الدنيا مقابل الآخرة
د : لطف الله عبدالعظيم خوجة
عرض لعلة البناء والتقدم
لبنى شرف / الأردن
خريطة الموضوع:
- المقابلة ما بين الدنيا والآخرة.
1- في الكمية.
2- في الكيفية.
3- في الحقيقة.
o نتائج المقابلة.
- مشكلات في المقابلة.
1- حب الدنيا.
2- الرهبانية.
3- .... .
o أساس البناء.
o أساس الدعوة.
- الخاتمة: 1 0,0
* ... * ... *
(المقابلة ما بين الدنيا والآخرة)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- ( ما الدنيا في الآخرة، إلا مثلُ ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى [بن سعيد] بالسبابة - في اليم، فلينظر: بم يرجع ؟) [مسلم/في الجنة/باب فناء الدنيا]
هذه مقابلة بين الدنيا والآخرة، يتضح منها: أن الدنيا في مقابل الآخرة، هي بقدر ما يعلق بالأصبع من الماء، إذا أدخل في البحر، وأن الآخرة هو البحر كله.. فكم سيكون قدر الدنيا ؟.
لكن موضوع المقابلة في قوله: ( ما الدنيا) ما هو ؟.
- أهي مقابلة في الكمية (= المدة الزمنية).
- أم مقابلة في الكيفية (= الحال).
- أم مقابلة في الحقيقة والماهية (= المنزلة والشرف) ؟.
حتى نضع أيدينا بدقة على موضوع المقابلة، لدينا وفرة في النصوص، في بيان العلاقة بين الدنيا والآخرة، فلننظر فيها فيما يلي:
* ... * ... *
1- مقابلة في الكمية (= المدة الزمنية).
في نصوص القرآن الكريم نجد آيات تحدد مدة الدنيا تقديرا، يقول الله تعالى:
- {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عيشة أو ضحاها}.
- {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار..}.
- {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم}.
الأزمنة المذكورة هي: عشية أو ضحاها.. ساعة من نهار.. ساعة من النهار يتعارفون بينهم.(1/1)
العشي أو الضحى قد يكون ساعة، وقد يكون أكثر من ساعة من نهار، وساعة التعارف أقل من مطلق الساعة.. وهكذا تختلف صيغ التعبير عن المدة، وليس فيها نسخ، بل لأجل التقليل، كأنك تقول: هي ساعة، لا بل دون ذلك، لا بل أقل.. أو تقول: هو يوم.. هو نهار.. هو ضحى.. فأنت في كل ذلك صادق؛ لأنها جميعها تطلق ويراد بها وقتا قصيرا.
ومقصوده التأثير في السامع والقارئ:
إذا عرف أن الدنيا بكمالها لا تعدو قدر عشية أو ضحاها، راعه وأيقظ قلبه.
فإذا علم أنها دون ذلك، تجدد عنده الرهبة والفكر.
فإذا علم أنها دون ذلك، زهد وأناب ووقر في قلبه الإقبال على الآخرة.
فكيف بزمن كله من أوله إلى آخره، بكل ما فيه وما يحتويه، إنما يقدر بمدة ما يقابل فيها الإنسان آخر، فيتعرف إليه، ويعرفه بنفسه، ثم يمضي هذا في سبيله، وهذا في سبيله ؟.
فلا موعظة أبلغ من هذا، في بيان مدة بقاء الدنيا مقابل الآخرة.
فالآيات قدرت عمر الدنيا في الآخرة، بهذه اللحظة اليسيرة من الدنيا.. هذه اللحظة تقدر عندنا بآلاف السنين، على ما روي، فكيف بالآخرة التي لا تقدر بزمن.. هي لا نهاية لها ؟.
فالمثال مشابه لا مماثل مطابق؛ إذ الدنيا لها نهاية، كذلك مثالها الماء يعلق بالأصبع ثم يجف، أما الآخرة فلا نهاية لها، ومثالها البحر فله نهاية وحدّ، ولا يلزم في الأمثلة التطابق؛ لأنها تضرب للتقريب.
نخلص إلى أن موضوع المقابلة هنا هو في: المدة (=الكمية). وقد ثبت فيها فضل الآخرة، وبذلك يمكن تفسير الأثر به، فيكون المعنى على ما يلي:
ما مدة بقاء الدنيا في مقابل مدة بقاء الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم. فلينظر بم يرجع.
فما يعلق بالإصبع من ماء لا يبقى زمنا، بل يزول سريعا، وماء البحر يبقى أزمانا فلا يزول.
* ... * ... *
2- مقابلة في الكيفية (= الحال).
جاء وصف حال الدنيا في آيات عديدة، في سورة يونس، الكهف، الزمر، الحديد، نختار قوله تعالى:(1/2)
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
هذه هي الدنيا باختصار: لعب، ولهوٌ، وزينة، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد. مثلها كنبات اهتز وربى، وأرض ازينت بكل زينة وزخرف، بعد ما أصابها المطر، ثم قل المطر، فاصفرّ الزرع، فكان حطاما، ثم هشيما تذروه الرياح، أو اجتاحته عاصفة أو إعصار، فصار حصيدا.
هكذا هي الدنيا في حالها؛ تقلبها بأهلها، وتبدلها من السعة إلى الضيق، ومن السرور إلى الأحزان.. والآخرة غير ذلك للمؤمن، لا تتغير ولا تنقص، بل تزيد من حسن إلى أحسن. إلا الكافر.
- قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).[مسلم/الزهد والرقاق2956]
موضوع المقابلة هنا: الحال. ويتضمن المدة أيضا؛ فالزرع من حين يربو ويهتز، حتى يصفر يحتاج إلى بضعة أشهر لا تزيد، فأين عمره هذا من عمر الدنيا، الذي هو آلاف السنين ؟.
والربط بين الحال والمدة هنا مقصوده، هو: سرعة زوال نعيم الدنيا وتغيرها على أهلها. وبه يكون تفسير الأثر به على ما يلي:
ما حال الدنيا، في سرعة تغيرها وزوال نعيمها على أهلها، في مقابل بقاء وثبات نعيم الآخرة، إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ؟.
فما يعلق بالإصبع من اليم يتغير سريعا، وماء البحر باق لا يتغير.
