِرَّ والديْه مع وُقوعِ حَقِّهما عليه كان لغيرهما أقلَّ بِراً .
لأجلِ ذلك قدم الصلاةَ ثم برَّ الوالدينِ لأن الذي يجاهدُ إنما يدفعُ عن بيضةِ الإسلامِ وعن إخوانِهِ المسلمينَ ، فإذا كان عاقاً لوالديه كيف يكون باراً بغيرهما ؟! والله تعالى أعلم .
وأما حديثُ ابنِ عباسٍ ( وهو " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " ، أي : لا هجرةَ من مكةَ إلى المدينةِ بعد فتحِ مكةَ لأن المهاجرينَ كانوا يهاجرونَ من مكةَ إلى المدينةِ لأنها دارُ كفرٍ وهم فيها مضطهَدون . أما وقد فُتحت وصارت دارَ إسلامٍ فلا هجرةَ بعد ذلك من مكةَ إلى المدينةِ .
( ولكن جهادٌ ونيةٌ ) أي : الذي بَقِيَ الجهادُ والنيةُ الصالحةُ المرتبطةُ به . ( وإذا استنفرتم فانفروا ) أي : إذا استنفرَ الإمامُ المسلمينَ وَجَبَ النفيرُ على كلِّ من استَنْفرَهُ الإمامُ ، والله تعالى أعلم .
وأما حديثُ عائشةَ ففيه إقرارٌ من النبي ( لقولِها ( نرى الجهاد أفضل العمل ) ولم يقل لها : بل هناك ما هو أفضلُ منه ، ولكنه قال : " لكن أفضل الجهاد ؛ حج مبرور " ، لأن الجهادَ لا يجبُ على المرأةِ والمقصودُ جهادُ الطلبِ كما قلتُ ، وليس هناكَ علاقةٌ بجهادِ الدفعِ في هذا الحديث . فالجهادُ بالنسبةِ للمرأةِ يسقُطُ عنها في حال جهادِ الطلب ، وأما جهادُ الدفعِ فهو واجبٌ كما قلتُ على الرجُلِ والمرأةِ والحرِّ والعبدِ والكبيرِ والصغيرِ . والحجُّ المبرورُ هو جهادُ كلِّ ضعيفٍ لأن فيه مشقةً وفيه مغالبةً وفيه مزاحمةً ، ولأجل هذا عُبِّرَ عنه بالجهادِ . والله تعالى أعلم .(1/11)
وأما حديثُ أبي هريرةَ ( وفيه أن رجلاً قال لرسول الله ( : دلني على عمل يعدل الجهاد ، قال : " لا أجده " ، أي : لا أجدُ عملاً يعدلُ الجهادَ ، أي : يقومُ مقامَه في الأجرِ والمثوبةِ . ثم قال له : " هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ " ، أي : إلى جهاده وغزوه . " أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر " ؟ قال : ومن يستطيع ذلك ؟
إذاً ، الجهاُد يعدلُ القائمَ الذي لا يفترُ أي : لا يتعبُ ولا يَكَلُّ ، والصائمَ الذي لا يفطرُ ، أي : الذي يستمر في صومِه فلا يفطرُ أبداً ، وهذا لا يستطيعُه أحدٌ ، ولأجلِ هذا كان الجهادُ أفضلَ العملِ إطلاقاً .
ـ إشكالات :
ـ قد يُشكلُ على ذلك حديثُ : " ما من أيامٍ العملُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من عشرِ ذي الحجة ، قالوا : ولا الجهاد يا رسول الله ؟ قال : ولا الجهاد إلا رجلٌ خرجَ بنفسه ومالِه فلم يرجعْ بشيءٍ من ذلك " .
هذا الحديثُ أشكلَ مع حديثِ بابنا ، ولكنَّ المرادَ بحديثِ عشرِ ذي الحجةِ أنه مُخْتَصٌّ بأيامٍ محددةٍ ، وأما هذا الحديثُ فهو على العمومِ في أي وقتٍ كانَ ، فليس هناكَ تعارضٌ إن شاء الله تعالى .
وكذلك قد يشكلُ حديث : " ألا أُنَبِّئُكُمْ بخيرِ أعمالِكُم ، وأزكاها عندَ مليكِكُم ، وأرفعِها في درجاتِكم ، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والوَرِقِ ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ذكرُ الله " .
فهذا أيضاً من الأحاديث التي أشكلت على أهلِ العلم ، ولكنه لا يشكلُ ؛ لأن المجاهدَ قائمٌ بذكرِ الله لا ينقطعُ عنه . وإنما المرادُ بيانُ فضيلةِ الذكرِ وأن الأصلَ هو ذكرُ الله ( . كما أن الجهادَ ما شُرِعَ إلا لإعلاءِ كلمةِ الله ( وإقامةِ ذكرِه ، فلا تعارضَ إن شاء الله تعالى .
ـ تنبيه :
في آخر الحديثِ السابقِ هناك قولُ قالَه أبو هريرةَ ( قال : ( إن فرسَ المجاهدِ ليستن في طوله فيكتب له حسنات ) .(1/12)
قوله هذا جزء من حديث سوف يأتي في فضل اتخاذِ الخيلِ ، وهذا أجرُ من رَبَطَ خيلَه في سبيلِ الله فإن الفرسَ إذا اسْتَنَّ في طِوَلِهِ ، أي : تحركَ في الحبلِ الذي يُرْبَط به ، فإن كل خطوةٍ يخطوها في هذا المكانِ الذي هو فيه تُكتبُ له فيه حسناتٌ حتى بولُ الفرس وروثُه وما يدخلُ بطنَه من ماء وطعام ؛ كل هذا يكتبُ حسناتٌ للمسلمِ الذي ارتبطَ هذا الفرسَ في سبيل الله . وسوف يأتي هذا الحديثُ بالتفصيلِ في بابٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى .
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى :
باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله .
وقوله تعالى : .
5 ـ حدثنا أبو اليمانِ ، أخبرنا شعيبٌ ، عن الزهري قال : حدثني عطاءُ بنُ يزيدَ الليثيّ أن أبا سعيدٍ الخدري ( حدثه قال : قيل يا رسول الله ، أي الناسِ أفضلُ ؟ فقال رسول الله ( : " مؤمنٌ يجاهدُ في سبيلِ الله بنفسه وماله " ، قالوا : ثم من ؟ قال : " مؤمنٌ في شِعبٍ من الشعابِ يتقي اللهَ ويَدَعُ الناسَ من شَرِّهِ " .
6 ـ حدثنا أبو اليمانِ ، أخبرنا شعيبٌ عن الزهري قال : أخبرني سعيدُ بنُ المسيِّب أن أبا هريرةَ قال : سمعت رسول الله ( يقولُ : " مثلُ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ ـ واللهُ أعلمُ بمن يُجاهِدُ في سبيلِهِ ـ كمثلِ الصائمِ القائمِ ، وتَوَكَّلَ اللهُ للمجاهدِ في سبيلهِ بأن يتوفاه أن يُدْخِلَهُ الجنةَ أو يُرجِعَهُ سالماً مع أجرِ أو غنيمةٍ "
هكذا قع مضبوطاً في النسخة التي عندي ( سعيد بن المسيَّب ) والأصح ( سعيد بن المسيِّب ) بكسر الياء .
ـ الآية : الشاهد فيها واضحٌ ، وهو أن النجاةَ من العذابِ الأليم في مقابلها تجارةٌ ، وهذه التجارةُ هي الإيمانُ بالله ورسوله والجهادُ في سبيل الله بالمال والنفس .
وفيها ما يترتبُ على ذلك ؛ وهو مغفرةُ الذنوبِ ودخولُ الجناتِ والمساكنِ الطيبةِ التي في جناتِ عدن ، وهذا هو الفوزُ العظيمُ الذي يحرصُ عليه المؤمنُ .(1/13)
وأما حديثُ أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ففيه أن النبي ( ذَكَرَ أفضلَ الناسِ ، فعندما تحدث عن أفضل الناس لم يذكر المتعبدَ الذي يصلي في مسجده أو الصائمَ الذي لا يفطرُ أو الذي يفعل كذا وكذا من سائر الأعمالِ ، وإنما ذكر المجاهدَ الذي يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله .
ثم قال : ( ثم أي ؟ ) أي : من الذي يلي هذه المرتبةَ العالية التي هي أفضلُ الناس ، أي : أعظمُهم أجراً عند الله ؟ قال : " مؤمنٌ في شعبٍ من الشعابِ يتقي الله ويدعُ الناسَ من شره " ، وهذا يُقَيِّدُهُ أهلُ العلمِ بوقتِ الفِتَنِ ، فإن في وقتِ الفتنةِ تُسْتَحَبُّ العزلةُ حتى لا يقعَ المسلمُ في إيذاءِ الناسِ حولَه ولا يقعُ في المحظوراتِ بسبب الخلطة في وقت الفتنة . وهذا له بابٌ خاصٌ يتعلق بأفضليةِ العزلةِ في وقت الفتنة وأفضليةِ مخالطةِ الناسِ لمن يستطيعُ أن يصبرَ على أذاهم .
وأما حديث أبي هريرة وفيه أنه يقول ( سمعت رسول الله ( يقول : " مثل المجاهد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ـ ) ، هذه الجملةُ الاعتراضيةُ لأن النيةَ في الجهادِ هي الأساسُ ، والنبي ( يقول : " إنما الأعمال بالنيات " فلا بدَّ من الإخلاصِ لله ( . والإخلاصُ هو رأسُ العَمَلِ ؛ فإن لم يكنِ العملُ مبنياً على الإخلاصِ لله ( فإنه مردودٌ على صاحبه . والله ( لا يقبلُ إلا ما كان خالصاً له سبحانه وتعالى . واللهُ هو الذي يعلمُ منِ الذي يجاهدُ في سبيله . وسوف يأتي بابٌ خاصٌ أيضاً بهذه المَكْرُمة .(1/14)
والربطُ بين هذا الحديثِ وبين الحالِ الذي نعيشه الآن هو ما ذكرتُه عند سؤالي عن الجهادِ في العراقِ فقلتُ : إن ذلك مرتبطٌ بنيةِ الذي يجاهد ؛ فإن كانت نيتُه الدفعَ عن بلادِ المسلمينَ ودرءَ هذا العدوانِ وحمايةَ دارِ الإسلامِ من هؤلاءِ الكفارِ والمحافظةَ على أعراضِ المسلمينَ ودمائِهم وأموالِهم وأراضيهم فإنه مأجورٌ على ذلك وهو في سبيلِ الله ، ولئن قُتِلَ فله أجرُ الشهيدِ إن شاء الله تعالى .
وأما إن كانت نيتُه نصرةَ حزبِ البعثِ أو الدفاعَ عن الوطنِ بغضِ النظرِ عن الدين وعن رايةِ لا إله إلا الله والجهادِ في سبيلِ الله ؛ فإن هذا ليسَ جهاداً في سبيلِ الله وليس لصاحبِه أجرٌ عند الله عز وجل ، وإنَّ هذا يقاتلُ عصبيةً وليس دينياً . وسوف يأتي الحديثُ عن هذا إن شاء الله تعالى
وقولُه (كمثل الصائم القائم ) ، أي : إن أجرُه كأجرِ الذي يصومُ ولا يفطرُ ويقومُ فلا يفتُرُ كما جاء في الحديثِ السابقِ الذي ذكرناه قبلَ قليلٍ .
( وتكفل الله للمجاهد ) أي : ضَمِنَ للمجاهدِ في سبيله أنه إذا تَوَفّاهُ أن يُدْخِلَهُ الجنةَ أو يُرْجِعَهُ سالماً إلى أهلِه وقومِه مع الأجرِ أو الغنيمةِ ، وفي بعض الألفاظِ ( والغنيمة ) .
وهذا حصلَ فيه شيءٌ من الإشكالِ ؛ هل الذي يرجِعُ سالماً يُؤْجَرُ مع أَخْذِهِ للغنيمةِ أم أن الغنيمةَ فقط هي أجرُه وليس له أجرٌ آخرَ غيرُ الغنيمة ؟
والصوابُ : أنه إذا تُوُفي يأخذُ أجرَه كاملاً وهو دخولُ الجنةِ ، وإذا رجعَ سالماً فإنه يأخذُ ثلثَ أجرِ الذي توفي وتَعَجَّلَ الثلثين في الدنيا .
وتَعُجُّلُه الثلثين في الدنيا لا يعني انه لا يأخذُ الأجرَ في الآخرة ، ولكن كما ذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن الذي يجاهدُ في سبيل الله يحصلُ له ثلاثةُ أجور :
يرجعُ بالنصرِ ويرجعُ بالغنيمةِ ويرجعُ بالأجرِ في الآخرة ، فهذه ثلاثةٌ تَعَجَّلَ في الدنيا اثنينِ منها وهما النصرُ والغنيمةُ وبقي له في الآخرةِ الأجرُ .(1/15)
أما الذي يُسْتَشْهَدُ في سبيلِ اللهِ ويُقْتَلُ في هذه المعركةِ فإنه لا يأخذُ إلا الأجرَ وبالتالي يُعَوَّضُ مكانَ النصرِ والغنيمةِ كِفْلَيْنِ من الأجرِ غيرَ الذي استوى فيه مع الذي يرجِعُ بالنصرِ والغنيمةِ ، والله تعالى أعلم
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى :
باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء .
وقال عمر : اللهم ارزقني شهادة في بلد رسولك (
7 ـ حدثنا عبدُ اللهِ بنُ يوسفَ عن مالكٍ عن إسحقَ بنِ عبدِ الله بن أبي طلحةَ عن أنسٍ ( أنه سمعَه يقول : " كان رسولُ الله ( يدخلُ على أمِّ حرامٍ بنتِ مِلحان فتُطْعِمُه ، وكانت أمُّ حرامٍ تحتَ عُبادةَ بنِ الصامتِ ، فدخل عليها رسولُ الله ( فأطْعَمَتْه وجعلَتْ تَفْلي رأسَه ، فنام رسولُ الله ( ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت : فقلت : وما يُضحكُك يا رسولَ الله ؟ قال : ناسٌ من أمتي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزاةً في سبيل الله ، يركبون ثَبَجَ هذا البحر ملوكاً على الأَسِرَّة ـ أو مِثْلَ الملوكِ على الأسرة شك إسحق ـ قالت : فقلت : يا رسولَ الله ادْعُ اللهَ أن يجعلَني منهم ، فدعا لها رسولُ الله ( . ثم وضع رأسَه ، ثم استيقظ وهو يضحك . فقلت : وما يُضحكك يا رسولَ الله ؟ قال : ناسٌ من أمتي عُرضوا علي غزاة في سبيل الله ـ كما قال في الأول ـ قالت : فقلت : يا رسولَ الله ، ادعُ الله أن يجعلَني منهم ، قال : أنتِ من الأَوَّلين . فرَكِبَتْ البحرَ في زمنِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ فصُرِعَتْ عن دابَّتِها حين خَرَجَتْ من البحرِ فهَلَكَتْ " .
قوله ( باب في الدعاء بالجهاد ) يعني : ما وردَ في دعاءِ المؤمن بأن يجعلَه اللهُ من المجاهدينَ في سبيل الله .
( والشهادة للرجال والنساء ) أي : ما جاء في الدعاء بالشهادة للرجال والنساء .(1/16)
وذكر فيه أثر عمر ( ( اللهم ارزقني شهادة في بلد رسولك ) ، وهذا الأثرُ مُعَلَّقٌ لأن البخاريَّ لم يذكرْ سندَه وإنما قال : ( وقال عمر ) وهذا ما يُسمى بالمعلقات التي في الصحيح . وقد وصل الإمامُ البخاري!ُ هذا الأثرَ عن عمرَ في كتابِ الحجِ من نفسِ الصحيح . والشاهدُ فيه أن عمرَ دعا اللهَ وطلبَ أن يَرْزُقَهُ الشهادةَ ، وقَيَّدَ ذلك في بلدِ رسول الله ( حرصاً على فضيلةِ المدينة وأن النبيَّ ( قد حَثَّ على سُكناها وذَكَرَ أنه يكون شهيداً وشفيعاً لمن يموتُ بالمدينة . نسأل الله ( أن لا يحرمَنا ذلك .
ثم ذكر رحمه الله تعالى حديث أنسِ بنِ مالكٍ في قصةِ مَقِيلِ النبيِّ ( عند أم حرامِِِ بنتِ ملحان ، فكان رسولُ الله ( يدخلُ عليها ، وذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن ذلك كان قبلَ الحجابِ ، وبعضهم يقول : إن بينها وبين النبي ( شيء من المَحْرَمِيَّة عن طريقِ النَّسَبِ .(1/17)
والمقصودُ أن النبيَّ ( كان يدخلُ عليها فتضعُ له طعاماً ، فدخلَ عليها ذات مَرَّةٍ فأطعمته وجعلَتْ تَفْلِي رأسَهُ ، وهو أمرٌ معلومٌ في العربِ ؛ فإنَّ الرجلَ كان لكثرةِ شَعْرِهِ ووجودِ وَفْرَةٍ له ولَمَّةٍ يحتاجُ لمن يَفلي له رأسَه فينظُرَ هل يوجدُ شيءٌ من القَمْل ونحوِه ، فكانتْ تَفلي رأسَه ( وهو نائمٌ ، فاستيقظَ رسولُ الله ( وهو يضحكُ ، فلما رأتْ ضَحِكَهُ وتَبُسَّمَهُ ( سألتْه عن سببِ ذلك ، فأخبرَها أن السببَ أنه رأى في منامِه ناساً من أمته غُزاةً في سبيل الله يركَبون ثَبَجَ هذا البحرِ ، يعني : يركبون بعضَ البحرِ بالسُّفن ، وأنهم يومَ القيامة كالملوكِ على الأسرَّةِ . وهذا دليلٌ على الأجرِ العظيمِ للمجاهدِ في سبيلِ الله وأنه سوف يكون يومَ القيامةِ بهذه المنزلةِ العظيمةِ . وكما تعلمون فإن رُؤْيا الأنبياءِ وَحْيٌ ، فالنبيُّ ( بَشَّرَ بهذه الرؤيا عن أناسٍ من أمَّتِهِ . فسأَلَتْه ( أن يدعُوَ اللهَ ( أن يجعلَها منهم . والمرأةُ تخرجُ إلى الغزوِ كما قُلْنا على سبيلِ النَّدْبِ وليسَ على سبيلِ الوُجوبِ ، لأن المرأةَ لا يجبُ عليها الجهادُ الذي هو جهادُ الطَّلَبِ ، ثم إنها إذا خَرجَتْ إلى الغزوِ فإن عَمَلَها محدودٌ فيما يُحتاج إليها فيه كسقايةٍ أو تمريضٍ لمحارِمِها ممن يَحْتاج إلى تمريضٍ أو نحوِ ذلك كصَنْعَةِ طعامٍ للعَسْكَرِ أو صياغةِ ملابسٍ لهم ونحوِ ذلك . فهذا هو غَزْوُ المرأةِ ، ولا يُقْسَمُ لها بسهمِ ، لأن الأصلَ أنها لا تُقاتِلُ إلا إذا احتاجَتْ إلى ذلك دَفْعاً عن المسلمينَ وعن نفسِها خاصةً إذا تَعَرَّضَتْ لِسَبْيٍ ؛ فيُرْضَخُ لها من الغنيمةِ أو يُجْعَلُ لها من الغنيمةِ ليسَ على سبيلِ السَّهْمِ الذي يُسْهَمُ به لمن يُقاتِلُ من الرِّجالِ .
فلما قالت ( ادعُ الله أن يجعلَني منهم ) دعا لها رسولُ الله ( .(1/18)
والشاهدُ في الحديثِ أنها دَعَا لها رسولُ الله ( أن تكونَ من الغُزاةِ في سبيلِ الله الذينَ يُكتَبُ لهم هذا الأجرُ العظيمُ . وقد حَصَلَ لها ذلك بالشهادةِ أيضاً في سبيل الله كما سيأتي .
ثم نامَ رسولُ الله ( فعُرِضَ عليه جماعةٌ أخرى مثلُ ما عُرض عليه في الأول ، فقالت : ( ادع الله أن يجعلني منهم ) قال : " أنت من الأولين " . ومما يظهرُ أن في هذا الحديثِ إشارةً إلى أنها سوفَ تُسْتَشْهَدُ في هذا الغزوِ الأولِ ولأجل هذا قال لها : " أنت من الأولين " ولم يَدْعُ لها أن يَجْعَلَها من الآخرينَ لأنها تكونُ قد اسْتُشْهِدَتْ وماتتْ في سبيل الله . وهذا الذي حَصَلَ فهي قد خرجتْ في غزوةِ البحرِ في زمنِ معاويةَ ( فطُرِحَتْ عن دابتها ـ أي سقطت ـ وكانت الدابةُ هي السببُ في صَرْعِها ـ أي سقوطها ـ حين خرجت من البحر فهلكت ـ أي ماتت ـ .
وسوف يأتي ما يدُلُّ على أن الذي يُقتَل أو يموتُ حتفَ أنفه بأي طريقةِ كانت وهو في سبيلِ الله فله أجرُ شهيدٍ ، والله تعالى أعلم .
ـ تنبيه :
هنا اسْتِشْكالٌ يُطْرَحُ وهو : هلْ سُؤالُ اللهِ ( الشهادةَ أو الدعاءُ بالشهادةِ يَسْتَلْزِمُ طلبَ نَصْرِ الكافرِ على المسلمِ وإعانةَ من يَعْصي اللهَ ( على من يُطِيعُهُ ؟
والجوابُ : ليسَ الأمرُ كذلكَ ، والجهادُ لا شَكَّ أنه لا بُدَّ فيه من فَقْدٍ وخَسارةٍ من الطَّرَفَيْنِ ولكنَّ العاقبةَ تكونُ للمسلمين . والنبيُّ ( عندما رأى الشهداءَ في أحدٍ في منامِهِ قال : " رأيتُ بقراً يُذبَحُ فقلتُ : بقرٌ واللهِ خيرٌ " ، فكان تأويلُهُ بالشهداءِ الذين قُتلوا يومَ أُحُدٍ ، فحصولُ الشهادةِ لا يعني تمكينَ الكافرينَ ، ولا يعني نصرَهم على المسلمينَ ، وإنما هذا لا بُدَّ أن يكونَ كما قال اللهُ ( : فهذه سنةُ الله .(1/19)
ولأجلِ ذلك يجبُ على المسلم في وقتنا الحالي أن لا يَظُنَّ أن هولَ المصائبِ على المجاهدينَ في أفغانستانَ أو المجاهدينَ في العراقِ أو في فلسطينَ إنما هو نصرٌ للكافرينَ ، لا بلْ هو كرامةٌ وشهادةٌ لمن قُتِلَ من المسلمينَ وهو يريدُ وجهَ الله ( كما ذكرنا ، وهي منزلةٌ وشهادةٌ وخيرٌ والحمدُ لله ، لأنه لا نصرَ بغيرِ تضحيةٍ ولا تأييدَ من الله ( من غيرِ ابتلاءٍ وفتنةٍ . هذا أمرٌ هامٌ جداً ، والله تعالى أعلم .
قال الإمام البخاري رحمه الله :
بابُ درجاتِ المجاهدينَ في سبيلِ الله . يقالُ : هذه سبيلي ، وهذا سبيلي .
قال أبو عبد الله : غُزّاً واحدها غَازِ . هم درجاتٌ : لهم درجاتٌ .
8 ـ حدثنا يحيى بنُ صالحٍ ، حدثنا فُلَيْحٌ ، عن هلالِ بنِ علي ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ ، عن أبي هريرةَ ( قال : قال النبي ( : " مَنْ آمنَ باللهِ وبرسولِهِ وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كان حَقاً على الله أن يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ ، جاهَدَ في سبيلِ اللهِ أو جَلَسَ في أرضِهِ التي وُلِدَ فيها . فقالوا : يا رسولَ الله ، أَفَلا نُبَشِّرُ الناسَ ؟ قال : إن في الجنةِ مائةَ درجةٍ أَعَدَّها اللهُ للمجاهدينَ في سبيلِ الله ما بين الدرجتينِ كما بين السماءِ والأرض ، فإذا سألتُمْ اللهَ فاسألوه الفردوسَ فإنه أوسَطُ الجنةِ وأعلى الجنة ـ أُراه قال : وفوقَه عرشُ الرحمنِ ـ ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجنةِ " . قال محمدُ بنُ فُلَيْحٍ عن أبيه : " وفوقَه عرشُ الرحمن " .
9 ـ حدثنا موسى حدثنا جريرٌ حدثنا أبو رجاءَ عن سَمُرة قال : قال النبي ( : " رأيتُ الليلةَ رجلَين أتياني فَصَعِدا بي الشجرةَ وأدخلاني داراً هي أحسَنُ وأفضلُ ، لم أَرَ قطُّ أحسنَ منها ، قال : أما هذه الدّارُ فدارُ الشهداءِ " .(1/20)
هذا الباب أيضاً يتعلَّقُ أيضاً بفضلِ الجهادِ في سبيلِ الله . وقولٌ البخاريِّ ( يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي ) أي : إن كلمة ( سبيل ) يَصِحُّ أن تُذكَّر ويَصِحُّ أن تُؤَنَّثَ .
( وقال أبو عبد الله ) يعني : البخاري رحمه الله ( غُزّاً ) أي في قوله تعالى ( واحدها غاز ) يعني : كلمةُ غازٍ تُجمَعُ على غُزّاً وتُجمع أيضاً على غير ذلك كغُزاةٍ ونحوِها . وقوله ( هم درجات ) يعني في قوله تعالى أي : درجات المجاهدين وغيرهم ، أي : لهم درجات .
وهذا الحديثُ الذي ذكَرَه عن أبي هريرةَ حيث يقول (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ) . قيل : لماذا لم يَذْكُرِ الحَجَّ والزكاةَ ؟
البعضُ من أهلِ العلمِ قال : هذا الحديثُ قبلَ فرضيةِ الحجِ والزكاةِ . والبعضُ الآخرُ قال : لا لأن فيه تصريحاً بسماعِ أبي هريرةَ ، وقد أسلَمَ متأخراً بعد فتحِ خيبرَ . وقد جاء ذكرُ الزكاةِ في بعضِ الطُّرُقِ .
ومعلومٌ أن الزكاةَ لا تجبُ إلا على من كان يملِكُ النصابَ ، وكذلك الحجُّ له شروطٌ لا يجب إلا على من تَوَفَّرَتْ فيه ، بخلافِ الصلاةِ وصيامِ رمضانَ . فلأجلِ هذا اقْتَصَرَ على ذِكْرِ ما يجبُ على الجميعِ ؛ وهو الإيمانُ باللهِ ورسولِهِ وإقامُ الصلاةِ وصيامُ رمضانَ .
ثم فيه أن الذي يفعلُ ذلك أنه يَدْخُلُ الجنةَ ، ولكن هلْ منزِلَتُهُ كمنزلةِ الشهداءِ ؟ ليس الأمرُ كذلكَ ؛ بل إن للشهداءِ عند الله مائةَ درجةٍ في الجنةِ أُعِدَّتْ للمجاهدينَ في سبيلِ الله وما بينَ الدرجَتَيْنِ كما بينَ السماءِ والأرضِ . فهذا شرحٌ لقولِهِ تعالى فإن أهلَ الجنةِ درجاتٌ ، وللمجاهدينَ في سبيل الله مائةُ درجةٍ ما بين الدرجتينِ كما بين السماءِ والأرضِ ، ثم قال ( فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ) والفردوسُ كلمةٌ أعجميةٌ يُرادُ بها المكانُ الذي به جناتُ العِنب ِونحوها .(1/21)
( وأوسط الجنة ) يعني هنا : أفضَلًُها وأكرمُها، وليس المرادُ بالوسطية هنا التوسط ، وإنما المراد الأفضلية ، ( وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ) يعني : هو أعلى درجةٍ من درجاتِ الجنة وقد أمَرَ النبيُّ ( إذا سألنا اللهَ أن نسأَلَهُ الفردوسَ وإن كان الفردوسُ منزلةً عاليةً لا يصِلُ إليها إلا المجاهدُ في سبيل الله ، فالإنسانُ يسألُ اللهَ ( الفردوسَ الأعلى . وقوله ( ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنةِ ) أي : من الفردوسِ وليسَ من عرشَ الرحمنش كما يتوهَمُّه البعضُ .
وأما قوله ( قال محمدُ بن فُلَيح عن أبيه : " وفوقه عرش الرحمن " ) يقصُدُ بذلكَ أن لفظَ محمدِ بنِ فليحٍ عن أبيه فليح كان بالجزمِ في قوله ( وفوقه عرش الرحمن ) ليس فيه الشكُّ الذي قاله يحيى بنُ صالح عن فليح .
وأما الحديث الثاني ـ حديث سمرة ـ وبه نختم هذا اللقاءَ إن شاء اللهُ تعالى .
أقول : حديثُ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ هو حديثٌ طويلٌ جداً ، وهو حديث المنامِ الطّويلُ عن سمرة ( وهو نوعٌ من المعراجِ الذي تَكَرَّرَ حصولُه للنبي ( ، وفيه أنه أتاه رجُلانِ ـ وهما مَلَكَانِ جبريلُ وميكائيلُ ـ أَتَيَا النبيَّ ( وصعدا به في الطبقات ، ورأى أحوالَ أهلِ النارِ وأحوالَ أهلِ الجنةِ ، وكان مِمّا رآى ما يتعلَّقُ بالشهداءِ ، ولأجلِ هذا اختصَرَ البخاريُّ هذا الحديثَ واقْتَصَرَ منه على الشاهِدِ ، وهذه عادةُ الإمامِ البخاريِّ رحمه الله في صحيحِه .
فقال : ( فصعِدا بي الشجرةَ وأدخلاني داراً هي أحسنُ وأفضلُ ، لم أَرَ قطُّ أحسنَ منها ) هذه الدارُ هي دارُ كرامةِ الله ( للشهداءِ الذين قُتِلوا في سبيلِ الله ( .
ثم في النهايةِ عندما سَأَلَ فقال : ما هذه ؟ وما هذه ؟ قال : أما هذه فهيَ دارُ الشهداءِ . وكما قلتُ اخْتَصَرَ الإمامُ البخاريُّ اللفظَ لأن الحديثَ طَوِيلٌ والله تعالى أعلم .(1/22)
وفي هذا الحديثِ طبعاً منزلةُ الشهداءِ وكرامتُهم على الله ( ، وهي منزلةٌ عظيمةٌ ولا تكونُ الشهادةُ إلا بالجهادِ في سبيلِ الله ، فهذا ما يتوافَقُ مع كلامِنا عن فضلِ الجهادِ في سبيلِ الله .
ونكتفي بهذا القدرِ ، ونستكملُ إن شاءَ اللهُ تعالى بقيةَ الكتابِ في اللقاءِ القادمِ بإذنِ الله واللقاءاتِ التاليةِ له ، نسألُ اللهَ التوفيقَ والسدادَ .
المحاضرة الثانية
( تابع فضل الجهاد ، والنية والقنوت )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ? وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
نستكملُ الليلةَ دورتَنا المباركةَ في فقهِ الجهادِ من خلالِ صحيحِ البخاري رحمه الله ، وذلك باستعراضِ أحاديثِ كتابِ الجهادِ فيه . فأقول وبالله التوفيق :
أخبرني أبو عبدِ الله التُّوَيجري عن العنقَريِّ عن ابنِ عتيقٍ عن حُسينِ الأنصاريِّ عن محمدِ الحازميِّ عن محمد عابد السندي عن صالح الفُلاني عن ابن سِنَّة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن بن عبد الأول عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
بابُ الغدوةِ والروحةِ في سبيلِ الله ، وقابُ قوسِ أحدِكم في الجنة .
10 ـ حدثنا مُعَلّى بن أسد ، حدثنا وُهَيب ، حدثنا حُمَيد عن أنسِ بنِ مالكٍ ( عن النبي ( قال : " لغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحةٌ خير من الدنيا وما فيها " .(1/23)
11 ـ حدثنا إبراهيمُ بنُ المنذرِ ، حدثنا محمدُ بنُ فُلَيْحٍ قال : حدثني أبي عن هلالِ بنِ علي عن عبدِ الرحمنِ بن أبي عَمْرَةَ عن أبي هريرةَ ( عن النبيِّ ( قال : " لَقابُ قوسٍ في الجنةِ خيرٌ مما تَطْلُعُ عليه الشمسُ وتغربُ " . وقال : " لغدوةٌ أو روحةٌ في سبيلِ الله خيرٌ مما تَطْلُعُ عليه الشمسُ وتغربُ " .
12 ـ حدثنا قَبيصَةٌ ، حدثنا سفيانُ عن أبي حازمٍ عن سهلِ بن سعدٍ ( عن النبي ( قال : " الروحةُ والغدوةُ في سبيلِ الله أفضلُ من الدنيا وما فيها " .
هذا الحديثُ الذي ذكرناه الآن تابعٌ لفضلِ الجهادِ .
وقوله ( في هذا الحديث ( لغدوةٌ في سبيلِ الله أو روحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها ) ؛
الغدوة : واحدةٌ أو مرةٌ الغُدُوِّ ، وهو : السَّيْرُ من الصباحِ إلى الزوالِ في أولِ النهار ، والمقصودُ مرةٌ واحدةٌ فقط .
وأما الرَّوْحَةُ ؛ فهي المرةُ من الرَّواحِ ، وهو : المَسيرُ من بعد الزوالِ إلى قبلِ الغروبِ .
هذه الغدوةُ أو هذه الروحةُ في سبيل اللهِ ـ أي في الجهادِ في سبيلِ الله ـ خيرٌ من الدنيا وما فيها ، فكيف إذا كان المجاهدُ يقضي أياماً طوالاً يجاهدُ في سبيلِ الله ؟ وكيف إذا كان يُعَفِّرُ بَدَنَهُ بالترابِ في سبيلِ الله صباحاً ومساءً ؟ وإذا كان هذا هو الأجرُ المُعّدُّ للمجاهدِ لمجردِ المسيرِ فترةً من اليومِ فكيف بمن يُهْراقُ دمُه ويُعْقَر جوادُه في سبيل الله ؟ كيف بالذي يُضَحّي بنفسه وماله في سبيل الله ؟
هذا دليلٌ على عِظَم قدرِ الجهاد وفضلِه عند الله ( ، فإن هذا القدرَ اليسيرَ خيرٌ مما طلعتْ عليه الشمسُ .
وقوله ( من الدنيا وما فيها ) : هذا يشمَلُ كلَّ ما في الدنيا من المُغْرَياتِ ومن التنعُمَاتِ التي يتنعمُ بها المتنعمون . فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الجهادَ في سبيله ، والله تعالى أعلم .(1/24)
وأما في الحديثِ الآخر فقوله ( لقابُ قوسٍ في الجنة ) ، وفي بعض ألفاظِ هذا الحديث ( لقابُ قوس أحدِكم في الجنة ) . يراد بكلمة ( القابُ ) أي : القدرُ . ( قابُ القوس ) أي : قدرُ القوس في الجنة .
هذا القدرُ اليسيرُ خيرٌ مما تطلعُ عليه الشمسُ وتغربُ ، أي : خيرٌ أيضاً من الدنيا وما فيها .
ثم قال : ( لغدوةٌ في سبيل الله .. ) فذكر مثلَ حديث أنسٍ وحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنهم .
وكذلك حديثُ سهلِ بن سعدٍ ( بنفسِ لفظِ حديثِ أنسٍ تقريباً . والمرادُ بسياقِ الإمامِ البخاري لهذه الأحاديثِ الثلاثةِ بيانُ فضلِ الجهادِ في سبيلِ الله ( ببيانِ أن القدْرَ اليسيرَ هذا خيرٌ من الدنيا جميعِها والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله تعالى :
باب الحور العين وصفتهن .
يحارُ فيها الطرف . شديدة سواد العين ، شديدة بياض العين . : أنكحناهم
13 ـ حدثنا عبد اللهُ بنُ محمدٍ ، حدثنا معاويةُ بنُ عمروٍ ، حدثنا أبو إسحاقَ ، عن حُمَيْدٍ قال سمعتُ أنسَ بنَ مالكٍ ( عن النبي ( قال : " ما مِن عبدٍ يموتُ له عندَ اللهِ خيرٌ يَسُرُّهُ أن يرجعَ إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيدُ لما يرى من فضلِ الشهادةِ ، فإنه يسره أن يرجعَ إلى الدنيا فيُقتَلُ مرةً أخرى " .
14 ـ قال : وسمعت أنسَ بنَ مالك عن النبي ( أنه قال : " لروْحةٌ في سبيلِ الله أو غدوةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها ، ولقابُ قوسِ أحدِكم من الجنة أو موضعُ قِيدٍ ـ يعني سَوْطَه ـ خيرٌ من الدنيا وما فيها . ولو أن امرأةً من أهلِ الجنة اطَلعتْ إلى أهل الأرضِ لأضاءتْ ما بينهما ولَمَلأتْه ريحاً ، ولَنَصيفُها على رأسِها خيرٌ من الدنيا وما فيها " .
قوله ( يَحار فيها الطرفُ ) ، أي : يحصُل للشخصِ الحَيْرةُ من شِدّةِ جمالِها ، ولا يستطيعُ الطرفُ أن يُحيطَ بهذا الجمالِ .
( والطرفُ ) : العينُ والبصرُ والنظرُ .(1/25)
ولكن هذا ليس تفسيراً لكلمة ( الحُور ) فهي ليستْ من الحَيرة وإنما من الحَوَر . والحَوَر : هو شِدّةُ سوادِ العينِ مع بياضِ ما حولَ هذا السوادِ بياضاً شديداً .
( والحُور ) جمع حَوراء . وأما ( العِينُ ) جمع عَيْناء ، وهي : واسعةُ العينِ جميلةُ العينِ .
ثم قال : ( شديدةُ سوادِ العَين ، شديدةُ بياضِ العَين ) بياناً للمعنى الذي اشتقت منه كلمة ( الحُور ) ثم قال ( : أنكحناهم ) ، يعني : تفسيرَ قوله تعالى : يقول : أنكحناهم . لأن التزويجَ يُرادُ به النكاحُ ويرادُ به الجمعُ اثنين اثنين . والمراد به هنا النكاح . يعني : يحصلُ لهم الاستمتاعُ الذي هو من النكاحِ .
ثم ذكر حديثَ أنس وفيه ( ما من عبدٍ يموتُ له عند الله خيرٌ يسره أن يرجعَ إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها ) ، يعني : أن الذي يرى كرامةَ الله ( في الآخرة من أيِّ العبادِ كان إذا كانَ من أهل الكرامةِ والخيرِ من الله ، فإنه لا يمكنُ أن يريدَ أن يرجعَ إلى الدنيا بحالٍ من الأحوالِ ولو مُنِحَ له كلُّ ما في الدنيا
وهذا كما دلَّ عليه الحديثُ المشهورُ أنه يؤتى بأَبْأَسِ أهلِ الأرض وهو من أهلِ الجنة فيُغمَسُ في الجنة غمسةً فيقال له : هل رأيتَ بؤساً قط ؟ فيقول : لا ، والله ما رأيتُ بُؤساً قط .
فإذا كانتِ الغمسةُ الواحدةُ في الجنة تُنْسي أبأسَ أهلِ الأرضِ ما رآه من بؤسٍ في هذه الدنيا ؛ فكيف بمن يمكثُ في الجنة ويرى الخيرَ العميمَ من الله ( ؟ لا شك أنه لا يُرِيدُ أن يرجعَ إلى هذه الدنيا ولو مُنِحَتْ له كلُّها . إلا واحدٌ فقط هو الذي يَسُرّهُ أن يرجعَ إلى الدنيا وهو الشهيدُ لما يرى من فضلِ الشهادةِ . لماذا ؟ لأنه رأى كرامةً عظيمةً جداً بسببِ شهادته فيتمنى لو يرجعُ إلى الدنيا فقط لأجلِ أن يُقتَلَ مرةً أخرى في سبيلِ الله فيتحَصَّلُ على هذا الأجرِ العظيمِ . وهذا المعنى وَرَدَ في أحاديثَ كثيرةٍ منها :(1/26)
حديثُ جابرٍ ( عندما كَلَّمَه النبيُّ ( وذكرَ له أن الله ( كلم أباه كفاحاً وقال له : ( تمن ) فقال : أرجعُ إلى الدنيا لأقتلَ في سبيلِك . أو كما قال ( .
فهذا المعنى ثابتٌ في عِدّةِ أحاديثَ ، ولا زِلْنا في فضلِ الجهادِ وفضلِ الاستشهادِ في سبيل الله ( .
ثم ذكر حديثَ أنسٍ ( وفيه ذكرُ الرَّوحةِ والغّدْوة ، وذكر فيه إضافةً وهي ( ولو أن امرأةً من أهلِ الجنة اطلعت إلى أهل الأرض ) أي : ظهرتْ لهم ظهوراً ( لأضاءت ما بينهما ) أي : ما بين السماءِ والأرضِ أو ما بينَ المشرقِ والمغربِ ولمَلأتْه ريحاً من عطرها وطِيبها الذي أكرمها الله ( به في هذه الجنة ، وهو كرامةٌ للمؤمنِ .
ثم قال ( ولنَصِيفُها على رأسها ) أي : الخمارُ الذي تلبَسُهُ خيرٌ من الدنيا وما فيها .
سبحانَ اللهِ ، الخمارُ الذي تلبَسُهُ الحوريةُ التي أَعَدَّها اللهُ ( للمجاهدِ في سبيلِ الله ؛ خمارُها فقط خيرٌ من الدنيا وما فيها ، فما بالُك بالسبعينَ حورية ؟ وما بالُك بكل ما في الجنة من خيرٍ وكرامةٍ أعدها الله ( للمجاهدينَ في سبيله . والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب تمني الشهادة
15 ـ حدثنا أبو اليمانِ ، أخبرنا شعيبٌ ، عن الزهري ، أخبرني سعيدُ بنُ المسيب أن أبا هريرةَ ( قال : سمعتُ النبيَّ ( يقول : " والذي نفسي بيدِهِ ، لولا أن رجالاً من المؤمنينَ لا تطيبُ أنفسُهم أن يتخلَّفوا عني ، ولا أجدُ ما أحمِلُهم عليه ، ما تخلَّفْتُ عن سَرِيَّةٍ تغزو في سبيلِ الله ، والذي نفسي بيده لوَدِدْتُ أني أُقتَلُ في سبيلِ الله ثم أَحيا ، ثم أقتل ثم أحيا ، ثم أقتل ثم أحيا ، ثم أقتل " .(1/27)
16 ـ حدثنا يوسفُ بنُ يعقوبَ الصَّفّار ، حدثنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّة ، عن أيوبَ عن حميدِ بنِ هلالٍ عن أنسِ بن مالكٍ ( قال : خطب النبيُّ ( فقال : " أَخَذَ الرايةَ زيدٌ فأصيبَ ، ثم أخذها جعفرٌ فأصيبَ ، ثم أخذها عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ فأصيبَ ، ثم أخذها خالدُ بنُ الوليدِ عن غيرِ إمرةٍ ففُتِح له . قال : وما يَسُرُّنا أنهم عندنا " . قال أيوب : أو قال : " ما يسرُّهم أنهم عندنا ، وعيناهُ تَذْرِفان "
هذا الباب فيما جاء في تمني الشهادةِ . وفيه أن النبيَّ ( تمنى هذه المنزلةَ ( منزلةَ الشهيدِ ) على الرغمِ من كونه في أعلى منازلِ الجنة ، فإن في الجنةِ منزلةً لا تليقُ إلا به ( .
قوله في أولِ حديثِ أبي هريرةَ ( والذي نفسي بيده ) : قَسَمٌ . وهذه الجملةُ كانتْ دائماً قَسَمَ النبيِّ ( .
قولُه ( لولا أن رجالاً من المؤمنينَ لا تَطيبُ أنفسُهم أن يتخلّفوا عني ، ولا أجدُ ما أحمِلُهم عليه ، ما تَخَلَّفْتُ عن سَرِيّةٍ تغزو في سبيل الله ) : هذا دليلٌ على فضلِ الجهادِ في سبيلِ الله . فالنبيُّ ( يُظهِرُ العذرَ الذي لأجله لم يخرجْ في جميعِ مواقفِ القتال التي حصلَ فيها قتالٌ لأعداءِ الله ( .
وكما تعلمون ( الغزوة ) اصطلاحٌ لما خرج فيه النبي ( مع أصحابه ، وأما السريةُ فالمرادُ منها البعثُ الذي يبعثه النبيُّ ( ولا يخرجُ فيه . وهذا الحديثُ يشير إلى ذلك فإن فيه ( ما تخلفتُ عن سريةٍ تغزو في سبيل الله )
والسببُ في تَخُلَّفه ( عن بعض السرايا بَيَّنه بأنه يَشعرُ أنه لو خرج سوف يتأثَّرُ كثيرٌ من المسلمين لأنهم كانوا يُحِبون التضحيةَ في سبيلِ الله ( ويحبون صحبةَ النبي ( في هذه المشاهدِ العظيمةِ الذي يَبذلُ المسلمُ فيها نفسَه ابتغاءَ وجهِ الله ( ورَفعاً لرايةِ لا إله إلا اللهُ ودَحْراً للكفر .(1/28)
فيقول : إن هؤلاءَ الرجالِ من المؤمنينَ لا تطيبُ أنفسُهُم أن يتخلفوا عني ، وبالتالي سوف يَطلبونَ منه ( أن يكونوا معه في كل مشهدٍ يشهَدُه ، وهو ( لم يكن لديهِ السعةُ أن يحمِلَهم جميعاً فليس لديه العُدّةُ الكافيةُ لكل المسلمين كلما أرادَ أن يخرجَ إلى القتالِ في سبيلِ الله .
وهذا الحديثُ استَدَلَّ بِه من يَرى أن الجهادَ فرضُ كفايةٍ . وهو القولُ الراجحُ في جهادِ الطَّلَبِ كما بَيّنا ولكن هذا الحديثُ ليسَ صريحاً في ذلك ؛ لأن فيه أن النبيَّ ( لم يخرُجْ هو ومن جَلَسَ من هؤلاءِ إلا للعُذْرِ. والحديثُ عن الجهادِ وفرضِيَّتِه معلومٌ أنه يُستثنى منه أصحابُ الأعذارِ ، فليسَ في هذا الحديثِ دليلٌ على أن الجهادَ فرضُ كفايةٍ .
قوله بعد ذلك ( والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ، ثم أقتل ثم أحيا ، ثم أقتل ثم أحيا ، ثم أقتل ) ؛ نلاحظُ أن النبيَّ ( خَتَمَ بالقتلِ لأنه لا يريدُ بالإحياءِ في هذه المراتِ إلا أن ينالَ أجرَ الشهيدِ أكثرَ من مرةٍ . فسبحانَ الله ! نبيُّ الله ( وخيرُ الخلق إنما يحرصُ على أن يكونَ شهيداً في سبيل الله وليس مرةً واحدةً بل مراتٍ ومراتٍ ، فهذا دليلٌ عظيمٌ على فضلِ الشهادةِ في سبيلِ الله ، وهو دليلٌ أيضاَ على الحرصِ على الجهادِ من النبي ( ومن أصحابِه الكرامِ الذين تأسَّوْا به وعرفوا قدرَ الجهادِ في سبيل الله ( .
ـ استشكال : كيف أن النبي ( يتمنى أن يقتل ، والله ( يقول : ؟
وجَّه ذلك بعضُ الشُّرّاح بأمورٍ عليها ملاحظات :
فمنهم من يقول : هذا قبلَ نزولِ الآية . ولكنَّ أبا هريرةَ أسلمَ بعد نزولِ هذه الآيةِ وهو قد سَمِعَ هذا الحديثَ من النبي ( .
والجوابُ الذي ذهب إليه الحافظُ ابن حَجَرَ رحمه الله : أن المرادَ التمني ، والتمني لا يعني الحصولَ ، وهذا كثيرٌ ومتكررٌ .(1/29)
وأقول : هناكَ توجيهٌ أولى من هذا التوجيهِ ؛ وهو أن العَصْمةَ التي يَعْصِمُهُ اللهُ ( بها من الناسِ إنما هي لحينِ أن يؤديَ البلاغَ ، وليست العصمةُ التي ذكرَها اللهُ ( في هذه الآيةِ عصمةً دائمةً ، بمعنى أن لا يَصِلُ القتلُ إليه ( .
والدليلُ على هذا التوجيهِ أن النبيَّ ( قد كتبَ الله له أجرَ الشهادةِ مع أجرِ النبوةِ العالي الذي هو في أعلى الدرجاتِ ؛ فقد قُتِلَ ( ومات مسموماً من أَثَرِ الشاةِ التي سُمَّ بها في خيبر ، ولعلنا نتعرضُ لهذا فلا أدري هل يأتي في أثناءِ هذا الكتابِ أم لا ؟ ولكن هذا باختصار ، فإن النبي ( عندما ماتَ كما في هذا الكتاب في الصحيح قال : " ما زلتُ أجدُ أثرَ السُّمَ الذي أكلتُه في خيبر ، وهذا أوانُ انقطاعِ أبهري " ، فهذا دليلٌ على أنه ( ماتَ من أثرِ السم ، والله تعالى أعلم .
ثم في الحديثِ الآخر حديث أنسٍ قال ( خطب النبي ( فقال : " أخذ الراية زيد .. ) فهذا الحديثُ في غزوةِ مؤتة ، أو بالمعنى الأصح في سرية مؤتة ؛ فإن فيها أن زيداً ( أخذ الراية فأصيبَ ، يعني : قُتِل في سبيل الله ، ثم أخذها جعفرٌ فأصيب ، أي : قُتل أيضاً في سبيل الله ، ثم أخذها عبدُ الله بنُ رواحة وكان قد تأخر قليلاً عنهما فأخذها فأصيب أيضاً وقتل في سبيل الله ، ثم أخذها خالدُ بنُ الوليد ففَتَحَ اللهُ ( عليه .(1/30)
والنبيُّ ( كان قد أَوْصى أصحابَه أنه إذا قُتل فلانٌ فالرايةُ لفلانٍ حتى وصلَ إلى عبدِ الله بنِ رواحة ، وأرادَ الله أن يُقتلَ الأمراءُ الثلاثةُ فأخذها خالدُ بنُ والوليدِ من غير إمرةٍ ، لأنه لا بدَّ من تأميرِ أميرٍ للقتالِ حتى ولو لم يكنْ مُؤَمّراً من قِبَلِ ولي الأمرِ ، وهذه نقطةٌ أساسيةٌ ؛ أنه لا بدَّ في الجهادِ أن يكون هناك أميرٌ يقاتَل تحتَه ؛ لأن هذا الأميرَ يُنَظّم أمورَ الغزوِ ويُسْمَعُ له ويُرَتبُ حسب الأولوياتِ والحاجياتِ والمواقفِ التي يتعرض لها الجيشُ . فهذه المسألةُ متفق عليها : لا بد من تأميرِ أمير ٍولو كان من غير إمرةٍ شرعيةٍ أو من غيرِ ولايةِ وليِّ الأمرِ .
وفي الحديث ( ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففُتِح له ) بعد مقتلِ الأمراءِ الثلاثةِ أخذَ الرايةَ خالدُ بنُ الوليدِ ، وهذا إقرارٌ من النبي ( بتأميرِ مَنْ لم يؤمِرْهُ وليُّ الأمرِ طالما أن الحاجةَ تُدَللُ على ذلك .
ثم قال ( ( ما يسرنا أنهم عندنا ) وذلك لأنه يعلمُ المنزلةَ العاليةَ التي نالوها بالشهادة .
وقال أيوب ( قال أيوب : أو قال : " ما يسرهم أنهم عندنا ) ، يعني : شكَّ أيوبٌ هل قال ذلك أم قال ( ما يسرهم أنهم عندنا ) ، وهذا أيضاً لأنهم رأَوْا المنزلةَ العاليةَ التي عندَ الله ( والتي أعَدَّها لهم .
وكما تعلمون أن الشهيدَ له اثنتان وسبعونَ حوريةً يومَ القيامةِ ، فأولُ ما يُقتل في سبيلِ الله فزوجتانِ منهنَّ تَبْتَدِرانه وهو بدمائِه في ساحةِ القتالِ .
وقوله هذا لا يعني أنهم لا يريدونَ العودةَ إلى الدنيا فيًقتلون مرةً أخرى ، وإنما يقصدُ بذلك أنه ما يسرُّهم أنهم عندنا بدون قتلٍ واستشهادٍ في سبيل الله .
ثم قال ( وعيناه تذرفان ) أي : أن النبيَّ ( كان ينزلُ الدمعُ من عينِهِ من محبته لهم وحزنِه على فراقِهم ، وهذا دليلٌ على جوازِ البكاءِ على الميتِ من غير نِياحةٍ ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/31)
يقول البخاري رحمه الله :
باب فضلِ من يُصرَعُ في سبيلِ الله فماتَ فهو منهم .
وقولِ الله ( :
وَقَعَ : وَجَبَ .
17 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ يوسفَ قال : حدثني الليثُ ، حدثنا يحيى عن محمدِ بن يحيى بنِ حبان عن أنسِ بن مالكٍ عن خالتِه أمِّ حرامٍ بنتِ مِلحان قالت : " نام النبيُّ ( يوماً قريباً مني ، ثم استيقظ يتبسم ، فقلت : ما أضحكك ؟ قال : ناسٌ من أمتي عُرِضوا علي يركبون هذا البحرَ الأخضرَ كالملوكِ على الأسِرَّة ، قالت : فادع الله أن يجعلَني منهم ، فدعا لها . ثم نامَ الثانيةَ ففعل مثلَها ، فقالت مثلَ قولها ، فأجابها مثلَها ، فقالت : ادع الله أن يجعلَني منهم ، فقال : أنتِ من الأوَّلِين . فخرجتْ مع زوجِها عبادةَ بنِ الصامتِ غازياً أولَ ما ركِبَ المسلمونَ البحرَ مع معاويةَ ، فلما انصرفوا من غزوتِهم قافلينَ فنزلوا الشامَ فقُرِّبت إليها دابةٌ لتركبَها فصرَعَتْها فماتت " .
هذا الباب في فضلِ من يُصرَعُ في سبيل الله فيموت . يعني : الذي يموتُ حَتْفَ أنفِهِ وليسَ عن طريقِ القتل من الكافرين له ، فهل هذا يُعتَبر من الشهداءِ أم لا ؟ هذا الباب معقودٌ لأجلِ ذلك .
وذكر فيه الإمامُ البخاريُّ رحمه الله هذه الآيةَ التي فيها أن الذي يخرجُ من بيتِهِ مهاجراً إلى الله ورسولِه ثم يُدْرِكُهُ الموتُ فقد وقع أجرُه على الله ، أي : وجب . يعني : حَقُّه أن يكتبَ اللهُ له الأجرَ مثلَ إخوانِه الذي هاجروا حقيقةً وتم لهم الهجرةُ ، وذلك لأنه خرج قاصداً لذلك .
وهذه الآيةُ كما ذَكَرَ أهلُ التفسيرِ نزلت في رجلٍ أراد أن يخرجَ مهاجراً إلى المدينةِ فمات في الطريقِ وفي بعض الألفاظِ ( لدغته حية ) فنزلت هذه الآية تدلل على أن له أجرَ المهاجرِ كاملاً متكاملاً .(1/32)
والمجاهدُ في سبيل الله له نفسُ الأجرِ ، فالذي خرج يجاهدُ في سبيل الله يُعتبر قائماً بنوعٍ من الهجرة فإن المهاجرَ من هَجَرَ ما نهى الله عنه ، وهذا الخارجُ في سبيلِ الله ما أخرجه من بيته إلا الذي أخرج المهاجرَ من بيته وهو رضوانُ الله ( وطلبُ الخيرِ الذي وعد به .
ثم ذكر في هذا الباب حديث أم حرامٍ بنتِ ملحان رضي الله عنها وقد تكلمنا عنها في الدرس السابق .
وهذا الحديثُ بينا أنه يدللُ على أن الذي يُقتل في سبيل الله والذي يموتُ وهو في أثناء الجهادِ كلاهما يُعتبر شهيداً ، وقد ثبتَ ذلك في حديثٍ عند مسلمٍ أن من قُتل في سبيل الله أو مات فهو شهيدٌ في سبيل الله . وجاء ذلك أيضاً في أحاديثَ أخرى ، فمن ذلك :
ما جاء أيضاً أن من صُرِع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيدٌ . ولكنَّ هذا الحديثَ ليسَ على شرطِ الإمامِ البخاري فلم يخرجْه في الصحيحِ وأشارَ إليه بهذه الترجمة . والحديثُ صريحٌ في ذلك ؛ فإن النبي ( بَيَّنَ أن أمَّ حرامٍ مثل هؤلاء ، وهؤلاء كان منهم الشهداءُ الذين قُتلوا في ساحةِ المعركةِ ، فهي بنفس منزلَتِهم لأنها قالت ( ادع الله أن يجعلني منهم ) فكونُها من الملوكِ على الأسرة وهذه المنزلةُ هي منزلةُ الذين خَرجوا في هذه الغزوةِ واستشهدوا في سبيل الله فهي كذلك لها نفسُ الأجر . وقد تبين أنها لم تقتلْ قتلاً وإنما صرعتها الدابةُ .
والمرادُ أن الذي يخرجُ في سبيلِ الله مجاهداً فإنه يَغْنَم وينتظرُ الأجرَ من الله حتى وإن وافَتْه منيتُه من غيرِ قتلٍ وإنما أصابَه الموتُ بأي طريقةٍ كانت حتفَ أنفِهِ فهو مأجورٌ كما لو قُتل في سبيل الله لفضيلةِ الجهادِ ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من ينكب في سبيل الله(1/33)
18 ـ حدثنا حفصُ بنُ عُمَرَ ، حدثنا همامٌ ، عن إسحاقَ ، عن أنسٍ ( قال : " بَعَثَ النبيُّ ( أقواماً من بني سُلَيمٍ إلى بني عامرٍ في سبعينَ ، فلما قَدِموا قال لهم خالي : أتقدمكم ، فإن أمَّنوني حتى أبَلَّغَهم عن رسولِ الله ( وإلا كنتم مني قريباً . فتقدم فأمّنوه ، فبينما يُحَدِّثهم عن النبي ( إذ أومَؤوا إلى رجلٍ منهم فطعنَه فأَنْفَذَه ، فقال : اللهُ أكبرُ ، فُزْتُ وربِّ الكعبة . ثم مالُوا على بقيةِ أصحابه فقتلوهم إلا رجلٌ أعرجٌ صعدَ الجبلَ ، قال همامٌ : وأُراه أخرَ معه . فأخبر جبريلُ عليه السلام النبيَّ ( أنهم قد لَقُوا ربَّهم فرضي عنهم وأرضاهم ، فكنا نَقرأ أن بَلِّغوا قومَنا أن قد لقينا ربَّنا فرضي عنا وأرضانا ، ثم نُسِخ بعدُ ، فدعا عليهم أربعينَ صباحاً ، على رِعْلٍٍ وذكوانَ وبني لِحيان وبني عُصية الذين عَصَوُا اللهَ ورسولَه " .
19 ـ حدثنا موسى بنُ إسماعيل ، حدثنا أبو عوانةَ ، عن الأسودِ هو ابنُ قيسٍ ، عن جُنْدُبِ بنِ سفيانَ " أن رسول الله ( كان في بعض المشاهد قد دميت إصبعه فقال : هل أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت " .
هذا البابُ يتكلمُ فيه الإمامُ البخاريُّ على من يُنْكَبُ في سبيل الله . ( وينكب ) أي : يصيبُه شيء فيدميه وهو دونَ القتلِ ، وقد يؤدي إلى القتل .
النفذةُ : هي الإصابةُ التي يحصلُ منها إدماءٌ للعضوِ .
فالحديثُ على من يُنكَبُ في سبيلِ الله ، أي : يُصابُ إصابةً بحجرِ أو نحوِه فتسببَ ذلك في خروجِ دمِه
وذكر فيه حديثاً عظيماً وهو حديثُ القُرّاءِ الذين قُتلوا غَدْراً وتأثَّر النبيُّ ( لقتلِهم تأثراً عظيماً ومكثَ أربعينَ ليلةً يدعو فيها على من قتلهم ، يقنتُ في صلواته عليهم ويُؤمِّن المسلمون وراءه ((1/34)
وهذه القصةُ طويلةٌ ، والشاهدُ فيها هو ما حصلَ لخالِ أنسٍ رضي الله عنهما عندما طعنَه هذا الرجلُ المشركُ فأَنْفَذَهُ ، فلما رأى الدمَ قال ( الله أكبر ، فزت ورب الكعبة ) فالشاهدُ هنا : كيف قال اللهُ أكبرُ فزت وربِّ الكعبةِ وقد رأى الدمَ يخرج منه ؟ وذلك لأنه نُكِبَ نكبةً في سبيل الله (. فهذه الإصابةُ إنما هي نوعٌ من النكبةِ ، فلما رأى الدمَ ونظرَ في نفسه لعلَّ ذلك يكون سبباً في شهادته ، فقال : ( الله أكبر فزت ورب الكعبة ) .
وقد كانت هذه الحادثةُ سبباً في إسلامِ أحدِ هؤلاءِ المشركين كما ذكر ذلك ابنُ إسحاق في السيرةِ فإنه قال : إن ذلك مما دعاه للإسلام عندما رأى الدم يخرج من الرجل وهو يقول : فزت ورب الكعبة ، قال : أي فوزٍ وقد قتلتُ الرجلَ ؟
فانظروا هداكم الله كيف كان الصحابةُ في أعلى درجاتِ اليقينِ وفي أعلى درجاتِ الاتباعِ وفي أعلى درجاتِ التضحية بالنفس في سبيل الله ( .
فالرجلُ يرى الدمَ يتفجرُ منه وهو فَرِحٌ مسرورٌ يقول : فزت ورب الكعبة في هذه اللحظةِ العصيبة . هذا هو الإيمانُ الحقيقيُّ يا إخوان ، وهذه هي المنزلةُ العظيمةُ التي جعلها الله ( لمن يُصابُ ولو إصابةً يسيرةً في سبيله جل وعلا .
والقصةُ باختصارٍ أن أقواماً من بني سُلَيم أتَوا النبي ( فطلبوا منه أناساً يعلمونهم الدينَ ويذهبوا بهم إلى بني عامر ، فأرسلَ لهم سبعينَ رجلاً فغدروا بهم وقتلوهم في الطريق .
يقول : جاء جبريلُ عليه السلام إلى النبيِّ ( بقرآنٍ كان يتلى ، وهذا من المنسوخِ من القرآن تلاوةً مع بقاءِ الحكم ؛ فإن المنسوخَ ثلاثةُ أنواعٍ :
منه منسوخُ التلاوةِ منسوخُ الحكمِ .
ومنه منسوخُ التلاوة باقي الحكم .
ومنه منسوخُ الحكمِ باقي التلاوةِ .(1/35)
فهذا النوعُ من منسوخِ التلاوةِ مع بقاءِ الحكمِ . فكان الصحابةُ رضي الله عنهم يقرأون هذه على أنها من كتابِ الله ( ( بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم نُسِخَ ذلك بعدُ من التلاوةِ وبقي الحكمُ ، وهو أن الله ( رضي عمن قُتل في سبيله وأرادَ بذلك وجهَ الله ( .
يقول ( فدعا عليهم أربعين صباحاً ، على رعلٍ وذكوان وبني لحيان وبني عصية ) وهذه القبائلُ الأربعةُ من بني سُليم الذين عَصَوْا اللهَ ورسولَه وقتلوا هؤلاء القراءِ وأعطاهم الله ما يستحقون .
ونُعَرِّجُ هنا على نقطةٍ وهي قضيةُ القنوت :
فالنبي ( أولاً قنت هنا أربعينَ صباحاً في صلاته يدعو دعاءً على هؤلاءِ مباشرةً ، ونلاحظُ هنا أنه كان يُسمي من يدعو عليهم ، وليس الأمرُ كما يذكره بعضُ الفضلاءِ من أهلِ العلم أنه لا يسمي من يدعا عليه وإنما يُدعا بدعاءٍ عام ، وهذا بخلافِ السنة . ولكن لعلَّ ذلك من بابِ درءِ شيءٍ من المفسدةِ في نَظَرِ من رأى ذلك .
والسنةُ أن يُسَمي من يدعو عليهم ، وأن يركزَ الدعاءِ على هؤلاءِ الذين يدعو عليهم ، ولا يطيلُ في قنوته بأكثرَ من أن يدعُوَ على الكفار بتعيينهم ، ولا حرجَ بأن يدعوَ على المجموعِ ؛ فإن النبي ( دعا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية ، ولا شكَّ أن هذه القبائلَ الأربعةَ ليسوا جميعاً قد قتلوا القراءَ وإنما الذين قتلوهم بعضُ هؤلاء ، فالدعاءُ عليهم المراد منه الدعاء على من ظلموا منهم . فمثلاً نحن الآن عندما ندعو فنقول : اللهم عليك بأمريكا لا نعني بذلك المسلمينَ الذين بأمريكا ، ولا نعني بذلك المسالمين الذين لا دَخْلَ لهم بالحرب ، ولا نعني بذلك الأطفالَ ، وهكذا .
كذلك إذا دَعَوْنا على اليهودِ والنصارى لا نعني أن يُهلكَ الله كلَّ يهودي على وجهِ الأرض وكل نصراني على وجه الأرض ، وإنما المرادُ الدعاءُ على من ظلَمَنا من هؤلاءِ وحاربَنا .(1/36)
وهذه نقطةٌ مهمةٌ ؛ لأن البعضَ يستشكلُ فيقول : كيف ندعو فنقول : اللهم عليك باليهود والنصارى ، اللهم أهلكهم ، اللهم دمرهم ، وهذا لا يكون لأن اليهودَ يبقون إلى آخر الساعةِ وكذلك النصارى فكيف نطلب شيئاً لا يكون ؟ والجواب أن الدعاءَ في هذه الحالِ إنما يرادُ به الدعاءَ على من ظلمنا منهم باعتبارِ الحالِ ، وليس شرطاً أن نُحَدَّدَ ونعين . فكما قلنا : الذي فعله النبي ( هو تسميةُ هؤلاءِ وإن كان المقصودُ الذين اعتدَوْا منهم ، وهذه هي السنة .
ثم إن القنوتَ أربعينَ ليلةً أو أربعينَ صباحاً كان يدعو فيه النبي ( بعد الركوعِ ، وكان يدعو هذه الأربعينَ ليس تحديداً وإنما هذا الذي فعله ، ويجوز أن يدعُوَ المسلمُ أقلَّ أو أكثرَ من ذلك ، فليس في فعله ( الدليلُ على تحديدِ القنوتِ بهذه المدة .
ثم إن القنوتَ الثابتَ فيه أن النبيَّ ( فعَلَه ، فبعضُ أهلِ العلمِ أخذ من ذلك أن الذي يقنتُ وليُّ الأمرِ لأن الذي قنتَ هو رسولُ الله ( . وهناك من أهلِ العلم من قال : إن ذلك ليسَ بصحيحٍ ، وإنما أَمْرُ القنوتِ موكولٌ إلى كلِّ إمامٍ فيمكنه أن يقنتَ اقتداءً بالنبي ( ، وقد قنت أبو هريرةَ وقنت خالدُ بنُ الوليدِ وليسوا بولاةِ أمرٍ للمسلمين .
وعل كل حال ، لعلنا نتكلمُ في هذه المسألةِ في باب آخرَ يتعلق بالقنوتِ ، والله تعالى أعلم .
وأما الحديثُ الآخرُ الذي رواه جُندب بن سفيان ففيه أن النبي ( كان في بعض المشاهدِ قد دَمِيَتْ إصبعُه فقال ( : " هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت " .
الراجحُ في هذا أنه كان وهو في غارِ ثَوْرٍ في الهجرةِ مع أبي بكر ( ، فقد عَثَرَ النبيُّ ( في حَجَرٍ فدميتْ إصبعُه فقال هذا البيت .(1/37)
وقولُ النبي ( كلاماً موزوناً وإن كان بيتاً أو ما يقاربُ ذلك كالبيتينَ ونحوهما لا يعني أنه كان يقول الشعرَ وأنه شاعرٌ ، فإن الذي يَقرُضُ بيتاً وبيتينِ ليس بشاعرٍ وإن تَيَسّرَ له ذلك ، وإنما الشاعرُ هو الذي يستطيعُ أن يقرض القوافي الطويلةَ ويقولَ الأبياتِ الشعريةَ الكثيرة .
وقولُ النبي ( هذا يَسْتَقِلُّ ما أصابه في سبيل الله ويَعتبِرُ أن هذا أمراً لا إشكالَ فيه أن يصابَ المسلمُ أو يُنكبَ في سبيل الله ، وهذا هو الشاهدُ في هذا الحديث ( باب من ينكب في سبيل الله ) ، وقد كان ( ممن نُكب في سبيل الله كما في هذا الحديث ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من يجرح في سبيل الله (
20 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ يوسفَ ، أخبرنا مالكٌ عن أبي الزناد عن الأعرجِ عن أبي هريرةَ ( أن رسول الله ( : " والذي نفسي بيده ، لا يُكلَمُ أحدٌ في سبيلِ الله ـ والله أعلم بمن يُكلَم في سبيله ـ إلا جاء يومَ القيامةِ واللونُ لونُ الدمِ ، والريحُ ريحُ المِسْكِ " .
باب قول الله ( : والحرب سجال .
21 ـ حدثنا يحيى بنُ بُكَير ، حدثنا الليثُ قال : حدثني يونسٌ عن ابنِ شهابٍ عن عُبيد الله بن عبد الله أن عبدَ الله بنَ عباسٍ أخبره أن أبا سفيانَ بنَ حربِ أخبره أن " هرقلَ قال له : سألتُكَ كيف كان قتالُكم إياه ، فزعَمْتَ أن الحربَ سجالٌ ودُوَلٌ ، فكذلك الرسلُ تُبتلى ثم تكونُ لهم العاقبةُ "
قوله ( باب من يجرح في سبيل الله ( ) أي : ما هو الأجرُ الذي يكون لمن يُجرح في سبيل الله ، فذكر فيه حديثَ أبي هريرةَ وفيه قَسَمُ النبي ( الذي قلنا إنه كان يُكثر منه ، فقال ( لا يُكلم أحد ) والكَلْمُ : الجُرح ، أي : لا يُجرَحُ أحدٌ في سبيل الله . ثم قال ( والله أعلمُ بمن يكلم في سبيله ) وهذا تنبيهٌ على الإخلاصِ كما قال ( والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ) كما ذكرنا في بداية الدورة .(1/38)
فالإخلاص شرطٌ في حصولِ الأجرِ في جميع الأعمال ، لأن الله لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ، ولأجل هذا قُلنا : إن العبرةَ في القتالِ بإخلاصِ الشخصِ نفسِه إذا كان يقاتلُ في سبيلِ إعلاء كلمةِ الله وهذه نيتُه التي يقاتِلُ من أجلِها فلا يضرُّه ما ترتَّبَ بعد ذلك على هذا القتالِ وخاصةً إذا كان الأمرُ في قتالِ الدفعِ كما هو الحالُ فيما نحن فيه الآن . فإن كان من يجاهدُ في سبيلِ إعلاءِ كلمةِ الله في الحال التي نعيشُها الآن فهو مأجورٌ وإن ماتَ فهو شهيدٌ بإذنِ الله تعالى .
الناسُ تحرِصُ على الأوسمةِ وتحرصُ على الرُّتَبِ ، وتحرصَ على الترقياتِ والنياشينِ وما يدللُ على أنها قد بلغت المنازلَ العاليةَ ، ولأجلِ ذلك فإن الله يُفرِدُ الشهداءَ بعلامةٍ مميزة لهم من دون سائرِ الناس فيأتون بجراحهم ، فأي جرحٌ أتى به الشهيدُ يأتي ولونُ الدمِ ظاهرٌ عليه ومع ذلك يفوحُ منه ريحُ المسكِ ، والله تعالى أعلم .
وأما الباب الثاني ففيه ذكر قول الله ( : وهذا خطابٌ للمشركينَ من بابَ بيان أن المسلمَ بين أمرينِ كريمين عظيمين وخيرين وفضلين من الله :
إما أن ينصرَه الله على الكافرينَ فهذا ما يريدُه المسلمُ وما يتمناه ، وإما أن يُستشهدَ في سبيلَ الله وأن يُقتل بيد هؤلاء الأعداءِ ، وهذا أيضاً ما يتمناه وما يرجوه . فهو بين أمرينِ حسنينِ وبين عاقبتينِ حُسْنيينِ والحمد لله .
