الفصل الأول ولادة الدعوة ولدت الدعوة يوم ولدت العقيدة، وولدت معهما العبادة والأخلاق وقيم المجتمع الفاضل. ونظرة إلى أول سورة نزلت من القرآن الكريم تعطينا هذه الحقيقة الواسعة (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق) العلم، باسم الله أساس لهداية الإنسان في هذه الحياة. يوجد علم مقطوع عن الله، إنه علم لا خير فيه. ويوجد إنسان نابغ أو قاصر مقطوع كذلك عن الله، إنه إنسان لا خير فيه حلق في السماء أو دب على الثرى. وتفجؤنا مع أول بشائر الوحي هذه الحملة على الغنى المطغي، لأن الثراء الفاحش إذا تجهم لواهبه الأعلى ولد الشح والعقوق، ثم جاء رد الفعل هذه الفلسفات المادية الكفور التي ترفض فكرة التملك وتخاصم رب الأرض والسماء. ماذا كان على الغنى لو أنه أخرج حق الله فيما موله وخوله؟ ولكنه كفر صغير حولته الفتن إلى جاهلية موهوبة (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى). ومع التفاتة الوحي الأعلى إلى أثر المال في المجتمع، تجد الحديث مباشرة عن الصلاة أنها العلاقة الوحيدة بين الكائنات وبارئها.
ص _006(1/1)
ومع ذلك فإن الجاهلية عندما تنمو وتستفحل تضيق بالصلاة وتتحدث في صفاقة عن تعطيلها للإنتاج. أي إنتاج؟ إن أسبوع العمل في أرقى دول العالم أربعون ساعة ( 5 × 8 ) يمكن خلالها إعداد القناطير المقنطرة من مطالب السلم والحرب، ولكن الذين لا يحسنون إنتاج شيء طائل يشغبون على الصلاة ويضيعون في السهو واللغو 168 ساعة (7×24) (أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى ) عبد مهتد مستقيم يصلي ويريد جعل الصلاة من معالم المجتمع، يتحرك بها ويشرف، ولكن البطالين الكارهين لله لا يريدون الأرض معابد، انهم يريدونها لأنفسم ومآربهم ملاهى ومساخر. حسب أحدهم من هذه الأرض أن تكفل ضروراته ورفهاته، ولا شيء بعد (أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى). وحديث أول سورة في القرآن عن الله والإنسان والغنى والفقر والصلاة والشهوات حديث يتسم كما ترى بالإيجاز الشديد. إن هذه كلها بواكير عاجلة لها ما بعدها من تفصيل طويل. ومع ذلك فإن الأمر اقتضى زجر أعداء الدعوة، وتخويفهم بما أعد الله لهم يوم اللقاء (كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية) وإذا ألقينا نظرة ثانية على السورة الثانية التي نزلت من هذا الكتاب العزيز (سورة المدثر) وجدنا جملة هذه العناصر مؤتلفة على نسق آخر. العقيدة، والدعوة، ومعالم المجتمع الثابتة، وجهاد النفس، وجهاد الناس، ص _007(1/2)
وتحريك الحياة كلها لتعمل لربها، وتستمد منه وحده وتستعد للقائه أخيراً.... (يا أيها المدثر * قم فأنذر) إنه لا بد من إشعار المخطيء بوخامة عاقبته والطبيب الناجح يذكر لمريضه ما سوف يصيبه إذا بقيت العلة تنخر كيانه، والإنذار مطلوب بقوة إذا كان المجتمع لا يبغي ما يفعل، أو يستحسنه على دمامته، وقد قال تعالى: (وربك فكبر). هذه شارة الرسالة السماوية: تكبير الله، لا تكبير بشر، ولا تكبير وطن، ولا تكبير جنس. (وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر) ظاهر أن هذه التوجيهات كلها، لإحراز الكمال النفسي وإقرار السمو الاجتماعي.. إن الحياة الدينية لا تنهض إلا على هذه الدعائم، والآفة التي تزري بالدين وأهله هى الالتفات المستغرب إلى الصور والرسوم على حساب الحقائق الجليلة. وقد جاء في هذه السورة الثانية ـ مما نزل من الوحي ـ تنبيه إلى أسباب الهلاك العاجل والآجل (كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين) إن أصحاب اليمين رجال كدحوا لله كدحا فلقوه، ومن وراء هذا الكدح إرادة جادة تصلي، وتعطي، وتترفع عن الدنايا، وتتأهب ليوم اللقاء…!! أما أصحاب النار فكيف يصلون لمن ينكرون؟ وكيف يعطون وهم عبيد أنفسهم؟ إنهم قد يرمون ببعض الفضلات للمحتاجين، بيد أن ذلك العطاء القليل لا يغني في الإصلاح الاجتماعي الشامل. ص _008(1/3)
والغريب أن هذه السورة الثانية ذكرت صورة للغنى المطغى حين يستكبر على الحق، ويأبى التمشي مع المنطق السديد (ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا). وعناية أوائل الوحي بالأوضاع الاقتصادية على هذا النحو الواعى له دلالته. والواقع أن الإسلام إذا خالط أمة من الأمم حولها إلى ميدان موار بالحركة واليقظة، مشغول بالبناء والإنشاء، يخاصم العلل المفسدة ويشتبك معها في قتال دائم، ويصادق أسباب النماء والعفة والتقى، ويغرسها بأعماق الجماعة. والإسلام معرفة لله، واستكانة لحكمه، وانسجام مع الكون المسبح بحمده، الهاتف بجلاله ومجده، فلا مكان فى أرض الإسلام- الصحيح- لوثنية دينية أو سياسية، والشعار المهيمن على النفوس والصفوف هو " الله أكبر " يبدأ به الأذان ويختم، وتساس به الجماهير وتشغل، ويختلف الليل والنهار على الأمة الإسلامية وهي تعمل له، أو تستجم لمتابعة العمل. والدعوة الإسلامية دليل هذا كله وحاديه الأوحد. وربما وصف بالدعوة بعض الوعاظ الذين يرققون القلوب، ويذكرون بالخير ويعينون على العبادة. وهذا وصف يصح على ضرب من التجوز فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتخول، أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم، ولكن شأن الدعوة أوسع مكانا وزمانا من هذا النصح المؤثر البليغ.. وربما منحت الدعوة أركانا في برامج الإعلام تطول أو تقصر، وقد يسمى أولئك المتحدثون دعاة على اختلاف الموضوعات التي يطرقونها، وهذا أيضا وصف مجازى للدعوة الإسلامية، فإن التدريس والحوار بعض الجوانب العلمية للرسالة الإسلامية. ص _009(1/4)
أما الإسلام نفسه فدائرته أوسع وأضخم، إنه أجهزة دولة كاملة تشمل التعليم والتشريع، والقضاء والجيش والتوجيه الداخلي والتمثل الخارجى، والهيمنة على كل نشاط مدني ليكون طاقة تتحرك بها دواليب الإسلام في أية ناحية... وإذا كانت الشيوعية فى أرضها تأبى إلا وضع بصماتها على كل شيء فكيف ينتظر من الإسلام ـ وهو دين الأزل والأبد ـ أن يقبع في زاوية من زوايا المجتمع ضاقت أو اتسعت ؟ كلا.. إنه يصب كل شيء في قوالبه ليصوغه وفق مراد الله. والدولة الإسلامية داخل حدودها، وخارج هذه الحدود، تمثل دينها، وتعمل له، وترفع شعاره، وتوالي أو تخاصم من أجله، وكل جهد في الدولة يمثل عملا إسلاميا معينا، ومن جملة هذه الأعمال تتكون شعب الإيمان كلها وفي الشيوعية مثلا. يعتبر عاملا لها من يغزو الفضاء ومن يدرس فلسفة ماركس، كلا الرجلين يسعى فى مجاله إلى غاية واحدة .. كذلك المنتسبون إلى الإسلام وان اختلفت أعمالهم ماديا وعلمياً، إنهم جميعاً يخدمون الدعوة في ميدانها العريض ويقومون بما ترشحهم له مواهبهم أو يقومون بما يكلفون به وفق مصلحة الدعوة العليا. تلك هى رسالتنا الكبرى وأولئك هم رجالها الأصلاء والعمل المعجز الذي قام به محمد صلى الله عليه وسلم أنه كون من عرب الجزيرة جيلا يفقه هذه الرسالة، ويحيا بها ويموت من أجلها. إنه سهل على الفيلسوف الحالم بالإصلاح أن يؤلف كتابا فيه أفكاره، أما تكوين أجهزة نفسية وعقلية واجتماعية تعمل لرسالة معينة كما تعمل النحل في خلاياها لإنتاج العسل فهذا شأن آخر. والرسالة الإسلامية التي بلغها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تمخضت لها جماهير منوعة الهمم والمواهب والملكات، وما كان يمكن أن تنجح لولا أن صاحب الرسالة سكب في أفئدتها من يقينه وتجرده وإخلاصه ما جعلها خلقا آخر. ص _010(1/5)
قال المؤرخون: إن نحو مائة ألف أدوا المناسك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، واستمعوا إليه وهو يذكرهم بالإسلام في خلاصات نابضة ويقول" اللهم قد بلغت.. اللهم اشهد ".. إن هذه الألوف عرفت دينها وقررت فرضه على الزمن... فلما ذهب رسولها إلى الرفيق الأعلى انطلقت وحدها بالرسالة وكأنه معها. إذا لم يكن معها بكيانه فقد كان معها بكتابه وسنته. ومن هنا مضى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من بعده ينشرون التوحيد، ويقيمون العدل، ويحاربون الأوهام والعوج، وتنظر إليهم الشعوب فترى فيهم ناسأ مكنوا في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر... وهكذا استقرت الدعوة الإسلامية على عهد النبوة، ثم بدأت الدعوة طورا آخر على عهد الخلافة الراشدة. *** ص _011
الفصل الثانى شبهة مردودة إذا ذكرت دولة الخلافة ذكرت الحروب الهائلة التي دارت بينها وبين فارس الروم، وهما الدولتان الأوليان في العالم يومئذ. ونريد أن نؤكد حقيقة علمية وتاريخية يحاول البعض المراء فيها، وهي أن الدعوة الإسلامية تقوم على الإقناع الحر، ولا مجال فيها للإكراه والرغم. ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) ( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) ( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر ) ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) وهناك نحو مائة آية في هذا المعنى تجعل الإيمان نتيجة فكر مختار ومشيئة مطلقة... سيقول البعض: كان ذلك في إبان ضعف المسلمين بمكة، فلما تبدلت الحال، وتماسك في أيديهم السيف، حاكموا الناس إليه، إذ نقول: بيننا وبينكم ما نزل من القرآن في المدينة، إنه يسير في ذات الاتجاه المكي، ويرفض الإكراه طريقا لنشر الدعوة ويؤكد مسئولية الإرادة البشرية فيما تأخذ وتدع. ص _012(1/6)
وما من سورة نزلت في المدينة إلا أبرزت هذه الحقيقة إبرازا ساطعا. في سورة آل عمران بعد ما قال: ( إن الدين عند الله الإسلام) قال: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) ) وفي سورة المائدة:( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) ولا نطيل بسرد الشواهد فهي كثيرة يقوي بعضها بعضا ويؤكده. إن المجتمع الذي بنته الرسالة الخاتمة كان بدعا من مجتمعات العالم كله في احترامه لحرية التدين وتوقيره الأمان لمن يخالف في الدين نعم كان بدعا لم تعرف الدنيا نظيرا له …! وأين كان أو يكون المجتمع الذى يعتبر المخالف في الدين مضمونا في " الذمة " يُسئل كل مسلم عن حفظه ورعايته وهو الذي لم يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم أو يدخل فى رسالته؟ ومع ذلك فإن فيضاً من مشاعر الخسة والعقوق ملأ آلاف الناس ضد هذا الدين حتى كأن السماحة جريمة والشرف ذنب !! من توفير حرية التدين، واستبقاء المخالفين في الدين ما شاءوا قول الله تعالى لنبيه فى مكة (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ). وقوله : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ص _013(1/7)
وقوله فى المدينة جل شأنه ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) وأسلوب الإسلام في عرض نفسه سائغ قريب، إنه يقول لك: عقائدي ومعالمي كذا وكذا.. فهل تؤمن بها ؟ فإن قبلت كنت من أتباعه وأخاً لكل مسلم، وإن رفضت قال لك: هل ستعترض طريقي وأنا أعرض نفسي؟ أو هل ستعترض طريق من آمن بي فترده عني؟ فإن قلت: لا علاقة لي بك ولست مهتما بمن دخل فيك أو صد عنك قال: أنت حر في كفرك ولن أطلبك بشيء وإن كنت أتمنى لك الهدى.. أما إذا قلت: لن أسمح لك بالكلام، ولن أترن من صدقك يتبعك، فهنا يقول لك الإسلام: لقد لقحت الحرب بيني وبينك إنها حرب من جهة الإسلام شريفة عادلة لأنها حرب ضد الطغيان، واستغلال القوة للصد عن سبيل الله، ومن الذي يلوم الإسلام على هذا الموقف؟ اعتماد الإسلام الأول على قوته العقلية ونفاسته الروحية، وهو واثق من أن النفوس ستنساق إليه انسياقا بدوافع من فطرتها السليمة، فما مكان العصا حيث تنهض الرغبة الطبيعية بكل شيء..؟ ولنفرض أن بعض الناس يتردد اليوم أو غدا في قبول الإسلام، إنه سيؤثره غدا أو بعد غد ما دامت الحرية موطدة الأركان، وما دامت الفتنة مقطوعة ممنوعة. إن كل قارئ للقرآن يشعر أن التوحيد خير من الإلحاد أو الشرك. وماذا بعد الإيمان بالله الواحد؟ الصلاح. ( فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ) ص _014(1/8)
هل الفسق خير من الصلاح؟ إنه في أية بيئة طبيعية يتجه الناس إلى الخير ويفضلون التقوى على الفجور، والصلاح على الطلاح، ولا حاجة إلى العصابتة.. كل ما يطلبه الإسلام بيئة طبيعية خالية من الجبروت والظلم. وإذا كان الظلم والجبروت لا يزولان إلا بالسيف فمرحبا به... ومع وضوح المنهج الإسلامي في الدعوة فإن دخاناً كثيفا انطلق في جوه وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك، وإنما نلوم نفرا من الناس لبس أزياء العلماء وهم سوقة، وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد لحرب الهجوم وينشر دعوته بالسيف...! وتتبعت كلام هؤلاء فإذا أحدهم يكتب تدليلا على وجهة نظره أن الإسلام حارب في بدر معتديا، وأنه شن الهجوم على قافلة المشركين، لأنهم مشركون مستباحون!! قلت: هذا هو كلام الإسرائيليين في شتم الفدائيين الفلسطينيين، لقد اعتبر الوجود اليهودي مشروعا، واعتبر تشريد العرب أمرا لا شائبة فيه، واعتبرت مناوشات المحروبين المطرودين من وطنهم ودورهم عدوانا وهجوما كيف يصف عاقل اعتراض المسلمين أهل مكة بأنه حرب هجومية، ويسكت بغباء عن أن مكة حظرت الإسلام في أرضها، وطردت أهله، واعتقلت بعد ذلك كل من يدخل فيه، هل حرب هؤلاء عدوان؟ وكتب مسكين آخر يقول: إن الحرب عندنا هجومية، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون أي باغتهم دون دعوة، ودون انتظار إيمان، ودون إتاحة أية فرصة للنجاة. !! وهذا كذب قبيح، وجهل غليظ، فإن الرسول الكريم حارب القوم بعد ما أعدوا له وتهيأوا للنيل منه.. وكتب مغفل آخر يزعم أن الحرب ضد هوازن ص _015(1/9)
وثقيف كانت هجومية، وما فكر في قراءة الجموع التي حشدها زعيم المشركين، والقوى التي دبرها لضرب الإسلام بعد فتح مكة. إن هناك ناساً يغلب عليهم القصور العقلي، ولكن لديهم جراءة على إرسال الأحكام البلهاء بثقة العباقرة وقد أصاب الإسلام شر كبير من هؤلاء المنتسبين إليه الجاهلين به وبتاريخه، فقد جروا عليه تهما منكرة، وصدق فيهم قول القائل: ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه. وشيء آخر له أثره العميق، أنهم شلوا أجهزة الدعوة الصحيحة، وتكاسلوا عن إبراز محاسن الإسلام للأمم التي تجهل الدعوة، وتحيا في نطاق مواريثها الخرافية، وقد تفاحش هذا الأثر على مر العصور... إننا عندما كتبنا " فقه السيرة " اجتهدنا في كشف العلل القريبة والبعيدة للجهاد الدامي الذي فرض على سلفنا الصالح، خصوصا ما اتصل بمقاتلة الروم النصارى، فإن دولتهم العجوز مكرت بالإسلام، وكادت لدعاته شمالي الجزيرة وفتكت ببعض رسله، حتى كاد إرهابها السياسي والعسكري يقف سيره.. فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدا من مواجهة التحدي، وكانت معارك مؤتة وذات السلاسل، وتبوك، وكان إعداد جيش أسامة.. إن هذا القتال لم يكن هجوماً على الغير، بل كان تأمينا للدعوة والمستجيبين لها، ومنعا لإمبراطورية مردت على الفتنة من أن تستغل تفوقها العسكري في إخراس الآخرين، ومنع تقدمهم الفكري. والنصرانية دين يفصل العقيدة عن المنطق العقلي ، ويعد العلم والإيمان خصمين متشاكسين. وقد راع الدولة التي تحمي النصرانية، وتمثلها على الصعيد الدولي، أن الإسلام انتشر بسرعة مذهلة، وأن الوثنية واليهودية تهاوتا أمامه، وأن النصرانية فى الجنوب هادنته وقبلت مصالحته... ص _016(1/10)
فماذا تصنع حتى تهد هذا الكيان الناشئ لجأت إلى السيف فلم يجبن المسلمون عن امتشاقه دفاعا عن إيمانهم وحقه في البقاء، وحق الشعوب أن تدخله وافرة مطمئنة. هدف القتال كان كسر السلطات المستبدة وتقليم أظافرها، وما صنعه السلف مع النصارى الروم هو ما صنعوه مع دولة الفرس. لقد وصل إلى كسرى كتاب يدعوه إلى الإسلام، فمزقه، وبلغ به الصلف أن أصدر أمرأ بالقبض على النبى الذي أرسله فهل هنا مسلك رجل يؤمن بالحرية الدينية ويفتح لها أبواب البلاد؟ وأين مجال المنطق مع مثل هذا المغرور؟ إن الناس ينسون ـ وما أكثر ما ينسون ـ ضراوة القوى التي توارثت أكل الشعوب واحتقار رغباتها. في عصرنا هذا استقرت نظم تقول: " لا إله، والحياة مادة " كيف استقرت؟ إن حمامات الدم هى التي أرست قواعدها، كلما نشأت معارضة عولجت يالاستئصال. والغريب أن ذلك كله يتم باسم الشعوب حتى أيقنا أنه كلما تردد هذا الاسم بكثرة عرفنا أنه عنوان لتسلط فرد آثم أو عصابة كذوب.. لماذا يكون لهذه الأنظمة وقار؟ وكيف يوحد من يبكي عليها إذا سقطت في صراع؟ لكن المستشرقين والمبشرين يتباكون على هزائم الروم والفرس قديما، ويحاولون كيل التهم السمجة للرجال الكبار الذين أسدوا هذا المعروف للإنسانية..!! لقد كان العمل الأهم لدولة الخلافة هو توفير البيئة الطبيعية للدعوة، فاشتبكت بداهة مع الاستعمار العالمي الماثل في دولتي الروم والفرس، وعندما سقط هذا الاستعمار وانحسرت ظلاله أخذت الشعوب المغلوبة على أمرها تدخل ص _017(1/11)
في الإسلام زرافات ووحداناً، وانعقد وفاؤها للدين الذي اختارته، فهي بعد أربعة عشر قرنا تستمسك به، وتقاوم الفتن الخبيثة التي تبغي صرفها عنه. ماذا كان سيقع لو أن حفنة من الدعاة تسللت إلى وادي النيل ونشرت التوحيد كانت الدولة ستحصد هذه الجماعة المؤمنة ثم تستقر الأوضاع كما استقرت عندما تمرد المجريون على الجهاز الأحمر الحاكم فتولت الدبابات الروسية حل الإشكال، واستقرت الأوضاع على أشلاء ألوف من المعارضين المدحورين ! لم يكن هناك خيار أمام دولة الخلافة في مهاجمة السلطات الرومية والفارسية، حتى إذا أجهزت عليها تركت للجماهير حرية البقاء على مواريثها، أو الدخول دون قلق في الدين الجديد. لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا وهناك شبهة خفيفة ولكن الإجابة عنها مهمة جدا، فقد ذكر البعض حديث: " أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وظاهر الحديث أن الإسلام دين هجوم لنشر التوحيد. ونقول: هذا الظاهر باطل، وسبب الخطأ في فهم الحديث كلمة " الناس " التي وردت فيه، إنها لأول وهلة تعني العالم أجمع، أي أمرت أن أقاتل أهل الأرض حتى يوحدوا الله.. ولم يقل بذلك مسلم في الأولين والآخرين.. فقد أجمع المفسرون على أن أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ لا تعنيهم كلمة " الناس " هنا، لماذا؟.. لأن القرآن الكريم جعل للقتال مع أهل الكتاب الذين وقعوا معه فى حرب، غاية أخرى غير النطق بكلمة التوحيد، قال تعالى: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم ) ص _018(1/12)
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) الغاية هنا إعطاء الجزية مع بقائهم على دينهم، ونلاحظ هنا من ترادف الأوصاف التي سبقت في ذم أهل الكتاب أنهم كتابيون خداعون أشرار، صلتهم بالله مزورة وعلاقتهم بالحرام مقررة، وعدوانهم على الإسلام محذور فوجب حسم مكرهم، وإبطال كيدهم. واكتفى الإسلام منهم أن يتجردوا من السلاح، وأن يؤدوا بعد ضريبة الدفاع عنهم مع توفير الحرية الدينية لهم. ومعنى هذا يقينا أنهم لا صلة لهم بحديث: " أمرتُ أن أقاتل الناس " وأن كلمة " الناس " في الحديث تعني الوثنيين العرب وحدهم.. ويبقى الاعتراض قائما في دائرة أضيق، لماذا يقاتل الإسلام عبدة الأصنام حتى يؤمنوا؟.. فأين حرية التدين؟ والجواب: أن عبدة الأصنام وغيرهم لا يمكن حرمانهم من حرية التدين، وقد قال الله تعالى لهؤلاء الوثنيين ـ وهم أول من واجه الدعوة ـ ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) أما الحديث فهو يتناول ناسا معينين، نقضوا كل عهد، ورفضوا كل حرية، وكرسوا جهودهم وثرواتهم للقضاء على الإسلام ورجاله أعطاهم الإسلام حق الحياة ولم يعطوه إلا حق الموت، وكم بقوا على ذلك؟ اثنين وعشرين عاما استغلوا فيها قواهم المادية والأدبية لضرب الإسلام ص _019(1/13)