* ... * ... *
نوع آخر من المقارنة في الحال، قال صلى الله عليه وسلم:
- (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها). [البخاري/الرقاق/ باب: مثل الدنيا والآخرة](1/3)
قدر موضع السوط: خط طويل في الأرض، لا عرض له. فلو جمع بالحساب لكان مجموع مساحته مربع صغير لا يتجاوز سنتيمترات. فهذه كيفية الدنيا في الآخرة، تختزل جميع ما فيها من جنات، وأنهار، وزخرف، ومباهج، ورفاهية، وترف. في مساحة صغيرة جدا، لا تكاد ترى بالنظر إلى جنة عرضها السموات والأرض. قال تعالى:
- {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}.
وبهذا يمكن أن يفسر الأثر كما يلي:
ما جنات، وزخرف، ومباهج، ونعيم الدنيا في مقابل نعيم الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ؟.
فما يعلق في الإصبع شيء يسير من هذه النعمة، الذي هو الماء، مقابل مياه البحر الذي لا حد لها.
* ... * ... *
والغدوة تكون أول النهار، والروحة آخرها، فزمن كقدر هذا الزمن في سبيل الله، خير من الدنيا بما فيها، لو فرضت الدنيا كلها خالية من أي عمل صالح، سوى هذا العمل: الغدوة أو الروحة في سبيل الله تعالى. ذلك لأن الدنيا لا قيمة لها من دون عمل صالح، قال صلى الله عليه وسلم:
- (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم) [الترمذي/الزهد/14]
والعمل الصالح هو من الآخرة؛ لأن ثوابه وجزاءه في الآخرة، فحصلت المقارنة بينهما، فمعنى الأثر:
ما أعمال الدنيا، إذا خلصت كلها للدنيا، في مقابل عمل واحد صالح من أعمال الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر: بم يرجع ؟.
فكافة الأعمال الدنيوية، هي في المثال كما يعلق في الإصبع من البحر، وآحاد العمل الصالح كالبحر.
- قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا}.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل). [البخاري/الزكاة/باب لا يقبل إلا من كسب طيب]
* ... * ... *(1/4)
3- مقابلة في الحقيقة (= الشرف والمنزلة)
في النصوص النبوية بيان لمنزلة الدنيا عند الله تعالى:
- عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلا من بعض العوالي، والناس كنفتيه، فمرّ بجدي ميت أسك، فتناوله وأخذه بأذنه، ثم قال: (أيكم يحب أن هذه له بدرهم ؟، قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، ما نصنع به ؟، إنه لو كان حيا، كان عيبا فيه أنه أسك. قال: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم). [مسلم/الزهد 2957]
- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة). [الترمذي/ الزهد/ ما جاء في هوان الدنيا]
- (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم) [الترمذي/الزهد/14]
السؤال الوارد هنا: لم هكذا هي الدنيا عند الله تعالى ؟.
الجواب يتضح، من ملاحظة ما عليه حال الدنيا في الأصل: أن الذي يطغى عليها: الظلمة، والشر، والكفر. وعكسها: النور، والخير، والإيمان قليل، بدليل أن أكثر أهلها ليسوا على الإيمان، قال تعالى:
- { وما آمن معه إلا قليل}، عن قوم نوح.
- {وقليل من عبادي الشكور}، في قصة داود وسليمان.
- {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}، في قصة داود.
- {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
- {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله..}، كذلك.
- {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}، دليل على كثرة أهل النار.
وبعث النار، كما في الأثر، من ألف ينجو واحد، والبقية هالكون..
فلما كانت الدنيا هكذا؛ الشر عليها يطغى، والله لا يحب الفساد، ولا الظلم، ولا الكفر؛ لأجل هذا كانت لا تزن عند الله جناح بعوضة، وهي أهون على الله من جدي ميت أَسَكّ، لا يشترى حيا، دع عنك أن يشترى ميتا.(1/5)
هذه الأحوال منتفية عن الآخرة، فهي دار رضوان الله تعالى، وفيها يتجلى بملكه، وعظمته، وحكمته، على التمام والكمال، وقد كان الناس لا يعرفون منها إلا القليل، قال تعالى:
- {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم ؟، لله الواحد القهار}.
- {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}.
- {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمدلله رب العالمين}، يقولها المؤمنون والكافرون.
في الدنيا أعطى الله عباده تصرفا وملكا واختيار، وطاعة ومعصية، ففيها ما يحب وما لا يحب، وكلها تحت مشيئته، أما في الآخرة فكلها لله تعالى ظاهرا وباطنا، فيها مشيئته ومحبته خالصة.
وعليه فيمكن ترجمة الأثر بما يلي:
ما منزلة الدنيا مقابل منزلة الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ؟.
* ... * ... *
(نتائج المقابلة)
فما يعلق بالأصبع من ماء البحر شيء لا يذكر، فلا قدر له ولا قيمة، مقابل قدر وقيمة البحر.
- القدر الذي يعلق بالإصبع من اليم: لا شي.
- جناح البعوضة: لا شيء.
- الجدي الأسك الميت: لا شيء.
كل هذه هي الدنيا.
أجزاء الشيء ثلاثة: حقيقته ماهيته، وكيفيته، وكميته.
والدنيا حقيقة، وكيفية، وكمية جميعها ومجموعها، مقابل الآخرة لا شيء يذكر، كالماء على الإصبع.
فالدنيا لا تقابل الآخرة في شيء، إلا في شيء واحد، تكرم الله به على عباده، على جهة الفضل والإنعام، لا الاستحقاق؛ إذ جعل الدنيا مقابل الآخرة، مقابلة الثمن للسلعة، أي جعل الجنة من الآخرة سلعة، والدنيا ثمناً. إذا بذلت لله وحده، بالعمل الصالح، كانت ثمنا للجنة:
- {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة..}.
- {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة..}.
- قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة) [الترمذي/صفة القيامة/باب من خاف أدلج].(1/6)
وبه يصح قوله صلى الله عليه وسلم:
- (لن يُدخل أحدا منكم عملُه الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله!، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة) [البخاري/المرضى/باب تمني المريض الموت].