ثم يقول ( الحرب سجال ) أي : دُوَلٌ . يعني : يومٌ لك ويومٌ عليك ، وليس بالضرورةِ أن ينتصرَ المسلمُ دائماً ولكن العاقبةَ للمتقين والعزةَ والنصرَ والتمكينَ لهم بفضلِ الله ( ، ولكن لا بدَّ من الصبرِ فقد قال الله ( : فهذا هو الذي سَنَّهُ الله ( في هذه الحياةِ ، فإذا أُصِبنا فلنصبرْ ، وإذا قُتل المسلمُ فإنه في خيرٍ وبركةٍ ، وإذا نصره الله فهو أيضاً في خير وبركة .(1/39)
وقد ذكر في هذا الباب حديثَ أبي سفيانَ بنِ حربٍ الذي حصلَ له قبل أن يدخلَ في الإسلامِ ؛ فإن هرقلَ كان رجلاً حذاء ( أي : كان ينظر في النجوم ) فعلم من دينه أن النبيَّ ( قد ظهرَ ، ملكُ الختانِ ، فقال : هل هناك أحدٌ من العربِ بأرضِكم ؟ فذهب من أرسلهم فأتَوْا بأبي سفيانَ وكان لم يُسلِم ، فأتى به وأتى بترجمان ليترجمَ بينه وبين الكلامِ وليعلم هل خرجَ فيهم النبيُّ أم لا ؟ فعندما سأله كان أبو سفيان يُجيبُه بالصدقِ لأنه يخشى أن يؤَثِّر عليه الكذبُ ، وهذا الحديثُ موجودٌ بطوله في أولِ صحيحِ الإمام البخاري . وكان من الأسئلةِ التي سأله إياها هرقلُ ملكُ الرومِ قال له : فسألتُك كيف كان قتالكم إياه ؟ يعني : سألتك كيف كان الذي يحصُلُ بينكم في القتال ؟ هل ينتصرُ دائماً عليكم أم تنتصرونَ دائماً عليه ؟ فقال : الحربُ سجالٌ ودولٌ . يعني : أحياناً يحصُل لنا الإدالةُ عليهم وأحياناً هم الذين يدالون علينا ، فقال له هرقل : كذلك الرسل . هذه علامةٌ من علاماتِ الرسل أنهم يُبَتَلُون هم وأصحابُهم ثم بعد ذلك تكون العاقبةُ لهم والنصر والتمكينُ لهم . فهذا معناه أن العاقبةَ سوف تكونُ لرسولِ الله ( وليست الإصابةُ التي تحصلُ له أو لمن معه بدليلٍ على عَدَمِ صحةِ رسالتِه أو عدمِ صدقِه في رسالته ، وإنما هذه سنةُ الله ( والله تعالى أعلم .
جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم ، ونكتفي بهذا القدر من صحيح الإمام البخاري . ونستكمل إن شاء الله تعالى بقية الكتاب في اللقاءات القادمة . أٍسأل الله ( أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع وأن يتقبل منا صالح العمل .
المحاضرة الثالثة
( العملياتُ الاستشهاديةِ والاستعانةُ بالمشركين )(1/40)
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا ، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له . وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكل بدعةٍ ضلالةٌ ، وكل ضلالةٍ في النار .
نستكملُ حديثَنا عن فقه الجهادِ من خلال صحيحِ الإمام البخاري رحمه الله استعراضاً لأحاديثِ الجهادِ التي ذكرها في كتابه الصحيح تحتَ عنوان كتاب الجهاد والسير .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب قول الله ( :
22 ـ حدثنا محمدُ بنُ سعيدٍ الخزاعيُّ ، حدثنا عبدُ الأعلى ، عن حميدٍ قال : سألتُ أنساً . ح(1/41)
حدثنا عمرو بن زُرارةَ ، حدثنا زيادُ قال : حدثني حميدُ الطويل ، عن أنسٍ ( قال : " غاب عمي أنسُ بنُ النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسولَ الله ، غبتُ عن أولِ قتال قاتلتَ فيه المشركين ، لئن اللهُ أشهدني قتالَ المشركين ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ . فلما كان يومُ أُحُدٍ وانكشفَ المسلمونَ قال : اللهم إني أعتذرُ إليك مما صنع هؤلاءِ ، يعني أصحابَه ، وأبرأُ إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المشركين . ثم تقدم فاستقبله سعد بنُ معاذ ، فقال : يا سعدُ بنُ معاذ ، الجنةَ وربَّ النضرِ إني أجدُ ريحَها من دون أحد . قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع . قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنةً برمح أو رميةً بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مَثَّلَ به المشركون ، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه . قال أنس : كنا نرى ـ أو نظن ـ أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : إلى آخر الآية .
23 ـ وقال : " إنَّ أختَه ـ وهي تسمى الرُّبَيِّع ـ كَسَرَتْ ثنيةَ امرأةٍ فأمَرَ رسولُ الله ( بالقصاص فقال أنسٌ : يا رسولَ الله ، والذي بَعَثَك بالحق لا تُكسَرُ ثنيَّتُها ، فرضوا بالأرشِ وتركوا القصاص ، فقال رسولُ الله ( : " إن مِن عبادِ الله من لو أقسمَ على الله لأبَرَّه " .
24 ـ حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيبٌ عن الزهري ح . وحدثنا إسماعيلُ قال : حدثني أخي عن سليمانَ أُراه عن محمدِ بنِ عتيقٍ عن ابن شهابٍ عن خارجةَ بنِ زيدٍ أن زيدَ بنَ ثابتٍ ( قال : نسخْتُ الصحفَ في المصاحفِ ففقدتُ آيةً من سورةِ الأحزابِ كنتُ أسمعُ رسولَ الله ( يقرأ بها ، فلم أجدْها إلا مع خزيمةَ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ الذي جعلَ رسولُ الله ( شهادتَه شهادةَ رجلين ، وهو قوله : .(1/42)
هذا البابُ يستكملُ فيه الإمامُ البخاري رحمه الله الحديثَ عن فضلِ الشهداء وعن منزلتهم عند الله ( فابتدأه بالآية التي في سورة الأحزابِ والتي بينت أن الشهداءَ قد صدقوا فيما عاهدوا الله ( عليه . والمؤمنُ عليه عَهْدٌ أن يطيعَ الله ( وأن يبذلَ نفسَه في سبيل الله كما قال تعالى ، فهذا العهدُ الذي بين المؤمنين وبين الله ( قد وفى به هؤلاء المجاهدون الذين استُشهِد منهم جمعٌ ، وهذا الجمعُ قد صدقَ حقيقةً وقضى ما عاهدَ الله ( عليه . ولأجل هذا بَيّنَ الله ( أن الذين صدقوا في عهده ينقسمون إلى قسمين :
قسمٌ قد قضى نحبَه ، يعني : وفى نذرَه ووفى بعهده الذي عاهد الله ( فقتل شهيداً في سبيل الله ( .
وقسم آخر هو صادقٌ فعلاً ولكنه إلى الآن ينتظرُ أن يوفي بهذا العهد فيضحي بنفسه في سبيل الله ويستشهد أيضاً في ساحة القتال .
وهذا يجعلُنا نتأملُ ، فإن الجهادَ لازمٌ لكل مسلم ، والشهادةُ هي الطريقُ الذي يعبره كلُّ صادقٍ في عهده مع الله ( .
ثم ذكر فيه حديثَ أنس وهو حديثٌ عظيمٌ يذكر قصةَ عمه أنسِ بنِ النضر الذي تأثر كثيراً لكونه لم يشهدْ مع النبي ( أولى مشاهده ـ وهي غزوةُ بدر ـ لأن النبيَّ ( لم يكن قد خرج لقتالٍ وإنما خرج لاعتراضِ العير التي أقبلت إلى قريش . وهذا الاعتراضُ للعير لم يكن يحتاجُ أن يستنفرَ النبي ( كلَّ من يقدر على القتالِ من أصحابه ، فخرج معه طائفةٌ وتخلفت طائفة ، ثم لما جَدَّ في الأمورِ ما جد طلبَ النبي ( ممن معه القتالَ لهذا النفيرِ الذي جاء لنصرةِ أهلِ القافلةِ والدفاعِ عنها ، فحصلت غزوةُ بدر .(1/43)
فأنسُ بنُ النضر رضي الله عنه أرادَ أن يفعل فعلاً يصلُ به إلى منزلةِ من كتب الله له أن يشهدَ مع النبي ( أُولى مشاهده ـ وهي أعظمُ المشاهد وهي غزوةُ بدر ـ فقال : ( لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أًصنع ) يعني بذلك : أنه سوفَ يُبلي بلاء حسناً ، وقد عاهدَ الله ( على ذلك . وقد صدق في عهده مع الله .
( فلما كان يومُ أحد ) ؛ كان هنا يسميها أهلُ العلم : كان التامة . يعني : وُجِدَ يومُ أحد وحصلَ يومُ أحد ليس لها خبرٌ . فلما كان يومُ أحد وانهزم المسلمون ؛ وتعلمون ما حدث في يوم أحد ولا أريدُ أن نطيلَ في التفاصيل ـ حصل أن انشغلَ بعضُ المسلمين بجمع الغنائم ـ وهم الرماةُ الذين جعلهم النبي ( على الجبل ـ فلما نزلوا وأخذَ المشركون منهم غرةً ورجعوا عليهم انهزم المسلمون وهرب منهم كثيرٌ . فلما رأى ذلك أنسُ بن النضر قال : ( اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ) يعني : ما حصل من الفرارِ من بعضِ الصحابة لهولِ المفاجأة التي حصلت . ثم قال : ( وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ) يعني : المشركين ، فتبرأ من فعلِ المشركين الذين جاءوا لحربِ الله ورسوله . ( ثم تقدم ) أي : أقدمَ على القتال وقد فَرَّ الناسُ ولم يبقَ إلا قلةٌ قليلة ، فكان هو ممن صمد وألقى بنفسه في صفوف المشركين . وفي طريقِ تَقَدُّمه استقبلَه سعدُ بنُ معاذ فقال له : ( يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر ) يقول له : إني أريدُ الجنة ، وأقسَمَ بربِّ النضرِ الذي هو أبوه أو ابنُه فإن له ابناً يسمى النضر ، فأقسم برب النضر يشير بذلك إلى معزته لوالده أو لولده ، وهو يقسم بربه أنه يجدُ ريحَ الجنةِ دونَ أُحُد .
وهذا قد يحصلُ حقيقةً كرامةً من الله ( لهؤلاءِ الرجال الصادقين ، وقد يكون يعبر بذلك أنه قد نوى الاستشهادِ وسوف يغمس نفسَه في وسطِ صفوفِ العدوِّ لينالَ الشهادةَ فيصل إلى الجنة فكأنه يستشعر ريح الجنةِ من دونِ أحد .(1/44)
نظر سعدٌ إليه عندما انغمسَ في صفوف المشركين ، فيأتي سعد لرسولِ الله ( ويصف هذا الموقفَ منه ويقول ( فما استطعت يا رسول الله ما صنع ) يعني : ما تمكنتُ أن أفعلَ مثلَ ماصنع بحالٍ من الأحوال لأن الذي فعله لا يستطيعُه أحد .
قال أنس ـ يعني بعد أن انقطعتْ المعركة وانتهت ـ ( وجدنا به بضعاً وثمانين ضربة... ) يعني : أنه قد غمس نفسه تماماً في وسطِ السيوفِ والرماحِ ، فيقول : وجدنا في جسده بضعاً وثمانينَ ضربةً ... وصلت إلى هذا العدد إما بالسيف وإما طعن بالرمح وإما رمية سهم رمي به ، ووجدوه قد مَثَِّلَ به المشركون . ( والمثلة ) : ما يفعله القاتلُ في القتيلِ من جدعِ أنفٍ أو قطعِ أذنٍ أو نحوِ ذلك من تشويه .
يقول ( فما عرفه أحد ) لأن وجهَه قد تغيرَ بسبب المثلة ، ( إلا أختُه ) عرفته أخته وكانت تسمى الرُّبَيِّع ( ببنانه ) عرفته ببَنانه أي : بأطرافِ أصابعه ؛ لأن أصابعَه كانت جميلةً ـ هكذا يقال ـ وكانت تعرفُ ذلك منه فعرفته ببنانه .
فيقول أنس : (كنا نرى ـ أو نظن ـ أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : إلى آخر الآية . لا شك في ذلك فإنه قد صدق ما عاهد الله عليه حيث قال ( لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ) فكان كما قال ووفى بعهده ( .(1/45)
وهذا الحديثُ يجرنا إلى مسألةٍ ذاتِ أهميةٍ بالغةٍ وقد كَثُرَ الحديثُ عنها ، وهي من الأمورِ المستجدة التي جَدَّتْ في زماننا ولم تكن معروفةً في سابق العصور ، وهي عن العمليات التي يُطلق عليها العمليات الاستشهادية أو ما يسميها البعض الانتحارية أو الفدائية ولا مشاحة في الاصطلاح ، ولكن الأصحَّ أنها يطلَق عليها العمليات الاستشهادية حتى وإن لم يكنِ الفعلُ الذي فعله صاحبُها مشروعاً ، فإن كثيراً ممن يقوم بهذه العملياتِ إنما يقصد بذلك الاستشهادَ ، فحتى وإن لم يُكتَبْ له ذلك أو لم يكن ذلك مشروعاً فإن إطلاقَ اسمِ العملياتِ الاستشهاديةِ لهذا المسمى إنما هو متعلقٌ بقصدِ الفاعل ولا يعني ذلك أنه يكون شهيداً حقيقة ، فقد يطلب الرجلُ الشهادةَ ، فهذا استشهادٌ ، ولا يُعطاها أو لا يؤتاها لموانعَ ، فلا رابطَ بين صحة هذا العمل وبين إطلاقِ هذا المسمى عليها أنها عملياتٌ استشهاديةٌ ، والعبرةُ بمراد الشخصِ منها .
هذا من حيثُ المسمّى ، وأما من حيث المشروعية فاختلافُ أهلِ العلم في زمانِنا حولَ هذه العملياتِ مرجعُه إلى تأمُّلِ أمرٍ هام ، وهو : هل هناكَ فرقٌ بينَ تعريضِ الشخصِ نفسَه للقتلِ بيدِ غيرِه وبين أن يَقتلَ هو نفسَه إذا كانت النتيجةُ واحدةً ، فمثلاً إذا أرادَ شخصٌ أن ينتحرَ فتقدم إلى سيارةٍ تمشي بسرعةٍ فصدمَتْه هذه السيارةُ ، فهل هو يستوي مع من أخذ سكيناً فطعن نفسه أو شرب سماً أو خنق نفسه أو فجر نفسه ...
إذا كان الأمران متساويين فإن هذه العملياتِ تستوي مع هذا الفعلِ الذي ذكرناه الآن من فعل أنسِ بن النضر ( ومن فعلِ كثيرٍ من السلف الصالحِ الذين نزل فيهم قوله تعالى ، وقد توهم البعضُ أن هذا من إلقاءِ النفس إلى التهلكةِ فرد عليهم كبارُ الصحابة بأن هذا ليس بصحيح وأن الذي يحمِلُ على العدو ولو كان واحداً وقد غلبَ على ظنه أنه سيُقتل لا محالةَ إنما باعَ نفسه لله ( ولا يُعتبَر بذلك قاتلاً لنفسه .(1/46)
ثم إن المقصدَ الذي يقصدُه من يفعل ذلك هل هو التخلصُ من الدنيا أو هو إرضاءُ الله ( والنكايةُ في العدو ؟ فرقٌ كبيرٌ في النية ، فإن الله ( يقول : ، فإذا كان القتلُ ليس من باب العدوانِ وليس من باب الظلمِ فليس ذلك مستوياً مع القتل الذي يكون لله ( . فلا بدَّ من التفريقِ ؛ لا يظن الظان أن هذا يشبِه الانتحارَ بل إن ذلك أشبهَ بالحملِ على العدو وإلقاءِ المسلم بنفسه تحتَ السيوف وهو يعلمُ أنه مقتولٌ لا محالةَ وقد ينجو ، هذا هو الفارقُ الوحيدُ ولكن النيةَّ التي نواها ودخل بها تجعلُ العملَ مستوياً ، وكما قلتُ لا فرقَ في الإثم بين من يقتلُ نفسَه بالرصاص أو يطلب من غيره أن يطلقَ عليه الرصاصَ ليقتلَه .
وهنا أيضاً نتعرضُ للحديثِ المشهورِ والقصةِ العجيبةِ التي ذكرها النبيُّ ( في مسألةِ أصحابِ الأخدودِ فإن الغلامَ الذي فَشِلَ الملكُ بقتله بمحاولاتٍ عدةٍ ثم بعد ذلك يَدُلّه الغلامُ على الطريقة التي يمكنُ أن يَقتُلَه بها ويعطيه سهماً من سهامه ويقول له : إذا أردتَ أن تقتلني فافعلْ كذا وكذا وقل بسم الله ربِّ الغلام . فهذا لو فُعِل بغير المقصدِ الشرعي وهو أن يُسْلِمَ الناسُ وأن يصلَ بذلك إلى مقصده من هدايةِ الناس لما جازَ ذلك أبداً ؛ أن يَدُلَّ الشخصُ آخرَ على طريقةِ قتله وأن يُمَكِّنَه من ذلك . فالمقصدُ اعتُبِرَ هنا ولم يُعتبر ذلك من باب الانتحار وإنما هو من بابِ بذل النفسِ في سبيل الله ( .(1/47)
أيضاً ؛ قتلُ النفس محرَّمٌ وقتل غيره أعظم ، فإن المسلمَ إذا قتلَ نفسَه فإنه قد فعلَ إثماً عظيماً ، وإذا قتلَ غيره فعلَ إثماً عظيماً بل هو أعظمُ . ولكنَّ أهلَ العلمِ يتفقون على جوازِ قتلِ المسلم إذا كان لذلك حاجةٌ ماسةٌ لهذا القتل كما في مسألةِ التترس ؛ فإذا تَتَرّسَ الأعداءُ ببعض المسلمين جازَ عند أهل العلمِ أن يقتُلَ المسلمُ أخاه المسلمَ حتى يصلَ لهؤلاء الكافرين ، ولا يَجعلْ حمايةَ شخصٍ أو شخصين أو ثلاثةٍ أو مائةٍ سبباً لاستباحةِ بلادِ المسلمين وتمكنِ الكفارِ منهم ، فكذلك الذي يُفَجر نفسَه في المشركين إنما هو يفجر نفساً لأجل النكايةِ في هؤلاءِ الأعداء ، وهذا أقلُّ مستوى وأقل درجةٍ من مسألة التترسِ التي تَكَلّم فيها أهلُ العلم كثيراً .
فهذه المسألةُ لأنها مسألةٌ الآن يدور حولَها الكلامُ أحببتُ أن أبينَ وجهةَ نظرِ الفريقين ، ولا شكَّ أن الفريقَ الذي يرى أنها عملياتٌ انتحارية إنما نظر إلى الأصلِ وهو أن قتلَ المسلم لنفسه لا يجوزُ وحرامٌ ، ولكنه لم يلتفتْ إلى النية ، والنيةُ كما قدمنا لها حظٌ كبيرٌ في هذا الأمرِ ، ثم إن الآثارَ الواردةَ في الحملِ على المشركين وفي غير ذلك تُقَوّي القولَ بأن هذه العمليات ليست عملياتٍ تُشبِه الانتحارَ بل هي أشبهُ بشراءِ النفسِ من الله ( ، وهذا ليس ترجيحاً لمسألةٍ على أخرى أو لقولٍ على آخرَ ولكن لتوضيحِ المسألةِ ، والله تعالى أعلم .
وأُحِبُّ هنا أن أقرأَ عليكم كلماتٍ قليلةً ذكرها الحافظُ ابنُ حجر تعليقاً على هذا الحديثِ تشير إلى ما ذكرتُه الآن من وجهِ النظر التي تُدَلل على أن مثلَ هذه العملياتِ ليست أشبهَ بالانتحارِ بل هي أشبهُ بمن شرى نفسَه من الله . فيقول الحافظ رحمه الله :(1/48)
( وفي قصةِ أنسِ بن النضرِ من الفوائدِ جوازُ بذلِ النفسِ في الجهادِ ، وفضلُ الوفاء بالعهدِ ولو شقَّ على النفسِ حتى يصلَ إلى إهلاكِها ) تأملوا هنا كلمة ( حتى يصلَ إلى إهلاكها ) ولم يقل ( حتى يصل إلى هلاكها ) ففيه بيانُ أنه أهلكَ نفسَه بانغماسِه في وسط المشركين ، ثم يقول : ( وأن طلبَ الشهادةِ في الجهاد لا يتناوله النهيُ عن الإلقاءِ إلى التهلُكَةِ ) على اعتبارِ عمومِ اللفظِ بالإلقاءِ إلى التهلكةِ طلب الشهادةِ وهو الاستشهادُ لا يتناوله هذا النهيُ ، وهذا لا يكون إلا في مثلِ هذه الحالاتِ التي فيها غلبةُ الظنِّ أن يُقتَلَ الشخصُ وهو يعلمُ أنه سوف يُقتل ، فكما قلنا الحكمُ بالنسبةِ للمنتحرِ سواءٌ إذا قتلَ نفسَه بنفسِه أو طلبَ من غيره أن يقتلَه ، فهو في كلتا الحالتين منتحرٌ. وهذا سواءٌ قَتَلَ نفسَه بنفسه أو قتل نفسه بغيره فهو طالبٌ للشهادةِ .(1/49)
أيضاً قصةٌ أحبُّ أن أضيفَها إلى كلامنا السابق في العمليات الاستشهادية ، وهي القصةُ التي حكاها سلمةُ بنُ الأكوعِ مع عامرٍ ، وهو عمٌّ لسلمة . ففي غزوةِ خيبرَ أراد عامرٌ أن يضربَ أحدَ المشركين فرجع السيفُ عليه فقطعَ أكحُلَه فمات ، فقال بعضُ الصحابة : قتل عامر نفسه قد حبطَ عملُه ، فجاء سلمةُ بنُ الأكوعِ إلى رسولِ الله ( وهو متأثرٌ فقال : يا رسول الله ! قيل إن عامراً قتَلَ نفسه فحبَط عملُه ، فقال رسول الله ( : " من قالَ هذا " ؟ قال : أصحابُك . قال : " كذبَ من قال هذا ، بل له أجرُه مرتين " . وفي هذا بيانٌ للنظرِ إلى كيفيةِ القتلِ وليستِ العبرةُ فقط بحصولِ القتل ، فإن عامراً أرادَ أن يضربَ الكافرَ فجاء السيفُ عليه فقتله ، فلا يعتَبَرُ هذا قاتلاً لنفسِه ، وإنما الذي يُعتبر قاتلاً لنفسه الذي ورد فيه الحديثُ الآخرُ حينما رآه الصحابةُ لا يترك شاذّة ولا فاذّة للكفارِ وأبلى بلاءً حسناً ، فقالوا : ما أبلى أحدٌ مثلَ فلان ، فقال النبي ( : " هو في النار " ، فسمِعَه أحدُ الصحابةِ فقال : أنا صاحبُه ، يعني : لنْ يتركَه حتى يعرفَ كيف مع هذا الجهادِ والبلاءِ يكون في النارِ ، فيقولُ إنه أصيبَ واشتدَّتْ به الجراحُ فوضعَ نصلَ سيفِه بين ثَدْيَيْه واتَّكَأَ عليه فمات ، فقال : صدق رسولُ الله ( ، وجاء وأخبرَ النبيَّ ( بذلك فقال : " إن الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الجنة حتى لا يكونَ بينها وبينَه ذراعٌ ، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهلِ النار فيدخل النار " . فهذا قد قَتَلَ نفسَه جَزَعاً وتخَلُّصاً من هذا الألمِ الذي يراه ، وهذا دليلٌ على عدم إيمانِه وعدمِ صدقِ جهادِه في سبيلِ الله . والثاني وهو عامرٌ إنما جاءتْه الضربةُ من غيرِ قصدٍ منه أن يقتَل نفسَه ، ولكن كانتْ النتيجةُ أن قتلَ نفسَه ، فلا يؤاخذُ بذلك ، وإنما ذكرَ النبيُّ ( أن الصحابةَ أخطأوا بهذا الفهم وقال : " كذبَ من قالَ ذلك ، بل له أجران " .(1/50)
فالمقصودُ النيةُ وليستِ العبرةُ بحصولِ القتلِ . فلا بدَّ من الفقهِ والفهمِ ، والله تعالى أعلم .
يقول البخاري رحمه الله : ( إن أختَه ـ وهي تسمى الرُّبَيِّعُ ـ كسرَتْ ثنيةَ امرأة ) يعني : حصل بينها وبين امرأة شيءٌ من المنازعةِ والمضاربةِ ، وهذا فيه أن الناسَ ولو بلغوا إلى أعلى الدرجاتِ في الفضلِ قد يحصُل منهم مثلُ هذه الأمور ، فإن النفسَ البشريةَ ليست معصومةً . فيقول إن الربيع كسرت ثنية امرأةٍ عندما ضربَتْها ، والثنايا هي الأسنانُ المتقدمةُ ، فكسرت سناً منها ، فأمر النبيُّ ( بالقِصاص ، والقصاصُ كما تعلمون هو فعلُ نفسِ الشيء الذي فعله الجاني ، فكان القصاصُ أن تُكسَرَ ثنيةُ الربيع ، والسنُّ بالسنِّ ، فقال أنسٌ : ( يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ) ، فأنسٌ ( تألَّمَ كثيراً أن تُكسَرَ ثنيةُ أختِه الربيع فأمَلُه بالله وثقتُه بالله جعَلَتْه يُقسِم أن لا تُكسَرَ هذه الثنيةُ وأن يرضى الناسُ بالأَرْشِ ، والأرشُ هو ما يُدفَعُ مقابِلَ الجنايةِ من المالِ فيما دون النفس وأحياناً يُطلَقُ على الدِّيَة ولكنَّ أكثرَ استعمالِ الأرشِ هو ما يُدفَع من المالِ على الجناية فيما دون النفس .
فلما أقسمَ أنسٌ ( رضيَ أهلُ المرأةِ بالأرش وتركوا القصاصَ فقال النبي ( بذلك تزكيةً لأنسٍ ( وبياناً لهذه الحادثة : " إن من عبادِ الله من لو أقسمَ على الله لأبَرَّه " ، فإن أنساً قد أقسَمَ على ربِّه أن لا تُكسَرَ ثنيةُ الربيع فوفى الله له هذا القَسَمَ وأبرَّ قسَمَه وأمالَ قلوبَ أهلِ المرأةِ إلى قَبولِ الأرش .(1/51)
ثم ذكرَ حديثَ زيدِ بنِ ثابتٍ في كتابته للمصاحفِ ؛ فإن زيداً هو الذي اختِيرَ لكتابة المُصحف لأنه حَضَرَ العرضةَ الأخيرةَ التي عرضها جبريلُ على النبي ( ، وهو يذكر أنه حينما كان يكتب المصحف افتقد آيةً هو يعرف أن النبيَّ ( كان يقرأُ بها ، والمرادُ أنه كان يبحث عنها مكتوبةً وإلا فهو يحفظها ويعلمُ أن النبي ( كان يقرأُها ، وكذلك كان يحفظُ القرآنَ ثلةٌ من الصحابة ويحفظون هذه الآية ، والدليلُ على ذلك أنه كان يبحثُ عنها ، فالآية محفوظةٌ لديهم ولكنهم كانوا يبحثونَ عنها مكتوبةً بين يدي النبي ( بشهادةِ رجلين على أن هذه الآيةَ كُتِبَت بين يدي النبي ( ، فإن القرآنَ كان يُحفظ في عهدِ النبي ( في الصدورِ ويُحفَظ أيضاً في السُّطورِ بشهادة رجلين عند كتابته ، فبحثَ عن هذه الآيةِ مكتوبةً فلم يجدْها إلا عند خزيمةَ بنِ ثابتٍ الأنصاري كان قد أخذها من النبي ( أو كتبها بين يديه لكي يحفظَها ، فلم يجدْها إلا عنده ، وكان الأمرُ يحتاجُ إلى الشاهدَيْنِ حتى يُدخِلَ هذه الآيةَ في المصحف فإذا هي عند رجلٍ جعلَ النبيُّ ( في حادثةٍ أخرى شهادتَه بشهادة رجلين ، وقد ذكر أهلُ العلم في ذلك رواية ؛ وهي أن النبيَّ ( بايع رجلاً فحصل منه إنكارٌ فقال النبي ( : " من يشهدُ لي " ، فشهِدَ له خزيمةُ ولم يكن قد رأى المبايعةَ ، فلما سأله عن ذلك ؛ كيف تشهد ولم تر ؟ فقال : إنه يصدق النبي ( في أعظم من ذلك ، فسبحان الله ، جعل النبي ( شهادتَه بشهادة رجلين إكراماً له وجزاءً له على هذا اليقينِ وعلى هذا التصديقِ البالغِ للنبي ( ، وهذه الآيةُ هي هذه الآية التي بدأ بها الإمام البخاري الباب وهي قوله تعالى إلى آخر الآية . وجاء في بعض الرواياتِ أن الآية التي بحثَ عنها هي آيةٌ أخرى وهي قوله تعالى : ولا مانعَ أن تكونَ الآيتان قد كان يبحث عنهما ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :(1/52)
باب عملٌ صالحٌ قبلَ الجهادِ ، وقال أبو الدرداء : إنما تقاتِلون بأعمالِكم . وقوله ( : .
25 ـ حدثني محمدُ بنُ عبدِ الرحيم ، حدثنا شبّابَةُ بنُ سوّارٍ الفزاري ، حدثنا إسرائيلُ عن أبي إسحاقَ قال : سمعتُ البراءُ ( يقول : " أتى النبيَّ ( رجلٌ مُقَنّعٌ بالحديدِ فقال : يا رسولَ الله ، أقاتِلُ أو أسلِمُ ؟ قال : أسلِمْ ثم قاتل . فأسلمَ ثم قاتل فقُتِلَ . فقال رسول الله ( : عمل قليلاً وأُجِرَ كثيراً " .
يقول الإمامُ البخاري رحمه الله في هذا الباب : ( باب عمل صالح قبل الجهاد ) وهذا لأن الأعمالَ بالخواتيمِ ، والقتالُ إنما هو من خِيرةِ الأعمالِ ، ويَطلُبُ فيه المسلمُ نصرَ الله ( ، فالذي ينبغي على المجاهدِ أن لا يُقدِمَ على الجهاد إلا وقد فَرّغَ قلبَه وقالبَه لله ( ، فهو مقبِلٌ على بذلِ مهجته في سبيل الله فعليه بالتوبة والإنابة والعزم على طاعة الله ( إن أبقاهُ الله ( في هذه الحياة ، فيُقَدِّم الخيرَ والعملَ الصالح قبل أن يقدم إلى القتال . وذكر أثراً عن أبي الدرداءِ ( وهو من المعلَّقاتِ التي أشرْنا إليها أن أبا الدرداء قال ( إنما تقاتلون بأعمالكم ) ، والمعصيةُ سببٌ في ضياعِ النصرِ من الله ( فإن الله ( يقول : فالنصرُ من عند الله ( ، إذا حصلَ من الشخصِ الصدقُ والطاعةُ لله ( ، ولا يعني ذلك أن المعصيةَ سببٌ لازمٌ للهزيمةِ ، فالله ( قد يَنصرُ العاصي وقد يَكتبُ الهزيمةَ للمطيعِ ، فكما قلنا ( الحربُ سجالٌ والأيامُ دُوَلٌ ) ، ولكنَّ المسلمَ إذا أقبلَ إلى الجهادِ لا بد أن يضعَ بعَيْنِ اعتبارِه أن يُقَدمَ العملَ الصالحَ توسلاً إلى الله ( لعله يَكتُب له النصرَ أو الشهادةَ على طاعةٍ وخيرٍ .(1/53)
فكان أبو الدرداء ( يقول : ( إنما تقاتلون بأعمالكم ) يعني : كلما أحسنتَ العملَ وأحسنتَ الصلةَ بالله ( فإن الله سبحانه يكتُبُ لكَ الخيرَ ويكتب لك النصر ، والله ( يقول : فذكر أن الذي أصابَهم إنما هو من عندِ أنفسهم ، فهذا كان بسببِ مخالفتهم لأمرِ النبي ( وعدمِ التزامِهم ببقائِهم بالموقِعِ الذي أمرهم به النبيُّ ( .
ثم ذكر فيه حديثاً ؛ وهذا الحديثُ في رجلٍ أتى النبيَّ ( وهو مُقَنَّعٌ بالحديدِ ، وهذا الرجلُ كانت قصتُه في يوم أحد ، وذُكر أنه عمرو بنُ ثابتٍ بن وقش ، وعمروٌ ( كان يأبى الإسلامَ متعلقاً بالربا الذي كان له في الجاهليةِ ، ثم لما خرج المسلمونَ إلى أُحُدٍ حدثَتْه نفسُه بالإسلامِ ، فخرج فلقيَ النبيَّ ( وكان يريدُ أن يقاتِلَ معه من غيرِ إسلامٍ ، فلما سأل النبي ( ( أقاتل أو أسلم ) ؟ ذكر له النبي ( أن الواجبَ عليه أن يسلمَ أولاً ثم بعد ذلك يقاتل . وهذه القصةُ تجرنا إلى مسألةِ الاستعانةِ بالمشركين ؛ فإن فيها تَعَلُّقٌ بهذه المسألةِ لأن هذه القصةَ جاءتْ بلفظٍ فيه أن النبي ( جاءه رجلٌ ليقاتلَ معه ، فقال له النبي ( : " إنا لا نستعين بمشرك " فذهبَ فأسلمَ ثم جاء فقاتلَ مع النبي ( ، فهذا الرجلُ كذلك أمرَهُ النبيُّ ( بالإسلامِ أولاً ثم القتالِ ، فقاتلَ ( ولم يسجدْ لله سجدةً واحدةً ، فقال النبي ( بعد أن وُجِدَ مقتولاً : " عمل قليلاً وأُجِر كثيراً " ، فهذا الحديثُ الشاهدُ فيه أنه قَدَّمَ عملاً صالحاً قبل القتالِ وهو الإسلامُ ، فكان ذهابُه إلى القتال أو دخولُه في القتالِ بعدَ إقلاعِهِ عن أكبرِ الذنوبِ وهو الشركُ بالله ( . والآيةُ التي ذكرها الإمامُ البخاري رحمه الله فيها تعلقٌ بذلك أيضاً لأنه قال : فالصفُّ قبل القتالِ من العملِ الصالحِ الذي يُطلب من المجاهِد .(1/54)
نعودُ إلى قضيةِ الاستعانةِ بالمشركينَ ؛ النبيُّ ( قال للرجلِ : " إنا لا نستعين بمشرك " ، فقولُه هذا أَخَذَ منه بعضُ أهلِ العلمِ عدمَ جوازِ الاستعانةِ بالمشركين في الحربِ . والأصحُّ أن هذا راجعٌ إلى المصلحةِ والمفسدةِ ، وكذلك راجعٌ إلى حال الضرورةِ وعَدَمِها ، فهذا الذي جاء النبيَّ ( لم يكن المسلمونَ بحاجةٍ إليه ، ولأجلِ ذلك قال له النبي ( " إنا لا نستعين بمشرك " . كما أن الذي يظهرُ من الرواياتِ أن النبي ( توسَّمَ فيه الإسلامَ وإلا فلا يُعقَلُ أن رجلاً يخرجُ بنفسه مختاراً ليقاتِلَ في وَسَطِ المسلمينَ وهو ليس في قلبِه رغبةٌ في الإسلام ، فالنبي ( توسم فيه الإسلامَ ولذلك قال له " أسلم ثم قاتل " أو قال له " إنا لا نستعين بمشرك " ، وكان ذلك هو الواقعُ فأسلمَ الرجلُ فعلاً . هذا هو التوجيهُ لهذه الروايةِ .
ثم إن كلمةَ ( إنا لا نستعين بمشرك ) لا تُدَلِّلُ على المنعِ ، فالنبي ( ذكر ذلك في مواضعَ أخرى ليس فيها ما يدلل على المنع ، كما في قوله ( " إني لا آكل متكأ " ، فقوله هذا ليس فيه دليلٌ على تحريمِ الأكلِ متكأ وإنما فيه أن هذا هو الأولى والأفضلُ أن لا يأكلَ الرجلُ متكأً ، فكذلك الأولى والأفضلُ أن لا يستعينَ المسلمون بالمشركين . ومثله قوله ( : " إنا لا نولي على شيء من عملنا هذا من حَرِصَ عليه أو من طَلَبَهُ " ، فقوله ( إنا لا نولي ) : لا يعني تحريمَ استعمالِ من طلب العملَ ، وكما تعلمون الكلُّ الآن يتقدم بطلبٍ للعملِ ويُوَظَّفُ ، فليس في ذلك تحريمٌ وإنما هذا خلافُ الأولى ، فكذلك قوله ( إنا لا نستعين بمشرك ) ليس فيه دلالةٌ على التحريمِ ، وإنما ذلك يرجعُ إلى المصلحةِ والمفسدةِ .(1/55)
ففي الجهادِ إذا أَمِنَ المسلمُ المشركَ واحتاجَ إليه فيُمكِنُ له أن يستعينَ به مع الحذَرِ ، وقد ثبتَ أن النبي ( أمِنَ المشركَ في أمرٍ هو من أعظمِ الأمورِ ، وهو الهجرةُ . فقد كانت قريشٌ قد جعلَتْ للنبيِّ ( الديةَ كاملةً ، ولما خرج النبيُّ ( كان دليلُه الذي دَلَّهُ في الطريقِ ليتجنبَ قريشاً وعيونَها رجلٌ من المشركين .
وجاءتْ آثارٌ في السيرةِ ورواياتٌ تدللُ على حصولِ الاستعانةِ بالمشركينَ ، وكان بينَ النبي ( وبينَ اليهودِ عهْدٌ ، وهذا العهدُ فيه أنهم يناصِرون المسلمينَ ، فالعبرةُ ليستْ بالمنعِ على الإطلاقِ أو الإباحةِ على الإطلاقِ وإنما ذلك راجعٌ للحاجةِ ، ولا يكون ذلك في حالِ ضربِ المسلمِ لأخيه ، وإنما يكون ذلك في الأمرِ المشروعِ ، وذلك كمَن يسْطُو على بيتِك ولكَ جارٌ نصرانيٌّ فإن استَعَنْتَ به في دفعِ الذي سطا عليكَ في منزلِكَ أو في ردِّ الذي جاء ليسرِقَ مالَك فهذا لا حرجَ فيه بالاتفاقِ ، فكذلك الأمرُ بالنسبةِ للاستعانةِ في حالِ الحاجةِ ، والله تعالى أعلم .
ـ تنبيهات :
الأخ باركَ اللهُ فيه ، يذكرُ إشكالاتٍ على قضيةِ العملياتِ الاستشهاديةِ فيقول :
أولاً ، هذه العملياتُ غيرُ مشروعةٍ ، والنيةُ لا تُبَرِّرُ العملَ غيرَ المشروعِ ، فلا بُدَّ أن يكونَ العملُ مشروعاً والنيةُ لا تؤثِّرُ في هذهِ الحالِ .
ويقول : إن حديثَ الغلامِ عليه ملاحظاتٌ ، فيقولُ :
إن هذا الغلامَ كان فيمنْ كان قبلَنا ، وهل شرعُ من قبلَنا شرعٌ لنا ؟
ثم كيف عَلِمَ الغلامُ أنه يموتُ بهذه الطريقةِ ؟ هل هو نبيٌّ أم كان متصلاً بنبي ؟
ثم يقول : إن هذه العملياتِ تتسببُ أحياناً في قتلِ الشخص نفسَه من غيرِ فائدةٍ ، كما يترتبُ على ذلك تدميرٌ للمنازلِ وقتلٌ لأعدادٍ كبيرةٍ من الناس .(1/56)
وأيضاً ، إن الحديثَ الواردَ في الرجلِ الذي قتل نفسَه وقَطَعَ براجمَه ، إنما هو خاصٌّ بهذا الرجلِ ، والنبيُّ ( اختَصَّه بالدعاءِ ( اللهم وليديه فاغفر ) .
وكذلك فإن بعضَ أهلِ العلمِ أجازَ مثلَ هذه العملياتِ إذا كانتْ للضرورةِ ، يعني : لا يوجد مجالٌ للشخصِ أن يفعلَ إلا مثلَ هذه العملياتِ مضطراً ، فقد يكون هذا مخرجاً .
ثم يقول : والنصوصُ الشرعيةُ الكثيرةُ تُؤَكَّدُ تحريمَ قتلِ المسلمِ لنفسِهِ .
هذا ملخصُ ما ذكره الأخ .
ونقول له :
أولاً : قولُك إن العملَ غيرُ المشروعِ لا تُصَحَّحُه النيةُ ولا تجعلُه مشروعاً ، هذا كلامٌ جميلٌ جداً . ولكنكَ جزمتَ بعدمِ مشروعيةِ العملِ قبلَ أن تبحثَ المسألةَ . يعني : الحكمُ على هذا العملِ أنه غيرُ مشروعٍ هو الخلاصةُ ، فكيف تَحْتَجُّ به على عدمِ مشروعيته ؟ نحن الآن نريدُ أن نصلَ : هل هذا العملُ مشروعٌ أم غيرُ مشروعٍ ، فكيف يكون احتجاجُك على عدم المشروعيةِ يتضمن أنه غيرُ مشروعٍ ؟
هذا العملُ لا يُحكَمُ عليه بغيرِ المشروعيةِ حتى نُثبِتَ ذلك ، ونحن نقول : إن هذا العملَ مختلفٌ في مشروعيته ، ومشروعيتُه متعلقةٌ بالنيةِ ، يعني : إن كانت النيةُ صالحةً فهو مشروعٌ ، وإن لم تكنِ النيةُ صالحةً فهو غيرُ مشروعٍ . إذاً ، النقطةُ الأولى غيرُ معتبرةٍ بتاتاً .
والذين قالوا بمشروعيتِها من أهلِ العلمِ إنما قالوا : إذا كانت بنيةِ الجهادِ في سبيلِ الله وبيعِ النفسِ لله ( فهي مشروعةٌ ، وإذا كانت بنيةِ الخروجِ من الدنيا بُغْضاً للحياةِ أو عدمِ صبرٍ وجزعِ أو غير ذلك فهي غيرُ مشروعةٍ . إذاً النقطةُ الأولى لا تُعْتَبَرُ .(1/57)
ثم يُقال : إذا كان القتلُ غيرَ مشروعٍ ، فكيف يُقال إن قتلَ المسلمينَ في مسألةِ التترسِ مشروعٌ ؟ إذا كانت النيةُ لا دَخْلَ لها في العملِ وفي بيان مشروعيتِه وعدم مشروعيته ؛ فكيف يجوزُ أن أقتُلَ أخي المسلمَ إذا تَتَرَّسَ به العدوُّ ؟ إنما جازَ ذلك لأجلِ الحالةِ والنيةِ التي حصلَتْ بهذا القتلِ ، فأنا أقتلُ المتترَّسَ به حفاظاً على دماءِ المسلمينَ الآخرين . إذا النيةُ أصبحَ لها دورٌ كبيرٌ في ذاتِ العملِ ، واختلَف من كونِه عملٌ غيرُ مشروعٍ إلى عملٍ مشروع .
أيضاً ، أي من النقاطِ التي تُذكَرُ مسألةُ الغلامِ الذي دلَّ الملكَ على قتلِ نفسِه . هل دلالةُ الشخصِ لآخَرَ أن يقتلَه أمرٌ مشروعٌ ؟ الأصلُ فيه أنه غيرُ مشروعٍ ولكن النيةّ أثرتْ فيه بغض النظر عن كثرةِ المؤمنين وغير ذلك فكل هذا لا علاقةَ له في أصلِ المسألةِ . المهم أن النيةَ أثَّرَتْ وجعلَتْ عملَ الغلامِ من أفضلِ الأعمالِ عند الله ( حيث ضَحّى بنفسه في سبيلِ أَنْ آمنَ الناسُ .
ـ الحالاتُ الاستثنائيةُ لا يُقال بخصوصيتِها إلا بدليلٍ قاطعٍ على هذه الخصوصيةٍ ، والأصلُ أن الحالةَ التي استُنبِطَ منها حكمٌ تكونُ شاملةً لكل ما يندرجُ تحتَ هذا الحكم . فلا يقاسُ عليها في غيرِها وإنما يقاسُ عليها في مثلها وما شابهها .
ـ بقِيَتْ نقطةٌ أريدُ أن ألفِتَ النظرَ إليها ، وهي : هل هناك فرقٌ عند أهلِ العلمِ بينَ من يقتُلُ نفسَه وبين من يُعَرِّضُ نفسَه لمن يقتُلُه ؟ الذي أعرفُه أنه في كلتا الحالتين يُعتبَر منتحراً . فمثلاً : الذي يضعُ نفسَه تحتَ سيارةٍ مندفعةٍ مِثْلُه مثلُ من يضرِبُ نفسَه بطلقةِ رصاصٍ في رأسِهِ . في كلتا الحالتين منتحرٌ .(1/58)
فمسألةُ التعرضِ وإلقاءِ النفسِ في وسطِ السيوفِ وتحتَ رماحِ الأعداءِ لا تختلفُ كثيراً إلا مجردَ أن هذه فيها احتمالٌ ضئيلٌ للنجاةِ والأخرى ليس فيها احتمالٌ للنجاة . يعني : هناك احتمالٌ لهذا الذي رمى نفسه تحت السيارةِ أن السيارةَ يمكن أن تتجنبَه ، ويمكن أن تصدمَه فلا يموتُ ، ولكنه إذا ماتَ فهو قاتلٌ لنفسِه وكذلك الذي ضربَ نفسَه بالرصاصةِِ في رأسِهِ فهو ميتٌ لا محالةَ ، وفي هذه الحالِ فهو يستوي تماماً مع الذي رمى نفسَه تحتَ السيارةِ ، مع أن الحالةَ الأولى يُحتمَلُ فيها أنه ينجو .
ـ بقيتْ نقطةٌ أخيرةٌ أو قبلَ الأخيرةِ وهي : ما يترتَّبُ على ذلك ؟
هذا راجعٌ لاجتهادِ الشخصِ ونيتِهِ ، وكذلك الذي يرمي نفسَه في وسطِ العدوِ فيقاتِلُ حتى يُقتَلَ أو يَحمِلَ على العدوِّ قد لا يستفيدُ شيئاً ولا يقتلُ ولا رجلاً ، ويُقتَلُ هو ويُمزَّقُ بسيوفِ الأعداءِ ولا يكونُ قد قتلَ منهم أحداً إطلاقاً ، فهذا نفسُ الأمرِ ؛ الأولُ باتفاقِ السلفِ شَرَى نفسَه لله وهو من خيرِ الشهداءِ ، فالقيدُ بالنظرِ إلى النتائجِ لا عبرةَ له ولا قيمةَ له إطلاقاً ، فكذلك الذي يفجرُ نفسَه لو قُدِّرَ أنه لم يقتلْ أحداً فيكفي أنه أفزَعَ العدوَّ وأرعبَهم كما حصلَ من هذا الذي حملَ عليهم ، بل هذا الذي يُفجِّرُ نفسَه تأثيرُه أقوى بكثيرٍ جداً من الذي يحملُ على العدوِ كما هو مشاهدٌ ومعلومٌ .
ـ يلتحقُ بهذه النقطةِ مسألةُ أنه يترتَّبُ على ذلك أنهم يَهْدِمونَ كثيراً من البيوتِ ويقتلون كثيراً من الناس ، فنقول : لو أن هذا الشخصَ لم يقتلْ نفسَه بالمتفجراتِ وإنما أخذَ رشاشاً وأقدم على مغتصبَةٍ من مغتصباتِ اليهودِ وضربَهم وقتلَهم فسوف يفعلونَ نفسَ الأمرِ ، فهل يُقالُ إن فعلَه هذا غيرُ مشروعٍ ؟(1/59)
عند بحثِ المسائلِ العلميةِ لا يُنظَر للملابساتِ الخارجيةِ ، فالملابساتُ الخارجيةُ قائمةٌ في العملِ المتفقِ عليه والعملِ المختلفِ فيه ، فالذي يقاتلُ بطريقةٍ متفقٍ عليها أيضاً اليهودُ يعاملونَه بنفس الأسلوبِ ، ثم هذا العقابُ لا بدَّ منه ، فلا يكون أبداً الحلُّ أننا سوفَ نستسلمُ لأنهم يهدِمون بيوتَنا ويقتلون أفرادَنا ، بالعكسِ هذا يجعلُنا نكثرُ مما نفعلُ لأن هذا الذي يفعلونه دليلٌ على تأثيرِ هذه العملياتِ تأثيراً عظيماً جداً فيهم .
ـ بقيت النقطةُ الأخيرةُ وهي : هل شرعُ من قبلَنا شرعٌ لنا ؟ فهذه مسألةٌ أصوليةٌ مختلفٌ فيها ، والراجحُ فيها أن شرعَ من كان قبلَنا إذا ذُكِرَ بمدحٍ وثناءِ وما يُشبِهُ التقريرُ فهو شرعٌ لنا ، هذا هو الصحيحُ ، وقصةُ الغلامِ إنما ذكرها النبيُّ ( في معرضِ المدحِ والثناءِ والتقريرِ فليسَ في ذلك ما يجعلُها من الشرعِ الذي لا نأخَذَ به ، وعلى كلِّ حالٍ إذا كان المسألةُ من المسائلِ الخلافيةِ فالخلافُ معتبَرٌ ، ولا يُقالُ إن ذلكَ غيرُ مشروعٍ لأنَّ الخلافَ المعتبرَ له وجهةٌ والحمد لله .
وأما كونُ الغلامِ كان نبياً أم لا ؟ فالصوابُ أنه ليس بنبيٍّ لأنه لم يَرِدْ نصٌّ يثبت ذلك وإنما هو غلامٌ صغيرٌ تعلَّمَ السحرَ أولاً ثم تعلم من الراهبِ وأصبحَ من أولياءِ الله الصالحين ، ففِعْلُه من بابِ الكراماتِ وليس من بابِ النبوة .(1/60)
وأما كونُه كان مُتَّصِلاً بنبيٍّ فلم يردِ قطُّ أيضاً ما يُدلِّلُ على ذلك ، ولكن النبيَّ ( يقول : " إنه كان يكونُ في كلِّ أمةٍ محدَّثون ، وإن كان في أمتي أحدٌ فعمرُ " ، فكان عمرُ ( مشهوراً بالفراسَةِ وكان يتكلَّمُ بالشيء فيوافقُه القرآن ، فهذا الغلامُ تعلمَ العلمَ ، وكان هذا العلمُ كرامةً له ورفَعَه إلى منزلةٍ يحصلُ له فيها شيءٌ من الإلهامِ من الله ( ليسَ على سبيلِ النبوةِ ولا الرسالةِ وإنما على سبيلِ الإلهامِ الموفَّقِ فكان ذلك كذلك أُلْهِمَ له أن الرجلَ لو قال بسم الله فهذه الحالةُ الوحيدةُ التي يستطيعُ أن يقتلَه فيها لأنه يكون قد استعانَ بالله ( ، وهذا من الإلهامِ الموفَّقِ ، فكان هذا كذلك ، والله تعالى أعلم ، نسأل الله التوفيق .
المحاضرة الرابعة
( فضلُ الشهداءِ والحالُ في العراقِ وجهادُ الدفع )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثة بدعةٌ وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب من أتاه سهمٌ غَرْبٌ فقتَلَهُ .(1/61)
26 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الله ، حدثنا حسينُ بنُ محمدٍ أبو أحمد ، حدثنا شيبانُ عن قتادةَ ، حدثنا أنسُ بنُ مالكٍ أن أمَّ الرُّبَيِّعِ بنتَ البراءِ وهي أمُّ حارثةَ بنِ سراقةَ أتتِ النبيَّ ( فقالت : يا نبيَّ الله ألا تحدثُني عن حارثة ـ وكان قُتل يومَ بدرٍ أصابَهُ سهمٌ غَرْبٌ ـ فإن كان في الجنة صبرتُ ، وإن كان غيرَ ذلك اجتهدتُ عليه في البكاءِ . قال : " يا أمَّ حارثةَ ، إنها جنانٌ في الجنة ، وإن ابنَكِ أصابَ الفردوسَ الأعلى " .
هذا الحديثُ يواصل فيه الإمامُ البخاريُّ كلامَه عن فضلِ الجهادِ والمجاهدينَ فيُبَيِّنُ أنه يَلْحَقُ بالشهداءِ من قُتِلَ في هذه الحالِ ( من أصابه سهم غرب ) والسهمُ الغرب هو : السهمُ الذي يُطلَقُ خطأً أو يطلقُ على غِرَّةٍ والشخصُ ليس في القتال .
فحارثةُ بنُ النعمان وأمه هي الربيع بنتُ النضرِ التي ذكرناها في حديثِ مقتلِ أنسِ بنِ النضر واستشهادِه في سبيل الله ، فهذه هي أمُّ حارثةَ ، وقد حصلَ وَهْمٌ في هذا الإسنادِ في اسمِها فقيل فيها ( أم الربيع بنتِ البراء ) والصوابُ أنها ( الربيع بنت النضر ) كما جاء ذلك في طرق أخرى لهذا الحديث .(1/62)
فلما قُتِلَ حارثةُ وقد كان ذهبَ إلى بئرٍ يَسْتَقِي منه فرآهُ رجلٌ من المشركينَ فرماهُ بسهمٍ على غِرَّةٍ فقَتَلَه ، فحزِنَتْ عليه أمُّ حارثةَ وأرادتَ أن تتأكدَ هل لولدِها منزلةُ الشهيد لأنه لم يُقتَلْ في معركةٍ وجهاً لوجهٍ مع الكافرِ وإنما رماه الكافرُ على غرةٍ وكان قد خرج ليشربَ ، فقالت : ( يا نبي الله ! ألا تحدثني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت ) بمعنى أنها تتصبرُ ، لأن ولدَها كُتِبَتْ له الشهادةُ وهي أعلى المنازلِ وأفضلُها ، وصاحبُ الإيمانِ الصادقُِ لا يحزنُ إذا قُتِلَ من يُحِبُّ في سبيلِ الله لأن هذه منزلةً عاليةً جداً ، وكلُّ من يُحِبُّ يرغَبُ أن تكونَ تلكَ المنزلةُ لحبِيبِه ، فتقول له ( فإن كان في الجنة صبرت ) ، أي : تصبَّرْتُ واحتَسَبْتُ ذلك عندَ الله عزَّ وجلَّ ، وإن كان غيرَ ذلك ، يعني : ليس له هذا الأجرُ ولا يُكتَبُ له الشهادةُ ( اجتهدت عليه في البكاء ) يعني : ليس هناك ما يُسَلِّيها ويُواسِيها في هذا المُصابِ فتطلقُ لنفسِها العنانَ فتَبْكيهِ ، وبعضُ أهلِ العلمِ حَمَلَ…ذلك على النياحةِ وقالوا : إن ذلك كان قبلَ تحريمِ النياحةِ . وفي المسألةِ نظرٌ لأن النبيَّ ( عندما بايعَ المؤمناتِ بايَعْهُنَّ في أوَّلِ الهجرةِ عندما قَدِمَ المدينةَ وكان فيما بايعهن عليه ( ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ ) ومن ذلك عدمُ النياحةِ . فالمرادُ هنا واللهُ أعلمُ البكاءُ الجائزُ الذي رَخَّصَ فيه النبيُّ ( فإنه ذَكَرَ أن اللهَ لا يُعَذِّبُ بدمعِ العينِ ولكن يعذبُ بهذا وأشار إلى لسانِه عليه الصلاة والسلام .(1/63)
فبشرَّها النبيُّ ( بمنزلةِ حارثةَ وقال لها : " يا أمَّ حارثةَ ! إنها جنانٌ في الجنةِ " ، ليستَ جنةً واحدةً ، وإنما الجنةُ جنانٌ متعددةٌ تتفاوتُ في منازِلِها ، وقد ذكرْنا في لقاءٍ سابقٍ أن للشهداءِ عندَ الله مائةٍ درجةٍ في الجنةِ وأنَّ أعلى هذه الدرجاتِ الفردوسَ ، فالنبيُّ ( أكْمَلَ بُشْراهُ لها وقال : " وإنَّ ابْنَكَ أصابَ الفردوسَ الأعلى " يعني : وَصَلَ إلى أعلَى درجاتِ الجنةِ التي تُكْتَبُ لأفْضَلِ الشُّهداءِ وكان حارثةُ منهم ، وفي ذلكَ دليلٌ على أنَّ من أصابَهُ سهمٌ غَرْبٌ وكان خرجَ إلى معركةٍ من المعارِكِ فإنما يُكتَبُ له أجرُ الشهيدِ ، ومن ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ كمن قَتَلَه العدُوُّ ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا .
27 ـ حدثنا سليمانُ بنُ حَرْبٍ ، حدثنا شعبةُ ، عن عمروٍ ، عن أبي وائلٍ ، عن أبي موسى ( قال : جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ ( فقال : الرجُلُ يقاتِلُ للمغنَمِ ، والرجلُ يقاتِلُ للذِّكْرِ ، والرجلُ يقاتل ليُرى مكانَه ، فمنْ في سبيلِ الله ؟ قال : " من قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيلِ الله " .
هذا الحديثُ العظيمُ الذي ذكرَه الإمامُ البخاريُّ رحمه الله من أهمِّ الأحاديثِ التي في بابِ الجهادِ ، فإنه كما ذكرْنا أهمُّ شيءٍ في العملِ الإخلاصُ ؛ فإذا فُقِدَ الإخلاصُ فالعملُ مردودٌ على صاحبِهِ . واللهُ ( لا يَقْبَلُ من العملِ إلا ما كان خالِصاً لوجْهِهِ .
والجهادُ فيه بذْلُ النفسِ والنفيسِ ، وفيه بذلُ الإنسانِ روحَه ودمَهُ ، فلا بُدَّ أن يَنْتَبِهَ للغَرَضِ الذي يَبْذُلُ فيه مهجَتَه . ولذا قال الإمامُ البخاريُّ ( باب من قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا ) يعني : أن الذي يفعلُ ذلك هو المجاهِدُ الحقُّ الذي يُجاهِدُ في سبيلِ الله ( .(1/64)
ثم ذَكَرَ فيه حديثَ أبي موسى ( وفيه ( أن رجلاً جاءَ إلى النبيِّ ( فسأَلَهُ عن أصنافِ توجَدُ في ساحةِ القتالِ ؛ الكلُّ يقاتِلُ ولكن هناكَ اختلافٌ في النوايا التي تكونُ في صدورِ العبادِ ، فمن الناسِ من يقاتِلُ للمَغْنَمِ أي إنما جاءَ حِرْصاً على الغنيمةٍ ، فَهَمُّهُ أن يُحَصِّلَ المغانِمَ التي تترتبُ على هذا القتال . وصِنْفٌ يقاتِلُ حتى يذكرَه الناسُ بأنه شُجاعٌ ومُجاهِدٌ ولا يَهابُ الحربَ ونحو ذلك . وهناك رجلٌ يقاتل ليُرى مكانَه ، يعني : أن يقاتِل رياءً فهو يريدُ الذكرَ أيضاً فهو مشابِهٌ لما قبلَه . وجاء في بعضِ الرواياتِ ( الذي يقاتِلُ حَمِيَّةً ) وجاء في بعضها ( الذي يقاتِل غضباً ) . فالذي يقاتلُ حميةً إنما يقاتِلُ لأنَّ قومَه يقاتلون ، فإذا وجد قومَه يقاتِلون قوماً قاتَلَ معهم ، لا يدري على أي شيءٍ يقاتِلُ وليستْ له نية بهذا القتالِ إلا نصرةَ قومَهُ . وهناك من يقاتِلُ غَضَباً ، أي : شَعَرَ بالغضبِ فكان ردَّ الفعلِ الانتقامُ فقط بغيرِ نيَّةٍ صالحةٍ في قتالِهِ وإنما مُجَرَّدُ تأثُّرٍ بهذا الغضبِ الذي ألَمَّ به .(1/65)
فهذه الأمورُ سألَ عنها هذا الرجلُ النبيَّ ( فكانَ ردُّ رسولِ الله ( كلاماً جامعاً مانعاً فلم يَقُلْ له ( هؤلاءِ ليسوا في سبيلِ الله ) وذلك لأن بعضَ ما ذُكِرَ قد يدخُلُ في القتالِ في سبيلِ الله ( ؛ فقد يغضبُ الرجلُ للهِ ( فيكونُ غضبَه في سبيلِ الله ولأجلِ إعلاءِ كلمةِ الله فيكونُ قتالُه في سبيلِ الله فلا يُذَمُّ في قتالِهِ غَضَباً . كذلك قد يقاتِلُ الرجلُ حميَّةً ولكن حميةً لدينِ الله ولأعراضِ المسلمينَ ولانتهاكِ أراضيهِم ، فقتالُه في هذه الحالِ يكونُ في سبيلِ الله . فكان جوابُ النبيِّ ( أن قالَ الحديثَ السابقَ . ثم إنَّ النبيَّ ( لو قال له : ليس قتالُ هؤلاءِ في سبيلِ الله لظنَّ الناسُ أن غيرَ هؤلاءِ كلَّهم قتالُهم يكونُ في سبيلِ الله ، فكان جوابُه ( من جوامعِ الكلم ، فيه من البلاغةِ والإيجازِ ما فيه .
ـ مسألة : إذا قاتَلَ الشخصُ وهو يريدُ إعلاءَ كلمةِ الله وفي نفسِ الوقتِ في نيتِه أن يُحَصِّلَ المغنمَ الذي يترتبُ على هذا الجهادِ ، فهل هو في سبيلِ الله ؟ وهل يُكتَبُ له الأجرُ ؟
هذه المسألةُ تنقَسِمُ إلى خمسةِ أقسامٍ :
إما أنْ يقاتِلَ في سبيلِ الأمرَيْنِ معاً على حدٍّ سواءٍ .
وإما أن يَقْصِدَ واحداً منهما ويحصلَ له الآخرُ ضِمناً من غيرِ قَصْدٍ منه أساساً .
فالممنوعُ من ذلكِ ، أن يقصُدَ غيرَ إعلاءِ كلمةِ الله ، يعني يريدُ المغنمَ أساساً ، فهذا محذورٌ حتى وإن حَصَلَ إعلاءٌ لكلمةِ الله ضِمناً .
وإما أن يقصِدَهما معاً على حدٍّ سواءٍ ، فهذا ممنوعٌ أيضاً . وقد جاء في الحديثِ أن رجلاً أتى النبيَّ ( فقال له : يا رسولَ الله ! أرأيتَ رجلاً غزا يلتمسُ الأجرَ والذكرَ ما لَهُ ؟ قال : " لا شيءَ له " ، فأعادَ عليه ذلكَ ثلاثَ مراتٍ وفي كلِّ مرة يقول : " لا شيءَ له " ، ثم قال رسولُ الله ( : " إن اللهَ لا يَقْبَلُ مِنَ العملِ إلا ما كانَ له خالِصاً وابتُغِي به وجهَه " .(1/66)
فالذي دلَّ عليه هذا الحديثُ الذي قَصَدَ الأمرين معاً .
إذا ً ، ما هو المطلوبُ والذي يكونُ في سبيلِ الله ؟
المطلوبُ والذي يكونُ في سبيلِ الله أن يقصِدَ إعلاءَ كلمةِ الله ( أساساً سواءٌ أصابَ مغنَماً أم لمْ يُصِبْ . فإن حصلَ له إصابةُ المغنَمِ فهذا خيرٌ ونعمةٌ ، وإن لم يحصلْ له إصابةُ المغنَمِ فإنما قَصَدَ إعلاءَ كلمةِ الله .
وهذا الذي يَدُلُّ عليه فعلُ النبيِّ ( عندما حَثَّ أصحابَه على الاجتهادِ في القتالِ للمغنَمِ والسَّلَبِ ، فالنبيُّ ( كان يُشَجِّعُ أصحابَه ويحثُّهم على الجهادِ في سبيلِ الله بِجَعْلِ سَلَبِ كلِّ قتيلٍ لقاتِلِهِ ، فكان يقولُ لهم : " من قَتَلَ قتيلاً فله سَلَبُه " ، وكان يُنَفِّلُ أصحابَه أنفالاً حتى يشجعَهم على الاجتهادِ في القتالِ .
فأصلُ خروجِ الصحابةِ رضي الله عنهم مع النبيِّ ( هو إعلاءُ كلمةِ الله ، والمغنمُ يأتي تَبَعاً لذلك .
هذا هو الوجهُ الصحيحُ والمطلوبُ والذي يُعتبَرُ في سبيلِ الله جلَّ وعَلا .
تأتي نقطةٌ وهي : مسألةُ القتالِ تحتَ رايَةٍ عُمِّيَّة أو عِمِّيَّة ( هكذا يقال عمية أو عمية ) ، فالنبيُّ ( كانَ يقولُ : " مَنْ قاتَلَ تحتَ رايةٍ عُمِّيَّة فمِيتَتُه ميتةٌ جاهليةٌ " . والمرادُ بالرايةِ العميةِ القتالُ لأجلِ الحَمِيَّةِ هذا النوعُ الذي ذكرناه في هذا الحديثِ ، فليس المرادُ كما يَفهَمُ البعضُ قيادةَ الجيشِ كما هو الحالُ في العراقِ الآن ، وكما تكلمنا في ذلك عدةَ مراتٍ ؛ إذا كان القائدُ أو السلطةُ بيدِ رجلٍ فاجرٍ ليسَ على دينِ الله ( إما فِسْقاً وإما كُفْراً . فالمقصودُ أن رايتَه ليستْ لإعلاءِ كلمةِ الله ، ولكنَّ الذي يقاتِلُ إنما يقاتِلُ في حالٍ يكونُ فيها القتالُ مشروعاً ؛ إما نيتُه لإعلاءِ كلمةِ الله ، وإما أن تكونَ نيتُه ليستْ مشروعةً فيكون قتالُه حميةً . فالنظرُ إلى ذاتِ الشخصِ وليس إلى القائدِ .(1/67)
وقد كان في صفوفِ النبيِّ ( وهو خيرُ القادةِ وإمامُ المتقينَ من كان يقاتِلُ لغيرِ الله ( ، فلا يُعتبَرُ الذي قاتَلَ في صفِّ النبيِّ ( وهو لا يريدُ وجهَ الله ، لا يعتبَرُ مقاتِلاً في سبيلِ الله ( ، وإنما يحاسَبُ بغضِّ النظرِ عن هذه الرايةِ الصالحةِ النبويةِ . وكذلك الذي يقاتلُ تحتَ رايةٍ فاسدةٍ ولكن قتالُه لأجلِ إعلاءِ كلمةِ الله ولأمرٍ مشروعٍ ، فلا عبرةَ بهذه الرايةِ التي بِيَدِ زَعِيمِهِ ، وإنما العبرةُ بنيتِه .
فهذه نقطةٌ مهمةٌ لا بُدَّ من الانتباهِ لها في هذه الظروفِ التي نَمُرُّ بها ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
بابُ من اغبَرَّتْ قدماهُ في سبيلِ الله .
وقولُ الله ( :
28 ـ حدثنا إسحاقُ ، أخبرنا محمدُ بنُ المبارَكِ ، حدثنا يحيى بنُ حمزةَ قال : حدثني يزيدُ بنُ أبي مريمَ ، أخبرنا عبايةُ بنُ رفاعةَ بنِ رافعِ بنِ خُدَيجٍ قال : أخبرني أبو عبسٍ هو عبدُ الرحمنِ بنُ جَبْرٍ أن رسولَ الله ( قال : " ما اغْبَرَّتا قدما عبدِ في سبيلِ الله فتمَسَّه النارُ " .
هذا الحديثُ أيضاً يستكملُ فضلَ الجهادِ في سبيلِ الله وما للمجاهِدِ ، ويتحدثُ عن جزئيةٍ من العملِ الذي يعملُه المجاهدُ ، وهي أمرٌ قليلٌ جداً ومع ذلك فالأجرُ الذي عليها أجرٌ عظيمٌ جداً ، وهي اغبرارُ القدمِ في المَسيرِ في سبيلِ الله .
فيقول ( باب من اغبرت قدماه في سبيل الله ) يعني : أجرَه وفضلَه .
وذكر فيه قولَ الله ( إلى قوله والشاهدُ في هذه الآيةِ ما جاء في وسَطِها من قوله تعالى : فقوله ( ولا يطؤون موطئاً ) هذا هو معنى اغبرارِ القدمِ في سبيلِ الله ، لأن وطئَ القدمِ على الأرضِ يتسببُ في حدوثِ الغبارِ عليها ، وهذا هو المرادُ من الباب .(1/68)
ثم ذكر حديثَ عبدِ الرحمنِ بن جَبْرٍ ( أن رسولَ الله ( قال : " ما اغبرتا قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار " ، وفي ذلك تحريمُ النارِ على المجاهدِ الذي خرج في سبيلِ الله حتى وإن لمْ يقاتِلْ بلْ لمجرَّدِ اغبرارِ قدمِه في سبيلِِ الله ، فقد يخرجُ المجاهدونَ ولا يَلْقَونَ كيداً كما حدثَ ذلك كثيراً مع النبيِّ ( فتعودُ السريةُ أو يعودُ الغزاةُ ولم يقاتِلوا ، فمسيرُهُم هذا الذي اغبرَّتْ فيه أقدامُهم في سبيلِ الله يؤجَرون عليه أن النارَ لا تمسُّهم يومَ القيامة .
وهنا في قوله ( ما اغبرتا قدما عبدٍ ) هذا خلافُ الأصلِ في اللغة ؛ فالأصلُ أن يُقالَ ( ما اغبرتْ قدما عبدٍ ) لأن الفاعلَ موجودٌ وهو ( قدما ) . ولكنْ هذه لغةٌ عندَ العربِ قليلةٌ يسمونَها لغةَ ( أكلوني البراغيثُ ) ، وقد جاءتْ بها بعضُ الأحاديثِ كما في قوله ( : " يتعاقَبونَ فيكم ملائكةٌ " ، فالأصلُ أن يقالَ ( يتعاقب فيكم ملائكة ) ، وهكذا هنا في حديثِنا ، وقد جاءتْ في بعضِ الرواياتِ على اللغةِ المشهورةِ من غيرِ إثباتِ ألفِ الفاعلَين .
هناك أيضاً من الآثارِ ما يتعلقُ بذلك ، فكما تعلمون عندما سارَ أبو بكر ( يودِّعَ بعثَ أسامةَ ؛ فكان يمشي وأسامةُ راكبٌ ، فطلب منه أسامةُ أن يركبَ فقال : ( ما عليَّ أن أُغَبِّرَ قدماي في سبيلِ الله ) ، فالصحابةُ رضي الله عنهم كانوا أكثرَ الناسِ امتثالاً لأوامرِ الله ورسولِه وتعظيماً لشعائرِ الله ولدينِ الله وتطبيقاً لتوجيهاتِ رسولِ الله ( ، فكان أبو بكرٍ وهو من هو يحرِصُ على أن يُغَبِّرَ قدميه في سبيلِ الله ليتَحَصَّلَ على هذا الأجرَ العظيمَ .
قال البخاري رحمه الله :
باب مسحِ الغبارِ عن الرأسِ في سبيلِ الله .(1/69)
29 ـ حدثنا إبراهيمُ بنُ موسى ، أخبرنا عبدُ الوهّاب ، حدثنا خالدٌ عن عكرمةَ أن ابنَ عباسٍ قال له ولعليِّ بنِ عبدِ الله : ائتيا أبا سعيدٍ فاسمعا من حديثِه : فأَتَيَاهُ وهو وأخُوه في حائطٍ لهما يسقيانِه ، فلما رآنا جاء فاحتَبى وجلسَ فقال : " كنا ننقُل لبِنَ المسجدِ لَبِنَةً لبنة ، وكان عمارُ ينقلُ لبنتين لبنتين ، فمر به النبيُّ ( ومسحَ عن رأسهِ الغبارَ وقال : " ويحَ عمارٍ تقتُلُه الفئةُ الباغيةُ ، عمارٌ يدعوهم إلى الله ويدعونَه إلى النارِ " .
قال البخاري :
باب الغُسلِ بعد الحربِ والغُبارِ .
30 ـ حدثنا محمدٌ ، أخبرنا عبدةُ ، عن هشامِ بنِ عروةَ ، عن أبيهِ ، عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها : " أن رسولَ اللهِ ( لما رَجَعَ يومَ الخندَقِ ووَضَعَ السلاحَ واغتَسَلَ ، فأتاهُ جبريلُ وقد عَصَبَ رأسَهُ الغبارُ فقال : وضعتَ السلاحَ ؟ فوالله ما وضعتُه . فقال رسولُ الله ( : فأينَ ؟ قال : ها هنا ـ وأومأَ إلى بني قريظةَ ـ قالتْ : فخرجَ إليهم رسولُ الله ( " .