وإرهاب أهله، حتى نزل قوله تعالى في سورة براءة: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ) فبعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الدعوة، وإصرار هؤلاء على العدوان والكيد، أعطوا مهلة أربعة أشهر يرون فيها رأيهم، فإما تركوا البلاد بكفرهم، وإما بقوا مسلمين.. وهذا التخيير هو للمشركين المعروفين بالغدر والخيانة، أما المشركون الذين يحترمون كلمتهم فلا عدوان عليهم ولا تضييق. " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين " ومن هذا البيان يتضح أن حديث: " أمرت أن أقاتل الناس.. " هو من قبيل العموم الذي أريد به الخصوص، وأنه في طائفة انتهت مع التاريخ الأول، لأن عبدة الأصنام من غير جزيرة العرب يمكن أن يعاملوا كاليهود والنصارى، وذلك ما حدث فعلا مع مجوس فارس إذ جاء في الحديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب.. " إن الرسول العربي المحمد أوتى جوامع الكلم وروائع البيان، كما أوتي من الرحمة والحكمة ما يؤلف النافر ويلين القساة. وحزنه على الشاردين والعصاة حزن الأب على أولاده الذين هبطوا وهو يود لهم العلا، أو زاغوا وهو يناشدهم كى يلزموا الصراط المستقيم. وهو أبعد داع في الأولين والأخرين عن الاستنثار والاستكثار، ما يريد إلا الخير للناس: ص _020(1/14)
( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ) فإذا انصرف الناس عنه بعد ذلك فما يصنع إلا أن يرثى لهم؟ فإذا ارتدوا إليه يريدون وأد دعوته، وفض أتباعه، فما يصنع إلا أن يحاربهم؟ وهى أعدل حرب في العالمين. فإذا انتصر عليهم، وهادنهم ، واستبقى لهم حق الحياة فوجدهم يلتوون به ويبيتون له، ويأتمرون به ليقتلوه، ومن معه، فماذا يصنع إلا أن يقول لهم: ابتعدوا بشروركم عن هذه الأرض، فمن بقى فليس أمامه إلا القتل، أو يؤمن بالله ويترك الأصنام بحق لا بخداع إنه نبي المرحمة ونبي الملحمة، والقتال بعد هذا كله لا يصفه بأنه قتال هجوم إلا كذوب.. في هذا الجو الذي وصفته سورة براءة، ومع قوم لا يستحقون ذزة من عطف، ومع أمثالهم من الجبارين والغدارين إلى يوم القيامة جاء الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وجاء كذلك الحديث: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى... ". إن حديث السيف هذا وآية السيف في سورة براءة ليسا لبيان المنهج فى عرض الدعوة، فإن هذا العرض شرح في مئات أخرى من الآيات والأحاديث.. إنما هما لبيان المنهج في تأمين الدعوة عندما يريد الطغاة إطفاء منارها وتعطيل مسارها. قالوا: غزوت ورسل الله ما بعثوا بقتل نفس ولا جاءوا بسفك دم ص _021(1/15)
جهل وتضليل أحلام وسفسطة غزوت بالسيف بعد الغزو بالقلم والجهل إن تلقه بالحلم ضقت به ذرعا وإن تلقه بالجهل ينحسم *** : الأوضاع الداخلية على عهد الحلافة الراشدة للأوضاع الداخلية أثر بعيد في نجاح الدعوة واجتذاب الآخرين، ويمكن القول بإطلاق أن السلف الأول كانوا أجدر أهل الأرض بالتمكين في الأرض، واعتلاء مكان الصدارة. كانت " المدينة " ـ عاصمة الإسلام ـ تصدر المثل الرفيعة لأقطار الدنيا، على حين كانت الجماهير في روما أو المدائن لا تعي شيئا. والسر في ذلك استقرار الثقافة القرآنية الهادية، وهى ثقافة تفتق الأذهان، وتنضج الملكات، وتنمى الفضائل، وتضبط السلوك، ثم هى تحترم العقل ومنطقه، وتستضيء به في تجاربها وأحكامها.. وعندما برزت هذه الثقافة أخذت الوثنيات تذبل والجاهليات تتقهقر، وما كانت التثاليث لتثبت أمام بداهة التوحيد، وما كان تراث يونان في الإلهيات ليذكر في مجال الإيمان الجاد. إن أساطير العشق بين أعضاء الأسرة الإلهية فى جبل " أوليمب " كانت شيئا حقير أحقا. ثم إن حقوق الأفراد والشعوب كانت دروسا تلقي وتطبق حيث استقر الإسلام، وما كانت القسطنطينية ولا المدن التي انتظمت في فلكها تدري من ذلك قليلا ولا كثيرا.. إن الرجال الذين حملوا الإسلام لشعوب العالم لم يحملوا إليها خيالات وأماني، بل كانوا من حيث جاءوا وإلى حيث ذهبوا نماذج حية لرسالتهم.. وكانت دولة الخلافة في المدينة المنورة المدد الموصل لهذا التيار المتجدد في النظم والأخلاق والقيم الشامخة. ص _022(1/16)
وما أحسب الدنيا عرفت من قبل ولا من بعد أعدل ولا أنبل ولا أشرف من الرجال الأربعة الذين حكموا الأمة الإسلامية في هذه الدولة القصيرة الأمد- دولة الخلافة الراشدة. وهناك ملاحظات يقف أمامها مؤرخ الدعوة طويلا ليستفيد منها عبرا بالغة: لم يقدر رجال الدولة شرور الأحزاب المدحورة والجبهات المنتهية بل مضوا في طريقهم يدعون، ويحكمون، دون محاذرة. نعم كانت هناك غفلة عما يمكن أن تصنعه فلول اليهودية والمجوسية بعد انهيار دولتهما. ومقتل الخلفاء الثلاثة ـ عمر، وعثمان، وعلى ـ شاهد صدق على أن مؤامرات الأعداء تمت فى جو غريب من الاسترسال والأمان. إن المعارضين للإسلام كثيرا ما يتركون الميدان المكشوف الواضح، ويلجأون إلى الخفاء ليدبروا من وراء ستار أفعالا هائلة، وعلى الأمة الإسلامية أن تغلغل البصر في مواقف أعدائها، فقد لدغت من هذا الجحر مرة بعد أخرى. 2- إن الحريات الفضفاضة التي مرحت فيها الجماهير ـ على عهد الخلافة ـ كانت فوق المستوى العام للناس، أو بتعبير آخر لم تلق التقدير المناسب، ففي ظل الفراعنة والقياصرة كان بحسب الفرد أن يظفر بحقه المادي والأدبي ـ إن ظفر به ـ ويحمد الظروف على ذلك. لكن العامة مع الخلفاء الراشدين كانوا ينقدون ويراجعون، ولا حرج في ذلك مع التزام الحدود المعقولة أما أن تجيء وفود مع الرعاع لتقتل الخليفة الثالث، وهو لم يفعل شيئا يهدر به دمه، أو أن يقصد فدم إلى الخليفة الرابع ليقتله، وهو خارج ليصلي الفجر فهذا وذاك شيء يغلب كل منطق . ص _023(1/17)
ومهما كفل الإسلام للناس من حرية النقد، فإن توفير الحاكم العادل دين، والحفاظ عليه حفاظ على الأمة نفسها.. وقد دفعت الجماهير ثمن ذلك فى العهد الأموي على ما سنشرح. 3- الخلاف في تحديد حقيقة، أو تقدير مصلحة، أمر عادي، ولا ينبغي التطير منه لكن هذا الخلاف يتحول إلى شيء آخر عندما تنضم إليه عصبية قبلية أو مصلحة فردية. والدم العربي معروف بحدته، ونزعته القبلية، وقد ثارت في آخريات عهد الخلافة فتن من هذا النوع كان لها أثر وخيم على الإسلام ودولته الأولى. وعلى أية حال.. فإن دولة الخلافة الراشدة نجحت نجاحا تاما في إسقاط الطواغيت التي كانت تسوس العالم، واستطاعت أن تُقيم للإسلام حكومة مهيبة، تعد من الناحية السياسية الحكومة الأولى في العالم يومئذ. لقد لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى والإسلام لم يتخط حدود الجزيرة العربية، بيد أن الرجال الذين رباهم، والذين يعرفون عالمية الدعوة، شرقوا بها وغربوا وذللوا عقبات كان البصر العادي يحكم باستحالة تذليلها.. ذهبت دولة الفرس وشرع المسلمون يتحسسون ما وراءها شرقا.. وسقطت راية الروم عن آسيا الصغرى ووادى النيل، ولكن أملاك الروم ممتدة حتى شواطئ الأطلسي غربا، ولها فى الشمال أعماق لابد من سبرها.... وإذا كانت المجوسية قد أمحت مع غروب شمس الأكاسرة فإن الصليبية لها جذور غائرة في بقاع شتى، وأباطرتها في القسطنطينية لا تنقطع لهم حركة. وقد آل إلى الدولة الأموية هذا الميراث كله فماذا صنعت به؟ ص _024(1/18)
الفصل الثالث الدعوة فى ظل الدولة الأموية هناك رأي بأن الأمويين ليسوا نماذج مبرأة، ولا معجبة، للرسالة الإسلامية حاشا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، الذي لقب بالخليفة الخامس، كأنه بقية الراشدين... ونحن نرى أن هذا القول صحيح من جانب واحد، هو المتصل بأشخاص الحاكمين، فقد كانوا أقل تقي، ومعرفة، وتبتلاً إلى الله، من الخلفاء الأربعة الكبار، أما غاية الحكم، ونشاطه، وشعاره، فلا خلاف بين الدولتين، إذ أن القادة الجدد مضوا بالإسلام في طريقه، ما رفعوا إلا رايته، ولا ارتضوا إلا كتابه.. وقد قاتلوا في الميادين نفسها التي قاتلت فيها الخلافة السابقة، وعمل معهم جند كثيف من أهل التجرد والإخلاص الذين يبتغون الآخرة، ولا تهمهم مناصبهم في الدنيا.. وفي ظل الأمويين أخذت الأجهزة الدوارة في الكيان الإسلامي تعمل عملها في تنشئة أجيال مسلمة لحما ودما، وهو عمل لا ينكره إلا قاصر، فإن سقوط الروم والفرس أعقبه وجود كتل من الشباب والأولاد والأحفاد، تلقفهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بالتعليم المنظم والتهذيب الذكي، فلم تمض خمسون سنة على اندياح موجة الفتح حتى كانت المدن والقرى مليئة بالمساجد والمدارس، وحتى كانت شعائر الإسلام بارزة، وتقاليده موطده، وأحكامه مطبقة، في الشام والعراق ومصر واليمن وأقطار أخرى كثيرة. بل إن غير العرب سبق العرب أنفسهم فى هذه الميادين فأصبح أئمة الأمصار ورواد الفقه واللغة والحديث من الموالى.. وذلك نجاح للدعوة الإسلامية جدير ص _025(1/19)
بالتنويه، فإن وصول أبناء المستعمرات المحررة إلى هذه المكانة الأدبية العالية شيء مثيرحقاً. أو ليس غريبأ أن يدخل العربى المسلم إلى أحد المساجد فإذا الذي يؤمه واحد من هؤلاء؟ وإذا الذي يفسر له القرآن، أو يضبط له قواعد العربية، أو يروى له عيون الأدب واحد من هؤلاء؟.. ذلك وبنو أمية لا يملكون إلا التسليم بالأمر الواقع ..!! وكما نجحت الدعوة الإسلامية في إقامة كيان ديني ذابت فيه الفوارق يين الأجناس، فإن الجهاد الحربي مضى على نهجه الأول فاستأنف المسلمون القتال ضد الروم، وتابعوا مسيرتهم في الشمال الإفريقي ـ بعد تحرير وادي النيل ـ حتى بلغوا شواطئ الأطلسي.. ثم استداروا إلى الجزر التي تنتشر في البحر الأبيض وأخذوا يحررونها واحدة بعد الأخرى. وكان لهم أمل في إسقاط عاصمة الروم نفسها، فحاصروا القسطنطينية ردحا من الزمن ولكنها استعصت عليهم، فما دخلها المسلمون إلا بعد ذلك بستة قرون تقريبا، لم تخمد خلالها نار الحرب بين التوحيد والتثليث. إلا أن المسلمين الأيقاظ استغلوا الأحوال السائدة في أسبانيا والفرقة الاجتماعية التي قسمت أهلها فدخلوا الأندلس، وضموه إلى أرض الإسلام، ذلك في الغرب، أما فى الشرق فإن المسلمين ولوا وجوههم شطر الصين والهند، ووقفوا على حدود عوالم يموج بعضها في بعض، ويظلها ليل دامس من الخرافات والترهات، وعبادة الحيوان والجماد. وكان المسلمون قادرين أن يبلغوا شواطئ المحيط الهادى شرقا، وبحر المانش والبلطيق غربا، ولكن الجهاز الحاكم في دمشق كان دون المستوى المرموق، فلم يحسن الإفادة من العبقريات التي تمهدت له، بل شل همتها وأبطل. حركتها، حتى قال القاسم بن محمد الذي كان يريد فتح شرق آسيا كله: أضاعوني وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر!!! * ** ص _026(1/20)
* الدعوة وأحوال الدولة الداخلية: قلنا: إن أشخاص الحاكمين الأمويين دون مستوى دولة الخلافة الراشدة وقد كانت لذلك آثار يمكن تسجيلها في الملاحظات الآتية: 1- رفض الاعتراف بهذا النظام حزبان كبيران أولهما: الشيعة الذين يعتقدون أن الخلافة حق طبيعي مقرر لعلى وأولاده، وأن من عداهم مغتصب، ليس له حق الطاعة، والثاني: الخوارج الذين يتعقدون أن الخلافة حق لكل مسلم كفء مهما كان جنسه، إذا اختير لها وقام بعبئها.. وقد عانت الدولة من الحزبين كليهما، لكن الجمهرة الكبيرة من المسلمين رضيت بالأمر الواقع ورأت أن تواصل خدمة الإسلام، في ظل النظام الأموي وإن كان في النفس منه شيء…!! 2- وضعت على الحريات العامة قيود لم تعرف على عهد الخلافة الراشد- لقد استكثر رجل أن يقول مسلم لأمير المؤمنين عمر: اتق الله.. ولكن أمير المؤمنين رده: دعه يقلها، لا خير فيكم إن لم تقولوها. ولا خير فينا إن لم نسمعها..! أما عبد الملك بن مروان فقال: من قال لي: اتق الله. ضربت عنقه.. والمرء يعجب لأحوال الناس، ولعل عبد الملك كان يعرف أن من يقولها له، مراء يبتغي الفتنة، وتقليب الأمور، وأن الخلفاء الراشدين الثلاثة قتلوا في أشباه هذه الفتن.. ونحن لا نعتذر لجبار من الخلق مهما يكن شأنه، ويسوءنا: أن نقول: إن لوناً من الجبروت الذي يرفضه الإسلام قارن الحكم الأموي وسود صحيفته. ومكن نفراً من المستبدين أن يزحموا السجون، وأن يبطلوا أخلاق الصراحة والشجاعة عند الكثيرين، وكان ذلك من أسباب ضياع الدولة في النهاية. 3- بدأ التقعر في فهم العقيدة يظهر، ويضطرب بأصحابه ذات اليمين وذات الشمال، فهناك مرجئة يرون العمل كمالا في الإيمان، وهناك معتزلة يرون العاصي فاسقا لا هو مؤمن ولا هو كافر. وهناك خوارج يرون العصيان كفراً. ص _027(1/21)
كما ثارت خلافات سمجة في قضايا دينية أخرى، نمتها مجالس الجدل التي قلما يطلب فيها الحق بهدوء وتقوى، وإنما تخدم بها الأهواء والأحزاب. ولم يكن رجال الدولة على مستوى البت في هذه القضايا فتركوها ترسو على أي جنب ! 4- لكن رجال الفقه والحديث والقرآن والأدب واللغة، ووراءهم سواد الأمة الأعظم، اشتغلوا بخدمة الإسلام في ميادينه الصريحة النافعة. وكان جهدهم يشبه نشاط عدة وزارات في عصرنا الحالي فشمت قافلة الإسلام بقوة، وانسدت ثغرات كثيرة. وبدأت العلوم الإسلامية تنفتح وتعمق مجراها، وظهر أعلام كبار في كل فن، وازدانت حواضر الإسلام بنهضات فكرية واجتماعية هى أثر مدارسة الإسلام والاستظلال برايته. 5- كان التعريب ظاهرة سياسية للخلافة الأموية، اللغة العربية هى اللغة الرسمية في القارتين الكبيرتين حيث انتشر الدين، وهذا تصرف لا شائبة فيه، بل لا بد من استدامته إحياء وابقاء للغة القرآن الكريم. والحكام في هذه الأقطار الفيحاء عرب أقحاح، وهذا ما نتريث في الحكم عليه، فإن هناك أعاجم أسلموا وتعربوا وكان من الخير دعم الحكم بهم أو التقرب إلى أجناسهم بهم. وقد كان ذلك من أسباب ضيق الفرس ـ مثلا ـ وانحرافهم عن الدولة، وكان إلى جانب مظالم وانحرافات أخرى دافعا قويا إلى التماس المخرج في استخلاف الرضا من آل البيت النبوى ـ كما يقول الشيعة ـ فهو أفضل من حكام البيت الأموي. واندلعت الثورة، وجاء حكم جديد فاجأ المؤيدين والمعارضين جميعا، فقد كان الخليفة الجديد من بني العباس، لا من بني علي، وهكذا قامت الدولة العباسية، فلننظر إلى أحوال الدعوة في ظلها... *** ص _028(1/22)
الفصل الرابع العباسيون والدعوة الإسلامية إن الذين ثاروا على بني أمية كانوا مسلمين يرون أن هناك تقصيرا في عمل الحاكم، سوءا في سيرته. فهم ينشدون حكما أرضى لله، وأحنى على الأمة، وأدنى إلى تعاليم الكتاب والسنة …! وقد ظهر العباسيون أول ما ظهروا بصبغة دينية ورغبة في تقوى الله ورعاية عباده، ترى هل حققوا ما ارتبط بهم من آمال؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال نقول: إن الإسلام حول العرب من جاهلية وبداوة إلى معرفة واستنارة، ثم اطرد سير الزمن فاتسعت الثقافة وتنوعت العلوم.. حتى جاء العصر العباسي فإذا العرب والمسلمون جميعا ينشئون حضارة زاهرة، ويتألق الفكر الإنساني في أرضهم تألقا لم يعرف في أية بقعة أخرى، لقد كانت المسافة بين الأوربيين وأهل الإسلام ـ في العصر العباسى مثلاً ـ كالمسافة بين وسط إفريقية وعواصم الغرب الآن.. والفضل في ذلك لطبيعة الدين الذي ساد، ورست دعائمه، إن فى كتاب الله وتراث محمد صلى الله عليه وسلم ثروة من العلوم الإنسانية والنظرات الكونية والأصول الفكرية تحيي الأمم إحياء... والمهم ليس في وجود هذه الثروة الطائلة، المهم هو في الإفادة منها وحسن توجيهها، إن المعادن قد توجد في الأرض جامدة وسائلة، ولكن من يستخرجها، ويشيد. بها صرح الصناعة والتقدم؟ لقد جاء العصر العباسي بعد تاريخ حافل والأجيال الأولى في الإسلام مقبلة على دينها مشغولة بالدرس والعمل، وقد استطاعت أن تتخطى به دسائس ص _029(1/23)
النفس البشرية ورغباتها الدنيا، ثم ورثت هذه الدولة مقام الإسلام وتجارب كثيرة في الحرب والسلام، والخطأ والصواب. فلننظر ماذا صنعت بهذا كله إن الخلفاء العباسيين في حملتهم لم يكونوا أنصر مواهب، ولا أزكى مسالك من سلفهم الأموبين.. وقد جعلوا من قرابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة لجمع القلوب، ودعم السلطة ولكن القرابة من رسول الله لا تقدم متأخراً. ولا تشفع لمسيء…!! ولما كان العباسيون قد ظلوا في دست الحكم أكثر من خمسمائة عام، فإن حال الدعوة الإسلامية على أيامهم المتطاولة يستدعي النظر من وجوه عديدة.. ماذا صنعوا مع الصليبية وهى العدو التقليدي المتربص وراء الحدود؟ لقد بقيت الحرب معها مناوشات خفيفة تدور في المناطق الواقعة بين الشام والأناضول. وربما استطاع المسلمون التوغل شمالا وغربا ثم سرعان ما يعودون، وربما هدد الروم حلب نفسها ثم سرعان ما يتراجعون.. ولم يتحرك المسلمون بيأس وغضب إلا عندما أسرت امرأة مسلمة في عمورية، فلما أهينت صاحت: وامعتصماه ـ تعنى الخليفة المعتصم بالله ـ وتضاحك الروم لصرخة المرأة المستضعفة ، بيد أن خبرها بلغ المعتصم ففزع من مكانه، وحشد الجند على عجل، وانطلق يشق النجاد والوهاد حتى بلغ عمورية فدمرها على من بها، واستنقذ المرأة العانية بعد قا أدب الروم على جرأتهم أدبا بالغا !! والحادثة لها دلالاتها خصوصا هذه الأيام التي يُذَّل فيها الجم الغفير من المسلمين دون أن يجدوا مغيثا.. رُبَّ وامعتصماه انطلقت ! لم تصادف نخوة المعتصم !! ويبدو أن العباسيين شغلتهم شواغل أخرى عن الإعداد للصليبية المتربصة حتى دهمتهم آخر الأمر في زحف لا ينقطع مدده أشعل الحرب في ديارنا قرنين كاملين، ما هذه الشواغل؟ لا ندري..! ص _030(1/24)
وعندما نتجه إلى الشرق ناحية الهند والصين نجد جهد العباسيين لا يكاد يبين مع أن الإمكانات المادية والأدبية للدولة كانت تقرب البعيد.. ولا يعني ذلك أن الإسلام توقف في هذه الأقطار، لا.. إن الدويلات التي انبعثت من كيان الدولة قامت بأعمال كبيرة في هذه الأقطار، كما أن الجهود الذاتية للأفراد والجماعات أدت واجبها حتى إن ثلث الهند أسلم. وجمهوراً كبيراً من أهل الصين غير أننا نجزم بأن هذه النتائج أقل مما كان يمكن تحصيله لو أن الخلافة العباسية شعرت بحقوق الدعوة ورسمت لها سياسة مدروسة. والألوف المؤلفة من الهنادك والبوذيين وأمثالهم من عباد الأوثان ليس من الصعب تبصيرهم بحقائق الإسلام. وربما دخل المنبوذون سراعا في دين الله واستراحوا إلى عقيدة تصحح تفكيرهم وتحترم وجودهم لو أن المسلمين في عصرهم الذهبي قاموا بهذه المحاولات.. لقد ترك أولئك الهمل حتى وضعت الماركسية يدها عليهم.. بعد ما أخذت الصليبية منهم عدداً غير قليل ..!! والبلادة التي أصابت المسئولين في الدولة العباسية بقيت أمداً مدهشا، إنها لم تبق أربعين أو سبعين سنة، بل بقيت أكثر من ثلاثة قرون. زمان مديد لو كان أعداء الإسلام فيه متفرقين لتجمعوا لو كانوا عاجزين لقدروا، لو كانوا يائسين لأملوا وطمحوا.. وذاك ما حدث، فإن الهجوم المرتقب جاء آخر الأمر من الشرق والغرب فكان ما كان. ماذا كان كشغل الخلفاء فى هذا الدهر الطويل؟ إن المؤرخين يقسمون العصر العباسي قسمين، ويرون أولهما أنضح وأرقى في مجال العلم والأدب والحكم، ويرون الثانى عصر استرخاء وذهول.. وهذا التقسيم أدنى إلى الصحة إذا نظرنا إلى وحدة الدولة، ومهابة الخلافة، ص _031(1/25)