فأين العمل في مدته وقدره، مقابل جنة لا نهاية لمدتها، ولا نهاية لثوابها ؟.
فصح أن الجنة ليست مقابل العمل مقابلة عوض كالأجر، بل هو سبب، قال تعالى:
- {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}.
فأدنى أهل الجنة منزلة، هو آخرهم دخولا، وآخر الناس خروجا من النار، له عشرة أمثال ما لملك من ملوك الأرض.. فهذا من أهل الكبائر، وله هذا؛ لأنه مات على العمل الصالح..
فما مقدار عمله مقابل ثواب الله تعالى له ؟.
أمر آخر، هو: أن الذي عمل الصالحات، إنما عملها لنفسه، فلا يضر الله بمعصيته، ولا ينفعه بطاعته، فكان ثواب الله له فضلا وكرما، فلو منعه منها لم يكن ظالما؛ لأن الملك كله له:
- قال تعالى: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. ياعبادي!، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي!، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي!، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيها إياكم، فمن وجد خيرا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه) [مسلم/البر والصلة/ باب تحري الظلم]
- وقال صلى الله عليه وسلم: ( لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم) [أحمد/صحيح الجامع الصغير 2/930]
وإن ننسى، فلن ننسى: أنه لولا إعانة الله تعالى لعبده، ما قدر على فعل طاعة.
* ... * ... *
بعد معرفة قدر الدنيا في الآخرة، ندرك لم زهد النبي صلى الله عليه وسلم، وزهّد أصحابه فيها، وخوفهم، وحذرهم منها:(1/7)
- عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكيء على وسادة من أدم، حشوها ليف..)، قال: (ثم رفعت بصري في بيته، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، غير أَهَبَة ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم، وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله. وكان متكئا، فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)، [البخاري/المظالم/باب:الغرفة والعُلّية المشرفة]
- وعن عبد الله بن مسعود قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نام على رمال حصير، وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله!، لو اتخذنا لك وطاء تجعله بينك وبين الحصير، يقيك منه ؟، فقال: مالي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم تركها وراح)، [الترمذي/الزهد/باب 44]
- وقال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؟، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، [مسلم/الذكر/أهل الجنة]
- وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: (إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)، [البخاري/الرقاق/باب: ما يحذر من زهرة الحياة الدنيا والتنافس فيها].(1/8)
الحياة سفر، والراحة والمتاع فيها بقدر استظلالٍ تحت ظل شجرة، ليتجدد النشاط، ثم يمضي في الطريق خفيفا سريعا. وقد اتبع الصحابة النهج النبوي في التعامل مع الدنيا، وآثارهم في هذا كثيرة جدا، ما من صحابي إلا وله موقف يحكى، فزهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والعشرة، وأمهات المؤمنين أشهر من أن يذكر، فإجماعهم منعقد على ترك تعظيم الدنيا، والإقبال على الآخرة.
- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل" [البخاري/الرقاق/ باب في الأمل وطوله]
وبذلك حققوا أمرين اثنين، هما:
أولا: قدموا ما قدم الله، وأخروا ما أخر الله.
ثانيا: غيروا وجه العالم إلى الإيمان بالله العظيم.
أما أنهم غيروا العالم، فهذا لا مرية فيه، وأما أن ذلك كان بإيمانهم بالله تعالى، وتقديمهم ما قدمه الله، وتأخيرهم ما أخره الله، فهذا أيضا معلوم؛ لأنهم كانوا كذلك، فهذا حالهم لما كانوا ينشرون الإسلام في الأرض شرقا وغربا، ومن بعدهم لما غيروا الطريقة، توقف خط الفتوحات، ودب الضعف بمر القرون، حتى تأخرت الأمة، تأخرت يوم أن قدمت ما أخره الله، وأخرت ما قدمه الله.
(مشكلات في المقابلة ما بين الدنيا والآخرة)
بعد هذا العرض لمقام الدنيا من الآخرة، نواجه مشكلتين اثنتين، عويصة على الحل عند أكثر الناس، عصية على الترويض، وقد كانت اثنتين فأصبحت ثلاثة:
الأولى: حب الدنيا.
الثانية: الرهبانية.
والثالثة: نعرضها لاحقا.
* ... * ... *
المشكلة الأولى : حب الدنيا.(1/9)
هي الآفة، ولم يسلم منها إلا القليل؛ لأن حب البقاء مركوز في النفس، وبه يتوقى الإنسان ما يكره، والموت مما يكره، لكن حب الدنيا يزيد على حب البقاء؛ إنه حب التمتع بلذاتها، والخوف من ذهابها. فهو سبب الجبن والخوف، والهم والحزن، الذي كان يستعيذ منها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلاجه طويل، وقد يحظى المرء بتوفيق الله، فيبرأ في ساعة، وهذا حظ عظيم. أما العلاج فطويل مع صبر لازم:
- {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.
وتفاصيل هذا العلاج:
- أن يديم النظر فيما سبق من المقابلة بين الدنيا والآخرة؛ ليدرك فضل الآخرة، ولن يدركه بمرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، بل بالدوام والمعاودة، والتكرار والمراجعة.
- مع الإلحاح بالدعاء: أن يفتح بصيرته، ويحبب إليه لقاءه، ويحبب إليه الزهد في الدنيا.
- مع اعتياد العمل الصالح.
- ومن النظر تفحص حال الزاهدين، ودراسته، وفهمه، وحفظه، فإنها موعظة حية.
فمن جمع هذه الوسائل، فليس ببعيد عن هذا الحظ العظيم.
المشكلة الثانية: الرهبانية.
وهي الإعراض التام عن الدنيا بالكلية، بتعريف الزهد أنه: ترك الدنيا والإعراض عنها جملة وتفصيلا. كحال الزاهدين الذين آووا في الكهوف والغيران، وبنوا الصوامع، فاعتزلوا، وتبتلوا.
فهؤلاء أخطئوا في معنى الزهد، فالزهد: أن تكون الدنيا في يدك، لا في قلبك، ولو ملكت مال قارون.
وكيف يزهد وقد جمع مال قارون ؟.