هذا الحديثُ وهو في بابِ ( مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله ) يعني : حكمُ ذلك ، هل هو جائزٌ أم مكروهٌ ؟ لأن البعضَ قد يتوهمُ أن مسحَ الغبارِ وغسلَ الغبارِ عن الجَسَدِ والرأسِ الذي نتجَ في سبيلِ الله فيه كراهةٌ للفضلِ السابقِ الذي ذكرناه ؛ أن من اغبرتْ قدماه في سبيلِ الله لم تمسَّه النارُ .(1/70)
والأجرُ المترَتِّبُ على اغبرارِ القدمينِ أو اغبرارِ الجسدِ والرأسِ ليسَ مستلزِماً استمراريةَ هذا الغبارِ على الجسد ، وقد دفعَ الإمامُ البخاريُّ توهمَ ذلك لأن بعضَ السلفِ كره التنشيفَ بعدَ الوضوءِ ، والنبيُّ ( ثبتَ عنه في السُّنَّةِ أنه أُتِيَ له بمنديلٍ عندما توضأَ فلم يُرِدْهُ ، وليس في ذلك دليلٌ على كراهيةِ التنشيفِ ، وإنما النبي ( لم يحتجْ لهذا المنديلِ ، فلو نَشَّفَ المتوضئُ فلا حرجَ عليه ، ولكن هناك فرقٌ بينَ الوضوءِ وبين الغبارِ المترتبِ عن الجهادِ في سبيلِ الله ؛ لأن الوضوءَ إنما يُرادُ لأجلِ الصلاةِ وهي ـ أي الصلاةُ ـ تابعةٌ للوضوءِ ، فبقاءُ أثرِ الوضوءِ له اعتبارُه هنا ، أما بالنسبةِ للجهادِ فلا حاجةَ لبقاءِ الغبارِ بعد انتهاءِ الجهادِ لأنَّ الطاعةَ قد انتهتْ والغبارَ ليس مقصوداً للجهادِ وإنما هو نتيجةٌ عنه ، هذا هو الفارقُ . فلو سُلِّم بكراهةِ التنشيفِ لماءِ الوضوءِ فلا كراهةَ في غسلِ ومسحِ الغبارِ عن الرأس .(1/71)
واستدَلَّ الإمامُ البخاري بهذا الحديثِ وهو الذي رواه عن ابنِ عباسٍ وفيه أن ابنَ عباسٍ ( قال لعكرمةَ ولعلي بنِ عبد الله : ( ائتيا أبا سعيد فاسمعا من حديثه ) ؛ كان الصحابةُ رضي الله عنهم يحُثُّونَ طلبةَ العلمِ على الذهابِ لأهلِ العلمِ الذين عندهم أحاديثُ النبيِّ ( لكي يسمعوها منهم ويستَفِيدوا ويتعلَّموا ، فحثَّ ابنُ عباسٍ وهو حبرُ الأمة ، مولاه عكرمةَ وعليَّ بنَ عبدِ الله بنِ العباسِ أن يذهبا إلى أبي سعيد الخدري ليسمعا من حديثه ، فذهبا إلى أبي سعيد وهو في حائطٍ له ، يعني : في مزرعةٍ له ومعه أخوه يسقيانِ هذه المزرعةَ ، فلما رآهما أبو سعيدٍ رحَّبَ بهما لمنزلتِهما من العلمِ ومن الفضلِ فجلس معهما ( واحتبى ) والاحتباءُ هي : جلسةُ القُرفُصاءِ ، فبدأ يروي لهما شيئاً من الأحاديثِ التي يحفظُها ، فقال لهما ( كنا ننقُلُ لبِِنَ المسجدِ لبنة لبنةً ) ؛ النبي ( أمرَ ببناءِ مسجده ، فكان الصحابةُ ومعهم رسول الله ( ينقلون هذا اللبنَ لبناءِ المسجدِ ، فكان الناس ينقلون لبِنَةً لبنة ، وكان عمارٌ ( لأنه رجلٌ قويٌ وشديدٌ ينقُلُ لبنتين لبنتين ، فمر به النبي ( فسُرَّ باهتمامِه وبعملِه وبفعله ، فكان يمسحُ عن رأسِه الغبارَ الذي جاء من أثرِ بناءِ المسجدِ وحملِ اللبِن ، وقال وهو يمسحُ هذا الغبارَ عن رأسِه : " ويحَ عمارٍ تقتُلُه الفئةُ الباغيةُ " . ( ويح ) : كلمةٌ تُقالُ للتَّوَجُّعِ والتألم ، وهي في الخير . ( تقتله الفئة الباغية ) : هذه من علاماتِ النبوةِ ومما أخبرَ به النبيُّ ( من الأمورِ الغيبيةِ ، فذكر أن عَمّاراً سوف يدخُلُ حرباً بين فِئتينِ ؛ فئةٌ منهما تكونُ فئةً باغيةً وفئةٌ أخرى بُغِيَ عليها ، فكان ذلك كما أخبرَ عنه ( ، وقاتَلَ عمارٌ مع عليٍّ ( ضدَّ معاويةَ ( ، وكانت الفئةُ الباغيةُ هي فئةُ معاويةَ ( لأنه كان مخالِفاً لإمامِ المسلمينَ في ذلك الوقتِ وهو عليٌّ ( ، وكان خلافُه ( إنما هو تَأَوُّلاً(1/72)
واجتهاداً منه وظناً أنه على صواب .
ثم قال رسول الله ( : " عمارٌ يدعوهُم إلى الله ويدعونَه إلى النارِ " ، يعني : عمارٌ يدعوهم إلى طاعةِ الإمامِ وهذا ما أمَرَ به الله ( ، ويدعونه إلى النار ، أي : إلى معصيةِ الإمام ، ومعصيةُ الإمام تؤدي إلى النار إن لم يكن الفاعلُ لذلك متأولاً ومجتهداً وأخطأَ في هذا الاجتهادِ ، والله تعالى أعلم .
والشاهدُ في هذا الحديثِ وإن لم يكن له علاقةٌ بالجهاد ، ولكنْ بناءُ المسجدِ من الأمورِ التي يُبتغَى بها وجهُ الله ، فهي في سبيلِ الله . فالنبيُّ ( كان يمسحُ أثرَ الغبارِ الذي نشأَ عن بناءِ المسجدِ عن عمارٍ ( ، وهذا فيه دليلٌ على أن مسحَ الغبارِ المترتبِ عن الطاعةِ لا حَرَجَ فيه ولا إشكالَ ولا كراهةَ ، فكذلك مسحُ الغبارِ الذي يكونُ في الجهادِ في سبيلِ الله لا كراهةَ فيه ، هذا هو الشاهدُ ، وسيأتي في البابِ القادمِ ما يتعلقُ بذلك والله تعالى أعلم .
والبابُ الثاني متعلقٌ بالبابِ السابق ، وهو قوله ( باب الغسلِ بعد الحربِ والغبارِ ) فهذا متعلقٌ أيضاً بما قبلَه ، وهو ألصَقُ ، لأن فيه إزالةَ أثرِ الحربِ من غبارٍ ووَسَخٍ ونحوِ ذلك بالغسلِ
وفيه ذَكَرَ حديثَ عائشةَ رضي الله عنها أن النبي ( لما رجع يومَ الخندقِ ووضعَ السلاحَ واغتسلَ و الشاهدُ فيه ، هو قولُه ( واغتسل ) لأن الاغتسالَ سوف يُزيلُ أثرَ الغبارِ وغيرِه .
تقول عائشةُ ( فأتاه جبريلُ وقد عصبَ رأسَه الغبارُ ) ؛ وجبريلُ عليه السلام كان يأتي النبي ( أحياناً بهيئةِ رجلٍ غريبٍ ، وأحياناً كان يأتيه في هيئةِ دِحْيَةَ بنِ خليفةَ الكِلْبي ، وكان رجلاً جميلاً .
فجبريلُ عليه السلام عندما كان يتمثَّلُ للنبي ( في هيئةِ رجلٍ كان يراه الصحابة .(1/73)
فتقول عائشةُ ( أن جبريل أتاه وقد عصبَ رأسه الغبار ) ؛ يعني : ما زالَ عليه أثرُ الحربِ ، والملائكةُ كانت تقاتلُ مع النبي ( في غزواتِه ، فكانت معه في غزوةِ الخندق ، فلما رجعَ النبي ( واغتسلَ ووَضَعَ سلاحَه ؛ أتاه جبريلُ ولما يزولُ عنه أثرُ الحربِ ، ( فالغبارَ قد عصبَ رأسَه ) يعني : لفَّها كأنها عصابةٌ حولَ رأسه ، وهذا دليلٌ على أنه ما زال لم ينتهِ من القتالِ أو من الحربِ بعد . فقال للنبيِّ ( وضعتَ السلاح ؟ ) يعني : يستنكرُ على النبي ( كيف وضعَ السلاحَ . ( فوالله ما وضعتُه ) يعني : ما زلتُ في انتظارِ القتالِ مرةً أخرى مع المشركين .
وكما تعلمون ؛ الحربُ في غزوةِ الخندق ، كان من الأسبابِ التي جعلتْ المسلمينَ في ضيقٍ شديدٍ في هذه الغزوةِ ما نقضَه اليهودُ من عهدٍ مع النبي ( ، وهم بنو قريظةَ الذين كانوا على عهدٍ مع النبي ( ، ولكنهم تمالأوا مع كفارِ قريشٍ وكان لهم دورٌ في التضييقِ على المسلمينَ في هذه الغزوةِ التي ذكرها الله ( ذكراً عظيماً في كتابه فقال : ( ( . وبالمناسبةِ يا أخوان ؛ انظروا هذا خيرُ خلقِ الله ، ومعه خيرُ الناسِ بعد الأنبياءِ وهم صحابةُ النبي ( ، وقد وصل بهم الحالُ إلى حالٍ شديدةٍ جداً في غزوةِ الخندقِ ، وقد وصفَ الله تعالى هذه الحالَ بهذا الوصفِ البليغِ يُبيِّنُ حالَهم فيقول ( ثم يقول ، فنحن في هذه الأيامِ وما نمُرُّ به من صعابٍ ومن أمورٍ يَشيبُ لها الوِلدان ، لا بد أن ننظرَ أن ذلك كان في خيرِ القرونِ وتحتَ رايةِ خيرِ الناس ، فهل نحنُ نخالفُ سنةَ الله التي لم يَسْلَمْ منها أولياؤه وأحباؤه ؟
فالصبرُ يا أخوان ؛ هذه نصيحةٌ لا بدَّ أن نلتزِمَ بها جميعا ، الصبرَ الصبرَ وعدمَ العجلةِ وانتظارَ الفرجِ من الله ( .(1/74)
فتقول ( فلما قال له جبريل : فوالله ما وضعتُه ) ؛ عَلِمَ النبيُّ ( أن الحربَ لم تنتَهِ بعدُ . فقال له ( إلى أين ؟ ) فأشار له جبريلُ إلى بني قريظةَ ؛ أومأَ إليه إلى جهةِ بني قريظةَ وهي في أعالي المدينةِ فأشارَ إلى هذه الجهة ، فعلمَ أن الله ( يريدُ أن يؤدِّبَ هؤلاءِ الذين نقضوا العهدَ ويكِرَّ عليهم رسولُ الله ( وجنودُ الله حتى يهزِمُوهم شرَّ هزيمةٍ لأنهم نقضوا العهدَ .
قالت ( فخرج إليهم رسول الله ( ) ؛ والشاهدُ فيه كما قلتُ هو اغتسالُ النبيِّ ( بعد الحربِ والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب فضلِ قولِ الله تعالى :
31 ـ حدثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الله قال : حدثني مالكٌ عن إسحاقَ بنِ عبدِ الله بنِ أبي طلحةَ ، عن أنسِ بنِ مالكٍ ( قال : " دعا رسولُ الله ( على الذين قتلوا أصحابَ بئرِ معونةَ ثلاثينَ غداةً ، على رِعْلٍ وذكوانَ وعصيةََ عصتِ اللهَ ورسولَه . قال أنسٌ : أُنزِلَ في الذين قُتلوا ببئرِ معونةَ قرآناً قرأناه ثم نُسِخ بعدُ : بلِّغُوا قومَنا أن قد لَقينا ربَّنا فرضي عنا ورضينا عنه " .
32 ـ حدثنا عليُّ بنُ عبدِ الله ، حدثنا سفيانُ ، عن عمروٍ سمعَ جابرَ بنَ عبدِ الله رضي الله عنهما يقول : " اصطبَحَ ناسٌ الخمرَ يومَ أُحُدٍ ، ثم قُتِلوا شهداءَ ، فقيل لسفيانَ : مِن آخرِ ذلك اليوم ؟ قال : ليس هذا فيه " .
قول الإمام البخاري ( باب فضل قول الله تعالى ) ؛ إنما يعني به فضلَ من جاء فيه قولُ الله تعالى ( لأن الفضلَ لمن ذُكِرَ في هذه الآيةِ وليس الفضلُ لنفس الآية
وفي بعضِ النسخ ( باب قول الله تعالى ) لا يوجد كلمةُ ( فضل ) .
هذه الآيةُ العظيمةُ تَذْكُرُ ما أعدَّ الله ( للشهداءِ في سبيله ، فذَكَرَ أن لهم حياةً برزخيةً خاصةً لا تكون لغيرهم ، فأرواحُهم في أجسادٍ خاصةٍ وهي طيورٌ خضرٌ تسرحُ في الجنة حيث شاءت .(1/75)
هذه هي حياتُهم البرزخيةُ ؛ فأرواحُهم حيةٌ بأجسادٍ في جنةِ الله ( يُنَعَّمون ويُرزَقون ويَفرَحون بما آتاهم الله من فضلِه وينتظرون الذين لم يلحقوا بهم ، وينتظرون أن يلحَقوا بهم ، وأذهبَ اللهُ عنهم الخوفَ والحزنَ ، فهم لا يخافون على من خلفَهم ممن تركوهم من أهلٍ وعيالٍ ، ولا يحزنون ، وإنما هم في سرورٍ وبهجةٍ دائماً .
ثم ذكر فيه حديثَ أنسِ بنِ مالكٍ الذي شرحناه قبل ذلك في قصةِ غَدْرِ هؤلاءِ الأقوامِ من رِعْلٍ وذكوانَ وعُصَيةَ ، وهي قبائلُ من بني سليم ، غدروا بالقراءِ السبعين فقتلوهم ببئرِ معونةَ فكان النبي ( من حزنِه عليهم يقنُت ويدعو على هؤلاءِ ويلعنُهم في صلاته أربعينَ يوماً . والتعبيرُ بثلاثينَ على سبيلِ أنها في بعضِ الرواياتِ جاءت ( شهر ) وإنما قُصِدَ جبرُ الأيامِ التي فوقَ الشهرِ وهذا جائزٌ في اللغةِ وله شواهدُ عدةٌ . ثم ذكرَ القرآنَ الذي أُنزِل فيهم وهو من منسوخِ التلاوةِ باقي الحكمِ ، وهو قِسْمٌ من أقسامِ المنسوخِ . والذي نزل ونُسِخَ هو قوله ( بَلِّغوا قومَنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ) وفي بعض الألفاظِ ( وأرضانا ) ، وهذا نُسِخَ لفظُه كما قلتُ .
ثم ثَنّى بحديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله ( حيث ذكرَ أن أناساً من الصحابةِ شرِبوا الخمرَ صبيحةَ أحد وكان ذلك قبلَ تحريمِ الخمرِ فإن الخمرَ لم تُحَرَّمْ إلا بعدَ ذلك ، فهم شرِبوها وهي مباحةٌ . وقد كان بعضُ أهلِ الجاهليةِ حَرَّمَ على نفسه الخمرَ قبلَ أن يحرِّمَها اللهُ ( ، ومن هؤلاءِ أبو بكرٍ الصديقُ ( وعثمانُ ( لم يشربوها لا في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ .(1/76)
وهؤلاءِ الذين شرِبوا الخمرَ يومَ أحد قُتلوا من آخرِ النهارِ شهداءَ . وقوله ( فقيل لسفيانَ : مِِْن آخرِ ذلك اليوم ) يعني : في لفظِ الحديثِ كلمةُ من آخر ذلك اليوم ؟ ( قال : ليس هذا فيه ) والصوابُ أن هذا فيه ، ولكنَّ سفيان رحمه الله وَهِمَ في ذلك ونَسي ، وإلا فقد روى هذا الحديثَ وأثبتَ فيه لفظةَ ( من آخر ذلك اليوم ) .
والشاهدُ في الحديثِ الأولِ أن القرآنَ الذي أُنزِل ونُسِخَ فيه دليلٌ على أن الله ( رضي عن هؤلاء وأرضاهم ، وهذا يطابقُ الترجمةَ وهو ( فضلُ الشهداءِ في سبيلِ الله ) .
وكذلك الحديثُ الثاني ؛ الشاهدُ فيه أن هذه الآياتِ إنما نَزَلَتْ أصلاً في شهداءِ أحد ، فالحديثُ يتكلم عن شهداءِ أحدٍ والآيةُ نزلت في هؤلاءِ الشهداءِ ، فهذا هو الرابطُ .
وبعضُ أهلِ العلمِ ذَكَرَ أنه قد يكونُ الرابطُ أنهم مع شُرْبِهم الخمرَ في أولِ النهارِ فإن الله ( قد رضي عنهم وغفر لهم بجهادهم في آخر النهار . وهذا التوجيهُ لا أراه سديداً لأن الخمرَ لم تكنْ حُرِّمَتْ بعدُ ؛ فلا مؤاخذةَ عليهم وهذه هي القاعدةُ المستنبطةُ من قوله تعالى : ومن قوله تعالى : فإن الله ( لا يعذِّبُ حتى يُشَرِّعَ ويأمرَ وينهى ، وهذا لم يكن قد جاء فيه النهيُ بعدُ ، فالرابطُ ما ذكرتُه ، والله تعالى أعلم .
جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم ، ونكتفي بهذا القدر من الدورةِ الليلةَ ، نسألُ الله ( أن يتقبلَ منا ومنكم صالحَ العمل ، ونفسحُ المجالَ الآن للأسئلة .
ـ أسئلة :
ما موقفُ المسلمِ مما يحدث الآن في العراق ، وهل هناك جهادٌ أم لا ؟ وما هو الضابطُ ؟(1/77)
الذي يحدث الآن في العراقِ لا نعرفُه بالضبطِ ؛ أقصدُ بذلك اللحظاتِ الحاليةَ وما تَمُرُّ به الأزمةُ الآن ، وأما الأصلُ وهو الحربُ القائمةُ على العراقِ فهي حربٌ صليبيةٌ تستهدفُ الإسلامَ والمسلمينَ ، وذكرنا ذلك عدةَ مرات ، ودَفْعُ هذه القواتِ الغازيةَ عن بلادِ المسلمينَ ومحاربتُهم وقتالُهم إنما هو جهادٌ في سبيلِ الله يُؤْجَرُ عليه صاحبُه بنيتِه ، فمن استطاعَ أن يجاهدَهم بنفسه ومالِه وما يمكنه فهو في سبيل الله بغضِ النظر عن حكومةِ البلادِ هل هي قائمةٌ أم غيرُ قائمةٍ وهل هي كافرةٌ أم غيرُ كافرةٍ ، وإنما العبرةُ كما قلتُ بنيةِ المجاهدِ الذي يجاهدُ للدفعِ ، لا شرطَ لجهادِ الدفعِ إطلاقاً ، فإن الجهادَ في حالِ الدفعِ لا يُنظَرُ فيه لشيءٍ غيرُ دفعِ المعتدي فقط بكل ما يملكُ المسلمُ ولو قاتَلَ وحدَه ، قال الله ( : ، وسيأتي تفصيلُ ذلك في بابٍ من الأبوابِ التي سنتعرضُ لها بالدورةِ إن شاء الله تعالى .
وأما ما يحدثُ الآن ، فأريد أن أنصحَ إخواني بنصيحة ؛
أولاً ، أمريكا وأذنابُها عليهم لعائنُ الله المتتابعةُ إلى يومِ القيامةِ استخدمتْ إجرامَها في دفنِ الإعلامِ ، وأصبح الإعلامُ في يدِها هي ، فليس هناك أيُّ مجالٍ لكي نعرفَ الحقيقةَ الآن بعدما حصلَ منهم من قتلٍ للصحفيين وترويعٍ لهم حتى تركوا أماكنَهم ، وأصبح الآن كلُّ ما يذاعُ وكل ما يعرفُ وكل ما يقال إنما هو من مصدرٍ واحدٍ فقط ، وهو ما تريدُه أمريكا . وإلا ما الذي دعاها إلى قتل الصحفيين وترويعِهم وتهديدِهم حتى أصبحوا يستغيثونَ للرجوعِ إلى بلادِهم . هذا أمرٌ لا بدَّ أن يوضعَ في الحسبانِ .
الأمر الثاني ؛ أن العراقَ ليست بغداد ، فبغدادُ منطقةٌ وبلدةٌ من عشراتِ المناطقِ والبلادِ داخلَ العراق ، لا نعرفُ شيئاً عن بقيةِ البلادِ .(1/78)
إذا كانت بغدادُ لا يوجدُ فيها شرطةٌ ولا مسؤولين ولا حكومةٌ ولا ولا .. فما الذي حصلَ في بقيةِ البلاد ؟ هل بقيةُ البلادِ لا يوجدُ فيها شرطةٌ الآن ولا يوجد فيها مسؤولون ولا أحدٌ من الجيش ؟ وأين ذهب صدامُ وأتباعُه ؟ وأين ذهبَ الجنودُ المدججةُ بالسلاحِ ؟ جيشٌ قوامُه سبعةُ ملايين رجل ، أين ذهبوا ؟ هل ابتلعتهم الأرضُ ؟ ثم أين هذه الأسلحةُ والعتادُ والآلافُ المؤلفةُ من الدباباتِ والمدرعاتِ والأسلحةِ الثقيلةِ ومضاداتِ الطائراتِ ؟ لا شكَّ أن الأمرَ فيه لعبةٌ كبيرةٌ .
وعلى كل حالٍ ، سواءٌ كان هناك اتفاقياتٌ سريةٌ وغيرُ ذلك فلا يعنينا ، بل المهمُ عندنا أن هؤلاءِ الكفارِ دخلوا إلى بلادِ الإسلامِ ويجبُ على المسلمينَ أن يحاربُوهم وأن يقاتلوهم حتى يُخرجُوا آخرَ واحدٍ منهم من ديارِهم أو يُدفَنوا في أرضِ المسلمين نكالاً لغيرهم . ونسألُ الله ( أن يُمَكِّنَ المسلمينَ من ذلك . والذين تَرَوْنَهم على شاشاتِ التلفازِ والقنواتِ هم عصابةٌ وقلةٌ من كلابِ الروافضِ ، وهم قلةٌ قليلةٌ لا يُمَثِّلون لا الشعبَ ولا الناسَ الذين يعيشون في بغدادَ ، وإنما بغدادُ بلدةٌ كبيرةٌ جداً فيها الملايين ، وهؤلاء العشراتُ الذين ظهروا هم حثالةُ ورعاعُ الناسِ ولا يمثلون شيئاً ، وإلى الآن لم تسقطْ بغدادُ وإنما الذي صُوِّرَ جانبٌ منها فقط ولن تسقطَ بإذنِ الله لأن القتالَ مستمِرٌّ . ولكم فيما يحصُلُ في أفغانستانَ الآن أكبرُ عبرةٍ وأكبرُ مثالٍ ؛ فإن طالبانَ قد تركوا كابُلَ للأمريكان فنزلوا لحتوفِهم ، وكلُّ يومٍ يُقتَلُ منهم العشراتُ ولم تَرَ أمريكا أماناً ولم يرَ حلفاؤُها في هذه البلادِ أماناً ، بل إن هذا الذي وضعوه المسمى كرزاي لم ينعَمْ بأمنٍ لحظةً ولم يملِكِ السيطرةَ حتى على أهلِ بيتِه الذي يسكُنُ فيه ، والله تعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(1/79)
ـ السؤالُ متكررٌ ، يا أخوان ؛ الجهادُ باتفاقِ العلماءِ ولا خلافَ فيه بأن جهادَ الدفعِ لا يلزمُ فيه أيُّ شرطٍ وإنما كلٌّ يدفَعُ بقدرِه وقوتِه ما يستطيعُه ، حتى المرأة حتى العبد وحتى الشيخ الكبير وكل من يسقط عنه جهادُ الطلبِ لا يسقط عنه جهادُ الدفع طالما أنه قادرٌ أن يفعلَ ، وليس هناك شيءٌ من الشروطِ في جهادِ الدفع ، ومن أراد مرجعاً في ذلك فعليه بكتاب الجهادِ من مجموعِ الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد نص على أن جهادَ الدفعِ لا يُشتَرَطُ فيه شرطٌ ، وهذا هو قولُ جميع العلماء لا أعلمُ أحداً يشترطُ شرطاً لجهادِ الدفعِ . والذي يَشترِطُ شرطاً لجهادِ الدفع أظنه لا يعي ما يقول ، لأنه لا يمكنُ أن يُشترَطَ شرطٌ لكي أدفعَ عن نفسي من أرادَ أن يستبيحَ أرضي وديني وعرضي . هذا هُراءٌ ، فالذي يَشترطُ لذلك شرطاً إنما يهذي ، والذين قالوا : لا يقاتِلُ تحت رايةٍ كفريةٍ إنما قالوا يقاتل تحتَ رايةِ نفسه ، فالمهم أنه لا بدَّ أن يقاتِلَ ويدفَعَ . ولا تُعتبَرُ المفسدةُ والهلاكُ في مثلِ حالِ القتالِ مع الأمريكان أو غيرهم ، لأن اعتبارَ المفسدةِ والهلاكِ هنا معناه أننا سنبقى عبيداً وأذلاءَ طوال حياتِنا ، وهذا لا يقولُ به عاقلٌ ، وإنما والله ( يقول : فالذي نستطيعُه هو الذي نُعِدُّه والنصرُ من عند الله والله تعالى يقول فنحن ننصرَ الله ( ولسنا ننتصرِ بعملنا وإنما ننتصر بالله ( وبإيماننا به ، وكما قال أبو الدرداءِ وذكرنا ذلك في المحاضرة السابقة ( إنما تقاتلون بأعمالكم ) فلنعملْ عملاً صالحاً ولْنُحاولْ أن نصدقَ مع الله ( ثم بعد ذلك ننتظرُ النصرَ من الله ، هذا هو الذي علينا . وأما المذلةُ وأما الانقيادُ وأما الخنوعُ والخضوعُ فهذا ليس من شِيَمِ المسلمِ وإنما هو دليلٌ على ضعفِ إيمانِه وعدمِ توكله على الله ( .(1/80)
ـ يا أخوان ، قليلٌ من الريحِ والغبارِ دمرَّتْ الجيش تدميراً لم يحلُموا به ، فكل إمكاناتِهم تعطلت بقليلٍ من الريحِ والغبارِ ، فلو أراد الله ( لسلَّطَ عليهم ريحاً لمدةِ أسبوعٍ أو عشرةِ أيام وتنظرون ما الذي يحصل لهذه القواتِ الهائلةِ ؛ فلا طائرةَ يمكنها أن تطيرَ ولا أجهزةَ ردارٍ تعملُ ، ولا قنابلَ ذكيةً بقي عندها شيء من الذكاء ، ونسأل الله تعالى النصرَ والتمكين .
ـ سؤال : جهادُ الدفعِ هل يجبُ على أهلِ البلدِ فقط أم لغيرهم كذلك ؟
جهادُ الدفعِ باتفاقِ العلماءِ يجب على أهلِ البلدِ أولاً ، فإن استطاعوا وإلا فيجب على من جاورَهم بصورةٍ دائريةٍ حولَهم حتى يستوعبَ جميعَ بلادِ المسلمين إن لم يستطِعْ أهلُ البلدِ الدفعَ أو من يليهم وهكذا
ـ استكمالاً لسؤال الأخ يقول : فالقولُ بوجوبِ التطوعِ للجهادِ في العراقِ غيرُ صحيحٍ إذاً ؟
هذا الكلامُ فيه تفصيلٌ : ففَتْحُ بابِ التطوعِ للجهادِ في العراقِ صحيحٌ ، فمن أرادَ أن يذهبَ فليذهب ويؤجَرُ إن شاء الله تعالى ، وإن قُتِلَ فنرجو له الشهادةَ وأجرَها إن شاء الله .
وأما الوجوبُ فلم يظهرْ إلى الآن عجزُ أهلِ العراقِ عن دفعِ هذا العدوانِ .
وأما استئذانُ الحاكمِ ، فإنه لا يُسْتأذَنُ في جهادِ الدفعِ وإنما يستأذن في جهادِ الطلبِ ، أو جهادِ الدفعِ إذا لم يكنْ واجباً . يعني : إذا كانت البلدُ التي وقع عليها الاعتداءُ قادرةً على الدفعِ فإن الذي تحت إمرةِ وليِّ أمرٍ من المسلمين معتبرةٍ ولايتُه فإنما يستأذنُ وليَّ الأمرِ .
الذي يذهبُ والبلدُ ليست بحاجةٍ إليه يستأذن ولي الأمر .
ـ السؤال حولَ من يفتحُ أرضَه لهؤلاءِ المستعمرينَ لضربِ إخوانِه المسلمين .
فهذا كما قلتُ أولاً بين أمرين :
إما أن يكونَ فاسقاً بهذا الفعلِ الذي يفعلُه إن كان متأولاً ، وهذا بيْنَهُ وبينَ الله ( .(1/81)
وإما والعياذُ بالله ، يكفُرُ ويخرجُ من الملةِ بمظاهرتِه للمشركينَ على المؤمنينَ إن كان يناصرُهم محبةً فيهم وموالاةً لهم وتفضيلاً لهم على المسلمين ، ونسأل الله السلامة .
ـ السؤال : ما حكمُ المسلمِ الذي يقاتِلُ مع الأمريكان ضدَّ المسلمين ؟ هل حكمُه مختلفٌ عمن يُعينُهم فقط بفتحِ أرضِه ؟
الجواب ؛ كلاهُما بنفسِ المنزلةِ ، وهما بين فاسقٍ وكافرٍ ، حسبَ اعتقادِه ونيتِه فيما يفعل .
ـ سؤال : هناك أناسٌ يقولون إن النبيَّ ( لم يقاتِلِ الكفارَ في مكةَ لأن المسلمينَ كانوا ضعفاءَ ، فلذلك ذهبوا إلى المدينة ، وبقي في المدينةِ حتى أصبحَ قوياً ثم بعدَ ذلك قاتلَ الكفارَ ، فنحن كذلك لا نقاتلُ الكفارَ حتى نكونَ أقوياءَ ؟
والجواب على ذلك ؛ أولاً ، النبي ( لم يقاتِلِ الكفارَ في مكةَ لأن الله ( لم يَشْرَعْ له القتالَ ، ولو كان الله ( شرع له القتالَ وجبَ عليه أن يقاتِلَ ولَقاتَلَ الصحابةُ رضي الله عنهم بغضِّ النظر عن الضعفِ وعدَمِه . ولكن الحكمةَ في عدمِ تشريعِ القتالِ في مكةَ متعلقةٌ بأمورٍ عدةٍٍ منها هذا الذي ذُكِرَ وهو الضعفُ ، ولكن بعدَ أن هاجرَ النبي ( إلى المدينة أصبحَ القتالُ واجباً وأذِنَ الله ( به ، ولم يربُطْ ذلك بقضية الضعفِ ، بل إن النبيَّ ( قاتَلَ بفئةٍ قليلةٍ فئةً كثيرةً بعتادِها وعدَّتِها كما فعل ببدرٍ ، فلو نَظَرَ إلى الضعفِ لما جازَ له أن يقاتِلَ ، ولكنه قاتَلَ على الرغم من الضعفِ الظاهرِ الذي كان للمسلمين بالنسبةِ لأعدائِهم من الكافرين .
وأيضاً ، استمرَّ النبيُّ ( على ذلك . فكونُ العربِ يقاتِلون الرومَ ويقاتلون الفرسَ كان هذا من عجائبِ الدنيا ، وقد تعجَّبَ جداً الفرسُ والرومُ كيف تجرأَ هؤلاء على أن يُفَكِّروا بمثلِ ذلك ، ولكن نصرهم الله ( بنصرٍ من عنده وتأييدٍ من تأييده ، وليس ذلك بعتادٍ وعُدَّةٍ وإنما بالإيمانِ والتوكلِ على الله ، والله تعالى أعلم .(1/82)
ـ سؤال : ما رأيُكم في مسألةِ أنه علينا أولاً العملُ على تصحيحِ العقيدةِ قبلَ الجهادِ ، فالمجتمعاتُ التي ينتشرُ فيها عبادةُ القبورِ وغيرُها من الشركياتِ يجبُ على الدعاةِ أن يُطَهّروها من تلكَ الأفكارِ أولاً . والسؤالُ الثاني ، هل يُشترَطُ على من يخرُج في جهادِ الدفعِ تحصيلُ علومِ الفريضةِ أولاً من صلاةٍ وزكاةٍ وتوحيدٍ وصومٍ ونحوِ ذلك ؟
الجواب : سيأتي هذا الكلامُ أثناءَ الدورةِ ولكن لا بأسَ أن نتعرضَ له على عَجَلٍ ، لأن هذا السؤالَ طويلٌ في الحقيقة .
أولاً ، بالنسبةِ لتصحيحِ العقيدةِ قبلَ الجهادِ ، لا شكَّ أننا نحرِصُ على ذلك ، وهذا يتعينُ في جهادِ الطلبِ ، وأما في جهادِ الدفعِ فالمطلوبُ دفعُ العدوِّ مباشرةً ولا يوجَدُ وقتٌ لتعليمِ العقيدةِ ومحاربةِ البدعِ ومثلِ هذه الأمور ، لأن الدينَ فيه أولوياتٌ ؛ فلا يتيسَرُ الوقتُ لدفعِ المعتدي وفي نفسِ الوقتِ النظرُ في أحوالِ الناسِ وما يقعون فيه من بدعٍ ومخالفاتٍ شرعيةٍ ، ولكن كلما تيَسَّرَ للشخصِ المدافعِ أن يُعَلِّمَ أحداً وجبَ عليه ذلك ، وأما أن يُوقَفَ جهادُ الدفعِ حتى يَعلَمَ الناسُ الشركياتِ التي يجب أن يجتنبونها ، فهذا من الهُراءِ الذي لا يقولُ به عاقلٌ ، كيف تريدُ أن تُعَلِّمَ شخصاً المخالفاتِ الشرعيةَ التي يقعُ فيها وكيف يعالجُها ، ورجلٌ كافرٌ متوجهٌ إليه يريدُ أن يقتلَه ويستبيح َعِرضِهِ . فهذا لا يقولُه عاقلٌ .(1/83)
وأما اشتراطُ تعلمِ علومِ الفريضةِ أولاً على من يخرجُ في جهادِ الدفعِ ، فهذا كذلك ليس بصحيح ، وإنما يكفيه أن يتعلمَ ما يتيسرُ له مما لا يتعارضُ مع جهادِ الدفعِ ، وكما ذكرنا في حديث الرجلِ الذي عمِل قليلاً وأُجِرَ كثيراً ، فقد جاء الرجلُ إلى النبي ( فأسلمَ ثم قاتَلَ مباشرةً ولم يتعلمْ حتى كيف يصلي ولم يتعلمْ شيئاً من أمورِ الدينِ ، وإنما قاتَلَ مباشرةً بمجردِ دخولِه في الإسلامِ لأنه في الصفِّ مع المسلمينَ ، وكذلك الذي يشهَدُ الشهادتينِ بمجردِ شهادتِه فهو يقاتِلُ في جهادِ الدفعِ ، ولو قاتَلَ وهو كافرٌ فحسابُه على الله ( في كفرِه ونحن نسعَدُ بقتالِه ودفعِه مع المسلمين إذا احتاجوا لذلك ، كما ذكرنا في حديثنا عن الاستعانةِ بالمشركين في المحاضرةِ السابقة ، والله تعالى أعلم .
المحاضرة الخامسة
( كرامةُ الشهيدِ وطلبُ الولدِ للجهادِ والشجاعةُ والتحديثُ بمشاهدِ الحرب )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ? وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب ظلُّ الملائكةِ على الشهيدِ .(1/84)
33 ـ حدثنا صدقةُ بنُ الفضلِ قال : أخبرنا ابنُ عُيَيْنَةَ قال : سمعتُ محمدَ بنَ المُنْكَدِرِ أنه سمعَ جابراً يقول : جيءَ بأبي إلى النبي ( وقد مُثِّلَ به ووُضِع بين يديه ، فذهبْتُ أكشِفُ عن وجهِهِ ، فنهاني قومي ، فسمعَ صوتَ نائحةٍ ، فقيل : ابنةُ عمرو ـ أو أختُ عمرو ـ فقال : " لمَ تبكي ، أو لا تبكي ، ما زالت الملائكةُ تُظِلُّهُ بأجنِحَتِها " . قلت لصدقة : أفيه : حتى رُفِعَ ؟ قال : ربما قاله
يقول الإمام البخاري رحمه الله : ( باب ظل الملائكة على الشهيد ) .
هذا البابُ استكمالٌ لفضائلِ الشهيدِ ، وقد سبقَ في الباب الماضي ما ذَكَرَ اللهُ ( مما أعدَّهُ للشهداءِ ، فمن ذلك أن الشهيدَ في الوقتِ الذي يُسْتَشْهَدُ فيه وهو ما زالَ في أوَّلِ لحظاتِ الآخرةِ تَنْزِلُ الملائكةُ وتُظِلُّهُ بأجنحتِها . وقد ذكرنا أن زوجتينِ من الحورِ العينِ تبتدرانه في نفسِ اللحظةِ التي يُستشهدُ فيها .
فهذا الحديثُ الذي ذكره الإمامُ البخاريُّ فيه هذا الفضلُ وهو ( إظلال الملائكة على الشهيد ) وهذا الإظلالُ لا شكَّ أنه من باب الفضلِ ومن باب التكريمِ والبشارةِ الطيبةِ التي يُبَشَّرُ بها أولَّ ما يُقبَضُ .(1/85)
وفيه يقولُ عن جابرٍ ( ( جيء بأبي إلى النبي ( وقد مُثلَ به ) يعني بأبيه : عبدَ الله بنَ عمروٍ بنِ حرام ومعلومٌ أنه استُشْهِدَ في غزوةِ أحد ، فجيء به إلى النبي ( وقد مُثّلَ به ، وقد ذكرنا هذا في الحديث المتعلقِ به قبلَ ذلك ، ( والمُثْلَةُ ) ، قلنا إنها : ما يفعلُه القاتلُ في القتيلِ من تشويهٍ كقطعِ أنفٍ ونحوِ ذلك ، فوُضِعَ بين يدي النبي ( ، فذهب جابرٌ يكشفُ عن وجهِ أبيه فنهاه قومُه ، ولعلَّ ذلك إرفاقاً به حتى لا يَرى هذه المثلةَ التي مُثل بها وجهُه . فسمعَ النبيُّ ( صوتَ نائحةٍ ، يعني : امرأةً تصيحُ . ( فقيل هي ابنة عمرو أو أختُ عمرو ) يعني : شكَّ الراوي هل هي ابنةُ عمرو أو أختُ عمرو . ( فقال : لم تبكي أو لا تبكي ) أيضاً شكَّ هل قال النبي ( لمَ تبكي أو قال لا تبكي ، ( ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها ) أي : لا داعي للبكاءِ لأن هناك سلوى تجعلُ المسلمَ كما قلنا يَتَصَبَّرُ ويتحمّلُ ، لأنه عندما يعلمُ الفضلَ العظيمَ الذي نالَهُ هذا الشهيدُ ، أو هذه الدرجةَ العاليةَ التي كتبها الله ( له يذهبُ ما في نفسِه من الحُزْنِ والأسى لفراقِه لأنَّ ما هو فيهِ خيرٌ مما كان فيه . ( قلتُ لصدقة : أفيه : حتى رفع ؟ ) يعني : الإمامُ البخاريُّ سأل صدقةَ بنَ الفضلِ : هل في الحديثِ لفظةُ حتى رفع ، قال : ربما قاله . يعني : شكَّ في هذه الروايةِ هل قال حتى رُفِعَ أم لا ، وهي ثابتٌة أيضاً في طُرُقٍ أخرى لهذا الحديثِ ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري : باب تمني المجاهِدِ أن يرجعَ إلى الدنيا .
34 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّار ، حدثنا غُنْدَرٌ ، حدثنا شعبةُ قال : سمعت قتادةَ قال : سمعت أنسَ بنَ مالكٍ ( عن النبي ( قال : " ما أحدٌ يدخلُ الجنةَ يُحِبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا وله ما على الأرضِ من شيءٍ ، إلا الشهيدُ يتمنى أن يرجعَ إلى الدنيا فيُقتلَ عشرَ مراتٍ ، لما يَرى من الكرامةِ " .(1/86)
هذا الحديثُ أيضاً في فضلِ الشهيدِ ، وبعضُ أهلِ العلمِ يَعتَبِرُ أن هذا أجَلُّ حديثٍ جاءَ في فضلِ الشهادةِ ، لأن مضمونَ الحديثِ يُفيدُ أنه ما من أحدٍ يتمنى أن يرجعَ إلى الدنيا ممن يدخلِ الجنةَ إلا الشهيد . لماذا ؟ لأنه يرى من كرامةِ الله ( أمراً عظيماً جداً فيتمنى أن يموتَ مراتٍ ومراتٍ في سبيلِ الله لعل هذا الفضلُ العظيمُ والخيرُ الجزيلُ يتضاعفُ له ، وإلا فكلُّ شخصٍ يدخلُ الجنةَ يزهدُ في هذه الدنيا وما يرغبُ أن يعودَ فيها ولو أُعْطِيَتْ له بحذافيرِها .
فيقولُ البخاريُّ رحمه الله ( باب تمني المجاهدِ أن يرجعَ إلى الدنيا ) يعني بالمجاهدِ : الشهيدَ لأن الحديثَ في الشهيدِ .
يقول أنسٌ عن النبيِّ ( ( ما أحدٌ يدخلُ الجنةَ يحب أن يرجعَ إلى الدنيا وله ما على الأرضِ من شيءٍ إلا الشهيدَ يتمنى أن يرجعَ إلى الدنيا فيُقتَلُ عشرَ مراتٍ ، لما يرى من الكرامةِ ) ، وقد ذكرنا قبلَ ذلك أن النبيَّ ( وهو مَنْ هو تَمَنّى أن يُقتَلَ في سبيلِ الله ثم يُحيا ثم يُقتل ثم يُحيا ثم يُقتل وقد حدثَ هذا مع عبدِ الله والدِ جابرٍ فإن الله ( كلَّمَه كِفاحاً يعني : بدون واسطة ، وقال له ( يا عبدَ الله تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ ، فقال : يا ربِّ تُحْيِيني فأقتلُ فيك ثانيةً ، فقال : إنه قد سَبَقَ مني أنهم إليها لا يُرجَعون ) فهذا فضلٌ عظيمٌ للشهيدِ ومنزلةٍ عاليةٍ ، نسألُ اللهَ ( أن يجعلَنا جميعاً من الشهداءِ في سبيلِه ، والله تعالى أعلم .
قال البخاريُّ رحمه الله :
باب الجنةِ تحتَ بارقَةِ السُّيوفِ .
وقال المغيرةُ بنُ شعبةَ : أخبرنا نبيُّنا ( عن رسالَةِ ربِّنا : " مَنْ قُتِلَ منا صارَ إلى الجنةِ " . وقال عمرُ للنبيِّ ( : أليسَ قتْلانا في الجنةِ وقتلاهُم في النارِ ؟ قال : بلى .(1/87)
35 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ محمد ، حدثنا معاويةُ بنُ عمروٍ ، حدثنا أبو إسحاقَ ، عن موسى بنِ عقبةَ ، عن سالمٍ أبي النضرِ مولى عمرَ بنِ عُبيدِ الله ـ وكان كاتبَه ـ قال : كَتَبَ إليه عبدُ الله بنُ أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسولَ الله ( قال : " واعلموا أن الجنةَ تحتَ ظلالِ السُّيوفِ " .
تابعه الأُوَيْسيُّ عن ابنِ أبي الزنادِ عن موسى بنِ عُقبةَ .
هذا الحديثُ في فضلِ الجهادِ في سبيلِ الله ، وهو متضَمِّنٌ أيضاً لفضلِ الشهادةِ ، لأن وجودَ المجاهدِ تحتَ بارقةِ السيفِ أو تحتَ ظلِّ السيفِ يترتَّبُ عليه كثيراً أن يُقتَل في سبيلِ الله .
ولأجلِ هذا بعدما ذَكَرَ الإمامُ البخاريُّ رحمه الله عنوانَ البابِ عَلَّقَ روايتينِ وصلَهُما في غيرِ هذا الموضِعِ من نفسِ الصحيحِ ، فذكرَ قولَ المغيرةِ ( أخبرنا نبيُّنا ( عن رسالةِ ربِّنا : " من قُتِلَ منا صارَ إلى الجنة " ) وذكر قولَ عمرَ ( أليس قتلانا في الجنةِ وقتلاهم في النار ؟ ) سألَ النبيَّ ( ذلك ، فقال له : بلى . فذكَرَ القتلَ هنا والعنوانُ ليس فيه القتلُ ، ولكن كما قلتُ : العنوانُ يتضمنُ حصولَ القتلِ .
ومن بلاغَةِ النبيِّ ( أنه قال ( الجنةُ تحتَ ظلالِ السيوف ) ولا يكون الشخصُ مظلَّلاً بالسيوفِ إلا إذا غَمَسَ نفسَه في ساحةِ القتالِ وأصبحتِ السيوفُ من كثرَتِها فوقَ رأسِه كأنها تُظِلُّه . وهذا حثٌ على بذلِ النفسِ في سبيلِ الله ، والحرصِ على الشهادةِ ، والشجاعةِ وعدمِ الجُبْنِ .
وقولُه ( الجنة تحت بارقة السيوف ) في عنوانِ البابِ ، يشيرُ إلى حديثٍ جاء بنحوِ هذا اللفظِ
( وبارقةُ السيوف ) أي : لَمَعانُها ، من البريق .(1/88)
وقولُه ( من قتل منا صار إلى الجنة ) وقول النبي ( لعمرَ ( بلى ) لما سأله ( أليس قتلانا في الجنة ) أخذ منه أهلُ العلم أنه يُطلَق على قتلى المسلمينَ بصفةٍ عامةٍ أنهم في الجنة ، وهذه بشارةٌ طيبةٌ ، ولكن يُحذَرُ من وصفِ شخصٍ بعينه أنه في الجنةِ لأنه ليس من منهجِ أهلِ السنةِ والجماعةِ أن يُقطَعَ لمعيَّنٍ بالجنةِ ولكن يُرجى له ، فيُرجى لكل من قُتِلَ في معركةٍ للمسلمينَ أن يكونَ من أهلِ الجنة ولكن لا يُجزَمُ له بذلك وإنما يُحكَم على وجهِ العموم أن قتلى المسلمينَ في الجنةِ بإذن الله تعالى .
ثم ذكر هذا الحديثَ الذي فيه أن عبدَ الله بنَ أبي أوفى كتبَ إلى عمرَ بنِ عُبيد الله حديثاً طويلاً ذكر منه البخاريُّ هذا الجزءَ مقتصراً عليه وسوف يأتي بطولِه إن شاء اللهُ ( ونتكلمُ عليه في موضعه . وفيه ( واعلموا أن الجنة تحت ظلالِ السيوف ) ، وفيه حثُّ النبيِّ ( للمسلمينَ على الجهادِ في سبيلِ الله .
يقول هنا ( تابعه الأويسي) ، الأويسيُّ : من مشايخِ الإمامِ البخاريِّ ، ويعني بذلك متابعةَ عبدِ الله بن محمدٍ عن معاويةَ بنِ عمروٍ ، وذكر أنه تابعه عن ابنِ أبي الزنادِ عن موسى بنِ عقبةَ ، فالتقى الإسنادُ في موسى بنِ عقبةَ الذي رواه عن سالمٍ أبي النضر . وسالمٌ أبو النضرِ كان مولىً لعمرَ بنِ عبيدِ الله وكان يكتب له فَوَصَلَهُ هذا الكتابُ فلعله كان هو الذي قرأه لمولاهُ أو مولاه حدثَه به . فإذا كان قرأه في الكتاب فهذا يُسميه أهلُ العلمِ ( الوِجادَةَ ) ، والوجادةُ معتبرةٌ على الأرجحِ في الروايةِ وفي تَحَمُّلِ الحديثِ ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من طلبَ الولدَ للجهادِ .(1/89)
36 ـ وقال الليثُ : حدثني جعفرُ بنُ ربيعةَ ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ هُرْمُز قال : سمعتُ أبا هريرة ( عن رسولِ الله ( قال : " قال سليمانُ بنُ داودَ عليهما السلام : لأطوفَنَّ الليلةََ على مائةِ امرأةٍ ـ أو تسعٍ وتسعينَ ـ كلُّهنَّ يأتي بفارسٍ يجاهدُ في سبيلِ الله . فقال له صاحبُه : قل إن شاء اللهُ ، فلم يقلْ إن شاء الله ، فلم تحمِلْ منهنَّ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بِشِقِّ رَجُلٍ . والذي نفسُ محمدٍ بيده لو قال إن شاء اللهُ لجاهدوا في سبيلِ الله فرساناً أجمعون " .
هذا الحديثُ دليلٌ على عِظَمِ فضلِ الجهادِ أيضاً ، فإنه يَحُثُّ على أن تكونَ النيةُ للمسلمِ الحقِّ أن يطلبَ الولدَ لكي يكونَ مجاهداً في سبيل الله ، فيكون بذلك قد قَدَّمَ ولدَه في أفضلِ ما يُحِبُّ اللهَ ( ، ولنا في نبي الله سليمانَ أسوةٌ في هذا الأمرِ . والنبي ( عندما ذكر ذلك إنما ذكره في معرِضِ المدحِ ومعرضِ الثناءِ ، وكما قلنا في شرعِ من كان قبلَنا : الصوابُ أن شرعَ من كان قبلَنا يُعتبَرُ شرعاً لنا طالما أنه لم يخالِفْ شرعَنا ولم يأتِ ما ينسَخُه من كتابِ ربِّنا وسنةِ نبينا ( ، فإذا ثبتَ أنه كان شرعاً لمن كان قبلَنا وسيقَ مساقَ المدحِ ولم يخالِفْ ما وردَ لنا فإنه يُعتبَر شرعاً لنا ، والله تعالى أعلم .
وذكر هنا حديثاً وهو أيضاً من المعلَّقاتِ ، وفيه ( وقال الليثُ ) ، وقد وصلَ هذا الحديثَ الإمام أبو نُعيمٍ في مستخرَجِه على الصحيح ، والحديثُ ثابتٌ والحمد لله .(1/90)
يقول فيه النبيُّ ( : إن سليمانَ بنَ داودَ عليهما السلام قال ذاتَ ليلةٍ : لأطوفَنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ ، وكان عليه السلامُ له من الأزواجِ والجواري ما يبلُغ هذا العددَ ، وقيل : كان له ألفُ امرأةٍ ، ولكن الذي ثبت هنا أنه لديه مائةُ امرأةٍ ، فاللهُ أعلمُ هل تثبتُ البقيةُ أم لا تثبتُ ، فلم يأتِ نصٌّ صحيحٌ يُدَلِّلُ على ذلك ( أو تسعٍ وتسعين ) هكذا شكَّ الراوي ، هل قال : ( مائةِ امرأةٍ ) أم قال : ( تسعٍ وتسعين ) . ثم قال ( كلُّهن تأتي بفارسٍ يجاهدُ في سبيلِ الله ) لا شكَّ أن هذه أمنيةً منه عليه السلام ، فليس شرطاً أنه إذا أتى أهلُه أن يَكتُبَ اللهُ حملاً في هذه الليلةِ ثم يكونُ هذا الحملُ مجاهداً في سبيل الله ، ولكنه كما قلنا إنَّ من عبادِ الله من لو أقسمَ على الله لأبَرَّهُ ، فلعله أرادَ بهذه النيةِ الصالحةِ أن يتقبلَ الله ( ذلك ويُحَقِّقَ له هذه الأمنيةَ العظيمةَ أن يُقَدِّمَ من ولدِهِ مائةَ فارسٍ يقاتلُ في سبيل الله . ( فقال له صاحبُه ) أي : الملكُ الذي يكونُ معه ، فكلُّ نبيٍّ له صاحبٌ من الملائكةِ يأتيهِ بالوحي ( قل إن شاء الله فلم يقلْ إن شاء الله ) ، يقول أهلُ العلم : لم يقلْ نسياناً كما جاء في بعضِ الرواياتِ ، وقد يكونُ عليه السلامُ لم يقل إن شاء اللهُ لأنه إنما أرادَ شيئاً تعبدياً محضاً ؛ أن يكونَ هؤلاء الأولادُ كلهم يجاهدون في سبيل الله ، فلم يعلقْ ذلك بالمشيئةِ لهذه الحيْثِيَّة ، ولكن أراد الله ( أن يُعَلِّمَه درساً كما علم نبيَّنا ( ؛ فإن النبيَّ ( عندما جاءه اليهودُ وسألوه عن أصحابِ الكهف وبقية الأسئلة لم يقل : إن شاء الله ، وقال : " أخبركم غداً " ، فنزل قولُ الله ( : ، فلم تحمِلْ امرأةٌ من هؤلاءِ النسوةِ إلا امرأةٌ واحدةٌ منهن كلِّهن ( جاءت بشق رجل ) حملَت وجاءت بطفلٍ مُشَوَّهٍ غيرِ كامل ، وجاء في بعضِ الآثار التي رُويَتْ في هذه المسألةِ أن هذا الشقَّ عاش وكان(1/91)
يجلسُ عند سليمانَ عليه السلام وكان يحبه . ثم يقول النبي ( : ( والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ) وهذا من الوحيِ الذي أوحاه الله ( لنبينا ( ، فإنه لا أحدَ يستطيعُ أن يعرفَ ذلك إلا بوحي .
وفي ذلك أن الله ( يؤتي أنبياءَه ما أحبُّوا وما تمنَّوا كرامةً منهم عليه ؛ فإن حملَ مائةِ امرأةٍ في ليلةٍ واحدةٍ كلهن يحمِلْنَ بذكورٍ وكلُّ هؤلاء الذكورِ يكونون من المجاهدينِ في سبيل الله هو أمرٌ خارقٌ للعادةِ ، ولكن الله يفعل ما يشاء .
بقيت نقطةٌ تتعلق بهذا الحديث ؛ البعضُ فَسَّرَ قولَ الله ( : بهذا الحديث ، وهذا التفسيرُ مرجوحٌ عند جمهورِ أهلِ العلم وإنما الآيةُ متعلقةٌ بقِصَّةٍ من الإسرائيليات التي تلقاها علماءُ السلفِ بالقبولِ وفَسَّروا بها كتابَ الله ( . وهذا ضابطٌ لقبولِ روايةِ الإسرائيليات ؛ إذا قبلَها السلفُ فمعناها أنها مما يجوزُ أن يُحدَّثَ به وأن يفسَّرَ به كتابُ الله ( .
والقصةُ في مضمونِها أن شيطاناً أخذَ الخاتَمَ الذي كان يلبسُه سليمانُ عليه السلام والذي يتحكمُ به بالإنسِ والجنِ والطيرِ ، فعندما أخذ هذا الخاتمَ سُلِبَ من سليمانَ عليه السلامُ ملكُه ، وجلس هذا الشيطانُ متمثلاً في صورةِ سليمان على كرسِيِّهِ ، ثم ردَّ اللهُ ( على سليمانَ الخاتَمَ وعاد له ملكُه وهربَ هذا الشيطانُ وعاقبه سليمان . وتفاصيلُ القصةِ فيها مقالٌ لأنها لا تثبُت إلا بمجموعِ طُرُقِها وكما قلتُ هذا التفسيرِ هو الذي رجَّحَهُ علماءُ المفسرين من الكبارِ كالإمام الطبري ونحوه ، وعليه فسلفُ الأمة لم يفسروا الآيةَ إلا بهذه الروايةِ ولم يفسروها بهذا الحديث ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب الشجاعة في الحرب والجبن .(1/92)
37 ـ حدثنا أحمدُ بنُ عبدِ الملك بنِ واقدٍ ، حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ ، عن ثابتٍ ، عن أنسٍ ( قال : " كان النبيُّ ( أحسنَ الناسِ وأشجعَ الناس وأجودَ الناس . ولقد فَزِعَ أهلُ المدينة ، فكان النبي ( سَبَقَهم على فرسٍ وقال : وجدناه بحراً " .
38 ـ حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيبٌ ، عن الزهري قال : أخبرني عمرُ بنُ محمدِ بنِ جبير بن مُطعِم أن محمدَ بنَ جُبير قال : أخبرني جُبيرُ بنُ مطعمٍ أنه بينما هو يسيرُ مع رسولِ الله ( ومعه الناس مَقفَلُهُ من حُنَين ، فَعَلِقَتِ الناسُ يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرَةٍ فخطفت رداءَه ، فوقف النبي ( فقال : " أعطوني ردائي ، لو كان لي عددُ هذه العِضاهِ نَعَماً لقسمتُه بينَكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً "(1/93)
حديث الباب الأول ، وهو عن أنسٍ ( فيه وصفُه للنبي ( بأنه كان أحسنَ الناس وأشجعَ الناس وأجودَ الناس ، ولا شكَّ أن النبي ( اجتمعتْ فيه صفاتُ الحُسْنِ والكمالِ البشري كله ، ومن ذلك الشجاعة والبابُ يتكلمُ عن الشجاعةِ والجبنِ في الحربِ ، والنبي ( يقول : " المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيفِ " ، ولا شكَّ أن الجبنَ من أنواعِ الضعفِ والخَوَرِ . فالمؤمنُ القوي يكون شُجاعاً مِقْداماً لأنه متوكِّلٌ على الله ( ومعتمِدٌ عليه في كلِّ أموره ، ويعلمُ أن ما أصابَه لم يكن ليخطِئَه ، وما أخطأه لم يكون ليصيبَه . فالنبي ( كان أشجعَ الناس ، ومن الأمثلةِ التي حَدَثَتْ وتدلُّ على شجاعتِه التامة عليه الصلاة والسلام ؛ أن أهلَ المدينةِ سمعوا هَيْعَةً أو فزعةً في ليلةٍ من الليالي فقَبْلَ أن ينتبِهَ الناسُ ويبدأوا في الاستعدادِ والخروجِ كان النبي ( قد ذهب ونظر الأمرَ ورجعَ لهم وطَمْأَنَهُم ، وسوف يأتي هذا الحديثُ مرةً أخرى بطوله . فلما سمع النبي ( ذلك وَجَدَ فرساً عُرياً ـ لا سرجَ عليه ـ فركبه من دون سَرْجٍ وذهب فنظر فوجدَ أنه لا خوفَ على أحدٍ ، فرجع وطمأنهم ثم قال ( إن وجدناه لبحراً ) يعني بذلك : أن الفرسَ فرسٌ قويٌّ سريعُ الجرْيِ ، وبذلك يوصَفُ الفرسُ الذي يكون واسعَ الخطوة بأنه بَحْرٌ .(1/94)
ثم ذكر حديثَ جُبيرِ بنِ مُطعم وفيه أنه كان يسيرُ مع النبي ( وكان الناسُ معه عندما قَفَلَ من حنين ، يعني : رجع من غزوةِ حنين ، وكان النبي ( قد مَنَّ الله عليه بالغنائِمِ ، فعلِقَ به الناس يسألونه يريدون منه أن يعطيَهم ، حتى من كثرتِهم عليه اضطروه إلى سمرة ، يعني : ضاق عليه الطريقُ حتى وصلَ إلى سمرة ، ( والسمرة ) واحدة السَّمُر وهو الشجرُ ذو الشوك ـ نوعٌ من الشجرِ له شوكٌ يكون بالبوادي ـ فلما اضطروه إلى هذه السمرة خطفت رداءه ، أي : علِقَ رداءَه ( بأشواكِ هذه الشجرة ، فوقف النبي ( وقال : ( أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العِضاه ) والعِضاه : جمع عَضاه ، وهي الأشجارُ ذاتُ الشوكِ التي تكون في الصحراءِ ، فيقول : لو كان عندي عددُ هذا الشجرِ الكثيرِ الذي يملأ البرية ( نعماً ) أي : إبلاً ونياقاً عظيمةً وجميلة ( لقسمتُه بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً ) . ولا شكَّ أن هذه الصفاتِ مُنَزَّهٌ عنها ( ، والشاهدُ فيها قولُه ( ولا جباناً ) ، لأن الجبنَ صفةٌ رديئةٌ مذمومةٌ يَتَنَزَّهُ عنها النبيُّ ( وخيارُ المؤمنين .
وفي ذلك الحثُّ للمؤمنين أن يكونوا في جهادهم وقتالِهم شجعاناً لا يخشَوْنَ في الله لومةَ لائمٍ ، ولا يُرْهِبُهُم عدوُّهم ، وإنما يقدمون كأنما يريدون الموتَ ، فإن من طلبَ الموتَ وُهِبَتْ له الحياةُ .
والنبيُّ ( مثالٌ للقائدِ الذي يتقدمُ الصفوفَ لا يكونُ في المؤخِّرةِ يحمي نفسَه بغيره ، وإنما يتقدمُ على جنودِه . وهذا درسٌ للمؤمنين جميعاً ولقوادِهم على وجهِ الخصوص ؛ أن يكونوا هم المثالَ الذي يُحْتَذَى في الشجاعةِ و أن يكونوا المثالَ الذي يُحتَذى في بذلِ النفسِ في سبيلِ الله ( . وكان عليٌّ ( يقول : ( إن النبي ( كان إذا حَمِيَ الوطيسُ كان الناسُ يتقونَ به وإن الشُّجاعَ الذي يُحاذي به عليه الصلاة والسلام ) .
قال البخاري رحمه الله :
باب ما يُتَعَوَّذُ من الجُبن .(1/95)
39 ـ حدثنا موسى بنُ إسماعيلَ ، حدثنا أبو عوانةَ ، حدثنا عبدُ الملكِ بنُ عُمَيرٍ ، سمعتُ عمروَ بنَ ميمونَ الأَوْدِي قال : " كان سعدٌ يُعّلِّمُ بَنِيهِ هؤلاءِ الكلماتِ كما يُعَلِّمُ المعلمُ الغِلمانَ الكتابةَ ويقولُ : إن رسولَ الله ( كان يتَعَوَّذُ منهنَّ دُبُرَ الصلاةِ : اللهم إني أعوذُ بك من الجبنِ ، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمُرِ ، وأعوذ بك من فتنةِ الدنيا ، وأعوذ بك من عذابِ القبر ، فحدَّثْتُ به مُصعباً فصدَّقَه " .
40 ـ حدثنا مسددٌ ، حدثنا معتَمِرٌ قال : سمعتُ أبي قال : سمعتُ أنسَ بنَ مالكٍ ( قال : كان النبيُّ ( يقول : اللهم إني أعوذُ بك من العَجْزِ والكَسَلِ ، والجُبنِ والهَرَمِ ، وأعوذ بك من فتنةِ المحيا والمماتِ ، وأعوذ بك من عذابِ القبرِ " .
هذا البابُ مناسبٌ للبابِ السابقِ ، لأن البابَ السابقَ يتكلمُ عن الشجاعةِ والجبنِ ، وبَيَّنَ فيه أن المؤمنَ الذي ينبغي له أن يكونَ شُجاعاً ، وأن الشجاعةَ صفةُ من صفاتِ المؤمنينَ ، والنبيُّ ( هو أسوتُهم في ذلك . فكان هذا البابُ تكميلاً للبابِ السابقِ ، لأنه قد يُبتَلى الشخصُ بشيءٍ من الجبنِ فيُعتَبَرُ ذلك من المرضِ أو من المصيبةِ أو من البلاءِ الذي عليه أن يعالِجَه ، فكيف تكون طريقةُ العلاجِ ؟(1/96)
هذا البابُ يصفُ ذلك ، وهو اللجوءُ إلى الله ( الذي قَسَّمَ الأخلاقَ كما يُقسِّمُ الأرزاقَ ، فكان التعوذُ من هذا الداءِ هو الطريقُ للتخلصِ منه . ثم ذكر فيه أن سعدَ بنَ أبي وقاص ( حسبَ ما ذَكَرَ ذلك عنه عمروُ بنُ ميمونٍ الأوديُّ رحمه الله ، أن سعداً كان يُعلِمُ بنيهِ هذه الكلماتِ ويحرصُ على تعليمهم إياها . وهذا أيضاً يجعلُنا نحرصُ على ذلك تأَسِّياً بهذا الصحابيِّ الجليلِ خالِ النبي ( مستجابِ الدعوةِ ، فكان يعلم بنيه هذه الكلماتِ كما يعلم المعلمُ الصبيانَ في الكُتّابِ ، يعني : يكرِّرُ ذلك عليهم تكريراً كثيراً حتى يحفَظوا ذلك منه ويحرِصوا على ذكره . وهذه الكلماتُ كان النبيُّ ( يتعوذ منهن دُبُرَ الصلاة . و ( دبرُ الصلاة ) تُطلَقُ على ما يكون قبلَ التسليمِ ، وتطلقُ على ما يكون بعدَ التسليمِ . فإن دبرَ الشيءِ يكون قِسماً منه ودبر الشيءِ يكون ما يتبعه وما يعقبه . وهنا الذي يظهرُ أنها من الدعواتِ التي كان ( يدعو بها قبلَ التسليم ، فإنه قد حثَّ على ذلك وقال للصحابةِ إن ذلك الموضعَ يتخيَّرُ فيه المسلمُ أحبَّ وأقربَّ ما يدعو به إلى نفسه فقال : " فليتخيرْ من الدعاءِ أعجبَه إليه " .(1/97)
فكان رسول الله ( يقول ( اللهم إني أعوذ بك من الجبن ) فكان يستعيذُ من هذا الداءِ ، وهذا هو الشاهدُ في البابِ ، وكذلك كان يعطِفُ عليه الاستعاذةَ من أمورٍ أخرى مذمومةٍ ، فيقول : ( وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمُرِ ) ، والمرءُ إذا رُدَّ إلى أرذلِ العمر كما ذكر الله ( يُصبح لا يَعلَمُ من بعد علمٍ شيئاً . والمقصودُ بأرذل العمر إذا كبر الشخصُ وضاع عقلُه وخَرِفَ فهذا الذي يُستعاذ منه ، وأما من طالَ عُمُرُه وحسُنَ عملُه فهذا من خيرِ الناس كما جاء في الحديث . ثم يقول : ( وأعوذ بك من فتنة الدنيا ) لأن الدنيا حلوةٌ خَضِرَةٌ كما ذكر النبيُّ ( وفتنتُها عظيمةٌ ، فكان يستعيذُ من فتنة الدنيا . ويستعيذُ أيضاً من عذابِ القبرِ كما قال النبي ( : " إن هذه الأمةَ تبتُلى في قبورِها " ، فكان يُكثِرُ من الاستعاذةِ من عذابِ القبر . وعذابُ القبرِ واقعٌ حقيقةً وهذا اعتقادُ أهلِ السنةِ والجماعة ، ومن خالفَ في ذلك فهو من المبتدعةِ مخالفٌ لعقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعة .
ثم يقول ( فحدثت به مصعباً فصدقه ) ، يعني : مصعبُ بنُ سعدٍ صدَّقَ عمروَ بنَ ميمون الأودي فيما ذكر أن سعداً كان يحرصُ على تعليمِ بنيه ذلك .(1/98)
ومصعبٌ من أولادِ سعدٍ ( ، وقد رَزَقَ اللهُ سعداً عدداً كبيراً من الأولادِ والبنات ، وهذا من تطبيقِه للسنةِ وحِرْصِهِ على أن يَكْثُرَ نسلُه كما حثَّ على ذلك النبيُّ ؛ فإن النبي ( يباهي بأمته ويكاثرُ الأممَ يوم القيامة بكثرة أمته . فذُكر أن سعداً كان له من أبنائه الذكورِ أربعةَ عشر ولداً ، وله من الإناثِ سبع عشرة أنثى ، ولا شكَّ أن ذلك في ميزانِ حسناته ، وندعو الإخوةَ والأخواتِ أن يجابِهوا الدعواتِ الباطلةَ التي تدعو إلى تنظيمِ النسلِ وإلى تحديدِ النسل وإلى تقليلِ النسل ونحوِ ذلك لأن هذه مضادةٌ لسنة النبي ( ومخالِفةٌ لما كان عليه سلفُنا الصالحُ ، وتخيلوا لو أن كلَّ واحدٍ منا قَتَلَ كافراً وماتَ لكان ذلك كافياً لرفعةِ الإسلامِ ، كلما كَثُرَ عددُ المسلمين كلما زادت قوتُهم ، وهذا خيرٌ وفضلٌ عظيمٌ . وقد سبق في الحديث السابق كيف أن سليمانَ عليه السلام كان يطلب مائةَ ولدٍ في ليلةٍ واحدة ولكن ليكونوا مجاهدين في سبيل الله . وكذلك سعدٌ ( كان مهتَماً بأبنائه ؛ يعلِّمُهم السنةَ ويعلمهم الدينَ ويعلمهم الاقتداءَ بالنبي ( ، وهذا هو المرادُ أن الشخصَ إذا رزقه الله الذريةَ أن يحرِصَ على تعليمهم الخيرَ وتربيتهم التربيةَ الصحيحةَ ، وليس الحرصُ فقط على الطعامِ والشراب وأمورِ الحياة ، وإنما عليه بالحرصِ أولاً على الدين لأنه رأسُ مالِ المرءِ .(1/99)
ثم ذكر حديثَ أنسِ بنِ مالكٍ وفيه أن النبيَّ ( كان يستعيذُ من العجزِ والكسلِ . وقال العلماء : إن الفرقَ بين العجزِ والكسل ؛ أن العجزَ هو أن يكون الشخصُ ليس قادراً على فعلِ الشيء ، وأما الكسلُ أن يكون قادراً ولكنه يتركُ الفعلَ كَسَلاً ، فهذا هو الفرقُ بين العجزِ والكسلِ ، وكلاهما مذمومٌ ولا يريدُه الشخصُ لنفسه . ثم يقول ( ومن الجبن والهرم ) وهذا هو الشاهدُ ؛ قوله ( الجبن ) ، وأما ( الهرم ) فهو الكِبَرُ وهو يساوي ما ذكر من الاستعاذة من الردِّ إلى أرذلِ العمر .
ثم قال ( وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ) ، ففتنةُ الدنيا ذكرناها لأن الدنيا هي فتنةٌ وغَرورةٌ كما ذكر الله ( في كتابه . وأما فتنةُ المماتِ فهو ما يحصُلُ عند الاحتضارِ ؛ فإن من أَحْسَنَ الظنَّ بالله لَقِيَ اللهَ ( على خير ، والنبي ( يقول : " لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ الظنَّ بربِّه " ، والشيطانُ يأتي للإنسانِ قبل وفاتِه يريدُ أن يُغْوِيَهُ ، وهذه اللحظةُ هي أحلَكُ اللحظاتِ ولذا يقول النبي ( : " من كان آخرُ كلامه لا إله إلا الله دخل الجنةَ " . نسأل الله ( حسنَ الخاتمةِ وأن يرزقَنا هذه الكلمةَ في آخر حياتِنا وأن يختمَ لنا بها ، والله سبحانه وتعالى وليُّ ذلك . ثم يقول ( وأعوذ بك من عذاب القبر ) وهو مثلُ ما وَرَدَ في الحديث السابق ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري :
باب من حدَّثَ بمشاهِدِهِ في الحربِ . قاله أبو عثمان عن سعد .
41 ـ حدثنا قتيبةُ بنُ سعيدٍ ، حدثنا حاتمٌ ، عن محمدِ بنِ يوسفَ ، عن السائبِ بنِ يزيدَ قال : " صحِبْتُ طلحةَ بنَ عبيدِ الله وسعداً والمقدادَ بنَ الأسود وعبدَ الرحمن بنَ عوف رضي الله عنهم ، فما سمعتُ أحداً منهم يحدث عن رسول الله ( ، إلا أني سمعت طلحةَ يحدثُ عن يومِ أحد " .(1/100)
في هذا الباب يذكر الإمامُ البخاريُّ من تَحَدَّثَ بمشاهده في الحربِ ، وذلك لأن الحديثَ عن المشاهدِ التي تَمُرُّ بالمسلمِ في الحربِ قد يكون فيها شيءٌ من الرياءِ ، وقد يكون فيها الحثُّ والتحديثُ بنعمةِ الله ، فهناك من يحدِّثُ رياءً وتسميعاً ، وهناك من يحدث من باب التشجيعِ للآخرينَ وإثارةِ الشوقِ في نفوسهم إلى الجهادِ في سبيل الله ، فهل يُمنَعُ ذلك أم يسمحُ به ؟ هذا هو المقصدُ من سَوْقِ هذا البابَ .
( قاله أبو عثمان عن سعد ) يعني بأبي عثمان : أبو عثمانَ النهدي ، وهو مِنَ المُخَضْرَمِين من التابعينَ ، وكان في حياةِ النبي ( ولم يُكتَبْ له لقاءُ النبي ( ، فحدَّث عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ في قوله ( إني لأوَّلُ من رَمى بسهمٍ في سبيل الله ) ، وسوف يأتي هذا الحديثُ ، فإن سعداً ( هو أولُّ مسلمٍ رمى بسهمٍ في سبيل الله . فهذا دليلٌ على أن من الصحابةِ رضي الله عنهم من كان يُحَدِّثُ بمشاهدِه ، فليس في ذلك حرجٌ إذا خلا من الرياءِ والعجبِ . ويتأكد استحبابُ ذلك إذا كان فيه كما قلتُ تشويقاً للآخرينَ إلى الجهادِ في سبيل اللِه وحثاً على ذلك .