واستبحار العمران، واتساع الثقافة، لكننا ـ على ضوء الدعوة ومتطلباتها ـ لا نرى بدأ من تسجيل ملاحظات شتى على كلا العصرين.. 1- لا ندري ما الذي جعل المسلمين يشوبون علمهم النقي بعلوم أخرى سقيمة رخيصة؟ إن نهر المعرفة الإسلامية شق مجراه في أنحاء الدولة، فروى جدبها وأحيا مواتها وجعل المسلمين أرجح كفة في الإلهيات والإنسانيات، وميزهم بفقه لا نظير له في الدقة والصدق والاستيعاب والشمول.. وتمت في القرن الثاني الثالث علوم الدين واللغة، وصحب هذا التمام صحو في الفكر الإسلامي من أثر التزامه لكتاب الله وسنة رسوله، وقيل بحق: إن المجتمع الإسلامي أرقى مجتمعات العالم. لكن الغنى الواسع الثروة في الحقائق، قد تصيبه لوثة فيبحث عن الخرافات في مظانها، ويستقدمها لتزاحم ما عنده. وهذا ما فعله العباسيون عندما شجعوا الترجمة، وأخذوا ينقلون تراث اليونان والسريان والفرس وغيرهم إلى اللغة العربية. وراجت سوق المنقولات الأجنبية حتى خيل إلى أن بعض العرب ألف من عند نفسه أشياء ليست من التراث الأجنبي إلا في العنوان، وتقدم بها ليربح ويعيش. إنني أرحب بنتائج العقل الإنساني الناضج، وأقدره، ولكنني لا أزاحم به وحي السماء، ولا أستحمق فأنقل تراب الأفكار وأزعمه تبراً لأنه يحمل اسم فلان الفيلسوف، أو فلان الأديب.. لكن ذلك ما وقع، فكان عصر الترجمة شرا كبيرا على الثقافة الإسلامية. وقد نهضت عناصر المقاومة في الكيان الإسلامي كما تنهض الكرات البيضاء في الدم للاشتباك مع العلل الوافدة. ولا نزعم أن النجاة كانت كاملة. إن هذا الغزو الذي جلبناه بأيدينا بقيت له آثار رديئة في بعض المؤلفات الدينية. ص _032(1/26)
والغريب أن المحافظين تطيروا من كل مجتلب على تراثهم العربي فتجهموا لمنقولات لا بأس بها يمكن أن تزيد بها التجربة البشرية في نشدان الحق وطلب الكمال، وتلك عقبي الإسراف والإفراط. 2- كان أشد النواحي الدينية استقبالا للغزو الأجنبي علم الكلام والتصوف، ولا يصعب أن تميز الدخيل من الأصيل في هذه الميادين، إلا أن المزج يبلغ أحيانا درجة كبيرة من المهارة ، فإنكار المعتزلة لصفات المعاني تأثروا فيه بتفسير أرسطو للوحدانية المطلقة ، لقد ظل أرسطو يشرح الوجود الإلهي الأعلى، وينزه هذا الوجود من كل شيء إلا التأمل الذاتي.. فالإله ـ من ذاته ـ يعلم ويقدر ولا شيء إلا الذات. وكلام أرسطو لا يسلم له، وفيه مبالغات ظاهرة ومع ذلك فإن بعض علماء المسلمين مالوا إليه، وقالوا: إن القول بوجود الصفات قول بتعدد القدماء، وعقدوا مباحث سخيفة لهذه القضية !!وشغلوا بها جمهور الأمة. ولأرسطو منطق ذكي يساعد على الجدل، ولا تزيد به المعارف الإنسانية، وقد رحب المسلمون ترحيبا حارا بهذا المنطق، حتى جاءت الحضارة الحديثة !! فأنزلته عن عرشه ثم إن التصوف الإسلامي تأثر بالتصوف الهندي، والتصوف النصراني، وبعض الأفكار الإغريقية، ومن السهل أن تذم الدنيا بحجة الإقبال على الآخرة، وأن تحارب الجسد بحجة الإقبال على الروح، وأن تقبل مبادئ من وحدة الوجود بحجة الاستغراق فى وحدة الشهود. وقد حمل علم التصوف جملة من هذه الأخطاء النفسية والفكرية وأشاعها بين جمهور المسلمين، وكان له أثر عميق في بلبلة العقل الإسلامي ومخاصمته للفقه الموزون. وأعان التصوف على بلوغ هذه الغاية إخلاص رجاله وحماسهم، وغلبة الصناعة والارتزاق على نفر من أهل الفقه والفتوى.. ص _033(1/27)
والغريب أن خرافات الفلسفة الإلهية عند الإغريق وغيرهم تبناها بعض المفكرين العرب، فوجد بينه من يقول بالأفلاك والعقول والعنقاء والغول !! تقليدا لليونان، والموضوع كله هزل أين كانت الخلافة العباسية في أثناء الهجوم على الفكر الإسلامي بهذه الطريقة الوضيعة؟ لم تكن تكترث بالنتائج! وعندما تحركت الخلافة تحركت لتنصر انحراف المعتزلة في بعض القضايا الكلامية، وأمرت بسجن وجلد ابن حنبل الذي كان يعتبر زعيم المحافظين في ذلك الوقت... على أن علماء الإسلام ووراءهم السواد الأعظم من الأمة قاوموا هذا الغش المفروض على ثقافتهم الدينية مقاومة ناضجة. وأمكن حصر الإسرائيليات والنصرانيات والإغريقيات وكل القمامات الفكرية التي أرادت الالتصاق بالرسالة الخاتمة وتم تحذير الناس منها.. والواقع أن أصول الإسلام بقيت معصومة، غير أننا لا ننكر أن أوهاماً ومبتدعات ومرويات واهية وآراء سقيمة لا تزال تحيا بين ظهرانينا ما يبصرها إلا أولوا النهي.. 3- للعلماء من الناحية الشعبية مكانة موطدة، فهل لهم مثل هذا التوقير في المجال الرسمي. عندما أرى وفيات الأئمة الأربعة، ومن يليهم من العلماء الراسخين أحس أن الفجوة عميقة بين الأمة وحكامها.. إن رجلا من رجال العلم كأبي عبد الله البخاري نبت به الدار لأن الأمير منحرف عنه !! وما هذا الأمير؟ شخص مكنته ظروف مبهمة أن يملك السلطة، فإذا اصطدم بالذكاء والرسوخ الفقهي تلاشي من أمامه كل شيء. إن هذا منطق الغابات في رسم العلاقات بين الحيوانات.. ص _034(1/28)
وأعرف أن يحيى بن زكريا عليه السلام طار رأسه من فوق منكبيه لأن الحاكم أمر. وقد أمر الحاكم لأن امرأة جميلة رأت هذا، فليكن ما رأت !! لقد اقشعرت الإنسانية من سير الأمور على هذا النحو. وأقامت ضوابط كثيرة لصيانة الدماء، دماء العوام فضلا عن دماء العباقرة. إن الأمم الكبيرة ليست كبيرة بأعدادها، وإنما هى كبيرة بإنتاجها العقلي وسبقها الحضاري، وهذا وذاك لا تصنعه الدهماء. إنما تصنعه العبقريات الرائدة والبصائر النفاذة، فأية مصيبة تجرها الأمم على نفسها يوم يجلد الأئمة ويسجنون، ويظفر بالتكريم والتنعيم ذوو الهمم القاعدة والغرائز الناشطة؟؟ إن العباسيين أساءوا إلى أنفسهم وأمتهم بهذا المسلك، ولا يزال كثير من الحكام يربط توقيره للعلماء بمدى ولائهم له. وتقديرهم لشخصه، فإذا فتروا أو انحرفوا تنكر لهم ونال منهم. وكان العباسيون ـ صدر دولتهم ـ يحترمون العلماء، ولا عجب فقد قاموا باسم الإصلاح الديني لعهد اتهموه بفساد كبير.. ويذكر التاريخ أن أبا جعفر المنصور اعتذر أشد الاعتذار لمالك إمام دار الهجرة لما اعتدى عليه الوالي بالضرب، وكاد يكسر ذراعه... وقبل مالك العذر، واستأنف تدريسه كما كان. ويذكر التاريخ أن أبا يوسف التلميذ الأول ل أبي حنيفة ـ عين قاضيا للقضاة أيام لرشيد ووجد الرجل لعمله مكبرين ومنتفعين! إلا أن هذا المسلك لم يطل ولم يعم، وكأن الدولة لا تمنح تقديرها وإعزازها إلا لمن يوافقونها على ما تفعل أو يلوذون بالصمت إذا حدث ما يوجب الاعتراض والجؤار. 4- الإسلام دعوة عالمية، والأمم التي تدخل فيه كثيرة. وبديه أن يكون العرب ـ أعنى الناطقين بالعربية ـ أهله الأقربين لأنهم فكره ولسانه. ص _035(1/29)
وهذا لا يعنى افتياتاً على الأجناس الأخرى، فإن المسلمين إخوان مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم. والقاعدة الموطدة التي لا يشغب عليها أحد: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". والجماعة الإسلامية تقوم بعملين يكمل أحدهما الآخر، ولا يغني عنه. فهي تقرب لغة القرآن والسنة من أهل الأرض، وتنشر العربية بحماس وذكاء. وهي في الوقت نفسه تتعرف على الأجناس الأخرى، ولغاتهم، وشئونهم المادية والأدبية، وترى ذلك من صميم جهادها. إن تذويب الفوارق بين الشعوب التي دخلت فى الإسلام فريضة قائمة إلى آخر الدهر. واستحياء أى عصبية جنسية ضرب من الجاهلية الأولى، وخروج على دين الله القويم. وقد أحس الفرس أن العرب اجتازوا دونهم السلطة، فظاهروا على الحكم الأموي أهل البيت المعارضين له، وأمكنتهم الفرص من إسقاط السلطة الأموية.. وجاء العباسيون يعلنون أن دولتهم سوف تكون أقرب إلى تعاليم الإسلام ولا يفيد ذلك أن تكون مقاليد الأمور بيد الفرس.. لكن الفرس هم أصحاب الدالة على الحكم الجديد، ومن حقهم ـ وعلى سيوفهم قام ـ أن يتصدروا ويقودوا.. وقد مشت الدولة معهم حيناً، وغدرت بهم حينا، ولم يكن لرجالها من التجرد للمثل ما يضع الحق في نصابه، وينسى كل جنس نعرته المقيتة. فتنافس التياران الفارسي والعربي في الاستئثار بالسلطان والاستكثار من الأتباع. ويجب أن تذكر أن ذلك التحزب برز وقوي بين القريبين من الحاكم، والطامعين في مغانمه. أما جمهرة الأمة والسواد الأعظم من المسلمين فقد كانوا وراء الأئمة والعلماء والعباد، يملأون صفوف الصلاة، ودروس العلم وأسواق التجارة وأكناف البادية والحضر، وكأنهم يرون أن " السلطان من لا يعرف السلطان "... ص _036(1/30)
لكن إغراءات الحكم قوية، وكذلك نداء الدم، وقد اشتد النزاع بين العرب والفرس فجاء أحد الخلفاء وأراد ترك الفريقين معاً والاستظهار بجنس آخر فاستعان بالترك... وهذا الاتجاه لا يحل المشكلة، فمع ضعف مشاعر التقوى، وضعف الروابط التي تمسك الناس بالدين، ستزداد النار اشتعالا، وينضم إلى الوقود القديم حطب جديد.. وقد جنى العباسيون عواقب هذا التخبط فكانت القرون الأخيرة من حكمهم بلاء هدم أشخاصهم بقدر ما هدم من قيم الإسلام.. ! عندما يكون الحاكم مثلا حيا لقوله تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). وعندما يكون تجسيداً لقول الرسول الكريم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " عندئذ تكون طاعته ديناً، يهرع إليه أشراف الجنس الأبيض ولو كان هو من مجاهل إفريقية.. لكن عندما يكون أبيض الجلد، أسود القلب والسيرة ، فهيهات هيهات ولو قال إنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن العصبيات المتناحرة كانت من أسباب انهيار الخلافة العباسية. 5- نحن نعجب بمعيشة عمر ين الخطاب التي تقوم على الزهد والشدة، ولكننا نحب معيشة عثمان بن عفان القائمة على النعومة والدعة، ولسنا بصدد المقارنة يين رجلين من كبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكلاهما خليفة راشد سبق له الرضوان الأعلى.. والذي نؤكده أن أحدهما لم يرزأ المسلمين شيئا من مالهم: وأن عثمان إن توسع في نفقته فمن ماله الخاص. ص _037(1/31)
والرجل ذو جدة في جاهليته وإسلامه وله سبق في الصدقة والنفقة على مطالب المسلمين. لكن حكام المسلمين في دولتي أمية والعباس توسعوا في أموال الأمة وأترفوا في معايشهم، وكانت لهم مسالك في المال العام يرفضها الفقهاء ويعترضون عليها سراً وعلنا. وترف الأمويين كان مصطبغا بالطابع العربي ـ فيه قرب وبساطة، أما ترف العباسين فقد اصطبغ بالطابع الفارسي، واستحيا فى فنونه تقاليد الأكاسرة وتشبعهم من أنواع اللذة. ومع إقبال أولئك الخلفاء على الدنيا تألفت أعداد من الأسر الحاكمة تؤخذ منهم الأسوة السيئة، وأعداد أخرى من الأتباع المولعين بتقليد الأكابر، والعيش فى حواشيهم. فشاع الترف في المجتمع، وتقلصت تقاليد الصلاح والتقوى، وانكمشت مظاهر الجهاد والإعداد، أو حمل عبئها أهل الطبقتين الوسطى والدنيا. أما الجهاز الحاكم ومن يدور في فلكه فله شأن أخر ترفضه تعاليم الإسلام جملة وتفصيلا.. والغريب أن الخليفة كان حريصا أن يلقب بابن عم رسول الله !! الرسول الذي مات ولم يتشبع من طعام قط، والذي كان تمر الشهور ببيته ما توقد نار تحت قدر، إنما هما الأسودان: التمر والماء. أين وجه الشبه بين حاكم بغداد وبين الرجل الذي كان يرقع ثوبه. ويخصف نعله، ويحيي ليله قائما لله! إن الترف المتوارث أفسد الحكم والأمة، وكان له رد فعل عجيب. فإن أهل الإيمان لما رأوا هذه الشهوات الجامحة ألفوا مجتمعا آخر، زاهدا في الدنيا معاديا لشهواتها أنسحب من الحياة واعتزل ضجيجها ص _038(1/32)
وفي هذا الجو ولد التصوف ونما، فكان الفعل ورد الفعل معا إساءة للإسلام، لأن الانسحاب من الحياة، واطراح مطالبها، يمكنان للظلمة، ويضعفان جانب الحق.. وقد توقحت المعصية وكلح وجهها ـ فعندما اعترض أحد العلماء على مديح أبي نواس للخمر، وزجره عن شربها أرسل قصيدته التي جاء فيها: فقل لمن يدعى في العلم معرفة حفظت شيئا، وغابت عنك أشياء ترى ما هى الأشياء التي غابت عن رجل الدين لما حارب الخمر وطارد شربها؟ أو ليس مزعجا ومذهلا في جو إسلامي رحب أن يتغنى مخنث كأبي نواس بمزايا الخمر فيقول مفتتحا القصيدة الآنفة: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداونى بالتي كانت هى الداء!! قد يفهم هذا الكلام في لندن أو موسكو! أما فى بغداد قصبة الخلافة الإسلامية، فذلك نذير انهيار لا يزال يمور حتى يستقر في قعر جهنم بالسكارى ومن تغاضى عنهم.. ونعود فنؤكد أن هذا الفساد كان في القشرة التي تتولى السلطة، أما الأمة نفسها فإنها ظلت على تحريم الحرام، وتحقير المنكر، وموالاة العلماء، والاحتشاد حولهم، واعتبار المترفين مجرمين مهما كانت مكانتهم...! لقد كان الخليفة العباسي يموت ـ وربما زهقت روحه على أيدي حاشية ـ فما يتبعه إلى قبره أحد، أما أئمة الدين فإن سكان بغداد كلهم كانوا يتبعون جثمان أحدهم إذا مات. وقد خرجت العاصمة كلها وراء أحمد بن حنبل، وأدرك الناس صلاة العصر آخر الوقت لاشتغال الألوف المؤلفة بتشييع الجنازة التي ملك صاحبها القلوب. *** ص _039(1/33)
* أحوال الدعوة فى العهد العباسى الأخير: وهى سلطان الخلافة، وذهبت مهابته. وقامت دويلات إسلامية كثيرة في الشرق والغرب تحكم تارة باسمه، وتارة تتجاهله أو تعاديه. ولنذكر أنه قامت في غرب العالم الإسلامي خلافة أموية قوية لم تعترف بالعباسين، ومشت وحدها تخدم الإسلام بأسلوب لم يختلف في مباديه ولا نهاياته عن أسلوب العباسيين …!! والحديث عن دولة الإسلام في الأندلس له ذيول طوال، وذو شجون قابضة كئيبة، لقد بدأ الأمير الغريب عبد الرحمن الداخل رجل دولة موفور الدهاء والمضاء، وظل المسلمون غرب البحر الوسيط أعصارا، وهم يرفعون لواء الإسلام، وزهت هنالك حضارته، وأضاء منارها حتى بحر الشمال. ولكن الذين كانوا لله خلائف سرعان ما تحولوا إلى ملوك طوائف، يبحثون عن اللذات، ويتحركون بالعصبيات ، ويتنافسون في المباني والزخارف، وانتهى من حياتهم ذكر القيم الأولى، وذكر الأجداد الكبار، والأسلاف الدعاة الرعاة.. فانفجرت أهواؤهم براكين قضت عليهم قبل أن يقضي عليهم زحف الكاثوليك المتربصين... وقد لفتت ألقابهم الطنانة وحقائقهم الفارغة نظر المتنبي فسخر منها لكن هل كانت هذه النقائص وقفاً على الأندلس؟ كان الشرق الإسلامي والغرب الإسلامى سواء فى هذه المهازل. إنه في بغداد نفسها كان اسم الخليفة يتضاءل أمام أسماء رجال آخرين استلبوه الحكم، وأملوا عليه ما يشاءون. وضربت الفوضى بأطنابها في أجهزة الدولة العليا، فلا عجب إذا تحرك أعداء الإسلام في الداخل والخارج، وكالوا له ضربات شدادا، ونالوا منه أسوأ منال. تحرك الصليبيون في جحافل جرارة، وأوقعوا بالأمة الإسلامية هزائم نكراء، ص _040(1/34)
وقد أثبت التحقيق العلمي أن الخلافة العباسية والفاطمية لم تبذلا جهداً يذكر في مقاومة هذا العدوان، وأن الشتات الذي حل بالدولة كان السبب الأوحد في تلك الهزائم. ولم يقف الهجوم الصليبي عند أخذ القدس والمسجد الأقصى، بل إن البرتغاليين عن طريق الدراسات الجغرافية والجرأة النفسية عرفوا طريق رأس الرجا، الصالح والتفوا حول قارة إفريقية ليصلوا إلى جزيرة العرب من الجنوب، ويبنوا لهم حصونا في البحرين والحكومات الإسلامية تغط في نومها. وقد حاول " ماجلان " ـ المكتشف الأوروبي الصليبي ـ بعد ذلك أن يضع علم المسيحية على الجزر التي بلغها جنوب شرق آسيا، لولا أن أفراداً من المسلمين منعوه وقتلوه ـ والحكومات الإسلامية لا تدري قليلا ولا كثيراً، عما يراد للإسلام وأمته..! إنه ذهول فاجع جعل الغفلة التامة تسيطر على الأعصاب والأفكار، وعجزت الدولة ـ أو الدول الكثيرة ـ المنتمية إلى هذا الدين أن تدرك ما يفعل أعداؤها أو ما يبيتون. ووضع القدر حدا صارما لهذا الاعتلال، فسقطت الخلافة العباسية تحت أقدام التتار في منتصف القرن السابع.. ولا بد للباحث المصنف من التفريق بين أجهزة الحكم وأحوال الأمة نفسها.. فإن العفن الذي ضرب فى القشرة نفسها لم يصل إلى اللباب... ظلت المساجد والمدارس وجماعات من العباد والزهاد وأولى الفقه والغيرة، وجماعات من التجار المقيمين والرحالة المتنقلين، ظلت أجهزة كبيرة فى الأمة تؤدي عملها بنشاط أو كسل. ولما كانت الدعوة إلى الله في دم كل مسلم، وتوسيع دائرة الإسلام أملاً لكل من يتقرب إلى الله، فإن دار الإسلام ـ مع الخلل في أساليب الحكم ـ اتسعت أرجاؤها، وزادت أعداد الداخلين في الإسلام حتى شملت شرقا الجزر الكبيرة بين المحيطين الهادي والهندي ـ إندونيسيا وما يسمى الآن بالفيليبين ـ وحتى ص _041(1/35)
استوعبت غربا شواطئ الأطلسي وما يلى الصحراء الكبرى في إفريقيا: غانا وغينيا ونيجيريا. وتغلغلت الدعوة في الهند والهند الصينية والصين، كما زحفت شمالاً فوق القوقاز وبلغت في أوروبا الغربية جنوب فرنسا ومناطق من سويسرا، وجميع جزر البحر الأبيض تقريبا بما في ذلك صقلية وجنوب إيطاليا. *** أمور لا بد منها : والدعوة الإسلامية لتبلغ أهدافها تحتاج إلى أربعة أمور: أولا : منع الفتنة، أو بتعبير أوضح منع الإرهاب المحلي أو الدولي من تقييد الدعاة وتكميم أفواههم، فإذا انتقلت الفتنة امتنعت الحرب.. ثانيا: عرض الدعوة على الجماهير عرضا صحيحا يغري ذوي الطباع السليمة بقبولها. ثالثا: نشر الثقافة الإسلامية على نحو يرسخ مفاهيم الدعوة، ويخلطها بمعالم البيئة، ويضم الأجزاء الجديدة إلى جسم الأمة الإسلامية الكبيرة فلا يتميز قديم من حديث... رابعا: النظر فيما بذل من جهود وفتح من آفاق، وما تم من تقدم، هل بلغ ذلك مداه وفق الخط الإسلامي المرسوم ؟ وهل جدَّت عوائق جمدت الحركة الإسلامية أو أرهقتها ونالت منها.. إن الفلاح يرمق مزرعته قبل الحصاد وبعده، وللتجار وقفات كل عام أمام دفاترهم يعرفون الربح والخسارة... والداعية المسلم يقدم للناس وحى الله، ويتعرف على مدى ارتباطهم به وانتفاعهم منه. نعم.. إن الداعي ليس تاجرا يعرض سلعة فإذا أخذ ثمنها ذهب في طريقه، كلا.. إنه يعرض الدين ليؤاخي الداخلين فيه، ويمزجهم بكيانه المادي والأدبى ص _042(1/36)
وأذكر ـ وأنا أزور أوغندا ـ أن كبيرا لإحدى القبائل قال لي: لقد حاربنا آباؤكم بهذا الدين، فلما جئتمونا به إذا كنتم ستتركوننا بعده؟ ما هذه القطيعة؟ ما يجيئنا من لدنكم دعاة ولا فقهاء ولا مدرسون وأذكر أنني شعرت بالخجل أو بالخزي وأنا أستمع إلى هذا القول الصحيح. إن العمل، والمتابعة بعده، هما سر النجاح. وذلك لا تقوم به إلا حكومات قائمة أو هيئات دائمة، والجهد الفردي هنا يعد نجاحه شذوذا بل نجاحه بعيدا إذا قاومته مؤسسات رسمية أو شعبية مستقرة. وعلى أية حال فإن الإسلام شرق وغرب في أنحاء العالم مع استرخاء خلافته أيام الترف العباسي، وانقسام السلطة السياسية بين حكومات كثيرة ولكن المسلمين في كثير من الأقطار التي استجابت للدعوة، لم يجدوا المتابعة الواجبة المستمرة، خصوصا الأطراف النائية، فنشأ عن ذلك: من الناحية العلمية شيوع للبدع والخرافات. ومن الناحية النفسية إحساس بالانقطاع والوحشة. وحاول أولئك المسلمون المهملون التغلب على هذه العزلة السيئة فكان ألوف منهم يستميتون في أداء فريضة الحج، ويتجشمون السفر من الملايو وإندونيسيا وبقية الجزر الإسلامية ـ التي سميت بعد بالفيليبين. ذاك في شرق العالم الإسلامي، أما في غربه فإن الوضع نفسه يتكرر، فيجيء المسلمون من داكار، ولاجوس، كما يجيئون من مدغشقر وزنجبار. فهل استغل مؤتمر الحج للم الشمل، ووصل ما أمر الله به أن يوصل؟ إن أعداء الإسلام استغلوا هذا التفريط من المسئولين عن الإسلام وسيره فى أرض الله، فوثبوا على الأماكن القصية واقتطعوها، وضموها إلى عالم التثليث أو الإلحاد كانت جزائر الهند الشرقية وراء جاوة وسومطرة قد عمرت بالإسلام فوثب عليها ص _043(1/37)