بأن لا يجمعه بالحرص والشره، بل فضلٌ منّ به عليه من غير سعي حثيث، فتح عليه أبواب الرزق كما فتح على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ثم مع ملكه هو متقلل من متاع الدنيا، غير مستغرق فيها، ولا يتميز بكثير ولا كبير عن عامة الناس، ولا يشابه أهل الترف، والبذخ، والرفاهية. قد اكتفى من متاع الدنيا بما لا يعرضه للذم، في مظهره وملبسه، ومسكنه، ومركبه، وأولاده.(1/10)
- عن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: "أتي عبد الرحمن بن عوف بطعام، وكان صائما، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، فكفن في بردة: إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وقتل حمزة، وهو خير مني – أو رجل آخر، شك إبراهيم – فلم يوجد ما يكفن به، إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط – أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا – وقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام" [البخاري/ الجنائز/باب الكفن بلا عمامة]
الرهبانية في هذه الأمة قليل؛ لمشقتها، ولأن تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم ضدها، ووجودها يضر.
العدل بين حب الدنيا والرهبانية
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضوان الله عليهم يحبون الدنيا، ولم يكونوا رهبانيين، بين ذلك كانوا؛ يأخذون من الدنيا إذا أقبلت، ونفوسهم تتوق إليها، من: لباس وكساء، ومسكن وبيت، ومال ومتاع، لا يخرجون عن حد المباح، ويكفون إن كان ثمة شبهة، دع عنك المحرم.
ولا يأبهون لها إن هي أدبرت، ولا يسعون خلفها حثيثا، إلا بمقدار ما يحتاجون لحياتهم، وآخرتهم.
فهم بين عملين: أخذ، وترك.
كالسيل إذا جرى، أخذ الناس منه ما يحتاجون لزرعهم، ورعيهم، وشربهم، فجعلوا لذلك شعبا وسدودا. فما زاد فتحوا له الأبواب ليمر، وتركوا له المجرى ليجري، خوفا من اجتماعه فيدمر.
وإذا لم يجر لقلة الأمطار، سعوا في تحصيله بالوسائل المتاحة، بالقدر الذي يحتاجون، من الأنهار والآبار، وما قد جمعوا قبل، فإذا حصلوا حاجتهم كفّوا، وأعرضوا عن الباقي، لما فيه من كلفة ومشقة بلا فائدة.
هكذا هي حالهم مع الدنيا. الدنيا سيل يدمر كل شيء، إذا لم يؤخذ منه بقدر، ويترك الباقي ليمر.
أين الميزان ؟.(1/11)
قال قائل: وضعت ميزانا لا حد له، ولا رقم. فمن الذي يعرف حدّ هذه الحاجة ؟، فالحوائج تختلف باختلاف المحتاجين، فإنسان حاجته أعظم من إنسان، والعكس، فضع ميزانا معلوما محددا، يعرف به القدر الذي نأخذ به من الدنيا، فلا نكون قد أغرقنا، وإلا فقد أسهمت في عمى الناس.
فالجواب: لا ميزان محدد، ولا رقم معلوم، إنما هي قاعدة عامة:
إذا عطش المرء شرب قدر ما يروي الظمأ، فإن زاد قليلا احتمل، فإن أكثر قد يحتمل، فإن بالغ هلك.
وإذا جاع أكل حتى يشبع، والشبع ليس له حدٌّ مرقوم، بل مقدر، فإن زاد فجعل من الزيادة ديدنا، تضرر بالسمنة، فإن بالغ فأكل بعيرا، هلك.
فالأخذ من الدنيا يكون على مثل ما يحتاج البدن من الطعام والشراب:
- فهناك حد زائد لا يدركه آحاد الناس، ولا الإنسان نفسه، ويدركه الحكيم العارف.
- وهناك حد زائد يدركه الجميع، لايختلفون عليه (= كالأكل في صحائف الذهب والفضة، والسكن في القصور، وركوب السيارات الفارهة، وارتداء الملابسة الباهظة).
- وهناك زيادة لا يدركها إلا هو في نفسه، فإما يكون فرحا معجبا، أو يلوم نفسه عليها.
المهم في هذا:
ألا يدخل في قائمة الذين لا يختلف على ترفهم وبذخهم.
ثم ألا يدخل في قائمة حكم الحكماء العارفين: أنه من المترفين.
أما ما بينه وبين نفسه، فذاك أمره هيّن.
وإلا يشابه من فقدوا الإيمان في إقبالهم على الدنيا، فإن الله تعالى:
- {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها..}.
ونحب أن نلفت النظر: إلى أن الزهد تختلف حدوده من زمن إلى زمن، من دون إطلاق، بل إلى حد معلوم، فمقصود الزهد عدم التعلق بالدنيا، والتعلق يكون بالتميّز في حيازة الأشياء عن سائر الناس، أو العيش حياة بذخ، لا يختلف عليها أنها بذخ.(1/12)
فإما إن تساوى الناس في متاع الدنيا، فإن التعلق يخف أو ينتفي، ولم يكن الفقراء أقل تعلقا بالدنيا، إلا لأنهم يجاور بعضهم بعضا، ولا يجدون شيئا، فكلهم سواء، فلا يطمعون في شيء، لكن فقيرا يجاور الأغنياء، لا يزال قلبه يغلي بحب الدنيا، إلا من كمل عقله.
وفق هذا: إذا كان الناس يملكون عادة: مركبا لائقا، ولباسا حسنا، وطعاما طيبا، وهاتفا، ومسكنا فيه كافة الحاجيات والضروريات، كآلة الغسل، والثلاجة، وآلة طبخ، وآلة تكييف ونحو ذلك.
فملكهم لهذه الأشياء، وعنايتهم بها، واهتمامهم لفقدها، لا يعد حبا للدنيا، ولا ينافي الزهد، فإن فاقدها كمن فقد الطعام والكساء في الزمن الماضي؛ لأن هذه ضروريات لا كماليات، والضروريات والحاجيات مقدرة بحالة العصر، والفقهاء يجيزون دفع الزكاة لمن فقد هذه الحاجيات، ويعدونه فقيرا أو مسكينا لذلك.