ثم ذكر فيه حديثَ السائبِ بن يزيدَ ، وهو من الصحابةِ ، والنبيُّ ( رقاه بالفاتحةِ عندما جاءت به أمه إليه وهو وَقِِعٌ ـ أي : به وجَعٌ من رجلِه ـ فرقاه النبي ( بالفاتحةِ ، فهو من صغارِ الصحابةِ ويروي عن كبارِهم أمثالِ طلحةَ بنِ عُبيد الله وسعدٍ والمقدادٍ بن الأسود وعبدٍ الرحمن بن عوف وهم من كبارِ الصحابة والسابقين .(1/101)
ثم يقول ( صحبت هؤلاء فما رأيت أحداً منهم يحدث عن رسول الله ( ) ؛ هذا من حيطةِ هؤلاءِ الصحابةِ ، وكثيرٌ من الصحابة كانوا لا يُحدِّثون عن النبي ( خشيةَ النقصِ أو الزيادةِ ، وقد ذكرنا هذا في الدورةِ التي عقدناها في علومِ الحديث وأطلنا في بيان ذلك . والمقصودُ أن الحذَرَ في الحديثِ عن النبي ( متوجب فإن النبي ( إنما يتكلم بالوحي ، والذي يتحدث عنه ( إنما يقرر شرعاً وديناً ووحياً ، فحذارِ حذارِ من العجلةِ في الحديثِ عن رسولِ الله ( ، والنبيُّ ( حَذَّرَ من ذلك فقال : " من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن " . فلم يكن يحدث من الصحابةِ إلا الحفاظُ منهم الذين يَثِقُون فيما يروُونَ ويتأكدون مما يسمعون ، وكثيرٌ منهم كان إذا حدثَ عن رسولِ الله ( تصيبُه حالةٌ من رعدةٍ وخوفٍ ، وبعضُهم يقول ( أو نحو هذا ، أو مثل هذا ) وهذا من حرصِهم واحتياطِهم .
ثم يقول ( إلا أني سمعت طلحةَ يحدثُ عن يومِ أحد ) ؛ وطلحةُ بنُ عبيدِ الله حدثه بما حصلَ معه يوم أحد ، فقد ظاهَرَ طلحةُ ( بينَ دِرْعَيْنِ من شدةِ القتالِ وهذا مِنْ بأسِهِ في هذه الحربِ ، وكان يقي النبيَّ ( حتى ذُكِرَ أن يَدَهُ شُلَّتْ لأنه وَقَى بها رسولَ الله ( ، وجاء في بعضِ الرواياتِ أنه حَمَلَ رسولَ الله ( . فمشاهدُ طلحةَ ( وهو من العَشَرَةِ المبشرينَ بالجنةِ كثيرةٌ ، فكان رضي الله عنه يحدِّثُ أحياناً ببعضِ مشاهدِه حثاً وتشويقاً كما ذكرتُ ، وهذا هو الشاهدُ من سَوْقِ الحديثِ في هذا الباب ، والله تعالى أعلم .
المحاضرة السادسة
( هل الجهادُ فرضُ عينٍ ؟ وفضلُ الجهادِ على العمومِ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،(1/102)
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكل ضلالةٍ في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب وجوبُ النفيرِ وما يجبُ من الجهادِ والنيةِ . وقول الله عز وجل : الآية . وقوله : .
يُذْكَر عن ابن عباسٍ ( انفروا ثباتٍ : سرايا متفرقين ) . ويقال : واحدُ الثباتِ : ثُبَة .
42 ـ حدثنا عمروُ بنُ عليٍّ ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيانُ قال : حدثني منصورُ ، عن مجاهدٍ عن طاوسَ ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما : أن النبيَّ ( قال يومَ الفتحِ : " لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكن جهادٌ ونيةٌ ، وإذا استُنْفِرْتُم فانفِروا " .
هذا البابُ يتحدثُ فيه الإمامُ البخاريُّ رحمه الله عما وَرَدَ في وجوبِ النَّفيرِ ، أي : الخروجُ للجهادِ في سبيل الله . ويقول ( وما يجب من الجهاد والنية ) لما سيأتي في الحديث الذي ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وذكر فيه آياتٍ من كتابِ الله عز وجل تُدَلِّلُ على وجوبِ الجهادِ . وهذه الآيةُ العظيمةُ التي ذكرَها الله ( في كتابِه وأمرَ فيها عبادَه بالنفيرِ ، وهي قوله تعالى وهذه بدايةُ الآية التي ذكرها الإمامُ البخاريُّ رحمه الله .
ومسألةُ فَرْضِيَّةِ الجهادِ لا بُدَّ في تقريرِها أن نُقَدمَ شيئاً يسيراً من المقدماتِ ، فنقول :
إن القرآنَ الكريمَ خاطبَ الناسَ بالتعاليمِ التي أرادها اللهُ تعالى منهم ، وكان خطابُه جلَّ وعلا متوجِهاً أساساً لمن كان في عهدِ النبي ( وكان الخطابُ بصيغةِ مخاطبةِ الذكورِ في أغلبِ المواضعِ .(1/103)
فالأصلُ في هذا الخطابِ أن يكونَ متوجِّهاً للذكورِ الذينَ في عهدِ النبيِّ ( ثم بعد ذلك يُنظَر، هل هذا الخطابُ يشمَلُ من جاء بعدَهم من العُصورِ التاليةِ ، وهل يشملُ النساءَ ، وهل يشملُ العبيدَ أم لا ؟
هذه مسائلُ تتعلقُ بأصلِ الخطابِ .
وقوله تعالى هذا أمرٌ خوطِبَ به أصحابُ النبي ( الذكورُ ، فالأصلُ أنه شاملٌ لهم جميعاً ، يخرجُ من ذلك العبيدُ بنصوصٍ أخرى ؛ لأن العبدَ تحتَ إِمْرَةِ سيِّدِهِ ومنفعتُه له فلا يجبُ القتالُ على العبدِ ، والمرأةُ لا تدخلُ بالخطابِ لأن الخطابَ كما قُلنا يخاطِبُ الذكورَ فقط .
ثم هذا الخطابُ يشمَلُ مَنْ بعدَ أصحابِ النبي ( الذين نزلَ القرآنُ يخاطبُهم باعتبارِ قولِ الله ( إلى غيرِ ذلك من الأدلَّة التي تُدَللُ على شمولِ الخطابِ للأممِ التاليةِ لأمَّةِ الصحابةِ رضي الله تعالى عنهم .
ثم هذا الخطابُ جاء بصيغةِ الأمرِ . وصيغةُ الأمرِ أصلاً تقتضي الوجوبَ إلا إذا جاءَ ما يُدَلِّلُ على صرفِ هذا اللفظِ عن أصلِه إلى النَّدْبِ أو الاستحباب .
إذاً ، الأصلُ في هذه الآيةِ بمجردِ قوله تعالى فَرْضِيَّةُ العينِ على كلِّ مسلمٍ ذَكَرٍ ثم جاء قوله تعالى ليؤَكِّدَ ذلك . فالمرادُ أن الجميعَ يَنْفِرُ في سبيلِ الله سواءٌ كان خفيفاً أو ثقيلاً . والمرادُ بالخفةِ والثِّقَلِ هنا : القدرةُ التامةُ وعدَمُ الارتباطِ بالمشاغِلِ ونحوِ ذلك ، ويدخلُ فيه بعضُ أنواعِ المرضِ والشيخوخةِ والكِبَرِ ونحوِ هذا .
ولأجلِ ذلك كان بعضُ الصحابة رضي الله عنهم يخرجُ وهو مُسِنٌّ فيعاتَبُ في ذلك فيقول : هذه الآيةُ ما عذرتْ أحداً .
ثم الأمرُ هنا في قوله هو كقولِه سبحانه وتعالى وكقوله وكقولِه ونحوِ ذلك من الأوامِرِ .(1/104)
إذاَ ، الأصلُ في الأمرِ بالنَّفيرِ إنما هو فرْضيَّةُ العينِ ليس في ذلك إشكالٌ من الناحيةِ الأصولِيَّةِ ، وإنما الخلافُ حَدَثَ بعد ذلك عن أهلِ العلمِ لنصوصٍ أخرى دلَّلَتْ أنه لا يمكنُ أن ينفِرَ كلُّ المسلمين ، كقولِه سبحانه وتعالى : فهذه الآيةُ تُدَللُ على أنه لا يمكن أن يخرجَ كلُّ المسلمينَ إلى الجهادِ في سبيلِ الله . إذاً ، ما هو التوجيه ؟
التوجيهُ : أن الجهادَ فرضٌ على كلِّ مسلمٍ عاقلٍ ذكرٍ حرٍ ، ولكنْ لا يكونُ ذلك في نفسِ الوقتِ ، فلا يخرجُ كلُّ المسلمين إلى القتالِ ، وإنما يحصلُ بينهم أداءُ هذا الفرضِ بالتناوبِ . فقد كان الأمراءُ والخلفاءُ يُخرِجُونَ المجاهدين في سبيلِ الله بالتناوبِ ، لا يُعرَفُ أن المسلمَ يجلسُ في بيتِه ولا يقاتِلُ في سبيل الله . فلا يمكن أن يعيشَ المسلمُ حياتَه كلَّها ولا يجبُ عليه أن يقاتلَ في سبيلِ الله لأنه ليس هناك جيشٌ نظامي يقاتِلُ . هذا لم يكنْ في عهدِ القرونِ المُفَضَّلَةِ ، وإنما كما قلتُ كان يسجَّلُ ديوانُ الجُنْدِ فيخرج بعضُ الناس في وقتٍ ويرجِعون ثم يخلُفُهم آخرون وهكذا ، حتى يجاهدَ الجميعُ في سبيل الله فيقومون بالفرضِ الذي افترضه الله عز وجل عليهم .
إذاً ، الجهادُ فرضُ كفايةٍ ، بمعنى : أنه فرضٌ على الجميعِ فإذا قام به البعضُ سقط الإثمُ عنهم جميعاً ، وإذا لم يقُمْ به هذا البعضُ لَحِقَ الإثمُ الجميعَ . ولكن لا يعني هذا أن يخرجَ أناسٌ معيَّنون ويبقى الآخرون ينتظرون بلا قتالٍ ، وإنما يأتيهم الدورُ بطريقةٍ دورية ، فكان هناك من يخرجُ بالصيفِ وهناك من يخرج بالشتاءِ ، وهو ما يسمى بالصوائفِ والشواتيِ في عهدِ الخلفاء ومن تَِبِعَ منهجَهم .(1/105)
ثم الآيةُ تتحدثُ عن الجهادِ الذي هو جهادُ الطلَبِ . وأما جهادُ الدفعِ فقد تكلمْنا عنه كثيراً وقلنا إن هذا يلزَمُ كلَّ مسلمٍ يقدرُ على دفعِ الكفارِ ؛ يدخل في ذلك الشيخُ الكبيرُ والعبدُ والمرأةُ حتى الصغيرُ إن استطاعَ يدفعُ بقدرِ استطاعتِه وإن لم يكنْ مخاطَباً ويجبُ عليه ذلك .
فحديثُنا عن النفيرِ الذي هو طلبُ العدو .
وأهلُ العلمِ يقولون بفرْضيةِ الجهادِ على الأعيانِ في حالاتٍ معينةٍ ؛ منها جهادُ الدفعِ الذي ذكرناه ، ومنها أن يُعَيِّنَ الإمامُ أشخاصاً بأعينِهم ليخرُجوا أو يأمرَ الجميعَ بالخروجِ في بلدةٍ معينةٍ أو محلٍة معينة ، فهذه من المواضعِ التي يجبُ فيها الجهادُ على الأعيانِ . أيضاً ، أُسِرَ جماعةٌ من المسلمين واحتيج إلى تخليصهم فإنه يجب على الأعيانِ حتى يتمَّ تخليصُ الأسرى الذي أُسِروا من المسلمين . أيضاً إذا كان الشخصُ يُحْتاجُ إليه لعينِه كأن يكون هو الوحيدُ صاحبُ الخِبْرَةِ في أمرٍ ما من أمورِ القتالِ فإنه يتعيَّنُ عليه أن يخرجَ ولا يؤدي عنه غيرُه لأنه لا يقومُ مقامَه . كذلك إذا كان المسلمُ في الصف وقتَ القتالِ فإنه يجب عليه الجهادُ ولا يجوزُ له أن يتركَ الصفَّ ويذهبَ ويقولَ إن الجهادَ فرضُ كفايةٍ وذلك لأننا بَيَّنا ما معنى فرضِ الكفايةِ في الجهادِ بالبيانِ الذي ذكرناه أولاً ، والله تعالى أعلم .(1/106)
هنا يقول تعالى في الآية وهذه الآياتُ كما هو معلومٌ تتعلقُ بغزوةِ تبوك ، أو نزلت في غزوة تبوك ، ولأجل هذا جاءت الآياتُ بعدها وهذا تعريضٌ بالمنافقين ؛ لو كان الذي دُعُوا إليه أمراً من أمورِ الدنيا وعَرَضِها الزائلِ ، أو كان سفراً قريباً لا مشقةَ فيه ولا تعبَ لاتَّبَعوكَ وذلك رغبةً في تحصيلِ المغنمِ . ثم قال وهي : مشقةُ السفرِ البعيدِ لأن تبوكَ كانت غزوةً ذات مشقةٍ شديدةٍ ، ولأجلِ هذا عندما أمَرَ النبيُّ ( أصحابَه إلى الخروجِ إليها بَيَّنَ لهم الوجهةَ ، ولم يكن من عادتِه صلى الله عليه وسلم أن يبينَ إلى أي جهةٍ سوف يتجِهُ وهذا من الحِنْكَةِ السياسية ؛ فإن من طبيعةِ الحربِ أن لا يُعلِمَ القائدُ أو الذي يجاهدُ إلى أي جهةٍ سوف يتجهُ حتى يفاجِئَ عدوَّهُ لأنه لو أعلَمَ بذلك ربما خرجت المعلوماتُ وضاعتْ فرصةُ المباغتةِ .
فالنبيُّ ( كان إذا خرجَ إلى غزوةٍ وَرّى بغيرِها ، ولكنه في غزوةِ تبوك أخبرهم للمشقةِ التي في هذه الغزوةِ وبُعْدِ السفرِ ، إلى آخرِ الآيات التي تَذْكُرُ أحوالَ المنافقينَ ، وكما تعلمون هذه الآيات من سورة التوبة وكانت تسمى الفاضحةَ لأنها فضحتِ المنافقينَ .
ثم هناك الآيةُ الأخرى التي ذكرها الله تعالى وفيها العتابُ للمؤمنين ، فيقول وهذا من الأدلةِ على فرْضيةِ العينِ التي ذكرتُها . وهذا القولُ الذي بينتُه يجمعُ بين النصوصِ جميعِها وهو الذي ذهبَ إليه أهلُ العلمِ على التحقيقِ وإن كان حصلَ خلافٌ بينهم ؛ هل الجهادُ كان فرضَ عينٍ على المهاجرينَ أم على الأنصارِ أم عليهما جميعاً . والقولُ الفصلُ هو ما ذكرتُه من أنه فرضُ عينٍ ، بمعنى : تعاقُبَ المسلمين على أدائِه ، ثم إذا قام به البعضُ سقط عن الباقين .(1/107)
يقول البخاري هنا ( يُذْكَر عن ابن عباس : انفروا ثباتٍ : سرايا متفرقين ) ، وهذا التفسيرُ من ابن عباسٍ رضي الله عنهما لقوله تعالى ثباتٍ أي : سرايا متفرقين ، والثباتُ جمعُ ثُبَةٍ أي : مجموعة .
فكانت النفرةُ أحياناً تكون على هيئةِ سرايا كما كان النبيُّ ( يفعلُ مع أصحابه ، وأحياناً يكون النفيرُ للجميعِ كما كان في غزوةِ تبوك ، حيث أمرَ النبيُّ ( بالنفيرِ العامِ ، وكان من تخلفَ آثماً بتخلُّفِهِ .
ثم ذكر هنا حديثَ ابنِ عباس رضي الله عنهما أن النبيَّ ( قال يومَ الفتح : " لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكن جهادٌ ونيةٌ وإذا استُنْفِرْتم فانفِِروا " .
فهذا الحديثُ تكلمنا عنه قبلَ ذلك . والمراد بـ ( لا هجرةَ بعد الفتح ) أي : لا هجرةَ من مكةَ إلى المدينةِ فقد انقطعتِ الهجرةُ من مكةَ لأنها أصبحتْ دارَ إسلامٍ ، ولا هجرةَ من دارِ الإسلام إلى دار الإسلام واجبةٌ ، وإنما الهجرةُ تجبُ من دار الكفرِ إلى دارِ الإسلامِ . ( ولكن جهادٌ ونيةٌ ) أي : ولكن بقي الجهادُ والنيةُ الصالحةُ في الجهاد وغيره .
والشاهدُ في هذا الحديثِ قوله ( واذا استنفرتم فانفروا ) ، وهذا نوعٌ من أنواعِ الجهادِ الذي هو فرضٌ على الأعيانِ ، وهو حالُ استنفارِ الإمامِ للمسلمين . " واذا استنفرتم فانفروا " ؛ أي : في حالِ النفيرِ العامِ يجب على من كلِّ من استنَفْرَهَ الإمامُ . والله تعالى أعلم .
ثم أهلُ العلمِ يقولون بأن الجهادَ الذي هو جهادُ الطلبِ لا بدَّ من فعلِه ولا يسقُطُ عن المسلمين بهذه الصورةِ المفجِعة التي حصلتِ في الأزمان المتأخرة ، فإنهم يقولون إنه يَجِبَ مرتينِ في السنةِ كما قلت ( الصوائف والشواتي ) باعتبارِ فعلِ السلف ، ومنهم من قال : تجزئ مرة واحدة في السنة لأنه يعتبر بدلاً عن الجزية ، ومنهم من قال : يجب كلما دعتِ الحاجةُ .(1/108)
والمقصودُ أنه لا بدَّ من جهادِ الطلبِ حتى لا يبقى على وجهِ الأرض ِإلا مسلمٌ أو مسالمٌ ، وهذا لا شكَّ أنه واجبٌ على ولاةِ الأمرِ ، فإنه لا يمكنُ أن يُؤَدّى جهادُ الطلبِ باجتهادٍ فرديٍّ من المسلمِ وإنما هذه مسؤوليةُ ولاةِ الأمرِ يُسِأَلون عنها أمامَ الله ( يومَ القيامة . فلا بدَّ من إخراجِ السرايا والبعوثِ للجهادِ في سبيلِ الله ورفعِ رايةِ لا إله إلا الله . وقد تكلمْنا بذلك وقلنا إنه لا اعتبارَ لهذه المواثيقِ التي تتواثقُ عليها الدُّوَلُ والتي تُخالِفُ هذا الأصلَ العظيمَ من أصولِ الدين ؛ فإنه لا يُعرَفُ في الإسلامِ استحقاقٌ لكافٍر على أرضه ، وإنما يجب عليهم جميعاً أن يَدْخُلُوا في دينِ الله ( أو يكونوا على دينِهم معاهِدِين صاغِرين . وتركُنا للجهادِ هو الذي أدى بنا إلى هذا الذلِّ الذي نعيشُه هذه الأيام ، وهذا مصداقُ حديثِ النبي عندما حذَّرَ من ذلك فقال : " إذا رضِيتُمْ بالزرعِ وتركتُمُ الجهادَ وتبايَعْتُمْ بالعِينَةِ سلَّطَ الله عليكم ذُلاً " ، فهذا هو الذي نعيشُه الآن لأننا تركنا الجهادَ . وهذا كما قلتُ في جهادِ الطلبِ فكيف ونحن نعيشُ الآن جهادَ الدفعِ ، الذي أصبحَ الأمرُ فيه من أغلظَ الأمورِ وأصبحتِ الحال يرثى لها في بلاد الإسلام ، وأصبحَ الناسُ يتداولون ويتناقشون وبلادُ الإسلامِ تُنْتَهَكُ وتُنتَهَبُ . هذه مكتبةُ بغدادَ الوطنيةُ التي تَعُجُّ بأَنْفَسِ المخطوطاتِ وأفضلِ الكتبِ الإسلاميةِ التي كنا نتمنى أن نراها بأعيُنِنا ويتجشمُ المسلمُ الصعابَ حتى يتحصَّلَ على مخطوطةٍ منها أو صورةٍ منها ، أصبحتْ نَهْباً وسَلْباً وحُرِّقَتْ كما حصلَ في أيامٍ هولاكو والعياذُ بالله ، ونسألُ الله ( أن يغفرَ لنا تقصيرَنا وقعودَنا وما نحن فيه من الضعفِ والخور ، والله المستعان .(1/109)
وقولُ الله في هذه الآية أصلها : تَثَاقَلْتُم . والمرادُ : الكسلُ والتهاونُ وعَبَّرَ بقوله مع أن كلمةَ تَثَاقَلَ لا يأتي بعدها كلمةُ إلى ، ولكنها عندَ أهلِ اللغة تعني تضمينُ الفعلِ معنىً آخرَ يتعدى بإلى أي يأتي بعده إلى كالرُّكونِ والخلودِ ، فالذين لم يخرجوا في سبيل الله إنما أخلدوا إلى الراحةِ وإلى الدعةِ والكسلِ فلذلك عبَّر عنهم بالتثاقلِ إلى الأرض .
والتعبيرُ بالأرضِ هنا دلالةٌ على انحطاطِ المُستوى وقلةِ الطُّموحِ عندهم .
ثم يعاتبُهم الله موبِّخاً فيقول ؛ من هنا تعني ( بدل ) فإنها بهذا المعنى كما في قوله تعالى فـ ( من ) هنا معناها : بدلاً منكم أو بدلاً عنكم . وكذلك قوله أي : أرضيتم بمتاعِ الحياة الدنيا بدلاً عن الأجرِ في الآخرةِ وما أعدَّ الله ( فيها .
وهذه الآيةُ آيةٌ خطيرةٌ جداً ؛ ففيها أن هذا كأنه بدلٌ ؛ إما أن تجاهدَ في سبيلِ الله وإما أن ترضى بالحياةِ الدنيا وما فيها من الدَّعَةِ والكسلِ ، فالأمرُ بينَ حالَيْنِ : آخرةٌ بالجهادِ في سبيلِ الله ، ودنيا بتركِ الجهادِ في سبيلِ الله ، ولذلك قال تعالى : يعني : لا يسوي شيئاً . وقد ذكرنا أنه يؤتَى بأنعمِ أهلِ الدنيا وهو من أهلِ النار فيُغمَسُ غمسةً في النار ويقال له : ( هل رأيت نعيماً ؟ ) فيقول : لا والله ما رأيتُ نعيماً قط ، كما ثبت ذلك عن رسول الله ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب الكافرُ يقتُلُ المسلمَ ثم يُسلمُ فيُسَدَّدُ بعدُ ويُقتَلُ .
43 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ يوسفَ ، أخبرنا مالكٌ ، عن أبي الزنادِ ، عن الأعرجِ ، عن أبي هريرةَ ( أن رسولَ الله ( قال : " يضحكُ الله إلى رجلينِ يقتلُ أحدُهما الآخرَ يدخلانِ الجنةَ ، يقاتِلُ هذا في سبيلِ الله فيُقتلُ ، ثم يتوبُ الله على القاتلِ فيُستَشْهَدُ " .(1/110)
ـ حدثنا الحميديُّ ، حدثنا سفيانُ ، حدثنا الزهريُّ قال : أخبرني عنبسةُ بنُ سعيدٍ عن أبي هريرةَ ( قال : " أتيتُ رسولَ الله ( وهو بخيبرَ بعدما افتَتَحوها فقلت : يا رسولَ الله أسهِمْ لي ، فقال بعضُ بني سعيدِ بنِ العاص : لا تُسْهِمْ له يا رسولَ الله ، فقال أبو هريرةَ : هذا قاتلُ ابنِ قَوْقَلٍ ، فقال ابنُ سعيدِ بنِ العاص : واعَجَباً لِوَبَرٍ تَدَلّى علينا من قَدُومِ ضأنٍ يَنْعَى عليَّ قتلَ رجلٍ مُسلِمٍ أكرَمَه اللهُ على يَدَيَّ ولم يُهِنّي على يديه . قال : فلا أدري أسهمَ له أمْ لم يُسْهِمْ له " .
قال سفيانُ : وحدَّثَنِيهِ السَّعِيديُّ عن جدِّهِ عن أبي هريرة .
قال أبو عبد الله : السعيديُّ هو عمروُ بنُ يحيى بنِ سعيدِ بنِ عمروٍ بنِ سعيدِ بنِ العاص .
هذا البابُ يَذْكُرُ فيه الإمامُ البخاريُّ الأجرَ الذي يتحصَّلُ عليه من قُتِلَ في سبيلِ الله وإن كان قد قَتَلَ مسلماً قبلَ ذلك في حالِ كُفْرِه . فيقول ( الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل ) .
وذكر فيه حديثَ أبي هريرةَ أن رسولَ الله قال : " يضحكُ اللهُ إلى رجلينِ يقْتُلُ أحدُهما الآخرَ يدخلانِ الجنةَ " ، كيف ؟
القاتلُ كما ذكر اللهُ مآلُه إلى جهنمَ وبئسَ المصيرِ ، والنصوصُ في وعيدِ القاتلِ نصوصٌ كثيرةٌ وشديدةٌ ، ولكن هنا الحديثُ يتكلم عن رجلٍ أسلمَ بعدَ أن قَتَلَ فهذا أمرُه يختلفُ عن المسلمِ الذي يعلمُ حدودَ الله ( ثم بعدَ ذلك يقومُ بالقتلِ .
ومن قال : إن القاتلَ لا توبةَ له ، إنما عنى بذلك المسلمَ كما كان يقولُ بذلك ابنُ عباس رضي الله عنهما .
وقولُ النبي ( يضحك الله إلى رجلين ) ؛ نسبةُ الضحكِ إلى الله صفةٌ فعليةٌ من صفاتِه ( وهي تليقُ بجلاله ولا تُشْبِهُ صفاتِ المخلوقينَ ، فليس ضَحِكُ الله كضَحِكِ عبادِه تعالى الله عن ذلك فإن الله ليس له سَمِيٌّ ولا يشابهه أحد .(1/111)
فمِثْلُ هذه الصفاتِ التي يوصَف بها اللهُ ( أهلُ السنة والجماعة يُمِرُّونَها كما جاءتْ ويعتقدونَ تنزيهَ الله ( عن مُشابَهَةِ المخلوقينَ مع معرفَِتِهم بالمعنى المرادِ ، لأن هذه اللغةَ العربيةَ خُوطِبوا بها ليفهموا .
وهناك من حَمَلَ الضحكَ على إرادةِ الثوابِ ، وهذا خلافُ منهجِ أهلِ السنة وإن كان الضحكُ لا شكَّ أنه يؤدي إلى الثوابِ والرِّضى لأنه دليلٌ عليه .
فيقول : ( يقتُل أحدُهما الآخرَ ) ؛ يعني : يقتلُه هذا الكافرُ فيُستَشهدُ هذا في سبيلِ الله ويبقى الكافرُ على قَيْدِ الحياةِ ويرزقُه اللهُ الإسلامَ فيتوبَ ويدخلَ في دينِ الله ثم يُكتَبُ له القتالُ في سبيل الله فيُستشهد . فكلاهما يأتي إلى ربِّه شهيداً ونعمَ المجيءُ فيُغفَرُ له ما قد سبق ، وكلاهما في منزلةٍ عاليةٍ عند الله ( لأجلِ هذه الشهادة .
ثم ذكر الحديثَ الآخرَ ، والحديثُ الآخرُ ليس فيه أن يُستشهدَ ؛ وهذا دليلٌ على أنه يُغفَرُ له ما قد حصل منه من قتلٍ لأخيه بمجَرَّدِ إسلامِه وإن كان لا يصلُ إلى منزِلَةِ الشهيدِ كما في الحديث الأول .(1/112)
والحديثُ فيه أن أبا هريرةَ عندما قدم إلى النبي ( هو ورفقتُه أتَوْا النبيَّ ( بعد أن انتهى من غزوةِ خيبرَ وبعد أن فُتِحَتْ ، فقال له : ( يا رسولَ الله أسهم لي ) يعني : يريد أن يُسهِمَ له من الغنيمةِ التي غنِمَها المسلمون في غزوةِ خيبر . فقال بعضُ بني سعيدِ بنِ العاص ، وجاء في بعض الرواياتِ أنه أبانُ بنُ سعيد بن العاص . فأبانُ كان جالساً في هذا الوقت الذي يطلب فيه أبو هريرةَ أن يُسهِمَ له النبي ( من غنائمِ خيبرَ ، فقال أبانُ ين سعيدٍ : يا رسولَ الله لا تُسْهِمْ له . يعني : رأى أبانُ أنه لا يستحقُّ أن يُسهَمَ له لأنه لم يحضُرِ الوقعةَ ، فقال أبو هريرةَ وكان يعلمُ ما حصلَ من أبانِ بنِ سعيدٍ ، وكان أبانُ قد قَتَلَ يومَ أُحُدٍ رجلاً من الصحابةِ اسمُه النعمانُ بنُ قَوْقَل ، فعندما قال ذلك اغتاظَ أبو هريرةَ منه وقال ( هذا قاتل ابن قوقل ) ؛ يعني : أنت فعلتَ هذه الفعلةَ الشنعاءَ وقتلتَ رجلاً يقاتلُ في سبيلِ الله ثم تتكلمُ في حضرةِ النبي ( ، فقال أبانُ بنُ سعيدٍ مستَقِلاً بأبي هريرةَ لأنه جاء من قبيلةِ دَوْسٍ ( واعجباً لوبر تدلى علينا من قَدوم ضأن ) والوَبَرُ : دابةٌ تُشبِهُ الفأرَ والأرنبَ ؛ فيها شبه من الأرنب في بعض الأجزاءِ وفيها شبهٌ من الفأر في بعض الأجزاء ، وهو حيوانٌ يُؤْكَلُ مثلُ الأرنبِ يعيشُ في الجبالِ ، وحجمُه أصغرُ من حجم الأرنبِ وأكبر من حجمِ الفأر في العادة .
فشبَّهَهُ بالوبَرِ الذي تدلّى من جبلٍ ، بمعنى : أنه لا قيمةَ له ولا مجالَ له أن يتدخلَ ، وهو قد قَدِمَ عليهم مؤخَّراً من هذه البوادي التي في دوسٍ ، فيقول ( واعجباً لوبرٍ تدلى علينا من قَدومٍ ضأن ) والضأنُ ؛ يقالُ هو الجبلُ ويقال اسمُ جبلٍ في قبيلةِ دوس ، والمقصودُ أنه استَخَفَّ به وشبَّهَه بهذه الدُّوَيبَة الصغيرةِ .(1/113)
وكما تعلمون أنه يُؤْثَرُ عن مسيلمةَ الكذابِ أنه أرادَ أن يعارِضَ سورةَ العصرِ فكان يقول ( يا وَبَرُ يا وبر كلكَ أذنانِ وصدرٌ وسائرُك حَقْرُ نَقٌرٌ ) يعني بذلك هذهَ الدابةَ .
ثم قال له أبانُ بنُ سعيدٍ ( ينعى علي قتلَ رجلٍ مسلمٍ أكرمه الله على يديَّ ولم يُهِنّي على يديه ) يقول له : إن الله ( أكرمَ النعمانَ بنَ قوقلٍ على يدي ، حيث كنتُ سبباً في أنه نالَ الشهادةَ ، ولم يهني على يديه ، يعني : لم يَكْتُبِ اللهُ ( لي أنا أن أُقتَلَ بيدِه فكنتُ أدخلُ النارَ وأيُّ هوانٍ بعد دخولِ النارِ ؟ فسمِع النبيُّ ( هذا الكلامَ من أبانَ ولم ينكِرْ عليه ، وهذا إقرارٌ منه ( ، وقد ذكرنا أن السَّنة إما أن تكونَ قوليةً وإما أن تكون فعليةً وإما أن تكون إقراريةً ، فهذا إقرارٌ منه ( لكلامِ أبانٍ أنه قد أَكرمَ الله ( النعمانَ بقتلِه على يدٍِ أبانَ ، ثم أكرمَ اللهُ ( أبانَ أن نزَّهَهُ أن يُقتَلَ على يدِ أبان حتى يَكتُبَ الله له الإسلامَ فيتوبَ عليه من هذا القتلِ الذي فعله .
ثم قال ( فلا أدري أسْهَمَ له أم لم يسهم له ) ؛ وقد جاء في بعض الرواياتِ أن النبيَّ ( لم يُسْهِمْ له ، واستُدِلَّ بذلك على أن من أتى بعدَ الوَقْعَةِ فإنه لا يُسْهَمُ له ، والله تعالى أعلم .
قال البخاريُّ ( قال سفيانُ : وحدثنيه السعيدي عن جده عن أبي هريرة ) ؛ هذا عطفٌ على الإسنادِ السابق ؛ ذكر فيه سفيانُ إسناداً آخرَ .
ثم قال ( قال أبو عبد الله : السعيديُّ هو عمرو بنُ يحيى بنِ سعيد بنِ عمرو بنِ سعيد بنِ العاص ) ؛ هذا قول أبو عبد الله ، يعني : البخاريًّ رحمه الله ، يبين من هو السعيدي .
قال البخاري رحمه الله :
باب من اختارَ الغزوَ على الصومِ .(1/114)
44 ـ حدثنا آدمُ ، حدثنا شعبةُ ، حدثنا ثابتُ البناني قال : سمعت أنسَ بنَ مالكٍ ( قال : " كان أبو طلحةَ لا يصومُ على عهدِ النبيِّ ( من أجلِ الغَزْوِ ، فلما قُبِضَ النبيُّ ( لم أرَهُ مُفطراً إلا في يومِ فِطْرٍ أو أضحى " .
هذا البابُ يبينُ فيه الإمامُ البخاري رحمه الله أن هناك من الصحابةِ من فَضَّلَ الغزوَ على الصومِ مع أن الصومَ كما تعلمون يقول الله سبحانه وتعالى فيه في الحديث القدسي : " إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به " ، فأجرُ الصومِ أجرٌ عظيمٌ ، ومعلومٌ أن في الجنةِ باباً يقال له الرَّيَّان لا يدخلُ منه إلا الصائمون . ولا نريد هنا أن نطيلَ بذكرِ فضائلِ الصوم ، ولكن الجهادَ فَضَّلَه هذا الصحابيُّ الجليلُ وهو أبو طلحةَ على الصوم مع الأجرِ العظيمِ المعروف للصومِ لأن الجهادَ أعلى منزلةً من الصيامِ ، فذكر هنا أن أبا طلحةَ ( كان لا يصومُ على عهدِ النبي ( من أجلِ الغزوِ ، ويعني بقوله ( لا يصوم ) أنه لا يُكْثِرُ الصومَ وليس المرادُ أنه لا يصومُ إطلاقاً وإنما يصومُ صياماً يسيراً لا يُكْثِرُ منه ليتقَوّى على الجهادِ في سبيلِ الله لأن الصومَ يُضعِفُ المجاهدَ .(1/115)
والصائمُ الذي يصومُ في الجهادِ إذا كان يقدرُ على الجمعِ بين الصومِ والجهادِ ، فإنه إذا صامَ يوماً واحداً باعَدَ الله بينه وبين النار سبعينَ خريفاً كما ثبتَ في هذا الحديث . فأجرُ الصومِ في سبيلِ الله أجرٌ عظيمٌ أيضاً ، والمقصودُ أنه كان لا يُكثِرُ الصومَ كما كان يُكثِرُه بعدَ النبيِّ ( لأنه كَبُرَ في السنِّ فلم يكن يخرجُ للغزوِ كما كان يخرجُ في عهدِ النبي ( كثيراً . وقد دلَّتْ بعضُ الرواياتِ على ما ذكرت ، ففي بعضِها أنه ( لا يكادُ يصومُ ـ قلَّما يصومُ ) دلالةٌ على أنه كان يصومُ ولكن ليس صياماً كثيراً . فلما مات النبيُّ ( اجتهدَ في الصومِ تعويضاً لقلةِ الغزوِ الذي كان يخرجُ فيه ، فكان لا يُرى مفطِراً إلا في الأيام التي حرَّمَ الله فيها الصيامَ مثلَ أيامِ عيدِ الفطر وعيد الأضحى ، ويدخل في الأضحى أيامُ التشريق الثلاثة .
وليس هذا على إطلاقِه ؛ فقد ثبت أن أبا طلحةَ ( لم يصبِرْ على تركِ الغزوِ في سبيلِ الله ( على الرُّغْمِ من كِبَرِ سِنِّهِ ، فإنه قد جاءَ في آخرِ عمره أنه خرج إلى القتالِ فقال لبنيه ( جهزوني ) فقال بنوه ( نحن نغزو عنك ) فأبى وقال : إن هذه الآيةَ لم تعذُرْ أحداً ، استَنْفَرَنا الله شيوخاً وشباباً وقرأ فغزا في البحرِ فماتَ فدفنوه بعد سبعةِ أيامٍ ولم يتغيرْ منه شيءٌ كرامةً له لأنه من الشهداءِ ، وقد ثبتَ أن كثيراً من الشهداءِ لا يتغيرُ جسدُهم بطولِ المدة وهذه من الكراماتِ التي لم يجعَلْها الله ( إلا للأنبياءِ وبعضِ الشهداءِ كما دل على ذلك الواقعُ ، وإن كان النصُّ قد وردَ في الأنبياء فقط ، وهذا دليلٌ على عِظَمِ منزلةِ الشهيدِ عند الله سبحانه وتعالى . والله تعالى أعلم .(1/116)
ويُحتَمَلُ أن أبا طلحةَ ( بعد أن تَمَّتِ الفتوحُ واستتبَّ الأمرُ للمسلمينَ وقلَّ الخروجُ للغزوِ اجتهدَ في الصومِ لتعويضِ الأجر الذي فاتَه في الجهاد ، لأن الذي يظهرُ من احتجاجِه بهذه الآيةِ أنه كان لا يرى لنفسه عذراً أن يتخلفَ عن غزوٍ يخرُج في سبيل الله . وكما قلتُ كان الأمرُ في الصدرِ الأوَّلِ على التناوبِ ؛ فلم يكن يخرُجْ كلُّ المسلمين في نفس الوقت وإنما يخرجونَ على دفعاتٍ كما يأمر إمام المسلمينَ بذلك في هذا العهد .
ـ أسئلة :
هل الآية التي فيها قولُ الله تعالى منسوخةٌ بقولِه تعالى ؟
هذا أجبنا عنه في بداية حديثِنا اليومَ ؛ فالآيةُ لا تُعتَبَرُ منسوخةً وإنما الجهادُ على الكُلِّ بطريقِ التناوبِ . يعني : لا يمكنُ أن ينفرَ الجميعُ في نفسِ الوقت ، وإنما ينفرُ مجموعةٌ ويبقى مجموعةٌ ، فإذا انتَهَوْا يأتي الدورُ على المجموعةِ الأخرى إذا رجعَ هؤلاء . فليست الآية بمنسوخةٍ على الأرجح . والله تعالى أعلم .
المحاضرة السابعة
( أنواعُ الشهداءِ والصبرُ وحفرُ الخَنْدَقِ والأناشيدُ الإسلاميةُ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب الشهادةُ سبعٌ سوى القتلِ .(1/117)
45 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ يوسفَ ، أخبرنا مالكٌ ، عن سُمَيٍّ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ ( أن رسولَ الله ( قال : " الشهداءُ خمسةٌ : المطعونُ والمبطونُ والغرِقُ وصاحبُ الهَدْمِ والشهيدُ في سبيل الله " .
46 ـ حدثنا بشرُ بنُ محمد ، أخبرنا عبدُ الله ، أخبرنا عاصمٌ ، عن حفصةَ بنتِ سيرينَ ، عن أنسِ بن مالك ( عن النبي ( قال : " الطاعونُ شهادةٌ لكلِّ مسلمٍ " .
يقول البخاريُّ رحمه الله في هذا الباب ( باب الشهادة سبع سوى القتل ) وهذا من فضلِ الله ( على هذه الأمةِ أن الله ( يجعلُ في بعضِ الأعمالِ أو في بعضِ الأمورِ ما يَصِلُ به المسلمُ إلى ما لا يستطيعُ أن يصلَ إليه من الأجورِ والخيرِ .
وقوله ( الشهادة سبع ) نلاحظُ أنه ذَكَرَ أن هناك سبعَ ميتاتٍ تُعتَبَرُ شهادةً سوى القتل في سبيل الله ، ثم ذكر فيه حديثاً فإذا في الحديث ( الشهداء خمسةٌ ) وهو حديثُ أبي هريرة ، وذكر في هؤلاءِ الشهداءِ الذي يقتَل في سبيل الله ، والسببُ في ذلك أن الإمامَ البخاريَّ اشترطَ في كتابِه شروطاً للأحاديثِ التي يقومُ بإخراجِها في هذا الصحيح ، فبعضُ الأحاديثِ هي عنده صحيحةٌ ولكنها ليستْ على شرطِ هذا الكتابِ الذي شَرَطَ له شروطاً معينةً .
فلأجلِ ذلك لا يستطيعُ أن يُخَرِّجَ هذا الحديثَ في كتابه ، فمن فِقْهِه رحمه الله أن ينبِّهَ على هذا الحديثِ الصحيحِ في الترجمةِ ثم بعد ذلك يذكرُ في الباب الحديثَ الذي كان على شرطه ويخرجه في هذا الباب .
وأراد بالترجمةِ حديثَ جابرِ بنِ عتيكٍ وفيه : " الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله " ، فذكر فيه ثلاثةً لم يُذكَروا في حديث أبي هريرةَ الذي أخرجه البخاريُّ في الباب ، وسنتكلمُ عن هؤلاء الثلاثةِ أثناءَ الشرحِ إن شاء الله .
فحديث أبي هريرة ( فيه :(1/118)
( الشهداء خمسةٌ ) ؛ كلمة ( الشهداءُ ) حصلَ فيها بيانٌ على أوجهٍ عدةٍ عند أهلِ العلمِ ، فمنهم من قال : الشهداء سُمُّوا شهداءَ لأن الله وملائكتَه يشهدون لهم بالجنة . وقيل : لأنه يشاهِدُ عند خروجِ روحِه ما أعدَّ الله له من الكرامة . وقيل : لأنه يُشهَدُ له بالأمان من النارِ . وقيل : لأنه يوجَدُ عليه شاهدٌ بأنه شهيدٌ كعلامةِ القتلِ ونحوها . وقيل : لأنه لا يشهَدُهُ عند الموتِ إلا ملائكةُ الرحمة . وقيل : لأنه هو الذي يشهدُ للرسلِ يوم القيامةِ بأنهم أبلغوا رسالاتِ ربهم . وقيل : لأن الملائكةَ تشهدُ له بحسنِ الخاتِمَةِ . وقيل غيرُ ذلك عدةُ أقوالٍ ومن الأقوالِ الظاهرةِ في معنى الشهيدِ وهي تختص بالذي يُقتَلُ في سبيلِ الله لأنها لم تَرِدْ في غيرِه أنه يشاهدُ الملائكةَ عند احتضارِه أو يشاهدُ الحورَ العينَ عند خروجِ الدمِ منه عند موتِه . وقد ذكرنا إظلالَ الملائكةِ له في الأبوابِ السابقةِ وكذا ابتدارَ الحورِ العينِ له .
وعلى كل حال ؛ الصحيحُ أن الشهداءَ قسمان : شهيدُ الدنيا وشهيدُ الآخرة .
فشهيدُ الدنيا هو الذي يُقتَلُ في سبيلِ الله ويراقُ دمُه ، هذا هو شهيدُ الدنيا .
وأما شهيدُ الآخرةِ فكلُّ هذه الأصنافِ وأيضاً غيرها .
وشهيدُ الدنيا له أحكامٌ لا تَنْسَحِبُ على جميعِ هذه الأنواعِ ؛ فالشهيدُ لا يغسَّلُ ولا يُكفَّنُ وإنما يُدفَنُ في ثوبِه الذي قُتِلَ فيه ، ولا يغسَلُ عنه جرحُه وإنما يُبعَثُ يومَ القيامةِ بهذا الدم ؛ اللونُ لونُ الدمِ كما ذكرنا والريحُ ريحُ المسكِ ، ولا يصلّى على الشهيد . فهذا ما يتعلقُ بأحكام شهيدِ الدنيا .
وأما هذه الأنواعُ التي ذُكِرَتْ أنها من الشهداءِ فلا تنسحبُ عليها مثلُ هذه الأحكامِ وإنما تُغَسَّلُ وتكفَّنُ ويُصلّى عليها ، ولكنها تجتمعُ مع شهيدِ الدنيا في الآخرةِ ولذلك يُطلَقُ عليها أنها من شهداءِ الآخرة .(1/119)
فهل يُحشَرُ الجميعِ معاً ، أو كما جاء في بعضِ الألفاظِ أنه يقالُ للمَطْعونِ : ( انظروا هل جراحُه تُشبِهُ جراحَ الشهيدِ في سبيلِ الله ، فيُنظَرُ فإذا هي تشبُه جراحَ الشهيدِ في سبيلِ الله فيُبْعَثون معاً ) ، أو أن الأجرَ والمراتبَ التي تكون للشهيدِ الذي يُقتَلُ في سبيلِ الله يَصِلُها هؤلاءِ ويشتركون مع الشهداءِ الذين يُقتَلُون في سبيلِ الله في المراتبِ العاليةِ في الجنةِ التي ذكرنا أنها تَصِلُ إلى مائةِ درجةٍ أُعِدَّتْ للشهداءِ في سبيلِ الله .
هذا هو وجهُ إدراجٍ هؤلاء مع الشهيدِ ، وهذه كرامةٌ من الله ( لأمَّةِ النبي ( أن جعلَ منزلةَ الشهيدِ التي هي أعلى الدرجاتِ يمكن أن يلحَقَ بها بعضُ من ابتُلي من هذه الأمةِ فضلاً من الله ونعمةً وكرامةً .
وذكر من هؤلاء الذين يلحقونَ بدرجةِ الشهيدِ ( المطعونُ والمبطونُ والغرِقُ وصاحبُ الهدم ) وسوف نتكلم عنهم إن شاء الله .
قوله ( المطعون ) ؛ وهو المصابُ بداءِ الطاعونِ ، وهو داءٌ عُضالٌ غالباً ما يؤدي للموتِ مباشرةً ونادراً ما يَسْلَمُ منه من أصيبَ به . وتعلمون وباءَ الطاعون الذي وقع بالشامِ وهو طاعونُ عمواسٍ وقد مات فيه أمةٌ من الناس في عهدِ الصحابة رضي الله عنهم ، وبعضُ الصحابة كان يدعو الله ( أن يرزقَه من هذا الطاعونِ فأصيبَ هو وأهلُه به لأن النبيَّ ( خصَّ الطاعونَ بأحكامٍ كثيرةٍ ، ولذلك صنَّفَ فيه الإمامُ ابنُ حَجَرَ كتاباً سماه [ بذلُ الماعونِ في فضلِ الطاعونِ ] ، والنبيُّ ( دعا لأمَّتِه أن يكون موتُهم بالطعنِ والطاعونِ فقال : " اللهم اجعلْ فناءَ أمتي بالطعنِ والطاعونِ " يعني : إما قتلاً في سبيلِ الله ، وإما موتاً بمرض الطاعونِ ، وذلك لأنَّ الطاعونَ شهادةٌ لكلِّ مسلمٍ . وثبت في الحديثِ أنه " وَخْزٌ إخوانُكُم من الجِنِّ " ، هكذا قال النبي ( ، فكما أن الطعنَ في القتالِ هو وخزُ أعدائِنا من الأنسِ فكذلك الطاعونُ هو وخزُ أعدائنا من الجن .(1/120)
والطاعونُ غُدَّةٌ تخرجُ في الأماكنِ الرقيقةِ من الجسم ؛ إما في باطنِ اليدِ وإما في الإبْطِ ، وهذه هي الغدةُ التي تَتَسَبّبُ بموتِ الشخصِ الذي يُصابُ بهذا المرضِ الخبيثِ .
ثم ( المبطون ) ؛ وهو صاحبُ المرضِ الذي يكونُ في البطنِ ويقتُلُه بطنُه ، وهذا هو المبطونُ . ويدخلُ في ذلك أمراضٌ كثيرةٌ .
وأما ( الغَرِقُ ) وهو النوعُ الثالثُ ؛ هو الذي يموتُ غَرَقاً .
و ( صاحب الهدم ) ؛ هو الذي يُهدَمُ عليه بناءٌ ونحوُه ، فهذا يسمى صاحبَ الهدم . فكذلك يعتبرُ هذا النوعُ من الشهداء .
ثم ذكر بعدَ ذلك في هذا الحديثِ ( والشهيدُ في سبيل الله ) .
ثم إن هذا الحديثَ قد جاءَ في بعضِ طرقِ الحديثِ فزِيد فيه بعضُ من لم يذكرْ هنا ، وإنما ذُكِرَ في حديث جابرِ بنِ عتيكٍ الذي ذكرناه ، ومن هؤلاء :
( المجنوب ) ؛ وهو صاحبُ ذاتِ الجَنْب ، وذاتُ الجنبِ داءٌ معروفٌ عند العربِ يسمى ( الشوصة ) والذي يموتُ بهذا الداءِ يعتَبَرُ أيضاً من الشهداء .
وكذلك المرأةُ التي تموتُ بجَمع أو بجُمع ؛ وهي المرأةُ التي يقتُلُها ولدُها في بطنِها إما عندَ نفاسِها أو وهي حاملٌ فيه ويتسبَّبُ الولدُ في قتلِها ، فمِنَ النساءِ من يقتُلُها ولدَها في بطنِها ، ومنهُنَّ من يقتُلها ولدُها عندَ النفاسِ ، فهذه يكتَبُ لها أجرُ الشهيد .
وكذلك ( صاحبُ الحريقِ ) الذي جاء في حديث جابرِ بنِ عتيكٍ ، وجاء أيضاً في حديث أبي هريرةَ خارجَ الصحيح .
وهذه المِيتاتُ كلُّها ميتاتٌ شديدةٌ ، فكان الأجرُ من الله ( أن أُلحِقَ هؤلاءِ بمنزلةِ الشهداءِ كما قدَّمْنا .
وليس الأمرُ محصوراً في هؤلاءِ السبعةِ ، ولعلَّ السبعَ هنا أُطلِقَتْ للتكثيرِ كما هي عادةُ العرب ؛ فإن التعبيرَ بالسبعِ يطلَقُ ويرادُ به أحياناً العددَ تماماً ، وأحياناً يطلق ويرادُ به التكثير .(1/121)
فقد ثبتَ في أحاديثَ أخرى أنواعاً اعتُبِرَتْ من الشهداءِ ، وقد ذكرنا في المحاضرةِ الفائتة أنواعاً من هؤلاء ، فذكرنا أن من يُنكَبُ في سبيل الله فهو شهيدٌ كمن وَقَصَتْهُ ناقتُه وكمن لدغَتْه هامةٌ ، وكذلك من يموتُ حتفَ أنفِه وهو في الجهادِ فهو شهيدٌ ، وجاء في بعض الأحاديثِ أن الذي يموتُ غريباً عن وطنِه فهو شهيدٌ ، وكذلك الذي يموتُ مرابطاً في سبيلِ الله فهو شهيدٌ ، وكذلك الذي يتردّى من رؤوسِ الجبالِ جاء في بعضِ الرواياتِ أنه شهيدٌ ، والذي يموتُ بسببِ دُوارِ البحر ( المائدُ في البحرِ ) ، وغير هؤلاء أوصلَها الحافظُ ابنُ حجر إلى عشرينَ خصلةً يصلُ بها المسلمُ إلى درجةِ الشهيد ، وقلنا إن هذا من بابِ الإلحاقِ بمراتبِ الشهداءِ وليس معناه أن درجةَ الشهيدِ الذي يقتَلُ في سبيلِ الله تستوي مع درجةِ هؤلاءِ بل إنها مراتبٌ وأعلى درجاتِ هذه المراتبِ الذي يهراقُ دمُه ويعقَرُ جوادُه كما جاء في بعضِ الأحاديثِ ، هذه أعلى درجاتِ الشهادة ، وهؤلاء دونَها وكلُّ مرضٍ من هذه الأمراضِ أيضاَ يتفاوتُ فيما بينه وبين المرضِ الآخَرِ بحسبِ الشدَّةِ ، وفضلُ الله واسعٌ ، والله تعالى أعلم .
يقول الإمامُ البخاريُّ رحمه الله :
باب قولِ الله ( : إلى قوله .
47 ـ حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبةُ ، عن أبي إسحاقَ قال : سمعت البراءَ ( يقول : " لما نزلت دعا رسولُ الله ( زيداً فجاءه بكَتِفٍ فكتَبَها . وشكا ابنُ أمِّ مكتومٍ ضرارَته فنزلت : .(1/122)
48 ـ حدثنا عبدُ العزيز بنُ عبد الله ، حدثنا إبراهيمُ بنُ سعدٍ الزهري ، قال : حدثني صالحُ بنُ كَيْسانَ ، عن ابنِ شهاب ، عن سهلِ بنِ سعدٍ الساعديِّ أنه قال : " رأيتُ مروانَ بنَ الحكمِ جالساً في المسجد فأقبلتُ حتى جلستُ إلى جنبِه ، فأخبرنا أن زيدَ بنَ ثابتٍ أخبره أن رسولَ الله ( أملى علي " قال : فجاءه ابنُ أمِّ مكتومٍ وهو يُمِلُّها عليَّ فقال : يا رسولَ الله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ ـ وكان رجلاً أعمى ـ فأنزلَ اللهُ تباركَ وتعالى على رسولِه ( وفخذُه على فخِذِي ، فثَقُلَتْ عليَّ حتى خِفْتُ أن تُرَضَّ فخذي . ثم سُرِّيَ عنه ، فأنزل الله ( : .
الشاهدُ في هذا الحديثِ أن الله سبحانه وتعالى استثنى من لا يستطيعُ الذهابَ إلى القتالِ لعَجْزِهِ من الحرمانِ من الأجرِ ؛ فإن الله ( عندما يقول كما نزلَتْ في بادئِ الأمرِ يُفهَم من ذلك أن القاعدَ سواءٌ كان قاعداً بعذرٍ أم بغيرِ عذرٍ فلا يستوي أبداً مع المجاهدِ في سبيلِ الله ، وهذا هو الذي أشكلَ على ابنِ أمِّ مكتوم .(1/123)
وتعرفونَ أن ابنَ أم مكتوم الصحابيَّ الجليلَّ الذي عاتبَ اللهُ ( فيه النبيَّ ( عندما نزلت سورة أن هذا الصحابيَّ الجليلَ كان أعمى ، فكيف يقومُ بالقتال ؟ والقتالُ في ذلك الزمانِ كما هو معلومٌ يقوم على البصرِ أكثرَ ما يقومُ ، فقال للنبيِّ ( كما في الحديثِ الثاني عن سهلِ بنِ سعدٍ : ( يا رسول الله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ ) فهذا معناه : أن نيَّتَه لو استطاعَ تَمَكَّنَ من الجهادِ لجاهدَ ، فالذي معه هو العُذْرُ . فأنزل الله ( تطييباً لخاطرِه وخاطرِ أمثالِه من المؤمنين الذين صدقوا من داخِل أنفسهم في الرغبةِ في الجهادِ في سبيل الله وتمنَّوا لو أن لهم القدرةَ ليجاهدوا ويبذلوا أنفسَهم في سبيلِ الله ( ، فأنزل الله ( هذا الاستثناءَ يعني : الذين لا يستَوُون مع المجاهدينَ إنما هم غيرُ أولي الضررِ ، وأما أصحابُ الضررِ فإنهم يستَوُون مع المجاهدين إذا صدقوا في النيةِ ، وسوف يأتي بابٌ خاصٌّ بذلك إن شاء الله تعالى .
ثم بيَّنَ الله ( أنه فَضَّلَ المجاهدينَ على القاعدينَ أجراً عظيماً ودرجاتٍ ، وقوله هنا يعني : منزلةً ، والمنزلةُ يندرجُ تحتَها مراتبُ الشهداء التي جاءت في الحديثِ أن للشهداءِ مائةَ درجةٍ في الجنة ، فهذه الدرجةُ المذكورةُ هنا يندرجُ تحتَها الدرجاتُ كلُّها ، ولذلك قال الله ( ، وقال .
قد يتوهمُ البعضُ أن هذه الآيةَ من الأدلةِ على أن الجهادَ ليس من فروضِ الأعيان ، أو أنه هناك مندوحةٌ لمن يُحِبُّ أن يجلسَ ولا يجاهدَ ومن يرغبُ في الجهادِ وأن ذلك بمحضِ الإرادة .
فالجواب ؛ أولاً : هذه الآيةُ بطبيعةِ الحال في جهادِ الطلبِ .(1/124)
وثانياً : أن هذه الآيةَ كونُها تدلل على أن المجاهدينَ أفضلُ من القاعدين فلا تعني إجازةَ القعودِ ، وإنما تعني أنه في حالةِ القعودِ وخروجِ من خرج في سبيل الله فالخارجُ أعظمُ درجةً من القاعدِ وإن كان القاعدُ ينتظر أن يخرجَ في وقتٍ آخرَ ، فلا تعني هذه الآيةُ أن القاعدَ سيقعُدُ طوالَ عمره لا يقاتل في سبيل الله ، وإنما الأمرُ على ما ذكرناه في المحاضرةِ الفائتة أنه لا بد للمسلِمِ أن يجاهدَ ، وليس شرطاً أن يجاهدَ في كل خروجٍ ، ولكن الذي يحرصُ على الجهادِ والخروجِ في كل خروجٍ هو الذي ينالُ هذه الدرجاتٍ العاليةَ المذكورةَ .
ثم قوله هنا : ( لما نزلت في حديث البراءِ ( ) يقول : ( دعا رسولُ الله ( زيداً ) وكان زيدُ بنُ ثابت كاتباً للنبي ( فدعاه ليأتيَ بالكتف والدواةِ ، فكان النبي ( كلما نزل عليه شيءٌ من القرآن دعا أَحَدَ كُتّاِبه فأمره أن يكتُبَها ويُعْلِمُهم أن هذه الآيةَ في سورةِ كذا في موضع كذا . فدعا زيداً فجاء زيدٌ بالكتِفِ ، وهو اللوحُ الذي سيكتُبُ فيه فكتبها .
( وشكا ابنُ أم مكتوم ضرارتَه ) ؛ الضرارةُ والزمانةُ ما يُشتكي منه من الضررِ والمرضِ وهو العمى بالنسبةِ لابنِ أمِّ مكتومٍ ( . ( فنزلت هذه الآية ) ؛ يعني : نزل القيدُ وهو لإزالةِ الإجمالِ الذي في الآية الموهمِ بأن الجميعَ لا يستوون ، فاستثني أصحابَ الأعذارِ مثل ابن أم مكتوم وغيره من الصحابة .(1/125)
وأما حديثُ سهلِ بنِ سعدٍ الساعدي فهو أوضحُ في هذه القصة ، وفيه أن ابنَ أم مكتومٍ أتى والنبي ( يُمْلِلُ الآيةَ على زيدٍ فقال : ( يا رسول الله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ ) يعني : أظهرَ عذرَه . ( فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله ( وفخذه على فخذي ) ؛ الواو هنا يسميها أهلُ العلمِ ( الحاليةَ ) يعني : والحال أن فَخِذَ النبي ( كانت على فخذِ زيدِ بنِ ثابتٍ أثناءَ النزولِ .وهذا الجزءُ من الحديثِ احتجَّ به من لم يَرَ الفخذَ عورةً ؛ لأنه لو كانتِ الفخذُ عورةً لما وضعَ النبي ( فخذَه على فخذِ زيد ، وسوف يأتي كلامٌ على ذلك أيضاً في حديثٍ يأتي قريباً .
ثم قال ( فثقلت علي حتى خِفْتُ أن تُرَضَّ فخذي ) ؛ وكان النبيُّ ( إذا نزلَ عليه الوحيُ يَعْتَريه أحوالٌ تُدَلِّلُ على أنه يحصل له شيءٌ خارقٌ ليس كما يُعرَفُ على البشرِ عامة . فالقرآن له ثِقْلٌ كما قال الله ( : فكان النبي ( إذا نزل عليه شيءٌ من القرآن تأخذه الرُّحَضَاءُ ويعرق عرقاً شديداً ولو كان في اليومِ الشاتي شديدِ البردِ ، وكذلك كان يحمَرُّ وجهُه ويغط غطيطاً شديداً ثم يثقل جداً حتى إنه لو نزل عليه الوحي وهو على دابة لبرَكت هذه الدابةُ ولما استطاعت أن تتحمل ثقلَ هذا الوحي . فيُخبر زيد أنه لما نزلت هذه الآيةُ على النبي ( صادف ذلك أن فَخِذَ النبي عليه الصلاة والسلام كانت على فخذ زيد ، فكادت أن ترضَّها وتؤذيَها إيذاءً شديداً من هذا الثقل .
( ثم سري عنه ) يعني : ذهبت عنه الحالةُ التي تأتيه عند نزول الوحي ؛ فإذا بهذه الآيةِ قد نزلت لاستثناءِ أصحابِ الضرر ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب الصبرُ عند القتالِ .
49 ـ حدثنا عبد اللهُ بنُ محمد ، حدثنا معاويةُ بنُ عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن موسى بنِ عقبة ، عن سالمٍ أبي النضر أن عبدَ الله بن أبي أوفى كتب فقرأتُه : إن رسولَ الله ( قال : " إذا لقيتموهم فاصبِروا " .(1/126)
باب التحريضُ على القتال ، وقول الله ( : .
50 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ محمد ، حدثنا معاويةُ بنُ عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن حميد قال : سمعت أنساً ( يقول : خرجَ رسولُ الله ( إلى الخندقِ فإذا المهاجرون والأنصارُ يحفُرون في غداةٍ باردةٍ ، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصَبِ والجوعِ قال : " اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرةِ ، فاغفر اللهم للأنصارِ والمُهاجِرَه " . فقالوا مجيبين له :
نحن الذين بايعوا محمداً ……… على الجهاد ما بقينا أبدا
باب حفرُ الخندق .
51 ـ حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبدُ الوارث ، حدثنا عبدُ العزيز ، عن أنسٍ ( قال : جعل المهاجرونَ والأنصارُ يحفرون الخندقَ حولَ المدينة وينقُلون الترابَ على متونِهم ويقولون :
نحن الذين بايعوا محمداً ……………على الجهاد ما بقينا أبدا
والنبي ( يجيبهم ويقول : " اللهم إنه لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة ، فباركْ في الأنصارِ والمهاجِرَة " .
52 ـ حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق سمعت البراء ( يقول : " كان النبيُّ ( ينقلُ ويقول : لولا أنتَ ما اهتدينا " .
53 ـ حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ( قال : رأيتُ رسولَ الله ( يومَ الأحزابِ ينقل الترابَ ـ وقد وارى الترابُ بياضَ بطنه ـ وهو يقول : " لولا أنتَ ما اهتدينا ، ولا تَصَدَّقْنا ولا صلَّينا ، فأنزِلِِ السكينةَ علينا ، وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لا قَيْنا ، إن الأُلى قد بَغَوْا علينا ، إذا أرادوا فتنةً أبَيْنا " .
هذا البابُ يبين فيه الإمامُ البخاري رحمه الله أدباً من الآداب التي يجب على المجاهدِ أن يأخذَ بها عند القتال ، وهو الصبرُ والثباتُ ؛ فإن المجاهدَ إذا لم يصبرْ فإنه ينهارُ أمامَ أوَّلِ مِحْنَةٍ يَعرُضُ لها .(1/127)
فذكر في هذا الباب حديثَ عبدِ الله بنِ أبي أوفى عندما كتب إلى عمرَ بنِ عُبيدِ الله ، وقد ذكرنا طرفاً من هذا الحديث في حديثنا عن باب : الجنةُ تحت بارقةِ السيوف ، فقد ذكر فيه جزءاً من حديثِ النبي ( الذي كتبه ابنُ أبي أوفى وفيه " واعلموا أن الجنة تحتَ ظلالِ السيوف " . ومن التعليماتِ والتوجيهاتِ التي ذكرها النبيُّ ( وكتبها ابنُ أبي أوفى في هذا الكتاب " إذا لقيتموهم فاصبروا " ، أي : إذا لقيتم العدوَّ فاصبروا واثبتوا كما ذكر الله ( في كتابه : فهذا أدبٌ من آدابِ القتالِ وسوف يأتي إن شاء الله تعالى الحديثَ مطوَّلاً في أبوابٍ قادمةٍ ، والحديثُ جامعٌ ذُكِرَ فيه أدبُ المجاهدين . نسأل الله ( أن يمدَّ في العمر حتى نصلَ إليه ونشرحَه كاملاً .
ثم يقول هنا ( باب التحريض على القتال ) وذكر فيه قولَ الله ( ، والتحريضُ هو : الحثُّ والتحضيضُ ، والله ( أمرَ رسولَه ( أن يُحرِّضَ المؤمنين على القتالِ ؛ أي : يشجعَهم ويحثَّهم . وقد نفَّذَ النبيُّ ( وصيةَ الله ( له وأمرَه ( بذلك ، وكذلك سلك من بعدَه من أهلِ الخير والفضلِ من القرون المفضلة ومن تبعهم هذا المسلكَ . ولا بدَّ أن نَسْلُكَ نحن أيضاً هذا المسلكَ اقتداءً بالنبي ( ، ونسألُ الله ( أن تكون هذه الدورةُ وكلامُنا عن القتالِ والجهاد في سبيل الله من هذا الباب وأن يُكتَبَ لنا هذا الأجرُ العظيمُ .(1/128)
وذكر في هذا الباب حديثَ أنس ( عندما خرج النبي ( إلى الخندقِ ، وتعلمون ما حدث في غزوة الخندق من اجتماعِ جحافلِ الكفر حول المدينة يريدون أن يفتِكُوا بالنبي ( والمؤمنين . فأمر النبي ( بحفر خندقٍ حولَ المدينة ، وكان ذلك بإشارةٍ من سلمانَ الفارسيِّ ( كما روي ذلك . فخرج ذاتَ يومٍ وهم يحفُرون فإذا بهم يحفرون بأنفسِهم ليس لهم عبيدٌ يكفونَهم هذه المشقةَ ، وتخيَّلوا حفرَ خندقٍ يمنع من دخولِ المقاتلين الكفارَ بخيولهم حولَ المدينة . ولم يكن الخندقُ حولَ المدينة كلِّها طبعاً ، ولكنه كان في مسافةٍ كبيرة جداً بين جبلينِ ، وهذا المكانُ هو المدخلُ الذي سيدخلُ منه الأحزابُ في مَقْدَمِهِم إلى المدينة ، فلذلك حفرَ الخندقَ لمنعِهِم من الدخولِ . فتعِبَ الصحابةُ تعباً شديداً في حفرِ هذا الخندقِ وأصابهم شيءٌ عظيمٌ من النصَبِ والتعبِ والجوعِ ، والقصصُ الواردةُ في بعض هذه اللحظاتِ الشديدةِ كثيرةٌ لا نستطيعُ أن نطيلَ بها الآن ، ولكن لعلَّه يعرُضُ بعضُها وهي مذكورةٌ في المغازي وأحداثِ غزوةِ الخندقِ في صحيحِ البخاري أيضاً . فقال النبي ( مشجعاً لهم : ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ) ؛ هذا يواسيهِم به النبيُّ ( على هذه المشقَّةِ وهذا الألمُ الذي يشعُرون به أثناءَ هذا الحفرِ ، ثم يدعو لهم فيقول ( فاغفرِ اللهم للأنصارِ والمهاجرة ) . وهذا الكلامُ فيه شيءٌ من السجَعِ والنَّظْمِ ، وتختلف فيه الرواياتُ ، وكما قلنا إن النبيَّ ( إذا قال بيتاً أو بيتين أو نحوِ ذلك لا يعتبَرُ هذا من الشِّعْرِ الذي يُزِيلُ عنه عدمَ معرفته بالشعرِ ؛ فإن النبي ( ليس بشاعرٍ ولا يَعرِفُ أن يقولَ الشعرَ ، هكذا أرادَ الله ( له أن لا يعرفَ الشعرَ وكُتِبَ له أن يعرفَ أعظمَ من الشعر ومن النظمِ ومن النثرِ ومما يعرفُه الفصحاءُ البلغاءُ وهو القرآنُ الكريم ، فقول النبي ( بيتاً أو بيتين من الشعرِ لا يتنافى مع ذكرِ الله ( أنه ما علَّمَ رسولَه ((1/129)
الشعرَ ، كما قال تعالى : ، فالنبي ( قال هذا البيتَ للصحابة فقالوا مجيبين له :
نحنُ الذين بايعوا محمداً …………على الجهادِ ما بقينا أبدا .
ثم ذكر الإمامُ البخاري بعد ذلك باباً في حفرِ الخندقِ ، فذكر نفسَ الحديثِ وذكر فيه أن الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يحمِلُون الترابَ في حفرِ الخندقِ على متونِهم ( أي : على ظهورهم ) ويقولون هذا الكلام :
نحن الذين بايعوا محمدا……………على الجهاد ما بقينا أبدا .
وذكر فيه حديثَ البراء ، وفيه أن النبيَّ ( كان ينقلُ ويقول ( لولا أنت ما اهتدينا ) ؛ يعني : كان رسولُ الله ( ينقل معهم الترابَ ويقول أثناءَ النقلِ ( لولا أنت ما اهتدينا ) . وهذه الكلماتُ جزءٌ من أبياتٍ تمثَّل بها النبيُّ ( وهي من شعرِ عبدِ الله بنِ رواحةَ ، وسوف تأتي مطوَّلةً في الطريق الثاني ، وفيه ( رأيت رسولَ الله ( يومَ الأحزاب ينقل الترابَ ـ وقد وارى الترابُ بياضَ بطنه ـ ) يعني : من شدةِ النقل . والنبي ( كان أبيضَ بياضاً كالفضةِ فيما داخل جسده ( ؛ فظهرُه وبطنُه كان بياضُه فيها كأنه سبيكةُ فضة كما جاء ذلك في بعضِ الروايات ، وهو يقول أثناء نقلِ التراب ( لولا أنت ما اهتدينا ... ) أي : لولا أنت يا الله وتوفيقُك لنا وعونُك لنا ما تصدقنا ولا صلينا ولا اهتدينا ، ( فأنزلِ السكينةَ علينا ) وهي : الهدوءُ والطمأنينةُ ، ( وثبتِ الأقدامَ إن لاقَيْنا ) يدعو الله ( بتثبيتِ الأقدامِ عند لقاءِ العدو ( إن الألى ) أي : الناس وهم الكفار ، ( قد بغَوا علينا وإن أرادُوا فتنةً أَبَيْنا ) أي : إن أرادوا إخراجَنا من الإيمانِ إلى الشركِ أبينا ، يعني : رفَضْنا ولم نُسَلِّمْ لهم .
والشاهدُ في ذكرِ الحديثِ في باب ( التحريض على القتال ) ؛(1/130)
قال بعضُ أهلِ العلم : هو مباشرتُه ( للحفرِ بنفسِه ، وهذه وجهةُ نظرٍ وأراها بعيدةً . ولكن الشاهدَ فيه من التحريضِ على القتالِ هو ما ذكره النبيُّ ( لأصحابِه بقوله " إن العيشَ عيشُ الآخرةِ فارحمِ الأنصارَ والمهاجره " ؛ فدعاؤه لهم بالرحمةِ والمغفرةِ لأنهم يقومون بالتجهيزِ للعدوِّ ، فيه تحريضٌ لهم على الاستمرارِ بهذا العملِ العظيم . وكذلك قولُه " إن العيشَ عيشُ الآخرة " إنما هو بيانُ أن جزاءَ هذا العملِ الذي يعملونه هو الفوزُ في الآخرة ، وفي هذا تحريضٌ صريحٌ وواضحٌ . ثم إن فيه أيضاً إقراراً لأصحابه حيث يحرضُ بعضُهم بعضاً فإنهم جاوَبُوه قائلين ( نحن الذين بايعوا محمداً ، على الجهادِِ ما بقينا أبداً ) ؛ فهذا فيه تحريضٌ لبعضِهم البعض ، فهذا الذي يظهرُ لي في سَوْقِ هذا الحديثِ في باب التحريض .
أما إفرادُ البخاري باباً لحفرِ الخندق ، فهذا من أبوابِ الجهاد ؛ لأن حفرَ الخندقِ نوعٌ من الأنواعِ التي تُسْتَعمَلُ في محاربةِ العدوِّ وفي الجهادِ في سبيل الله ، فهذا كما يسميه العسكريون ( التكتيك العسكري ) فحفرُ خندقٍ يحجِزُ الكفارَ عن التقدمِ والمهاجمةِ أمرٌ مطلوبٌ في الجهادِ .
شاهدٌ يؤخَذُ من هذه الرواياتِ ونختِم به اللقاءَ اليوم ، وهي مسألةُ الإنشادِ والأناشيدِ الإسلاميةِ وقد تكلَّمنا فيها كثيراً ، ولكن عندما أتى مجالُها الآن نُعَرِّجُ عليها باختصار .(1/131)
نلاحظُ أن النبيَّ ( أنشدَ هو وأصحابُه أثناءَ حفرِ الخندقِ ، وهذا أولاً دليلٌ على التسلي بمثلِ هذا الإنشادِ ، ولا يأتي شخصٌ يقول كان الأولى لهم أن يقرأوا كتابَ الله أو أن ينشَغِلُوا بالتسبيحِ والذِّكْرِ ، مع أنه لا شكَّ أن قراءةَ القرآنِ والانشغالَ بالتسبيحِ والذكرِ أفضلُ من الإنشادِ ، ولكن لكلِّ مقامٍ مقالٌ ؛ والشخصُ وهو يعمل الأولى له أن يأتيَ بالشيء الذي يُنَشِّطُه ولا يؤاخَذُ على عدم التركيزِ والإنصاتِ وفي نفس يكون له مساهمةٌ تُنْسِيه الألمَ والتعبَ الذي يشعرُ به أثناءَ العملِ ، فالذي يقوم بعملٍ ويضعُ شريطاً يستمعُ فيه إلى شيءٍ من الإنشادِ لا شكَّ أن النشيدَ يُعِينُه ويسهِّلُ له العملَ الذي يقوم به .