الأسبان وغيرهم من المغامرين الأوروبيين، ووضعوا عليها اسم فيليب الثاني وشرعوا في تنصيرها، وظلوا يقومون بعملهم فى دأب واستغفال لجمهرة المسلمين، حتى جاء هذا القرن، ولم يبق إلا عشر الفلبين فقط باقيا على دينه!! ومستقبلهم ومستقبل الإسلام معهم هناك موكول إلى السيف والنار. وقد وضعت خطة مشابهة للقضاء على دين التوحيد في جزائر إندونيسيا والخطة تكرار لمحو الإسلام من الأندلس، ثم محاولة محوه من جنوب أوروبا ودول البلقان. أي أن ما وضع من خطط يقوم على خطف الأطراف تمهيدا لضرب القلب نفسه. ونحن ما نحمل العباسيين هذه النتائج البعيدة، وإنما نبحث عن العلة من نشأتها الأولى، وسوف نتحدث عن مضاعفاتها فيما بعد.. وعجز الخلافة في بغداد عن نشر الدعوة، وحمايتها، ورعاية الشعوب التي دخلت فيها، وإمدادها بأسباب البقاء والنماء أعطى أعداء الإسلام في أوروبا وآسيا فرصا ثمينة للنيل منه وقد انحلت الخلافة العربية عن دويلات كثيرة وأجناس كثيرة، وتمهد. الطريق لخلافة كبري من جنس آخر، من الترك.. *** ص _045(1/38)
1- في غرب البحر المتوسط كان الأوروبيون يعملون بدأب على محو الإسلام من الأندلس، وقد مضوا في هذا الطريق إلى نهايته وحققوا على مر الأيام بغيتهم، ولا شك أن تفرق المسلمين في الأندلس وإقبالهم على فنون الترف كانا الأساس الأول لذهاب ريحهم، وغلب الصليبيين عليهم. وقد سقط الحكم الإسلامي فى هذه الأرض بعد سقوط الشعائر والآداب والتقاليد الإسلامية فى ظل أمراء لم يكونوا لله خلائف، بل كانوا في الأرض طوائف: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ). وقد قام الصليبيون بحرب إبادة عامة عقب انتصارهم لم تدع للدين وأهله أثرا من حياة 20- أما في الشرق الإسلامي فقد قام الصليبيون بعمل مزدوج، فقد كاتبوا التتار وأغروهم بالهجوم على العالم الإسلامي، واهتبل أولئك أول فرصة فانساحوا من بلادهم إلى قلب الأمة الإسلامية ودمروا المدن العظام وأسقطوا دولة الخلافة كما ذكرنا، وكانت الخسائر المادية تبلغ أحيانا 80% في المدن والقرى التي يجتاحونها. أما العمل الآخر فقد كانت الصليبية الغربية على علاقات وثيقة بالنصارى الذين يعيشون يين ظهراني المسلمين. وقد رحب هؤلاء النصارى بالفاتح المعتدي، واستقبلوه في بغداد وغيرها بالبشر والترحيب، وأظهروا الشماتة بالمسلمين المهزومين، وأهانوا مساجدهم، وكان هذا المسلك بالغ الخسة لأن المسلمين إبان سطوتهم لم يسيئوا إلى مخالفيهم في الدين. وقد تركت الهزائم والخيانات آثارا مظلمة في أفئدة الجماهير. ص _046(1/39)
وأشعرت المسلمين ـ حكاماً ومحكومين ـ أن أوروبا تريد الإجهاز عليهم، وأن الصليبية برغم تراجعها أمام صلاح الدين لا تزال تفكر تفكيراً كله ضغائن وعدوان. إن هذا يفسر لنا: لماذا انطلق حكام الدولة العثمانية إلى شرق أوروبا، ولماذا عبأوا جيوشهم في الأناضول تحت راية التوحيد وزحفوا غربا لا هم لهم إلا ضرب الصليبية في عقر دارها، والثأر لما أصاب الإسلام والمسلمين من شرها. كان عثمان ـ رأس الدولة ـ مسلماً شجاعاً طموحاً، حكم نحو ربع قرن وشن الحرب على عدوه فأحرز انتصارات باهرة كان آخرها الاستيلاء على مدينة " بروسة " التي جاءه نبأ فتحها وهو يحتضر، فأمر بتحويل كنيستها إلى مسجد، وأمر بنقل رفاته إلى هذا المسجد في ضريح خاص. ونحن نعرف أن هذا المسلك يرفضه الفقه الإسلامي، ولكن الشعور الغالب يومئذ كان المعاملة بالمثل، وما دام النصارى حولوا المساجد إلى كنائس، فلا حرج من مجازاتهم بمثل ما فعلوا !! كان ذلك في القرن الثامن بعد سقوط الخلافة العباسية بسبعين سنة !! وفي منتصف القرن التاسع وقع الحدث الضخم، فإن السلطان محمد الثاني توجه بجيش جرار إلى القسطنطينية وحاصرها براً وبحرا، وكان الفن الحربي عند المسلمين الأتراك متقدماً جداً، كانت مدافعهم الصاروخية ترسل القذيفة زنتها اثنا عشر قنطارا إلى مسافة ميل وهو أمر في ذلك العصر يعد من الخوارق المعجزة. والغريب أن المسلمين الأتراك تقدموا من الجبهة نفسها التي تقدم منها المسلمون في منتصف القرن الأول ومات من أبطالهم أبو أيوب الأنصاري، وظل قبره على مشارف المدينة الشامخة ثمانية قرون، لقد صمدت للحصار الأول، وانصرف العرب يائسين تاركين شهداءهم الأوائل شاخصا يدل على الطريق، حتى جاء هؤلاء الأتراك فأكملوا الرسالة على يد رجل معروف بالصلاح والتقى والرغبة في الجهاد، هو محمد الثانى الذي عرف بعد بمحمد الفاتح. وتكريما لأبي أيوب الأنصاري أمر محمد الفاتح ببناء مسجد عند قبره يتم فيه(1/40)
تتويج سلاطين آل عثمان ويتسلمون فيه سيف السلطان عثمان المؤسس الأول للدولة. ص _0 ص
والتقليد الذي ذكرناه ـ لا يتفق مع الفقه الإسلامي ـ ولكن الرجل مضى مع عاطفته فأمر بتحويل كنيسة أياصوفيا إلى مسجد جامع، وأعلن في الوقت نفسه أن النصارى أحرار فى أداء شعائرهم الدينية بسائر الكنائس الأخرى، إن الرجل وإن انساق قليلا مع مبدأ المعاملة بالمثل إلا أن طبيعة الإسلام غلبته فاحترم حرية التدين، وترك لمخالفيه في العقيدة أن يقيموا مراسمهم الدينية في حماية الدولة وذمتها. ومما يذكر أن آخر إمبراطور لدولة الروم الشرقية استمات في المقاومة وأخذ يمر بجنوده في حصونهم يحضهم على الاستبسال في القتال، وهيهات، فقد كان على رجاله أن يدفعوا ثمن أخطاء كثيرة ارتكبها الصليبيون فتم أقطار كثيرة، فتم فتح المدينة وغير اسمها إلى " إسلامبول " أو " إستامبول " أو " دار السلام". يقول أحد المؤرخين الإنجليز: كان لمحمد الفاتح من شعبه المطواع الذي تدرب على احتمال كل المشاق عدا التفكير في المستقبل، ومن جيشه المحترف المتمرس بالحروب، ومن صفوف مدافعه الجيدة ما أعطاه ميزة السبق على أعدائه المنقسمين على أنفسهم. وكان دوى المدافع العثمانية يهدر على شواطئ الفرات والدانوب حتى حدود ألبانيا، وعند وفاة محمد الفاتح ـ أواخر القرن التاسع الهجري ـ كانت دولته تشمل آسيا الصغرى وبلاد اليونان وأغلب دول البلقان، بل كان العثمانيون قد وضعوا أقدامهم على جانبي بحر الأدرياتيك، أى أن إيطاليا كانت في مهب نفوذهم. لقد حقق المسلمون الأتراك ـ حتي عهد محمد الفاتح ـ ما عجز الخلفاء العباسيون عن تحقيقه، إن الصليبية العالمية نجحت في اقتحام الحدود الإسلامية أيام العباسيين، وغزت المسلمين فى عقر دارهم، وفكرت فى بلوغ المدينة المنورة نفسها.. كان الحكم العربي قد ترهل، وأدركه الكلال وأقعده الترف والتنعم عن فعل شيء طائل.. فلما نهض المسلمون الأتراك بالعبء حولوا الدفاع(1/41)
الفاشل إلى هجوم ناجح، وأعانتهم بداوتهم وفروسيتهم على تأديب الصليبيين وشغلهم بأنفسهم عدة قرون *** ص _048
* الأتراك والعرب والدعوة الإسلامية: إلا أنه في غضون القرن العاشر طرأ على العسكرية التركية تغير كبير، لقد كانت آلات القتال لديها تعمل ضد الصليبية الغربية وحدها. فلما جاء السلطان سليم الأول قرر أن تخضع بقية الأجناس الإسلامية للعنصر التركى ، وكان سليم باطشا فاتكا مسعر حروب، فأعلن الحرب على الفرس ثم على العرب في مصر والشام، وكان النصر حليفه، وسارعت جزيرة العرب إلى الصلح معه. ولم ينته هذا القرن حتى كانت الأمة الإسلامية تقريبا تمشي تحت راية الترك، وتتلقى تعليماتها من " إستامبول ". ونريد أن ندرس ـ على ضوء الدعوة الإسلامية ـ هذا التغير الكبير.. إن من المكابرة الجاهلة إنكار الطبيعة العربية للإسلام، نعم هو دين العالمين من أزل الدنيا إلى أبدها، ولكن القرآن نزل بلسان عربي، ونبيه الخاتم عربي اللغة، والتراث والثقافة الإسلامية الموثقة عربية الأصول.. وبديه أن العروبة التي تؤكدها ليست عروبة الجلد أو الدم. إنها عروبة اللغة فلو أن أستراليا أو أمريكيا أو أوروبياً أسلم وتعرب وجاد في لغة الإسلام الرسمية فقد أصبح عربيا وما يغلبه هاشمي ولا عبشمي في ميدان نبغ فيه ورجحت كفته.. وقد سلمت الأمة الإسلامية أزمتها لرجال أعاجم المنبت برزوا في علوم الدين واللغة، وزوت قيادها عن عرب قصروا في هذه الميادين.. إن العبادة الفردية ممكنة لأي إنسان في حدود مواهبه الخاصة، أما القيادة الجماعية فما يحسنها إلا عربي أو متعرب اتصل بالقرآن ونبيه صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الكبار. والأخذ عن القرآن والسنة درجة سنية لا يطبقها كل عريي أو متعرب، يل يرشح لها الأعلام السابقون.. وليس هذا الحكم خاصا بقيادة الأمة في مجال الأدب والعلم، بل هو شامل لمجالات السياسة والحكم، ولذلك قلنا: إن العرب هم دماغ الإسلام وقلبه. وقد ص _049(1/42)
كان على الترك وقد قرروا قيادة العالم الإسلامي أجمع ـ أن يتعربوا ويقدموا العربية على التركية، ويفسحوا المجال للعرب أن يتقدموا ويشاركوا في كل شأن. ولكن الذي حدث غير ذلك، فقد تعصب الترك للغتهم وجنسهم، ولما كان الإسلام لا يمكن أن " يتترك " والترك لا يريدون أن يتعربوا، فقد وقعت فجوة بين الحكم والأمة، وبين الحكم ومصادر العقيدة والشريعة، ظلت تعمق على مر الأيام فانتشر الجهل انتشارا" مخزياً، وأخذت الأمة الإسلامية تتقهقر دون مكانتها الحضارية خطوة خطوة، ولم يزدها مر الأيام إلا عجزا إنسانيا" مؤسفا. إن للقوة العسكرية ـ في نظر الإسلام ـ وظيفة محددة، هي كسر العدوان ومنع الفتنة، فإذا خلت التربة من العوائق أمكن الزرع وارتقب الحصاد.. والصحابة الأولون عندما قاتلوا الروم والفرس، وفكوا إسار الشعوب العانية في سجونهم، شرعوا لفورهم يعلمون الإسلام، ويعرضون أصوله وفروعه ولغته، فلم تمض سنون طوال حتى كانت آسيا الصغرى والشمال الإفريقي قد تفقهت في الدين واستراحت إليه.. ثم شرعت هى الأخرى تعرض تعاليمه على الآخرين وتجاهد دونه.. أما الأتراك فإن المتابعة العلمية كانت تنقص تفوقهم العسكري، فلم يحسنوا نشر الإسلام في الأرضين التي فتحوها، بل نظر إليهم وإلى الدين الذى اعتنقوه نظرة سخط.. عندما رد أبو عبيدة الجزية إلى نصارى حمص عجبوا من تصرف هذا الحاكم الجديد فهم لم يعهدوا الحكام الروم إلا نهاب أموال. أما أن يأخذ العرب الجزية لحماية أهل البلد، فإذا رأوا أنفسهم عاجزين ردوا المال إلى ذويه، فهذا تصرف ربانيين أطهار .. ! ! إن هذا التصرف نموذج للفتح العربى الذي نشر الإسلام في الآفاق وغرسه في الأعماق. أما السلطان سليم الأول فقد أباح القاهرة ثلاثة أيام لجنوده، ما أبعد الشقة بين المسلكين... ! ص _050(1/43)
ولا نريد أن نجور في حكمنا على الخلافة التركية لتصرف نزق، أو مسلك أحمق! فإن الأتراك كانوا شعبا مسلماً - وإن نقصته سعة العلم - وباسم الإسلام وحده التفت حولهم جموع المسلمين، وقاتلت معهم، وفرحت لانتصارهم، وبكت لانكسارهم وما عرفوه من تعاليم الإسلام طبقوه بحماس شديد، وأمل صادق في إرضاءا لله ورسوله... لقد ظل الأتراك على لغتهم وصبغتهم الجنسية، ولكنهم تشبثوا بالإسلام تشبثا شديدا في حياتهم الخاصة والعامة، فبنوا في عاصمتهم ومدائنهم أضخم المساجد، وطبعوا الألوف المؤلفة من المصاحف، وجعلوا الدين هو الطاقة الروحية التي تدفع الجنود إلى ساحات الوغي، وهم يرون أنهم بهذه الحروب يقلدون السلف الأول في الجهاد ومقاومة الكفر. وبديه أن يكون الإسلام الدين الرسمي للدولة، وأن تكون له هيئة علمية مسموعة الكلمة، مرموقة المكانة، وكان شيخ الإسلام في الآستانة أعلى مكانة من رئيس الوزراء وله وحده تخضع الهيئات التشريعية والقضائية.. وكان السلاطين الترك يوقرونه، ويخضعون له، ويستشيرونه، كما كان الشعب التركي يحترم علماء الدين، وينزل على رأيهم، ويلتمس رضاهم. وقد ألحقت بالمساجد مؤسسات لإطعام الفقراء، وقاعات يختلي فيها العباد، وذلك لأن طرق المتصوفين كانت منتشرة بين الجماهير، ونشأ عن ذلك بناء " التكايا " ووجود " الدراويش ". وجاءت عصور على المسلمين الأتراك وغير الأتراك كانت كتل العوام تخضع فيها لشيوخ الطرق أكثر مما تخضع لرجال الدولة وتحرك باسم الدين فتصنع العجائب. والحق أن العسكرية التركية كانت وراءها عاطفة دينية هائلة دوخت أوروبا وروعتها، ومكنت رجلا كالسلطان سليمان القانوني أن يقود ستة عشر زحفا داخل العالم النصراني، حتى وصل إلى " فيينا " عاصمة النمسا.. ص _051(1/44)
لقد نسى الأوروبيون العرب، وفتوحهم الأولى، ورأوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام خصم آخر شديد المراس، قوي الشكيمة حتى لأصبحت كلمة " تركي " يخوف بها الأطفال كما يخوفون بالعفاريت والأوهام. ويجزم المؤرخون المنصفون بأن ظهور الخلافة التركية هو الذي جمد الزحف الصليبى وحمى فلسطين والشرق الأوسط من حملات أخرى لمحو العروبة والإسلام. نعم.. لقد تأخرت هذه الحملات الصليبية من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الهجري، وخلال هذه القرون الأربعة جرت أمور ذات بال.. وإذا كان الأتراك قد سيطروا على العالم العربي والإسلامي خلال القرن العاشر فإن قوتهم العسكرية بقيت على تألقها قرنا آخر، كان البحر الأحمر والأبيض والأسود خلاله بحيرات إسلامية تقريبا.. ثم بدأت جراثيم الضعف تعمل عملها في الكيان الإسلامى كله، الأجهزة الرسمية والشعبية على سواء.. كان اعتلال الدولة العثمانية مكشوفا لأعدائها، لأن نشاطها السياسي والعسكري تشعب في جبهات عديدة، شمل أغلب القارات، فكيف يخفي ما أصابها من عجز؟ لذلك سميت حكومة الرجل المريض.. وقد ظل الرجل المريض يغالب الموت قرنين طويلين ولم يسلم الروح إلا بمؤامرة ناجحة على قتله.. وبلوغ الدولة هذا الدرك الهابط يتطلب نظرات عميقة *** الدعوة الإسلامية فى العهد التركى الأخير من القرن العاشر إلى الثالث عشر لم يظهر في العالم الإسلامي عالم مفكر، ولا أديب نابه، ولا شاعر عظيم ولا مؤلف ذكي، إلا فلتات تعد على الأصابع.. كان الجهل الغليظ يلف كل شيء، وكانت عجمة الدولة ـ كما أشرنا ـ سبباً في تخلف المسلمين دينيا ومدنيا. انتشرت البدع والخرافات والخيالات السقيمة، وتحول الإسلام إلى رسوم ص _052(1/45)
ميتة، وأحاديث واهية أو موضوعة، وكثرت صور الشرك الجلي والخفي والطلسمات والشعوذة، وأعلن التصوف الجاهل على هذا كله إذ أن طرقه دخلت كل مدينة وقرية. 3- من الناحية المدنية العامة توقف الركب الإسلامي في مكانه، لا يدري وراء حدوده شيئا بينما العالم يفور ويمور بحركات وفلسفات جديدة غيرت نظم الحكم، وكشفت المجهول من القارات، وأخذت رويدا رويدا تعرف الكثير من قوى الكون وأسراره وتستغله فى تجديد حياتها وأسلحتها. 4- ورث الحكم العثماني جميع سيئات الحكم الفردى فى الدول الإسلامية السابقة وضم إليها جديدا من الجبروت والاستعلاء دون نظر إلى دين أو خلق، وربما قتل السلطان جميع إخوته حتى لا ينازعوه السلطة. 5- منح السلطان امتيازات أجنبية للطوائف النصرانية المختلفة جعلها دولة داخل الدولة، واستغل الأعداء ذلك أسوأ استغلال إذ تمكنوا بواسطة هذه الرعايا من التجسس، ونشر الفوضى، وإلحاق أبلغ الأذى بالإسلام. ومع أننا نعيب على العرب تقاعسهم في خدمة الثقافة الإسلامية الصحيحة إبان هذه القرون الهامدة من الحكم التركي، إلا أننا نذكر أن الحركة الوحيدة التي نهض بها العرب لإصلاح العقائد والعبادات ومحو ما شابها من زيغ وانحراف قاومتها الدولة بالسيف حتى أجهزت عليها.. نعني حركة الإصلاح التي قام بها محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب... أما الأزهر.. فقد تقوقعت فيه علوم الدين واللغة العربية، كما تدخل السلحفاة جسمها داخل ظهرها الصلب، وتبقي مكانها دون حراك.. إن الجهالة العامة كانت سمة ظاهرة في الأحوال الإسلامية، ولم يكن هناك ما يسمى دعوة إلا الخطب المنبرية التي يدعي في نهايتها للسلطان، وهى دعوات لم تستجب لها السماء....! ص _053(1/46)
وقبل أن تستسلم الخلافة العثمانية للموت أدركتها صحوة يائسة، فقد ولى الأمر السلطان عبد الحميد، وهو من أذكى وأقدر الخلفاء الأتراك، حاول الرجل أن يشد الأعصاب المسترخية، ويبعث في الأمة روحاً جديدا، فاستعان بالسيد جمال الدين الأفغاني على إحياء الجامعة الإسلامية، ورد المسلمين إلى مصادر قوتهم الأولى. ووقف بصلابة أمام أطماع الصليبية العالمية التي استعدت لاقتسام تركة الرجل المريض.. ورفض بشمم واعتزاز تحرك الصهيونية العالمية نحو فلسطين، وعف عن المال الكثير الذي عرض عليه ليدع هذا القطر العربي. ومع يقظة هذا الخليفة ونشاطه وجلده إلا أن سنن الله في الأمم المفرطة لا بد أن تتم، إن العالم الإسلامي بقيادته التركية لم يكن يدرى من دين الله ولا من دنيا الناس ما يرشحه لمكانة محترمة، وأخطاء القرون الطوال لا تمحي بسهولة. ويجب أن نرمق ما حدث وراء دار الإسلام لنعرف ما وقع هنالك من تغير هائل..! إن أوروبا بعد عصر الإحياء أخذت تتجدد من بلي، وتستيقظ من إغماء. وقد انحدرت إلى أرضها كل الثقافات الإنسانية التي احتضنها الإسلام وهذبها، ونماها، وأضاف إليها من عنده ما جعلها مناراً للعقل الغربى المتحرك ينشد الحياة.. واليقظة الأوروبية احتقرت المسيحية وكهانتها ورجالها، ولكنها لم تحترم الإسلام ولم تشعر بأية رغبة فى اعتناقه.. ولهذا الموقف أسباب شتى، بعضها يعود إلى المسلمين وقيادتهم الثقافية والسياسية. وليس الموقف هنا للشرح والمعاتبة، المهم أن الصحو الأوروبي أقصى المسيحية فى الداخل، وأبعدها عن العلم والحكم والاقتصاد وسائر الساحات الجادة.. ولكنه استغلها في تمهيد الأقطار التي اكتشفها في أمريكا وأستراليا وإفريقية، كما استغلها في الهجوم على الأرض الإسلامية، واستئناف الصراع الطويل بين المسيحية والإسلام..!! ص _054(1/47)
والهجوم الأوروبي الجديد يسانده ذكاء وعلم وسبق في كل شيء.. وتسانده قبل ذلك كله ما شرحناه آنفا من تأخر شامل لف المسلمين كلهم في قصوره وعجزه..! لم يكن المسلمون أهلا لعون الله بعد ما جهلوا دينه، وفرطوا في لبابه، ولم يكن لديهم من أسباب الدنيا ما يشد أزرهم، ويكيد عدوهم... والجدير بالذكر أن هذا العدو الذكي قرر أن يضرب بعض المسلمين ببعض، أن يحيك من المؤامرات ما يبلغه هدفه بأقل الخسائر... وقد استطاع خلال القرن الثالث عشر أن يخطف من الدولة العثمانية مصر وتونس، وأن توقع بها هزائم عسكرية جسيمة في البلقان.. وأن يحتضن تيقظ اليهود لإقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين.. فلما ولى السلطان عبد الحميد السلطة وحاول وقف هذا البلاء تحرك المكر الاستعماري وقرر تشجيع انقلاب عسكري ضد الخليفة الذي قرر الصمود. وغزل الخليفة، وتولى الحكم ضباط الاتحاد والترقي، وهم شباب مشئوم جاهل دعى، ولا يعنينا هنا أن نعرف من أعانهم، ولا كيف وصلوا، وهل هم خونة مرتدون أم أغرار متطاولون ؟؟ إن الانقلابات العسكرية في العالم الإسلامي خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر تحتاج إلى تآليف دقيقة صريحة، لأن ما نتج عنها حقق لأعداء الإسلام فوق ما أملوا ويؤملون..! وهذا الانقلاب الأول جر على الترك أنفسهم، وعلى الخلافة كلها كوارث وصلت بها إلى حافة الهاوية.. أحس العرب أن الحكام الجدد يبيتون الشر لهم وللإسلام فتململوا في بلادهم. ونظر أمير مكة الشريف حسين حوله يريد خلاصا لجنسه، وملكا لأسرته فوجد الإنجليز يبتسمون له، ويشجعونه على التمرد، ويعدونه، فوثق فيهم ببلاهة غريبة وأعلن ثورة عربية على الدولة، وهى في حرب حياة أو موت مع الحلفاء بقيادة الإنجليز...!! ص _055(1/48)