وعليه: فلا يلزم في الزهد اليوم، أن يعيش المرء كهيئة الناس في المدينة في عهد النبوة، ولا ما كان بعد ذلك، فإن ذلك كان نمط حياتهم يوم ذاك، بل ليس مطلوبا أن يعيش كما عاشوا، فذلك مضر بنفسه وبدعوته، لاختلاف الحال، إلا أن يكون في بيئة قريبة الحال من تلك البيئات القديمة.
* ... * ... *
المشكلة الثالثة : الدعوة إلى الإسلام بتعظيم الآخرة، أم بتعظيم الدنيا ؟.
هناك رأي يقول:
- لما حقّر المسلمون أمر الدنيا، أهملوها فتأخروا، والغرب لما عظموها، عملوا لأجلها فتقدموا، وسادوا العالم؛ لذا ينبغي على المسلمين أن يرفضوا النظرة السلبية التشاؤمية للدنيا، والتي تؤدي إلى إهمالها، وإهمال القيام بعمارتها، والبحث في أسباب التقدم فيها، فالله تعالى خلقنا لنستعمرها، ونمشي في مناكبها، ونأكل من رزقها، ونحرثها، ونزرعها، ونحصدها.
ومناقشة هذا الرأي يكون من ثلاث جهات: الأصل، والصدق، والشرع.(1/13)
فمن جهة الأصل، ليس غريبا عن الذين فقدوا الإيمان، أن يعظموا الدنيا، فهي رأس مالهم. وليس غريبا على المؤمنين أن ينزلوا من مرتبة الدنيا؛ لأنهم يعظمون الآخرة، والتعظيمان لا يجتمعان.
ومن جهة صدق هذا الرأي، فإنه لم يصدق في تصوير هذه الأزمة، فهو مفتقر إلى الدقة في وصف الداء الذي أصاب المسلمين؛ ذلك لأنه لا وجود اليوم لمسلمين يهوّنون من شأن الدنيا، ولا قبل اليوم، حتى قرن مضى، إلى قرنين، وثلاثة، وأربعة، وأكثر من ذلك، ليس ظاهرا في المسلمين تعظيم الآخرة، كما عظمه السلف، ولا قريبا من ذلك، إلا قليلا، إلا ما كان من حديث يتحدثون به، يرضون به أنفسهم في ذم الدنيا؛ أنهم تشبهوا بالسلف، دون أن يكون له أثر في الواقع.
فإنه منذ مضي قرن الصحابة والتابعين ومن تبعهم، والمسلمون في انتقال مستمر، من مبدأ تعظيم الآخرة، إلى تعظيم الدنيا.. في إقبال على الدنيا، وإدبار من الآخرة، حتى تكامل اليوم أو كاد.
وهذا يعرفه ويعيه كل من درس التاريخ، ووقف على التغير الذي طرأ على المسلمين بعد الفتوحات وشيوع الأموال.
الحقيقة: أن المسلمين اليوم وغير المسلمين كلهم سواء، في الإقبال على الدنيا؛ محبة وتعظيما واهتماما بالغاً. وانظر إلى المترفين واللاهثين وراء الدنيا، تعرف ذلك. الفرق بينهما: أن المسلمين في حالة تلقي وقبول لكل ما يغرقهم في الدنيا، ويجعل منهم أمة تابعة، مقلدة لغيرها.. أما الغرب فهو في حالة تصدير وتأثير في العالم وفي المسلمين. هذا هو الفرق الوحيد.
- الغرب معظم للدنيا مؤثر في غيرهم بها، والمسلمون معظمون للدنيا، متأثرون فيها بغيرهم.
هذا الرأي يصور المشكلة، وكأن المسلمين متبتلين، راهبين، معتزلين، قد أعرضوا عن زخرف الدنيا بالكلية، ولم يقوموا بأي عمل دنيوي.(1/14)
كلا، ليس الأمر كذلك، ولم يكونوا كذلك يوما، إلا طوائف ممن غلا في التصوف، ولا نظن أنه بقي إلى اليوم أحد يمثل هذه الحالة، ما بقي إلا المعظمون للدنيا، والذين لم يحسنوا استغلالها كما الغرب.
فصاحب هذا الرأي، هل يريد أن يرجع باللائمة على الشريعة؛ أنها كرست تهوين الدنيا، وإهمالها، فلما لم يمكنه ذلك؛ لأنه طعن واتهام مباشر، رجع إلى المسلمين فنبزهم بها، وألقى عليهم باللوم ؟.
أو أنه استعصى عليه فهم الواقع، وظروفه، وأسباب تكوينه، فنظر في طريقة الغرب في التقدم، فرجحه طريقا، ثم رجع إلى المسلمين ليحملهم على الطريقة نفسها، محذرا من التهوين من شأن الدنيا؛ لأنه بزعمه يهدم خطة إنقاذ الأمة ؟.
أياً كان، فهو فرض خاطئ، وتشخيص قاصر، فسبب الداء معروف غير مجهول، والدواء كذلك. وما كان الله تعالى ليجعل وسيلة علو الإسلام والنهوض بالأمة، وما يعوق ذلك: مبهما، لا يدركه إلا آحاد الناس. كلا، فهذه قضية كبرى، وعادة الشريعة بيان وإيضاح ما يتعلق بالقضايا الكبرى، في تحصيلها، ونفي العوائق عنها، لعموم الناس وآحادهم.
ومن جهة الشرع، فأمر تعظيم الآخرة - والتهوين من الدنيا - في النصوص الشرعية أظهر من الشمس، وقد تقدمت في الكلام على مثال الإصبع في اليم.
ولنتعرف على سبب تأخر المسلمين، فنضع أيدينا على الداء والدواء، علينا أولاً: أن نتعرف على سبب تقدمهم وعلوهم. فهذا المثال موجود في القرن الأول؛ قرن الصحابة والتابعين، في المائة الأولى.. تمت الفتوحات فيها، فبسط الإسلام سلطانه شرقا إلى الصين، وغربا إلى المحيط الأطلسي، وشمالا إلى أوربا، وجنوبا أفريقيا. في قرن واحد اكتسح الإسلام امبراطوريات كبرى، ذات حضارة مؤثرة وظاهرة، وعظيمة، وذات قوة عسكرية واقتصادية، وثقافة وفكر، وكثافة سكانية، على رأسها فارس والروم. فبأي شيء تقدموا عليهم ؟.