ثم النقطُة الأخرى وهي : الإنشادُ بالنغمات . قلنا قبلَ ذلك : الذي يُحَدِّدُ نغمةً ويمنع نغمةً معينةً يطالَبُ بالدليلِ ، فَمَنِ الذي قالَ إن النبيَّ ( لم يكن يقولُ ذلك بنغمةٍ جميلةٍ وبصوتٍ جميلٍ ، ومن الذي قال إن الصحابةَ رضي الله عنهم عندما كانوا يقولون هذه الأبياتِ لم يكونوا يقولونها بصوتٍ جميلٍ وبنغمةٍ جميلةٍ ؟ بل الظاهرُ والذي يتبادرُ إلى ذهنِ المتأملِ أنهم كانوا يقولون ذلك بنغمةٍ جميلةٍ وبصوتٍ جميلٍ وبصفةٍ جماعيةٍ أيضاً ، وهذه نقطةٌ أخرى ، فالنَّغمُ هو الذي يُنَشِّطُ ويعينُ ويبعثُ في النفسِ النشاطَ والأنسَ والسرورَ ، ولأجلِ ذلك كان النبيُّ ( يتخذ الحُدّاءَ ويطلبُ من الحادي أن يحدوَ بالإبلِ لأن الصوتَ الجميلَ والنغمةَ الجميلةَ يعين الإبلَ على السيرِ مسافاتٍ طويلةً ولا تشعرُ بالتعبِ .
هذا الذي أردتُ أن أثيرَه لأن الإنشادَ في الجهادِ والإعدادَ للجهادِ فيه دفعٌ وتنشيطٌ للإنسانِ وخاصة الأناشيد الجهادية الحماسية التي تحثُّ على النشاطِ والتجهزِ للجهادِ ، والله تعالى أعلم .
المحاضرة الثامنة
( الجهادُ بالمالِ وتجهيزُ الغُزاةِ )(1/132)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ ? وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب مَنْ حبسَهُ العذرُ عنِ الغَزْوِ .
54 ـ حدثنا أحمدُ بنُ يونسَ ، حدثنا زهيرٌ ، حدثنا حميدٌ أن أنَساً حدَّثَهم قال : رجَعْنا من غزوةِ تبوكٍ مع النبيِّ ( .
55 ـ حدثنا سليمانُ بنُ حَرْبٍ ، حدثنا حمادٌ هو ابنُ زيدٍ ، عن حميدٍ ، عن أنسٍ ( : أن النبيَّ ( كان في غَزاةِ فقال : " إن أقواماً بالمدينةِ خَلْفَنا ما سلَكْنا شِعْباً ولا وادياً إلا وهُم معنا فيه ، حَبَسَهُمُ العذرُ " . وقال موسى : حدثنا حمادٌ ، عن حميدٍ ، عن موسى بنِ أنسٍ ، عن أبيهِ قالَ النبي ( .
قال أبو عبد الله : الأول أصح .
هذا البابُ الذي سوفَ نتحدَّثُ عنه الليلةَ إن شاءَ اللهُ تعالى سبَقَهُ بابُ حفرِ الخندقِ .(1/133)
وهناكَ نقطةٌ لم نتحدَّثْ عنها في لقائِنا الفائِتِ تتعلقُ بحفرِ الخندقِ ، وقد أشَرْنا إليها إشارةً سريعةً ، وهي أنه رُوي في بعض المغازي أن الذي أشارَ على النبي ( بحفرِ الخندقِ حولَ المدينةِ هو سلمانُ الفارسيُّ ، وأنه ذَكرَ له ذلك من خلالِ معرفتِه ببعضِ أساليبِ الحربِ التي كان يقومُ بها الفرسُ . فيعرض عندنا سؤال : هل تَعَلُّمُ أساليبِ الحربِ أو استخدامُِ الأسلحةِ التي يُعْرَفُ بها الكفارُ يُعتَبَرُ ذلك من التشبهِ بالكافرينَ ويمتنع على المسلمِ أن يفعلَ ذلك ؟
الجواب ؛ أن التشبهَ كما قلنا عدةَ مرات ، مبناه ( التفعل ) والتفعلُ غيرُ الفعلِ ، فإن هذا المبنى يلزَمُ فيه القصدُ والعمدُ والنيةُ ، فالنبي ( عندما يقول : " من تشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم " إنما يعني بذلك الذي يفعلُ هذا الفعلَ قاصداً أن يشابِهَ هؤلاءِ لنيةٍ في نفسه وليس لفائدةٍ وخيرٍ ونفعٍ لا على سبيلِ التشبهِ وإنما على سبيلِ الاستفادةِ والنفعِ ، ففرقٌ بين من يفعلُ فعلاً يفعلُه هؤلاءِ الكافرون محبةً لهم ورغبةً بأن يكون شبيهاً بهم ، وبين من يستفيدُ من شيءٍ هم يفعلونَه ووجدَ فيه خيراً له أو منفعةً ففعله بناءً على ذلك ، هذا ليس تشبهاً ؛ إذا فعلَ الشخصُ أمراً شابَهَ به الكافرينَ وهو لا يقصِدُ أن يتشبه بهم فهذا لا يدخلُ في نهيِ النبيِّ وتحذيرِه ، وإنما هذا ثابتٌ من فعله صلى الله عليه وسلم ومن فعلِ أصحابِه من بعدِه وسلفِ الأمة ، فكثيرٌ من الأسلحةِ التي كانت تُستَخْدَمُ في عهدِ النبي ( استُفيدَتْ من الكافرين ؛ كبعضِ السيوفِ الهندية ، وكذلك حفر الخندق ، وقضية المنجنيق وغير ذلك من الأسلحةِ التي لم يكن يعرفُها العربُ ، ولا حرجَ كما قلنا في الاستفادةِ من خبراتِ الكافرين طالما أنها تعودُ بالخيرِ والنفعِ على المسلمين .(1/134)
فالشاهدُ هنا هو مسألةُ حفرِ الخندقِ ، ويدخلُ في هذا في أيامِنا تعلمُ بعضِ الأمورِ العسكريةِ وأخذُ الأسلحةِ من هؤلاءِ الكافرينَ ومسايرةِ كلِّ ما ينتجُ عندهم على اختلافِ بقاعِهِم ومشاربِهم ، ولا يقولُ المسلمُ إن هذا تشبُّهٌ بهم ، وإنما إذا أرادَ أن يطلقَ يقول : إن هناك شَبَهٌ أو مشابهةٌ لهم ، وإنما التشبهُ كما قلتُ لا بدَّ فيه من القصدِ .
ويدخلُ في ذلك أيضاً أيُّ أمرٍ آخرَ غير قضايا التسليحِ وما يستفادُ منه في الجهادِ ، كالأمورِ العامةِ من الأنظمةِ التي يُستفادُ منها في المدنِ والمباني وقضايا المواصلاتِ والنقلِ وكلِّ شيءٍ في الحياةِ وُجِدَ فيه فائدةٌ عند الكافرينِ فالمسلمُ بها أولى وليسَ هذا من التشبه والله تعالى أعلم .
وفي باب اليومِ يقولُ البخاري ( من حبسه العذر عن الغزو ) وهذا الأمرُ قد مَرَّ في بابٍ آخر وهو البابُ الذي ذُكِرَ فيه قولُ الله عز وجل : . وهذا البابُ يعتَبَرُ تكميلاً للبابِ السابقِ ، فهذا البابُ الذي ذكر فيه الآية كان منصباً على عُذْرٍ مُعَيَّنٍ وهو العمى وسببِ نزولِ الآيةِ التي استثنت غيرَ أولي الضَّرَرِ ، وليسَ شرطاً أن يكونَ الشخصُ الذي لم يستطِعِ الجهادَ صاحبُ ضررٍ بل قد يكونُ صحيحَ البدنِ وليس متضرراً بشيءٍ وإنما لا يستطيعُ أن يجاهدَ لعذرٍ آخَرَ إما لكِبَرِ سِنٍّ وإما لقلةِ مالٍ وعدمِ وجودِ الظهرِ كما ذكر الله عن البكائينَ الذين إذا جاءوا إلى النبيِّ ليحملَهم معه قال فهؤلاء كلهم يدخلون تحتَ مسمى العذر . وقول البخاري ( من حبسه العذر عن الغزو ) يعني : ما حكمُه ، أو يكون تقديرُه أنه يلحقُ بِمَنْ غزا ؛ لأن الذي حبسهُ العذرُ يُؤجَرُ بهذه النية الصادقةِ في رغبَتِه في الجهادِ في سبيلِ الله .(1/135)
فالمسلمُ الآنَ إذا صَدَقَ في النيةِ وأرادَ أن يشارِكَ في الجهادِ ، ولكن كانتْ السبُلُ لا تُيَسِّرُ له الذهابَ ولم يُفتَحْ له المجالُ فإنه يُؤجَرُ على ذلك وكأنه مع الذين يجاهدون ، وهذا فضلٌ عظيمٌ علينا أن نُرَوَّضَ أنفسَنا عليه .
ثم ذكر الإمامُ البخاري رحمه الله في هذا البابِ حديثَ أنسٍ ( في غزوةِ تبوكٍ ، فإن النبيَّ ( وهو في غزوةِ تبوكٍ ذَكَرَ لأصحابِه أن أقواماً في المدينةِ لم يخرجوا معه في هذا الغزوةِ ولكن ما سَلَكَ المسلمون الذين معه شِعْباً ، يعني : طريقاً في الجبلِ أو وادياً من الأوديةِ إلا وهم معهم فيه ومعنى قولُه ( وهم معنا فيه ) يعني : شركاءَ معهم في الأجرِ كأنهم معهم حقيقة في هذا المسيرِ ، وكما ذكر الله عزَّ وجلَّ فيُكتَبُ لهم الأجرُ كاملاً كما لو كانوا مع النبي ( في مسيرِه . ثم ذكرَ السببَ في تحصيلِهم لهذا الأجرِ العظيمِ وأنهم كالمجاهدينَ في سبيلِ الله وإن كانوا في المدينةِ مقيمين ، وهو أن الذي حبَسَهم عن الخروجِ ليسَ التكاسلُ وليس عدمُ الصدقِ مع الله ( وإنما الذي حبسهم هو العذرُ الشرعيُّ المقبولُ ، والله تعالى أعلم .
ثم ذكر الإمامُ البخاريُّ رحمه الله بعضَ الأمورِ المتعلِّقَةِ بالنكاتِ الحديثيةِ فذكر أن موسى قد روى هذا الحديثَ عن حمادٍ عن حُمَيْدٍ ، فجعل هناك واسطةً وهو موسى بنُ أنسٍ بين حُميد وهو الطويلُ وبين أنسٍ . ثم رجَّحَ الإمامُ البخاري رحمه الله أن القولَ الأولَ وهو روايةُ حمادِ بنِ زيدٍ وروايةُ زهيرٍ أصحُّ ، فكلاهما روى هذا الحديثَ عن حُميد قال عن أنسٍ مباشرة ولم يذكروا موسى بنَ أنس .
وحمادٌ المذكورُ في الروايةِ التي ذكر موسى بنُ أنس هو حمادُ بنُ سلمةَ .(1/136)
ورجَّحَ البخاري الروايةَ الأولى وإن كان الحافظُ ابنُ حجرَ رحمه الله قال : الكلُّ ثابتٌ ويُوَجَّهُ هذا بأن يكونَ حُميد قد سمع الحديثَ من موسى بن أنسِ عن أبيه ثم سمعه مباشرةً من أنسٍ وهذا يحدث بكثرةٍ والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب فضلُ الصومِ في سبيلِ الله .
56 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ نَصْرٍ ، حدثنا عبدُ الرزاق ، أخبرنا ابنُ جُرَيْجٍ قال : أخبرني يحيى بنُ سعيدٍ وسهيلُ بنُ أبي صالحٍ أنهما سمعا النعمانَ بنَ أبي عَيّاشٍ عن أبي سعيدٍ الخدري ( قال : سمعت النبيَّ ( يقول : " من صام يوماً في سبيل الله بَعَّدَ اللهُ وجهَه عن النارِ سبعينَ خريفاً " .
ذِكْرُ الإمامِ البخاريِّ رحمه الله لهذا الحديثِ في كتابِ الجهادِ يُدَلّلُ على أنه يذهب إلى أن هذا الحديثَ المرادُ به الصومُ في الجهاد ، يعني كلمة ( في سبيل الله ) هنا المراد منها الجهاد .
وهناك من أهلِ العلم من حمل هذا الحديثَ على عمومِ كلمة في سبيل الله بمعنى : قربةً إلى الله وعبادةً لله ، فإن كلَّ الأعمالِ المقبولةِ تكون في سبيل الله ( . ولكن الذي يظهرُ من ترجمةِ الإمامِ البخاري لهذا الحديثِ ووضعِه في كتابِ الجهاد أنه يذهب إلى القولِ الأول وهو الأظهرُ لأنه قد وردَ ما يشابِهُهُ في بعضِ الرواياتِ ، ومن ذلك ما رُوي أنه ما من مرابِطٍ يرابطُ في سبيلِ الله فيصومُ يوماً في سبيلِ الله إلا باعد الله بينه .. وهكذا إلى آخر الحديث . وأيضاً النصُّ على فضلٍ زائدٍ مُعَيَّنٍ لهذا العملِ فيه دلالةٌ على أنه يُقصَدُ به حالةٌ معيَّنة . وقد تقدم أن هناك من الصحابةِ من كان يُفَضِّلُ الجهادَ على الصومِ ، فما هو الجمعُ بين الأمرين ؟(1/137)
الجمع بينَ الأمرين أن الجهادَ لمن قَدَرَ عليه له فضلٌ عظيمٌ ، ولكن إذا كان صيامُه وهو يجاهِدُ سوف يُضعِفُه عن الجهادِ فالأولى والأفضلُ في حقه أن يُفطِرَ ؛ لأن أجرَ الجهادِ أفضلُ وأعظمُ من فضلِ الصومِ ، وقد تكلَّمْنا عن ذلك في هذا البابِ الخاصِّ بهذه المسألةِ ، وهنا أن من استطاعَ أن يجمعَ بين الأمرينِ فلم يُضْعِفْه الصومُ عن الجهادِ فإنه يُفَضَّلُ في حقِّهِ أن يجمعَ بينَ الأمرين .
وهذا أيضاً ينسحبُ على المرابطِ كما قلنا في هذه الرواية التي ذكرناها ؛ فربما يكون الشخصُ لا يباشرُ قتالاً وإنما هو يرابطُ ، والرباطُ يَحصُل معه القدرةُ على الصومِ من غيرِ ضعفٍ عن الجهادٍ فيُفَضَّلُ معه أن يصومَ ويُكثِرُ من الصومِ لأجلِ الفضلِ الذي ذكرناه .
وهناك من أهلِ العلمِ من اعتبرَ كلمةَ السبعينَ هنا للتكثير ، كما نوَّهْنا سابقاً بأن العربَ يذكُرونَ السبعَ ويذكرون السبعينَ ويريدون التكثيرَ . فذهب بعضُ أهلِ العلمِ أن لفظةَ السبعين هنا إنما هي للتكثيرِ لأنه قد ورد في بعضِ الطرقِ أن الفضلَ مائةُ عام ، فهذا دليلٌ على أن السبعينَ ليست حداً لهذا الفضلِ وقد تزيدُ . والله تعالى أعلم .
باب فضلُ النفقةِ في سبيلِ الله .
57 ـ حدثني سعدُ بنُ حفصٍ ، حدثنا شيبانُ ، عن يحيى ، عن أبي سلمةَ أنه سمع أبا هريرة ( عن النبي ( قال : " من أنفقَ زوجينِ في سبيلِ الله دعاه خزنةُ الجنة ـ كلُّ خزنةِ بابٍ ـ أي فُلْ ، هلم " . قال أبو بكر : يا رسولَ الله ، ذاك الذي لا تَوى عليه ، فقال النبي ( : " إني لأرجو أن تكونَ منهم " .(1/138)
58 ـ حدثنا محمدُ بنُ سنِانٍ ، حدثنا فُلَيحٌ ، حدثنا هلالٌ ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ ، عن أبي سعيدٍ الخدري ( : أن رسولَ الله ( قام على المِنبرِ فقال : " إنما أخشى عليكم مِن بعدي ما يُفتَحُ عليكم من بركاتِ الأرضِ " ، ثم ذكر زهرةَ الدنيا فبدأ بإحداهما وثنّى بالأخرى . فقام رجلٌ فقال : يا رسولَ الله ، أوَ يأتي الخيرُ بالشرِّ ؟ فسكت عنه النبيُّ ( ، قلنا : يوحى إليه ، وسكت الناسُ كأن على رؤوسهمُ الطيرُ . ثم إنه مسح عن وجهه الرُّحَضاءَ فقال : " أين السائلُ آنفاً ؟ أوَ خيرٌ هو ـ ثلاثاً ـ إن الخيرَ لا يأتي إلا بالخيرِ . وإنه كلُّ ما يُنبِتُ الربيعُ ما يقتُل حَبَطاً أو يَلِمُّ ، أكلَتْ حتى إذا امتَدَّتْ خاصرتاها استقبلَتِ الشمسَ فثَلَطَتْ وبَالَتْ ثم رَتَعَتْ . وإن هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ ، ونِعمَ صاحبُ المسلمِ لمن أَخَذَهُ بحقه فجعلَه في سبيلِ الله واليتامى والمساكينِ ، ومن لم يأخذْه بحقِّه فهو كالآكلِ الذي لا يشبعُ ، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة " .
هذا البابُ في نوعٍ من أنواعِ الجهادِ العظيمةِ ، وهو الجهادُ بالمالِ . وقد قدَّمَ الله ( الجهادَ بالمالِ في مواضعَ من كتابه ؛ فإن الإنسانَ قد يشِحُّ بمالِه أكثرَ مما يشح بنفسه .
ففي هذا البابِ يتكلمُ عن فضلِ النفقةِ في سبيلِ الله ، وهو من أفضلِ الجهادِ ؛ فإن المالَ عصبُ الحياة ، والله ( ذكر أن المالَ هو قوامٌ للإنسانِ ، وكما تعلمون أنه لا بدَّ في الجهادِ من إعدادٍ ، وإعدادُ العدةِ والتسليحِ ونفقةِ الجنودِ كلُّ ذلك يستلزمُ مالاً ، فالمسلمُ عليه أن يُنفِقَ وأن يسارِعَ بالإنفاقِ في سبيلِ الله ، وهذه الآيةُ التي يضعُها البعضُ في غيرِ محَلِّها إنما نزلتْ في تَرْكِ النفقةِ في سبيلِ الله ، والله تعالى يقولُ في كتابه فالذي لا يُنفِقُ مالَه في سبيلِ الله إنما يُلقي بيده إلى التهلُكَةِ ، والمرادُ بالتهلكةِ العذابُ في جهنمَ والعياذُ بالله .(1/139)
والله ( يدعونا إلى النفقة ويذكر أن
فهذا البابُ داخلٌ في الإعدادِ للجهادِ والدعمِ له ، وهو النفقةُ في سبيلِ الله . وهذا الفضلُ العظيمُ الذي ذكره أبو هريرةَ عن النبي ( أن ( من أنفقَ زوجينِ في سبيلِ الله ) أي : شيئين من أي نوعٍ كان ؛ كناقةٍ مع جملٍ فإن ذلك يخدُمُ الجهادَ أكثرَ من أن ينفقَ شيئاً واحداً ، لأنه يمكنُ أن يحصلَ بينَ الزوجينِ تكاثُرٌ ، وهذا يُفيدُ في دعمِ الجهادِ أكثرَ ، ونحو ذلك .
والمرادُ عموماً الإكثارُ من النفقةِ حتى وإن لم يكنِ الأمرُ معلقاً بذَكَرٍ وأُنثى . فالإكثارُ من النفقةِ في سبيلِ الله تجعل المسلمَ تناديه خزنةُ الجنةِ من كلِّ بابٍ ، فانظروا إلى هذه الفضيلةِ العظيمةِ ، فالمسلمُ يتمنى أن يُسمَحَ له بدخولِ الجنة ، وهو الذي يسعى أن يدخلَ من البابِ ويُؤْذَنَ له ، وهذا الذي يُنفِقُ مالَه في سبيلِ الله إنما يَتَخَطَّفُه خزنةُ أبوابِ الجنة ، كلُّ بابٍ تناديه خزنتُه ولا ينادونه هكذا وإنما ينادونه بلفظِ الترخيمِ ولفظِ التدليلِ فيقولون له ( أي فُلْ أي فل ) ولفظة ( فُلْ ) لفظةٌ تُطلَقُ ويرادُ بها فلانٌ ، ولكن بنوعٍ من الترخيمِ تكريماً له وحِرصاً عليه ، فهذا دليلٌ عظيمٌ على فضلِ الجهادِ في سبيلِ الله ، فإن أيَّ شيءٍ يسيرٍ يُنفقُهُ المسلمُ يصِلُ به إلى أعلا منازلِ سائرِ الأعمالِ ، فكما تعلمون أنه في الجنةِ بابٌ يُقالُ له الريانُ لا يدخلُ منه إلا الصائمون ، ولكن المجاهدَ الذي جاهدَ ولو بمالِه فقط فإنه ينادَى من جميعِ الأبوابِ ويقال له ( هَلُمَّ وأقبِلْ وتعال ) يعني : يحرصونَ على دعوتِه لكي يدخلَ الجنةَ ، فأيُّ فضلٍ أعظمُ من هذا الفضلِ . فلْنَحْرِصْ يا أخوان على النفقةِ في سبيلِ الله ، وإن لم نُدْرِكِ الجهادَ بالنفسِ فلندركِ الجهادَ بالنفقةِ ، ولأجلِ هذا نرى أن أبا بكرٍ كان تعليقُه على هذا الفضلِ العظيمِ أنه قال ( يا رسولَ ، ذاك الذي لا تَوَى عليه ) أي : لا هلاكَ ولا(1/140)
ضياعَ عليه . فإن كان قد أنفقَ مالَه في سبيل الله فإنه ادَّخَرَهُ ، وهذا المالُ لم يذهبْ ولم يهلِكْ ولم يضِعْ وإنما ادَّخَرَ به فضلاً عظيماً جداً لا يتأثَرُ ولا يتَحَسَّرُ على هذه النفقةِ في وقتٍ من الأوقاتِ .
فكانتِ البشارةُ من النبي ( لأبي بكر ( في قوله ( إني لأرجو أن تكون منهم ) . وكما تعلمون فإن أبا بكر ( المجاهدَ الذي جاهدَ بنفسه وماله في سبيلِ هذا الدين ، جعل الله جميعَ أعمالِنا في ميزانِ حسناتِه وميزانِ الصحابةِ الأبرارِ الذين نصروا هذا الدين بأنفسِهِم وأموالِهِم . هذا أبو بكر ( الذي قال فيه النبي ( : " ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر " ، وذكر أنه لا أحدٌ أمنُ عليه إلا أبو بكر ( فإنه كان ينفقُ كلَّ ما يملكُ في سبيل الله ( حتى إنه يومَ الهجرةِ أخذَ مالَه أجمعُ الذي كان في بيتِه وأتى به النبيَّ ( ، فقال له النبيُّ ( : " ماذا تركْتَ لأهلِكَ يا أبا بكرٍ ؟ " قال : تركتُ لهم اللهَ ورسولَه . فهذا أبو بكرٍ ( الذي حاولَ عُمَرُ ( أن ينافِسَهُ في النفقةِ فلم يستطِعْ ، فكان هو مِنْ أحقِّ الصحابةِ أن يُقالَ له هذه البشرى ( إني لأرجوَ أن تكونَ منهم ) فإنه ( سوف ينادَى من جميعِ أبوابِ الجنة ( أن هلم وأقبل ) وهو حقيقٌ بذلك ، والله أعلم .
الحديثُ الثاني الذي ذكره الإمامُ البخاريُّ رحمه الله في هذا البابِ ، بابِ فضلِ النفقةِ في سبيلِ الله حديثٌ عجيبٌ ، وهو مليءٌ بالفصاحةِ والبلاغةِ النبوية وجوامعِ الكَلِمِ التي هي مما اختُصَّ به النبيُّ ( وفُضِّلَ به عن سائرِ الأنبياءِ عليهم صلوات الله وسلامه .
وفيه أن النبيَّ ( قامَ على المِنبَرِ ووعظَ أصحابَه موعظةً بليغةً فحذَّرَهُم من زهرةِ الدنيا وما يُفتَحُ عليهم من البركاتِ .(1/141)
ويقول هنا ( بدأ بإحداهُما وثنّى بالأخرى ) يعني : بَشَّرَ أصحابَه بهذه البركاتِ التي ستُفتَحُ عليهم وحذَّرَهم من خشيتِه عليهم من هذا المالِ وهذه الفتنةِ التي تندرج تحتَ هذه البركاتِ ، فبدأ ببيانِ خشيتِه من هذا الفتحِ أو بدأ بذكرِ زهرةِ الدنيا ، لا يحضُرُهُ بأيِّ واحدةٍ منهما بدأ .
ثم يقول ( فقام رجلٌ فقال : يا رسولَ الله ، أوَ يأتي الخيرُ بالشرِ ؟ ) ؛ هذا سؤالٌ يستفهم فيه هذا الرجلُ من الصحابةِ الكرامِ ، وكأنه يستَنْكِرُ أن يكونَ الخيرُ وهو هذا المالُ وهذه البركاتُ أن تأتيَ بالشَّرِّ ، فكيف يحذِّرُهم النبيُّ ( من خيرٍ فَتَحَ اللهُ عليهم به ، فسكتَ النبيُّ ( فترةً علم الصحابةُ منها أنه يوحى عليه . وهذا الحديثُ من الأدلةِ التي تُدلل على أن السنةَ إنما كانت تنزِلُ بوحيٍ من الله ( ، وقد ذكرنا أمثلةً لذلكِ في دورةِ الحديثِ ، ومن ذلك ما كان في الإِذْنِ في الخروجِ لحاجَتِهِنَّ فإنه أُنزِلَ عليه ( فلما سُرِّيَ عنه قال لهن : " قد أَذِنَ اللهُ لكُنَّ في حاجَتِكُنَّ " ، وكذلك الرجلَ الذي سأله في إحرامِه بالعمرةِ وقد تَضَمَّخَ بالطيبَ ولبس جبةً ، فأنزل عليه الوحي ثم سُرِّيَ عنه فقال له : " انزَعْ عنك الجبةَ واغسِلْ عنكَ هذا الخلوقَ وافعلْ في حجَّتِكَ ما تفعلُ في عُمْرَتِكَ " ، أو كما قال ( ، فهذا كلُّه من الأدلةِ على أن النبي ( ما كان ينطقُ إلا عن وحيٍ مصداقاً لقولِ الله سبحانه وتعالى : ويقول ( : " أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه " ، يعني بذلك السنةَ . فكل ذلك وحيٌ من الله .
فلما سكتَ النبيُّ ( سكتَ الناسُ أيضاً وصمتوا وتركوا الحركةَ حتى كأَنَّ على رؤوسِهِمُ الطيرَ ، يعني : لو تحرَّكوا لطارَ هذا الطيرُ ، فسكتوا لأجلِ ذلك . وهذا تمثيلٌ لسكونهم وعدمِ حركتهم .(1/142)
ثم قال ( إن النبي ( مسح عن وجهه الرُّحَضَاءَ ) والرحضاءُ : العرقُ الذي كان يُصيبُ النبي ( عندما كان ينزلُ عليه الوحيُ ، وكما قلنا حتى إن ذلك كان يحصلُ في اليوم الشاتي شديدِ البردِ ومن شِدَّةِ الوحيِ وثقلِه عليه ( كان يتصببُ عَرَقاً .
فلما أزاحَ عن نفسِه ومسحَ هذا العرقَ قال : أين السائلُ آنفاً ؟ ثم قال له ( أوَ خيرٌ هُوَ؟ ثلاثاً ) هذا التكرارُ من النبي ( ليُدَلِّلَ على أن المالَ ليس خيراً حقيقياً وإنما هو خيرٌ بشرطٍ وشرٌ بغيرِ ذلك ، فإن لم يُطَبَّقْ هذا الشرطُ فإن المالَ في الحقيقةِ لا يكونُ خيراً لصاحبِه بل يكونُ شراً ووبالاً على صاحبِه . ثم ضُرِبَ له هذا المثلُ العظيمُ ، وهو قوله ( : " وإنه كل ما ينبت الربيع ...." فشبَّهَ المالَ بالنباتِ الذي يُنبِتُهُ الربيعُ . والربيعُ كما تعلمون هو الفصلُ الذي يخرُجُ فيه الأزهارُ والثِّمارُ وتخضَرُّ الأرضُ وتَيْنَعُ وتظهَرُ بهجتُها ، فمَثَّلَ المالَ بزهرةِ الربيعِ وبجمالِ الثمارِ التي تخرُجُ في الربيعِ وقال ( إن كلَّ ما يُنبِتُ الربيعُ إما يقتُلُ حَبَطاً ) يعني : إذا أكلتْ منه الدوابُّ وأكثرتْ عندما ترى هذه الأنواعَ وهذا الجمالَ فتموتُ بَشَماً ، فمعنى حبطاً أي : من شِدَّةِ الأكلِ وكثرَتِه وحصولِ التُّخْمَةِ في بطنِ الدابةِ ، فتجدُ الدابةَ قد ماتتْ من كثرةِ أكلِها من هذا الخيرِ الذي نَبَتَ مع وجودِ الربيعِ .
ثم نوعٌ آخرُ قد يقارِبُ الموتَ ولا يموتُ ولكنه يتأذى كثيراً لأنه أكثرَ من الأكلِ ولكنه لم يصلْ إلى درجةِ الدابةِ التي انشغلتْ وانهَمَكَتْ في كثرةِ الأكلِ ولم تلتفتْ إلى ما يُصْلِحُها وينفعُها .(1/143)
ثم ذكرَ نوعاً واحداً هو الذي يَسْلَمُ ، وهو الدابةُ التي تأكلُ بقدْرٍ معيَّنٍ ( حتى إذا امتدَّتْ خاصرتاها ) يعني : إذا شعرت بشيءٍ من الشِّبَعِ وامتلأ خاصرتاها بالطعامِ ، استقبلتِ الشمسَ للسكينةِ وللهدوءِ وللشعورِ بالدفءِ وتركتْ هذا الطعامَ الزائدَ ولم تلتفتْ إليه ، ( فثَلَطَتْ وبالت ) أي : أخرجَتْ ما فاضَ عن حاجَتِها ، ويُقال للدابةِ ( ثلطت ) إذا أخرجَتْ فضلاتِ طعامِها بصورةٍ سائلةٍ وبطريقةٍ لَيِّنَةٍ هَيَّنَةٍ ، فأخرجتْ ما فاضَ وفَضَلَ عنها وما زادَ عن حاجةِ جِسْمِها ، ( ثم رتَعَتْ ) وجلستْ ترتَعُ في هذه الجنانِ وهذه المروجُ التي أنبتَها الربيعُ .
وقوله ( أكلَتْ حتى امتَدَّتْ ) ؛ يعني : الدابةَ التي تأكلُ الخَضِر ، وقد جاءَ ذلك في بعضِ ألفاظِ هذا الحديثِ حيث يقولُ ( : " إلا آكلة الخضر " ؟
فهذا التمثيلُ من النبي ( ذكر فيه أصنافاً ثلاثة :
ـ نوعٌ من الناسِ يأكلُ من هذا المالِ ولا يلتفتُ إلى حلالٍ وحرامٍ حتى يهلِكَهُ هذا المالُ ويكون سبباً في ضياعِه ودخولِه جهنم ، والعياذ بالله . كالدابَّةِ التي أكلَتْ مما يُنبِتُ الربيعُ حتى ماتت من كثرةِ الأكلِ ، فلم تُخْرِجْ شيئاً من هذا المالِ وإنما أكلت بنَهَمٍ ولم تلتفتْ إلى ما ينفعُها ويضرّثها ، فماتت . فكذلك الذي يجمعُ المالَ من غيرِ حِلِّهِ ولا يتلفتُ إلى حرامٍ أو حلالٍ ثم يُتخَمُ به ولا ينفِقُ منه شيئاً فإنه يقتُلُه بمعنى أنه يُضيِّعُه ويُفسِدُ عليه آخرتَه ، بل إنه يفسِدُ عليه دنياه أيضاً .(1/144)
وذكرَ نوعاً آخرَ ، وهو الذي يأخُذُ من هذا المالِ ، ولكنه لا يأخذُه من حرامٍ بل من حلالٍ فقط ولكنه لا يُخرِجُ منه شيئاً في سبيلِ الله ، فهذا كالدابةِ التي تأكُلُ مما يُنبِتُ الربيعُ ولكنها لا تَصِلُ على الموتِ الكاملِ ، وإنما يحصُلُ لها ما يشابِه الموتَ ، فكذلك الشخصُ الذي لا يُنفِقُ في سبيلِ الله ويمسكُ المالَ فإنه يقارِبُ الهلاكَ لأنه يعذَّبُ في نارِ جهنمَ وإن كان يَخْرُجُ منها بعدَ ذلك بأصلِ إيمانِه .
وهناك القسمُ الثالثُ ؛ وهو الذي يأخذُ من هذا المالِ بالقصدِ وما يحتاجُ إليه ، ولا يلتفتُ إلى الإكثارِ مما لا ينفعُه ، ثم بعد ذلك يُخرِجُ ما زادَ عن حاجتِه وما لا يحتاجُه جسدُه . فهذا مِثْلُ الدابةِ التي تأكُلُ ما تَيَسَّرَ لها وما يُشبِعُها ثم بعد ذلك تُخرِجُ هذا السلحَ ، وهو ما عَبَّرَ عنه النبيُّ ( بقوله ( ثلطت ثم بالت ) وفي هذا تشبيهٌ بليغٌ بأن هذا الذي يُخرِجُه المسلمُ من المالِ يُشابِه هذه القاذوراتِ التي تُخرِجُها الدابةُ ، ولأجلِ هذا كان النبي ( يُسمي الصدقاتِ أوساخَ الناسِ ؛ لأنها تَغْسِلُ ذنوبَهم وتُطهِّرُهم وتُريحُهم وتُزَكّي أموالَهم ولأجلِ ذلك سُمِّيَتْ زكاةً .
والشاهدُ في الحديثِ أن الصدقةَ في سبيلِ الله هي التي تنفعُ صاحبَها وهي التي تُنَمّي أموالَه وهي التي تُبارِكُ له في هذا المالِ وتجعلُه ينتفِعُ بماله .(1/145)
ثم قال ( ( وإن هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ ، ونِعْمَ صاحبُ المسلمِ لمن أخذه بحقه ) يعني : هذا المالُ جميلٌ يُحِبُّه الإنسانُ بطبيعته وبما جبَلَه الله ( عليه ، وهو نعمَ صاحبٍ للمسلمِ أي : يكون نافعاً للمسلمِ إذا أخذه بحقِّه كما ذكرنا ، ( فجعلَه في سبيلِ الله واليتامى والمساكينِ ) ، أما الذي لم يأخُذْه بحقِّه فقد مثَّلَه النبيُّ ( بالآكلِ الذي لا يشبَعُ ( ثم يكون عليه شهيداً يوم القيامة ) كما جاء في أحاديثَ أخرى أنه يُكوَى بها جنبُ كانِزِه وظهرِه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
باب من جَهَّزَ غازياً أو خَلَفَه بخيرٍ .
59 ـ حدثنا أبو معمرٍ ، حدثنا عبدُ الوارثِ ، حدثنا الحسينُ قال : حدثني يحيى قال : حدثني أبو سلمةَ قال : حدثني بُسْرُ بنُ سعيدٍ قال : حدثني زيدُ بنُ خالد ( أن رسولَ الله ( قال : " من جَهَّزَ غازياً في سبيلِ الله فقد غَزا ، ومن خَلَفَ غازياً في سبيلِ الله بخيرٍ فقد غزا " .
60ـ حدثنا موسى بنُ إسماعيلَ ، حدثنا همامٌ ، عن إسحاقَ بنِ عبدِ الله ، عن أنسٍ ( : أن النبيَّ ( لم يكن يدخُلُ بيتاً في المدينةِ غيرَ بيتِ أمِّ سُلَيمٍ ، إلا على أزواجِه ، فقيل له ، فقال : إني أرحمُها ، قُتِلَ أخوها معي " .
هذا الحديثُ من الأحاديثِ التي تَفْسَحُ المجالَ أمامَ المسلمينَ في تحصيلِ أجرٍ عظيمٍ جداً قد لا يَتَيَسَّرُ لجميعِهم ؛ فإن الغزوَ كما تعلمون أمرُه عظيمٌ ، ويحولُ بين المسلمِ وبين أدائِه ظروفٌ عِدَّةٌ مع عِظَمِ أمرِه ، فإن النبي ( يقولُ : " من ماتَ ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزوِ مات على شعبةٍ من النفاقِ " ، نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ . فلا بدَّ للمسلمِ أن يغزوَ في سبيلِ الله أو على الأقَلِّ أن يُحَدِّثَ نفسَه حديثاً صادقاً بنيةٍ مخلِصَةٍ لله ( أن يغزوَ في سبيلِ الله إن لم يتيسَّرْ له ذلك .(1/146)
وهذا البابُ فَتَحَ باباً عظيماً لمن لم يستطِعْ الغزوَ بنفسه أو تعذَّرَ عليه ذلك ، فقال النبي ( : " من جَهَّزَ غازياً فقد غزا " ، وهذا تحقيقٌ منه ( بحصولِ أجرِ الغزوِ لمَنْ جَهَّزَ غازياً .
فنِعْمَ الحثُّ ونعمَ الفضلُ ، وعلينا جميعاً أن ننتهزَ هذه الفرصةَ العظيمةَ ؛ فإن لم نجاهدْ بأنفسِنا فلنجَهِّزِ الغزاةَ الذين يجاهدونَ في سبيلِ الله ، لعلَّ الله ( أن يتقبلَ هذا التجهيزَ وأن يكتبَ لنا أجرَ الغزوِ وأجرَ الجهادِ بهذه النية ، وأن يرفعَ عنا هذا التقاعسَ وهذا التكاسلَ الذي وقعنا فيه وهذا التفريطَ الذي وقعتْ فيه الأمةُ بمثلِ هذا العملِ اليسيرِ .
ومن جَهَّزَ غازياً جاء في بعض الرواياتِ ( حتى يستقل ) ؛ يعني : تجهيزاً كاملاً تاماً من جميعِ جوانبِ التجهيزِ ، فيجهزُه بالملبَسِ والسلاحِ والمَطْعَمِ والدابةِ ، وأن يستكملَ للمجاهِدِ عُدَّتَه . فإذا عَرَفَ غازياً فإنه يُنفِقُ عليه ما يُتَمِّمُ له تجهيزَه حتى مع نفقةِ السفرِ فإنه يُكتَبُ له أجرُ هذه الغزوةِ كاملةً سواءٌ رجَعَ أم قُتِلَ هناك في سبيلِ الله ، فهذا فضلٌ عظيمٌ كما قلتُ أن يُكتَبُ لك أجرُ الشهادةِ في سبيلِ الله وأنتَ قاعدٌ في بيتِكَ ، فمن يَكرَهُ هذا ولا يحرِصُ عليه ؟!
وجاء في بعضِ الأحاديثِ الصحيحةِ أن الأجرَ يكونُ بينهما ، أي : من جَهَّزَ الغازي أو من خلَفَ الغازي في أهلِه فإن الأجرَ يكونُ بينهما . وهذا ليسَ على سبيلِ المناصفةِ وإنما باعتبارِ أن كلَّ واحدٍ منهما يأخذً أجراً كما يأخذَُ الآخرُ فكأنَّ الأجرَ مقسومٌ بينهما نصفين ، وليس المرادُ أن الأجرَ ينقسمُ حقيقةً نصفين فيأخذُ المجاهدُ النصفَ ويأخذُ المُجَهِّزُ النصفَ . وكما تعلمون أن الدالَّ على الخيرِ كفاعلِه .(1/147)
ثم الشطرُ الآخرُ وهو مهم جداً أيضاً ، لأننا قد ذكرنا أنه لا يمكن أن يخرُجَ جميعُ المسلمينَ إلى الغزوِ ، فلا بدَّ من وجودِ من يصونُ البلادَ ومن يقومُ على شؤونِ مَنْ فيها ومن يقومُ بالأعمالِ التي لا يُستغنَى عنها ، فلا بدَّ للبَلَدِ من قاضٍ ولا بدَّ للبلدِ من حارسٍ ولا بد للبلدِ ممن يقومُ على شؤونِ النساءِ والأطفاِل ، ولأجلِ هذا بَيَّنَ النبيُّ ( أن الجميعَ يشتركُ فقال ( " ومن خَلَفَ غازياً في أهلِه بخيرٍ فقد غزا " .
وأنتم تعلمونَ أن النبي ( حذَّرَ تحذيراً شديداً من امرأةِ المجاهدِ الغائبِ الذي يخرُجُ في سبيلِ الله أن تُمَسَّ بأذى وحذَّر من ذلك أشدَّ تحذيرٍ .
وقوله ( بخير ) قيدٌ يشيرٌ به أنه قد يحصُلُ للبعضِ أن يخلُفَ المجاهدَ في أهلِه ولكنه لا يخلُفُهم بخيرٍ ، وقد يخونُ هذا المجاهدَ ؛ وهذا من أعظمِ الخيانةِ وأعظمِ الذنب . فالذي يخلُفُ المجاهدَ في أهلِه لا بدَّ أن يخلُفَه بخيرٍ ، وهذا بابٌ عظيمٌ جداً أنه يُكتَبُ لمن يخلُفُ المجاهدَ في أهله أجرُ المجاهدِ أيضاً كأنه يجاهدُ هو بنفسه .
ومعنى ( أن يخلفه في أهله ) : يقومُ على شؤونهم وينفقُ عليهم وينظُرُ في حاجتِهم ويحميهم ويحوطُهم ويهتَمُّ بأبنائِه كما لو كانوا أبناءً له ، فإنه إنْ فعلَ ذلك كان كأنه قد خرجَ هو إلى هذا الجهاد .(1/148)
ثم ذكرَ حديثاً يُدلل فيه على أن النبيَّ ( كان أولَ من طَبَّقَ ما قالَ ، وهذا مصداقق لقولِه تعالى : فالنبي ( أولُ من يلتزِمُ بما يقول . فيذكر أنسٌ ( أن النبيَّ ( لم يكن يدخُلُ في المدينةِ بيتاً غيرَ بيتِ أمِّ سُلَيم ، أي : بيتَ امرأةٍ ، وذلك وفاءً منه ( لأخيها الذي قُتِلَ في البعثِ الذي بعثه النبي ( ، فقوله ( معي ) لا يعني أنه قُتل في غزوةٍ كان فيها النبيُّ ( ولكنه قتل في سريةٍ بعثها النبي ( فاعتبرَ النبي ( ذلك قتلاً معه ، فكان من وَفائِه ( وحسنِ عهدِه وإحسانِه أن اعتبرَ هذه المرأةَ كأنها أختٌ له واهتمَّ بها وكان يتعاهدُها وينظرُ في شؤونِها . وبيتُ أمِّ سُلَيم هو نفسه بيتُ أمِّ حرامٍ بنتِ مِلحانَ لأنهما أختانِ ، فالنبيُّ ( كما مرَّ علينا كان يَقيلُ عندَ أمِّ حرامٍ وهو بيتُ أمِّ سُليم
والمقصودُ أن الذي يخلُفُ مجاهداً في أهلِه ليس شرطاً أن يكون ذلك أثناءَ الغزوِ وإنما يدخلُ في ذلك أيضاًَ أن يخلُفَه في أهلِه عندما يُستَشْهَدُ في سبيل الله ويُقتل ، فإنه إذا قامَ على شؤونِ أهلِه واهتمَّ بهم كُتِبَ له أجرُه أيضاً بهذا الفعلِ ، والله تعالى أعلم .
ونكتفي اليومَ بهذا القدرِ ، ونفتح البابَ للأسئلة المتعلقةِ بالجهادِ .
المحاضرة التاسعة
( التحنطُ للقتالِ وإرسالُ العيونِ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا ، من يهدِه الله فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكل محدثة بدعةٌ ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .(1/149)
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال
باب التَّحَنُّطُ عندَ القتالِ .
61 ـ حدثنا عبد اللهُ بنُ عبدِ الوهّاب ، حدثنا خالدُ بنُ الحارث ، حدثنا ابنُ عَوْنٍ ، عن موسى بنِ أنسٍ قال : وذكرَ يومَ اليمامة قال : " أتى أنسُ بنُ مالكٍ ثابتَ بنَ قيسٍ وقد حَسَرَ عن فَخِذَيْهِ وهو يتحنَّطُ فقال : يا عمِّ ما يُحْبِسُكَ أن لا تجيءَ ؟ قال : الآن يا ابنَ أخي ، وجعل يتحنَّطُ ـ يعني من الحَنوطِ ـ ثم جاء فجلسَ ، فذكر في الحديثِ انكشافاً من الناس فقال : هكذا عن وجوهنا حتى نضاربَ القومَ ، ما هكذا كنا نفعلُ مع رسولِ الله ( ، بئسَ ما عَوَّدْتُم أقرانَكم " . رواه حماد عن ثابت عن أنس .
هذا البابُ ذكرَ فيه الإمامُ البخاريُّ رحمه الله تعالى حديثاً يتعلقُ ببعضِ آدابِ القتالِ ، وقد ذكرَ في الأبوابِ الماضيةِ شيئاً من الآدابِ ومن الأمورِ التي يقومُ بها المقاتلُ من فنونِ الحربِ وغير ذلك . فهذا البابُ يَذكُرُ فيه أدباً قام به بعضُ أصحابِ النبي ( وهم خِيرَةُ هذه الأمةِ ، وأفعالُهم يُقتَدى بها ؛ فإن النبيَّ ( أثنى على أصحابِه وكتابُ الله ( أثنى عليهم في مواضِعَ عِدَّةٍ ، وقد أفَضْنا في ذلك عند حديثنا في دورةِ الحديث .(1/150)
فأصحابُ النبي ( قُدْوَةٌ ، وقد ذكر آنفاً الإمامُ البخاريُّ رحمه الله عن أبي طلحةَ أنه كان يُفَضِّلُ الغزوَ على الصومِ ، وهنا ذَكَرَ فعلاً من أفعالِ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمّاسٍ وهو من هو في الصحابة ومعلومٌ أن النبي ( أثنى عليه ، فكان ثابتٌ ( يفعلُ هذا الفعلَ ـ وهو التحنَّطُ عند القتال ـ وهو مُلْحَقٌ ببذلِ النفس في سبيلِ الله ، فإن التحنُّطَ هو طِلاءُ الجسمِ بالحَنوطِ ، وهو نوعٌ من الطيبِ وبعضِ الأعشابِ التي تُخلَطُ وتُوضَعُ على الميت حِفاظاً على جسده لفترةٍ معينةٍ ، وهذا الحَنوطُ التي يكون مع الأكفانِ خاصٌّ بالميت ، وهذا دليلٌ على أن المسلمَ الشجاعَ الحقَّ الذي باعَ نفسَه لله ( إنما يدخل القتالَ وهو يعلم أنه سيُقتَلُ ويموتُ لا يرجو من دخولِه حياتاً وإنما باعَ نفسَه لله ، وهذا مصداقُ قولِه تعالى : فالتحنطُ للقتال دلالةٌ على أن الذي سوف يدخل هذه المعركةَ إنما ينوي القتلَ والموتَ ولا ينوي الحياةَ وأن يخرجَ من هذه المعركةِ يستَأْنِفُ حياتاً جديدةً .
وهذه النقطةُ تَلْحَقُ بنقطةِ الانغماسِ بالعدوِّ والحملِ على العدو ، وقضيةِ العملياتِ الاستشهادية التي سبق أن ذكرناها وتكلَّمنا عليها بالتفصيلِ في لقاءٍ سابق ؛ وذلك لأن الذي يدخلُ الحربَ محنَّطاً قَصَدَ أن يُقتَلَ في هذه المعركةِ ، فسواءٌ حصلَ القتلُ بيدِ غيرِه أم بيدِ نفسه ، فالقتلُ حاصلٌ له لا محالةَ . ولا شكَّ أن التحنَّطَ للقتالِ يبعثُ في النفس الشجاعةَ والإقدامَ ، وكذلك يُشَجِّعُ الآخرين ؛ فإن إخوانَه إذا رأَوْهُ لبس ثيابَه وتحنَّطَ شعروا في أنفسهم إما بالتقصيرِ إذا لم يُؤَدُّوا ما يجب عليهم بالقتالِ ، وإما بالعزيمةِ على أن يفعلوا مثلَ فعلِ هذا الشخصِ الذي أقسمَ على الموتِ لا يهابُه ولا يخشاه ، وإنما يُرَحِّبُ به وينتظره ويتلقاه .(1/151)
والتأسي بمن مع الإنسانِ في المعركةِ أمرٌ هامٌ جداً ؛ فإن القضيةَ النفسيةَ في القتالِ لها دورٌ عظيمٌ ، ونحن الآن نعيشُ في الوضعِ الحالي في أفغانستانَ وفي العراقِ نلاحظُ أن أعداءَ الله يحاربون المسلمينَ محاربةً نفسيةً عظيمة ، فيُوهِمونَهم أن كلَّ شيءٍ قد انتهى ، وأنهم قد قَضَوا على المسلمين وأنهم قد مَلَكوا زمامَ الأمور ، وأنهم أصبحوا هم المسيطرين ، وهذه كلُّها أكاذيبُ ، ونسألُ الله ( أن يَرُدَّ كيدَهم في نحرِهم ، والمسلمون ولله الحمد بخيرٍ وما زالوا يقاتِلون وسيقاتلون إن شاء الله تعالى حتى يُخرِجوا أعداءَ الله من ديارِهم أو يموتوا شهداءَ ، يموتوا شرفاءَ ، هذا هو المظنونُ بهم إن شاء الله تعالى ، ونسألُ الله ( أن لا يؤاخذَنا بضعفِنا وعجزِنا وخَوَرِنا في هذا الحالِ .
والتحنطُ للقتال يشابِهُ الآن ما يفعلُه البعضُ وإن كانوا ليسوا على المنهجِ الصحيحِ ممن يُسَمَّوْنَ في العراقِ الآن ( فدائيوا صدام ) فهؤلاء كما تلاحِظونَ يلبَسونَ ثياباً بيضاءَ كأنهم يُشيرون بذلك إلى أنهم منتظرون للموت ، وهذا كما قلتُ يبعث في النفوسِ الإقدامَ والحماسَ والشجاعةَ ويشجع إخوانَهم على مثلِ فِعلهم إن صدقوا في فعلِ ذلك لوجهِ الله ( ليس لأجلِ شخصٍ ولا لأجلِ مذهبٍ باطلٍ وإنما في سبيل الله ( .(1/152)
هذا الحديثُ أخرجه الإمامُ البخاري بصورةٍ تُسمى عند أهلِ العلم ( بصورة الإرسال ) ، فالحديثُ عن موسى بنِ أنس قال : وذكر يومَ اليمامة قال : ( أتى أنسُ بنُ مالكٍ ثابتَ بنَ قيس ) ، وموسى بنُ أنسٍ لم يشهدْ هذا الوقتَ الذي جاء به أنسٌ إلى ثابتِ بنِ قيس ، وهذه الصورةُ تسمى ( صورة إرسال ) يعني : فيها شيءٌ من الانقطاعِ في السند ، ولكن الإمامَّ البخاريَّ رحمه الله أخرجَ من هذا النوعِ عدةَ أحاديثٍ ، وهذه تُحمَلُ عند أهلِ العلمِ على الاتصالِ ؛ لأن موسىَ بنَ أنسٍ المظنونُ أنه أخذَ هذا الحديثَ عن أبيه أنسٍ لأنه قد سمع منه ، وهذا الحديثُ العظيمُ لا يترُكُه أنسٌ ولا يحدِّثُ به ابنَه الذي لم يشهدِ الواقعةَ سواءٌ كان صحابياً أم تابعياً ، فالمظنونُ أنه أخذَ هذا الحديثَ عن أبيه . ثم إنه قد وردَ في بعضِ طُرُقِهِ التصريحُ بذلك أنه ذكر ( عن أنسٍ ( ) فذكر الحديثَ من روايةِ أنس مباشرةً فثبت الاتصالُ من الرواياتِ الأخرى والحمد لله .(1/153)
يقول ( أتى أنسٌ بنُ مالكٍ ثابتَ بنَ قيسٍ وقد حَسَرَ عن فَخِذَيه ) ، هذه المسألةُ التي أَشَرْنا إليها في حديثِ نزولِ قوله تعالى وكانت فخذُ النبيِّ ( على فَخذِ الكاتبِ وهو زيدُ بنُ ثابتٍ ، فقلنا إن وجودَ فخذِ النبي ( على فخذِ زيدِ بنِ ثابتٍ دليلٌ على أن الفخذَ ليست بعورةٍ ، وهذا الحديثُ الذي معنا اليومَ هو مما احتَجَّ به من يقولُ إن الفَخِذَ ليس بعورةٍ ، لأن أنساً ( رأى فخذَ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شمّاسٍ ولم يُغَطِّ ثابتٌ فخذَيْه ولم يُنكِرْ عليه أنسٌ رضي الله عنه كشفَه عن فخذيه ، معناه أن هذين الاثنين من الصحابةِ لا يريان بكشفِ الفخذِ بأساً ، وهذا بعد وفاةِ النبي ( ، فمعناه أيضاً أنه لم يَصِلْهُم ما يُدلِّلُ على نسخِ جوازِ كشفِ الفخذِ . وهذه المسألةُ اختلفَ فيها أهلُ العلمِ اختلافاً كبيراً ولا نُريدُ أن نُطيلَ بذلك لخروجِه عن موضوعِ الدورةِ ، ولكن الجمعَ بين الرواياتِ الواردةِ في كشفِ الفخذِ وحديثِ النبي ( الذي رواه جرهُدٌ الأسلميُّ في أن الفخِذَ عورةٌ ، هو ما ذكره الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله حيث قال : إن العورةَ عورتانِ ؛ عورةٌ مغلَّظةٌ وهي السوءتان ، وعورةٌ مخففَّة وهي الفخذان ، ويُتَساهَلُ في هذه العورةِ المخففةِ استناداً لهذه الأحاديثِ التي يُفهَم منها أن الفخذَ ليس بعورة .
يقول ( وهو يتحنط ) ؛ وقد ذكرنا ما معنى الحنوط .(1/154)
ثم قال له أنسٌ ( يا عمِّ ، ما يحبسك أن لا تجيء ) ، قوله ( يا عم ) هذا من بابِ الاحترامِ للرجلِ الكبيرِ لأنه بمنزلةِ عمِّه ، وهذا من بابِ التجوُّزِ بالقولِ لأنه ليس عمَّه وإنما عمُّه هو الذي يكونُ أخاً لأبيه ، ولكن هذا يجوزُ أن يُقالَ للرجلِ الكبيرِ الذي في منزلةِ الأبِ أو العمِ ( يا عم ) ، وكذلك يجوزُ للرجلِ أن يقولَ لمن هو في منزِلَةِ ابنه ( يا ابن أخي أو يا بني ) وهذا ليسَ حراماً كما يظن البعضُ ، وإنما هو ثابِتٌ وجائزٌ ولا حرجَ إن شاء الله تعالى لأنه مما اصطلحَ عليه الناسُ ليس فيه ادعاءُ بُنُوَّةٍ ولا أُبُوَّةٍ ولا ادعاءُ نسبٍ حقيقةً وإنما هو من بابِ التجوُّزِ في القولِ الذي اعتادَ عليه الناسُ .
فقال له ثابتٌ ( الآنَ يا ابنَ أخي ) يعني : الآنَ سوف آتي ، لأنه يقولُ له ( ما يَحْبِسُكَ ) والناسُ الآنَ في قتالٍ يقاتلون أتباعَ مسيلمةَ الكذابِ في وقعةِ اليمامة . ووقعةُ اليمامةِ كما تعلمون كانت في عهدِ أبي بكر الصديق ( ، وكانت لقتالِ المرتدين . وهذا يجرُّنا إلى التكلمِ عن أنواعِ القتال ؛ فإن القتالَ قد يكونُ مع كفارٍ أساساً ، وقد يكون القتالُ مع مرتدينَ ، وقد يكون القتالُ مع بغاةٍ مسلمين ، فهذه الأنواعُ كلُّها تُعْتَبَرُ من الجهاد في سبيل الله ، ولكلٍّ منها أحكامٌ تجتمعُ في بعضها وتختلفُ في البعض الآخر .
وهنا الحكمُ في قتالِ المرتدين أنه جهادٌ في سبيل الله ، ولأجلِ ذلك ذكرَ هذا الحديثَ في كتاب الجهادِ ، واعتبَرَ هذا من الجهادِ في سبيلِ الله لأنه لأجلِ إعلاءِ كلمةِ الله ، فكلُّ ما كان إعلاءً لكلمةِ الله فهو جهادٌ في سبيل الله . وسوف نتعرضُ لهذه المسألةِ في الكتابِ القادم بعد كتابِ الجهادِ أو الذي بعده .
فقال له ( يا عم ما يحبسك أن تجيء ) أي : لأجلِ مقاتلةِ هؤلاء المرتدين مع من يقاتلهم من الصحابةِ والتابعين رحمهم الله جميعاً .(1/155)
فقال ( الآن يا ابن أخي ) ؛ يعني : الآن سوف يذهبُ ، ولكنه ينتظرُ حتى يتجهزَ . ( وجعل يتحنط ـ يعني من الحنوط ـ ) هكذا قال تأكيداً لهذا الفعلِ العجيبِ الذي فعلَه ثابتُ بنُ قيس ( ، ويدلُّنا هذا على أن بعضَ الأفعالِ التي لم تُعرَفْ في عهدِ النبي ( إن فُعِلَتْ بعد عهدِه لا يُحكَمُ عليها مطلقاً بأنها بدعةٌ ، بل لا بدَّ من النظرِ في المقصدِ الذي فُعِلَتْ لأجله وهل هو مندرِجٌ تحتَ حُكمِ عامٍ أم لا يندرجُ ، وهل يُرادُ به التعبُّدُ لذاته أم لا وغير ذلك من الأمورِ التي يُحكَم بها على الشيء هل هو بدعةٌ أم لا ؟
فثابتُ بنُ قَيس عندما تحنَّطَ للقتال لم يكن هذا الأمرُ معروفاً في عهدِه ( ، ولكنه اجتهدَ وفعلَ هذا بناءً على النصوصِ الواردةِ في بذلِ النفس في سبيل الله ( فلا يُعتبَرُ هذا من الابتداع ، ولم يتحنطْ قربةً بذاتِ التحنُّطِ وإنما فعل ذلك كما قلنا ليُشَجِّعَ نفسَه وإخوانَه على بذلِ نفسه في سبيل الله ( .(1/156)
يقول ( ثم جاء فجلس ، فذكر في الحديث انكشافاً من الناس ) ، يعني : عندما وصل إلى المسلمين في القتالِ وَجَدَ انكشافاً ، يعني : شيئاً من الخوفِ والرهبةِ والهروبِ والنُّكوصِ عن القتال من البعض ، فلما وجد ذلك أخذ يُحَفِّزَهم ويلومُهم ويقول ( هكذا عن وجوهنا ) يعني : تأخَّروا وأفْسِحُوا لي ، ثم أَقْدَمَ رحمه الله وهو قد تحنَّطَ ولبس أكفانَه ، وجاء في بعض الروايات أنه كان يقول ( اللهم إني أبرأ وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ) كما قال أنسُ بنُ النضر في قتاله يومَ أحد . ثم قال لهم ( بئس ما عودتُم أقرانَكم ) يلومهم على هذا الخوفِ والهَلَعِ ، وفي بعض الروايات ( بئس ما علمكم أقرانكم ) يعني بذلك اللومَ والتوبيخَ لهم على هذا الضعفِ ، ثم أقدَمَ فقاتَلَ ( حتى قُتِلَ شهيداً إن شاء الله تعالى وهو مبَشَّرٌ بالجنة في حديث النبي ( وقد صدقَ رسولُ الله ( ، فقُتل شهيداً مقبلاً غيرَ مُدْبِرٍ ، وكُتِبَ لهم النصرُ على مسيلمةَ الكذابِ على الرُّغم مما حدث في وقعةِ اليمامةِ من قتلٍ شديدٍ اسْتَحَرَّ في القراءِ كما تعلمون في حديثِ سببِ جمعِ القرآن لأنه قد قُتِلَ عددٌ كبيرٌ في وقعة اليمامة التي فيها دولةٌ لمسيلمةَ الكذابِ ، فقُتِلَ فيها عددٌ كبيرٌ من القراءِ حفظة القرآن رضي الله تعالى عنهم ورحمهم جميعاً .(1/157)
قال البخاريُّ رحمه الله ( رواه حماد عن ثابت عن أنس ) ؛ أي : رواه حمادُ بنُ سَلَمَةَ عن ثابتٍ عن أنسٍ ليُدَلِّلَ على أن الحديثَ جاء موصولاً من روايةِ ثابتٍ عن أنسٍ بمتابعةِ موسى بنِ أنس على هذا الحديث ، وهو يريد أن يُشيرَ إلى أصلِ الحديثِ لأن حديثَ حمادٍ أطولُ من حديثِ موسى بنِ أنسٍ ، وهذا الحديثُ الذي علَّقَه بطرفٍ من إسنادِه موجودٌ عند الحاكم في مستدرَكِه وفيه قصةٌ طويلةٌ فيها أنه عندما قاتلَ حتى قُتِلَ سُرِقَتْ درعُه ، فرآه رجلٌ فيما يرى النائمُ فذكر له مكانَ الدرعِ وأنها عند فلانٍ في المكانِ الفلاني ، وأوصاه بوصايا ، فوجدوا الدرعَ كما قال وأنْفَذُوا وصاياه ، وهذا مما يُذكَرُ أنه الميتُ التي نُفِّذَتْ وصاياه بعد موته ، وهو كرامةٌ من الله ( له ، وكذلك الدلالةُ على مكانِ الدِّرْعِ كرامةٌ له أيضاً ومِنَّةٌ من الله للدلالةِ على منزلته العاليةِ التي وصل إليها ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري :
باب فضلُ الطليعةِ .
62 ـ حدثنا أبو نُعَيْمٍ ، حدثنا سفيانُ ، عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرٍ ، عن جابرٍ ( قال : قال النبيُّ ( : " من يأتِينِي بخَبَرِ القومِ " ؟ يومَ الأحزابِ . فقال الزبيرُ : أنا . ثم قال : " من يأتيني بخبرِ القوم " ؟ قال الزبيرُ : أنا . قال النبيُّ ( : " إن لكلِّ نبيٍّ حوارِياً وحواريَّ الزُّبَيْرُ " .
باب هل يَبعثُ الطليعةَ وحدَه .
63 ـ حدثنا صدقةُ ، أخبرنا ابنُ عُيَيْنَةَ ، حدثنا ابنُ المُنْكَدِرِ أنه سمع جابرَ بنَ عبدِ الله رضي الله عنهما قال : ندَبَ النبيُّ ( الناسَ ـ قال صدقةُ : أظنُّه يومَ الخندقِ ـ فانتدبَ الزبيرُ ، ثم ندبَ الناسَ فانتدب الزبيرُ ، ثم ندب الناسَ فانتدب الزبيرُ ، فقال النبيُّ ( : " إن لكلِّ نبيٍّ حوارياً ، وحواريَّ الزبيرُ بنُ العوام " .(1/158)
هذا الحديثُ والذي بعدَه يتعرَّضُ فيه الإمامُ البخاريُّ لما يسمَّى بالطليعةِ ، ( والطليعة ) هو الذي يُبعَثُ إلى العدوِّ ليستطلعَ أخبارَهم . وهو ما يسمى بالجاسوسِ الآنَ . ويُسمى الطليعةَ أيضاً ( عين ) . وسمي طليعةً لأنه يذهبُ ليستطلعَ الأخبارَ ويطَّلِعَ على أحوالِ العدوِّ . فالنبيُّ ( في غزوةِ الأحزاب نقضَ بنو قريظةَ العهدَ مع النبي ( وتمالأوا مع الأحزابِ على أساسِ أن يكونوا هم من الداخلِ والأحزابُ من الخارجِ ليستأْصِلُوا المسلمينَ ، وقد ردَّ الله ( كيدَهم في نحرِهم كما قال الله ( ، وكفى المؤمنينَ القتالَ بإرسالِ الريحِ على الأحزابِ .
فعندما عَلِمَ النبيُّ ( أثناءَ الحصارِ بما حصلَ من اليهودِ من نقضِ عهدٍ انتَدَبَ الناسَ ؛ أي : طلب منهم من يخرجُ ويأتي له بخبرِ بني قريظةَ ويتأكَّدُ له من صحةِ خبرِ نقضِهِم لعهدِ النبيِّ ( . وكان الصحابةُ في هذه الغزوةِ كما قال اللهُ ( قد وكان الخوفُ قد أثَّرَ فيهم ودبَّ في أنفسهم ، والعدوُّ محاصِرٌ للمدينةِ ، والجوعُ قد أرهقَهم ، والتعبُ والنصبُ قد غَيَّمَ عليهم ، فكانت الحالُ في هذه الغزوةِ حالاً شديدةً جداً . فلما طلبَ النبي ( من يأتيه بخبرِ القومِ لم يأتِهِ أحدٌ ما عدا الزبير ( ، والزبيرُ ( كما تعلمونَ هو ابنةُ عمةِ النبي ( ابنُ صفيةَ بنتِ عبدِ المطلب ، وكانت صفيةُ رضي الله عنها تُرَبّيهِ تربيةً شديدةً وتقسو عليه أحياناً لكي ينتَفِعُ ويخرجُ رجلاً مقاتلاً قوياً ، حتى أنها كانت تضرِبُه لتأديبِه وترويضِه وتعليمِه فيقال لها : قتلتِ الغلامَ ، فكانت تقول :
إنما أضربُه لكي يلبْ ويهزم الجيشََ ذا الجلبْ .
فكان شجاعاً كما أرادت صفيةُ رضي الله عنها مقاتِلاً ، وهو أولُّ من حملَ سيفاً في سبيلِ الله وهو غلام .(1/159)
فقال الزبيرُ للنبي ( ( أنا ) ، فأرادَ النبي ( أن ينظرَ هل يقومُ أحدٌ غيرَ الزبير ، فقال لأصحابه : " من يأتيني بخبرِ القوم للمرةِ الثانية " ، وهذا لاختبارِ بقيةِ الصحابة ، وفي نفسِ الوقتِ لتأكيدِ حِرْصِ الزبيرِ أن يذهبَ هو في هذه الظروفِ الحالكةِ لكي يأتيَ بخبرِ القوم . فقال الزبيرُ ( أنا ) ثم قال النبيُّ ( مرةً ثالثةً كما في الروايةِ الأخرى : " من يأتيني بخبرِ القوم " ؟ فقال الزبيرُ : ( أنا ) ثلاثَ مراتٍ ينتدبُ فيها النبيُّ ( الناسَ فيستجيبُ الزبيرُ ، فقال النبيُّ ( جزاءً لهذا الفعلِ من الزبيرِ وبياناً لمنزلَتِه وفضله : " إن لكلِّ نبيٍّ حوارياً ، وإن حواريَّ الزبيرُ " .
( والحواري ) ؛ هو : الصديقُ الخالصُ ، سُمِّيَ بذلك لأن الحواريَّ هو الدقيقُ الأبيضُ النقيُّ . فالصديقُ الخالصُ الذي لا شائبةَ بينَه وبينَ صديقِه والمقربِ إليه والمحببِ يُطلَقُ عليه الحواري ، وهذا قولُ من الأقوالِ التي قِيلَتْ في تسميةِ الحواريينَ بذلك الذين هم خُلَّصُ أصحابِ المسيحِ عليه السلام ، فقال النبي ( : " إن لكل نبي حوارياً " ؛ يعني : لكل نبيٍّ رجلٌ مخلَصٌ مقرَّبٌ إليه من أصحابِه ، وإنما هذه المنزلةُ للزبيرِ ( .
واستنبطَ البخاري من هذا فضلَ الطليعةِ ؛ لأن النبي ( ذكر هذا الثناءَ على الزبيرِ لحِرْصِهِ أن يكونَ عيناً للمسلمينَ على ما حصلَ من المشركين ويستطلعَ لهم أخبارَهم ويُعلِمَهُم بما حصلَ منهم ، فكأنه يرى أن كلَّ من فعلَ ذلك استحَقًّ أن يكون له منزلةٌ خاصةٌ عندَ رسولِ الله ( ، وبالتالي عند المؤمنين . فهذا توجيهُ الترجمةِ لهذا الحديثِ بفضلِ الطليعةِ .(1/160)
ثم ذكر في البابِ الآخرِ أمراً آخر يُستَنْبَطُ من هذا الحديثِ ، وهو ( هل يبعث الطليعةَ وحده ) ؟ وهذا السؤالُ جوابُه من خلالِ الحديث ( نعم يبعث الطليعة وحده ) ، وإنما أرادَ بذلك التنبيهَ على أنه ليسَ هناك حرجٌ إذا كان هناك سفرٌ أو خروجٌ لحاجةٍ والإنسانُ وحده ؛ لأن النبي ( نهى أن يسافرَ الرجلُ وحدَه ونهى أن يبيتَ الرجلُ وحده ، ولكن الطليعةَ مستثنىً من ذلك لأنه في حال الحاجةِ وحالِ الضرورةِ ، وذهابُ الضرورةِ وإن كان يُخشى عليه بسببِ أنه وحدَه إلا أنه إن قُتِلَ فهو واحدٌ يُقتَلُ ليس أكثر ، فهذا فيه أيضاً حفاظٌ على أرواحِ المؤمنينَ والاكتفاءُ بأقلِّ ما يمكنُ الاكتفاءُ به . كما أن الواحدَ يمكنه أن يتسللَ وأن يهربَ أكثرَ مما لو كانوا عدةَ أشخاصٍ . فهذه الأمورُ تَلحَقُ بهذه المسألة .
هناك فائدةٌ أيضاً تُستَفادُ من هذا الحديث وهي ( بَشَرِيَّةُ الصحابةِ ) وأن منزلتَهم العاليةَ التي وصلُوا إليها لا تُخرِجُهم من حالِهم البشريةِ ؛ فقد وقع في نفوسِهمُ الخوفَ ولم ينتدِبْ أحدٌ إلا الزبيرُ كما ذكرنا ، وفي هذا أيضاً تأكيدٌ لما روي أيضاً عن أحدِ الصحابةِ عندما جاءَه أحدُ التابعينَ فقال له : ( لو كان رسولُ الله ( بينَ أظهُرِنا لحمَلْناه على أكتافِنا ولما تركناه يمشي على الأرض ) فقال له : ( مِهْ يا ابنَ أخي ، والله لقد حضرَ رسولَ الله ( أقوامٌ كَبَّهُم الله على وجوههم في النار ) فمعنى حديثِه : أنك لا تدري هل كنتَ من المؤمنينَ وقتَها أم كنت من المكذبين لرسولِ الله ( . كذلك فإن النبي ( قد حثَّنا أن لا نتمنى لقاءَ العدوِّ لأنه لا يدري المسلمُ في حالِ الأزماتِ وما يمُرُّ به من الأحوالِ الصعبةِ الشديدةِ ماذا يكون موقفُه ؟ هل يثبُتُ ويبقى على ما هو عليه من وعودٍ وأقوالٍ أم ينكُثُ ويرجِعُ ، فنسأل الله ( أن يُثَبِّتَنا وإياكم على الحقِ وأن لا نكونَ ممن يقول ما لا يفعل . والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/161)
والإمامُ البخاري في البابين السابقَين كما قلنا تكلم عن الطليعةِ وفضلِه وما يتعلق به من حكمِ بعثِه وحده . ويستفادُ أيضاً من الحديثين أن إرسالَ الطلائعِ والعيونِ من الأمورِ المهمة في الجهاد ؛ فهذه من الآدابِ التي تُعتبَر من آدابِ القتال وفنونِ الحرب ، وقد ورد ذلك من فعلِ النبي ( في أحاديث عدة وتكرر منه ذلك ( ، وهو من الأخذِ بالأسباب ومن الحنكةِ ومن سياسةِ الحرب الضرورية ، فينبغي على المسلمين أن يحرِصوا على مثلِ هذه الآداب ويهتَمّوا بها وينبَروا لها ويعرِفوا فضلَ من يُطَبِّقُ مثلَ هذه الآدابِ في قتاله اقتداءً بالنبي ( . ثم ذكر الإمامُ البخاري رحمه الله بعد ذلك باباً آخرَ متعلقاً بذلك أيضاً ، وإن كان لا يقتصِرُ على الطليعةِ ، وهو : باب في سفرِ الاثنين مطلقاً ، فقد يضطر لإرسالِ رجلين ، فقال البخاري رحمه الله :
باب سفرُ الاثنين .