وكانت ثورة الحسين أساسا كبيرا في كسب إنجلترا للحرب " وفي خسارة الترك لكل شيء.... وفي المنشور الذي أذاعه الملك حسين عشرة أسباب للثورة التي أعلنها نوجزها فيما يلي: 1- جعل العسكريون الخليفة صورة، وقاموا بتعيين شيخ الإسلام، ورئيس الوزراء وغيرهم من كبار الموظفين حسب هواهم. 2- تلاعبوا بأموال الدولة، وأثقلوها بالقروض الأجنبية. 3- دخلوا في حروب كثيرة لم يجنوا منها إلا الهزائم، واستغلوا حالة الحرب لضرب مخالفيهم في الرأي وإلحاق الأذى بهم. 4- مكنوا الاستعمار العالمي ـ الصليبية الدولية ـ من اختطاف ألبانيا، ومقدونيا، والبوسنة، والهرسك، واحتلال طرابلس " ليبيا ". 5- أثاروا الأحقاد الجنسية، وأوقعوا مآسي شنيعة بالعناصر التي رفضت سياسة تتريك الدولة، والتي قاومت النزعة الطورانية. 6- محاولة قتل اللغة العربية وتحقير مكانتها، وجعل التركية لغة الدولة الرسمية ولغة التعليم في أنحاء الدولة. 7- ترك الفوضى تشمل الحجاز، وتهدد قوافل الحجيج، وتستولى على أموالهم وتستبيح دماءهم. 8- تشجيع الإلحاد، وتعطيل إقامة الصلوات في المعاهد العسكرية ومنح الحرية للفئات التي تهاجم الإسلام. 9- إعلان الأحكام العرفية أثناء الحروب واستغلال هذه الأحكام لإرهاب العرب حتى إن رجال الاتحاد والترقي شنقوا في يوم واحد 21 رجلا ـ وذكر المنشور أسماءهم. 10- مصادرة ممتلكات الزعماء العرب وتعريض النساء والأطفال للجوع والفتنة، لا لشيء إلا للخصومة السياسية. ص _056(1/49)
وقد يكون الملك حسين صادقا في كل ما ذكره أو في بعضه، فهل ذلك يبيح له الانضمام بالشعب العربي الذى يحكمه إلى صف الإنجليز؟ أما كان يعلم أن الإنجليز دخلوا مصر، وأعطوا سبعين وعدا بالجلاء عنها، ولم يصدقوا في واحد منها؟ إن الإنجليز الذين كانوا يكاتبون الشريف المخدوع، ويعدونه بملك عربى واسع يشمل سوريا والحجاز كانوا في الوقت نفسه يكاتبون اليهود ويعدونهم بفلسطين، وقد كذبوا مع العرب وصدقوا مع اليهود.. لقد نجحت أوروبا الجديدة في الوصول بضباط الاتحاد والترقي إلى الحكم ليظلموا العرب، ويغرسوا في قلوبهم الضغائن. ونجحت أوروبا الجديدة في إغراء العرب ـ بقيادة الملك حسين ـ كى يطعنوا الترك في ظهورهم ويجروا عليهم هزيمة يفقدون فيها كل شئ.. ودخل الأوروبيون " إسلامبول " وأمست حاضرة الخلافة تحت أقدامهم. وظاهر أن التركيب الاجتماعي والسياسي لدولة الخلافة، والقحط العلمي والخلقي الذي ران على الشعوب الخاضعة لها هو الذي مكن من هذا المصير الكئيب.. ومع هذا البلاء فإن الجيش التركي تراجع إلى الأناضول وأخذ يعيد تنظيم صفوفه ليواصل القتال، والقتال هنا لتحرير الأرض التركية وحسب. وانهال التأييد المادى والأدبي من أنحاء العالم الإسلامي للجيش الذي قرر استئناف الكفاح، والذي أحرز فعلا بعض الانتصارات المحلية على اليونانيين المشتركين مع الحلفاء في ضرب الأتراك، وكان الجيش بقيادة مصطفى كمال، وبدا كأن الحظ شرع يبتسم له، وأنشد شوقي قصيدته المشهورة: الله أكبركم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب ص _057(1/50)
ماذا تفعل الصليبية في ملاقاة هذا العبء الجديد ؟ اتصلت بمصطفى كمال وأخبرته أنها على استعداد لترك البلاد له على شريطة أن يترك الإسلام والخلافة، ويقطع كل صلة بين تركيا والعالم الاسلامي .. وقبل " الغازي " هذه الردة المعروضة عليه، وقرر أن ينشئ تركيا الحديثة، دولة طلقت الإسلام والعرب، والخلافة، وكل معالم التاريخ القديم. ولكن كيف يتم هذا ؟ بانقلاب عسكري يجهز به مصطفى كمال على أنصار الإسلام أجمعين !! وشرعت الرقاب تطير، والمؤمنون ينهزمون، والدنيا تتغير، والدولة التي اصطبغت بالإسلام ستة قرون، تتحول إلى دويلة بائسة يعرف العالم أن نظامها مقطوع الصلة بالإسلام، وكل ما يمت إليه.. صحيح أن الشعب التركي بقى على ولائه لمواريثه الدينية، وأن حنينه يزيد على مر الأيام كى يحيا في ظل الإسلام.. ترى كم تستغرق هذه العودة، ومتى تحين ؟ أما الأمة الإسلامية فقد أحست باليتم الروحي والسياسي بعد انتهاء هذه الخلافة الصورية، وانقطع الخيط الذي انتظم عشرات الشعوب، وأحس المسلم على شاطئ الهند أو الأطلسي أو في وادي النيل، أنه غريب متوحش في هذه الدنيا. وعليه أن يلتمس ولاء جديدا له يربطه بأى شئ إلا بالإسلام ... إذ أن أوروبا ترفض هذا الولاء. *** ص _058(1/51)
الفصل السادس أسباب انهيار الحضارة الإسلامية في غضون القرن الثالث عشر والرابع عشر للهجرة كان الوجود الإسلامي يعاني من علل مبرحة، كان الرجل المريض ـ كما سموه ـ يترنح وهو يسير ببطء نحو مصيره، حاول نفر من المصلحين أن يعطوه حُقناً تجدد حياته بيد أن جهودهم ضاعت سدى. سقطت الدولة الإسلامية سقوطا مروعاً، وظهر جليا أن الانهيارات الداخلية هى التي عجلت بهذا الختام الكئيب. ومع أن الدولة قضت إلا أن الأمة بقيت تواجه مستقبلها، وشرعت الجماهير تتلمس الطريق إلى مستقبل أشرف، وتتغلب بجهد شديد على العقبات الكثيرة التي تسد أمامها المنافذ... وإذا كان أغلب البلاء جاءنا من عند أنفسنا، فيجب أن تتجه الجهود إلى الإصلاح الداخلي قبل أن تفكر في ضرب العدو المتربص! فإنها لو هزمت عدوها ـ فرضا ـ وبقيت أدواؤها الداخلية على جسامتها فلن يعد ذلك نصرا للإسلام، ولن تكون الأمة المنتمية إليه قدوة حسنة للعالمين..!! فكيف ونحن لا ننتصر إلا بالإسلام وحده، وبالولاء له، والتطبيق الحسن لتعاليمه. من أجل ذلك نريد إلقاء نظرات صريحة على أسباب تخلفنا بعد أن كنا طليعة معجبة، ولا يجوز أن نخجل من إحصاء عيوبنا إذا كنا نريد الشفاء المريح والرضاء الأعلى. ويمكن أن نقول إجمالا: إنه كان هناك قصور في فهم الإسلام شمل عددا من المفاهيم والقضايا، كما كان هناك تقصير متعمد بإضاعة تعاليم صريحة والخروج عليها. ص _059(1/52)
القصور ضعف في الفقه، أما التقصير فعصيان سافر، وقد يرى القاصر أو المقصر أنه سليم المسلك، ولكن المعلول لا يعد صحيحاً إذا كانت الجراثيم تسرح في كيانه ولا بد أن تثأر منه سننن الله الكونية التي لا تحابي أحدا !! من الرذائل المنكرة التي انتشرت في تاريخنا حب الرياسة وطلب الإمارة مع أن الإسلام رهب ترهيبا شديداً من هذه الخلة، وبين أن أمر هذه الأمة لا يسلم لمن يطلبه، ويحرص عليه، ويتوسل بما أمكن ليبلغه ..!! هناك أناسى يتعشقون الصدارة كى يفرضوا ذواتهم على المجتمع، أقلهم يملك المواهب التي تسعفه، وأكثرهم مريض بحب الظهور، وتجاوز الآخرين.. والأمم السعيدة هي التي تمنح قيادها من يقلق لتحمل المسئولية، ومن ماتت في نفسه غرائز الأثرة والاستعلاء.. والغريب أن التاريخ الإسلامي تقسمته أفراد وأسر من الصنف المعتل الذي يشبع بالحكم نهمته إلى السلطة والترف. والويل لأمة يتولى أمرها شرارها وتتمرد عدى قوله تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ذاك نموذج سريع للتقصير في ميدان الحكم، أما التقصير في الميدان الاجتماعي فهناك صورة سريعة له جاء في السنن الصحاح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " فلما روي ابن عمر هذا الحديث قال ولده: والله لنمنعهن !! فأقبل أبوه عليه يسبه أشد السب، وقاطعه طول حياته... والغريب أن الأمة الإسلامية خلال القرون المتأخرة تبعت الابن العاق، وغضت الطرف عن الحديث الذي رواه أبوه. فتقرر حرمان النساء من دخول المساجد للصلوات الجامعة، ولسماع الخطب والدروس. ص _060(1/53)
ولما كنت مديرا للمساجد بمصر بذلت جهودا كبيرة ليأخذ النساء وضعهن في بيوت الله، وأمكن بعد لأى إعداد أماكن لهن في بعض المساجد على إغماض من الرجال وضيق! ولا يزال منع النساء من المساجد حكما ساريا في أقطار شتى مما أضر أبلغ ضرر بالأسرة المسلمة، وارتباطها بالعبادات المقررة.. ولنعط كذلك نماذج عاجلة للقصور الديني عند بعض الناس.. كنت أقرأ لمؤلف تركي ينفر الأتراك من الدين الإسلامي والتمسك به، فرأيت هذه العبارة: " يا للحيرة من عقولكم واعتقاداتكم الباطلة، تتركون تقديس سلطان قوي الشوكة كحضرة الفاتح ـ يقصد السلطان محمد الفاتح ـ وتوجهون احترامكم لشخص خيالي موهوم اسمه الخضر...). وقصة أن الخضر رضي الله عنه حى يرزق يسيح في الأرض قصة تافهة وسخيفة، ومع ذلك فإن أعدادا من المتصوفة تتعصب لها وتجادل دونها كأنها من معالم الدين، وهى ـ كما ترى ـ من أسباب مروق بعض المتمردين.. وحدث من مظاهر القصور الديني ـ أن استقدم بعض العلماء ليقرءوا البخاري في سفن الأسطول التركي حتى تحصل البركة، وكان تعليق بعض الظرفاء أن الأسطول يسير بالبخار لا بالبخاري! ومن الأحداث الجديرة بالنظر أن أحمد عرابي باشا أقام مع رجاله قبيل موقعة التل الكبير حفل ذكر ـ رقص ديني بالتعبير الصريح ـ كى ينصره الله على الإنجليز وكانت النتيجة أن انهزم بعد معركة استغرقت ثلث الساعة... كان التصور الديني أن تلاوة الأوراد، من الكتاب، أو السنة أو تآليف المشايخ تصنع العجائب، وقد صنعت فعلاً صدعا هائلا في تاريخ كبير !! فلنترك هذه الأمثلة السريعة ولننظر آثارا مفصلة للقصور والتقصير في حياتنا الإسلامية كى نعرف ما نال منا في الماضي حتى نتجنبه في يومنا وغدنا. ص _061(1/54)
ا- التصوير الجزئى للإسلام: الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، هل هذه الشعب مركوم بعضها فوق البعض كيفما اتفق؟ هل هي كسلع اشتراها شخص من السوق ثم وضعها في حقيبته كيفما تيسر؟ لا.. إنها شعب متفاوتة الخطر والقيمة، ولكل منها وضع عتيد في الصورة الجامعة لا يعدوه. والشبكة التي تكون شعب الإيمان كلها تشبه الخارطة الموضوعة للجهاز العامل في إحدى الوزارات أو إحدى المؤسسات ، هناك مديرون، وهناك مساعدون، وهناك فعلة، وهناك مراقبون، وبين هذه وتلك علاقات مرسومة ونظم إرسال واستقبال وتنفيذ وإنتاج... إن شعب الإيمان التي تغد بالعشرات تشبه السيارة المنطلقة، لها هيكل وإطارات وقيادة ووقود وكوابح ومصابيح وكراسي وغير ذلك، وكل منها له وظيفته وقيمته... ومنذ بدأت الثقافة الإسلامية والإيمان أركان ونوافل، وأصول وفروع، وأعمالا قلبية وأعمال جسمية..! والذي يحدث عند بعض الناس أن جزءاً ما من الإسلام يمتد على حساب بقية الأجزاء كما تمتد الأورام الخبيثة على حساب بقية الخلايا فيهلك الجسم كله.. وقد كان الخوارج أول من أصيب بهذا القصور العقلي أو بهذا الخلل الفقهي، قاتلوا علياً أو يتبرأ من التحكيم، وقاتلوا عمر بن عبد العزيز أو يلعن آباءه ملوك أمية. وسيطرة فكرة معينة على الإنسان بحيث تملأ فراغه النفسي كله، ولا تدع مكاناً لمعان أخرى شىء لا يستساغ، لقينى رجل من المعروفين بالطيبة وسألني: هل تؤمن بكرامات الشيخ فلان؟ قلت: لم أقرأ سيرة هذا الشيخ قال: إليك كتابا يشرح سيرته.. ثم لقينى بعد فترة وسألني: ما رأيك؟ قلت: نسيت أن ص _062(1/55)
أقرأ الكتاب، قال: كيف؟ ـ بانفعال ـ قلت: الأمر غير مهم.. إذا مت وأنا لا أعرف صاحبك فإن الله غير سائلى عنه وعن كراماته، فانطلق يشيع عني أنى مارق لا أومن بالكرامات.. وقابلني آخر يقول: ما رأيك في الموسيقى؟ فأجبت: إن كانت عسكرية تثير الحماس والتضحية فلا بأس، وإن كانت عاطفية تثير النشاط أو الرقة فلا بأس.. وإن كانت تثير العبث والمجون فلا.. فانطلق يشيع عني أني متحلل أسمع الحرام.. كلا الشخصين آمن بشىء حسبه الدين كله فهو يحاكم الأشخاص والأوضاع إليه وحده. وهذا التورم الذي يصيب جانبا دينيا معينا هو السر وراء فقهاء لهم فكر ثاقب وليست لهم قلوب العابدين، ومتصوفين لهم مشاعر ملتاعة وليست لهم عقول الفقهاء. وهو السر وراء محدثين يحفظون النصوص ولا يضعونها مواضعها ولا يجيدون الاستنباط منها. وأصحاب رأى يلمحون المصلحة ولا يحسنون مساندتها بالنص المحفوظ. وهو السر وراء حكام يعملون حسب المواصفات المقررة ـ رعاة للجماهير، وباعهم فى تقوى الله قصير، وعامة يعكفون على العبادات الفردية، فإذا بلغ الأمر النصح والزجر والأمر والنهى والتعرض لغضب الحكام لاذوا بالصمت الطويل. وهو السر وراء أناس يتقنون مراسم العبادة ولا يفرطون ذرة في صور الطاعات الواردة، ومع ذلك لا يعون من حكمتها شيئا ولا يستفيدون منها خلقة. الصلاة تورث النظام والنظافة، وهم فوضى شعثون. ص _063(1/56)
والحج رحلة العمر التي تعمر القلب والجوارح بالسكينة والرحمة وهم في أثناء المناسك وبعدها قساة سيئون. إن الدعوة الإسلامية تحصد الشوك من أناس قليلى الفقه كثيري النشاط ينطلقون بعقولهم الكليلة فيسيئون ولا يحسنون. ماذا يفيده الإسلام من شبان يغشون المجتمعات الأوروبية والأمريكية يلبسون جلاليب بيضاء ويجلسون على الأرض ليتناولوا الطعام بأيديهم ثم يلعقون أطراف أصابعهم، وهذا في نظرهم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل، والسنة التي يبدأون ـ من عندها ـ عرض الإسلام على الغربيين. هل هذا آداب الإسلام في الطعام؟ وعندما يرى الأوربيون رجلاً يبغي الشرب فيتناول الكأس ثم يقعد وكان واقفاً ليتبع السنة في الشرب فهل هذا المنظر الغريب هو الذي يغري بدخول الإسلام؟. لماذا تجسم التوافه على نحو يصد عن سبيل الله ويبرز الإسلام به وكأنه دين دميم الوجه. ثم إن الدعوة إلى الإسلام لا يقبل فيها عرض القضايا الخلافية مهما كانت مهمة عند أصحابها، والأكل على الأرض أو بالأيدي مسألة عادية وليست عبادية، ومن السماجة عرض الإسلام من خلالها. ووضع النقاب على وجه المرأة أمر تناوله الأخذ والرد، ولا يسوغ بحال تقديمه عند عرض دين الله على عباد الله. وتدبر هذا الحديث الذي رواه البخاري في أسلوب عرض الرسالة الإسلامية كما أحكمه رب العزة عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: أى الكفن خير؟ قالت: ويحك ! ما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين.. أريني مصحفك! قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرك أية قرأت قبله؟ إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب ص _064(1/57)
الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شئ: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا"، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه ـ أى السورة. لكن أناس يشتغلون بالدعوة لا فقه لهم ولا دراية، يسيئون إلى هذا الدين ولا يحسنون، وفيهم من يمزج قصوره بالاستعلاء ولمز الآخرين. وقد تطور هذا القصور فرأيت بين أشباه المتعلمين ناسا يتصورون الإسلام يحد من جهاته الأربع بلحية فى وجه الرجل ونقاب على وجه المرأة ورفض للتصوير ولو على ورقة، ورفض للغناء والموسيقى ولو في مناسبات شريفة وبكلمات لطيفة.. ولا أريد تقرير حكم معين في أشباه هذه الأمور، وإنما أريد ألا تعدو قدرها.. وألا يظنها أصحابها ذروة الدين وسنامه، وهي شئون فرعية محدودة، يعتبر القتال من أجلها قضاءً على الإسلام وتمزيقاً لأمته... *** الثقافة الإسلامية فى طورها القائم تحمل مخلفات القرون الماضية بما فيها من قوة وضعف، واستقامة وعوج، وأخلاطاً لا حصر لها من أفكار ومذاهب تفتقر إلى التمحيص، وتفرض علينا ميز الخبيث من الطيب..! وهناك ملاحظات صادقة على هذه الثقافة الموروثة، يجب وعيها لأنها وراء المد والجزر الذي تعرض! له تاريخنا الطويل.. ونوجزها فيما يلي: أ) التقعر في دراسة ما وراء المادة مرض أصاب المسلمين ولوى مسيرتهم العلمية ليا شائناً. والمعروف أن الآيات المحكمة هي أم الكتاب ومناط التكاليف الاعتقادية والعلمية، وأنه بحسب المسلمين في عالم الخلق والسلوك، ص _065(1/58)
وعالم العقيدة والعبادة، وعالم القضاء والتشريع، أن يعتمدوا على هذه الآيات المحكمة وحدها.. أما ما تشابه في الحديث عن ذات الله وصفاته فلا مجال للعقل في بحثه... إن العقل البشري أعجز من أن يفقه حقيقة الروح بين جنبيه، بل أعجز من أن يفقه تحول الأغذية في جسده إلى طاقة وخلايا. فكيف يريد أن يعرف كنه الألوهية، واتصال الذات بالصفات؟ لكن المسلمين للأسف خاضوا بحارا مغرقة في هذه البحوث العقيمة كان لها أثر وخيم في تعجيز العقل الإسلامي عن البحوث المادية وإحسان الإفادة منها. وهذا الاتجاه الشارد عصيان لله الذي أمر بالنظر فى الكون، وبني على هذا النظر السديد حسن الإيمان وجميل المنفعة. (ب) الإسلام دين عمل يؤثر الواقع على الخيال، ويؤثر الحقيقة على الظن، ويؤثر الحركة الماضية في مرضاة الله على اللغو والشقشقة وافتراض الفروض وتشقيق الكلام، وهل نجح سلف الأمة إلا بهذا المنهج؟ بيد أننا وجدنا الدراسة الدينية تميل إلى الشروح النظرية المطولة دون سبب واضح. والذي أحسه أن دراسة الطهارات والصلوات لا تحتاج إلى هذه التآليف المسهبة والأوقات المتطاولة، ومع ذلك فقد أصبح ذلك جزءاً من أعمار المسلمين.. ومثار افتراق واسع بين الدهماء، بل بين نفر من المنتسبين إلى العلوم الدينية. ولم يكتف البعض كهذا الطول المفتعل فأضاف إلى أعمال الحج أدعية في أشواط الطواف وأشواط السعى لا أصل لها، حتى يزيد المراسم وعورة وتهيبا... وقد تأدت هذه المزايدات إلى إضعاف علاقة المسلمين بالحياة، وكانت مشغلة لهم عن إنتاج أهم وأجدى. ص _066(1/59)
(جـ) هناك فارق مؤكد بين درجة التخصص ودرجة التثقيف العام، فالتخصص يلم بمعارف شتى في فنه، ويعيبه أن يجهل ناحية ما في ميدانه.. أما أصحاب الثقافة العامة فيكفيهم ما يحتاجون إليه في بيئاتهم وأحوالهم، ولا معنى لحشو أذهانهم بما لا أثر له في معايشهم.. وقد رأيت أناسا من العوام تبلبلت أفكارهم إثر أحاديث نبوية درست لهم، وهى أحاديث صحيحة السند، ولكن ليس من الحكمة أن يعرفها العوام، فهى فوق طاقتهم الذهنية وقد جاء في الأثر: " إنك ما حدثت قوماً بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ". ومع ذلك فإن قرويين وبدواً أو هُملاً من الخلق يذكر لهم أن نبيا ضرب ملك الموت ففقأ عينه، وأن آدم حج موسى في القدر فغلبه، وأن موسى راجع نبينا في الصلوات الخمسين حتى جعلها خمسة ، وأن الجبار ليلة الإسراء هو الذي دنا فتدلى.. الخ. لماذا تشغل أذهان الجماهير بهذه الأمور؟ ولماذا لا يختار لهم من السنن ما يصحح وجهتهم في الحياة؟ لقد توارث العوام أن سماع هذا الكلام عبادة وأورثهم ذلك شيئا من الخدر والاسترخاء غير قليل.. (د ) ألف المسلمون أن يحفظ القرآن للأطفال، وألفوا أن يوجه للتعليم الديني الضعاف والفقراء وذوو العاهات.. وفي بعض الأقطار الإسلامية يكاد العلم الديني يكون نصيب المطرودين من ميادين التعليم التي يشترط فيها التفوق والتبريز أو حسن المظهر وقوة العصبية.. وهذا المسلك يزرى بمعنى التدين، ويضعف أهل الدين عن اقتياد الحياة بقوة وقد يعجزهم عن مقاومة الجبارين والخطائين.. وعلى ضوء التجارب الكثيرة ينبغي وضع سياسة أخرى للتعليم الديني.. ولنذكر أن الفجوة عمقت بين العلم والحكم في تاريخنا، وأن عدداً من الأئمة والأشياخ أدى واجبه شامخا راسخاً. ص _067(1/60)