هل كان بحضارة مثيلة، واقتصاد مثيل، أو قوة موازية، أو تقدم مكافئ ؟.(1/15)
كلا، لم يكن شيء من ذلك أبدا، والتاريخ لا يمكن تزويره، بل كانوا على العكس من ذلك كله، لم يكن لديهم سوى:
- الإيمان العميق بالله واليوم الآخر.
- والعمل الصالح.
- والزهد في الدنيا.
- مع قوة أعدّوها بقدر ما استطاعوا وقدروا.
فالإيمان أعطاهم اليقين والثقة والثبات والهدف الصحيح.. والعمل الصالح كان وقود إيمانهم.. والزهد في الدنيا أورثهم قوة القلب والتوكل على الله تعالى.. وإعداد القوة والعدة، علمهم اتخاذ الأسباب، وعدم إهمالها، لكن علمهم كذلك، أن المطلوب قدر ما يستطيعون منها، لا يكلفون قوة مضاهية:
- {إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله..}.
هذه هي أدوات العلو والنصر والتمكين التي كانت، بلا مرية ولا فرية. وبها انتصروا في معارك غير متكافئة في شيء ألبتة، مع قريش أولاً، ثم سائر العرب ثانياً، ثم مع قوى عظمى، فارس والروم، مع كونهم في سائرها مفتقرين إلى التوازن الحربي، الحضاري، الاقتصادي مع عدوهم.
ثم لقد بان لهم ابتداء أسباب الهزيمة، فكانت معركة حنين، وفيها انقلبت الموازين التي اعتادوها، فبعدما كانوا هم الأقل عددا وعدة، في غزوات: بدر، أحد، الخندق، مؤتة، تبوك. هم في حنين الأكثر في ذلك، فجاءت النتائج عكس المتوقع؛ هزيمة مرة. سجلها القرآن:
- {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}.
في انتصارهم وهم أقل في كل شيء حكمة، هي حصول التوكل على الله تعالى، التوكل الذي يأتي مع الشعور بالحاجة والضعف، قرين القلة والقليل، لكن مع الكثرة تنتفي الحاجة، ويحل الغرور بالاعتماد على النفس، وينسى التوكل، فتكون الهزيمة.
فالمؤمنون إنما ينتصرون بالله، لا بأنفسهم، وبقوة الله لا بقوتهم:
- {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى..}.(1/16)
هكذا تجلت أسباب الهزيمة والنصر، أسباب التقدم والتأخر، وقد بين الله تعالى جليا في كتابه سبب التمكين في الأرض، الذي يرجوه جميع المسلمين، سواء حصل ذلك عن طريق الحروب مع الأعداء، أو عن طريق السلامة منها، مع أنه العادة في كل تقدم ألا يأتي إلا بعد انتصارات حربية، لكن حصول تقدم من طريق السلم المحض ممكن غير محال، فقال:
- {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايشركون بي شيئا فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
فذكر شروط التمكين والاستخلاف، وهو يتضمن التقدم؛ إذ لا يمكّن في الأرض إلا متقدم، وهي:
- الإيمان، والعمل الصالح.
- عبادة الله وحده لا شريك له، وانتفاء الكفر.
فذكر اثنين مما سبق، ولم يذكر الزهد؛ لأن معرفة كونه شرطا، جاء من النظر في حال المنتصرين، فكانوا جميعا على حال واحدة من الزهد. ولم يذكر إعداد القوة؛ لأنها مذكورة في آيات أخرى:
- {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..}.
وقد يكون عدم ذكره بسبب أن التمكين والاستخلاف في الآية، لم يكن نتيجة قتال وحرب، بل ظاهره يحتمل أن يكون من طريق السلم.
ولم يذكر كذلك الأسباب المادية للبناء والتقدم، وهو عمارة الأرض، والسير في مناكبها للكشف عما فيها من خيرات؛ لأن حب البناء مركوز في الفطر، وإنما الآيات تذكر في العادة بما قد يخفى، أو يهمل وينسى، لا ما كان حاضرا في الذهن والواقع، فالناس في سعي مستمر لا يكفون، هذا خلقهم وديدنهم، ومع ذلك فإن النصوص لم تفوت الإشارة – بعض الأحيان – إلى ذلك.
فظهر بهذا سبب الهزيمة، ليس منه: عدم الكفاءة في: العدد، أو العتاد، أو الاقتصاد، أو التنظيم، أو الحضارة، أو الصناعة. بل ضعف الإيمان، وتعظيم الدنيا يضعف الإيمان، وتعظيم الآخرة يقويه.
أساس البناء(1/17)
قال المعترض: هل المعنى ألا نتخذ الأسباب للتقدم الاقتصادي، والصناعي ؟.
والجواب: هذا فهم متعنت. اتخاذ الأسباب في كل شيء مطلوب، وكل ما يحقق للأمة تقدما في: الصناعة، أو الاقتصاد، أو الحرب، أو الحضارة فهو مطلوب.
غير المطلوب، وهو المذموم: محاكاة الذين فقدوا الإيمان - وهم الغرب تحديدا اليوم – في كل ذلك، لنكون صورة مصورة لهم في أنواع التقدم. بما أن ديننا غير دينهم، وكذا شريعتنا، فتبعاً لهما يجب أن تختلف أهدافنا، ووسائلنا، وحدودنا، وضوابطنا.
وأبرز خلاف بيننا وبينهم في التقدم: أن تقدمنا ينبني على تعظيم الآخرة، وتقدمهم ينبني على تعظيم الدنيا. فيتقدمون لأجل الدنيا، ونحن نتقدم لأجل الآخرة. وفارق الهدفين نوعي مؤثر في نوعية التقدم:
في التقدم المبني على تعظيم الدنيا مغالاة وإفراط كبير في اتخاذ المتاع المادي، بما يوصل إلى الترف (لم يأت في القرآن إلا في معرض الذم) والبذخ، والفجور، والعدوان، وسلب الناس أقواتهم وكرامتهم، هو يصل باختصار إلى: عبادة الدنيا. فلا يقف حاجز أمام استحداث كافة أنواع الفجور، والبذخ، والترف، والأدوات الضارة، والإجرامية.
- من شواهق كشواهق عاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، بما يوحي بالخلود.