64 ـ حدثنا أحمدُ بنُ يونسَ ، حدثنا أبو شهاب ، عن خالدٍ الحَذّاءِ ، عن أبي قِلابةَ ، عن مالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ قال : انصرفتُ من عندِ النبي ( فقال لنا ـ أنا وصاحب لي ـ : " أذِّنا وأقيما ولْيَؤُمُّكما أكبرُكما " .(1/162)
ذكر الإمامُ البخاريُّ رحمه الله في هذا البابِ ما يدلِّلُ على جوازِ سفرِ الاثنين . فإذا احتيجَ إلى إرسالِ الطليعةِ أو إرسالِ العيونِ أو ما يسمى بالجواسيسِ ، فيمكنُ أن يرسَلَ الواحدُ بناءً على حديث انتدابِ الزبير ( ، ويمكن أن يرسَلَ رجلان استناداً على حديثِ مالكِ بنِ الحُوَيرِث ، وإن كان هذا الحديثُ ليس في الجهادِ ، وإنما خَبَرُه أنه قَدِمَ إلى النبي ( شَبَبَةٌ متقارِبون وهم مالكُ بنُ الحويرثِ وشبابٌ معه من قومه ، فقضَوا عند النبي ( مدةً يتعلمون فيها الصلاةَ وأحكامَ الدِّينِ والقرآنَ ، وكانوا ليس معهم أزواجُهم ، فشعرَ النبيُّ ( أنهم اشتاقُوا إلى أهليهم ، فأذنَ لهم بالانصرافِ ، وكان أولَّ من انصرفَ مالكُ بنُ الحويرث وصاحبٌ له ، فقال لهما النبي ( : " أذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما " ، ففي هذا الحديثِ إقرارٌ من النبي بسفرِ الاثنين ، وهو يتعارضُ مع بعضِ الأحاديث التي وردتْ في ذمِّ المسافرِ وحدَه والمسافِرَيْنِ وحدهما ، ففي الحديثِ الحسنِ الذي رواه أصحابُ السننِ أن النبي ( : " الراكبُ شيطانٌ ، والراكبان شيطانانِ ، والثلاثةُ رَكْبٌ " .
وفَهِمَ بعضُ أهلِ العلمِ منه أن الذي سافرِ وحدَه عاصٍ لله ولرسوله ، وكذلك اللذان يسافرانَ وحدهما أيضاً يقعان في المعصية ؛ لأن التعبيرَ بكلمة ( شيطان ) يُدَلل على أنه عاصٍ وخارجٌ عن الطاعة
ولكن هناك من أهلِ العلم من قال : إن هذا محمولٌ على الزجرِ والتأديبِ وليسَ على التحريم ، وهذا من بابِ الرِّفْقِ بالمسافرِ والمسافرَين ، لأن الذي يسافرُ وحدَه يتعرضُ للوحشةِ ، والاثنان لا يحصلُ بينهما التعاونُ الكاملُ التامُ ، ولأجلِ هذا نهى النبي ( عن السفرِ للإنسانِ بمفردِه أو بصحبةِ واحدٍ فقط ، فلو ماتَ أحدُهما مثلاً لا يمكن للثاني أن يقومَ بدفنِه وأمورِه لأنه لا يجدُ من يُعينه ، فهذا هو المحملث .(1/163)
والحديثُ الذي ذكرناه في البابِ يدلل على جوازِ ذلك وإن كان الأَوْلى أن لا يحصلَ .
وأنَبِّهُ هنا على نقطة ، أن المرادَ الذي يسافرُ وينقطعُ وحدَه ، وأما في أيامِنا الآن ، فالذي يسافرُ وحده بمعنى يركبُ طائرةً أو سيارةً ينتقل فيها مع مجموعةٍ كبيرةٍ من الناس ، فهذا لا يُعتَبَرُ أنه يسافرُ وحده وإنما هو مسافرٌ في جماعةٍ .
وكذلك الذي يسافرُ في الطرقِ البريةِ والسياراتُ أمامَه وخلفَه ، هذا لا يُعتَبَرُ مسافراً وحده ، فهذه نقطةٌ مهمةٌ جداً يُنظَرُ لها ويُنْتَبَهُ إليها ، وإنما المرادُ الذي ينفردُ وحدَه في البرِّيَّة ليس أمامَه أحد وليس خلفَه أحدٌ ، فإذا حصل له شيءٌ لا يجدُ من يقومُ به ، وكذلك إذا أرادَ معونةً لا يجدُ أحداً يعينُه ، وأيضاً ينفردُ به الجنُّ والشياطينُ . والله سبحانه وتعالى أعلم .
فالمرادُ من هذا البابِ أنه يجوزُ السفرُ اثنين اثنين لمنِ احتاجَ إلى ذلك خاصةً في الجهادِ .
ثم قال لهما النبي ( لهما : " أذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما " ؛ إنما نصَّ هنا على أن يكونَ الإمامُ هو الأكبرُ لأنهما في القرآنِ والعلمِ في استواءٍ لأنهما درسا نفسَ العلومِ التي درسها الكلُّ على النبي ( لاستواءِ المدةِ التي قَضَوْها عندَ رسول الله ( ، فنصَّ على أن الأكبرَ هو الذي يؤُمُّهما لأنهما في العلم سواءٌ ، وأما إذا اختلفَ العلمُ فإنما يؤمُّ القومَ كما قال ( أقرؤُهم لكتابِ الله ، فإن كانوا في القرآن سواءً فأعلمُهم بالسنة ، فإن كانوا في السنةِ سواءً فيُنظَر في هذه الحالِ إلى الأكبرِ ، والله تعالى أعلم .
ونكتفي بهذا القدرِ الليلةَ ، وإن شاء الله تعالى في لقائِنا القادمِ نبدأُ بحديثِ ( الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرَ إلى يوم القيامة ) .
سؤال : ما حكم الاستعانةِ بالمشركين ، أو عندَ الحاجة ؟(1/164)
الجواب : هذا السؤال أجبْنا عنه عدةَ مراتٍ ، وهو موجودٌ أيضاً في محاضراتِ الدورةِ . وعلى كلِّ حالٍ ؛ الاستعانةُ بالمشركينَ جائزةٌ عند الحاجةِ بشرطِ أن يُؤْمَنَ جانبُه ، والنبيُّ ( في أصعبِ أحوالِه وأحلكِها وأهمِّها وذلك في وقت الهجرةِ إلى المدينةِ استأجَرَ رجلاً كافراً ليكونَ دليلَه إلى المدينةِ وهو ابنُ أبي أُرَيْقِط ولكنه كان رجلاً متمكناً في الأمرِ الذي استعانَ به النبيُّ ( فيه ، ثم إنه كان رجلاً أميناً معروفاً بأمانَتِه .
فإذا كان الأمرُ كذلك فإنه يجوزُ أن يُستَعانَ بالمشركِ .
أما إذا كان المشركُ غيرَ مؤتمَنٍ أو لا حاجةَ للاستعانةِ به ، فإنه لا يجوزُ أن يستَعَانَ به للمفاسدِ التي تترتَّبُ على هذه الاستعانةِ مما قد يزيدُ على مفاسدِ عدمِ الاستعانةِ به . والله تعالى أعلم .
المحاضرة العاشرة
( سلاحُ الخيالةِ والجهادُ مع الإمامِ الفاجرِ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثة بدعةٌ وكل بدعةٍ ضلالةٌ ، وكل ضلالةٍ في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
بابٌ الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرَ إلى يومِ القيامةِ .(1/165)
65 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ مسلمةَ ، حدثنا مالكٌ ، عن نافعٍ ، عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( : " الخيلُ في نواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامة " .
66 ـ حدثنا حفصُ بنُ عُمَرَ ، حدثنا شعبةُ ، عن حصينٍ وابنِ أبي السَّفَرِ ، عن الشعبيِّ ، عن عروةَ بنِ الجَعْدِ ، عن النبي ( قال : " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرَ إلى يومِ القيامة " . قال سليمانُ عن شعبةَ : ( عن عروة بن أبي الجعد ) . تابعه مسددٌ ، عن هُشيمٍ ، عن حُصين ، عن الشعبي ، عن عروةَ بنِ أبي الجعد .
67 ـ حدثنا مسددٌ ، حدثنا يحيى ، عن شعبةَ ، عن أبي التَّيَّاحِ ، عن أنسِ بنِ مالكٍ ( قال : قال رسول الله ( : " البركةُ في نواصي الخيلَ " .
بَوَّبَ الإمامُ البخاري رحمه الله هذا البابَ يتحدثُ فيه عن دابةِ الحربِ الرئيسةِ التي كانت في عهدِ النبي ( واستمَرَّتْ عهوداً طويلةً . والله سبحانه وتعالى يقول : .
فالإعدادُ للحربِ أمرٌ مأمورٌ به في الشريعةِ ، وهو فرضٌ على المسلمينَ .(1/166)
وهذا الإعدادُ يشمَلُ الإعدادَ النفسيَّ كما يشمل الإعدادَ المادي . ومن الإعدادِ الماديِّ أن يُعِدَّ المسلمُ الدابةَ التي سوف يقاتل عليها . ونحن في زماننا الآن يلزمُنا الإعدادُ بالدوابِ التي تُستخدَم حالياًُ في الحربِ ، ولا يقتصرُ ذلك على الخيلِ ، وهذا داخلٌ تحت قولِه تعالى ، فكل ما يمكنُ للمسلم أن يستعدَّ به لعدوه فإنه يجتهد في ذلك ، سواءٌ كان ذلك بتصنيعٍ ذاتيٍّ أم بأخذٍ من هذه الدولِ الكافرةِ أو غيرِها من دولِ الإسلام إذا كان لديها شيءٌ من الأسلحة ، ولا بدَّ من الحذرِ وأن يعرفَ المسلم مصلحتَه أين تكمُنُ . فإذا أخذ سلاحاً من كافرٍ فإنه لا بدَّ أن يعلمَ كيف يستطيعُ أن يتعاملَ مع هذا السلاحِ وكيف يستطيعُ أن يصونَ هذا السلاحَ . أما إذا كان المسلمُ يأخذ سلاحَه من الكافرِ ولا يستطيعُ أن يتصرفَ معه إلا بهذا الكافرِ فهذا السلاحُ كأنه لا سلاحَ ؛ لأن السلاحَ إنما يُعَدُّ لمحاربة الكافرين وإرهابِهم . فإذا كان السلاحُ في أيديهم وهم الذين يتحكمونَ فيه ، فهذا لا يُعتَبَرُ من الإعدادِ في شيءٍ بل إن ذلك قد يدخل في العَبَثِ .
وأما الذي أمرَ الله ( به وهو إعدادُ القوة حسبَ ما يستطيعُ المسلمُ وارتباطُ الخيل في سبيل الله فإن ذلك مُنْصَبٌّ كما قلنا على الزمنِ الذي نزل فيه القرآنُ أولاً ثم على الأزمنةِ التي تليه حسبَ حاجةِ المسلمين وما يحصل لهم من تطوراتٍ وعدمِها .(1/167)
وأُحِبُّ أن أقولَ أن سلاحَ الخيلِ ما زال إلى يومِنا الحالي له قيمتُه العظيمةُ في التجهيزِ ، وأكثرُ جيوشِ العالم إن لم يكن كلُّها لا بدَّ أن يكون فيها سلاحٌ يسمى ( سلاحُ الخيالةِ ) ، ولا زالت هناك مناطقُ لا يمكن أن يوصلَ إليها إلا بالخيلِ . وقد أدَّتِ الخيلُ دوراً عظيماً في القتالِ في أفغانستان ، وكان الفرَسُ أو الحصانُ له قيمتُه هناك ، فلا يظنُّ المسلمُ أن رَبْطَ الخيلِ واحتباسَها في سبيل الله أصبحَ الآن لا حاجةَ له فإن هذا ليس بصحيح ؛ بل إنه لا بدَّ من وجودِ الخيل في السلاح مع بقيةِ الأنواعِ الأخرى التي ظهرت في الساحة .
كما أن النبي ( جاء في حديثِه الذي يتحدثُ فيه عن آخرِ الزمانِ وقتالِ المسلمين للكافرين ، ذكر فيه أنه يعرِفُ أسماءَهم ـ أي أسماءَ المجاهدين ـ ويقول ( وأسماءَ خيولِهم وألوانَ خيولهم ) ، فهذا دليلٌ على أن الخيلَ سوف تعود لتكونَ أساساً في القتالِ قُبَيْلِ يوم القيامة ، فلذا ما زالَ الأمرُ متعلقاً بالخيلِ ولا بدَّ من الاهتمامِ بها .
والحمدُ لله فالأمةُ ما زالتْ مهتمةً بالخيولِ إلى الآن وإن كان أكثرُ الاهتمامِ ينصَبُّ على السباقِ واللَّهْوِ ، ولكن هناك طائفةٌ ما زالت تهتمُ بالخيلِ حتى ينتفعَ بها المسلمونَ إن شاء الله تعالى عند حاجتهم إليها .
فهنا يقول النبي ( " الخيل في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامةِ " ، وفي بعض الألفاظِ " معقود في نواصيها الخيرَ إلى يوم القيامة " ، وفي بعض الألفاظِ جاءتْ زيادةٌ تبينُ ما المرادُ بهذا الخيرِ وفيها " الأجر والمغنم " ، يعني بالخير : الأجرَ والمغنمَ .(1/168)
والمرادُ بالخيلِ هنا : الخيلُ التي تُحْتَبَسُ في سبيلِ الله أو تُعَدُّ للجهادِ في سبيلِ الله . وهذا سيأتي مفصَّلاً في حديثٍ آخرَ يبينُ أن الخيلَ لثلاثةٍ : فهي لرجلٍ أجرٌ ولرجلٍ وزرٌ ولرجلٍ سِتْرٌ . فالخيلُ الذي تكونُ لرجلٍ أجرٌ ، فهي الخيلُ التي ارتبطَها هذا الرجلُ في سبيلِ الله ( والجهادِ في سبيله . وأما الذي وِزْرٌ فهو الذي احْتَبَسَها أشراً وبطراً . وأما الذي ارتَبَطَها لِيَتَّجِرَ فيها فإنها له سِتْرٌ طالما كان يؤدي حقَّ الله ( فيها ، وسوف يأتينا هذا مفصَّلاً إن شاء الله تعالى .
إذاً ، المرادُ من قوله ( الخيل في نواصيها الخير ) ؛ أي : لمن ارْتَبَطَها للجهادِ في سبيل الله
ثم قوله ( في نواصيها الخير ) ؛ النواصي : جمعُ ناصيةٍ . والناصيةُ هي : الشعرُ الذي يكون في مُقَدِّمَةِ الرأس . والخيلُ مشهورةٌ بنواصيها الطوالِ التي تُجَمِّلُها ويَهتَمُّ بمسحها أصحابُها . والناصيةُ مكانٌ مشرَّفٌ في كل شيءٍ غالباً ؛ فناصيةُ الإنسان هي مقدمةُ رأسِه ، والله ( يقول : ، ويقول : . فتُطلَقُ الناصيةُ لأنها أشرفُ ما في الجسدِ ، ويرادُ بها الكلُّ . وهذا يُدْخِلُنا في مسألةٍ وهي ما يسمى بالمجازِ ؛ وجمهورُ أهلِ العلم أن المجازَ جائزٌ في القرآن والسنة ، لأن القرآنَ نزل بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ ، والسنةُ كذلك باللسانِ العربي الفصيحِ المبين . فالمجازُ مسألةٌ اصطلاحيةٌ ظهرتْ في كلامِ العربِ ، فهي كذلك موجودةٌ في القرآنِ والسنةِ .(1/169)
وهناك من أهلِ العلم من نفى أن يكون المجازُ في الكتاب والسنة وردَّ على بعضِ الأدلة التي استدلَّ بها جمهورُ العلماء ، والذي يظهرُ أن المسألةَ كلَّها إنما هي خلافٌ لفظيٌّ ؛ فإن من نفى المجازَ اعتبرَ أنه أسلوبٌ معروفٌ عند العربِ ولم يطلِق عليه كلمةَ ( المجاز ) وإنما قال : تُعرَفُ معنى الكلمةِ من خلالِ السياق ، وهذا الذي خرجَ به من ردَّ المجازَ . والخلاصةُ أن الذي ردَّ المجازَ إنما ردَّه لأن هناك من تَذَرَّعَ به من أهلِ الفِرَقِ الضالّةِ لنفْيِ صفاتِ الله ( وليس ذلك بلازمٍ ، فإنه لأهلِ هذه الفرقِ أن يقولوا أيضاً : إن الذي نقولُه إنما هو أسلوبٌ عند العربِ وعُلِمَ ذلك من السياقِ ويَترُكوا كلمةَ المجاز التي وقع فيها الخلافُ . وعلى كل حالِ فإن صفاتِ الله ( لا يمكنُ أن يُتذَرَّعَ لنفيها بالمجازِ عند القائلين به ؛ لأن اللجوءَ إلى خلافِ ظاهرِ اللفظِ لا بدَّ له من دليلٍ يَصْرِفُ اللفظَ عن ظاهره ، والكلامُ في صفات الله ( فرعٌ عن الكلامِ في ذاته ، فلا نستطيعُ أن نتكلمَ في الصفاتِ كما لا نستطيعُ أن نتكلمَ بالذات ؛ فإننا ما أحَطْنا بذاتِ الله فكيف نحيطُ بصفاته ولذا فإن مذهبَ أهل السنةِ والجماعةِ أن صفاتِ الله ( لا تشبِهُ صفاتِ المخلوقين ، وأن صفات الله ( نثبتُها له كما يليقُ بجلاله من غير تشبيهٍ ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ .(1/170)
حديثنُا الآن الذي نتكلمُ عنه فيه شاهدٌ لمن قال بالمجازِ ، وهو قول النبي ( : " الخيل معقود في نواصيها الخير " . فهل الخيرُ متعلقٌ بالناصيةِ فقط ؟ يعني : لو كان الفرسُ لا ناصيةَ له أو جُزَّتْ ناصيتُه فهل لا يؤجَرُ أو لا يعقَدُ فيه الخيرُ من أجرٍ ومغنمٍ ؟ والجواب : أن الذي يظهرُ أنه ليس كذلك وإنما هو كقوله تعالى : فالناصية لم تكذِبْ ولم تخطئ ، وإنما المرادُ صاحبُ الناصية وهو كلُّ الكافر ، فهذا الكافرُ هو الذي كذبَ وأخطأ وليستِ الناصيةُ فقط والناصيةُ جزءٌ منه ، فليس المرادُ الناصية فقط . وكذلك في الحديث هنا ذهب الكثيرُ من أهلِ العلم أن إطلاقَ الناصيةِ في هذا الحديث أُريدَ به الكلُّ ، وهذا سائغٌ في اللغة كما ذكرنا ، سواء سُمي ذلك بالمجازِ أو سمي بالأساليبِ الجائزةِ في لغة العرب . وهناك من أهل العلم من قال : إن ذلك مختصٌّ بالناصية ، واستدلوا على ذلك بحديثٍ رواه الإمام أبو داود ، وفيه أن النبي ( قال : " لا تقصوا نواصيَ الخيلِ ولا أذنابَها ولا أعرافَها " ، وهذا الحديثُ حديثٌ ضعيفٌ لا يثبت . والأولى بالمسلمِ أن لا يَجُزَّ الناصيةَ خروجاً من الخلافِ بين العلماء ، والله أعلم(1/171)
ثم إن النبي ( يقول ( الخيل في نواصيها الخير ) ؛ والخيرُ هنا : المرادُ منه كما جاء في لفظِ الحديث المفسرةِ له الأجرُ والمغنمُ . والخيلُ يطلَقُ عليها عموماً ( الخير ) وذلك لما فيها من الخيرِ والبركة . والله ( يقول في كتابه عندما ذكر قصةَ سليمانَ عليه السلامُ ، يعني : حبَّ الخيلِ ، فأطلق على الخيلِ كلمةَ الخيرِ ، والخيرُ مرتبطٌ بالخيلِ دائماً كما ذكرنا ، إلا أنه يُشكِلُ أن النبي ( جاء عنه في بعضِ الأحاديث أنه قال : " إن كان الشؤمُ في شيءٍ ففي الفرسِ والمرأةِ والدارِ " ، وهذا الحديثُ له ألفاظٌ كثيرةٌ ، واختلافه كبير وكلامُ العلماءِ فيه كلامٌ مفصَّلٌ ، وفيه نزاعٌ بين أهلِ العلم في مسألةِ تعَلُّقِ الشؤمِ في هؤلاءِ الثلاثة .
فمنهم من ذهب إلى أن المعنى على ظاهره ، وأن هذه الثلاثةَ مستثناةٌ من نهي النبي ( عن التَّطَيُّرِ وهو التشاؤم .
ومنهم من له شرحٌ لهذا الحديث وتأويلٌ يبين أن المرادَ ليس كما ذهب إليه هؤلاء ، وهناك أحاديثٌ ورواياتٌ تدلل على معنى الشؤم في هذه الثلاثة ؛ فالشؤمُ في المرأةِ إنما يكون في سوء خُلُقِها وعُقْمِها ، فهذا نوعٌ من الشؤم ، بمعنى : أنه ضررٌ ملازمٌ لصاحبه ، فإن لم يتخلصْ منه بقي معه كما يحصُلُ في حالِ التشاؤم ، فدائماً وجودُ هذه المرأةِ مع هذا الرجلِ يشمُل هذه الأضرارَ .
وكذلك الشؤمُ في الدار ؛ أن تكون الدارُ ضيقةً ، والجارُ الذي يجاورُ هذه الدارَ جارٌ مؤذٍ وهو مقيمٌ بصفةٍ دائمةٍ ، فإن هذه الدار أيضاً من الأمورِ التي تلازمُ صاحبَها ، فضررُها يستمِرُّ معه .
وأما الفرسُ فإن من شؤمِِها أن لا تكونَ في سبيل الله ولا يجاهَدَ عليها ولا يقاتَلَ عليها ، وإنما جُعِلَتْ للأشرِ والبطرِ ، فهذا من الشؤمِ لأنه من الضررِ اللازمِ ، لأنها تَضُرُّ صاحبَها في الدنيا والآخرة .(1/172)
فهذا هو معنى الشؤمِ في هذا الحديثِ ، وعليه فلا يتعارضُ مع حديثِنا الذي يذكُرُ أن هذه الخيلَ بركةٌ وخيرٌ على صاحبِها ؛ لأننا قلنا إن المرادَ هنا الخيلُ التي تُرتَبَطُ في سبيلِ الله وللجهادِ في سبيلِ الله ، والله تعالى أعلم .
والحديثُ هنا يذكرُ أن الخيلَ يرتَبِطُ بها الخيرُ إلى يومِ القيامة ، أي : البركةُ والخيرُ العميمُ ، وقد فُسِّرَ الحديثُ كما قلنا بالأجرِ والمغنمِ . فالأجرُ هو الحاصلُ يوم القيامة ؛ فإن الله ( يُجزِلُ العطاءَ لصاحبِ الخيلِ كما سيأتي تفصيلُ ذلك بصورةٍ لا يمكنُ أن تُتَخَيَّلَ ، حتى أن كُلَّ قطرةِ ماءٍ تدخلُ في بطنِ هذا الفرسِ وهذا الحصانِ يكتَبُ لصاحبِه الأجرُ بذلك ، بل إن كلَّ رَوْثَةٍ تخرجُ منه وبولَةٍ يبولُها يكتبُ له بذلك أجرٌ . فهذا من الخيرِ المذكورِ في هذا الحديثِ .
وأما المغنَمُ ؛ فإن الذي يقاتلُ على الخيلِ يصيبُ المغنمَ في الدنيا ، وهذا من الخيرِ المتعلِّقِ بهذه الخيولِ ، وهذا معنى قول النبي ( " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " . وتحديدُ الغايةِ بيوم القيامةِ دليلٌ على استمرارِ الجهادِ إلى يومِ القيامة حتى يرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها ، وهو مصداقُ قولِ النبيِّ ( : " لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ " ، فالجهادُ ماضٍ إلى يومِ القيامةِ ، وسوف يأتي في البابِ القادمِ ما يتعلقُ بذلك أيضاً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/173)
ثم إن الحديثَ الذي ذكره البخاريُّ رحمه الله ذَكرَ فيه نكتةً حديثيةً وهي : أن الإمامَ الشعبيَّ رحمه الله روى هذا الحديثَ عن عروةَ بنِ الجعدِ ، والذي رواه عنه عن عروةَ بنِ الجعدِ هو حصينٌ وابنُ أبي السَّفَرِ ، ثم ذكر البخاريُّ أن سليمانَ روى هذا الحديثَ عن شعبةَ فقال فيه : عن عروةَ بنَ أبي الجعدِ ، فزاد فيه كلمةً ( أبي ) ، وكذلك تابعَ سليمانَ عن شعبةَ مسدَّدٍ عن هُشَيْمٍ عن حصينٍ عن الشعبيِّ فقال : عروةَ بنَ أبي الجعدِ . يعني : حصلَ اختلافٌ في اسمِ الراوي ، وهذا الذي أرادَه الإمامُ البخاريُّ وبيَّنَ ذلك في هذا الكلامِ .
ثم ذكر حديثَ أنسِ بنِ مالٍك ( " البركة في نواصي الخيل " ، وهو متَّصِلٌ بنفسِ المعنى السابق ، فإن قولَ رسولِ الله ( ( البركة في نواصي الخيل ) يتفق مع قوله ( الخيل معقود في نواصيها الخير ) ولكن هذا أصرحُ بارتباطِ البركةِ بالناصيةِ ، ولذا فإن الحافظَ ابنَ حجرٍ رحمه الله اعتبرَ هذا الحديثَ مُقَوياً لقول من قال : إن البركةَ تختَصُّ بالناصيةِ ، وقلنا : إن هذا ليسَ بذلك ، والأولى على كلِّ حالٍ الخروجُ من خلافِ العلماءِ بعَدَمِ جَزِّ ناصيةِ الخيلِ والإبقاءِ عليها ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب الجهادُ ماضٍ مع البّرِّ والفاجرِ لقولِ النبي ( : " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرَ إلى يومِ القيامةِ " .
68 ـ حدثنا أبو نُعَيْمٍ ، حدثنا زكرياءُ ، عن عامرٍ ، حدثنا عروةُ البارقيُّ أن النبيَّ ( قال : " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرَ إلى يومِ القيامةِ " . الأجر والمغنم .(1/174)
هذا البابُ مرتبِطٌ بالبابِ السابقِ ؛ لأن الإمامَ البخاريَّ رحمه الله أدرَجَ فيه الحديثَ الذي ذكرناه في البابِ السابقِ ولكنه استدَلَّ به من وجهةٍ أخرى ، وهي أن النبيَّ ( عندما قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " إنما دخلَ في ذلك ما يُستفادُ منه أن الجهادَ مستمِرٌّ من زمنه ( إلى يومِ القيامة ، ولا شكَّ أنه خلالَ هذه الفترةِ سوف يكون هناك أئمةُ جَوْرٍ وأئمةُ عدل ، وقد ثبتَ هذا في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبي ( فإنه بيَّنَ أن هناك من سيملِكُ هذه الأمةَ من أهلِ الجَوْرِ والبغي ، ومع ذلك فإنه بينَ أن الجهادَ ماضٍ إلى يوم القيامة . وقد جاء لفظُ الترجمة وهو ( الجهاد ماض مع البَرِّ والفاجرِ ) في بعضِ الأحاديثِ المرفوعةِ إلى النبي ( وإن كان فيها شيءٌ من الضعف .
والجهادُ مع الإمامِ الجائرِ أو الفاجرِ هو مذهبُ أهلِ السنة الجماعة ؛ فإن أهلَ السنة والجماعة يَرَوْنَ طاعةَ الإمامِ وإن كان فاجراً ويرَوْنَ الجهادَ معه ، وهذا بالنسبةِ لجهادِ الطَّلَبِ ، وأما جهادُ الدَّفْعِ كما قلنا فإنه لا يُنظَرُ أصلاً إلى الإمامِ فيه لأنه وإن كان الإمامُ كافراً وإن كان الإمامُ غيرَ موجودٍ أصلاً ، فإن جهادَ الدفعِ باقٍ ولا يمكنُ أن يُترَكَ لعدَمِ وجودِ إمامٍ أو لكفره .
وأما حديثُنا هنا ، فإنه متعلِّقٌ بجهادِ الطلبِ وهو الغزوُ في سبيلِ الله ، ومع ذلك فإن من منهجَ أهلِ السنة والجماعةِ أن يقاتلوا تحت رايةِ الإمامِ الفاجرِ حتى وإن كان الجهادُ جهادَ طَلَبٍ .
وهذا الحديثُ يؤيِّدُهُ قولُ النبي ( : " لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحقِّ يقاتلون إلى يومِ القيامةِ لا يضُرُّهم من خَذَلَهم " ، وهذا يُدَلّلُ أيضاً على استمرارِ الجهاد إلى يوم القيامة .(1/175)
وقد ذكر كثيرٌ من أهلِ العلمِ ومنهم شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله أن أكثرَ الأئمةِ وأكثرَ الأزمنةِ التي مرَّتْ على عصورِ المسلمين إنما كانت تحتَ ولايةِ الظالمِ والمستبدِ والفاجرِ ، فلو قيل لا يقاتَلُ تحتَ رايتِهم لأُوقِفَ الجهادُ ولبطَلَتِ الدعوةُ إلى الله ( المؤيَّدةُ بالسيفِ ، وهذا باطلٌ لا يُقبَلُ ، وهذا كما ذكرنا لم يذكُرْه أهلُ السنةِ والجماعة وما انتهجوه ، ومن خالفَ في ذلك فهو مخالفٌ لمنهجِ أهلِ السنة والجماعةِ والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من احتبسَ فرساً في سبيلِ الله . لقوله تعالى :
69 ـ حدثنا عليُّ بنُ حفصٍ ، حدثنا ابنُ المبارَكِ ، أخبرنا طلحةُ بنُ أبي سعيدٍ قال : سمعت سعيداً المَقْبُرِيُّ يحدث أنه سمع أبا هريرة ( يقول : قال النبي ( : " من احتبسَ فرساً في سبيلِ الله ، إيماناً بالله وتصديقاً بوعدِه ، فإن شِبَعَه ورِيَّهُ وروثَهُ وبَوْلَهُ في ميزانِه يومَ القيامة " .
هذا الحديثُ يعتَبَرُ اختصاراً للحديثِ الطويل الذي رواه أبو هريرةَ ( عن النبي ( في قوله : " الخيلُ لثلاثةٍ : لرجلٍ أجرٌ ولرجلٍ وِزْرٌ ولرجلٍ سِتْرٌ " .
فهذا الحديثُ يتعلق بالرجلِ الذي تكون له الخيلُ أجرٌ . فيقول : قال النبي ( : " من احتبس فرساً في سبيل الله " ؛ وهذا هو الجزءُ المتعلِّقُ بالترجمة ، يعني : أن احتباسَ الفرسِ أو الخيلِ عموماً في سبيل الله هو تطبيقٌ لقوله تعالى : ، فإن ربطَ الخيلِ هو حبسُها في سبيل الله ، والحبسُ يطلقُ على الربطِ كما يطلق على جعلها وقفاً للجهادِ في سبيلِ الله فإنه لا يُنتَفَعُ بها إلا للجهادِ في سبيل الله ، والوقفُ لله جائزٌ ومشروعٌ سواءٌ كان خيلاً أم غيرها ، فكل ما يوقَفُ لله ( يُؤجَرُ عليه صاحبُه . وقد جاء في الحديث أن ابنَ عمرَ احتَبَسَ مالاً له في سبيل الله ، والنبيُّ ( حثَّه على ذلك .(1/176)
وهنا يبينُ النبيُّ ( أجرَ من احتَبَسَ فرساً في سبيلِ الله ، ولكنه شرطَ ذلك بشرطٍ أساسيٍ وهو ( الإيمان ) وهذا دليلٌ على الأعمالِ تدخلُ في مسمى الإيمانِ ، فإنه عندما يقولُ ( من احتَبَسَ فَرَساً في سبيلِ الله إيماناً بالله ) دليلٌ على أن احتباسَ الأفراسِ والخيلَ جزءٌ من الإيمانِ بالله ( ( وتصديقاً بوعِدِه ) ؛ الإيمانُ بالله يتعلقُ بما يفعلُه الشخصُ في الدنيا ، والتصديقُ بالوعدِ يتعلقُ بالأجرِ الذي سوف يأخذُه في الآخرةِ بناءً على ذلك . والمسلمُ عليه أن يعملَ جميعَ أعمالِه إيماناً واحتساباً ؛ فإذا عمِلَ العملَ ليس قربةً إلى الله ( وليسَ إيماناً به وبما أَمَرَ به وشرَعَ فإنه لا يُؤجَرُ على هذا العملِ ولا يُقبَلُ ، وكذلك الاحتسابُ أن يكونَ العملُ رجاءَ موعودِ الله وثوابِه ( مع الرغبةِ وليس مع التذَمُّرِ والتضجُّرِ ؛ وإنما مع المحبةِ والرغبةِ لهذا العملِ فإنه يؤجَرُ على ذلك . وأما إذا حصلَ منه التضجرُ ولم يحتسبِ الأجرَ عند الله أو لم يكنِ العملُ خالصاً لله أصلاً فإنه لا يؤجرُ على عملِه مطلقاً . فهذا القيدُ ليس خاصاً باحتسابِ الخيلِ وإنما هو شاملٌ لكلِّ عملٍ يقومُ به المسلم ، كما في قوله ( : " من صام رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفِرَ له من تقدم من ذنبه " .
ثم ذكر النبيُّ ( الأجرَ العظيمَ لاحتباسِ الخيلِ في سبيل الله فقال ( فإن شبعه وريه وبوله وروثه ) فشبعه : ما يدخل جوفُه من طعامٍ ، وريه : ما يدخلُ جوفَه من الماءِ ، وبولَه وروثَه : ما يخرُج منه من بولٍ وروثٍ ، كلُّ ذلك يُكتَبُ له حسناتٍ يوم القيامة . وقد عبَّرَ النبي ( بهذه الألفاظِ مع أن فيها شيءٌ مما قد يُستَقْبَحُ ذكرُه لأجلِ البيانِ الكامل الواضحِ لإزالةِ كلِّ لَبْسٍ حتى يظهرَ الأجرُ العظيمُ الذي ادَّخَرَه الله ( لمن احتَبَسَ الفرسَ في سبيله .(1/177)
ولا شكَّ أن الأجرَ العظيمَ المذكورَ في هذا الحديثِ يمكن أن يَنْسَحِبَ وأن يشمَلَ أيضاً كلَّ سلاحٍ يرتبِطُ في سبيلِ الله ( وكلَّ سلاحٍ يُجعَلُ عدةً للجهادِ في سبيلِ الله ( ؛ فإن الذي يحتبسُ شيئاً أو يرتبِطُ شيئاً للجهادِ في سبيلِ الله الذي هو ذروةُ سنامِ الإسلامِ فإنه مجزولٌ له الأجرُ ومكتَمَلٌ له الثوابُ إن شاء الله تعالى ، وهذا يشجِّعُنا جميعاً على الحرصِ على الإعدادِ وعلى ارتباطِ العدة وخاصةً الخيول ، فإنه لا يعدم المسلم أن يجعلَ فرساً في سبيل الله ( يربيها انتظاراً للحاجة إليها ، فإنه بإذن الله يتحصل له هذا الأجرُ العظيم ، والله تعالى أعلم .
ونكتفي بهذا القدرِ الليلة ، واللقاءُ القادم يكونُ يوم الأحدِ القادم إن شاء الله تعالى ، ويتعلقُ ببابِ اسمِ الفرس ، والله تعالى أعلم .
ـ سؤال : هل قلتَ إن الجهادَ الذي يكون لغيرِ الطلبِ لا يشتَرَطُ فيه الإمامُ ؟
والجواب : نعم ، وقد فصَّلْنا هذا في اللقاءاتِ السابقةِ ، فالجهادُ الذي يُطلَبُ فيه الإمامُ هو جهادُ الطلبِ ، سواءٌ كان الإمامُ بَراً أو فاجراً ، هذا مذهبُ أهلِ السنة والجماعة . وأما جهادُ الدفعِ فإن وُجِدَ الإمامُ فبها ونِعْمَتْ وإن لم يوجدْ فكلُّ مسلمٍ يقاتِل ويدفَعُ ولم يكن هناك إمامٌ أو كان الإمامُ غيرَ مسلمٍ أصلاً أو كَفَرَ ، فإن المسلمَ يدفعُ ولا يُنظَرُ في ذلك إلى الإمامِ ، والله تعالى أعلم .
المحاضرة الحادية عشرة
( تسميةُ آلاتِ الحربِ وشؤمُ الفَرَسِ والردُّ على تشريعِ الجهادِ المنسوبِ للقاري )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،(1/178)
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ? وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثة بدعةٌ وكل بدعةٍ ضلالةٌ ، وكل ضلالةٍ في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب اسمُ الفَرسِ والحمارِ .
70 ـ حدثنا محمدُ بنُ أبي بكر ، حدثنا فُضَيلُ بنُ سليمانَ ، عن أبي حازمٍ ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه أنه خرج مع رسولِ الله ( فتخلَّفَ أبو قتادةَ مع بعضِ أصحابه وهم مُحْرِمون وهو غيرُ محرِمٍ ، فرأَوْا حمارَ وحشٍ قبلَ أن يراهُ ، فلما رأوه تركوه حتى رآه أبو قتادةَ ، فركب فرساً له يقالُ لها الجَرادة ، فسألهم أن يُناوِلوه سوطَه فأبَوْا ، فتناوَلَه ، فحملَ فعقَرَه ، ثم أكلَ فأكلُوا ، فندِموا ، فلما أدركوه قال : " هل معكم منه شيءٌ " ؟ قال : معنا رجلُه فأخذها النبيُّ ( فأكَلَها .
71 ـ حدثنا عليُّ بنُ عبدِ الله بن جعفرٍ ، حدثنا معنُ بنُ عيسى ، حدثني أبيُّ بنُ عباسٍ بن سهل ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : كان للنبيِّ ( في حائطِنا فرسٌ يقال له اللُّحَيف . قال أبو عبد الله : وقال بعضهم : اللُّخيف .(1/179)
72 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ سمع يحيى بنَ آدمَ ، حدثنا أبو الأحوصِ ، عن أبي إسحاقَ ، عن عمروِ بنِ ميمونَ ، عن معاذٍ ( قال : كنت رِدْفَ النبي ( على حمارٍ يقالُ له عُفَيْرٌ ، فقال : " يا معاذُ ، هل تدري ما حقُّ الله على عبادِه وما حقُّ العبادِ على الله ؟ " قلت : اللهُ ورسولُه أعلَمُ . قال : " فإن حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يشرِكوا به شيئاً ، وحقَّ العبادِ على الله أن لا يعذب من لا يشركُ به شيئاً " . فقلت : يا رسولَ الله أفلا أبَشِّرُ به الناسَ ؟ قال : " لا تُبَشِّرُهم فيتَّكِلُوا " .
73 ـ حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ ، حدثنا غُندَرٌ ، حدثنا شعبةُ سمعت قتادةَ عن أنسِ بنِ مالكٍ ( قال : كان فَزَعٌ بالمدينة ، فاستعارَ النبي ( فرساً لنا يقال له مندوبٌ ، فقال : " ما رأينا من فَزَعٍ ، وإن وجدناه لبَحْراً " .
هذا البابُ أدرجَ فيه الإمامُ البخاري رحمه الله عدةَ أحاديثٍ كلها فيها تسميةٌ لبعض الدواب ، وعَنْوَنَ البابَ بقوله ( باب اسم الفرس والحمار ) يعني : مشروعيةَ تسميةِ الفرسِ والحمارِ . وليس هذا مقتصراً على الفرس والحمار فقط ، وإنما يشمل بقيةَ الدوابِ بل وبعضَ ما يستعملُه المسلمُ من سلاح .(1/180)
فالنبي ( ثبتَ عنه أنه كان يسمي دوابَّه وسلاحَه ، وهذا من الأدبِ النبوي الذي فُقِدَ كثيراً في أيامِنا ولا شكَّ أن المسلمَ إذا سمى ما يتعاملُ معه من دوابٍّ كالحمارِ والفرسِ والسلاحِ ونحوِ ذلك إنما يحصلُ له بذلك شيءٌ من الوُدِّ بهذه التسميةِ ومن التعايُشِ مع هذه التسميةِ . وهذا موجودٌ بكثرةٍ عند من يربي الكلابَ والقططَ ، فإنهم يهتمون بتسميتِها من بابِ الأُنْسِ أيضاً كما ذكرتُ وكأن هذا الحيوانَ جزءٌ من البيتِ يحصُلُ التعاملُ معه . وقد كان هذا من النبي ( لكثرةِ المخالطةِ والملابسةِ مع هذه الحيواناتِ والأدواتِ . فالمسلمُ لا يستغني عن سلاحِه ولا عن فرسِه وكذلك بقيةِ الدواب التي يحصلُ التعاملُ معها في البيت ، فمن السنَّةِ أن يهتمَّ المسلمُ بذلك وأن يسميَ هذه الأشياءَ كما سماها النبيُّ ( وسماها أصحابُه رضي الله عنهم . وقلتُ إن هذا يُحدِثُ رابطاً نفسياً خاصةً بين المسلمِ وبين الأدواتِ التي يجاهدُ بها والخيلِ التي يجاهد عليها ، ويدخلُ في ذلك ما يلحقُ بالخيلِ من المعداتِ الحديثةِ .
ولا يتعجبُ المسلمُ من ذلك ، فلا بأسَ أن يسميَ دبابَتَه وطيارَته ومدفعَه ورشاشَه ومدفعَه لأن النبي ( سمى سلاحَه وهي جماداتٌ .
وهنا يذكرُ الإمامُ البخاري رحمه الله ما وردَ في تسميةِ بعضِ هذه الأشياءِ مثلَ الفرس والحمار .
والفرسُ : اسم يطلقُ على أنثى الخيلِ . وأما الحمارُ : فهو يطلَق على الذكرِ غالباً وأما أنثى الحمار فتسمى الأتانَ . وذكَرُ الفرسِ هو الحصانُ ، وهو مشهورٌ .(1/181)
وذكر هنا الإمامُ البخاري رحمه الله حديثاً عن أبي قتادةَ ( وهو حديثُه عندما خرج مع النبي ( وكان الجميعُ على إحرامِهم متجهين إلى مكةَ لأداءِ العمرةَ . فتخلَّفَ أبو قتادةَ ومعه جماعةٌ من أصحابِ النبي ( ، وكان أبو قتادةَ هو الوحيدُ الذي ليس محرماً ، فرأوا حمارَ وحْشٍ ، وحمار الوحشِ من الدواب التي يجوزُ أكلُها وليس داخلاً تحت تحريمِ الحُمُرِ ؛ لأن المحرَّمَ هو الحُمُرُ الأهليةُ الإنسيةُ ، وأما الحُمرُ الوحشيةُ فهي جائزةٌ وإذا صِيدَتْ تؤكلُ ، إلا أن المحرِمَ لا يجوزُ له أن يصطادَ أصلاً كما ذكر الله عز وجل في كتابه في قوله : . فيقول : ( فرأوا حمار وحش قبل أن يراه ) وهؤلاء المحرمونَ لا يجوزُ لهم أن يُشيروا لغيرِ المحرمِ على الصيدِ ، ولو أشاروا له لما جازَ لهم أن يأكُلُوا منه ، فتركوا هذا الحمارَ ولم يتكلَّموا عنه ، ثم رآه أبو قتادةَ بنفسه فركِبَ فرساً له يقال لها الجرادةَ ، وهذا هو الشاهدُ من الحديثِ أن فرسَ أبي قتادة ( كان يسميها الجرادةَ . وهذا في مجتمع النبي ( وكأن ذلك كان مشهوراً بينهم وليس عليه نكيرٌ ، فدخلَ في الإقرارِ النبويِّ بالإضافةِ إلى ما يأتي من النصوصِ التي تدلل على أن النبي ( كان يفعلُ ذلك أيضاً . فركب فرساً يقال لها الجرادةَ ، ( فسألهم أن يناوِلُوه سوطَه فأبَوا ) فنزلَ هو وتناول السوطَ ( ثم حمل ) أي : اشتدَّ في الحملِ على دابَّتِهِ المسماةِ الجرادةِ واستطاعَ أن يصطادَ الحمارَ الوحشيَّ فعقَرَه ثم أكلَ منه ، ولما أكل منه أكلَ معه أصحابُه ثم ندموا خوفاً من أن يكون أكلُهم وهم محرِمُون من هذا الصيدِ لا يجوز ، فلما أدركوا النبي ( سألوه ، وجاء في بعض الرواياتِ أنه استفسَرَ منهم هل أعانَه أحدٌ أو أشارَ إليه فقالوا : لا يا رسولَ الله ، فقال : كُلُوا ، ثم قال : هل معكم منه شيءٌ ؟ فقالوا له : معنا رجلُه ، فأخذ النبي ( هذا اللحمَ المتبقيَ معهم وأكلَ منه تطييباً لخاطِرِهم(1/182)
ولبيانِ أن المحرِمَ إذا صِيدَ صيدٌ ليس له خصوصاً ولم يُعِنْ عليه جازَ له أن يأكلَ منه ، وهذا هو الحكمُ الذي نَخْلُصُ إليه من خلالِ الأحاديثِ الواردةِ في هذه المسألةِ ، لأن هناك بعضَ الأحاديثِ تُدَلِّلُ على عدمِ جوازِ أكلِ المحرمِ من الصيدِ ، والبعضُ الآخرُ فيه ما يُدللُ على جوازِ أكلِ المحرِمِ من الصيدِ كما في حديثِ الباب الآن ، والجمعُ بينها أن الأحاديثَ التي تُدَلّلُ على المنعِ إنما هي لأن هذا الصيدَ صِيدَ للمحرِم كما حصل من بعضِ الصحابة أنه اصطادَ للنبي ( حمارَ وحشٍ فردَّه عليه وقال له : " إنا لم نَرُدُّه عليك إلا لأنا مُحرِمُون " ، وقد كان هذا الصحابيُّ إنما صادَ هذا الحمارَ لأجلِه ( . وأما في هذا الحديثِ فلا يوجَدُ هذا المانعُ ولم يَصِدْ أبو قتادةَ هذا الحمارَ لأجلِ النبي ( ولا لأجلِ أحدٍ من هؤلاءِ المُحْرِمين ، وإنما صادَه لأجلِه هو ، ثم إنه لم يُعِنْهُ أحدٌ من المحرِمين عليه وإلا لو أعانَه أحدٌ لحَرُمَ ذلك على من أعانَه . والله تعالى أعلم .
الحديثُ الآخر الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله ، وهو عن سهلِ بنِ سعدٍ قال ( كان للنبي ( في حائطنا فرس ) ، والحائط : يُطلَقُ على المزرعةِ . فكان للنبيِّ ( في مزرعتِهم فرسٌ ( يقال له اللحيف ) ، وهذا جزءٌ من الحديثِ وهو الشاهدُ المرادُ هنا . وكلمة ( اللحيف ) ؛ اختلفَ أهلُ العلم في ضَبْطِها وهو اسمُ هذا الفرسِ ، فمنهم من ضَبَطَها هكذا بالتصغيرِ ( اللُّحَيف ) ، ومنهم من ضبطها ( اللَّحِيف ) على وزنِ رغيف . واللحيفُ مأخوذ من اللحفِ ، والمرادُ أنه صاحبُ ذَنَبٍ طويلٍ يلحفُ الأرضَ به .(1/183)
وقال الإمام البخاري رحمه الله ( وقال بعضهم : اللخيف ) واللخف هو الضَّرْبُ ، فلعلَّ المرادَ بتسميتِه بذلك أنه يَضْرِبُ بشدةٍ بمعنى أنه قوي ، والمحفوظُ في الرواياتِ المعتمدة ( اللحيف أو اللحيف ) وأما ( اللخيف ) فذكرها هكذا الإمامُ البخاري في آخر الروايةِ هنا ولم يُسْنِدْها في حديثه .
ونلاحظُ هنا أن التسميةَ قد يكون فيها تعلُّقٌ بصفةٍ معينة للدابةِ أو للآلة كما يسمى السيفُ بالبتارِ ، فمثل هذا التسمياتِ تتعلقُ بصفةٍ تكون في الدابةِ أو في الشيء المسمى . وأحياناً تكون من باب التفاؤلِ بإطلاقِ اسمٍ عليه يُشعِرُ بالقوةِ وبالفألِ الحَسَنِ عند استخدامِ هذه الدابةِ أو هذا السيفِ ونحوه .
ثم ذكر الحديثَ المشهورَ عن معاذٍ ( وفيه ( كنتُ ردف النبيِّ ( على حمارٍ يقال له عُفَيْرٌ ) ، والشاهد في هذا قوله ( على حمار يقال له عفير ) فهذه تسميةٌ أيضاً لحمارِ كان عند النبي ( واسمه عفير ـ بالتصغير ـ من التعفيرِ وهو إصابةُ الغبارِ والأتربةِ ، ومعروفٌ أن الحمارَ يُحِبُّ أن يعفرَ جسدَه بالترابِ ، فلعل هذا هو سبب التسمية .
وفي هذا الجزءِ دلالةٌ على تواضعِ النبي ( حيث كان لا يستنكِفُ عن ركوبِ دابةٍ مثلِ الحمارِ ، وكذلك يُزادُ عليه أنه يُردِفُ وراءَه غيرَه . وهذا فيه أولاً تأكيدٌ للتواضعِ ، وفيه أيضاً جوازُ الإردافِ على الدابة ، وهذا قد بَوَّبَ له البخاريُّ في كتابِه في أبوابِ الآدابِ فذكر منها هذا الأدب .(1/184)
ثم قال ( يا معاذُ ، هل تدري ما حقُّ الله على عبادِه وما حقُّ العبادِ على الله ) وهذا من الأسلوبِ التعليميِّ التربوي الذي كان يسلُكُه النبيُّ ( مع أصحابِه ، فربما ابٍتَدَأهم بمثلِ هذه الطريقة وهذا الأسلوبِ فيطرَحُ سؤالاً عليهم ثم بعد ذلك يُجيب عليه من بابِ التشويقِ لهم وإعمالِ الذِّهنِ ولفتِ الانتباهِ والتركيزِ معه ( . فقال لمعاذٍ : ( يا معاذ هل تدري ما حقُّ الله على عباده وما حق العباد على الله ) ؟ هكذا أوردَ السؤالَ . فكان من معاذٍ أن قال له ( الله ورسولُه أعلم ) لأنه يريد أن يستفيدَ ، وكان من الممكنِ أن يجتهدَ ويُجيبَ ولكنه أرجعَ الأمرَ للنبي ( وأن العلمَ عند الله وعند رسولِه ( ، وهذا أدبٌ نحاولُ أن نتأسّى به وهو عدمُ الدخولِ فيما لا نعرفُ أو لا نتأكدُ منه من العلم وإنما يُرجَعُ العلمُ لأهله حتى لا يحدُثَ خَلْطٌ وتَقَوُّلٌ على الله ( بلا علم .
فقال ( الله ورسوله أعلم ) وهذا ليس عيباً بل كلمةُ ( الله أعلم ) هي نصفُ العلم .(1/185)
ثم قال النبي ( له ( فإن حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) يعني : أن هذا هو الحقُ العظيمُ الذي لأجلِه سبحانه وتعالى خَلَقَ الخلقَ وأرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتب ، وهو إفرادُ الله جلَّ وعلا بالعبادة ، ولا شكَّ أن التوحيدَ هو أساسُ كلِّ شيءٍ فإن الله ( قال : فكلُّ الذنوبِ في مجالِ المغفرةِ والصفحِ وإن عُوقِبَ عليها المسلمُ فإن مآلَه إلى الجنة ، وأما الشركُ والعياذُ بالله فإنه لا يُغفَرُ وصاحبُه لا يُغفَرُ له وهو مخلَّدٌ في النار ، ولأجلِ هذا شَدَّدَ النبي ( في بيانِ هذا الحقِ فأخبرَ أن حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً . وقوله ( ولا يشركوا به شيئاً ) بعد قولِه ( أن يعبدوه ) لأنه قد تحصُلُ العبادةُ ولكن يحصلُ معها الشركُ فلا بدَّ من إخلاصِ العبادةِ وهو أن يُعبَدَ الله ثم لا يشركَ به كما في قوله ( لا إله إلا الله ) أي : لا معبودَ بحقٍّ إلا الله .
( وحق العبادِ على الله أن لا يعذِّبَ من لا يشركَ به شيئاً ) فإذا جاء المسلمُ قد أخلَصَ العبادةَ لله ( ولم يشرِكْ به شيئاً فخلُصَ من الشركِ الأصغرِ والشرك الأكبرِ والشرك الخفيِّ ، فإن الله ( لا يعذِّبُ من أتاه لا يشركُ به شيئاً . وقد قال النبي ( عن ربه ( في الحديث القدسي : " يا ابنَ آدم إنك لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثم أتيتَني لا تشركُ بي شيئاً غفرتُ لك ذلك على ما كان منك ولا أبالي " .
ولكن هناك نقطةٌ أساسيةٌ ؛ أنه لا يخلُصُ المسلمُ من الشركِ خَلُوصاً تاماً كاملاً ويعبد الله ( مخلصاً له الدينَ إلا وغالباً لا يكون من أهلِ الكبائرِ وإنما يقع فيما يمكنُ أن يقعَ فيه جلُّ الناسِ من الصغائر ، ولأجل هذا فإن الله يغفرُ له ما كان منه .(1/186)
فقال معاذٌ للنبي ( من حرصِهِ على الخيرِ ورغبَتِه في نفعِ إخوانِه وتبشيرِهم ( قال : يا رسول الله ، أفلا أبشِّرُ به الناسَ ) وهذا أدبٌ عظيمٌ يا أخوان ؛ حرصُ الصحابةِ رضي الله عنهم على الخيرِ للناس وعلى تبشيرِهم بما يُفرِحُهم ولا يُقَنِّطُهم من رحمة الله ( . وكثيرٌ من الناسِ الآن يحبون أن يتصيَّدوا الخطأَ لإخوانِهم ، وهذا خلافُ هذا المنهجِ النبوي الذي أقرَّه النبيُّ ( من خُلُقِ معاذٍ ( ، فإن معاذاً إنما أرادَ أن يبشرَ الناسَ ولم يُنْكِرْ عليه النبيُّ ( هذه الرغبةَ وهذا الإحساسَ ولكنه جعل ذلك الأمرَ متعلقاً بالخوفِ من اتكالِهم على هذه البشارةِ العظيمةِ لقِلَّةِ عِلمِ بعضِهم ؛ فإن البعضَ ربما إذا سمع هذا الحديثَ وهذه البشرى ترك العملَ وقَصَّرَ ، وهذا أولاً قد يُوقِعه في الشركِ وإن لم يكنْ من النوعِ الأكبرِ ، ولكنه قد يقع في الشركِ الأصغرِ بسببِ التهاونِ ، وكذلك قد يُنقِصُ ذلك من أجرِه ومنزلَتِه ومرتَبَتِه عند الله يومَ القيامة ، وهذه مفسدةٌ تترتبُ على هذه البشرى فالنبي ( قال له ( لا تبشرهم فيتكلوا ) حتى لا يعتمِدُوا على هذه البشرى فيحصلُ لهم الاتكالُ ، ولم يُنكِرْ عليه رغبَتَه بالبشرى وإحساسَه المرهَفَ تجاهَ إخوانِه . وقد بشَّرَ بذلك معاذٌ قبل أن يموتَ تحرُّجاً وتأثماً أن يكون قد كَتَمَ علماً ، ومعناه أنه قد فهمَ من النبي ( أن ذلك على سبيلِ إخبارِ العامةِ الذين يُخشى منهم أن يتكلوا من خلال هذا الحديث ، فالمرادُ به من يتصفُ بصفةٍ خاصةٍ من الناسِ وهم من يحصُلُ منهم إشكالٌ ، وليس المرادُ منه كتمَ العلمِ وعدمَ إظهارِ هذا الحديثِ للناس ، لأن هذا داخلٌ تحت كتمانِ العلم الذي يحتاجُ إليه الناس ، وهذا لم يُرِدْهُ النبي ( .(1/187)
ثم ذكر الإمامُ البخاري رحمه الله حديثَ أنسٍ ( في الفزَعِ الذي كان في المدينة ، وقد تكلَّمنا على هذا الحديثِ فيما سبقَ وفيه أن النبي ( كان أولَّ من ذهبَ واستطلَعَ الخبرَ قبلَ أن يخرُجَ أحدٌ من الناسِ ، ولما خرج أهلُ المدينةِ استقبَلَهم النبيُّ ( عائداً وهو يطمئنهم ويخبرُهم أنه لا شيءَ قد حدثَ وأن الأمنَ قائم والحمد لله .
والشاهدُ في الحديثِ أن أنساً ( قال : إن النبيَّ ( استعارَ فرساً لهم ، أي : يملكونه هم ، يقال له : مندوب ، وهذا أيضاً من تسميةِ الصحابة للدوابِ وإقرارِ النبي ( على هذه التسمية .
وإطلاقُ كلمة ( مندوب ) على الفرسِ ، كأنها من النُّدبَةِ وهي الطلب ، وقد تكلمنا على هذه الكلمة في حديثٍ سابق ، وفيه أن النبي ( نَدَبَ الناسَ فانتدبَ الزبير . فالندبة هي الطلبُ ، فكأن هذا الفرسَ مطلوبٌ في حالِ الحاجةِ ، فهذا هو وجهُ التسمية .
ثم قال النبي ( ( ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً ) ؛ يعني : سريعَ الجَرْيِ ، فوصفَ الفرسَ بأنه سريعُ الجريِ والعدوِ عندما استطاعَ النبي ( أن يستطلعَ الخبرَ ويعودَ بسرعة .
هذا هو ما ذكره الإمام البخاري في هذا الباب مما يوافقُ شرطَه ، وإلا فهناك أحاديثُ كثيرةٌ في تسميةِ دواب النبي ( وسلاحِه ؛ ومن أشهرِ ذلك أن النبي ( كان له سيفٌ يقال له ( ذو الفقار ) ، وكذلك كانت له ناقةٌ تسمى العضباءَ ، وأخرى تسمى القصواءَ ، وبعضُ هذه الأحاديث على شرطِ الإمام البخاري ولكنه لعلَّه اكتفى بهذه الأحاديثِ لأنها تدلُّ على الغرضِ المرادِ ، ولا داعي للإطالة بسردِ أكثرَ من ذلك .
وقد اهتمَّ بعضُ أهل العلم بحَصْرِ مثلِ هذه الأمورِ في سيرة النبي ( وصنَّفوا فيها بعضَ الرسائلِ ، واهتم بذلك الإمامُ ابنُ القيم رحمه في كتابه ( زاد المعاد ) فذكر طرفاً جيداً من هذا الباب .(1/188)
وأما أسماءُ الخيلِ على وجه الخصوص ، فهي مما شَغَلَ كثيراً من أهلِ العلم ، فمنهم من صنف كتباً في أسماءِ الخيل ، ومنهم من صنف كتباً في أنسابِها ، ولا زالت أنسابُ الخيل إلى الآن يُهتَم بها اهتماماً بالغاً وعلى وجهِ الخصوص الخيلِ العربيةِ الأصيلة . بل إن الخيلَ الآن يُعرَفُ نسبُها واسمُها واسمُ أبيها واسمُ جدها وجدِّ جدِّها حتى يعرفَ أنها من الخيلِ العربيةِ الأصيلة . وهناك جهةٌ خاصة بذلك يُرجَعُ لها للتأكدِ من نسبِ الخيل وأنه عربيٌّ أصيلٌ في ألمانيا ، يرسَلُ لها اسمَ الخيل واسمَ أبيه ومواصفاتِ هذا الخيل فتعطي قرارَها هل هو من الخيلِ العربية الأصيلة أم لا
وكذلك إذا انتقلتِ الخيلُ من مكانٍ لآخرَ فإنه يُستَصْدَرُ لها جوازَ سفر بالصورةِ وبالاسمِ كاملاً مع النسب ، وهذا أعرفُه من جهةٍ خاصة متخصصةٍ في هذا المجال ، وهي جهةٌ ثقةٌ ، والحمد لله . فهذه معلوماتٌ تؤكد ما نحن فيه الآن من الحرصِ على تسميةِ الخيولِ على وجهِ الخصوص لأنها من معداتِ الحرب ، وقد سبق الكلام على ذلك في محاضرة سابقة ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب ما يُذكَرُ من شُؤْمِ الفرس .
74 ـ حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيبٌ ، عن الزهري قال : أخبرني سالمُ بنُ عبدِ الله أن عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضي الله عنهما قال : سمعت النبي ( يقول : " إنما الشؤمُ في ثلاثةٍ : في الفرسِ ، والمرأةِ ، والدار " .
75 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ مسلمةَ ، عن مالكٍ ، عن أبي حازمِ بنِ دينار ، عن سهلِ بنِ سعدٍ الساعدي ( أن رسولَ الله ( قال : " إن كان الشؤمُ في شيءٍ ففي المرأةِ والفرسِ والمسكنِ " .
نلاحظُ في هذا البابِ أن الإمامَ البخاريَّ رحمه الله قال ( باب ما يذكر من شؤم الفرس ) فلماذا عبَّرَ بصيغة التمريضِ وهي كلمةُ ( يذكر ) مع أن الحديثَ على شرطه .(1/189)
والجواب : أنه إنما عبَّر بذلك ليُدَللَ على أن هذا الحديثَ مختلَفٌ في معناه ؛ هل هو على ظاهره أم أنه من الأحاديثِ التي لا تُحمَلُ على ظاهرِها وإنما هي مُؤَوَّلةٌ . وكذلك هل هو على عمومه أم أنه مخصوصٌ ببعضِ الخيل .
فذكر حديثَ ابنِ عُمَرَ وأتبعَه بحديثِ سهلِ بنِ سعد ، وكما تَرَوْنَ في حديث ابن عمر فيه جزمٌ ( إنما الشؤم في ثلاثة ) فإنما هنا لحصرِ الشؤمِ في هذه الثلاثةِ . والمرادُ الفرسُ والمرأةُ والدارُ .
ثم حديثُ سهلِ بنِ سعد جاء اللفظُ فيه بالتشكيكِ وهو ( إن كان يعني الشؤم في شيء ) .
وقد تعرضنا لهذا الحديثِ في لقاءٍ سابقٍ وبيَّنّا أن هذه المسألةَ اختلفَ فيها العلماءُ اختلافاً بيناً فمنهم من حملَ الحديثَ على ظاهره ورأى صحةَ تشاؤمِ الناسِ بهذه الثلاث .
ومنهم من نفى ذلك وقال : إن هذا الحديثَ ليس على ظاهره . ثم اختلفوا في المرادِ منه .(1/190)
وقد بينتُ أوْجُهاً في المعنى المرادِ بهذا الحديثِ ، ولكن نؤكدُ هنا على نقطةٍ أساسيةٍ ؛ وهي أنه لا يمكنُ أن يكون المرادُ بهذه الأحاديثِ أن هذه الأشياءَ لها تصرُّفٌ وأنها تتسَبَّبُ في ضررِ الأشخاصِ وضررِ الناس بطريقةٍ خاصةٍ بها ، يعني : تسبُّبُ فعلٍ منعزِلٍ عن قضاءِ الله ( وقدره فهذا لا يمكنُ أن يُعقَلَ أبداً ، وهذا الذي نفاه النبي ( في قوله : " لا عدوى ولا طِيَرَة " ، فنفي الطيرة وهي التشاؤمُ نفيٌ لأن يكون هناك شيءٌ يتسببُ بذاته في إضرارِ الناس ؛ لأن العربَ كانوا يتشاءمون بالمعنى الشركيِّ الذي حذَّرَ منه النبي ( بقوله : " الطيرةُ شركٌ " ، فلا يجوزُ للمسلمِ أن يتطيَّرَ بهذا المفهومِ الذي كان أهلُ الجاهلية يعتقدونه . فربما رأى بعضُهم شخصاً مريضاً فاعتقدَ أن كلَّ ما يُصيبُه من ضررٍِ أو من مصيبةِ في هذا اليومِ إنما هو بسبب هذا الوجه الذي رآه ، وكذلك فيما نحن الآن إذا وقعَ للشخصِ مصيبةٌ بسببٍ معينٍ ولكنه كان على فَرَسٍ معينة في ذلك الوقتِ تشاءمَ واعتقدَ أن سببَ إصابتِه بهذا الضررِ كان العاملُ فيه والفاعلُ هو هذه الدابة التي يركبُها ، فهذا الاعتقادُ مرفوضٌ وليس مراداً من هذا الحديث . ولكن كما قلنا في التوجيهاتِ التي ذكرها أهلُ العلم لذلك أن يكون الفرسُ لا يُركَبُ عليه في سبيل الله ولا يُغزا عليه في سبيل الله فهذا من شؤمِ الفرسِ . والمرأة إذا كانت سيئةَ الخُلُقِ بذيئةَ اللسانِ عقيمةَ الرَّحِمِ فإن هذا من شؤمِ المرأة . والدارُ إذا كانت ضيقةً وجيرانُها جيرانُ سوء فهذا من شؤمِ الدار .(1/191)
والمرادُ أن هذه الثلاثةَ قد يحصُل من المقارنةِ والملازمةِ لها ضررٌ ومضايقةٌ على أهلها ، فرخَّصَ النبي ( في مفارَقَتِها حتى لا يتعذبَ المسلمُ بها مدةً طويلةً من حياته وإنما يتحولُ إلى غيرها مما يَشعُرُ فيه بالراحةِ وينتفعُ به انتفاعاً صحيحاً ، فهذا هو خلاصةُ القولِ ؛ إذا شعرَ الشخصُ بأنه يتأذى بملازمةِ فرسه في حياته فإنه يبيعُها ويستبدلُها بغيرِها . وكذلك إذا شعر بأن المرأةَ التي تزوَّجَها يحصلُ بينه وبينها دائما النزاعُ ولا يشعرُ بحياةٍ هنيئةٍ معها فإنه يرَخَّصُ له أن يفارِقَها . وكذلك الدارُ التي يشعرُ بأن أولادَه يمرَضون فيها ولا يشعرُ بالراحةِ ولا يستطيعُ أن يأخذَ قِسْطَهُ من نومِه فيها ونحوِ ذلك فيرَّخَصُ له أن يفارقَ هذه الدارَ ، وهذا هو المقصودُ بالتشاؤمِ وليس على فهمِ أهلِ الجاهلية واعتقادِهم كما بيّنا وأكَّدْنا .
وقد جاءتْ بعضُ الآثار والنصوصِ التي تُؤَكِّدُ هذا المعنى ولا نريدُ أن نطيلَ بذكرِها ، ولكن الخلاصةَ والتي تتعلقُ ببابنا أن يجتهدَ المسلمُ في جعلِ فرسِه تغزو في سبيلِ الله وأن لا تكونَ عاطلةً لا يُستفادُ منها في الجهادِ ، فهذا من شؤمِها عليه وضررِها عليه . وسوف يأتي في الباب القادم قول النبي ( : " الخيلُ لثلاثةٍ " ، وهذا من صنيعِ الإمام البخاري الذي يدللُ على فقهه ؛ فإنه أردفَ هذا البابَ ببابِ ( الخيل لثلاثة ) للدلالةِ على هذا المعنى الذي ذكرناه ، والله تعالى أعلم .
بارك الله فيكم يا أخوان ، وأكتفي بهذا القدرِ من شرحِ الأحاديث في هذا اللقاء .
ـ تعليق على مقال : وأحبُّ أن أختِمَ لقاءَنا بتعقُّبٍ لطيفٍ لمقالٍ نُشِرَ ونُسِبَ إلى فضيلةِ الدكتور عبدِ العزيزِ القاري يتعلقُ بتشريعِ الجهاد . وهذا المقالُ نُشِرَ على الأنترنت ، ولا أدري هل هو صحيحُ النسبةِ للشيخِ أم لا ، لأنه ليس بصوتِه ثم إنه ليسَ في موقعٍ رسميٍّ للشيخ حتى يُعتَمَدَ أنه منسوبٌ إليه حقيقة .(1/192)
ولكن على كلِّ حالٍ نحن نعقِّبُ على ما جاء في هذا المقالِ المتعلقِ بتشريعِ الجهادِ الإسلامي
والذي يقرأُ المقال يقعُ في نفسه مفهومٌ ليس بصحيح ؛ لأن المقالَ أكَّدَ على هذه المسألةِ وهي أن النبي ( عندما كان في مكةَ لم يأمُرْ أصحابَه بالانتصارِ لأنفسِهم ، فكانوا يُضرَبون ويعذَّبون ويُقتَل منهم ولم يجابِهوا أعداءَ الله ( في مكةَ ولم ينتقموا لأنفسهم . ثم بعد ذلك ماذا عملوا ؟ بحثوا عن النّثصرةِ وعن المكان الذي يستطيعون أن يتقَوَّوْا فيه وأن يجتمعوا ويبدأوا تنظيمَ أنفسهم للجهادِ في سبيلِ الله ، وفي هذه الحالِ شرَعَ الله لهم الجهادَ . فكأنه يقول وقد صرَّحَ بذلك أن حالَنا الآنَ لا تصلُح لا لجهادِ الدفعِ ولا لجهادِ الطلبِ لأننا غيرُ مؤهَّلِين وليس لدينا منعةٌ ولا قوةٌ فلا يمكنُ لنا أن نجاهدَ ولا حتى جهادَ الدفع .
وهذا كلام خطير جداً ؛
أولاً : لم يُسبَقْ إليه الشيخُ من أحدٍ من أهلِ العلمِ خلال هذه العصورِ كلها ، فإنه لا يوجدُ أحدٌ من أهلِ العلم يقول : إن المسلمَ لا يجاهدُ جهادَ الدفعِ في حالٍ من الأحوال ، وأن يستسلمَ ويرضخَ لعدوه لأنه غيرُ مؤهَّلٍ ولا يوجدُ منعةٌ ونصرةٌ تؤيِّدُه وتقفُ معه . فهذا لم يُسبَقْ إليه أبداً ولا بدَّ أن يأتيَ بمن سبَقَه من أهلِ العلم في تقريرِ ذلك وتنظيرِ هذه المسألة .(1/193)
ثم إن الاستدلالَ الذي استدلَّ به في غيرِ مَحَلِّه ، فالنبي ( لم يأمرْ الصحابةَ أن لا ينتصِروا لأنفسهم ، بل إن الذين لم ينتصروا لأنفسهم كانوا ضعفاءَ أصلاً لا يستطيعون أن يجابِهوا ، فكان ذلك بسببِ ضعفهم وليس لأنهم لا يدافعون عن أنفسهم ولا ينتصرون لأنفسهم . فمثلاً بلالٌ ( عندما كان يُعذَّبُ ، كان عبداً والذي يعذبُه سيدُه ، فمن الذي يستطيعُ أن يجابِهَهم وهو بهذه الحال ، ولكن عندما أسلمَ حمزةُ ( جاء في السيرةِ أنه ( رفع صوتَه فضربَ رأسَ أبي جهلٍ فشجَّها . وعمر ( عندما أسلمَ أخذ يضاربُ في القوم ويُحدِثُ فيهم الإصاباتِ الشديدةَ نهاراً كاملاً حتى استطاعوا أن يغلبوه ولا يُخَلِّصُه منهم إلا العاصُ بن وائل . فليس الأمرُ كما ذكر أنهم لا ينتصرون ولا يدافعون ولكن هكذا كانت قدراتُهم ، إلا أنه لم يؤذَنْ لهم بالقتالِ بمعنى القتلِ المباشرِ للكفار ، وأما أن يَرُدّوا الإيذاءَ عن أنفسهم ويدافعوا عن أنفسِهم فهذا لم يكن كذلك ولم يكن كما ذكر .
ثم إن التشريعَ الذي شرعَه الله ( لا يتغيرُ ويرجعُ ، فالجهادُ أصبح مشروعاً بهجرةِ النبي ( فكونُه يعودُ إلى زمنٍ قد مضى وأن يرجِعَ الأمرُ لا جهادَ فيه ، فهذا أمرٌ يحتاجُ إلى إثباتٍ وإلى نصٍّ يبين أنه إذا كان الأمرُ كما كان في العهدِ المكي فإن الأمرَ يرجع كما كان ولا يكون هناك جهادٌ . فلم يقلْ أحدٌ بذلك ، ولم يقلْ أحدٌ أن الخمرَ تجوز وتحِلُّ لمن بدأ في الإسلام حتى يستطيعَ أن يتخلصَ من تعلقِه بالخمرِ فيحَرَّمُ الخمرُ عليه ، ولا أحدٌ يقولُُ أن الزاني الذي تعوَّدَ الزنا يستمرُّ في زناه حتى يصلَ إلى درجةٍ معينة من الإعدادِ ومن القوة الإيمانية التي تجعله يترك الزنا .