ولكن عدداً آخر ـ ربما كان أكبر ـ آثر الانزواء، وارتضى في تغيير المنكر أضعف مراتب الإيمان.. وهناك فريق آخر ربما كان أكبر وأكبر مشى وراء الساسة مداهنا فأكل من حلوائهم وسكت عن أهوائهم.. وإذا فسد العلماء والحكام أخذت الأمم طريقها إلى القاع.. *** موقف المسلمين من الدنيا: الذى أبدع هذا العالم الكبير يعرف أنه أبدع شيئاً يبهر ويعجب، وعندما يلفت النظر إلى أسرار جماله، ووساقة بنائه، فهو يرجعنا إلى الشعور بعظمته، ويثير في أنفسنا الخضوع والإعزاز لقدرته وحكمته ..!! أحيانا أفكر فى هذا الهواء الرقيق المنتشر في الجو، إنه بلطافته يثير الأبخرة فتتصاعد سحباً ومع ذلك فهو يضغط داخل أطر السيارة فإذا الهواء المضغوط يحمل فوقه عصابة من الرجال وكتلاً من الأثقال.. إن صانع هذا الهواء يقسم به في أطواره المختلفة.. (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق). ما معنى هذا القسم؟ إنه لفت نظر لما في هذه الحياة من آيات تدل على الرب المبدع، وليس غريباً أن يقول لك المهندس العبقري الذي صنع سيارة جيدة: انظر السرعة الفائقة، انظر الآلات الدقيقة، انظر الكراسي الوثيرة، انظر المصابيح الكاشفة.. إنه يلفت إلى ما صنع لك، ولكنه ـ قبل ذلك وبعده ـ يلفتك إلى عبقريته ومهارته.! ص _068(1/61)
ولقد كان جديراً بالمسلمين أن يفكروا في الكون، وينتهزوا فرصة حياتهم على الأرض ليعرفوا عظمة رب العالمين، بدراسة خواص المادة والقوانين السارية بين شتى العناصر.. إن الله لا يعرف بدراسة ذاته فهذا مستحيل، وإنما يعرف بدراسة ملكوته الضخم، واستجلاء الآيات الدالة عليه هنا وهناك، لا بأسلوب شعري هائم، ولكن بأسلوب علمي صارم.. وذلك هو منهج القرآن الكريم. وقد ولدت الملاحظة والتجربة في البيئة الإسلامية، وكان يمكن أن تترعرع وتؤتى ثمارها إلى آخر مدى لولا الذى أصاب العقل الإسلامي بالتقعر فيما وراء المادة، ولولا انطلاق بعض المخربين يصرفون الناس عن الدنيا، ويضعون على حواسهم حجبا، فلا يدركون من قوتها ولا من جمالها شيئاً.. ويستحيل مع الجهل بالحياة وقوانينها أن يقوى الإيمان ويستوي على الطريق. والثقافات الإسلامية المبتدعة والمنحرفة سر هذا العوج، وفي مقدمتها التصوف الدخيل، إن الله جل شأنه لما خلق البشر خلق لهم كل ما في الأرض ليستمتعوا به ما داموا على ظهرها أحياء، ومعنى ذلك أن يعرفوا ما هيأ لهم معرفة شاملة. فمن الغباوة أن يأكل المسلمون ويزرع غيرهم، أو يستهلكون وينتج غيرهم.. إن العلم بالحياة الدنيا وارتفاقها والاستمكان منها معان إنسانية عامة فطر الناس عليها، ولا يعد التنبيه إليها مثار دهشة، بل الدهشة أن يتقلب الناس في جنبات الأرض دون قدرة على إثارتها.. وكما ينتفع الناس بالحياة الدنيا لذواتهم ينتفعون بها في دعم أفكارهم وتأييد مبادئهم وقيمهم، فالكف العزلاء تخذل الحق، والسلاح التافه يجر الهزيمة..!! وقد استطاع ناس كثيرون أن يعرفوا من دراسات الأرض والسماء ما جعل أيديهم باطشة وأسلحتهم فاتكة، فأين منزلة المسلمين من هؤلاء.. ص _069(1/62)
عندما كنت أقرأ الهجوم الفرنسي على مصر في القرن الثالث عشر للهجرة كنت أحسن طنيناً في دماغي لغزارة ما سفك من دمائنا دون جدوى، كان الفرسان الشجعان يذوبون أمام المدافع الحديثة والذخائر الخبيثة، وكانت خبرة الفرنسيين بالحياة وعلومها وكشوفها تساعدهم على التوغل بقدرة وترغم الأحرار على الفرار أو الموت الرخيص.. لماذا جهلنا الحياة وبحوثها على هذا النحو. إن الأرض الإسلامية كلها استبيحت نتيجة هذا الجهل الغليظ، مع أن العلم بها لا يقل عن العلم بأركان الصلاة، فإن بقاء الإيمان في الأرض، وصحة الجهاد دونه، لا يتمان إلا بهذا العلم الدنيوي.. العلم الواسع بالدنيا، والقدرة التامة عليها، كانت أمورا بديهية عند أسلافنا. وقد نصروا الحق بهذا الإدراك السديد، ثم خلف من بعدهم من نفض يديه من شئون الدنيا فخذل نفسه ودينه على سواء.. وقد قال المربون الأذكياء : املك الدنيا بغير حدود، ولكن اجعلها في يديك لا في قلبك. اجعلها في يدك لتنزل عنها فداء دينك وشرفك عند أول نداء. ولا تجعلها فى قلبك فتستبعدك، وتكون كاليهود الذين ذمهم الوحي لشرهم فقال: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) لقد كان من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية سوء الموقف من الدنيا وعلومها وبناء التربية الدينية على أفكار غيبية شاعت بين فريق من المتصوفة والزُهَّاد والفقهاء الصغار. ولنفرق بين النوعين من التذكر والتفكر.. فإن الشائع بين جماهير العابدين الذكر العددي وهو ذكر تافه لا يفتح أغلاق القلب ولا يوسع آفاق النظر. ص _070(1/63)
وصورته أن يردد اللسان اسما من أسماء الله الحسنى عشرات أو مئات أو ألوف المرات.. وقد تضاحك الظرفاء لأن الذاكر الذي يصيح " يا لطيف " أعداداً متتابعة تتحول الكلمة على لسانه " فلطى فلطى " وهي كلمة تشبه بغام الدواب ولا تعنى شيئا.. إن هذا الذكر قليل الغناء، وقد استحسنه العباد من عند أنفسهم لا من عند الله فإن الفكر الإنساني المتعرف على ربه أشرف من ذلك وأجل... إذا قال الله تعالى: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) فهل هذا الأمر يعني النظر الحاكم؟ أو النظر القاصر؟ أو النظر العقيم؟ وهل تكرار هذا النظر التافه، يفيد يقظة، أو ثقافة، أو يفتق أمام العقل منفذا يصله بعظمة الله وآياته؟؟ والواقع أنه ما يوجد كتاب دين أمر بالنظر في الكون كالقرآن الكريم، وما يوجد ناس في قرونهم الأخيرة، غضوا عن النظر في الكون كجمهور المسلمين ونشأ عن ذلك أن الأقمار الصناعية تنم عن أحوالهم وهم يلعبون في بلادهم، وأن غيرهم يغزو الفضاء ويتلمس الكواكب، وهم لا يحسنون التنقل على الأرض إلا إذا صنع لهم غيرهم سيارة يركبها أو طائرة يقلها !! إن الإسلام برئ من هذه البلادة.. وقد كان المسلمون حتى عهد محمد الفاتح متفوقين على خصومهم حضاريا ومدنيا وعسكريا، ثم غلبهم الضعف العلمي والعجز النفسي فأخذوا يتهاوون حتى ذهب ريحهم تماماً أول هذا القرن.. وقضية الغنى والفقر تحتاج إلى بيان صحيح، فإن جمهور المسلمين كان يفضل الفقر على الغنى، ولا تزال كتبنا المتأخرة ترى أن الفقير الصابر أفضل عند الله من الغني الشاكر! وقد يجرى على لسان المسلم في ذم الثراء وأهله قوله تعالى: ص _071(1/64)
( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ). وهذا خطأ فاحش، فالآية في الأغنياء الذين سخروا ثرواتهم في نصرة الباطل وضرب الإيمان، وهل هزم هؤلاء إلا أغنياء سخروا أموالهم في نصرة الحق وكسر الطغيان؟ إنه لأمر ما أحصى الله العشرة المبشرين بالجنة، فكانوا جميعا من هؤلاء الأغنياء الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله.. إن المال قوة هائلة، والقدرة على مساندة الدين به عمل صالح راجح.. ونسأل: كيف نبني مدرسة أو قلعة، وتزود هذه وتلك بالمعلمين والمقاتلين ما لم يكن وراءها مال موفور؟ وكيف تنشأ أجهزة الحرب والسلام وهي الآن فنون باهظة الكلفة ما لم يكن وراءها مال ممدود، وثراء عريض.! إن ترجيح البأساء والضراء على النعمة والعطاء تفكير بالغ السخف. والمال كما قال القرآن الكريم في أثره أساس الحياة: ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ). ونحن لا نعرف مصير كل فرد، ولا دخيلة نفسه، ولا حقيقة نيته، ولا تزال أنصبة الناس من الفقر والغنى مجهولة السبب.. ففي البلاد الشيوعية فقر حقيقي وغنى حقيقي، والتمتع الذي يباح للوزير أو مهندس الفضاء، غير ما يتاح للساعي أو الجندي... وفي البلاد الأخرى فقر وغنى كذلك وقد اعتبر القرآن الكريم أن كلا الحالين ابتلاء، يحكم الله فيه يوم اللقاء... وليس ذلك إلينا، وإنما الذي نستطيع تقريره بقوة أن الصعلكة لا تساند قيمة ما، وأن الغنى مطلوب لتربية الفرد وتقوية المجتمع. ص _072(1/65)
ويظهر أن هناك خلطاً بين الغني والإسراف والترف، وأن هناك خلطاً كذلك بين الفقر والقصد والاستعفاف. وهذا الخلط مرفوض بدءا أو نهاية، فلكل معنى حكمه. والذي نريد توكيده أن على المسلمين امتلاك الدنيا، وحسن بذلها لله، فإن الفقر العام شان حضارتهم في القرون الأخيرة وجعل أيديهم السفلى في أكثر من ميدان ..!! 4- الجبرية فى العالم الإسلامى: من أسباب انهيار حضارتنا شيوع مبدأ الجبرية بين الناس، فالمرء لا حول له ولا طول، ولا قدرة ولا إرادة. وإنما هو يحيا بتوجيه خفي أو جلى من مشيئة الله التي تدفع به ذات اليمين أو ذات الشمال، والتي تهيىء له حياة العسر أو حياة اليسر برغمه. وقد يذكر من باب التغطية أو الاعتذار عن الشرع (!) أن للإنسان كسبا أو اكتسابه، والحقيقة أنه مسلوب الإرادة على حد قول الصوفي: * أنا قلم والاقتدار أصابع* وما يصنع القلم وحده؟ إنه أداة وحسب. أو كما يقول الجبريون أنفسهم في بيان حال الإنسان مع الأقدار الغالبة: كريشة في مهب الريح حائرة لا تستقر على حال من القلق ولا يزال أغلب المسلمين إلى يومنا هذا يرون أن الطاعة والمعصية، والغني والفقر، حظوظ مقسومة، وأنصبة مكتوبة، وأن المرء مسير لا مخير. ونشأ عن ذلك أن الشخصية الإسلامية اهتزت، وسيطر عليها لون من التسليم والسلبية... والسبب في ذلك علم الكلام، والتصوف، وبعض مفسري القرآن وشراح السنن ص _073(1/66)
إن التربية الصحيحة تقوم على حقائق واضحة، وعلى تقرير حاسم للمسئولية الإنسانية ولا يجدى في هذا المجال جدل ولا لعب بالألفاظ. ومذهب الأشعري الذي اعتنقه جمهور المتأخرين يتحدث عن المسئولية الشخصية بأسلوب غامض، لا تتضح معه عدالة التكليف حتي قال الظرفاء فيه: أخفى من كسب الأشعري! أما الصوفية.. فقد محقوا الإرادة البشرية، وجعلوا الإنسان مشدوداً بخيوط إلهية إلى مصيره المجهول أو المعلوم.. وكذلك فعل بعض علماء التفسير والحديث وهم يشرحون النصوص المتصلة بالقدر، ولا بد من تخليص العقل الإسلامي من هذا القصور والتخبط، بحيث يقبل المسلم على الحياة وهو موقن بأنه مكلف حسب استعدادات حرة، وأن له قدرة وإرادة يملكان قدراً من الاستقلال يسئل به عما يفعل، وأنه لا جبر ولا افتيات ولا تمثيل في قصة هذه الحياة التي نحياها ..! المسلمون وقانون السببية: وينضم إلى شيوع مبدأ الجبر ضعف الصلة أو انقطاعها. بين الأسباب والمسببات، فعدد كبير من المربين والموجهين أشعروا الأمة بأن النار قد توجد ولا يوجد الإحراق، وأن الماء قد يوجد ولا يوجد الرى، وأن السكين قد يوجد ولا يوجد القطع.. وأن الواجبات العادية قد تتخلف، وأن قانون السببية ـ على الإجمال ـ غير ملزم ولا مطرد.. وعلماء الكلام الذين مالوا إلى هذا الرأى أرادوا الرد على بعض الفلسفات الإغريقية التي تجعل الأسباب خالقة، وتنسب إلى الطبائع ما يقع هنا وهناك.. وكلام اليونان أن الطبيعة تخلق، وأن السبب ـ من ذاته ـ يفعل كلام لا وزن له، ولا دليل عليه، بيد أن الرد لا يكون بنفى ما أودع الله في الأشياء من خواص، وما ناطه بها من آثار، فإن الأسباب ـ بقدر الله فيها ـ تؤتي ص _074(1/67)
نتائجها حتما، أما خوارق العادات فلها شأن آخر وتعليلات فوق المعارف المعتادة، وهى إذا صدقت شذوذ يؤكد القاعدة ولا يهدمها.. لكن المسلمين ـ خصوصاً القرون المتأخرة ـ جعلوا الدنيا لا تضبطها قاعدة، ولا يحكمها قانون، ومن المقبول عقلاً وشرعا أن يتزوج رجل في المشرق بامرأة في المغرب، وأن تلد منه على بعد الشقة، لأنه قد يكون من أهل الخطوة!! أى ربما انتقل من المحيط الهندي إلى الأطلسي في لحظة ما من ليل أو نهار..!! وهذا التصور المخبول لا ينضج معه علم، ولا يصح فيه بحث، ولا يملك أصحابه الأدوات التي يحققون بها نجاحاً عمليا في هذه الحياة. والمقرر في العلوم الكونية والتجريبية والإنسانية وغيرها أن قانون السببية محترم وأن رفضه جنون. والغريب أن كتابات دينية كثيرة جعلت " الولاية " مقرونة بخرق العادة ولما كان في كل قرية شيخ مشهور بالصلاح، ولما كان لا يخلو زمان من هؤلاء الأشياخ العظام (!) ولما كان خرق العادة يقع منهم أحياء وأمواتا بطريقة تعتبر إنكارها جرما، فإن سيلان الخوارق زحم العالم الإسلامي، وجعل قانون السببية لغواً... وكان لذلك أثر محزن في انهيار حضارتنا، واختلال ثقافتنا... وقد تدارك العلماء هذا العوج وألفوا رسائل في دعم قانون السببية وضرورة احترامه.. والشيء الذي نقف عنده قليلاً هو هوس بعض الكاتبين في إثبات الولايات وخوارقها وكأن الرسالة الإسلامية ما جاءت إلا لإثبات هذه القضية !! والذي بدا لي أن هذا الهوس يرجع إلى التعلق بغير الله تعالى، ودعاء المقبورين لعمل العجائب. ص _075(1/68)
فإذا قلت: رجل مات ما تنتظرون منه؟ قيل: انه ـ حيا أو ميتاً ـ يفعل بقدر الله.. فالتعلق به لا ينكر، فإذا اعترضت جاء الاتهام السريع: أتنكر كرامات الأولياء؟ وأمة يدور تفكيرها في هذه القوقعة كان لا بد أن تنهار أمام أعدائها... تقاليد الرياء فى المجتمعات الإسلامية: كان السلف الأول أسلم الناس فطرة، وأصفاهم طبيعة، كان الله تبارك اسمه غايتهم فيما يفعلون ويتركون، وكان رسوله قدوتهم المحببة، وكان هواهم تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم.. وكان انقياد الأمم لهم يتم بعد التعرف عليهم، والتفرس في سيرتهم، والواقع أن هذا هو السر الأول في انتصار الإسلام واستقراره في الأرض.. أما مسلمو القرون الأخيرة فقد استحدثوا تقاليد كثيرة في نواحي حياتهم كلها، تقاليد تقوم على التكلف والتزويق، وتبتعد عن فطرة الإسلام السائغة، وجعلوا هذه التقاليد حدوداً صارمة لا يتعدونها مهما فدح ضررها. لما تأيمت حفصة بنت عمر بن الخطاب من زوجها الأول، لم ير الرجل الكبير غضاضة من مفاتحة صديقه أبى بكر فى الزواج منها.. وعمر بهذا التصرف رجل يحترم الطبيعة الإنسانية، وتتحرك في فؤاده عاطفة الأبوة. والإطار الذي يعمل داخله هو فطرة الإسلام السهلة، فلا ريبة إلا فيما يغضب الله، وكرامته الخاصة مصونة وغالية ما بقى حريصاً على مرضاة الله ورسوله. ثم خلفت خلوف لها منطق آخر يحار فيه أولو الألباب. الرجل له ابنة في سن الزواج بل توشك أن تتخطاه.. يجيئها خطيب كفء يعرض المهر الذي استطاع جمعه، فإذا الأب يقول في صراحة: لا - لا بد من عشرات الألوف من الجنيهات... ص _076(1/69)
ثم تمر السنون وتغلق الأبواب على عوانس كثيرات بائسات يائسات.. لم؟ لأن تقاليد الرياء التي تحكم المجتمعات الإسلامية. في بلاد كثيرة حكمت بهذا على البنات. إن الرياء شرك، وهذا الشرك سيطر على أعراف وعادات جعلت المسلمين يرقب بعضهم بعضا ويتقى بعضهم بعضا، وجعلت الرجل ـ باسم كرامته الخاصة أو كرامة الأسرة التي ينحدر منها ـ يعيش طول عمره وفق أوضاع وقيود من صنع الاستعلاء والتزمت.. أراد عمر بن عبد العزيز إسراج مصباحه فقام وفعل ما أراد، فقال له واحد من المجلس: كنت تأمر أحدنا بذلك ! فقال: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر إن الرجل العظيم لم يحس غضاضة في تصرف يأنف منه الصغار في عصور الانهيار. ولا غرو فعمر يقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قام بنفسه يخدم وفد الحبشة، فلما قيل له: نكفيك هذا… قال: لا… إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين…. وهو الذي رأى أن يجمع الحطب عند إعداد الطعام واشتراك الأصحاب في ذلك، فلما عرضوا عليه أن يستريح أبى لأن الله يكره أن يتميز الرجل على أصحابه.. إن الأمة الإسلامية في القرون الأخيرة جمعت الكثير من الجاهليات في مسالكها الخاصة والعامة، في نفقاتها، في صداقاتها، في أحزانها وأفراحها، في علاقاتها بحكامها.. ولم تكن تفسيراً عمليا لأحكام الإسلام وحدوده، وفطرته وسماحته..علماء لهم سمت الكهنة، وحكام لهم سطوة الجبابرة، ودهماء محصورون في طلب القوت ، ومساجد سامقة البناء يعمرها من لا همة لهم ولا طموح، وكأن المسلمين إخوة لمن وجدهم ذوالقرنين دون السدين ( لا يكادون يفقهون قولا ) ص _077(1/70)
6- وضع المرأة فى عصور الضعف: في حديث مكذوب رواه الحاكم أن المرأة لا يجوز أن تتعلم الكتابة، وفي حديث متروك آخر أن المرأة لا يجوز أن ترى أحداً ولا يراها أحد.. على هذه الآثار انبنى حرمان المرأة من التعليم ومنعها من الذهاب إلى المدرسة. وفي مرويات أخرى تخالف المتواتر والصحيح من السنن حظر على النساء جملة الذهاب إلى المساجد، فأقفرت منهن بيوت الله، وانقطعن عن التوجيه الديني فلا قرآن ولا حديث ولا فقه، بله سائر العلوم الأدبية والإنسانية... وبذلك أصبحت المرأة المسلمة دون غيرها من نساء العالم أقل ارتباطا بالدين واتصالاً بالمجتمع.. ولما كانت المرأة ربة البيت، وحاضنة الأولاد، وغارسة الشمائل الطبية أو الخبيثة، والأفكار الخاطئة أو الصحيحة، فإن حبل التربية اضطرب في العالم الإسلامي اضطرابا شديداً وكان ذلك لا ريب من أسباب خوره وانهزامه. وقضية المرأة لا تعالج على ضوء النصوص قدر ما تعالج على ضوء ملابسات نفسية أخرى. فهناك ناس مصابون بسوء الظن، وشدة الغيرة، وتصديق الأوهام، وهناك مصابون بعلل الشيخوخة وأعراض الضعف الجنسي، يتطيرون من خروج المرأة إلى مسجد أو مدرسة، فيطوحون بكل قول صائب إيثاراً لما وقر في نفوسهم ..!! فإذا انضم إلى هؤلاء اتباع الشائعات العلمية والآثار التافهة علمنا أى حيرة تكتنف قضية المرأة... والواقع أن الملك فيصل رحمه الله لم يتمكن من تعليم البنات في السعودية، وفتح المدارس لهن، إلا بعد لأى، وفي وجه مقاومة ما كان غيره يستطيع التغلب عليها.. وبدهي أن الخط الذي رسمه الإسلام للمرأة غير الخط الذي رسمته الحضارة الحديثة فإن هذه الحضارة أطلقت الاختلاط، وارتضت نتائجه على الأعراض، ورفضت قيما دينية مقررة في كل وحى نزل.. ص _078(1/71)
وقد يكون الأغبياء من رجال الدين أحد الأسباب وراء هذا الانحلال، كانوا يعاملون المرأة بعقلية السجان فجاء من قذف بها في الطريق متحررة من كل شئ !! إن تعلم المرأة وتعبدها يجعلان منها إنسانا مصوناً مأمونا، ويجعلان منها ربة بيت منجبة محسنة، تنشأ الأجيال في كنفها وهي تألف الشمائل الزاكية والمسالك العالية. وأكاد أجزم بأن انهيار التربية السليمة في العالم الإسلامي ـ خلال الأعصار المتأخرة ـ يرجع إلى أن المرأة قصرت على الشئون الحيوانية من طعام وسفاد، وأن ما وراء ذلك يجئ على هامش حياتها، وحياة الأسرة. عندما كانت المرأة تذهب إلى المسجد حتى القرن الخامس والسادس كانت مصدر خير لرجلها وولدها والجماعة كلها، وقد قرأت أن سيدة مؤمنة تأثرت بحديث خطيب المسجد عن جهاد الصليبيين، وما أعد الله من درجات علا لأولئك المجاهدين. ولكن أنى لها الجهاد وهى امرأة؟ فماذا تصنع؟ جذت شعرها المسترسل وبعثت به إلى خطيب المسجد مع رقعة كتب فيها: إنها ترجو أن يجدل هذا الشعر ليكون حبلاً يقيد به جواد أحد المجاهدين في سبيل الله. وقرأ الخطيب الرقعة على الناس، وضج المسجد بالبكاء والتكبير.. وانبعث أولو النجدة والبأس إلى الميادين بعد ما هزهم هذا المثل من امرأة مؤمنة، إن حملة الصليب لم ينكسروا وينكسر معهم شعارهم إلا بهذه المعادن الصلبة من الإيمان الصاحي في قلوب الرجال والنساء على سواء.، أما النسوة الجاهلات فهن يحسن البكاء على مفقود، أو الصياح لرغبة لم تجب ، وما يدرين عن قضايا الدين والدنيا شيئاً. ص _079(1/72)