- والتطفيف في المكيال والميزان، بما يفقر الناس، كما حصل أخيرا في الأزمة المالية العالمية، وإفلاس بنوك ودول وأفراد في العالم، عدا جلبه النظام الرأسمالي منذ نشأ من فقر لأكثر من نصف العالم.
- وإنتاج أسلحة العدوان الآثمة، التي لا تبقي ولا تذر، وما ينفق عليها.
- وملاهي وملاعب لا تقدم للإنسان أي تقدم علمي، ولا اقتصادي، بل ترفيه على حساب الفقر ومعالجة الأمراض ومشاكل أخرى.(1/18)
وفي التقدم المبني على تعظيم الآخرة حدود لا تتخطى، تقوم لخدمة الإنسان أولاً، بكفايته وأمنه، قبل لهوه وملاعبه، يكفيه مشكلة القوت والسكن، ويصون كرامته عن المسألة، ويقف بالرفاهية والبذخ عند حد، ولا يقبل بما هو محرم وضار، ولا بما يشير إلى نسيان الآخرة، أو يفضي إلى ذلك.
ومن أراد تعظيم الآخرة، من خلال تعظيم الدنيا، فقد أتى بمعادلة محالة، فإن الله تعالى لم يجعل طريق تعظيم الآخرة بتعظيم الدنيا، بل جعله بازدراء الدنيا، فمن رام ذلك فأحد أمرين:
- أما أن يهوّن وينزل من مقام الآخرة، فيكون كمن يجعل الآخرة مطيته إلى الدنيا.
- أو يكتشف بعد لأي وعنت أنها عملية مستحيلة، ويكون حينئذ من أهل الحظ العظيم، أن نجاه الله من فتنة عمياء، كادت تقصف به بعيدا عن طريق الإيمان.
إن الدولة المسلمة تتحمل تنمية اقتصاد الأمة وتكوين ثرواتها، لتكون عونا للمسلمين في حياة كريمة، وقوة على دعوتهم الناس إلى الإيمان بالله تعالى.
وعليها أن تضع الضوابط التي تجعل من قوة الاقتصاد هدفا لتعظيم الآخرة لا الدنيا، أما الدنيا فتخدم بما يحقق كفاية الإنسان وأمنه، فلا تتركه عالة يتكفف الناس.
فعدم تعظيم الدنيا لا يلزم عنه إهمالها. كلا، هذا فهم خاطئ، عدم التعظيم يعني:
عدم المبالغة في العناية بها..
يعني ألا تكون هدفا بذاتها..
ألا تكون في قلوبنا تتصرف بنا، بل بأيدينا نحن نتصرف بها.
- قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) [البخاري/الجهاد/ الحراسة في الغزو في سبيل الله].
هكذا هو وصف معظم الدنيا..
أساس الدعوة
قال القائل: بأي شيء ندعو إلى الإسلام: بتعظيم الآخرة، أم الدنيا ؟.(1/19)
الجواب: ندعوهم إلى الإسلام بالتزام مبادئ الإسلام، وأخلاق الإسلام، من: صدق، ووفاء، وإخلاص، وإتقان، وعون الملهوف، والنظافة والترتيب، والنظام، واحترام الناس، والشفقة والرحمة بالناس جميعا، مهما اختلفت دياناتهم أو أجناسهم.
ندعوهم بثقتنا بالإسلام، ويقيننا بالإيمان، والعزة والقوة في الحق، والجهر به والصدع.
ندعوهم بالمبادئ الإيمانية والأخلاقية، قبل أن التفوق المادي، فيما لو تفوقنا. فالتفوق المادي لا يجدي كثيرا في دعوتهم؛ لأن عندهم منه وزيادة، ومهما صنعنا فلن نبلغ تفوقهم؛ لأننا مقيدون، وهم منفلتون، والمنفلت يأتي بما لا يأتي به المقيد.
فكيف نطمع أن نهديهم بشيء، هم فيه أحسن منا، ولا يلزم أن نكون أحسن منهم فيه؛ في الصناعة والاقتصاد، يكفي أن نتقدم فيهما بما يسد حاجتنا، فلا يتركنا محتاجين لغيرنا، بيننا عالة معوزون. يكفينا من التقدم الصناعي والاقتصادي ما يردع عنا، ويصون ديارنا، وأعراضنا، وأموالنا، هذا يكفينا؛ فلدينا مهمة عظمى، هي بناء الآخرة، بإصلاح أنفسنا، واستصلاح غيرنا، ودعوة العالمين إلى عبادة رب العالمين وحده، فلو استفرغنا جهدنا في بناء الدنيا، فما يبقى للآخرة.
والصحابة دعوا فارس والروم بما ليس عندهم، بالإيمان بالله واليوم الآخر، ولا سبيل لنا إلا ذاك، أن ندعوهم بما هم فقراء فيه، لا بما هم أغنياء فيه. هم فارغون روحيا، علينا أن نملأ أرواحهم بالإيمان.. متخبطون فكريا، علينا أن نهديهم بإذن الله.
ميدان الروح والفكر هما فيهما ضائعون محتارون، ونحن فيهما نملك مصادر الهداية والتوفيق.
وميدان المادة هم فيه أسياد وكهنة، ونحن مهما صنعنا لن نكون كمثلهم، نسخة مطابقة.
فالعقل والمنطق يقول: نعطيهم ما عندنا، مما اختصصنا به.(1/20)
ومن عدم البصيرة، أن نترك هذه الغنيمة، والطريق المفتوح، لنجتهد في فتح طرق مغلقة، أمامنا فيها عوائق جمة، تعوقنا أن نكون مثلهم في التقدم المادي، لما سبق، أنهم منفلتون، والمنفلت يفعل ما لا يفعل المقيد.
هذا لا يلزم عنه ألا نتقدم، وألا نبني.. فهذا قد فرغنا من تقريره.
* ... * ... *
الخاتمة: 1 0,0
- نسبة الواحد إلى المائة تساوي: واحدا بالمائة ( 1(100= 01, ).
- نسبة الواحد إلى الألف تساوي: واحدا بالألف. (1(1000= 001, )
- والواحد إلى المليون يساوي: واحدا بالمليون. (1(1000000= 000001, )
- فإذا كان مليارا: فواحدا بالمليار. (1(1000000000= 000000001, )
وهكذا.. وهكذا.. بلا نهاية ؟!!.