هذا فيه خللٌ عظيم جداً في فهمِ التشريع .(1/194)
ثم إن النبي ( كان يوحى إليه ، فالله ( هو الذي حددَ المدةَ التي فرضَ بعدها الجهادَ ، وأما الآن فمن الذي يحددُ لنا المدةَ ؟ فالشيخُ أو صاحبُ المقال يقول ( حتى ولو كانت مئات السنين ) وهذا كلامٌ باطلٌ . يعني : يمكن أن نجلسَ عمرَنا كلَّه حتى تقومَ الساعةُ ونحن نختلفُ هل وصلْنا إلى الإعدادِ الذي يؤهِّلُنا للجهادِ أم لم نَصِلْ ؟
النبي ( مضى من عمره في مكةَ بعد البعثةِ ثلاثَ عشرةَ سنة ثم أُمِرَ بالقتال ، ونحن كم سنجلس ؟ لا ندري .
النبي ( كان مأموراً بوحي ، والله ( هو الذي حددَ له ، فمن الذي سيحددُ لنا ومن الذي سيبين لنا أن الفترةَ التي تشابه الفترةَ المكيةَ قد انتهت ؟ هذا كلامٌ لا دليلَ عليه .
ثم ما هي مواصفاتُ الإعداد التي يتطلَّبًها من يجاهدُ في سبيل الله ؟ فهذه المواصفاتُ تحتاجُ إلى نصوصٍ تدلل على هذه المواصفاتِ وتحديدِها وتحديدِ أصحابِها وفي نسبةِ كم من الناس حتى نعرف متى نستطيعُ أن نقول إن الأمةَ أصبحت مهيئةً للجهادِ باكتمالِ إعدادِها ، وهذا كلامٌ دونه قلل الجبال .(1/195)
ثم هل يعقَلُ أننا نُسَلِّمُ حرماتِنا ؛ يعني : إذا جاء الأعداءُ الآن وأرادوا أن ينتهكوا حرمةَ الكعبةِ والمدينةِ النبوية وحرماتِ المسلمين فنفتحُ لهم الأبوابَ ولا نقاتلُهم ولا ندفعُهم لأننا غيرُ مؤهَّلِين . هذا الكلام هراءٌ لم يقلْ به أحدٌ من أهلِ العلمِ ولا يقول به إنسانٌ عاقلٌ . فهل يعقلُ لأننا غيرُ مؤهلين أن نمكِّنَ أعداءَ الله ( من حرماتنا ومقدساتِنا ومن أموالِنا ونسائنا وأرضِنا وأهلينا ونقول : لأننا غيرُ مؤهلين وإننا نحتاجُ إلى إعدادٍ ؟ هذا عَبَثٌ . لا بدَّ عند تقريرِ المسائلِ أن يُرجَعَ الأمرُ فيه إلى كلامِ أهل العلم المعتبرين الذين فهموا النصوصَ الشرعيةَ ويُستدَلُّ بفهمهم ويُستنارُ بكلامِهم ويستضاءُ بهديهم . وأما تقريرُ مسائلَ بصورةٍ منفردةٍ بلا سلفٍ ولا أحدٍ من أهلِ العلم وفي قضايا خطيرةٍ مثلِ هذه القضايا ؟ فهذا شيءٌ عجيبٌ .
ثم نٍسألُ أنفسنا سؤالاً : هل كانتِ الأمةُ سابقاً مؤهلةً في جميعِ عصورِها ؟ أين التأهيلُ في غالبِ عصورِ الأمة ؟ فنحن لا يمكنُ أن نجزِمَ أن هناك عصراً كان مؤهَّلاً تأهيلاً صحيحاً إلا عصرَ النبي ( وأصحابِه . وأما بقيةُ العصورِ فمن أين لنا أنها كانت مؤهلةً تأهيلاً تاماً ومعَدَّةً إعداداً كاملاً يمكنُ أن تجاهدَ في سبيلِ الله ( فضلاً عن أن تدفعَ . فإن صاحبَ المقالِ أدخلَ الدفعَ أيضاً وليس فقط الجهادَ بمعنى الغزو ، وهذا أمرٌ خطيرٌ جداً . أين الزناةُ والسكارى وولاةُ الجَوْرِ . فعصرُ الحجاجِ مثلاً هل كان الناسُ مؤهَّلين فيه تأهيلاً كاملاً ؟ إذا قيل هذا فما الذي يفرِّقُ بين عصرِ الحجاج وبين أي عصرٍ آخر ؛ فالحجاجُ كان آيةً في الظلمِ والجور ، ومع ذلك كان يقاتَلُ تحت رايته غزواً في سبيلِ الله فكيف بالدفعِ ؟(1/196)
فيا أخوان ، أحببتُ أن أعلِّقَ بعُجالَةٍ وأتعقبَ هذا الكلامَ لأنه كلامٌ خطيرٌ وانتشرَ في الساحة ، ودورتُنا في الجهادِ ولا بدَّ من محاولةِ توضيحِ الأمورِ للناس ، وظني في الشيخِ أنه إذا كان كتبَ هذا المقالَ أن يوضح أكثرَ وأن يزيلَ هذا اللبسَ الذي ظهرَ في كلامِه أو أن يتراجعَ عنه إذا وجدَ فيه شيئاً من الخطأِ أو أن يبينَ أنه ليس هو صاحبَ هذا المقال .
وعلى كلٍّ ، فهذا النقدُ نقدٌ للكلماتِ وليس نقداً لذواتِ الأشخاص ، والله تعالى أعلم .
ـ سؤال : هل الحربُ في الشيشانِ جهادٌ لأجلِ إقامةِ دولةٍ إسلاميةٍ وحكمٍ إسلاميِّ ، وهل تنصح بالسفر ؟(1/197)
والجواب : أن الكلامَ في الحرب في الشيشان كالكلامِ في الحربِ في فلسطينَ وكالكلام في الحربِ في العراقِ وكالكلامِ في الحرب في أفغانستانَ ، فكل ما يدورُ في هذه البلادِ وفي غيرها مرتبطٌ بفعل الأشخاصِ أنفسِهم ؛ فمن قاتلَ هناك لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو جهادٌ في سبيل الله ، ومن قاتل هناك لغيرِ ذلك فحسابُه على الله ( ، فقد يكون يقاتِلُ حميَّةً أو لأجلِ منصِبٍ أو لدنيا من غيرِ عقيدةٍ وغيرِ دينٍ ، فهذا مرتبِطٌ بالأشخاصِ ، لأن الجهادَ هناك جهادُ دفعٍ وما يحصلُ بعدَه لا ندري ما هو . فأيُّ شخصٍ يقاتلُ هناك لتكونَ كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيلِ الله ، ونحن لا نشهدُ على الأشخاصِ ولكن أمثالُ خَطّابٍ رحمه الله وشاملٍ وغيرِ هؤلاء ، فالظاهرُ منهم أنهم يقاتِلون في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يجاهدُ في سبيله كما قال أبو هريرة ـ فهذا الذي يظهرُ منهم ، وهم إن شاء الله تعالى على ما يظهرُ منهم ونرجو لهم ذلك ، ونحن لا نحكمُ على الأشخاصِ ، وإنما فِعلُهم وما يفعله غيرُهم جهادٌ مشروعٌ . والذي يريد أن يسافرَ إذا تمكنَ من الوصولِ ووجدَ الطريقَ مهيَّئاً فهو إن شاء الله على خيرٍ ويُكتَبُ له مسيرُه ويكتبُ له جهادُه ، وإن قُتِلَ هناك فهو شهيدٌ إن شاء الله تعالى إن أخلصَ النية ، فهذا هو الذي نستطيعُ أن نقولَه . وأما الجزمُ فيصعُب لأن هناكَ من يسافرُ ولا يستطيعُ أن يصلَ فما استفادَ شيئاً ولا أفادَ غيره . وكذلك هناك من يسافرُ ولا يُحسِنُ القتالَ في هذه الأماكنِ ولم يتدربْ فهذا أيضاً يسبب عبئاً ولا يُفيدُ . وهناك من يذهبُ وقد تركَ أموراً لا يقوم بها أحدٌ غيرُه فضَيَّعَ من وراءَه . فلا بدَّ من النَّظَرِ في هذه الأمورِ جميعِها قبلَ الذهابِ إلى أيِّ مكانٍ من العالم يدافِع فيه المسلمون عن حرماتِهم وحقوقِهم ودينِهم .(1/198)
ـ سؤال : في قوله سبحانه وتعالى : أو ونحو ذلك من الآيات جاءَ فيها البَدْءُ بالجهادِ بالمالِ قبلَ النَّفْسِ ، فما هو السبب
هذه المسألةُ تعرضنا لها سابقاً ، والجواب من جهتين :
أولاً ؛ أن المالَ أحياناً يَضِنُّ به الشخصُ أكثرَ من نفسِه ، بل إن هناك من الناسِ من يبذُلُ نفسَه في سبيلِ تحصيلِ المال ويُعرِّضُ نفسَه للمخاطرِ وللصعابِ لأجلِ ذلك . فالحرصُ على المالِ قد يكون أكثرَ من الحرصِ على النفس من كثيرٍ من الناس .
ثم هناك أمرٌ آخر ، وهو أن الجهادَ يحتاجُ إلى الإعدادِ ، وقبل أن يجاهدَ المسلمُ بنفسه لا بدَّ من أن يتجهزَ لهذا الجهاد ، وهذا الإعدادُ والتجهُّزُ يحتاجُ إلى المال ، فلا بدَّ له من السلاحِ ، ولا بد له من الدابةِ ولا بد له من بعضِ التجهيزات التي تكون بالمالِ ، فيبدأ الجهادُ أولاً بالمالِ ثم بعد ذلك يكون بالنفسِ , هذا في غالبِ الحال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
المحاضرة الثانية عشرة
( الخيلُ لثلاثةٍ والتعاونُ في الجهادِ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدق الحديثِ كتابُ الله ، وخير الهدي هدي محمد ? وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب الخيل لثلاثة . وقول الله ( :(1/199)
76ـ حدثنا عبدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ ، عن مالكٍ ، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ ، عن أبي صالحٍ السَّمَانِ ، عن أبي هريرة ( أن رسولَ الله ( قال : " الخيلُ لثلاثةٍ : لرجلٍ أجرٌ ، ولرجلٍ سِتْرٌ ، وعلى رجلٍ وزرٌ . فأما الذي له أجرٌ فرجلٌ ربَطَها في سبيل الله فأطالَ في مرجٍ أو روضةٍ ، فما أصابت في طِيَلِها ذلك من المرجِ أو الروضةِ كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طِيَلَها فاسْتَنَّت شرَفاً أو شرفينِ كانت أرواثُها وآثارُها حسناتٍ له ، ولو أنها مرَّتْ بنهر فشربت منه ولم يُرِدْ أن يسقيَها كان ذلك حسنات له . فأما الذي هي عليه وزرٌ فهو رجلٌ ربطها فخراً ورئاءً ونواءً لأهل الإسلام فهي وزرٌ على ذلك " . وسئل رسول الله ( عن الحُمُرِ فقال : " ما أُنزِلَ علي فيها إلا هذه الآيةُ الجامعةُ الفاذة :
هذا الحديثُ العظيم الذي ذكره الإمامُ البخاري رحمه الله تعالى هنا وبوَّبَ البابَ بجزء منه ؛ حديثٌ طويلٌ ، وسوف أعرِضُه عليكم إن شاء الله بطولِه لما فيه من الفوائدِ العظيمة ، ولكن أنَبِّهُ هنا على فقه الإمام البخاري رحمه الله وعملِه العجيبِ في تراجِم أبوابه . فهو قد ذكر أولاً البابَ الذي ذكر فيه حديثَ " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " ، ثم بعد ذلك ذكر حديث " الشؤم في ثلاثة " ، ثم ذكر هذا الحديث " الخيل لثلاثة " .
فالحديثُ الأولُ يُفيدُ أن الخيلَ على الإطلاقِ الخيرُ معقودٌ فيها إلى يومِ القيامة .
والحديثُ الثاني يفيدُ أن الشؤمَ متعلِّقٌ بالخيلِ .
والحديثُ الثالثُ فَصَّلَ الأمرَ فبيَّنَ بمن يتعلقُ الخيرُ وبمن يتعلقُ الشؤمُ .(1/200)
ونلاحظُ هنا أن الإمامَ البخاري رحمه الله اقتصرَ في هذا الحديثِ على قسمينِ فقط ؛ القسمُ الذي يكون له الخيرُ ، والقسم الذي يكون له الشؤمُ . وكأنه اختصرَ الحديثَ لأجل بيانِ التفصيل المرادِ . وأما الذي لا أجرَ له ولا وزرَ عليه فلا حاجةَ لذكره هنا لأنه لا يريدُه في هذا التدرُّجِ بالأبواب .
فهذا من دقيقِ صنع الإمامِ البخاري رحمه الله تعالى ، وبابُنا يتعلق بلا شكٍّ بأبوابِ الجهادِ وارتباطِه بمن يتخذُ الخيلَ لأجلِ الجهاد ، سواءٌ كان يجاهدُ عليها فعلاً أم يرتبطُها ويحتبِسُها انتظاراً للجهادِ في سبيلِ الله ( .
وذكر الإمامُ البخاري رحمه الله الآية وهي قوله سبحانه وتعالى فذكر الرُّكوبَ واتخاذَ الزينةِ وهما مقصدانِ من مقاصدِ اتخاذِ الخيل ، وليس اتخاذُ الخيل للمقصدَيْن المذكورَين فقط ، فربما اتخذَ الخيلَ للتجارة وربما اتخذَ الخيلَ للأكلِ لأن الخيلَ يجوزُ أن تؤكَلَ ؛ فقد أُكِلَتْ في عهدِ النبي ( وذكرتْ أسماءُ أنهم ذبَحوا فرساً وكانوا جيراناً للنبي ( ولا شك أنهم أهدَوا إلى النبي ( شيئاً منه .
وعلى كلِّ حالٍ فالآيةُ ليستْ لحصرِ المنافعِ ولكن ذُكِرَ فيها أهمُ منفعتين ، والأغلبُ في الانتفاعِ بالخيلِ إما للركوبِ وإما للزينة . وفي الأمرين أو المطلبين يحصلُ الأجرُ ويحصل الوِزرُ ، وكذلك يحصل السِّتْرُ أيضاً كما سنُبَيِّنُ على اختلافِ مراتب الذين يتخذون الخيلَ كما بين النبي ( أنها لثلاثة .
والآن أقرأُ عليكم الحديثَ مطوَّلاً بلفظِه من صحيحِ مسلم ، وفيه بعضُ زياداتٍ عن غيره ، وقد ذكرتُه بطولِه في ( موسوعة فضائل سور وآيات القرآن ) تحت سورة الزلزلة .(1/201)
فعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : " ما من صاحبِ كنزٍ لا يؤدي زكاتَه إلا أُحمِيَ عليه في نارِ جهنمَ فيُجعلُ صفائحَ ، فيُكوى بها جنباه وجبينُه كلما بردَتْ أعيدتْ له ، حتى يحكمَ الله بين عبادِه في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنة ، ثم يرى سبيلَه إما إلى الجنةِ وإما إلى النار . وما من صاحبِ إبلٍ لا يؤدي زكاتَها ( وفي رواية : حقَّها ؛ ومن حقِّها حلبُها يومَ وِردِها ) إلا بُطِحَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ كأوفرِ ما كانت ، ولا يفقِدُ منها فصيلاً . تَستَنُّ عليه . كلما مضى عليه أخراها رُدَّتْ عليه أولاها حتى يحكمَ الله بينَ عباده في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ ، ثم يرى سبيلَه إما إلى الجنةِ وإما إلى النار . وما من صاحبِ غنم لا يؤدي زكاتَها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت ، فتطؤُه بأظلافِها وتنطحُه بقرونِها ، ليس فيها عقصاءَ ولا جلحاءَ ، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقدارُه خمسينَ ألف سنة مما تعدون . ثم يرى سبيلَه إما إلى الجنة وإما إلى النار .
قال سهيل ـ و هو الراوي لهذا الحديثِ عن أبيه عن أبي هريرة ـ : ( فلا أدري أذكر البقرَ أم لا ) . وفي رواية غيره ـ يعني : من روى هذا الحديث غير سهيل ـ قيل : يا رسولَ الله ، فالبقرُ والغنمُ ؟ قال : " ولا صاحبَ بقرٍ ولا غنم لا يؤدي منها حقَّها ؛ إلا إذا كان يومُ القيامة بُطِح لها بقاع قرقر ، لا يَفقدُ منها شيء ، ليس فيها عقصاءُ ولا جلحاءُ ولا عضباءُ ، تنطحُه بقرونِها وتطؤُه بأظلافها ، كلما مرَّ عليه أولاها رُدَّ عليه أخراها ، في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيلَه إما إلى الجنة وإما إلى النار " . إلى هنا ثم يبدأ في الكلام عن الخيل بعد الترجمة إن شاء الله تعالى .(1/202)
يقول : قالوا : فالخيلُ يا رسول الله ؟ قال : " …الخيلُ في نواصيها ـ أو قال : الخيلُ معقودٌ في نواصيها ـ ( قال سهيل : أنا أشك ) الخير إلى يوم القيامة . الخيلُ لثلاثة : فهي لرجلٍ أجرٌ ، ولرجل ستر ، ولرجل وزر . فأما التي هي له أجرٌ ؛ فالرجل يتخذُها في سبيل الله ويعدها له ، فلا تُغَيِّبُ شيئاً في بطونها إلا كَتَبَ الله له أجراً . ولو رعاها في مَرجٍ ما أكلتْ من شيءٍ إلا كتبَ الله له بها أجراً . ولوسقاها من نهر كان له بكلِّ قطرةٍ تغيبها في بطونها أجرٌ ( حتى ذكر الأجر في أبوالِها وأرواثِها ) . وفي رواية[ وكتب له عددُ أبوالِها وأرواثِها حسناتٍ ] ولو اسْتَنَّتْ شَرَفاً أو شرفين كُتِبَ له بكلِّ خطوة تخطوها أجرٌ . وأما الذي هي له سِتْرٌ ؛ فالرجل يتخذُها تكرُّماً وتجمُّلاً " ( هذا القسم الذي لم يذكرْه الإمامُ البخاري رحمه الله في هذه الرواية وقد ذكرها في طرق الحديث حيث أخرج هذا الحديث في أماكن أخرى من الصحيح ) . يقول : " وأما التي هي له سِتْرٌ فالرجلُ يتخذُها تكرماً وتجملاً " [ وفي رواية تغنيا وتعففاً ] " ولا ينسى حقَّ ظهورِها وبطونِها في عُسْرِها ويسرها . وأما الذي عليه وزرٌ ؛ فالذي يتخذُها أشراً وبطراً وبذخاً ورياءً الناس ، فذاك الذي هي عليه وزر " . قالوا : فالحُمُرُ يا رسولَ الله ؟ قال : " ما أُنزِلَ الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآيةُ الجامعةُ الفاذَّةُ : ".
هذا الحديثُ العظيمُ الذي جمعَ كلَّ هذه الفوائدِ العظيمةِ نمرُّ عليه مروراً سريعاً وإن كان لا يتعلقُ بالجهادِ في جلِّ ما وردَ فيه ، ولكن الفائدةَ من ذِكْرِه كبيرةٌ ولذا آثرنا أن نتكلمَ عنه ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع .(1/203)
بدايةُ الحديث تحدَّثَ عن من لا يؤدي زكاةَ ماله ، وذكر النبي ( فيه أن صاحبَ الذهبِ والفضةِ إذا لم يؤدِّ زكاةَ ماله فإنه يُعتَبَرُ كنزٌ ، وما أُدِّيَتْ زكاتُه فليس بكنزٍ . ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما يقول : فالكنز : هو ما لا يؤدى زكاتُه ، وما أدِّيَ زكاتُه فليس بكنزٍ . فهنا يقول ( ما من صاحب كنزٍ لا يؤدي زكاتَه إلا أحمي عليه في نار جهنم ) كما ذكر الله ( . واليومُ عند الله سبحانه هو كما قال . فهذا اليومُ الذي يعذِّبُ الله ( فيه هؤلاء نسأل اللهَ السلامةَ والعافية ، يعذَّبون مدةً قدرُها خمسين ألف سنة ، وهو قدرُ يومِ القيامة ، ثم بعد ذلك يرى سبيلَه إما إلى الجنة وإما إلى النار ، يعني : هذه فترةٌ قبلَ أن يدخلَ النارَ .
وأما صاحبُ المالِ الذي ليس بذهبٍ ولا فضةٍ ؛ فصاحبُ الأنعامِ من الإبلِ والغنمِ والبقرِ ، فإن الذي لا يؤدي الزكاةَ فيها يعذَّبُ بطريقةٍ أخرى ؛ فإنه يُبْطَحُ على وجهِه في هذا القاعِ القرقرِ ـ يعني : الأرضَ المستويةَ الواسعةَ ـ ثم تُجرَى عليه هذه الدوابُ بحيثُ تطؤُه بأظلافِها وتنطَحُه بقرونِها ، والله سبحانه وتعالى يجعلُ لكلِّ دابةٍ منها قروناًَ فليس فيها واحدةٌ لا قرنَ لها ، وكلُّ واحدةٍ لها قرنٌ ؛ قرنُها كاملٌ ليس فيها ( عقصاءُ ولا جلحاءُ ولا عضباءُ ) فالعضباءُ : التي كُسِرَ قرنُها ، والجلحاءُ : التي لا قرنَ لها ، والعقصاءُ : التي يكون قرنُها ملتوياً . فيصحح الله ( قرونَ أجمعها حتى يستوفيَ العذابَ لهذا الرجل ، نسأل الله السلامةَ والعافية . ( ولا يفقد منها ولا واحدة ) فكلُّ هذه الدوابِ التي لم يؤدِّ زكاتَها تعذبُه بهذه الطريقةِ قبلَ أن يبيَّن له هو إلى النارِ أم إلى الجنة .(1/204)
وفي هذا دليلٌ على أن الذي لا يُزَكّي وهو مسلمٌ قد يدخلُ الجنةَ ولا يُعتَبَرُ مخلداً في النار لقوله ( حتى يقضي الله بين العبادِ فيرى سبيلَه إما إلى الجنة وإما إلى النار ) وهذا دليلٌ على أنه لا يكفُرُ تاركُ الزكاةِ طالما أنه لم يترُكِ الزكاةَ جحوداً وإنما قد يكون تركَها تكاسلاً وتهاوناًَ ، والله تعالى أعلم .
هذا هو القسمُ الأولُ من الحديثِ المتعلقِ بالزكاة ، ثم بعد ذلك ذكرَ النبي ( القسمَ الثاني ؛ وهو المتعلقُ ببابِنا ، فسأله الصحابةُ بعدما ذَكَرَ لهم أصحابَ المالِ الذي هو النقدينِ الذهب والفضة فسألوه عن البقرِ والغنمِ والإبلِ ، ثم قيل له : يا رسولَ ، فالخيلُ ؟ فكان جوابه ( : " الخيلُ في نواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامة " ، وهذا هو الحديثُ الذي مرَّ معنا قبلَ لقاءٍ أو لقاءينِ وفيه تعميمٌ للبركةِ التي في الخيلِ ، ثم بعد ذلك فصَّلَ النبي ( . وقد سألوه عن الخيلِ لأن الخيلَ لا زكاةَ فيها وإنما الزكاةُ فيما سبقَ ذكرُه من الأنعام . فقال النبيُّ ( : " الخيل لثلاثة ، لرجلٍ أجرٌ ، ولرجلٍ سترٌ ، ولرجل وزرٌ " .(1/205)
فالذي له أجرٌ : تكلمنا عليه سابقاً . وفي هذا الحديث نُعيدُ هذه الكلماتِ وهي واضحةٌ في باب الجهادِ ، قال : ( الرجل الذي يتخذُها في سبيل الله ويُعِدُّها له ، فلا تُغَيِّبُ شيئاً في بطونها إلا كتب الله له أجراً ) ؛ وهنا لفظُ الحديثِ في صحيح البخاري ( رجلٌ ربطها في سبيلِ الله فأطالَ في مرج أو روضةٍ فما أصابَ في طِيَلِها ذلك ) ؛ والطيل : الحبلُ . ( فإذا ربطها في مرجٍ أو روضةٍ ) والمرجُ والروضةُ : المكانُ المُنْبِتُ المُثْمِرُ الذي فيه العشبُ ، ولكن المرجَ يُطلَقُ على ما انخفضَ من الأرض ، وأما الروضةُ فتُطلَق على ما ارتفعَ منها . فإذا ربطها في هذا المكان الذي فيه العشبُ فإنها في هذا الحبلِ الطويل الذي يربطُها فيه حتى تستطيعَ أن تتحركَ بحريةٍ ؛ كلما أكلَتْ شيئاً من هذا المرجِ أو هذه الروضةِ فإنه يُكتَبُ له بقدر ما تأكلُ حسنات ، وهذا من عظيمٍ الأجر كما ذكرنا قبل ذلك .
ثم يقول ( وكُتب له عدد أبوالها وأرواثها حسنات ) ؛ وهذا تكلمنا عنه أيضاً .
( ولا تغيب شيئاً في بطنها من الماء ) ؛ أيضاً إلا كتب له بهذا القطرات التي شربتها أجر .
ثم يقول ( ولو أنها قطعت طيلها ) يعني : انقطع هذا الحبلُ ( فاستنت شرفاً أو شرفين ) يعني : جَرَتْ وأسرَعَتْ ، والشرفُ هو المكان العالي من الأرض ، يعني : مشت مسافاتٍ معينةً طويلةً أكثرَ من المكان الذي كانت مربوطةً فيها ، فإنها في كلِّ خطوةٍ تخطوها يأخذُ أجراً ويكتب له ذلك عند الله ( ، حتى إنها لو مرَّتْ بنهر فشرِبت منه ولم يُرِدْ صاحبُها أن يسقيَها فإنه يأخذُ بقطراتِ الماء التي دخلت بطنَها أجراً عند الله ( .
هذا هو أجرُ من احتَبَسَ الفرسَ في سبيلِ الله وارتبطَه في سبيلِ الله وأعدَّه للجهادِ في سبيل الله .(1/206)
وهذا دليلٌ على ما ذكرنا ؛ أن الخيرَ المعقودَ بنواصي الخيلِ مختصٌّ بهذا الرجلِ ، وأما الشؤمُ الذي ذُكِرَ في الفرسِ فلا يُطلَقُ على هذه الحال ، لأن هذه الحال فيها الخيرُ والبركةُ وليس الشؤم .
ثم ذكر النبي ( القِسْمَ الذي لا له ولا عليه ؛ وهو الرجلُ الذي له الخيل سترٌ ، فقال : ( هو الذي يتخذُّها تكرُّماً وتجمُّلاً ، وفي روايةٍ : تغنِّياً وتعفُّفاً ) يعني : يستغني بها ويتعففُ بها ، فيقوم بالتجارةِ فيها مثلاً أو إيجارِ ظهورِها حتى يركبَها الناسُ ، فهذا يأكلُ من ورائِها الحلالَ ويمتنعُ بها عن سؤالِ الناسِ ، فهذا لا له ولا عليه ؛ لأنه لم يقصدْ قربةً إلى الله ( بهذا العملِ ، فإن كان يقصدُ قربةً إلى الله ( بعمله فإنه يُؤجَرُ بقدرِ ما قصدَ كما يؤجَرُ الشخصُ إذا نوى قربةً إلى الله ( بطعامِه وشرابه وإطعامِ أبنائِه ونحوِ ذلك .
وقد شَرَطَ النبي ( فيمن تكونُ له سترٌ أن لا ينسى حقَّ الله تعالى في ظهورِها وبطونِها في عُسرِها ويُسرها ، يعني : لا يمنعُ المحتاجَ منها وإذا ادَّخَرَ مالاً من تجارَتِه بها مثلاً وحالَ عليه الحولُ فإنه يُخرِجُ زكاةَ هذا المالِ ، ويقومُ بحقِّها من رعايةٍ وصيانةٍ ، فهذا يحصلُ أنه لا ورزَ عليه ولا أجرَ له بهذا المعنى .(1/207)
ثم ذكر النوعَ الثالثَ وهو الذي تكونُ عليه وزرٌ ؛ وهو الذي يتخذُها أشراً وبطراً وبذخاً ، والأشرُ والبطرُ والبَذَخُ هو الطغيانُ عن الحقِّ والمرحُ والفخرُ والتكبرُ على الناس ، وكلُّه متقاربٌ . أو يتخذُها رياءً للناس حتى يقالَ إنه قد حبَسَ أو ربطَ أفراساً في سبيل الله ، وهو لا يقصدُ ذلك حقيقةً وإنما من بابِ الرياءِ . أو اتخذَها كما جاء في الرواية هنا في الصحيح ( مناوأةً لأهلِ الإسلام ) يعني : عداءً وبغضاً ، يعني : ينوي بذلك الإيذاءَ لأهل الإسلام فهي عليه في ذلك وزرٌ والعياذُ بالله ، وهذا هو الشؤمُ وهو شؤمُ المعصية وشؤمُ مخالفةِ الله ( فيما أمر ، فهذا هو التفصيلُ في هذا الحديث .
ثم سُئل النبي ( عن الحمرِ بعدَ أن تكلَّم عن الأنعامِ وسُئِلَ عن الخيلِ فتكلَّم عنها أيضاً ، فلما سئل عن الحمرِ وليس فيها زكاة أيضاً ، قال النبي ( : ( ما أَنزَلَ اللهُ عليَّ فيها ، أو ما أُنزِل علي فيها إلا هذه الآيةُ الفاذَّةُ الجامعةُ ) يعني بذلك الاستدلالَ بعمومِ لفظِ هذه الآية . فهذه الآيةُ آيةٌ فريدةٌ في معناها وجامعةٌ لكلِّ شيءٍ يُمكنُ أن يندرجَ تحتَها ، فالذي أرادَ خيراً أُجِرَ والذي أراد شَراً أَثِمَ ، فقال الله ( : فكذلك الذي يتخِذُ الحُمُرَ يريد بها الخيرَ كتبَ الله له الأجرَ ، ومن أرادَ بها السوءَ والشرَّ كتب الله الإثمَ عليه ، ومن لم يُرِدْ شيئاً من ذلك فإنه لا أجرٌ له ولا وزرٌ عليه ، والله تعالى أعلم .
وقد قال بعضُ أهلِ العلم : إن في هذه الآيةِ التي في الحديث توجيهٌ إلى القياسِ ، وهو من الأصولِ التي اختلفَ فيها أهلُ العلم ؛ هل تُؤخَذُ الأحكامُ بالقياسِ أم لا تؤخذ ؟(1/208)
فبعضُهم استدَلَّ بأدلةٍ على أخذِ الأحكام من القياسِ ، ونفى ذلك جماعةٌ من أهلِ العلم ، ومن أهلِ العلم من تَوَسَّطَ في المسألةِ وضيَّقَ الخَناقَ في مسألةِ القياسِ فلم يفتحِ المجالَ للقياسِ إلا عندَ الضرورةِ القصوى والحاجةِ المُلِحَّةِ . وهذا القولُ الأخيرُ هو الأقربُ ، والله تعالى أعلمُ ، وإن كانت أدلةُ الذين ينفون القياسَ أدلةً قويةً أيضاً . ولكن في هذه الآيةِ أرادَ بعضُ أهلِ العلم أن يحتجَّ بها على إثباتِ القياس حتى إنه قال : ( وهذا الذي عَلَّمه النبي ( للصحابةِ حيث استدَلَّ لهم بهذا العمومِ هو نفسُ القياسِ الذي يُنكِرُه من لا فَهْمَ عندَه ) هكذا قال ، وبئسَ ما قال ؛ لأن الذي أنكرَ القياسَ علماءٌ أجلةٌ أقوياءُ في هذا العلمِ ، ولكن كما قلتُ : القولُ الوسطُ هو الأرجحُ ، والله أعلم .
وهذا الذي ذكره ليس فيه دليلٌ على القياس بل هو مما يَستدِلُّ به نفاةُ القياسِ ، ولأجلِ هذا أحببتُ أن أنبِّهَ ، لأن نفاةَ القياسِ يحتَجّون بالعموماتِ ويقولون : ( عموماتُ الشريعةِ يندرِجُ تحتَها ما لم يُذكَر فيه نصٌ خاصٌ به ) ، فهنا : الحُمُرُ ليس فيها نصٌّ في زكاتِها أو إخراجُ شيءٍ من الحق فيها فتندرجُ تحت العمومِ في قوله تعالى : وهذا في كل شيءٍ لم يَرِدْ فيه نصٌّ ممكنُ أن يندرجَ تحتَ هذا العموم وهذه هي طريقةُ استدلالِ نفاةِ القياسِ ، ولو كان الأمرُ بالقياسِ لقالَ النبي ( ( قِيسوها على الخيلِ مثلاً ، أو هي مثلُ الخيل ) وإنما قال النبي ( ( لا أجدُ فيها إلا هذه الآية .. ) وهي آيةٌ عامةٌ يدخلُ تحتَها أمورٌ كثيرةٌ . والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من ضَرَبَ دابةَ غيرِه في الغزوِ .(1/209)
77 ـ حدثنا مسلمٌ ، حدثنا أبو عقيلٍ ، حدثنا أبو المتوكلِ الناجي قال : أتيتُ جابرَ بنَ عبدِ الله الأنصاري فقلت له : حدثني بما سمعتَ من رسول الله ( . قال : سافرت معه في بعض أسفاره ـ قال أبو عقيل : لا أدري غزوةً أم عمرةً ـ فلما أن أقبلنا قال النبي ( : " من أحبَّ أن يَتَعَجَّلَ إلى أهله فليَعْجَلْ " . قال جابر : فأقبلنا وأنا على جملٍ لي أرمَكَ ليس فيها شِيَةٌ والناسُ خلفي ، فبينا أنا كذلك إذ قامَ عليَّ فقال لي النبيُّ ( : " يا جابرُ استمْسِكْ " ، فضربه بسوطِه ضربةً ، فوثبَ البعيرُ مكانه ، فقال : " أتبيعُ الجملَ " ؟ قلت : نعم ، فلما قدمنا المدينةَ ودخل النبي ( المسجدَ في طوائفِ أصحابِه ، فدخلت عليه وعقلتُ الجملَ في ناحيةِ البلاطِ فقلت له : هذا جملُك . فخرج فجعل يُطيف بالجملِ ويقول : " الجملُ جملُنا " ، فبعث النبي ( أواقٍ من ذهبٍ فقال : " أعطوها جابراً " ، ثم قال : " استوفيتَ الثمنَ " ؟ قلت : نعم . قال : " الثمنُ والجملُ لك " . …
هذا الحديث بوب له الإمامُ البخاري رحمه الله ( باب من ضرب دابة غيره في الغزو ) ، يعني : ما ورد في ذلك عن النبي ( وما يجوزُ من ذلك للمصلحة ، فإن النبي ( في هذا الحديث ضرب دابةَ جابرٍ ( للمصلحةِ ، فكان في ضربته ( الخيرُ والبركةُ حيث اشتدَّ الجملُ واستطاعَ أن يلحقَ بغيره.
وهذا الحديثُ جاء في الطرقِ الأخرى ما يدلِّلُ أنه كان في غزوةِ تبوك ، والنبي ( عندما اقترب من المدينة كما جاء في هذا الحديث شعر برغبةِ أصحابه في الإسراعِ إلى أهاليهم ، فرخَّصَ لهم ، وهذا من شفقتِه ( ومن حُسْنِ قيادتِه . فالذي يجب على وليِّ الأمر والقائدِ في الجيش أن يرفُقَ بجنوده وأن ينظرَ في مصلحتهم وأن يهتمَّ بهم ويشغلَ بالَه بما يُدخِلُ عليهم من خيرٍ وسرور .(1/210)
وهذا الخلقُ للأسف مفقود في كثير من الجيوش ، فلا تجد إلا الغلظةَ والفظاظةَ والتعامل السيئ والتعالي والتكبرَ . وهذه كلها آفاتٌ دخلت بسبب البُعد عن السنة النبوية وما أصبحتْ به الجيوشُ من الوظيفة التي يحصل من ورائها الأجرُ ليس في ذلك اتباعٌ لهدي النبوة في الجهاد والإعداد له . فالنبي ( قال لأصحابه : ( من أحب أن يتعجل لأهله فليعجل ) يعني : يسبقهم , وقد كان جملُ جابرٍ ( قوياً ولكنه أعيا ، يعني : تعبَ ، كما في بعض طرقِ هذا الحديث . فيقول : إن جملَه كان ( أرمَك ) ، والأرمك : هو الأحمرُ الذي يخالطُه شيءٌ من السواد . ثم قال ( ليس فيها شية ) يعني : ليس فيه عيبٌ ، فالجمل كان قوياً ليس فيه شيء ، وفجأة بعد أن كان الناسُ خلفَه وهو يسبُقُهم أعيا الجملُ . أي : توقف . فالنبي ( من رأفتِه ورحمته وحسنِ قيادته كان يتفقدُ أصحابَه وجنودَه ، فالذين تقدموا تقدموا وإذا به بجابرٍ قد توقفَ لأجلِ إعياءِ جمله ، فما كان من النبي ( إلا أن قال له ( يا جابر استمسك ) يعني : اضبطْ نفسك في جلوسِك على هذا الجمل لأنه سوف يضربُه ضربةً ، وهذه الضربةُ سوف تجعلُه ينشط بإذن الله وتعود له القوة فيسبق الآخرين ، وهذا الذي حصل ، فقد ضربه النبي ( بسوطه ضربةً ، فوثب البعيرُ مكانَه ، وفي هذا تقييدٌ لما وردِّ من أن النبيَّ ( ما ضربَ شيئاً قط ، والمرادُ الضربُ الذي لا فائدةَ من ورائِه أو بسبب الغضبِ غيرِ المحمود ونحو ذلك . فهنا النبيُّ ( ضَرَبَ الدابةَ ، وضربُ الدابةِ لإسراعِها وحثِّها ثابتٌ عنه ( ولا حرجَ في ذلك لأن من وراءِ هذا الضربِ مصلحةٌ .
ولا نريدُ أن نُطيلَ في مسألةِ الضرب ؛ فإن الضربَ منهجٌ تربويٌّ من المناهج الإلهية التي ذكرها الله ( في كتابه وذكرها النبي ( ولكن تكون في محلِّها ، فإذا كانتْ في محلها فهي وسيلةٌ قويةٌ وناجعة ومفيدة ومجرَّبة ، والحمد لله .(1/211)
ثم قال النبي ( لجابر ( أتبيعُ الجملَ ) ؟ لما شعر جابرٌ برغبةِ النبي ( في شراءِ الجمل ، ثم إنه قد أعيا ، قبِلَ جابرٌ أن يبيعَ للنبي ( الجملَ ، وتبايعا على مبلغٍ معيَّنٍ واشترطَ جابرٌ أن يحملَه الجملُ إلى المدينة ويسلَّم النبي ( الجملَ هناك ، وهذا فيه جوازُ البيعِ بشرطٍ ، وهي مسألةٌ فيها خلافٌ بين أهل العلمِ ، ولكن في مثلِ هذه الصورة الدليلُ صحيحٌ وثابت ، فيجوزُ البيع والشرطُ في مثل هذه الصورة وما شابهها .
فلما قدموا المدينةَ كان النبي ( من عادتِه أن يبدأَ بدخولِ المسجدِ ، وهذه سنةٌ من سنن النبي ( خاصةً إذا كان الشخصُ ممن يُسَلَّمُ عليه ويحرصُ الناسُ على القدومِ إليه للاطمئنانِ عنه كما في حالِ النبي ( ، فجاء جابرٌ وربطَ الجملَ وسلَّمه إلى النبي ( ، فخرج النبي ( ونظر إلى الجمل وأصبح يؤكِّدُ لجابرٍ أن الجملَ جملُه ، ثم أمرَ بإعطائه المالَ مقابلَ شراءِ الجمل ، فلما انصرف جابرٌـ وهذا من خُلُقِ النبي ( الكريم وإحسانِه لإصحابه وهو يعلم أن حالةَ جابرٍ المالية ضعيفة كما جاء في رواياتٍ أخرى ـ فأرسل له بالجملِ بعد أن أعطاه المالَ وقال له : ( المال والجمل لك ) ، فكانت هذه لفتة جميلة من النبي ( لصاحبه . والله تعالى أعلم .
أيضاً ، في هذا الباب فائدةٌ تتعلق بفقهِ الجهاد ، وهي من آدابِ الجهاد في سبيل الله . وهي : التعاونُ بين المجاهدين وليس فقط بين القائدِ وبينَ من هم تحتَه . فالنبي ( قائدٌ كما هو معلومٌ ولكنه أيضاً أسوةٌ لغيره من الجنودِ . فالمجاهدُ عليه أن يكونَ حريصاً على نفعِ إخوانِه وعلى التعاونِ معهم ، ولذا بوب الإمام البخاري بالإطلاق ولم يحصر ذلك بالقائد .(1/212)
فالتعاونُ أمرٌ هامٌ ومطلوبٌ في كل وقتٍ بين المسلمين ، وهو آكدُ وأهمُ في حالِ الجهادِ في سبيل الله . فالمسلمُ عليه أن يحرصَ على ذلك وأن يعاونَ إخوانَه المجاهدين سواء كان معهم في جهادِهم أو كان بعيداً عنهم ، فإنه يحاول أن يعينَهم بقدرِ ما يستطيع . وإذا كان ضربُ الدابةِ منصوصٌ عليه وثابتٌ في سنةِ النبي ( وهذا اعتُبِرَ إعانةً ومساعدةً للمجاهدِ ، فما بالُكم بتجهيز المجاهدِ وبذلِ المال له والدعاءِ له وغيرِ ذلك من طرقِ التعاون على البر والتقوى ، والله تعالى أعلم .
ـ أسئلة :
ـ هل يجب الآن الذهابَ للجهادِ في العراق وتركَ الزوجة والأولاد والعملِ الذي هو منوطٌ بالشخص أم ينتظرُ حتى يكون هناك جهادٌ واضحٌ وتنظيمٌ وترتيبٌ ؟
والجواب : الجهادُ قائمٌ الآن والحمد لله في العراق . وهناك جهاتٌ تقوم بمجاهدةِ القوات الغازية التي احتلَّتْ البلادَ . ومن أراد أن يذهبَ عليه أن يرتِّبَ أمرَه ، فإنه يُخشى عليه أن لا يصلَ أصلاً . ونحن تكلمنا عن هذا كثيراً ، ولا نريد أن نعيد كلَّ ما قلناه ، وإذا استمعتَ إلى محاضرات هذه الدورةِ السابقة ففيها تفصيلٌ لهذا الكلام عدة مرات .(1/213)
وخلاصة القول : لا تذهبْ إلا وأنتَ قد رتَّبْتَ مسؤولياتِك في بلدِك التي تعيش فيها من أهلٍ وولدٍ وكلِّ ما أُنيطَ بك ، عليك أن ترتبه أولاً حتى لا تُضيِّعَ من وراءَك . ثم بعد ذلك لا تذهبْ إلا وأنت تعلمُ طريقاً يوصلُك إلى هذه البلادِ بحيث يكون لك دورٌ في الجهاد حقيقة . وكذلك يكون لك القدرةُ على الجهادِ . فبعضُ الناس يذهب وهو لا يُحسِنُ شيئاً من القتالِ ولا يعرف شيئاً عن الأسلحة ، وليس لديه شيء من اللياقةِ البدنيةِ التي تُعينُه في القتال ، ونحو ذلك . وهو لم يتدربْ ولم يُعِدَّ العدةَ لذلك . فكيف يجاهدُ من غير إعدادِ العدة . فهذه الأمورُ لا بدَّ من النظرِ إليها قبل الذهابِ وإن كان الذي يذهب إن شاء الله تعالى إذا نوى رفعَ رايةِ لا إله إلا الله والدفاعَ عن حرماتِ الإسلام ، فهو مأجورٌ إن شاء الله تعالى ومكتوب له الأجر بهذه النية الصالحة الصادقة ، وإن قُتل فهو شهيدٌ بإذن الله طالما أنه صدقَ بهذه النية ، ولكن لا نستطيعُ أن نقول : يجب على كل فردٍ الآن أن يذهبَ لالتباس الأمرِ وعدم تحقيقِ الجهاد هناك تحتَ رايةٍ واضحةٍ وبترتيبٍ منظَّمٍ وإنما كلٌّ يجاهدُ بقدر استطاعته . وقد يستطيعُ أهلُ العراقِ أن يدفعوا هذا الاعتداءَ بنفسهم ولا يحتاجون لأحدٍ من الخارج ، فلم يتضِحْ الأمرُ جيداً بالنسبة لغير المقيمين هناك ، والذي على المقيمين هناك أن يدفَعوا بكل ما يستطيعون ، والله تعالى أعلم .
ـ هل أبو بكر ( عندما قاتل مانعي الزكاة قاتَلَهم لأنهم كفارٌ ؟ والحديث الذي ذكرناه يدلل على أن الذي لا يؤدي الزكاة قد يدخلُ النارَ وقد يدخل الجنة ، فمعناه أن الذي لا يزكي ليس بكافرٍ فكيف توجيهُ ذلك .(1/214)
والجواب : أننا قلنا إن الذي لا يُزكّي مما ذكر في هذا الحديث المرادُ به ؛ الذي يتركُ الزكاةَ تكاسلاً وبُخلاً ، وليس الذي يتركُ الزكاة إنكاراً لمشروعيتِها ولكونِها ركناً من أركانِ الإسلام . والذين قاتلَهم أبو بكر ( لم يترُكوا أداءَ الزكاة فقط وإنما أنكروها ، فهذا الذي جعلَ أبو بكر ( يقاتلهم .
ثم إن من أهلِ العلم من ذكر أنه يقاتِل أهل الجهةِ إن اتَّفَقوا على منعِ الزكاة حتى وإن لم يُنكروها لأن اتفاقَهم على منعِ الزكاة يقومُ مقامَ الإنكار ، فهذا ليس من باب التكاسل وليس من باب البخل من شخص معين ، وإنما هو اتفاقٌ من جهةٍ على تركِ ركنٍ من أركانِ الإسلام . فهذا باختصارٍ موضوعُ معاملةِ أبي بكر ( لمانعي الزكاة ، وأما الحديث فهو متعلق بشخصٍ لا يؤدي زكاة ماله تكاسلاً منه وبخلاً وليس إنكاراً منه للزكاة ولا إصراراً على الامتناع حيث يطلبها منه ولي الأمر ، فهذا أمره يختلف . والله تعالى أعلم .
المحاضرة الثالثة عشرة
( بعضُ آداب الجهاد وإجازةُ الدورة )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ? وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب الركوبُ على الدابةِ الصعبةِ والفحولةِ من الخيلِ .(1/215)
وقال راشدُ بنُ سعدٍ : كان السلفُ يستحِبُّون الفحولةَ لأنها أجرى وأجسرُ .
78 ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمد ، أخبرنا عبدُ الله ، أخبرنا شعبةُ ، عن قتادةَ قال : سمعت أنسَ بنَ مالك ( قال : كان بالمدينةِ فَزَعٌ ، فاستعارَ النبي ( فرساً لأبي طلحةَ يُقالُ له : مندوبٌ ، فركِبَه وقال : " ما رأينا من فَزَعٍ ، وإن وجدناه لبَحراً " .
قبلَ أن أبدأَ في شرحِ هذا الحديثِ ، أحبُّ أن أنبِّهَ على نقطةٍ تتعلقُ بالدورة ؛ وهي أن أحدَ الأخوةِ بارك الله فيه دلَّني على تعليقٍ في منتدى ملتقى أهلِ الحديثِ ، فأحدُ الأخوة علَّقَ على موضوعِ الدورةِ ومسألةِ الإجازةِ التي وعدتُ بها لمن أدرجَ اسمَه في هذه الدورةِ واختبرَ معنا ، فيقول : إن الطرهوني أخذَ الإجازةَ باردةً مبرَّدةً عن طريقِ المكاتبةِ ثم يشترطُ لها شروطاً ، واقتصرَ في الدورة على الإجازةِ في كتابِ الجهاد فقط من صحيح البخاري ، وذكرَ ما ذكرتُه في الموقعِ من شروطِ الإجازةِ وقد ذكرتُ في موقعي من شروطِ الإجازة أن يجتازَ الطالبُ اختباراً في الحديثِ الشريف ، يعني في المصطلح ، وهو اختبارٌ ميَسَّرٌ . أو يكون له بعضُ الجهودِ العلميةِ التي تُدَلل على اشتغالِه بعلمِ الحديث.
والأخُ طلب من زوارِ المنتدى أن يطلُبوا مني أن أزيلَ هذه الشروطَ وأن أُيَسِّرَ في أمرِ الإجازةِ .
فأقول : أولاً ؛ قولُ الأخ إنني أخذتُ الإجازةَ باردةً مبردة عن طريقِ المكاتبة . هذا ليس بصحيح فلم آخذ شيئاً من الإجازاتِ إلا بعدما صدرَ لي أعمالٌ علميةٌ انتشرتْ في السوق وعرفَها أهلُ العلم وأبْدَوا إعجابَهم بها وعرفوا من خلالها الاشتغالَ بهذا العلم من قبلي . وليس الأمرُ كما يتساهلُ كثيرٌ من المشايخِ فيكتبون الإجازاتِ لكلِّ من هبَّ ودبَّ ، فلا يُعتبرَ لها قيمةٌ ولا يُنظَرُ لها بعين الثقة .(1/216)
لكن إذا كانت الإجازةُ مقتصِرَةً على طلبةِ العلم ، أو على المشتغلينِ بعلم الحديثِ فإن هذا يجعل لها قيمةً ويجعل لها منزلةً بين طلبةِ العلم .
وأما بالنسبةِ للشرطين ؛ فالشرطُ الثاني موافقٌ لما حصلَ من أخذي للإجازةِ . وأضربُ مثالاً لذلك ؛ فالشيخُ حمودُ التويجري رحمه الله ما أعطاني الإجازةَ إلا عندما اطَّلَعَ على أحكامِ السُّترَةِ في مكةَ وغيرِها وحكمِ المرورِ بين يدي المصلي . فلما أُعجِبَ ببعض المباحثِ الحديثية عرضَ علي الإجازةَ وكنتُ قي زيارةٍ له ، وحدثني في هذه الزيارةِ بالحديثِ المسلسلِ بالأوَّليَةِ وأجازني بما أجيز به .
فهذا الكلامُ الذي ذكره الأخُ ليسَ بصحيحٍ ، وإنما كانت الإجازةُ مباشرةً من الشيخِ لي وليس عن طريقِ المكاتبةِ المشهورةِ التي يرسَلُ فيها إلى المشايخِ فيرسِلواهم بالإجازة وهذه لا أفعلُها ولا أراها جيدة .
وأما الشرط الثاني ؛ وهو الاختبارُ في مصطلحِ الحديثِ إنما هو لمن لم يكنْ له جهودٌ وإنما أريدَ بذلك التأكدُ من اشتغالِه بعلمِ الحديثِ حتى يكونَ أهلاً لحملِ هذه الأسانيدِ إلى كُتِبِ أهلِ العلم ، وإلا فما معنى الإجازةِ إذا أجزتُ الصغيرَ والذي لم يولدْ بعد ، فهذه وإن أجازَها بعضُ أهلِ العلمِ ولكني لا أرى لها اعتباراً في مسألةِ تقديرِ صاحبِ الإجازة . والسببُ في ذلك : أن الذي يحملُ الإجازةَ ينظرُ له الناسُ على أنه من طلبةِ العلم ومن المهتمين به وليس الأمرُ كذلك في الماضي ، فاختلف الوضعُ .
ولأجل هذا لا أرى هذه الإجازةَ التي كان يفعلُها قبلَ ذلك بعضُ أهلِ العلم ، وأقتصرُ على إجازةِ طلبةِ العلم .(1/217)
ففي هذه الدورةُ ستكون الإجازةُ إن شاء الله لمن يختبرُ في هذا الباب الذي درسناه من صحيح البخاري ، وأما الذي لا يختبرُ لا أعطيهِ الإجازةَ بناءً على المبدأِ الذي ذكرتُه ، ولكن لعلَّنا إن شاء الله نجعلُ الإجازةَ في صحيحِ البخاري بكاملِه إن شاء الله تعالى . وفقكم الله لما يحبه ويرضاه .
الإمامُ البخاري رحمه الله يقول في هذا الباب ( باب الركوبِ على الدابةِ الصعبةِ والفُحولةِ من الخيل ) وهذا أيضاً من أبوابِ الجهاد ، ويريد أن يبينَ أن النبي ( حصلَ منه أنه ركبَ دابةً صعبةً فالباب يتحدث عن ذلك بصفةٍ عامةٍ ، وهو ما جاء في الركوبِ على الدابة الصعبةِ والفحولةِ من الخيلِ والفحولةِ من الخيلِ ؛ أي الذكور . والفحلُ هو الذَّكَرُ من الخيلِ الذي يَطرُقُ الأنثى . والدابة الصعبةُ قد تكون أنثى وقد تكون ذكراً ، ويصعبُ ركوبُها . ويتعلقُ هذا في مسألةِ الجهادِ في هذا الزمانِ بما جدَّ من الأسلحةِ هو التدرُّبُ على الأسلحةِ الصعبةِ التي يصعبُ على المسلمِ أن يتعاملَ معها ، فيُستَأنَسُ بهذا في ذاك.
وذكر هنا الإمامُ البخاري رحمه الله أن راشدَ بنَ سعدٍ وهو من أواسطِ التابعين ذكرَ عن السلفِ الصالح ؛ أي : الصحابة وكبار التابعين أنهم كانوا يستحبون الفحولةَ . والمرادُ بالفحولةِ كما قلنا : الذكورُ ، وذكر السبب في ذلك أنها أجرى وأجسر .
( وأجرى ) ؛ هكذا وردت في طبعة الكتاب ، وفي بعض الرواياتِ ( أجرأ ) بهمزة في آخرها . والمرادُ على الهمز أن الفحلَ من الخيلِ يكون أشدَّ جرأةً من الأنثى ، وكذلك هو ( أجرى ) هو أسرع في الجري من الأنثى . وكذلك ( أجسرُ ) هو جَسورٌ يقدم على الصعابِ وعلى المواضعِ الخطيرةِ أكثرَ من أنثى الخيل .
ثم ذكر حديثَ أنسِ بنِ مالك ( الذي تحدثنا عنه أكثرَ من مرةٍ ، وفيه أن النبي ( استعارَ الفرسَ الذي لأبي طلحةَ ويقال له ( مندوب ) .(1/218)
( والفرس ) : الأصل أنه يُطلَقُ على الأنثى في غالبِ المواضعِ ، ويطلَقُ أيضاً على الذكرِ أحياناً.
ومن تبويبِ الإمامِ البخاري رحمه الله هنا وظاهرُ لفظِ الحديثِ يُدَلِّلُ على أن هذا الفرسَ كان ذكراً ، فالنبيُّ (استعارَ هذا الفرسَ من أبي طلحةَ وكان اسمُه ( مندوب ) فركبه وقال : ( ما رأينا من فزعٍ وإن وجدناه لبحراً ) ؛ فأثنى النبي ( على سرعةِ جري هذا الفرسَ الذكرَ , فكأن الإمامَ البخاري رحمه الله انتزعَ الترجمةَ من هذا الوصفِ الذي وصفَ به النبيُّ ( هذا الفرسَ الذكرَ بقوله ( وإن وجدناه لبحراً ) أي : سريع الجري .(1/219)
فهذا الباب الذي ذكره الإمام البخاري ( وذكر فيه أثرَ راشدِ بنِ سعدٍ يتعلقُ بالغالبِ من حالِ السلفِ ، فإنهم كانوا يستحِبُّونَ الفحولةَ فيما فيه إقدامٌ ، يعني : فيما كان من الأمورِ الظاهرةِ من الحربِ كالاصطفافِ للقتال وكمهاجمةِ الحصون ونحوِ ذلك من الأمورِ الظاهرة في الحرب ، وأما ما كان يحتاجُ إلى خفاءٍ وإلى لطفٍ فإنهم كانوا يستحبونَ الإناثَ كما جاء ذلك في خارج الصحيح من الآثارِ الواردةِ من السلف ، فكانوا يستحبُّونَ إناثَ الخيل في الغاراتِ والبياتِ ؛ إذا أغاروا على قومٍ في الليلِ أو بيتوهم وأرادوا أن يدخُلوا عليهم خفية ولا يُصدروا صوتاً وإزعاجاً يُشعرُ بهم ، فإنهم فيما خفي من أمورِ الحربِ كانوا يستحبونَ الإناثَ ؛ لأن الأنثى لا تصهلُ كثيراً ، وأما الفحلُ فإنه يصهلُ كثيراً عند ركوبه ، فهذا يتسببُ في ظهورِ الغزوِ ويؤثِّرُ عليهم إذا أرادوا أن يبيتوا قوماً وهذا من فقه الجهاد . والذي نستفيدُه من ذلك : اختيارُ الشيءِ المناسبِ في الوقتِ المناسبِ والمكان المناسبِ ، فانظروا إلى فقهِ السلف رحمهم الله تعالى كيف كانوا دقيقينَ في مثلِ هذه الأمورِ يضعون كلَّ شيءٍ في وقتِه وما يناسبُه ، فعلى الرغم من كونِ الذكور من الخيلِ أقوى وأجسرُ لكنهم لا يستخدمون الفُحولةَ في الوقتِ الذي يتضررون فيه بهم وإنما يستخدمونَ الإناث بدلاً من الفحولةِ في المواقفِ التي يُحتاجُ فيها إلى الإناث . فهذا فقهٌ من هذه المسألةِ يحرص عليه ، والله تعالى أعلم
نضيف هنا : أن الفحولةَ هي كما ذكرتُ في بدايةِ حديثِنا : الذكورُ من الخيلِ التي تطرُق الأنثى وتُعَدُّ للضرابِ ، يعني : الفحلُ لا يكونُ خَصِياً لأن المخصيَّ يكونُ أقلَّ جرأةٍ وجسارةٍ من الفحلِ ، فالذكرُ غيرُ المخصي هو المرادُ هنا بالفحولةِ ، وأما الذكر المخصيُّ فهو قريبٌ من الإناثِ في الهدوءِ وقلةِ الجسارة ، والله تعالى أعلم .
يقول البخاري رحمه الله :
باب سهامُ الفرسِ .(1/220)
79 ـ حدثنا عبيدُ بنُ إسماعيلَ ، عن أبي أسامةَ ، عن عبيدِ الله ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمر رضي الله عنهما : أن رسولَ الله ( جعلَ للفرسِ سهمين ولصاحبِه سهماً .
وقال مالكٌ : يُسهَمُ للخيلِ والبراذين منها لقوله : ولا يسهم لأكثرَ من فرس .
هذا الباب يتحدثُ فيه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن السهامِ التي تسهمُ لصاحبِ الفرسِ
فقوله ( سهام الفرس ) المراد من ذلك : ما يسهَمُ لصاحبِ الفرسِ . وذكر فيه حديثَ ابنِ عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ ( جعلَ للفرسِ سهمَين ولصاحبِه سهماً .
فيكون بذلك مجموعُ ما يسهَمُ لصاحبِ الفرسِ ثلاثةُ أسهم ، وهذا من الغنيمةِ . يعني : إذا قسمت الغنيمة على المجاهدين بعد الحربِ فإن القسمةَ تكونُ حسبَ العدد ، فيجعل في القسمة للفارسِ ثلاثةُ أسهمٍ وللراجلِ سهمٌ واحدٌ فقط . هذا الفقهُ الذي استُفيدَ من الحديثِ أدرجَ فيه الإمامُ مالك رحمه الله البرذونَ في مسمى الفرس . وذلك لأن الله سبحانه وتعالى عندما قال في كتابه " فرقٌ بين البغلِ والخيل والحمار ، فالحمارُ جنسٌ والبغالُ جنسٌ والخيل جنس ، ولم يفصِّلْ في الخيلِ فدخل في ذلك العربيُّ الأصيلُُ ودخل فيه المُهَجَّنُ وهو البرذون ، وهو أكثر ما يجلَبُ من بلادِ الروم من الخيل ، فيسمى ( برذونا ) ويسمى ( هجيناً ) ، وهناك فرقٌ بين البرذون والهجين ، وعلى كل حالٍ فكلها تدخل تحت مسمى الخيل .
فإذا ركبَ الفارسُ فرساً عربياً أو هجيناً فإنه يسهَم للفرسِ بسهمينِ ويُسهَمُ للفارسِ بسهمٍ ثالث(1/221)
هذا هو الذي عليه جمهورُ العلماء ، وذهب بعضُ أهلِ العلم إلى أن للفرسِ سهماً واحداً وللفارس سهماً ، وذهبوا إلى ذلك من جهةِ الرأي فقالوا : لا يُفَضَّلُ الدابةُ على الإنسان . وهذا رأي واجتهادٌ في مقابلِ النصِّ فلا يقبَلُ هذا الرأيُ ولا هذا الاجتهادُ . ثم هذا ليس تفضيلاً بصفةٍ مطلقةٍ وإنما هو تفضيلٌ في القسمةِ لما يحتاجُه الفرسُ من رعايةٍ وصيانة واهتمامٍ ، وفي النهايةِ هذا الأجرُ وهذه القسمةُ تؤول للفارسِ ، فالذي يأخذ السهمين المقسومين للفرسِ إنما هو الفارسُ ، فاعتبارُ هذا تفضيلاً للدابةِ على الإنسان ليس في محله لا عقلاً ولا نقلاً . فالصحيحُ هو ما ذهب إلى الجمهورُ من القسمة ؛ ثلاثةُ أسهمٍ للفارسِ وسهماً واحداً للراجلِ ، والله تعالى أعلم .
هذا الحديث الذي ذكرناه في الإسهامِ للفارس وللفرسِ استدل به بعضُ أهلِ العلم على الإسهامِ للمشركِ إذا حضرَ الوقعةَ مع المسلمين وقاتل معهم ، كالإمام الشعبي من التابعين .
وهذا خلافُ قولِ الجمهورِ ، فإن المرادَ بالعموم هنا الفارسُ المسلمُ ، ولا يدخلُ في ذلك المشرك.
وإذا قاتل المشركُ مع المسلمين كما ذكرنا في كلامِنا في بداية الدورةِ عن مسألةِ الاستعانة بالمشركين ، فإن الذي يظهرُ أنه يُرضَخُ له كما يرضخ للعبدِ والمرأة ولا يسهَم له سهماً كما هو قولُ جمهور العلماء ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب من قادَ دابَّةَ غيرِه في الحربِ .(1/222)
80 ـ حدثنا قتيبةُ ، حدثنا سهلُ بنُ يوسفَ ، عن شعبةَ ، عن أبي إسحاقَ : قال رجلٌ للبراءِ بنِ عازب ( : أفرَرْتُم عن رسولِ الله ( يومَ حنين ؟ قال : لكنَّ رسولَ الله ( لم يَفِرَّ ، إن هوازنَ كانوا قوماً رماةً ، وإنا لما لقيناهم حملْنا عليهم فانهزَموا ، فأقبلَ المسلمون على الغنائمِ ، فاستقبلونا بالسهامِ ، فأما رسولُ الله ( فلم يفرَّ ، فلقد رأيتُه وإنه لعلى بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيان آخذٌ بلِجامِها والنبي ( يقول : " أنا النبيُّ لا كذب ، أنا ابنُ عبدِ المطلب " .
هذا الحديثُ يدخلُ في آدابِ التعاون والمساعدةِ التي تكون بين المجاهدين بعضهم البعض ، وليس مقصوراً أيضاً على الإمام ، كما ذكرنا في ( باب من ضرب دابة غيره ) ، وهنا ( من قاد دابة غيره في الحرب ) يعني : هذا باب من التعاونِ والتعاضدِ في الحرب ، فربما احتيجَ لأن يقودَ أحدُ المجاهدين دابةَ غيره ، وهذا واردٌ حتى في غيرِ الخيل كما هو معلومٌ ، فالآن مثلاً الدبابات والمدرعات تحتاج إلى قائدٍ يقودُ بمن فيها . وهنا ذكر حديثَ البراءِ بن عازبٍ الذي شرحَ فيه حالَ الصحابةِ في غزوةِ حنين مع النبي ( ، وقد ذكر الإمامُ البخاري رحمه الله طرفاً من الحديث ، والحديثُ أطولُ من ذلك . وفيه : ( أن رجلاً قال للبراءِ بن عازب : أفررتُم عن رسولِ الله ( يوم حنين ؟ ) كأنه يلومُه على ذلك ، فكان جوابُ البراء ( بأسلوبٍ جيد حيث خرجَ من الجوابِ بما هو أهمُّ من ذلك ، وذلك بالثناءِ على النبي ( وبيانِ أنه لم يفرَّ وإن كان قد فرَّ من فر في غزوة حنين ، لكن النبيَّ ( ثبته الله وبقي ثابتاً في هذه المعركةِ لم يفرَّ وإنما الذي فرَّ غيرُه ( ، ثم بدأ البراءُ يعتذرُ عمن فرَّ من الصحابة في هذه الغزوة ويبينُ السببَ الذي دفعَ الكثيرَ منهم إلى الفرار .(1/223)
فذكر ( أن هوازن ) وهم القومُ الذين ذهبَ النبي ( لحربِهم في غزوةِ حنين . وكانت قبيلةُ هوازن من ( الرماة ) يعني : مشهورون بإصابة الرمي . يقول : ( فلما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا ) يعني : اشتدوا عليهم فبدأتْ هزيمتُهم وهروبُهم من الساحة ، فأقبل المسلمونَ على الغنائم . وهذا كما حصلَ في غزوةِ أحُدٍ أيضا عندما نزل الرماةُ عن الجبلِ وانشغلوا بالغنائمِ فكان ذلك سبباً في حصولِ شيءٍ من الهزيمةِ في هذه الوقعةِ . وهذا الذي حصل أيضاً ؛ انشغل المسلمون بالغنائمِ , وفي بعضِ رواياتِ السيرةِ ما يدللُ على أن هذا كان من بابِ التخطيطِ ، فانهزامُ بعضِ المشركين من هوازن أمام المسلمين كان مصيدةً للمسلمين حتى يدخلوا في الوادي وانشغلَ كثيرٌ منهم بجمع الغنائمِ التي خلفها هؤلاء ، فإذا بجماعةٍ من هوازن كانوا قد كمَنوا للمسلمين يَخرُجون ويرشقُونَهم بالسهام ، وكانوا قوماً رماةً كما ذكر البراءُ ، فكان في ذلك إحداثاً لزلزلةٍ في صفوفِ المسلمينَ فاضطُرَّ كثيرٌ منهم إلى الفرار.
وهذا يدلل على أمور :
أولاً ؛ أن الانشغالَ بأمورِ الدنيا في الجهادِ يكون سبباً في أحيانٍ كثيرةٍ في وقوعِ الهزيمة . والذي ينبغي على المجاهدِ أن لا ينشغلَ بشيءٍ من أمورِ الدنيا ، وأن يكون شغلُه الشاغلُ وهمُّه القتالَ والاطمئنانَ إلى انتهاءِ أمرِ القتال ، وأن ينتظرَ حتى يسمعَ إذنَ الإمام جمعَ الغنائم . وأما النصرُ الأُوَّلي الذي لم تثبتْ أصولُه ولم يُتَحَقَّقْ منه فهذا لا يعتمدُ عليه ويظن أنه قد حصل وانتهى حتى يتأكد من ذلك .(1/224)
وثانيا ؛ فيه ما يدللُ على بشريةِ الصحابة لأنهم فيهم من انشغلَ بجمع الغنائم ، ثم فيهم من انهزمَ وفرَّ عندما رأى رميَ السهامِ وحصولَ المقتلةِ في المسلمين ، وهذا من البشريةِ التي لم يسلم منها أحدٌ فإنها خلقةُ الله ( ، ولكن النبي ( ثبتَ في هذا الموقفِ العصيب ومعه قلةٌ قليلةٌ من الصحابةِ الذين استطاعوا أن يتغلَّبوا على نفوسِهِم البشريةِ ويصمُدوا مع رسولِ الله ( .
ثم ذكر الموقفَ الذي رأى فيه النبيُّ ( ثابتاً مؤيداً من الله ( ، فقال : ( فلقد رأيتُه وإنه لعلى بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيانَ آخذٌ بلجامٍِها ) ، يعني بأبي سفيان : أبا سفيان بنَ الحارثِ بنِ عبدِ المطلب ، فهو الذي كان يقودُ بغلةَ النبي ( ويمسكُ بلجامِها ، ( واللجام ) هو الذي يربَط به الدابة يقول : ( والنبي ( يقول : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " ) يجهرُ بذلك ويصيحُ بهذه الكلماتَ حتى يطمْئِنَ المسلمين أولاً ويثبتَهم ، ويحدثُ شيئاً من الهلعِ والخوفِ في الكفارِ ولا يظنوا أن النبي ( قد فرَّ مع من فرَّ ، ويدللُ على شجاعتِه وأنه لا يهابُهم ولا يهابُ أن يقفَ ولو كان وحدَه أمامَ هذه الجيوش . والله تعالى أعلم .
قال الإمام البخاري رحمه الله :
باب الركابُ والغرزُ للدابة .
81 ـ حدثنا عبيدُ بنُ إسماعيلَ ، عن أبي أسامةَ ، عن عبيدِ الله ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما عن النبي ( أنه كان إذا أدخلَ رجلَه في الغرزِ واستوتْ به ناقتُه قائمةً ، أهلَّ من عند مسجدِ ذي الحليفة .
هذه الأبوابُ القادمةُ متعلقةٌ بما يُركَبُ في القتالِ والجهاد ، وكان ذلك في عهدِ النبي ( أساسُه الخيلَ . فيقول هنا ( باب الركاب والغرز للدابة ) يعني : ما وردَ في ذلك ، أو جوازُ اتخاذِ ذلك .(1/225)
( والركاب ) يكون من الحديدِ والخشبِ ، وهو ما يَستَنِدُ عليه الراكبُ إذا أرادَ أن يركبَ الدابةَ فيضعُ القدمَ عليه ثم يرفعُ نفسَه على دابته . ( والغرز ) مثلُ ذلك إلا أنه لا يكونُ إلا من الجلدِ .
وقيل : الغرزُ يكون للجملِ ، والركابُ يكون للفرسِ . هذا ما فصَّلَه بعضُ أهلِ العلم .
ثم ذكر الإمامُ البخاري رحمه الله حديثَ ابنِ عُمَرَ ( وهو في حجِّ النبي ( وفي توقيتِ إهلالِه بالحج . أي : متى لبّى النبي ( عندما حجَّ . فقال ( كان إذا أدخَلَ رجلَه في الغرزِ ) فهنا يُدللُ على أن ما يكونُ بالنسبة للناقة أو الجملِ يسمى غرزاً . فالنبي ( ركِبَ ناقَتَه واستوتْ به الناقةُ قائمةً ، ووضع رجلَه في غرزِها ، أهلَّ من عندِ المسجدِ الذي بذي الحليفة . وذو الحليفةِ منطقةٌ تبعُدُ عن المدينةِ بضعةَ كيلوات الآن ، وهي التي أهَلَّ منها النبي ( وفيها الميقاتُ المسمى الآن بأبيارِ علي .
والنبي ( كما تعلمون وقَّتَ المواقيتَ بالنسبة للحج ، فكان ميقاتُ أهلِ المدينة الذي لا يجوزُ للمسلمِ أن يتجاوزَه حتى يحرِمَ هو ذو الحليفة . والشاهدُ هنا أن النبي ( كان يتخذُ غرزاً لناقَتِه بدليلِ هذا الحديث وهو صريح .
والسببُ في إثارة هذه المسألةِ أنه رُوي في بعضِ الآثارِ عن بعضِ السلف أنه كان يأمرُ بقطعِ الركابِ للفرسِ ، ويأمرُ بالوثوب عليها وثباً . فهذا منه من بابِ التدريبِ على الركوبِ بمهارةٍ وليس من باب تحريمِ اتخاذِ الركابِ أو الغرز ، وإنما هذا فقط من بابِ المهارةِ في ركوبِ الخيل والتدريبِ على ذلك . ويؤخذُ من هذا الحرصُ على التدريبِ والمهارةِ في استعمالِ الآلات الحربية ومركباتِ القتال، ولا حَرَجَ أن يتعلمَ الشخصُ التعاملَ مع هذه المركوباتِ حتى وإن لم يكنْ على أعلى درجاتِ المهارةِ فيها . والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب ركوبُ الفرسِ العُرْيِ .(1/226)
82 ـ حدثنا عمروُ بنُ عَوْنٍ ، حدثنا حمادٌ ، عن ثابتٍ ، عن أنسٍ ( : " اسْتَقْبَلَهم النبي ( على فَرَسٍ عُرْيٍ ما عليه سَرجٌ في عنقِه سيفٌ " .
هذا البابُ يذكرُ فيه الإمامُ البخاري ما جاء في ركوبِ الفرس بغيرِ سَرْجٍ . ( والسرج ) هو ما يُوضَعُ على الفرسِ فيجلسُ عليه الفارسُ . وهذا لا يستطيعُه إلا من كانتْ فروسيتُه بالغةً .
فالنبيُّ ( كان من أشجعِ الناسِ ومن أكثرِهم تدريباً وتمكناً في ركوبِ الفرس ، ولا يكونُ هذا الذي فعلَه النبيُّ ( إلا لمنْ أحكَمَ ركوبَ هذه الدوابِ وأدمَنَ على الفروسيةِ .