ونحن نؤكد مرة ومرة أن مكانة المرأة المسلمة في المجتمع المسلم شئ آخر غير ما يقع في أوروبا وأمريكا الآن للنساء، وشئ آخر غير ما يقع في أقطار واسعة من العالم الإسلامي حيث شخصية المرأة ممحوقة من الناحية الدينية والثقافية، وقد تكون باقية للحديث عن ثوب غال وحلية نفيسة.. أما ما عدا ذلك فهى منه صفر..! وأذكر أن بعض الحراس على تقاليد الجهل ناقشنى في هذا الموضوع وقال: الزوج أو الأب يعلم النساء في البيت ويعودهن الصلاة داخله، ولا معنى لخروجهن والتعرض للفتنة ..!! قلت: إن صاحب الرسالة لم يرسل هذه الخطة التي تقترحها.. فهى مرفوضة من هذه الناحية. وناحية أخرى، إن هذا الذي ترجوه معلما لأهل بيته يحتاج مثلهن للتعليم، ضعف الطالب والمطلوب. المرأة الروسية، غزت الفضاء، ويراد أن تعجز المسلمة عن معرفة الطريق إلى المسجد، كل دين في عصرنا مهما بلغ بطلانه ربط النساء بمعابده، ويراد من الإسلام وحده أن ينفى النساء عن بيوت الله..!! لقد أشرت إلى أن قضايا النساء لا تعالج بعلم قدر ما تعالج بعقد نفسية، وأمزجة سوداوية، وقصور يدعي الغيرة، ويتطاول على الحقائق. والمعالم التي صان الإسلام بها الأعراض ينبغي إبرازها، فلا خلاعة ولا تبرج، ولا يؤذن بخلوة مع أجنبي، ولا يؤذن بعمل ما يؤدي إلى ذلك. والأعمال الفنية والإدارية التي يقوم بها النساء، وكذلك جميع الثقافات اللاتي يحتجن إليها أو يرغبن فيها يمكن أن توضع لها الضوابط الإسلامية التي تحفظ حدود الله.. والحكم في هذه الأمور لا يؤخذ من أشباه حفيد عمر الذي قال لأبيه بنزق وطيش: والله لنمنعهن ـ وهؤلاء كثيرون في دنيا الناس ـ إنما يؤخذ الحكم من الفقه الصادق في الكتاب والسنة. ص _080(1/73)
والغريب أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ألف كتاباً في الحجاب اعتمد فيه على ما ثبت من نصوص، ولكن الكتاب منع تداوله لأنه على غير ما يهوي البعض، فإن عقلية السجان لا تزال تسيطر على نفر غير قليل من المتحدثين في شئون المرأة.. إنهم يريدونها محبوسة في عقر الدار لا ترى أحدا ولا يراها أحد حتى تنتقل من ضيق البيت إلى ضيق القبر... 7- ذبول الأدب العربى: التدين الفاسد لا يكسب الآخرة، ولا يحفظ الدنيا، وقد لوحظ أن المسلمين لما ضعف إيمانهم وجَفَّت ينابيع التقوى في أفئدتهم، أضاعوا دولتهم القائمة على قيم بينه، وأضاعوا في الوقت نفسه عناصر حياتهم العاجلة، وفقدوا الإحساس بالجمال والقبح، وأصاب ملكاتهم الأدبية ضمور شائن، فانحط الشعر والنثر، وقل الأدباء المصورون كما قل المؤلفون والمفكرون.. . ونظرة إلى الأدب ورجاله منذ القرن السادس تجعلنا نشعر بهذه الحقيقة فالديباجة الفخمة، والنفس الرائق، والرصف الكشاف، والحكمة النفاذة، والغزل الرقيق، والرثاء الذي يغزو النفوس بالحزن الرفيع، والمدح الذي يرسم المثل العالية، خلال الثناء الصحيح أو المزعوم... كل ذلك تلاشى. وانكمش الأدب شعرا ونثرا انكماشا يثير الاشمئزاز، فبعد أن كان الشاعر يقول القصيدة ملأى بالجمال الفني أياً كان موضوعها جاء شعراء صغار احتقر التاريخ أسماءهم، يقول أحدهم ملغزاً في خاتم، أو واصفاً شمعة، أو مهنئاً بمناسبة... وكأن العرب في جاهليتهم كانوا أقدر على الحياة وأشعر بأفراحها وأحزانها منهم بعد سقوط بغداد، أو حتى بعد فتح القسطنطينية !! وقد فار الأدب العربي أوائل هذا القرن الرابع عشر فورة عظيمة، وجد شعراءك شوقي ومحرم والبارودي وحافظ والزهاوي والرصافي، كما وجد أدباء أعادوا للعربية قوة الأداء وسحر البيان.. ولكن هذه النهضة اعترضت بقوة ويجرى الآن ص _081(1/74)
قتلها ومحو آثارها، لأن القضاء على اللغة العربية جزء من المخطط المرسوم للقضاء على الإسلام نفسه. ونريد التنبيه الى ان ازدهار الأدب يعين الدعوة الإسلامية على الانطلاق كما يعين مراجع الإسلام الأولى على التألق ويقرب الانتفاع منها.. ويوجد علماء دين في هذا العصر نصيبهم من الأدب العالمى والبيان الشافي قليل، وهؤلاء عبء على الإسلام وفقهه ودعوته.. فان معجزة هذا الدين كتاب، ورسوله إنسان مرهف الحس، أوتى جوامع الكلم، فكيف يتذوق الإسلام امرؤ محروم من الذوق الفني ومن القدم الراسخة في اللغة وآدابها؟ 8- سياسة المال فى المجتمع: اضطربت سياسة المال، وساء تداوله في المجتمع الاسلامي، ونشأ عن ذلك فقر مدقع وترف مفسد، وكادت تعاليم الإسلام في هذا الميدان الخطير تنسى او تجحد. (ا) ان الأرض لم تشهد جيشا يسير لأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء الباخلين إلا الجيش الذي سيره الخليفة الأول، ولن تشهد فقها اقتصاديا منصفا للكادحين والمساكين إلا فقه الخليفة الثاني. وبين الحين والحين تبرق لمع من العدل تضئ الطريق للمتعبين، ولكن أغلب الحكام لم يهتم بهذا الجانب الإسلامي، فتعرضت جماهير الفقراء لغبن كبير. (ب) أعلن الإسلام ان المال صنو النفس، وأن الحفاظ عليه، والدفاع عنه يساوي المحافظة والمدافعة عن الدم والعرض... ومع ما تقرر من أن كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به، فإن كثيرا من الحاكمين وحواشيهم أخذ الأموال الوفيرة عن طريق النهب الذي ترتفع له العيون دهشة أو طريق الرشوة التي لا تقضي الحاجات إلا بها.. ص _082(1/75)
ومن أقبح صور الرشوة والفساد ما وقع من " بلطجي باشا " قائد الجيش التركي. فإن الجنود المسلمين استطاعوا تطويق الروس في إحدى المعارك الحاسمة، وكادوا يقضون عليهم قضاء مبرما، ولكن القيصرة " كاترين " ذهبت إلى القائد التركي بنفسها ومالها وكان ما كان، وصدرت الأوامر بفك الحصار! واستأنف الروس ضربهم لدولة الخلافة الضرب الذي قرب الرجل المريض من الموت! وشيوع الرشوة بين المسئولين الكبار أمر يخزى حتى قيل: وزير لا يمل من الرقاعه يولى ثم يعزل بعد ساعه! إذا أهل الرشا صاروا إليه فأحظى القوم أوفرهم بضاعه! والصورة الساذجة للرشوة مال يهدي، ولكن صور الرشوة أمست أعقد من ذلك وأبعد عن المؤاخذة، ولكن هل ما نجا من مؤاخذات الجماعة يفر من عقاب الله؟ ( فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين * والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) (جـ) البطالة آفة تأكل الدولة وتجرها إلى الحضيض، والمفروض أن الدولة مسئولة عن إيجاد شتى الحرف للعاطلين، وافتتاح أبواب الرزق من أبعد مظانها حتى تضمن موارد ثروة لهم ولها، وإلا فكيف تؤدي رسالتها؟ إن النبى صلى الله عليه وسلم وجه العاطلين للعمل، وعد نفسه مسئولاً عن القاعد حتى يعمل والمحتاج حتى يجد... والدول التي ترفع رايات الوثنية أو الإلحاد أو الشرك ترى من صميم وظيفتها النهوض بهذا الواجب، فكيف تنكل عنه حكومة مسلمة ؟ ص _083(1/76)
والبطالة المقنعة لا تقل سوءاً عن البطالة الصريحة، ومن المأثور عن عمر بن الخطاب: " إني أرى الرجل فيعجبني، فإذا علمت أنه لا عمل له سقط من عيني "! وقد امتلأ العالم الإسلامي بالطاعمين الكاسين من فضول أموال لا يدري كيف نبتت أصولها.. ولا بد من النظر بخوف إلى هذه الفئات التي تستهلك ولا تنتج.. والذي يدفعنا دفعا إلى هذا النظر، ليس ما وقع في الماضي فقط من مآسي شداد، إنما هو ما يقع في العالم الآن من تجنيد لكل الطاقات. ونحن نعلم أن دولاً تقوم الآن على أن بطاقة الأكل لا يحرزها إلا من لديه بطاقة عمل !!، فمن المهم أن تعمل الحكومات الإسلامية بجد على جعل العمل معصوباً بجبين كل رجل، بحيث لا يبقى مكان محترم للبطالين.. 9- الفساد السياسي: يقول الله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) لكنه في ميدان الحكم طاحت الأمانات، وقلما عثر لها على أثر. ولندرس تاريخنا لنأخذ منه العبر.. ما وسد الأمر إلى أهله، وما حاول الذين وسد إليهم الأمر أن يرتفعوا إلى مستواه، ولا قنعوا ماديا وأدبياً بالعيش في نطاقه المحدد.. لقد خولفت خطة السلف في اختيار الأكفاء. فإذا كان أبو بكر بويع لأنه أفضل الناس، وإذا كان عمر اختير لكفاءته وقوته، فإن الجمهرة العظمى من الحكام ولوا مناصب هم دونها بمراحل ، ولما ولوها اتخذوها مصيدة لدنيا عريضة، واستمتاع مطلق. وكانت نتيجة ذلك وبالاً على الدولة وسواد الأمة ومستقبل الرسالة.. ص _084(1/77)
وقد بدأ هذا الانحدار رويدا رويدا، ثم شرع على اختلاف الليل والنهار يتكشف حتى سقطت الخلافة أول هذا القرن. واقترن باختيار الخلفاء على ذلك النحو ما يلي من مخلفات دينية: (أ) أُهملت الشورى، ولم يعتمد عليها الحاكمون في إحكام الشئون الدينية مع أن الإسلام قرر أن المجتمع يقوم على التناصح ، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على الخير، ورفض الإعجاب بالرأى، والافتيات على الجماعة.! وهذه المعاني قد تقع لها صور ساذجة فيما يدور بين الناس من حديث، أو فيما يسعون له من مصالح، لكنها تحتاج إلى مؤسسات جادة ضخمة لضبط شئون المسلمين بين المحيطات العظمى التى تحد عالمهم الكبير. (ب) العجز الإداري: وهو من وراء الفتوق، والخروج على الدولة فى عهود شتى، ونشوء دويلات كثيرة، بعضها لم يخلص للإسلام ولاؤه، بل بعضها كان حرباً عليه. ومن الفواجع أن دولة القرامطة فتكت بقوافل الحجيج سنين عددا، وأنها انتزعت الحجر الأسود من مكانه، وعجزت دولة العباسيين عجزا مفضوحاً عن استرداده، فما عاد الحجر إلا بتفاهم بين القرامطة والفاطميين! وقد فرض النظام اللا مركزي نفسه في وجه رغبة من الخليفة العاجز أن يحكم القارات، دون مواهب وقدرات. وقد يختفي العجز الإداري حيناً مع وجود حاكم شديد البأس، ثم يبرز الداء ويعاني المسلمون آلامه. (ب) فقدان الأجهزة المسئولة عن الدعوة في الداخل والخارج: المسلمون حملة رسالة، ودولتهم تنهض على فكرة معينة، وبديه أن تتكون في مجتمعهم الأداة التي ترقب سير الدعوة في الخارج وتشرف على كيانها في الداخل، وأن يكون هناك رصد يقظ للأرباح والخسائر، والانتصارات والهزائم. ص _085(1/78)
وقد كنت أسأل نفسي أحياناً: هل انعقد مؤتمر للبحث عن سبب سقوط القدس في الحملة الصليبية الأولى؟ هل انعقد مؤتمر للبحث عن سقوط بغداد وأسباب اجتياح التتار للدولة؟ هل انعقد مؤتمر للبحث في أحوال مسلمي الأندلس ، وتعرض دولتهم للانكماش حتى تلاشت؟؟ إن الجفوة الرهيبة بين العلم والحكم كانت من وراء الاضطراب الشديد في العالم الإسلامي، وكانت من وراء الذهول المعيب عن قضاياه الكبرى. ربما كان هناك اكتراث شعبي ينفخ العلماء أحياناً فيه ليتحول إلى عمل مبرور، وجهاد صالح. لكن الحكام كانوا في واد آخر، ولعلهم آخر من يعلم ويتحرك..! (د) مع الغفلة السائدة عاشت داخل الكيان الإسلامي فرق دينية أبطنت الخيانة والمروق وظلت تنتظر الفرص المواتية لضرب الإسلام وطعن أمتة في ظهرها. وقد تحركت هذه الفرق مع الزحف الاستعماري الأخير، وأعانت الغزاة على إدراك لباناتهم من هذا الدين المسترسل السمح.. *** ص _086(1/79)
الفصل السابع أبعاد الهزيمة الإسلامية كان لسقوط الخلافة في أوائل هذا القرن دوي مسموع في القارات الخمس، وأحست القوى المعادية للإسلام أنها أحرزت نصراً لا مثيل له منذ احتدت الخصومة بينها وبل! هذا الدين..! نعم.. سقطت الخلافة في بغداد خلال القرن السابع، بيد أن البون بعيد بين الحالين. إن التتار المنتصرين لتفوقهم العسكري كانوا أحط حضارة، وأقل ثقافة من الأمة المهزومة، وإذا كانوا قد غلبوا حكما غلبته علله،. وأحاطت به خطيئته، فإن الأمة الجريح سرعان ما تيقظت فيها مواهبها المخدرة، وثاب إليها رشدها. وما هى إلا سنون وسنون حتى دخل التتار أنفسهم في الإسلام، وتحولوا إلى دم جديد في كيانه... أما الرجل المريض فى أوائل القرن الرابع عشر فكان يعاني من علل أفدح، وجراحات أنكى، وكان عداته قد صعدوا في سلم الترقي، وواصلوا الصعود، وهو جاثم على مكانته حتى أضحوا في وضع يشرفون عليه، ويهيمنون على حركاته وسكناته.. كما يستمكن الضارب على قمة جبل من الماشين بالسفح.. وأخذت القوى المعادية للإسلام تعمل ضده، وهي واثقة من موقفها، واستطاعت بتفوقها الثقافي والسياسي أن تنال أكبر فوز بأرخص ثمن. ويكفي أنها من مكانها العالي سلطت بعض المسلمين على بعض وفرغت هى لجنى الثمر. أغرت الترك بالعرب والعرب بالترك، حتى أوهنت قوى الكل.. ولما رأت الرجل المريض يتشبث بالحياة ويحاول الصمود، !غرت " مصطفى كمال " ففتك ص _087(1/80)
بنظام الخلافة أى أن النظام الإسلامي انتحر، قتل نفسه فلم تظهر اليد الصليبية وهي مخضبه بدمه، لقد كفاها النظام العسكري المرتد هذا العبء!! وهذا هو الأسلوب الذي تكرر في غضون هذا القرن لإخماد أنفاس الإسلام كلما بدت منه حياة. تكرر في أقطار شتى ومن ورائه الاستعمار العالمي وضغائن القرون. وجهد القوى المعادية للإسلام خلق فئات مغرورة، مرتدة تقوم بدلاً عنها بمطاردة شعب الإيمان واحدة واحدة. فإذا ظهر أن كفة الإسلام سترجح كشف أعداؤه الأصلاء النقاب، وأعانوا أذنابهم، ومدوا بقاءهم... ثم عادوا إلى أوكارهم يرقبون الموقف وهم يبتسمون. وانفرط عقد الدولة المهزومة عن عشرات الدويلات التي خضعت للاستعمار الجديد أو دارت في فلكه.. فأين الإسلام الذي كان يجمعها بصبغته، ويظلها برايته؟ لقد تقرر طمس حقيقته، وإخفاء اسمه. كأن الخليفة رب أسرة مطاردة له ذرية ضعفاء، فلما فتل فر الأفراد إلى المشارق والمغارب يلتمسون لأنفسهم المهارب، ويتخفون في زحام الخلق، حتي لا يعرف أحدهم بنسبة، فيقتل كما قتل أبوه …!! المسلمون في هذا القرن ـ بعد ضياع جامعتهم الكبرى ـ أوزاع مفرقون على أكثر من سبعين دولة، كثرة ساحقة في بعضها وقلة مسحوقة في بعضها... والكثرة والقلة تنظر إلى دينها بحذر، هناك من يجد الجرأة فيعلن ولاءه له، وهناك من يحمحم ولا يستطيع- النطق، وهناك ن يلوز بالصمت، وهناك من يعلن البعاد. وكما قال شوقي: ظهرت دعوات لسجاح جديدة ولمسيلمة جديد.. فهناك حاكم يدعي الإسلام ـ يعلن أن السنة لا أصل لها ولا بقاء ويضع برامج للخلاص منها. ص _088(1/81)
وهناك من يرى أن النصرانية والإسلام دينان متساويان ـ ينبغي أن يدرسا في كتاب واحد.. وهتاك من يرى أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبقرية عربية ناجحة، تصلح لتكون إحدى القوى في بعث عربي جديد. وإلى جانب ذلك يوجد مشتغلون بالعلم الديني لا يزالون يناقشون الجهمية والمعتزلة في القرن الثاني !! وأدعياء زهد يريدون البحث عن تقاليد التصوف في " بلخ " لرجم العصر الحالي بها.. وأعداء الإسلام الفائزون في سباق السلام، والتسلح على سواء يرمقون هذا الخليط العجيب وهم يتضاحكون.. ولم لا؟ وهم مشاركون في صنعه. نعم.. إن الغزو الثقافي الذي رسمت خططه بمهارة يقوم بوظيفته خير قيام، ومن ورائه ساسة مهرة، وعلماء نفس، ورجال أعلام، وأجهزة مالية وإدارية في شركات اقتصادية كبرى، وأفلام من كل نوع للمسرح والسينما والتليفزيون، وعيون ساهرة في الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية الموجهة بذكاء... وأخيرا.. ومنتمون إلى الإسلام لا عبادة لهم ولا دراية. نظرة إلى الحملة الصليبية الأخيرة: لم تضع الصليبية العالمية ساعة في استغلال التخلف المدنى والعسكري للمسلمين، وأخذت تعمل ليلاً ونهارا لتوسيع دائرتها على أنقاض الأمة المنهدمة. وفي القارات الخمس بدأ التبشير يين المسلمين المقيمين والمغتربين، والأصحاء والمرضى، والمثقفين والأميين، والعرب والأعاجم، بدأ بمختلف الوسائل ينصب حبائله ويملأ يديه بغنائم باردة... ونلحظ أن الخصوم القدامى أصلحوا ذات بينهم، واجتمعت صفوفهم، على أمل أن يجهزوا على الإسلام في محنته.. ص _089(1/82)
اتفقت اليهودية والنصرانية، وغيرت عبارات في الصلوات المسيحية، أولت نصوص في الأناجيل، وانتهت عداوة عشرين قرنا ليواجه هؤلاء وأولئك الإسلام معاً. واتفق الفاتيكان مع الكنيسة الشرقية التي ظل يحاربها طوال ستة عشر قرنا، وبعدها مارقة عن التعاليم الصحيحة، ومد إليها يده ليواجه هؤلاء وأولئك الإسلام معا.. واتفق الكاثوليك مع البروتستانت وتنوسيت الخلافات والمعارك الداخلية بين الفريقين، وأمست المؤتمرات المسيحية تجمع بين الفريقين ليواجهوا الإسلام معا. بل إن الاستعمار الصليبي لجا إلى خطة بارعة، ترك الشيوعية تضرب الإسلام، أعانها، ومكن لها، واستقدم رجالها ومبادئها في الأقطار التي لم تبلغها..! حتى إذا أوشكت أن تستولى على الدولة تدخل هو في الوقت المناسب، وتعاون مع إدارة إسلامية ضعيفة، ومهد لها طريق الحكم على شرط أن تترك التبشير المسيحي يعمل عمله دون اعتراض.. وذلك سر إذاعة صوت الإنجيل من " أم درمان " العاصمة الإسلامية، وسر الأجهزة التبشيرية الهائلة في جزائر إندونيسيا الرحبة.. وماذا يتوقع بعد هذا كله؟ بعد أن تظاهر اليهود والنصارى والشيوعيون والبوذيون وغيرهم على أمة متعبة لاهثة الأنفاس لقد نجح التبشير النصراني في قص أطراف كثيرة، وأمكنته الظروف التعيسة التي يعيش فيها مسلمون مضطهدون أو مضيعون أن يغرى بالارتداد عن الإسلام ناسا كثيرين في إندونيسيا وبنجلاديش وبورما والفليبين، بل إنه يهجم الآن بقوة في البلاد العربية نفسها. وطريقة التبشير الأولى استغلال الفقر والانقطاع.. ولدي تقرير من استراليا يفيد أن رب أسرة فارا من تركيا كاد يهلك من الضياع، فأسعفته بعثة تبشير ثم تنصر الرجل وأولاده، وهم الآن يكونون أسرة فوق المائة. ص _090(1/83)
والمسلمون في أستراليا نحو خمسين ألفا جلهم من المهاجرين الأعاجم، وأقلهم من العرب، وقد بذلت المملكة العربية السعودية جهودا مشكورة للتعرف عليهم، وإقامة مركز إسلامى بينهم لعله فى طريقه إلى الظهور. وسيل المرتدين عن الإسلام في إندونيسيا كبير، ربما تجاوز المليون. وقال لي مسلم إندونيسي إنه يعرف موظفا التحق بشركة للمياه الغازية بمرتب حسن، وكان مسلما محتاجا قبل أن يجد هذا العمل، فلما استقر فيه وبدأت أموره تتحسن خير بين الفصل أو الدخول في المسيحية، ودخل الرجل وأولاده المسيحية ليعيشوا !! وعندما طردت حكومة بورما البوذية نحو نصف مليون مسلم من البلاد سارع الصليب الأحمر ـ مشكورا ـ ليوزع اللبن على الجياع ويقدم المأوى للشاردين. وأنا أعرف أن نساءً كثيرات هنديات الأصل اعتنقن النصرانية، ويقمن الآن بعمل هائل في دول الخليج، في البيوت والمستشفيات ومدارس الأطفال.. إن التبشير فى صمت حيناً، وفي مجاهرة حينا يتحرك في كل القارات والأمل الذي يداعبه أن ينتهي ـ في القرن العشرين ـ من الإسلام، أو من عناصر القوة التي تستبقيه. وإذا كنا نحن نحتشد في نهاية القرن الرابع عشر الهجري لندير الرأى فى خطة نستأنف بها الحياة، فإن القوم يفكرون خلال القرن العشرين الميلادي كيف يقضون علينا وعلى ديننا، وتتخلص الدنيا من محمد صلى الله عليه وسلم ودينه جملة وتفصيلا ..!! ونحن نثبت هذا المقال المنشور في مجلة مسيحية لنعرف بجلاء الوجهة التي تسير إليها معركة الأديان خلال هذا القرن... ص _091(1/84)
" المسيحية تكتسح القارة الإفريقية " سوف تكون سنة 2000 سنة فخر لإفريقيا درن بقية القارات الأخرى إذ يصبح أكثر سكانها من المسيحيين. لأن النسبة الحالية للارتداد إلى المسيحية قد بلغت مليون نسمة سنويا باستمرار. وهذا الإحصاء حسبما يراه كل من المتحدثين المسئولين عن الكاثوليك والإنجليكان في واشنجتون عند الحديث عن وضع الإرساليات ومبعوثيها في أفريقيا. وهذه نظرية قالها " داود باريت " في الستينات. ويؤيده في الرأى " كانون بيرجبس كار " الأمين العام لمؤتمر كنائس عموم إفريقيا. ولكنه تقدم خطوة أخرى في الحديث عن " أفرقة المسيحية " بما قرره من أن نموها سيكون أسرع في الكنيسة الكاثوليكية منه في الكنيسة البروتستانتية. من حيث يجد الأفارقة الكاثوليكية لا أكثر ملاءمة لهم. إن الإحصاء العددي لسكان إفريقيا سنة 1976 ـ بما فيهم عرب الشمال ـ بلغ 431 مليون نسمة. والكنيسة الكاثوليكية تملك مليونا ونصف مليون كنيسة في جنوب إفريقيا وأعضاؤها يبلغون 46 مليون حسب إحصائية قام بها الفاتيكان. وفي السنين الأربع الماضية بلغ معدل من يدخل في المسيحية مليون شخص سنويا ويزيد عدد البروتسانتيين عن غيرهم من الفرق المسيحية بخمسة وستين مليونا. يعتبر رجال الكنائس الأمريكية أنه لا تقصير في ازدهار المسيحية فى إفريقيا أو الصعيد العالمي حث بلغ عدد المسيحيين فيه أكثر من 1.2 بليون نسمة. فنجاح الإنجليكانية واستمرارها فى مشاريع المساعدات للأفراد هما أكثر فاعلية. ص _092(1/85)