فما يعني هذا ؟!.
وما فائدة هذه المقايسة، واستخراج هذه النسب ؟.
يقال: ما الملاحظ في كل مرة يزداد فيها أحد الرقمين مقابل الآخر ؟.
الجواب: تعاظم هذا، مقابله تضاؤل هذا !!.
وبما أن النظام العددي ليس له نهاية؛ فإن الرقم المتزايد لن يقف عند رقم، ولن يُحدّ بحدّ. وذلك يعني: تعاظمه بلا حدّ ..!!.
وبما أن العدد الجامد عند حدّ ( 1 ) سيقف عند حدّه، من غير تجاوز. فالنتيجة: تضاؤله أمام هذا المتزايد، ليصل إلى درجة: التلاشي، والفناء، والاضمحلال. كأنه لم يكن ..!!.
* ... * ... *
الدنيا في المثال، كالرقم الجامد على حدّ ( 1 )، والآخرة كالرقم المتزايد بلا حدّ ..!!.
- فالدنيا لها بداية، ولها نهاية. كالرقم الجامد: بدايته: من بعد نهاية الرقم السابق له. ونهايته: استكمال أجزائه إلى ما قبل بداية الذي يليه. مثلاً: الواحد (1). يبدأ بعد (0) من: 1, - 2, - 3, - 4, - 5, - 6, - 7, - 8, - 9, - لينتهي عند: (1).
- فأما الآخرة فلها بداية، ما لها نهاية. كالرقم المتزايد: 100(1000(000 000 1( .. إلخ .
* ... * ... *
بعد ذلك:
- صدق القائل: الدنيا فانية، والآخرة باقية.(1/21)
فناؤها ليس في انقضاء المدة فحسب، فهذا أحد معاني الفناء. بل هي بمدتها وعمرها متضائلة، متصاغرة، ما دامت قرينتها الآخرة متزايدة، متعاظمة، حتى تصل إلى حالة من الصغر، يوازي الفناء !.
- وصدق القائل: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.
فالدنيا كحلم نائم، رأى ما يحب وما يكره، فبينا هو كذلك، إذ استيقظ من نومه.. نسبة الحلم إلى اليقظة شيء لا يذكر: ثوان إزاء سنون وعقود.
ومع ذلك: فإن اليقظة لها حدّ تنتهي عنده، والآخرة لا حدّ تقف عليها.
وجاء وصف مدة الدنيا في القرآن الكريم، في الآيات:
- {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}.
- {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار}.
- {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم}.
مقدار اللبث: عشية أو ضحاها..لا، بل ساعة من نهار.. أو ساعة تعارف؛ يلقى المرء فيها آخر، فيتعرف إليه.. يكلمه، ثم ينصرفا.
هذه هي الدنيا ..!!، هذه هي حياة الإنسان فيها:
حلم زائل.. ولحظة فانية.. ولقاء عابر.. حياة قصيرة، قصيرة، قصيرة.. جدا، جدا، جدا..!!.
* ... * ... *
وفي قانون البيع:
- لا يُشترى الواحد بضعفه؛ لأنه بخس.!!.
- ولا يُشترى الواحد بضعفه مائة؛ لأنه خسارة.!!.
- ولا الواحد بضعفه ألفا؛ لأنه غشّ.!!.
- ولا الواحد بضعفه مليونا؛ لأنه فساد، وقلة تدبير !!.
- ولا بضعفه مليارا؛ لأنه جنون، أو ضلالة !!.
فهكذا هو الذي يشتري الدنيا ( 1 ) بالآخرة ( 000 000 000 1 ( (( 000).
* ... * ... *
وفي القرآن الكريم ثلاثة أصناف من الناس، هم الذين وصفوا بأنهم يشترون الدنيا بالآخرة، وهم: أولا: المنافقون. في قوله تعالى:
- {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}.
ثانيا: اليهود. في قوله تعالى:
- {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون}.
ثالثا: الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنا قليلا. في قوله تعالى:(1/22)
- {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار}.
فهي: حياة دنيا، وضلالة، وعذاب. اشتروها بالآخرة، وبالهدى، وبالمغفرة.
فلا تجارة ربحت.. ولا هداية تحصلت، ولا عذاب تخفف، ولا نصر تحصل، ولا نار عليه صبروا.
وصنف رابع هم: الكافرون. في قوله تعالى:
- {وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة}.
وصنف خامس هم: الذين انشرحت صدورهم بالكفر بعد الإيمان؛ أي بالردة عن دينهم. في قوله:
- {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون}.
هذه الأصناف الخمسة خارجة عن الإسلام، وكلها اتفقت على هذا المبدأ: شراء الدنيا بالآخرة.. استحباب الحياة الدنيا على الآخرة؛ بمعنى تقديمها، وإيثارها.
فصار من خلقها وصفتها، وعوقبوا لأجله بـ:
- حرمان الهداية، وضياع النصر، والطبع على: القلب، والسمع والبصر. والغفلة.. هذه في الدنيا.
- وتشديد العذاب، وقلة الصبر على النار، وخسارة التجارة خسارة كبرى.. وهذه في الآخرة.
فلا يليق بالمسلم أن يتشبه بهم فيما اختصوا به، ونالهم عليهم العذاب، وقد حذر من ذلك، وليس كل تشبه يخرج من الملة، بل منه، ومنه.
فقد يتشبه المسلم بهؤلاء في شيء من الاستحباب للدنيا على الآخرة، ويكون بذلك في خطر أن يصير مثلهم، سواء بسواء، باعتبار أن المعاصي تتمادى، وتتآلف، حتى تتكاثر فتكبر، فينتقل:
- من التشبه في شيء إلى التشبه في كل شيء..
- ومن التشبه في جزء إلى التشبه في الكل..!!.
وبذلك يكون منهم، حقا وحقيقة، وصفا وحكما..
لكن لا تجد مسلما - ظاهرا، وباطنا – متشبها بهم في هذا الخلق تشبها مطلقا..(1/23)
وإلا لم يعد مسلما !!.
* ... * ... *(1/24)