وفي الحديثِ الذي ذكرَه ما يُدَللُ على ذلك ، وهو حديثُ النبي ( عندما سمِعَ فَزَعٌ في المدينة فكانَ أولَّ من ذَهَبَ لاستطلاعِ الخبرِ النبيَّ ( ، وقد ذكرنا هذا فيما سبق . فلما خرجَ الناسُ استقبَلَهُم النبي ( عائداً وهو يقول : " لم تراعوا ، ما وجدنا فزعاً ، وإن وجدناه لبحراً " . كما ذكرنا هذا في لقاءاتٍ سابقةٍ .
يقول ( عندما استقبلهم النبي ( إذا بالفرس عري ) ؛ من عجلةِ النبي ( وشجاعتِه ورغبتِه في استطلاعِ الخبر في أسرعِ وقتٍ ممكن ، وهذا من حكمةِ النبي ( وحِنْكَتِه .
ويُؤخَذُ منه العجلةُ في استطلاعِ الأخبارِ وما يسمى بمسابقة الزمن ، لأن اللحظةَ تُؤَثِّرُ كثيراً في أمرِ الجهاد . فلا بدَّ من أن يكونَ المسلمُ على يَقَظَةٍ تامةٍ واهتمامٍ بالحرصِ على وقتِه والمحافظةِ عليه ، فالنبي ( لم يُضَيِّعْ وقتاً يبحث فيه عن سرجٍ يضعُه على الفرس ، وإنما ركِبَ الفرسَ عُرْياً من غير سرج ، فذكر ذلك أنسٌ .
ثم يقول ( وكان في عنقه سيف ) ؛ والذي يظهرُ أن المرادَ هو عنقُ النبي ( ولكن إذا نظرْنا إلى عَوْدِ الضميرِ إلى أقربِ مذكورٍ ، فإن أقربَ مذكورٍ هو الفرسُ ، فكأن الضميرَ في الكلمات كلِّها يعودُ على الفرسِ ، ولكن المعقولَ والمقبولَ وهو ظاهرُ الشرحِ الذي ذكره الحافظُ أنه عنقُ النبي ( ، فلعلَّه الصوابُ ، والله تعالى أعلم .(1/227)
وفي ذلك ما يشيرُ على أن الفارسَ عليه أن يتدربَ دائماً ويتعاهدَ الفروسيةَ حتى يستطيعَ أن يؤديَ دورَه في مثلِ هذه اللحظات الحرِجَةِ .
وفي عصرنا الآن , وإن لم تكن الخيلُ أساساً في القتالِ ، فإن هذا يكون أيضاً في سائرِ المركوباتِ ، وكلما كان الشخصُ مدرباً على المركوباتِ كان دورُه في الجهادِ أعظم .
وأذكر لكم من الطرائفِ الذين يقودونَ السياراتِ بطريقةٍ فيها شيءٌ من التَّهَوُّرِ ، إذا كتبَ الله لهم التوبةَ فإنه يُستعانُ بهم في مطاردةِ أمثالهم ممن لم يكتبِ الله عز وجل لهم التوبةَ . فالذي يستطيعُ أن يتمكنَ من قيادةِ السيارة يمكنه أن يؤديَ دورَه في الجهادِ بهذه السيارةِ ويستطيعُ أن يَهْرُبَ من عدوِّهِ وممن يطاردُه ، وهذه أمورٌ على المجاهدِ أن يهتمَّ بها وأن يحرصَ عليها ، والله تعالى أعلم .
قال البخاري رحمه الله :
باب الفرسُ القَطوفُ .
83 ـ حدثنا عبدُ الأعلى بنُ حمّاد ، حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ ، حدثنا سعيدٌ ، عن قتادةَ ، عن أنسِ بنِ مالك ( : أن أهلَ المدينة فزِعوا مرةً فركب النبي ( فرساً لأبي طلحةَ كان يقطف ـ أو كان فيه قطاف ـ فلما رجَع قال : " وجدنا فرسَكُم هذا بَحراً " ، فكان بعد ذلك لا يجارَى .
هذا الحديث هو نفسُ الحديثِ الماضي والذي سبق عدةَ مرات . وقد ذكرنا أن الإمامَ البخاري رحمه الله يذكر الحديثَ في عدةِ مواضعَ لوجودِ شواهدَ متعددةٍ فيه تتعلق بعدة أبوابٍ فقهيةٍ تُستنبَطُ من هذا الحديث .
فهنا يبين أنه يمكنُ أن يُركَبَ الفرسُ القطوفُ ، ( والفرس القطوف ) هو الذي يكون ضيقَ المشيِ بطيئاً .
قال بعضُ أهل اللغة : إن الذي يمشي وثباً هو القَطوفُ . وإن كان يرفعُ يديه ويقومُ على رجليه فهو سَبوتٌ . وإن التوى براكبِه فهو قَموصٌ . وإن منعَ ظهره ـ يعني لم يسمحْ لأحدٍ بركوبه ـ فهو شَموسٌ . فهذه ألفاظ تُطلَقُ على الفرسِ بحسب حاله .(1/228)
والمقصودُ أن النبي ( ركِبَ هذا الفرسَ القطوفَ الذي كان بطيئاً ومتقاربَ الخُطا للحاجةِ إلى ذلك ، فإن النبي ( لم يجدْ إلا هذا الفرسَ في هذا الوقتِ العَجِلِ الضَّيِّقِ ، فركبه ( وكما قلنا : في هذا مراعاةٌ لجانبِ الوقت ؛ لأنه لو انتظرَ حتى يبحثَ عن فرسٍ سريعٍ قويٍّ لضاعَ الوقتُ وربما دهم العدوُ المكانَ . فعامِلُ السرعةِ مهمٌ جداً كما ذكرنا وإن كانتْ الدابةُ المستخدَمَةُ فيها شيءٌ من البطءِ ولكنها أفضلُ من أن يَنتظرَ حتى يجد المجاهدُ دابةً قويةً .
ومن بركةِ النبي ( وما أنعمِ الله ( به أنه عندما ركبَ هذه الدابةَ أجراها الله ( وبثَّ فيها القوةَ فأصبحتْ من أسرعِ الدوابِ ، حتى أنها بعدَ تلك الحادثةِ صارتْ لا تُسبَقُ ولا تُجارى ولا يوجدُ ما يسبقُها من الأفراسِ . وهذا دليلٌ على صحةِ التبركِ بالنبي ( فكلُّ ما يلامِسُهُ ( أو يلمَسُهُ هو ( يحصلُ فيه البركةُ . والله تعالى أعلم .
بارك الله فيكم ونكتفي بهذا القدر اليوم ، ونفتح باب الأسئلة .
المحاضرة الرابعة عشرة
( دوابُ الجهادِ والسباقِ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدقَ الحديث كتاب الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ? وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . أما بعد
إن شاء الله تعالى سوف نحاولُ الإسراعَ قليلاً في الفترةِ الباقية لأن الكتابَ كبيرٌ جداً ، فنأملُ من الأخوةِ المعذرةَ لمحاولةِ الانتهاءِ من الكتاب حتى لا نُمِلَّ الحضورَ . بارك الله فيكم .(1/229)
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب السبَقُ بينَ الخيلِ .
84 ـ حدثنا قبيصةُ ، حدثنا سفيانُ ، عن عبيدِ الله ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال : أجرى النبيُّ ( ما ضُمِّر من الخيلِ من الحفياءِ إلى ثنيةِ الوداعِ ، وأجرى ما لم يُضَمَّرْ من الثنيةِ إلى مسجدِ بني زُرَيْقٍ . قال ابن عمر : وكنتُ فيمن أجرى .
قال عبدُ الله ، حدثنا سفيانُ قال : حدثني عبيدُ الله قال سفيان : بينَ الحفياءِ إلى ثنيةِ الوداعِ خمسةُ أميالٍ أو ستةٌ , وبين ثنيةَ إلى مسجدِ بني زُريق ميل .
باب إضمارُ الخيلِ للسَّبْقِ .
85 ـ حدثنا أحمدُ بنُ يونسَ ، حدثنا الليثُ ، عن نافعٍ ، عن عبدِ الله ( أن رسولَ الله ( سابَقَ بين الخيلِ التي لم تُضَمَّرْ ، وكان أمدُها من الثنيةِ إلى مسجدِ بني زُريق . وأن عبدَ الله بنَ عُمَرَ كان سابقَ بها .
قال أبو عبد الله : أمداً غاية .
باب غايةُ السباقِ للخيلِ المضَمَّرَةِ .
86 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ محمد ، حدثنا معاويةُ ، حدثنا أبو إسحاقَ ، عن موسى بنِ عقبةَ ، عن نافعٍ ، عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال : سابقَ رسولُ الله ( بين الخيلِ التي قد ضُمِّرَتْ فأرسلَها من الحفياءِ ، وكان أمدُها ثنيةَ الوداع . فقلت لموسى : فكم كان بينَ ذلك ؟ قال : ستةُ أميالٍ أو سبعةٌ. وسابقَ بينَ الخيل التي لم تُضَمَّرْ ، فأرسلها من ثنيةِ الوداع ، وكان أمدُها مسجدَ بني زُريق . قلت : فكم بينَ ذلك ؟ قال : ميلٌ أو نحوه . وكان ابنُ عمرَ ممن سابقَ فيها .(1/230)
هذه الأبوابُ تتعلقُ بالتدريبِ على الجهادِ في سبيل الله ، فهي وإن كانتْ متعلِّقَةً بالسبقِ بين الخيلِ إلا أنها تُدللُ على أهميةِ التدريبِ على الجهادِ في سبيل الله . وما كان النبيُّ ( يسابقُ بين الخيلِ من باب التَّرَفِ ، وإنما كان يسابقُ بينها من باب التدريبِ على الجهادِ والإعدادِ له .
فهذه الأبوابُ كلُّها متعلقةٌ ببعضِها ، وذكر الإمامُ البخاري رحمه الله في هذه الأبوابِ الثلاثةِ حديثاً واحداً ذكرَه من طُرُقٍ ، وهو حديثُ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما ، وهو أن النبيَّ ( كان يفرِّقُ بين الخيلِ التي يسابِقُ بينَها ؛ فإذا كانت الخيل مضمَّرَةً ـ والخيلُ المضمرةُ : هي الخيلُ التي تُعلَفُ جيداً وتُسقى جيداً ويُهتَم بها لفترةٍ ثم بعدَ ذلك يُوضَعُ عليها الجلالُ وذلك لأجلِ أن تعرقَ ويخفَّ الشحمُ منها وكذلك تُجَوَّعُ لفترةٍ ويُقتَصَرُ على طعامٍ قليلٍ لها فيحصل لها رشاقةٌ وتَضْمُرُ خصورُها وبطونُها ، وهذا هو معنى الخيل المضمرة ، فيفعل ذلك بها حتى تكون قويةً ورشيقةً ، وهذه الخيلُ يُحتاجُ إليها لقطعِ المسافات البعيدة ـ فهذه الخيلُ المضمرةُ كان النبي ( يجعل السبقَ بينها إلى مسافةٍ بعيدةٍ نوعاً ما ، وأما الخيلُ التي لم يُفعَلْ بها ذلك فإنه يُجعلُ المسافةُ لسَبْقِها أقصرُ من المسافةِ التي تكون للخيلِ المضمرة . فهنا يذكرُ ابنُ عمر رضي الله عنهما جعلَ حدِّ السباقِ بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع . ( والحفياءُ ) مكانٌ خارجَ المدينةِ من جهةِ سافلِتَها . ( وجعل أمدها ) الأمدُ : هو الغايةُ والنهايةُ ، ولذا قال أبو عبد الله الذي هو الإمام البخاريُّ رحمه الله في الباب الثاني ( أمداً غاية ) واستدل بقولِ الله سبحانه وتعالى في سورة الحديد فالأمد : هو المدةُ والقدرُ من الزمن . فالأمدُ هنا هو الغايةُ التي جُعل لها السبقُ .(1/231)
ويقول : ( جعل أمد ما ضمر من الخيل ثنية الوداع ) ؛ وثنيةُ الوداعِ : مدخلُ المدينةِ من جهة المسافرِ إلى تبوكٍ وليستْ كما هو مشهورٌ عند كثيرٍ من الناس أنها من جهة الداخلِ من مكة . والذي سبَّبَ هذا الإشكالَ هو ما اشتهرَ بين الناسِ أن النبي ( عندما قدمَ المدينةَ استقبلَه الناسُ بهذه الأنشودةِ وهي : طلع البدرُ علينا من ثنيات ِالوداعِ . وهذا الأثرُ الواردُ في هذا النشيدِ أثر ٌمنقَطِعٌ جداً ولا يصح ، فهذه الروايةُ غيرُ صحيحةٍ ، والثابتُ في استقبالِ أهلِ المدينة للنبي ( ما كان يقولُه بناتُ بني النجار : نحن بناتٌ من بني النجارِ يا حبَّذا محمداً من جارٍ . عليه الصلاة والسلام . وذلك عندما سكنَ في جوارِهم . فهذا الذي وردَ في استقبالِ النبي ( من أهل المدينة .
إذاً ( ثنيةُ الوداع ) هي جهةُ المسافرِ إلى تبوكٍ أو القادمِ من تبوك . وعندما قدِمَ النبي ( من غزوةِ تبوكٍ استقبَلَه الناسُ عند الثنيةِ التي هي ثنيةُ الوداع .
( والثنية ) هي : الطريقُ المنعطفُ عند الجبل . يعني : طريقٌ بين جبلينِ .
فالنبي ( سابق بين الخيلِ المضمَّرة في المسافةِ التي ذكرتُها .
واستنبطَ أهلُ العلم من ذلك جوازَ تضميرِ الخيلِ وإن كان تضميرُ الخيل فيه نوعٌ تعذيبٍ لها ولكن كما قلنا هذه الأمورُ التي يكونُ فيها مصلحةٌ كضربِ الحيوانِ أو تجويعِه لغرضٍ مشروعٍ وفائدةٍ لا حرجَ فيها ولا يُعتبَرُ هذا من التعذيبِ المنهي عنه .(1/232)
ثم يقول ( أجرى الخيل التي لم تُضَمَّرْ من الثنيةِ إلى مسجدِ بني زريق ) ؛ أي : من ثنية الوداعِ إلى مسجدِ بني زريق . يقول ابن عمر ( وكنت فيمن أجرى ) أي : في الخيلِ التي لم تضمر ، وذلك بدلالةِ اللفظ الثاني الذي ذكره في ( باب إضمار الخيل للسبق ) فإنه اقتصرَ فيه على الخيلِ التي لم تضمرْ وذكر فيه أن عبدَ الله بنَ عمرَ كان سابقَ بها , وأيضاً جاء في رواية أخرى أن عبدَ الله بن عمر وصلَ إلى جدار المسجد ، أي : مسجدِ بني زريق ، واجتاز به الخيلُ جدارَ المسجدِ .
والمقصودُ هنا : أن السبقَ بينَ الخيلِ جائزٌ ومشروع ٌسواءٌ كانت الخيلُ مضمرةً أم غيرَ مضمرة .
والإمامُ البخاري رحمه الله عندما بوَّبَ البابَ بقوله ( باب إضمارُ الخيلِ للسبق ) ثم ذكر حديثاً ليس فيه الخيلُ المضمرةُ ، فما هو السبب في ذلك ؟
الذي ذكره أهلُ العلم أن الإمامَ البخاري يريد بذلك أن الخيلَ لا يشتَرَطُ أن تضمرَ للسباقِ . يعني : أن تضميرَ الخيلِ ليس شرطاً في حصولِ السباقِ بينَها وإنما يجوزُ السباقُ بينَ المضمرة وغير المضمرة .
ثم ذكر هنا أحدُ الرواة أن المسافةَ بين الحفياءِ إلى ثنيةِ الوداع خمسةُ أميالٍ أو ستةٌ ، وفي بعض الألفاظِ ستةُ أميالٍ أو سبعةٍ . وهذا تقريبٌ للمسافة . فقوله ( خمسة أو ستة ، وستة أو سبعة ) يعطي أنها في المتوسِطِ ستة أميال . وأما بينَ ثنيةِ الوداعِ إلى مسجد بني زريق فهو ميلٌ واحد .
وقد استنبطَ أهلُ العلم من ذلك أهميةَ إنزالِ كلِّ شيءٍ منزِلَتَه ؛ فالخيلُ المضمرةُ جعلَ أمدَها بعيداً ، والخيلُ الغيرُ مضمرةٍ جعل أمَدَها قريباً ، وهذا من الفقهِ الذي لا بدَّ أن ينتبَه المسلم إليه .
وهنا مسألة : هل يجوزُ إعطاءِ رِهانٍ أو جُعلٍ على هذا السباق ؟(1/233)
والجواب ، نعم يجوز ذلك إذا كان من جهةٍ خارجية ؛ أن يعطى الفائزُ جائزةً وهذا لا حَرَجَ فيه . ثم الجمهورُ أيضاً على جوازِ أن يكونَ الجُعلُ من أحدِ الطرفين ، ولا يكونُ من الطرفِ الخاسرِ . يعني : لا يكونُ من جهةٍ إذا خسرت تُعطي الجهة الأخرى ، فهذا هو الرهانُ المحرَّم .
ولكن أن تقوم إحدى الجهتين بإعطاءِ الفائزِ ، فهذا لا حرجَ فيه إذا لم يكن هناك شرطٌ للأخذِ من الخاسرِ ، لا سيما إذا كان هناك محلِّلٌ ، أي : فرسٌ ثالثٌ ليس من الطرفين المتراهنين .
أيضاً ، قال النبي ( : " لا سَبْقَ إلا في خُفٍّ أو حافرٍ أو نَصْلٍ " . يعني : السباقُ يكون بين الإبلِ والخيلِ والسهامِ ( الرمي ) فهذا هو السبقُ المشروعُ باتفاق . وجمهورُ أهلِ العلمِ على جواز السباقِ في غيرِ هذه الأمورِ طالما أن السباقَ في أمرٍ مشروعٍ وليس فيه رهانٌ بين طرفينِ وإنما الذي يُعطي الجعلَ هو طرفٌ ثالثٌ . وقولُ النبي ( ( لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ) إنما يريدُ به السبقَ المشهورَ والذي يكونُ فيه الأجرُ الأكبرُ لأنه في سبيل الله وفي الجهاد في سبيل الله . وهذا كقوله ( : " لا رقيةَ إلا من عَيْنٍ أو حُمَةٍ " ، والرقيةُ مشروعةُ في غيرِ العين والحمة . وكذلك كما يقال : ( لا فتى إلا علي ولا سيفَ إلا ذو الفقار ، ونحو ذلك ) فليس المرادُ نفيَ مشروعيةِ السباقِ في غيرِ هذه الثلاثة ، والله سبحانه أعلم .
بقي أن نضيفَ هنا : أن الفرقَ بين ( السبْق والسبَق ) أن الأولَ هو مصدر سابق يسابِقُ سبقاً وأما الثاني فهو الأجرُ أو الجُعلُ والمكافأةُ التي تُعطى للمتسابقَيْن أو للمتسابقِين عموماً .
يقول البخاريُّ رحمه الله :
باب ناقةُ النبي ( . قال ابنُ عمرَ : أردفَ النبيُّ ( أسامةَ على القصواءِ . وقال المِسْوَرُ : قال النبي ( : " ما خلأتِ القصواءُ " .(1/234)
87 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ محمدٍ ، حدثنا معاويةُ ، حدثنا أبو إسحاقَ ، عن حُمَيد قال : سمعت أنساً ( يقول : كانت ناقةُ النبي ( يُقالُ لها العضباءَ .
88 ـ حدثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ ، حدثنا زهيرٌ ، عن حُميد ، عن أنسٍ ( قال : كان للنبي ( ناقةٌ تسمى العضباءَ لا تُسبَقُ ـ قال حميد : أو لا تكادُ تسبَقُ ـ فجاء أعرابيٌّ على قَعودٍ فسبَقَها ، فشقَّ ذلك على المسلمينَ حتى عرفَه فقال : " حقٌّ على الله أن لا يرتفِعَ شيءٌ من الدنيا إلا وَضَعَه "
طوَّله موسى ، عن حمادٍ ، عن ثابتٍ ، عن أنسٍ ، عن النبي ( .
هذا البابُ متَّصِلٌ بما قبلَه وبما بعدَه فيما يتعلقُ بدوابِّ الجهادِ وما يُستخدَمُ في الجهادِ من الدواب . فذكر الخيلَ والمسابقةَ بين الخيلِ وإعدادَها للجهادِ في سبيلِ الله وركَّزَ عليها وأكثرَ من الأبوابِ في الخيلِ لأنها عمدةُ الدوابِّ التي تُستخدَمُ للجهادِ وهي أصلُها .
ثم أخرجَ باباً لناقةِ النبي ( . وذكر الحافظُ ابنُ حَجَرَ رحمه الله أنه أفردَ الناقةَ إشارةً إلى أن النبي ( كانت عنده ناقةٌ واحدةٌ ، وهي نفسُها ( القصواءُ والعضباءُ ) ، وهذا قولٌ من الأقوالِ أنَّ ناقةَ النبي ( واحدةٌ وكان يُطلَقُ عليها اسمين معاً ، وبعضُهم أضاف ( الجدعاءَ ) كذلك .
والذي يظهرُ أن قولَ الإمام البخاري رحمه الله ( ناقة النبي ( ) أي : ما ذُكِرَ في ناقةِ النبي ( كجنس . يعني : ما كان يركبُه النبي ( من النوقِ . وظاهرُ الرواياتِ أن ( القصواءَ ) غيرُ ( العضباءِ ) وكلاهما اسمٌ يطلَقُ على الناقةِ . ومعنى ( القصواء ) : مقطوعةُ الأذن ، وكذلك ( العضباء ) . ولكن هذه ليستْ صفةً لناقةِ النبي ( وإنما هو اسمٌ لها وإن كانتْ مكتملةَ الخلقِ . والدليلُ على ذلك قولُه ( تسمى العضباء ) وفي اللفظِ الآخرِ ( يقال لها العضباء ) .(1/235)
والمقصودُ من التبويبِ هو جوازُ استعمالِ الناقةِ في الجهادِ في سبيلِ الله . وعلَّقَ الإمامُ البخاري روايتين في بدايةِ هذا الباب ، فيقول : ( قال ابنُ عمرَ : أردفَ النبيُّ ( أسامةَ على القصواءِ ) وهذا طرَفٌ من حديثٍ طويلٍ في الحج ذكره الإمامُ البخاري في مواضعَ من كتابِه ، وهذا الشاهدُ فيه قوله ( أردف النبي ( أسامةَ على القصواءِ ) ففيه رُكوبُ النبي ( هذه الناقةَ وهو في الحج ، وكذلك إردافُه أسامةَ ( خلفَه .
وفي التعليقِ الآخرِ قولُه ( وقال المسور : قال النبي ( : ما خلأتِ القصواءُ ) . وهذا طرفٌ من الحديثِ الطويلِ في غزوةِ الحديبية عندما قدمَ النبي ( فإذا بناقتِه عندما وصلَتْ قُبيلَ مكةَ يحصلُ لها شيءٌ من الامتناعِ عن التقدم . فقال الناسُ : خلأتِ القصواءُ . يعني : عَصَتْ وأبَتْ ، فقال النبي ( : " ما خلأتِ القصواءُ وما ذلك لها بخُلُقٍ " ، يعني : ليستْ من الدوابِ الممتنعةِ على أصحابِها ، وهي دائماً مذللةٌ للنبي ( ولكن حبَسَها حابسُ الفيلِ . لأن النبي ( قدِمَ مكةَ فاتحاً . فهذا جزءٌ مما حَصَلَ للفيلِ الذي كان مرافقاً لجيشِ أبرهةَ لهَدْمِ الكعبةِ ، فقال ( حَبَسها حابسُ الفيلِ ) ثم بعد ذلك تحرَّكتِ الناقةُ . فهذا كان في الجهادِ في سبيل الله ، وهو واضحٌ في تبويبِ الباب في كتابِ الجهاد .(1/236)
ثم ذكر البخاريُّ رحمه الله حديثَ أنس ( في المسمى الآخر في ناقةِ النبي ( فقال ( كانت ناقة النبي ( يقال لها العضباء ) ثم ذكر الحديث مطولاً نوعاً ما ، فقال : ( كان للنبي ( ناقة تسمى العضباء لا تُسبَقُ ) قال حميد : أو لا تكاد تسبق . وحميدٌ هو الراوي عن أنسٍ شكَّ في الرواية هل هي ( لا تسبق أو لا تكاد تسبق ) ، والمضمونُ أنها كانت سريعةً ودائماَ تتقدم في السباقِ على غيرها ( فجاء أعرابيٌّ على قَعودٍ فسبقها ) يعني : جاء أعرابي وله جملٌ صغيرُ السن وهو الذي يصلُح للركوبِ من الإبل ، فإذا وصل إلى السنِّ السادسةِ سمي جملاً ، والقعود : هو الصغيرُ من الإبل ، ولا يُطلَقُ ذلك على الناقةِ الأنثى وإنما يطلق عليها قَلوصٌ ، فسبقها هذا الأعرابيُّ ، فشقَّ ذلك على المسلمينَ من محبَّتِهم للنبي ( وكلِّ ما يتعلقُ به ، فعندما سبقَ هذا الأعرابي على قعودِه ناقةَ النبي ( عُرِفَ في وجه المسلمين الحزنُ وعرَفَ ذلك النبي ( فآنسهم النبي ( بقوله ( حق على الله أن لا يرتفعَ شيءٌ من الدنيا إلا وضعه ) وهذا من تزهيدِه ( في أمورِ الدنيا وأن ذلك أمرٌ من سُنَنِ الله تعالى في هذه الحياة ؛ أن لا يرتفعَ شيءٌ إلا وضَعَه بعدَ ذلك ولا يستمرُّ الرفعةُ له دائماً . والله أعلم .
قال البخاري رحمه الله تعالى :
باب الغزوُ على الحميرِ .
هكذا بوَّبَ الإمام البخاري رحمه الله هذا البابَ ولم يذكرْ فيه شيئاً ، ثم أردفه بباب :
باب بغلةُ النبي ( البيضاءُ . قاله أنسٌ . وقال أبو حُميد : أهدى ملكُ أيلةَ للنبي ( بغلةً بيضاءَ
89 ـ حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيانُ قال : حدثني أبو إسحاقَ قال : سمعت عمروَ بنَ الحارث قال : ما تَرَكَ النبي ( إلا بغلتَه البيضاءَ وسلاحَه ، وأرضاً تركها صدقةُ(1/237)
90 ـ حدثنا محمدُ بنُ المثنى ، حدثنا يحيى بنُ سعيد ، عن سفيانَ قال : حدثني أبو إسحاق عن البراءِ ( قال له رجلٌ : يا أبا عمارةَ وَلَّيْتُمْ يومَ حُنين ؟ قال : لا والله ما ولّى النبي ( ولكن ولى سُرعانُ الناسِ ، فلَقِيَهم هوازنُ بالنَّبْلِ ، والنبي ( على بغلتِه البيضاءَ وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ آخذ بلجامِها ، والنبي ( يقول : " أنا النبيُّ لا كذب ، أنا ابنُ عبدِ المطلب " .
هنا الإمامُ البخاري رحمه الله بوَّبَ باباً وقال فيه ( باب الغزوُ على الحمير ) ولم يذكُرْ فيه شيئاً . وفي بعض الترجماتِ في النسخ الأخرى فيها ( باب الغزوُ على الحميرِ وبغلةُ النبي ( البيضاء ) ففيها الجمعُ بين البابين . وبعضُ أهل العلمِ يرى أنه وَضَعَ هذه الترجمةَ وبيَّضَ لها على أنه قد يجعلُ فيها حديثاً إذا وقفَ على حديثٍ على شرطه .
وعلى كل حالٍ قد يكون مرادُ الإمام البخاري رحمه الله أنه ليس هناك نصٌّ على شرطِه في الغزوِ على الحميرِ وإن كان قد جاء في الحديث أن النبي ( كان يُصَلي على حمارٍ وهو متوجهٌ إلى خيبرَ ، وتوجُّهُ النبي ( إلى خيبرَ إنما كان للجهادِ في سبيل الله ، فمعناها أنه حصلَ الغزوُ على الحمارِ في هذه الغزوة . وليس شرطاً أن يكون النبي ( قد ركِبَ الحمارَ طوالَ سفرِه أو طوال الغزوةِ .
وعلى كل حالٍ ورودُ استخدامِ الحمار في الغزوِ يدلل على حصولِ ذلك ، وأن الحمارَ مما كان يُغزا عليه وإن كان لا يسهَمُ له كما يسهَم للفرسِ وكذلك لا يسهَم للناقةِ كما يسهم للفرسِ وكذلك لا يسهم للبغلِ كما يسهم للفرس . فهذه تستخدَمُ في الغزو ولكن لا يسهَمُ لها لأن دورَها ضعيفٌ في القتالِ ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/238)
أقول هنا : مضمونُ حديثِ أنس ( والشاهدُ فيه أن النبي ( كانت عندَه بغلةٌ بيضاء ، وهذا موجودٌ في أحاديَثَأخرى . وقد يكون قولُ الإمام البخاري رحمه الله في الباب السابقِ ( باب الغزو على الحمير ) وإردافُه بباب ( بغلة النبي ( ) إشارةٌ إلى حصولِ الغزوِ على الحميرِ طالما أنه حصل الغزوُ على البغالِ . ( والبغل ) إنما هو من إنزاءِ الحُمُرِ على الخيلِ ، فابنُ الحمارِ هو البغلُ إذا كانتْ أمُّه من الخيل . فالأصلُ في البغلِ هو الحمارُ ، فيكون الغزوُ على الحميرِ معروفاً ومشروعاً بناء على حصولِ الغزو على البغالِ .
والنبيُّ ( كانت له أكثرَ من بغلةٍ ؛ فقد أهدى له ملكُ أيلةَ بغلةً ، وكذا أهدى له المقوقسُ بغلةً وكذا أهدى له فروةُ بن نُفاثةَ بغلةً ، والظاهر أنها كلَّها كانت ذاتَ لونٍ أبيض .
ثم ذكر هنا حديثَ أبي حُميد معلقاً فقال ( أهدى ملك أيلة للنبي ( بغلة بيضاء ) وهذه البغلةُ غيرُ البغلة التي كان عليها في حُنينٍ ، لأن التي أهداها إليه ملكُ أيلةَ كان ذلك في غزوةِ تبوك ، وحنينٍ قبل تبوك .
ثم ذكر حديث عمروِ بنِ الحارث ( ما ترك النبي ( إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً تركها صدقة ) يذكرُ ميراثَ النبي ( الذي تركَه بعد وفاته ، وعدَّ فيه بغلتَه البيضاءَ ، فلعلها البغلةُ التي بقِيَتْ عنده من البغالِ التي كانت لديه ( ( وسلاحه وأرضاً تركها صدقة ) وهي التي كانت في فَدَك . والنبي ( بيَّنَ أن الأنبياءَ لا يورِّثون وأن ما تركوه فإنما هو صدقةٌ .(1/239)
ثم ذكر حديثَ البراءِ بنِ عازب رضي الله عنهما وفيه سؤالُ الرجل إياه ( يا أبا عمارة وليتم يوم حنين ؟ ) وقد تكلمنا على هذا الحديثِ وبينا أن النبي ( لم يفرَّ ، وإنما فرَّ من فر لهجومِ هوازن عليهم بالنبالِ ثم بعد ذلك ناداهم النبي ( فأقبلوا إليه وعطفوا عليه عطفةَ البقرِ إلى أولادها حينما قال : يا عباسُ نادِ بالناسِ ، يا أصحابَ الشجرة ، يا أصحابَ السمرة ، يا أصحابَ سورة البقرة . فعطفوا عليه وحميَ الوطيسُ ، والنبي ( قال عندما رجعَ الصحابةُ إليه : " الآن حمي الوطيسُ " ، وانقلبتِ المعركةُ مرةً أخرى لصالحِ المسلمين ونصرَهم الله ( والحمد لله .
والمرادُ بهذا الباب جوازُ اتخاذِ البغالِ في الجهادِ في سبيل الله . وقد وردَ حديثٌ يوهمُ أن اتخاذَ البغالِ فيه ما يمنعُه ، وهو قولُ النبي ( عندما سُئِلَ عن إنزاءِ الحُمُرِ على الخيل ، أي : جعلِ الحمارِ ينْزُو على فرسٍ فتحمِلُ من ذلك ويكون الناتجُ هو البغل ، فقال النبي ( : " إنما يفعلُ ذلك الذين لا يعلمون " ، فظنَّ البعضُ أن ذلك حرامٌ , وذهب أهلُ العلم إلى أن هذا على سبيلِ منعِ الناس من بابِ المصلحة وليس من باب التحريمِ من إنزاءِ الحمر على الخيلِ حِرصاً على تكثيرِ الخيل لأنها الركوبةُ القويةُ والمفيدةُ في الجهاد في سبيل الله بخلافِ البغل ، وليس ذلك على سبيل التحريمِ وإنما على سبيل الإرشادِ والتوجيه . والله سبحانه وتعالى أعلم .
ومرادُهُ بقوله ( إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ) أي : الذين لا يعلمون الثوابَ العظيمَ في اتخاذِ الخيل . والله تعالى أعلم .
بارك الله فيكم ، ونكتفي بهذا القدر ، ونفتح الآن باب الأسئلة . نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم .
ـ أسئلة :
ـ الأخ يسأل فيقول : ما هي مواصفاتُ الفرسِ المحلِّلِ ؟(1/240)
ليس هناك مواصفاتٌ وإنما يدخلُ مع الفرسَيْنِ المتسابقينِ وليس المرادُ بالمحلِّلِ الرجلَ الذي لعنَه رسولُ الله ( حيث لعن المحلِّلَ والمحلَّلَ له .
ـ هل يجوز الرهانُ بين الرماة .
الجواب ، إذا كان الرهانُ بمعنى إعطاءِ سبَق للمتسابقَين أو للمتسابقِين فليس هناك مانعٌ من ذلك طالما أن المبلغَ المدفوعَ أو الجائزةَ الممنوحةَ من طرفٍ آخرَ خارجَ المتسابقينِ ، أو من طرفٍ من الطرفينِ ، وليس على سبيلِ الأخذ من الخاسرِ .
ـ ذكرتَ أن السباقَ جائزٌ بين الخيلِ المضمرة والخيل غير المضمرة ، فهل معناها المسابقة بين الصنفينِ في آنٍ واحدٍ أم بينَ كلِّ صنفٍ وما ماثَلَه ؟
والجواب ؛ بين كل صنفٍ وما ماثلَه ، وقد فصَّلنا في ذلك وذكرنا أن أمدَ المسابقةِ بين الخيل المضمرةِ يكون أطولَ من أمَدِ المسابقةِ بين الخيلِ غيرِ المضمرةِ ، وأن هذا يُؤْخَذُ منه من الفقهِ إنزالُ كل شيءٍ منزلَتَه من الناس ومن الدوابِ ومن غير ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم
ـ مع الاحترامِ الشديدِ ، ما فائدةُ الحديثِ عن الخيلِ والبغالِ والحمير في هذا الوقت الذي تطورتْ فيه الأسلحةُ وأصبحت منوعةً أنواعاً عجيبةً ، فهل من توضيحٍ لمثل ذلك ؟(1/241)
أننا أولاً في دورةٍ علميةٍ تتعلق بكتابٍ معيَّنٍ ، وهذه الأبوابُ التي تكلَّمْنا عنها ضمنَ هذا الكتابِ ، فنحن نمرُّ عليها ونتكلمُ عما فيها من فقهٍ وفوائدَ بغضِّ النظر عن حالِ المسلمين الآن ، فإننا ندرسُ علوماً شرعيةً تتعلق بسيرةِ النبي ( وتاريخِ جهادِه وما كان يستخدمُ في هذا الجهاد , فهذا كدراسةِ أيِّ تاريخ يدرسُه الإنسانُ حتى وإن لم يكن فيه فائدةٌ شرعيةٌ له ، فكيف ونحن نستخرجُ الفوائدَ العظيمةَ من هذه الأحاديث . ونحن لا نقتصرُ على ذُكِرَ في الحديثِ فقط وإنما نتكلم عما يُستفادُ منه ، فمما يستفادُ من الحديث ما يتعلقُ بالخيل والبغال والحمير بحدِّ ذاتها ، ومن ذلك ما يتعلقُ بحياةِ المسلمِ وجهادِه بصفةٍ عامةٍ . فمثلاً ؛ نحن تكلمنا عن السباقِ ، فهناك سباقٌ يمكن أن يكون بين الرماةِ بالمدافعِ والرشاشات ، وبينَ الدبابات وأيِّها أسرعُ في أداء المهمةِ التي تُناط بها . فالسباقُ أساساً قضيةٌ تتعلقُ بالتدريبِ على الجهادِ ، فنحن تكلمنا عن التدريبِ على الجهاد من خلال كلامِنا عن السباقِ بين الخيل . ثم هذه المركوباتُ وإن كانت ليستْ أساسيةً ، ولكنها لها تأثيرٌ قويٌّ في الجهادِ في سبيل الله حتى إلى وقتِنا الحالي ، وقد ذكرنا ذلك في بداية الكلامِ في الدورة ، فقلنا : إن الخيلَ سلاحٌ موجودٌ في كلِّ جيوشِ العالم تقريباً الآن ، ويسمى سلاحَ الخيالة . وهذا السلاحُ مهمٌّ جداً وله تأثيرُه ، فالدبابةُ لا تستطيعُ أن تصعَدَ جبلاً ، والذي يستطيعُ ذلك الخيلُ والبغال والحمير . ومن ذهبَ إلى أفغانستانَ أيامَ الجهاد رأى أن الدبابةَ لا تفيدُه شيئاً حين يصعدُ الجبلَ ، وإنما الذي هو بأمسِّ الحاجة إليه هو الحمارُ أو البغل . والخيلُ لها دورٌ عظيمٌ جداً في مناطقَ وَعِرَةٍ لا يمكن أن يصلَ إليها المدرعةُ أو الدبابةُ ولا غير ذلك . إذاً ما زالَ هذا السلاحُ مستخدَمٌ ومحتاجٌ إليه إلى وقتنا الحالي .(1/242)
أيضاً في كثيرٍ من مناطقِ الرمال التي يُحتاجُ فيها إلى الإبلِ لا يُغني عن الإبل شيءٌ من الأسلحةِ الحديثة . كذلك استخدمَ كثيرٌ من المجاهدين الحميرَ والإبلَ المفخخةَ ، حتى إن الإبلَ أحدثتْ إرباكاً شديداً بالنسبة للقوات الأمريكية في غزوها لأفغانستانَ وكان لها دورٌ كبيرٌ في مجابهتهم أيضاً .
ثم هناك نقطةٌ أخيرة وهي : ما الذي يدرينا أن تتغيرَ الأمورُ بعد هذه المؤشراتِ لحربٍ عالميةٍ أن تزولَ هذه الأسلحةُ ونكونَ في أمسِّ الحاجةِ لمعرفة شيءٍ من الأحكامِ التي تتعلقُ بما مَنَحَنا الله ( من دوابٍ نستخدمُها للجهادِ في سبيل الله .
إذاً ، هذه المعلوماتُ نحن نعرفُها لعلَّنا نحتاجُ إليها أيضاً في وقتٍ يكونُ فيه شحٌّ بهذه المعلوماتِ وحاجةٌ ماسةٌ إليها .
ثم أمرٌ أخيرٌ ؛ نحن لا نعرف شيئاً عن هذه الأسلحةِ البيلوجية وهذه التقنياتُ العالية ، فليس درسُنا من متخصصٍ بهذه العلومِ العسكرية وإنما متخصصٌ بالعلوم الشرعية ، والعلومُ الشرعيةُ فيها هذه المعلوماتُ عن الأسلحةِ القديمة والمعداتِ القديمة ، فنحن نشرحُ بما لدينا من علم ، والذي عنده علمٌ بهذه الأسلحةِ المتطورةِ ، عليه أن يفتحَ مجالاً لتعليمِ إخوانِه في غرفةٍ أخرى أو في دورةٍ أخرى تتعلقُ بالأسلحةِ الحديثة ، وليس هذا تخصصَنا ، والله تعالى أعلم .
… … … … …
المحاضرة الخامسة عشرة
( جهادُ النساءِ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد ،
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ? وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . أما بعد(1/243)
أخبرني أبو عبد الله التويجري عن العنقري عن ابن عتيق عن حسين الأنصاري عن محمد الحازمي عن محمد عابد السندي عن صالح الفلاني عن ابن سنة عن أحمد العجل عن ابن مكرم الطبري عن جده محب الدين الطبري عن البرهان الدمشقي عن عبد الرحمن عن ابن شاذبخت الفارسي عن ابن شاهان الختلاني عن الفربري عن البخاري رحمه الله قال :
باب جهادُ النساء .
91 ـ حدثنا محمدُ بنُ كثيرٍ ، أخبرنا سفيانُ ، عن معاويةَ بنِ إسحاقَ عن عائشةَ بنتِ طلحةَ ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت : استأذنتُ النبيَّ ( في الجهاد ، فقال : " جهادُكُنَّ الحجُّ " .
وقال عبدُ الله بنُ الوليدِ : حدثنا سفيانُ ، عن معاوية بهذا .
92 ، حدثنا قبيصةُ ، حدثنا سفيانُ ، عن معاويةَ بهذا . وعن حبيبِ بنِ أبي عمرةَ ، عن عائشة بنتِ طلحةَ ، عن عائشةَ أم المؤمنين عن النبي ( سأله نساؤُه عن الجهادِ فقال : " نِعْمَ الجهادُ الحجُّ " .
باب غزوُ المرأةِ في البحرِ .
93 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ محمد ، حدثنا معاويةُ بنُ عمروٍ ، حدثنا أبو إسحاقَ هو الفزاري ، عن عبدِ الله بنِ عبدِ الرحمن الأنصاري قال : سمعت أنساً ( يقول : دخل رسولُ الله ( على ابنةِ مِلْحانٍ فاتَّكأَ عندها ، ثم ضحكَ ، فقالت : لم تضحكُ يا رسولَ الله ؟ فقال : " ناسٌ من أمتي يركبون البحرَ الأخضرَ في سبيلِ الله ، مَثَلُهُم مثلُ الملوكِ على الأسِرَّةِ " ، فقالت : يا رسولَ الله ادعُ الله أن يجعلَني منهم ، فقال : " اللهم اجعلها منهم " . ثم عاد فضحكَ ، فقالت له مثلَ ـ أو مم ـ ذلكَ ، فقال لها مثلَ ذلك ، فقالت : ادعُ الله أن يجعلَني منهم ، قال : " أنتِ من الأوَّلِينَ ولستِ من الآخرين " . قال : قال أنسٌ : فتزوجَتْ عبادةَ بنَ الصامتِ فركِبَتِ البحرَ مع بنتِ قَرظةَ ، فلما قفَلَتْ ركِبتْ دابتَها فوقَصَتْ بها ، فسقطَت عنها فماتت .(1/244)
هذا الباب وما بعدَه من أبوابٍ سوف نمرُّ عليها في لقائِنا الليلةَ يتعلقُ بجهادِ النساء . والجهادُ بالنسبة للمرأةِ يُنظَرُ فيه إلى نوعِ الجهادِ أولاً ؛ فكما قلنا إن الجهادَ منه ما هو للطلب وهو الغزوُ في سبيل الله ، ومنه ما يكون لدفعِ العدوِّ وردِّ الاعتداءِ الذي يكون على بلادِ الإسلام ، فيختلفُ حكمُ الجهادِ بالنسبةِ للمرأةِ باختلافِ نوعِ الجهاد .
والأصلُ هو جهادُ الطلبِ ، لأن جهادَ الدفعِ عارضٌ قد يحصُلُ أن يأتيَ العدوُّ إلى بلادِ الإسلام فيدْهَمَ البلادَ فيكون هناك جهادٌ للدفعِ ، ولكنَّ جهادَ الطلبِ لا ينقطعُ أبداً ، وكما قلنا لا بدَّ أن يكونَ هناك ولو في السنةِ مرةً جهادٌ في طلبِ العدو ، ولكن لا حولَ ولا قوة إلا بالله ، في هذا الزمانِ الذي نعيشُه حيث انقلبَ كلُّ شيءٍ ، فأصبح جهادُ الطلبِ لا ذكرَ له ولا تعرُّضَ له كأنما حُذِفَ من قاموسِ الدين ، وأصبحَ جهادُ الدفعِ هو الذي يُحتاجُ إليه في كل لحظةٍ حيثُ أن بلادَ الإسلامِ الآن كثيرٌ منها تحت نير الاستعمارِ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .(1/245)
الإمام البخاري رحمه الله بدأ البابَ بحكمِ الجهادِ بصفةٍ عامةٍ للنساء ، فقال ( باب جهاد النساء ) يعني : ما ورد في حكم جهادِ النساء ، هل هو مشروعٌ أم غيرُ مشروعٍ ؟ هل هو واجبٌ أم غير واجب ؟ وذكر فيه حديثَ عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها حيث قالت : ( استأذنت النبي ( في الجهاد ) فأولاً ؛ هذا يُدللُ على حرصِ أمهاتِ المؤمنين على كل خيرٍ وحرصِ المرأةِ المسلمة على أن تشاركَ في كلِّ خيرٍ حتى وإن كان في أمرٍ يصعُبُ على النفسِ ويشُقُّ ؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول : ، فالقتالُ لا شكَّ أنه مكروهٌ للنفس وفيه بذلٌ لنفسِ الإنسان وبذلٌ لمالِه ووقتِه ، ويحصل فيه الإيذاءُ الشديدُ ، فهو ثقيلٌ على النفسِ وهو كما قلنا بيع للدنيا بالآخرة ، فالذي يجاهدُ في سبيل الله إنما يبيعُ نفسَه لله ( ، ويزهدُ في هذه الدنيا الفانيةِ .
فهذه امرأةٌ ولكنها ـ سبحان الله ـ لإيمانِها استأذنتْ رسولَ الله ( أن تلحقَ بركبِ المجاهدينَ في سبيل الله . فتقول ( استأذنت النبي ( في الجهاد ، قال : جهادكن الحج ) .
هذا الذي قاله النبي ( يُعتَبَرُ عند أهلِ اللغة أسلوبَ حصرٍ ؛ فإن التعبيرَ بالمبتدأِ والخبرِ أسلوبٌ يسمى أسلوبَ حصرٍ ، وهذا يبينُ أن المرأةَ ليس عليها جهادٌ .
وفي جهادِ الطلبِ الذي استأذنتْ فيه عائشةُ النبي ( يمكن أن لا يؤذنَ للمرأةِ لأن النبي ( لم يستجِبْ لها ولم يأذنْ لها ، وإنما قال لها ( جهادُكن الحج ) . فالأمرُ فيه راجعٌ لوليِّ أمرِها وزوجِها ؛ إن شاءَ أذِنَ لها في جهادِ الطلب وإن شاء لم يأذنْ ، فجهادُ الطلب إن أرادتْ أن تشاركَ فيه المرأة فإنه لا بدَّ من إذنِ وليِّها فيه ولا بد من شروطٍ أخرى تتعلقُ بما يجب على المرأةِ من سِتْرٍ وصيانةٍ وعدمِ اختلاطٍ بالرجالِ ، فجهادُها مع الرجالِ سيكون محصوراً في أمورٍ معينةٍ كما يأتي في حديثنا إن شاء الله تعالى .(1/246)
والشاهد في الحديث أن النبي ( حصرَ الجهادَ بالنسبة للمرأةِ في الحج ، ولكن السؤالَ كما قلنا في جهادِ الطلب ، لأن الاستئذانَ وهذه الحالة التي ذكرت عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت النبي ( إنما كانت حالةَ جهادِ طلبٍ وغزوٍ وليستْ حالة جهادِ دفعٍ . والحجُّ جهادُ كلِّ ضعيفٍ كالمرأةِ والفقيرِ وكبيرِ السن ونحوِ ذلك لما يكون فيه من مشقةٍ وقد تتعرضُ النفس بسبب الازدحامِ الشديدِ إلى الإزهاقِ وهذا نوعٌ من الجهاد ، وهذا هو مرادُ النبي ( بقوله ( جهادكن الحج ) .
وفي روايةٍ أخرى لهذا الحديثِ قال لها رسول الله ( : " لَكُنَّ جهادٌ لا قتالَ فيه ؛ حجٌّ مبرورٌ " . وفي الطريقِ الآخر لحديثِ عائشة رضي الله عنها الذي ذكرناه هنا أيضاً أنها قالت : ( سأله نساؤه عن الجهاد ) فكأنها كَنَّتْ عن نفسِها أو تكلمتْ نيابةً عن بقيةِ نساءِ النبي ( فكأنهن كلَّهن سألْنَه عن الجهادِ فقال : " نعمَ الجهادُ الحجُ " . أي : دَلَّهُنَّ على أفضلِ الجهادِ بالنسبةِ لهنَّ وهو الحج .
وهذا الحديثُ ذكرَ أهلُ العلمِ فيه أنه لا يتعارضُ مع جوازِ أن تتطوعَ المرأةُ بالجهادِ ، وقالوا إنما لم يكنِ الجهادُ عليهن واجباً لأن فيه مغايرةً للمطلوبِ منهن من السترِ ومجانبةِ الرجالِ ، ولذا كان الحجُّ لهن أفضلَ من الجهادِ . والله سبحانه وتعالى أعلم .
في الباب التالي لهذا البابِ ، وهو باب جهادِ المرأة ، يبينُ البخاري رحمه الله أن البابَ الذي ذكره لا يعني أن المرأة لا تجاهدُ ، فبدأ ببابِ يتحدثُ عن غزوِ المرأة في البحرِ ، وذكر فيه حديثَ أنس ( في قصة النبي عندما قَالَ عندَ خالتِه أمِّ حرامٍ ، وكيف أنها عندما سألت النبي ( أن يدعو الله أن يجعلَها ممن يغزو في البحر ، وقد تكلمنا عن هذا الحديثِ وذكرنا ما فيه من فضلِ الشهادةِ لها ولمن قُتِلَ في هذه الغزوةِ المباركة .(1/247)
والشاهدُ فيه أنها خرجتْ للغزوِ مع أنها امرأةٌ ، ولكن ليس في هذا الحديثِ ما يدلل على أنها خالطتِ الرجالَ أو أنها باشرتْ قتالاً ، ولكن خروجُها معناه أنها شاركتْ في هذه الغزوةِ بأيِّ عملٍ كان . وكما قلنا : إن النبي ( قال : " من جَهَّزَ غازياً فقد غزا ، ومن خَلَفَ غازياً في أهلِه فقد غزا " ، وقلنا : إن الدالَّ على الخيرِ كفاعله . ولا شكَّ أنها ساهمتْ في هذه الغزوةِ بأي جهدٍ كان ، وهذا هو دورُ المرأة في الجهادِ ، خاصةً جهادَ الطلبِ .
وفي هذا الحديث بعضُ فوائد زائدة على الحديثِ السابق الذي تكلمنا عليه في مكانه ، وفيه أنها خرجت مع بنت قرضة ، وهي امرأةُ معاويةَ ( وكان ذلك في عهدِه . وهذا دليلٌ على أن اللاتي خرجن في هذا الغزوةِ عدةُ نساءٍ وليست أم حرامٍ فقط ، وهذا كان بعدَ عهدِ النبي ( ، وفي ذلك _ بعد ما ذكر من إقرارِ النبي ( لها على ذلك _ دليلٌ على أن المرأةَ يمكن أن تخرجَ للغزوِ ولكن كما قلنا بحيثُ لا يتعارضُ ذلك مع أمورِ الشريعةِ التي تُقَيِّدُ أعمالَ المرأةِ بالحجابِ والسترِ والصيانةِ وعدمِ الاختلاطِ بالرجال .
ثم ذَكَرَ هنا أنها ركِبتْ دابتَها فوقَصَت بها ، وقد ذكرنا أن دابَّتَها وقصَتْها وقتلتْها ولم تُقتَلْ في الحربِ والغزو ، ولكنها كُتِبَ لها أجرُ الشهداء لأنها خرجتْ للغزو ، وقلنا : إن كلَّ من خرجَ للغزوِ فقُتِلَ أو ماتَ فهو شهيدٌ بإذن الله ، وقد تكلمنا على ذلك في أبوابٍ مفصَّلَةٍ فيما سبق ، والله أعلم .
باب حملُ الرجلِ امرأتَه في الغزوِ دونَ بعضِ نسائه .(1/248)
94 ـ حدثنا حجاجُ بنُ منهالَ ، حدثنا عبدُ الله بنُ عمرَ النُّمَيريُّ ، حدثنا يونسُ قال : سمعت الزهريُّ قال : سمعتُ عروةَ بنَ الزبيرِ وسعيدَ بنَ المسيبِ وعلقمةَ بنَ وقاصٍ وعبيدَ الله بنَ عبدِ الله عن حديثِ عائشةَ ، كلٌّ حدثني طائفةٌ من الحديثِ قالت : " كان النبيُّ ( إذا أرادَ أن يخرجَ أقرعَ بين نسائِه فأيَّتُهن يخرجُ سهمُها خرجَ بها النبي ( . فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجتُ مع النبي ( قبلَ أن ينزِلَ الحجابُ " .
هذا البابُ أيضاً ؛ من الأبوابِ التي تُدلل على خروجِ المرأةِ في الغزو ، وفيه فعلُ النبي ( وهو حملُ النساءِ إلى الغزو ، وليس حملُ النساء إلى الغزوِ في سبيل الله بشرطٍ أن تشاركَ المرأةُ في هذا الغزوِ . وقد كان العربُ يحملون نساءَهم أحياناً في غزوِهم وقتالِهم لكي يكونَ وجودُ النساءِ حافزاً لهم على الاستماتَةِ في القتالِ حتى لا تُسبى نساؤهم ويؤخَذْنَ من قِبَلِ عدوِّهم .
والنبي ( كان يحملُ نساءَه معه في الغزو ، فربُّما حملَ واحدةَ وربما حملَ أكثرَ من ذلك ، والذي في هذا الحديثِ أن النبي ( أقرعَ بين نسائه فخرج سهمُ عائشةَ . وفيه دليلٌ على الأخذِ بالقُرعَةِ فيما يكون فيه اشتراكٌ ؛ فالنبي ( سوف يخرجُ إلى الجهادِ وسوف يحتاجُ لخدمةٍ من بعضِ نسائِه ويحتاج إلى أُنْسٍ ، فهو يحملُ بعضَ نسائه لأجلِ ذلك ، وليس السببُ في حملِ المرأة معه ( أن تقومَ بالجهادِ ومقاتلةِ الكفار . فلما أقرعَ النبي ( بين نسائه خرجتْ عائشةُ رضي الله عنها ، وهذه الغزوةُ هي التي حصلَ فيها قصةُ الإفك التي وقعَ فيها المنافقون في عائشةَ رضي الله عنها وزلَّتْ قدمُ بعضِ أصحابِ النبي ( في هذا الأمر ، ثم تابَ الله ( عليهم وأقيم عليهم الحدُّ .(1/249)
تقول ( فخرجتُ مع النبي ( قبل أن يُفرَضَ الحجابُ ) وهذه مسألةٌ أخرى وهي أن هذه الغزوة كانت قبلَ فرضِ الحجابِ ، فليس هناك مانعٌ من خروجِ المرأة للجهادِ طالما أنه لم يفرضْ عليها الحجابُ ، ولكن النصوصَ الأخرى تدلل على خروجِ المرأة أيضاً حتى وإن كان بعدَ الحجابِ وذلك بشرطِ أن تراعيَ حجابَها وأن لا تختلطَ بالرجال ، وأن يقتصرَ عملُها في الغزوِ على ما لا يتعارضُ مع أنوثَتِها وما ألزَمَها به الشرعُ كما سيأتي بيانُه في الأبوابِ القادمة إن شاء الله تعالى .
ـ تنبيه : الأخُ يقول : في النسخةِ عنده ( بعدما أُنزِلَ الحجابُ ) وأقول : أنا استشكلتُ الآن هذا اللفظَ الذي في النسخة التي عندي لأنَّ قصةَ الإفكِ كانتْ بعدَ الحجابِ ، فيبدو أن النسخةَ التي عندي فيها هذا الإشكالُ فيُحتاجُ إلى النظرِ فيها لتحقيقِ الأمر .
( اختلفتْ ألفاظُ النسخِ في ذلك ، والصحيحُ النسخةُ التي فيها : بعدما أُنزِلَ الحجابُ ، والله أعلم , قاله أبو عمر القلموني )
وإلا فحديثُ عائشةَ في غزوةِ الإفكِ صريحٌ في أنه بعدَ الحجابِ حيث جاء صفوانُ بنُ المعطِّلِ السهمي فمرَّ عليها وقد نامتْ وحدها في الصحراءِ بعدما انصرفَ النبي ( ومن معه ، فتقولُ ( فاستيقظتُ باسترجاعه وهو يقول : ظعينةُ رسولِ الله ( ) تقول ( فخمَّرْتُ وجهي بجلبابي وكان يعرفُني قبلَ الحجابِ ) فمعناه : أن هذا الحديثَ بعدَ نزولِ الحجابِ وليس قبلَ ذلك .(1/250)
وعلى كل حالٍ فإنني كما ذكرتُ ؛ خروجُ المرأة للجهادِ لا بدَّ أن يكونَ غيرَ متعارضٍ مع حجابها ، والذي يدللُ على ذلك أن عائشةَ رضي الله عنها أثناءَ الغزوة كانت في هَودَجِها ، وكان الأمرُ في غايةِ الصيانة ، حتى إن الذين يحملون الهودجَ لم يشعروا بعدم وجودِها فيه ، وهذا دليلٌ على أنها غالبَ الوقت كانت في هودجِها وغيرَ مختلِطَةٍ برجالٍ والحمد لله ، ثم إن صفوانَ عندما جاء بعد انصراف النبي ( وأصحابِه خمَّرَتْ وجهَها مباشرةً بجلبابِها ، ثم بقيةُ القصة تُدللُ على كيفيةِ الصيانةِ التامة فإنه كان إذا أرادتْ أن تركبَ أرخى زمامَ الجمل ثم انصرفَ بعيداً حتى تركبَ ثم يأتي فيقودُ الجملَ ، وهكذا حتى وصلوا إلى النبي ( .
باب غزوُ النساءِ وقتالُهن مع الرجالِ .
95 ـ حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبدُ الوارث ، حدثنا عبدُ العزيز ، عن أنسٍ ( قال : لما كان يومُ أُحُدٍ انهزمَ الناسُ عن النبي ( . قال : ولقد رأيتُ عائشةَ بنتَ أبي بكر وأمَّ سُلَيم وإنهما لمشمِّرَتان أرى خَدَمَ سوقِهِنَّ تَنقِزان القِرَب ـ وقال غيرُه : تنقلان القرب ـ على متونِهما ثم تُفرغانه في أفواهِ القومِ ، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم .
باب حملُ النساءِ القِرَبَ إلى الناسِ في الغزوِ .
96 ـ حدثنا عبدانُ ، أخبرنا يونسُ ، عن ابنِ شهابٍ ، قال ثعلبةُ بنُ أبي مالكٍ : إن عمرَ بنَ الخطاب ( قَسَّمَ مروطاً بين نساءٍ من نساءِ المدينة ، فبقي مرطٌ جَيِّدٌ ، فقال له بعضُ من عندَه : يا أميرَ المؤمنين أعطِ هذا ابنةَ رسولِ الله ( التي عندَك ـ يريدون أمَّ كلثومٍ بنتَ عليٍّ ـ فقال عمرُ : أمُّ سليطٍ أحقُّ , وأمُّ سليط من نساءِ الأنصار ممن بايعَ رسولَ الله ( . قال عمرُ : فإنها كانت تزفرُ لنا القربَ يومَ أحد .
قال أبو عبد الله : تزفرُ تخيطُ .(1/251)
هذا البابُ والذي بعدَه يبينُ مثالاً من أمثلةِ جهادِ المرأةِ التي كانت في عهدِ النبي ( ، وهي وإن كانت قبلَ الحجابِ لأن غزوةَ أحدٍ كانت قبلَ الحجابِ ، إلا أنها يمكنُ أن تستمرَّ مع الحجابِ ؛ أولاً ، عند الحاجة ، وثانياً إذا لم تكن تتعارضُ مع النصوص الشرعيةِ القاضية بحجابِ المرأة وسِترِها وصيانتها .
هنا يقول الإمام البخاري ( باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال ) وهو في عنوانِ الباب لا يقرِّرُ أن المرأةَ تقاتل مع الرجالِ وإنما يريد بهذا الباب ، هل القتالُ مشروعٌ بالنسبة للنساءِ مع الرجال ؟ والظاهرُ من هذا النص الذي ساقَه أن المرأةَ أساساً لا تقاتِلُ مع الرجالِ ، وذلك لأن الحالَ في غزوةِ أحد كان حالاً قد استعَرَّ فيها القتالُ وحاجة القتال ضروريةٌ وماسة ، فإذا كانت المرأةُ تقاتلُ مع الرجال ، فإنها لأَنْ تقاتل في هذا الغزوة وفي هذه الحالِ التي حصلَ فيها انهزامٌ لبعض المسلمين كان قتالُها أولى ، ولكن اقتَصَرَ عملُ النساء هنا على أمورٍ غيرِ القتال في سبيل الله . وهذا لا يعني أنها يحرُمُ عليها أن تقاتلَ وإنما يمكنُ أن تقاتلَ للحاجةِ الماسة كأن تدفعَ عن نفسها إذا أرادَ أحدٌ أن يأخذَها من المشركين ، وهذا واردٌ في بعض الروايات ولا حرجَ في ذلك بل هذا متعيَّنٌ عليها إن استطاعت .(1/252)
ثم ذكر الحديثَ عن أنس ( فيقول ( لما كان يومُ أحد انهزم الناس عن النبي ( ) ومعلومٌ ما أصابَ رسولَ الله ( حيث كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهُه الشريف عليه الصلاة والسلام . ثم ذكر أنس ( أنه رأى عائشةَ زوجَ النبي ( ومعها أمُّ سُليم وكلتاهما مشمرِّتان ، وهذا لأنه كان قبلَ الحجاب ، كما أن العملَ الذي تقومان به كان يحتاجُ إلى هذا التشميرِ وهو نقلُ القِرَبِ وبها الماء . ( والقِربة ) وعاءٌ من جلدٍ يوضعُ فيه الماء فيُسقى منه . فكانتا رضي الله عنهما تنقلان القرب كما في هذه الروايةِ حيث قال ( وقال غيره : تنقلان القرب ) والراوي هنا يقول ( تنقزان القرب ) ، والنقز : هو القفزُ . كأن حركةَ أم المؤمنين عائشة وأم سليم كانت سريعةً ، وكانتا تجريان وتنقزانِ وبناء على ذلك أيضاً تنقزُ القربُ على ظهورها . يقول ( تنقلان القرب على متونهما ثم يفرغانه في أفواه القوم ) ، وهذا ليس فيه مماسةٌ لأحدٍ من الرجال وإنما كنَّ يسقين الجرحى الذي جُرِحوا في سبيل الله وسقطوا في المعركةِ الذين هم في أمسِّ الحاجة إلى هذه القطراتِ من الماء . وهذه الخدمةُ الأولى أن يقومَ بها النساءُ لأن الرجالَ في مشغلةٍ بمجاهدةِ العدوِّ وقتالِه ، فإذا انشغلَ الرجالُ بسقي الناس ضاعتْ بعضُ القوة التي المسلمون في حاجة إليها . فهذا العمل أولى به النساء ، وهذا الذي كان يقومُ به نساءُ الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا هو البابُ الثاني الذي ذكر فيه الإمامُ البخاري حديثَ عمر ( عندما قال له بعضُ من عنده ، وهو يقسمُ المروطَ ، وهو جمع مرط . ( والمرط ) نوع من اللباس تلبَسُه المرأةُ . فيقول : ( كان يقسم بعض المروطَ بين نساء من نساء المدينة ) كهبةٍ من وليِّ الأمرِ من الغنائمِ أو من بيتِ مالِ المسلمين . فقال له بعضُ من عندَه ، وهم يعلمون حالَه ، لأن عمرَ ( يُضرَبُ به المثلُ في العدلِ وإيثارِ الآخرين على النفس والزهدِ في هذه الدنيا والترفعِ عن أموالِ(1/253)
المسلمين ، بل عما يستحقُّه هو من بيت مالِ المسلمين . فقال له بعضُ من عنده ( يا أميرَ المؤمنين أعطِ هذا ابنةَ رسولِ الله ( التي عندَك ) وهذا شفقةٌ منهم لأنهم يعلمون أن عمرَ كان يُشَدِّدُ على أهلِه كما يشددُ على نفسه . ويقصدُ بابنةِ رسول الله ( أمَّ كلثوم بنتَ علي ، فإن عمرَ ( تزوج من أمِّ كلثوم بنتِ علي بن أبي طالب ، وكانت بنتاً صغيرةً وهو كان شيخاً كبيراً . وهذا فيه دليلٌ على عدمِ النظرِ إلى فارقِ السن في الزواج الذي ينادي به كثيرٌ من الناس ويعارضونَ النصوصَ الشرعية الواردةَ في زواجِ الرجل من المرأةِ الصغيرة طالما أنه قادرٌ على إعطائِها حقوقَها كاملةً ، فهذا عمرُ ( يتزوج بنتاً في سنِّ حفيدتِه ، فإن أمَّ كلثوم كانت في الثامنةِ من عمرِها تقريباً ، وعمر ( كان قد قاربَ الخمسين أو نحو ذلك . فقال عمر ( : ( أم سليط أحق ) يعني : فضَّلَ امرأةً أجنبيةً عنه على امرأتِه التي تحتَه وهي بنتُ رسولِ الله ( لأنها ابنةُ فاطمة ، والنبي ( جدُّها ، وبنتُ البنت تعتَبَرُ بنتاً . فلقرابتِها من رسولِ الله ( ولمنزلتِها من عمرَ حثَّ هذا الرجلُ الفاضلُ عمرَ أن يجعلَ هذا المرطَ من نصيبِها ، فقال عمرُ ( أم سليط أحق ) ؛ هذا هو الحقُّ الذي عاشَ عمر ( حياتَه كلَّها لأجلِه وقام به أحقَّ قيام . يقول ( وأمُّ سليطٍ من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله ( ) فهذه لها منزلةٌ عظيمة لكونها ممن بايعَ النبي ( وكان لها دورٌ عظيم حيث أنها كانت تزفرُ لهم القِربَ يومَ أحد . يعني : كانت من المجموعةِ التي كانت تخدم المجاهدينَ يومَ أحد بنقلِ قِرَبِ الماء وسقيِ الجرحى كما مرَّ في الحديث السابق عن عائشةَ وأمِّ سُليم
فسمي لنا الآن ثلاثةٌ من نساءِ المؤمنين كنَّ يقُمْنَ بهذا العمل العظيم الذي يحتاجُ إليه المسلمون وليس فيه مباشرةٌ للقتال وإنما فيه خدمةٌ المجاهدين .(1/254)
قال في آخر الحديث ( قال أبو عبد الله : تزفر أي تخيط ) ؛ هذا قولٌ ولكنه قولٌ مرجوحٌ . والراجحُ في قوله ( تزفر ) أي : تحملُ ، فالزفر هو الحمل ، وليس المرادُ خياطةَ القرب ، والله تعالى أعلم .
باب مداواةُ النساء الجَرحى في الحربِ .
97 ـ حدثنا عليُّ بنُ عبد الله ، حدثنا بشرُ بنُ المفضَّلِ ، حدثنا خالدُ بنُ ذكوانَ ، عن الربيع بنت معوذ قالت : كنا مع النبي ( نسقي ونداوي الجرحى ، ونردُّ القتلى إلى المدينة .
باب ردُّ النساءِ الجرحى والقتلى .
98 ـ حدثنا مسددٌ ، حدثنا بشرُ بن المفضل ، عن خالدِ بنِ ذكوانَ ، عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت : كنا نغزو مع النبي ( فنسقي القومَ ونخدمُهم ، ونردُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة .
هذا الحديثُ هو آخر حديث لنا في هذا اللقاء إن شاء الله ، وهو آخر حديث يتعلقُ في دَوْرِ المرأةِ في الجهاد في سبيل الله . وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في بابين مختلفين؛
البابُ الأول في مداواةِ النساء الجرحى في الغزو ، والبابُ الثاني في ردِّ النساء القتلى والجرحى ، وهو يشيرُ بذلك إلى أن المرأةَ تقوم بعملٍ في ساحةِ القتال ، وهو مداواةُ الجرحى ، وتقوم بعملٍ آخرَ أيضاً وهو ما يسمى بالإخلاءِ الطبي الآن وهو الحاجةُ إلى نقل الجرحى والقتلى إلى مكانٍ آمِنٍ لتجهيزِ القتلى للدفنِ وكذلك علاج الجرحى الذين يصعُب علاجُهم في ساحةِ المعركة(1/255)
فتقول الرُّبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ رضي الله عنها أنها كانت ممن يغزو من النساء مع النبي ( فكانت تسقي من يحتاج إلى السقيا وتداوي الجرحى وتردُّ القتلى إلى المدينة . وظاهرُ هذا أنه كان في غزوة أحدٍ وذلك قبلَ الحجاب . وعلى كل حالٍ ؛ من أجازَ للمرأة أن تداويَ الجرحى وتردُّ القتلى إنما أجازَ ذلك بشرط عدمِ المباشرة أو الملامسة . وإذا حصلَ مباشرةٌ أو ملامسةٌ فإنما يكون من ذواتِ المحارم أو من كبيراتِ السن اللاتي لا يحصل منهنَّ شهوةٌ في مثل هذه الحال ، خاصة أن لمسَ الجرح وموضعَ الجرح لا يُلتذُّ به خاصة في مثل هذه الحالِ العصيبة على وجه الخصوص . وهذا قد يدخلُ أيضاً تحت باب الضرورة إذا لم يكن هناك من يقومُ بذلك من الرجالِ لانشغالهم بالقتال ، أو من يقومُ بذلك من المحارمِ حيث لا يوجدُ محرَمٌ لهذا الرجل ويُحتاجُ إلى علاجه علاجاً سريعاً .
ولا يُعقَلُ أبداً أن تقومَ امرأةٌ أجنبيةٌ بعلاجِ رجلٍ أجنبي عنها وهناك محرمٌ له موجودةٌ يمكن أن تقومَ بمعالجته ، أو هناك رجلٌ يمكن أن يقومَ بمعالجته . هذا لا يعقلُ أبداً .
ونحن هنا نؤكدُ على ذلك عدةَ مرات لتذرُّعِ بعضِ من في قلبِه مرضٌ بمثلِ هذه النصوص حتى يفسحَ المجالَ للاختلاطِ والعبثِ ومخالفةِ النصوصِ الشرعية . بل إن البعضَ لجهله يريد أن يجعلَ المرأةَ مقاتِلَةً وتكونَ جنديةً في جيش المسلمين ، وهذا باطلٌ . بل إن هذه الرواية التي معنا جاء بها اللفظُ في مستخرج الإسماعيلي بلفظ ( ولا نقاتلُ ) وهذا واضحٌ من غير النصِّ عليه من الربيع ، ولكن الذي في قلبه مرضٌ يريد أن يتعللَ بمثل هذه النصوص حتى يفتحَ البابَ للاختلاطِ المشينِ ، ولكن الله ( لا يمكنه من ذلك ، ويقفُ له أهلُ العلمِ بالمرصاد لبيان عوارِ ما يحتجُّ به وبيانِ زَيْفِ ما يقول ، والله تعالى الموفق .(1/256)
كلامنا هذا كله يتعلَّقُ بجهادِ الطلب ، وأما جهادُ الدفعِ فإن المرأةَ الراجحُ أنه يجب عليها إذا كانت مستطيعةً أو مطيقةً أن تدفعَ بكل ما تستطيعُ حتى وإن كانت تضربُ بفسطاطٍ كما حصل من صفيةَ رضي الله عنها عندما جاء رجلٌ وطاف بحصنِ المسلمين من النساءِ فإنها أخذت فسطاطاً فضربتَهْ ، وكذلك أمُّ سليم رضي الله عنها كانت تربِط خنجراً على بطنها ، فسألها النبي ( : " ماذا تفعلين بهذا الخنجرِ يا أمَّ سليم " ؟ فقالت : إذا دنا مني كافرٌ بعجتُ به بطنَه .
المهمُ في هذه الحال تقاتلُ المرأةُ وتبذلُ كل وسعها في الدفعِ عن نفسها وعن عرضِها ولا تستسلمُ بحجةِ أنها لا يجب عليها القتالُ . وإنما لا يجب عليها القتال في جهادِ الطلب ، وأما في جهادِ الدفع فإنها تدفع بكل ما تستطيع ، والله تعالى أعلم .
ونكتفي بهذا القدر الليلة ، ونسأل الله تعالى أن يتقبلَ منا ومنكم صالح العمل ، ونسأل الله تعالى التوفيق ، والله سبحانه أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
آخرُ محاضراتِ الدورةِ المتعلقةِ بفقهِ الجهادِ من خلالِ كتابِ الجهادِ في صحيحِ البخاري والحمد لله رب العالمين
??
??
??
??
12(1/257)