وتقسيم الأعمال مبني على أساس أن اللوثرية مثلاً نشيطة في الإذاعة، بجانب عملها فى المناقشات التقليدية المتطورة، وإعطاء المعونات القرضية للكنائس والمستشفيات وللبرامج الزراعية الأهلية. ففي الحبشة يباشر العمل في محطة الإذاعة نفر من الأخصائيين، وصوت راديو " إذاعات الإنجيل " مجهز بأشرطة التسجيل ويعمل في كل الميادين. ويذيع في الأستديوهات الفرعية الصغيرة في كل من أثيوبيا وإفريقيا الجنوبية الغربية والكاميرون وإمبراطورية إفريقيا الوسطى ومدغشقر ونيجيريا وجنوب إفريقيا وتنزانيا. وقد رتبت البرامج على أن تكون باللغات الأمهرية الأثيوبية والفولاذية في الكاميرون. أما الشئون الطبية العلاجية فتقوم بها " الادفنت " التي تملك عشر طائرات إرسالية مهماتها نقل الأطباء والممرضات لعلاج المرضى في الأحراش. وقد أنشأت خمسة عشر مستشفى وباشرت العمل فيها. وبلغ عدد الأسرة فيها 1776 سريراً وخمسة من هذه المستشفيات خاصة للجزام. وهناك إلى جانب ذلك أكثر من 109 عيادة ومخزن أدوية، وهناك مائة وثلاثة وستون من بين الثلاثة أرباع المليون من الإدفنتيين يعملون فيما وراء البحار. إن " ر. م. رينهارد " البالغ من العمر 27 سنة ـ وهو محارب قديم أدى واجبه العسكري في إفريقيا ويقوم الآن بعمل أمين الصندوق المساعد للمؤتمر العام للإدفينيتت قال: " إن هذه المنظمة غير سياسية النزعة. وفرقتها عبر إفريقيا قوية. والمركز الرئيسي في " ساليسبورى " يباشر كلا من روديسيا وجنوب إفريقيا ومالاوى وزامبيا وزائير وإفريقيا الجنوبية الغربية (ناميبيا) ورواندا وبوروندي. وعكس ذلك فإن الكنيسة المسيحية المتحدة التي هى مرادفة للكنيسة الطائفية ص _093(1/86)
في جنوب إفريقيا تعتبر نفسها ـ سياسيا ـ نشطة وتساعد بقوة حركات السود، وهى ـ في نفس الوقت ـ ضد التفرقة العنصرية ". وقد عقدت هذه الكنيسة " محاورة متحدة " بين العناصر المختلفة من الأساقفة والشيخين والميتوريستيين بالقرب من مدينة آليس سنة 1975 وفي الوقت الذي اتخذت حكومة جنوب إفريقيا إجراء إلغائها ونقل نشاطها إلى مدينة " أوستانا " في " ترانسكي " تقوم الآن بالتدريس خارج المخيمات. ويلاحظ الأب " سيمون ى. سميث " السكرتير التقليدي لإرسالية " جوسييت " في واشنجتون والذي رجع حاليا من " زائير " أن الأفارقة يجب أن ينبذوا البقية الباقية من الاستعمار ". ولتحقيق هذا، التغيير السياسي المفاجيء فإن الإرسالية في إفريقيا يجب أن ترضى اليوم بأن يكون العمل تحت قيادة الزعماء السود.. لكي تخدم الكنيسة. وليس بقيادة جماعة من المتوحشين الظالمين. وأبلغ الأب " سميث، في تقريره هذا أن هناك 1500 من " الجوسيتيين " في إفريقيا الآن. وأن ثلث هؤلاء من السود الذين هم في اطراد متزايد ويتولون الأعمال المصيرية الهامة. وينبغي أن نذكر أن " لوريان روجامبوا " من تنزانيا هو أول كاردينال أسود من هذه الفرقة. وهو أحد الإثنى عشر من الكرادلة الكاثوليكيين في هذه القارة: عشرة من زملائه إفريقيون. واثنان فقط من البيض. ومن بين 300 أسقف كاثوليكي في إفريقيا يوجد 195 من الأفارقة، ومعظمهم من السود، يخدمون في شرق وغرب ووسط إفريقيا. هذا ورئيس جمهورية ليبيريا " وليم. ل. توليبرت " يشبه رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية " جيمي كارتر " فى أنه المعمداني وعضو عامل في الكنيسة …!! ففي سنة 1960 صار أول أسود اختير رئيساً للجمهورية في الاتحاد المعمداني العالمي وخدم مدة الرئاسة خمس سنوات وما زال يعمل قساً فى ص _094(1/87)
الكنيسة المعمدانية في إفريقيا بقرب منزله في " بيونسون فيل " في ضاحية "مونروفيا ". والدليل على فخر المعمدانية في إفريقيا وجود 111 ألف محطة إرسالية في 38 بلدة ومجموع أعضائها من الوطنيين السود هو826 ألف عضو. ولكن العلاقات المعمدانية أكثر قوة في كل من زائير ونيجيريا. والثقة تعطي أملاً أكثر في صدق نظرية سنة 2000 وغلبة النصرانية على القارة كلها من زيادة استقلال الكنائس الإفريقية. وهناك منذ السنين العشر الماضية سعى إلى توحيد الفرق البروتستانتية في الكنائس الاتحادية مثل كنائس زامبيا وملاوي والشعوب الأخرى. ولكن هل يعيش الدين المنظم مع النكسات التي وقعت أخيرا مثل التغير الوضعي الذي قام به رئيس جمهورية أوغندا " عيدي أمين " نحو المسيحيين. إن رد فعل واشنجتون في هذا الموضوع متضارب: إن عضو مجلس شيوخ " ايداهو جرامك شريس تاني " العضو القوى في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ يشعر بأن حوادث أوغندا الحالية هى استعراض قبيح للضغط على حقوق الإنسان. ويقول ذلك العضو مستطرداً: " إن المشكلة الحساسة في هذه السنين هى مستقبل الإرساليات المسيحية لا سيما الإرساليات البيضاء في الشعوب السوداء. إن زيادة الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية هى اعتراف صريح بتقدير أعمال هذه الكنائس. وقد ينظر إليها تارة على أنها تعطي صورة عن ذكرى غير مستحسنة عن أيام الاستعمار. إن الموضوع الأساسي المهدد بالخطر في إفريقيا اليوم هو: "حقوق الإنسان " التي منها حرية الأديان، ولكن رغم هذه المشاكل ولأجل هذا التقدم فإن أكثر الإرساليات المسيحية في إفريقيا تريد العودة إلى القارة السوداء، فالراهبة ص _095(1/88)
البيضاء " تريسي" الكندية الفرنسية المشرفة على بيت راهبات واشنجتون في إفريقيا لخصت الهدف العام للإرسالية ـ وتمثلت بالقول السائر المشهور لدى كثير من المحاربين القدماء الذين حاربوا في إفريقيا: " من شرب مياه إفريقيا فإنه سوف يعود إليها مرة أخرى ". غارة شعواء: لقد بدا واضحا أن القوى المعادية للإسلام تقصد قصدا إلى القضاء عليه، والخلاص منه، وجاشت أماني خبيثة في عقلها الباطن تنشد الويل للمسلمين والدمار لقضاياهم الفكرية والاجتماعية ..!! وقد قلنا: إن الجامعة الإسلامية تلاشت سياسياً مع سقوط دولة الخلافة خلال هذا القرن، وتمخض تفتيت الدولة الكبرى عن عشرات من الدول التي تضم جماهير غفيرة من المسلمين. إلا أن الخطة المرسومة بدهاء حددت للدويلات الناشئة مسارها.. وبدأت فحذفت الولاء للإسلام من بنائها الخلقي وسلوكها العام، فأضحى الولاء للأرض والجنس، وارتفعت أعلام القوميات الضيقة في أغلب الأقطار الإسلامية.. فهل يسمح للإسلام أن يكون جزءا من مفهوم هذه القوميات المحدثة؟. لقد سمح له بوجود ضعيف في بعض الأنحاء، وجود محروم من أسباب النماء والتأثير، على حين سخرت عناصر كثيرة لجعل الولاء القومى يتحرك ويتطور. ومن هنا أخذ الإسلام في ميدان التربية والسياسة يتراجع ويتخاذل، وأخذ الاستعمار العالمي يملأ الفراغ المتخلف في كلا الميدانين، فتكونت أجيال مستوحشة من دينها، زاهدة في عاداته وشعائره، أو لعلها منكرة لها، متمردة عليها. ص _096(1/89)
وأمكن في الميدان السياسي قسم العالم العربي والإسلامي قسمين منفصلين ـ برا وبحرا ـ وذلك بإنشاء دولة يهودية على أنقاض فلسطين وشعبها المضطهد المغبون... وإذا كان الاستعمار قد أمات الولاء للإسلام، وعد إحياء هذا الولاء خيانة وطنية، فإنه أحيا الولاء لليهودية والنصرانية، وأقام إسرائيل رمزا للولاء الديني المأذون به علانية !! وشرع يحرك الطوائف النصرانية في العالم العربي والإسلامي، ويملي لها في أسباب الدعوى والاغترار، ويغريها بالبطر والانتقاض، ويهمس في آذانها بمطالب مجنونة، وذلك كله حتى يقيم جدراناً سميكة بين المسلمين والعودة إلى دينهم، والتعلق بجامعتهم الكبرى..! والنصارى في الأقطار العربية يتراوح عددهم بين 7 ـ10% من سكان مصر وسورية والأردن وربما بلغوا ربع السكان في لبنان.. والخطة التي وضعت ونفذت اعتبار القلة كثرة ومنحها حقوقاً أدبية ومادية تربو على أضعاف حجمها الحقيقي مثنى وثلاث ورباع.. وفي لبنان رأي الاستعمار أن تكون الدولة نصرانية، وقبل منها أن تهضم الكثرة المسلمة وأن تلقي إليها بالفتات ! والعجيب أن نصارى لبنان ألفوا فرقا عسكرية تعاونت مع إسرائيل جهرة، وسفكت الدم الإسلامي بغزارة، ومع ذلك فإن العرب استحوا من اتهام هذا التصرف بالتعصب الديني، وسموا من يقترفون هذه الخيانات " انعزاليين " و" يمينيين " و" رجعيين ".. ولم يشاءوا وصفهم بما يصفون به أنفسهم من أنهم مسيحيون !!.. والسبب في هذه المراوغة الإعلامية ظاهر!، فإن وصفهم بالنصرانية قد يحرك في جماهير المسلمين النزوع إلى الإسلام ـ كرد فعل طبيعي ـ فليسدل ستار الصمت عن هذا الوصف المخوف النتائج..!! وكان لبنان بعد حصوله على استقلاله محكوماً بنظام ظاهره مدني قومي، ولكن أوضاعه الإدارية نسقت بطريقة تجعل الكثرة المسلمة محقورة مهيضة الجناح.. ص _097(1/90)
غير أن أتباع الدين المهزوم لم يتخلوا عنه، ولم يقبلوا طويلاً هذا الهوان، فانفجرت ثورات شتى تبغى إعادة التوازن بين الطوائف التي تكون لبنان. ولا ندري ماذا تنتهي إليه الأمور في هذا القطر الذي يراد تنصيره من نصف قرن ولا بأس أن نسجل الأسلوب الذي رسم لتحقيق هذه الغاية.. وهذه ترجمة منشور وجد مصادفة في أحد الأديرة كتب بالفرنسية سنة 1913 موجها من الدولة الأم إلى أبنائها المخلصين أبناء يسوع المسيح، مبدوءا بهذه الجمل: يا من صبرتم على الذل والهوان عبر القرون دفاعا عن عقيدتكم ـ يقصد أيام الحكم الإسلامي ـ أيها الشرفاء الأطهار.. لا تنسوا هذه الوصايا العشر: 1- قد رتبنا لكم أهم الأشياء التي تضمن لكم معيشة حسنة على هذه المنطقة، مثل تمليك الأراضي، والوكالات الأجنبية،: الوضع السياسي، وشئون النقل، ويبقى عليكم أن تحافظوا على هذه المكاسب وتزيدوها مع الأيام... 2- إن هذا الوطن لم يخلق إلا لكم. حتى تجمعوا شملكم، وتباشروا حريتكم بعد الحروب الأخيرة التاريخية، فاعلموا جيدا أن كلمة لبنانى معناها مسيحي. أما العرب الذين جاءوا من الصحراء فيجب أن يعودوا إليها.. 3- جاهدوا للسيطرة على المصايف وأمور السياحة وامتلاك ساحل البحر، وأخرجوهم من قراكم كلما أصبحتم أغلبية، ولا تنسوا تجهيز ميناء احتياطي في مدينة غير بيروت لا يكون فيها مسلمون، وذلك عندما تسنح لكم الفرص..!! ـ تم إنشاء ميناء مسيحي ـ. 4- عليكم بأسباب القوة من رياضة، وسلاح، وتنظيمات للشباب، واهتموا بالجيش وعليكم بكتمان أموركم.. 5- احرصوا على الزعامة الأدبية مثل نشر الكتب، والسيطرة على النقابات، والاتحادات، ولا تعترفوا بأن تراث لغتكم وتاريخكم ملك للمسلمين، وحاربوا "بلا هوادة " الأفكار والأشخاص الذين يعاكسون اتجاهكم.. ص _098(1/91)
6- إن الاختلافات المذهبية بينكم يجب أن لا تخرج عن النظرية السطحية، لأن حياتكم مرهونة باتحادكم أمام العدو الكافر، من حيث إنكم أبناء يسوع علمنا المحبة. 7- ادرسوا دائما مخططات الآخرين، وتدخلوا معهم لكي تعرفوا ما عندهم، ولا مانع للبعض من التظاهر بتأييدهم عند الضرورة، ولكن على كل واحد منكم أن يبقى مرتبطا بمبادئه وكنيسته.. 8- ارفعوا رؤوسكم في كل مكان، واعلموا بأن كل القوى الجبارة في العالم الحر تساعدكم وتقف بجانبكم فى أسرع وقت! ولكن عليكم أن تتصرفوا كأنكم لا تعرفون ذلك.. 9- اجتهدوا بالتقرب من ملوك العرب ورؤسائهم بالخدمات الشخصية، وهذا شيء سهل جدا يفتح لكم مجالات واسعة للعمل، ويدر عليكم أموالا هائلة ونفوذا أكبر حتى في البلدان المستعصية عليكم..!! 10- إن حركة الجنسية اللبنانية شديدة الأهمية فدققوا كثيرا في ذلك، واهتموا بإخوانكم المغتربين والذين نزلوا عليكم من البلدان الأخرى حتى لا تضيع الأغلبية المقررة لكم.. ألا جدوا كل الجد. أعماق الحقد الصليبي، وآثاره في الصحافة الغربية: كنت مدعوا لزيارة المغرب في رمضان سنة 1393 هـ، وهناك فوجئت بنشوب الحرب بيننا وبين اليهود، لم يكن هناك ما يومئ من قرب أو بعد إلى أن الجبهة سوف تشتعل !! ومع دهشتنا للنبأ، وحبنا لاستطلاع كل ما قد يقع، وخشيتنا من جرح جديد يحرك الجراح القديمة، أخذنا ننصت إلى كل إذاعة من أي عاصمة، ونتلهف على بشري تطمئن أو رواية تعرفنا ما يجري... جاءت الأخبار الأولى تذكر أن المصريين عبروا القناة من مواضع عدة، أن اليهود يتراجعون، وأن حصون خط "بارليف " المنيعة تتهاوى. ص _099(1/92)
ولم نكن نصدق آذاننا من عظمة ما نسمع.. وشعرنا بالفرح الغامر، وزادنا فرحا أن عواصم العالم كانت ضائقة بما يحدث، وأنها كانت تنقل حركات الجنود المسلمين، وصيحات التكبير التي سادت الجبهة على طول سبعين ميلا، كانت تحكي ذلك بشيء غير قليل من الكآبة. وكلما حرر المصريون مزيدا من الأرض، واتسعت دائرة النصر، وربت موجة الإيمان وقيل: إن الجنود ينطلقون تحت شعار التكبير لا يقفهم شيء، كانت تعليقات العواصم الغربية على ذلك: لقد عادت الهمجية!!! أي همجية؟! القتال بباعث من تكبير الله وتوحيده همجية ؟ والاستيلاء على حقوق الآخرين المادية والأدبية هو الحضارة!! المؤسف أن حرب رمضان لم تمض من النقطة التي انطلقت منها، ولو بقيت مع تكبير الله، واستمداده وحده لبلغ العرب " تل أبيب "، ولكن القيادات لم تكن على مستوى هذا الإيمان العالي... وردا على مشاعر الإيمان التي تفجرت مع بدء الزحف أخذت الصحف العربية تنشر أن الله ليس واهب النصر الأول.. وأنه لا صلة له بالمعركة ـ وتبين لنا بعد ـ أن الكتاب شيوعيون ـ وخيل إلى أن هذا الكلام كتب باتفاق مع عواصم غربية. أجل.. لقد تعاونت القوى الشريرة على ضرب الإيمان الذي كشفت عنه المعركة. وأحس الشرق والغرب معا أن المسلمين مشدودو الأواصر إلى دينهم، وثيقو العلائق بربهم، فتكاتفوا على الكيد لهذا الإسلام، والتنكيل بدعاته حتى لا يصنعوا مرة أخرى رجالا يعبرون العوائق الصعبة، ويهدمون قلاع العدوان.. إنني أذكر أن أول مهندس قتل : هو يقيم جسراً للعبور كان من رواد مسجد عمرو بن العاص، وقد أرسل إلىَّ بتحياته عشية استشهد.. ص _100(1/93)
إن الأبطال الذين صرخوا بتوحيد الله وتكبيره وهم يهدون حصون الأعداء، حركوا ضغائن الصليبية في عواصم الغرب فوصفتم بالهمجية ! ألا شاهت الوجوه... وتذكرتُ كلمات السيد جمال الدين الأفغاني وهو يتحدث عن موقف أوروبا من قضايانا كلها: قال: إن الروح الصليبية لم تبرح كامنة في صدور النصارى كمون النار في الرماد، وسورة التعصب لم تنفك حية تعتلج في قلوبهم حتى اليوم، كما كانت في قلب " بطرس الناسك " من قبل. فالنصرانية لم يزل التعصب مستقرا في عناصرها، متغلغلا في أحشائها، متمشيا في كل عرق من عروقها، وهى أبدا ناظرة إلى الإسلام نظرة العداء والحقد.. وحقيقة هذا الأمر ونتيجته واقعتان في كثير من الشئون الخطيرة والقضايا الدولية الكبرى، حيث القوانين الدولية، والمواثيق العالمية، لا تعامل فيها الأمم الإسلامية مستوية مع الأمم النصرانية... الخ. وفي سبيل تعويق النهضة الإسلامية القائمة، ونجت الظلمة في آفاقها، اجتمعت الأضداد وتمت أمور ذات بال، وقد أشرنا في مكان آخر كيف تلاقت اليهودية والنصرانية وصفى ما بينهما من خلاف ظل عشرين قرنا. وكيف صفى الخلاف بين الكنيسة الشرقية والغربية وله نحو سبعة عشر قرناً. وكيف صفى الخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت، بل إن الخلاف يُطوى بين الصليبية والشيوعية إذا كان الهدف القضاء على الإسلام ! عجبا.. يتم كل هاتيك السخائم الخسيسية؟ على أية حال لقد ثبت المسلمون على الحق، وتحملوا في سبيله العنت، وإن كان القضاء العسكري وحده هو الذي يبت في قضاياهم، ويهدي دماءهم إلى عشاق رؤيتها. ذلك.. وظهر أن الإسلام لم يمت في تركيا، ولا في إيران مع طول الوأد والخسف. وطول الليل المضروب على المعذبين. ص _101(1/94)
وتبدأ صحف الغرب تلفت قومها إلى التحرك الإسلامي الجديد. ثلاث صحف غربية، هى " التايمز " و الجارديان " و" الهيرالد تريبيون " تحدثت خلال أسبوع واحد فقط، عن تحرك المسلمين في أقطار مختلفة من أوطانهم، منطلقين من عقيدتهم، ورافعين راية الإسلام في تحركهم هذا. صحيفة " التايمز " بدأت حديثها بقولها: " جرت العادة منذ الحرب العالمية الثانية على النظر إلى شئون العالم على أنها صراع عالمي بين أيديولوجيتين متصارعتين هما الماركسية والرأسمالية الحرة ! وبعد ذلك أطلق على هاتين الأيديولوجيتين " الشرق " و " الغرب " وأصبح الصراع بينهما متمثلا في الصراع بين قوى الأطلسي والكتلة الشرقية، واحتجاجا على هذه النظرة للأشياء ظهرت حركات جديدة ". وتتحدث الصحيفة عن أمثلة لهذه الحركات ثم تمضي فتقول: " أما المثال الأكثر أهمية فيتعلق بمصر، وبالعالم الإسلامي كله. وقد أشار مراسلنا في تقرير له من مصر إلى اتساع نطاق المشاعر والأنشطة الإسلامية، وبشكل خاص بين الطلبة والشباب الصغار، وأضاف أن بعض الدوائر الحكومية تعد هذه الحركة الإسلامية خطراً ذا قوة متزايدة، وأن هذه التجمعات بعيدة كل البعد عن الماركسية ". وتتابع " التايمز " حديثها فتقول: " ليست هذه الصحوة الإسلامية مقصورة على مصر بالطبع، فهناك نسخة أكثر منها وضوحاً في إيران، وأخرى في باكستان، وهناك علامات على وجودها في إندونيسيا، ومؤشرات على انبثاقها في بعض مناطق الاتحاد السوفييتي المسلمة. أما إفريقيا فقد أحرز الدين الإسلامي بعض التقدم على حساب المسيحية والديانات المحلية الأخرى. وعلى المستوى الدولي، فقد ازداد الشعور بالتضامن الإسلامي بعد أن احتلت إسرائيل القدس الشريف، وبعد حرق المسجد الأقصى من قبل إسرائيل كما قال المسلمون وقد أدى هذا إلى إيجاد المؤتمر الإسلامي وإقامة سكرتارية دائمة له. ص _102(1/95)
ومنذ ذلك الوقت استخدمت الثروة النفطية في بعض الدول الإسلامية لمسانده الحركات الإسلامية وإيجاد حكومات وحكام مسلمين يشكلون قوة ينبغي على القوى الكبرى أن تنظر إليها بعين الجد، وأن تتعامل معها على قدم المساواة. وهذا لم يحدث منذ تدهور: سقوط الإمبراطورية العثمانية ". وبأسلوب التحذير من صحوة المسلمين تقول صحيفة " التايمز ": " وعلينا أن نتذكر أن الجزء الأكبر من العالم الاسلامي لا ينظر إلى روسيا على أنها " الشرق " بل على أنها جزء من "الشمال " أو حتى من "الغرب ". ومعظم المسلمين يمقتون الغرب ويكرهونه كراهية حذرة أحيانا، لكنها تثور وتفور في بعض الأحيان الأخرى كما هو حاصل في إيران في الوقت الحاضر. إن المسلمين يكرهون الغرب لأنه برز واشتهر على حساب انحسار " المد الإسلامي " ولأن الغربيين جاءوا دخلاء على العالم الإسلامي، وفرضوا عليه كل ألوان الخزى والعادات السيئة ". وتختتم صحيفة التايمز حديثها فتقول: " العالم الإسلامي يعتريه اليوم تطلع ظاهر وحاجة لتأكيد ذاته وهويته. فبعض أجزائه يرد بعنف على الماركسية، وفي الأجزاء الأخرى تتركز ردة الفعل الشديدة على الثقافة الرأسمالية الغربية التي يعتبر خطرها أكبر من خطر الماركسية. الغرب اليوم أمام خطر إسلامي سيجعله يدفع الغالي والنفيس بسبب عجرفته الماضية ونجاحه السابق ". أما صحيفة " الجارديان " فتقول: " في كل أنحاء العالم بعث إسلامي جديد، ففي إيران اضطر الشاه وهو المثال القوي للحكم الملكي، إلى التراجع الذي لا يعرف أين ينتهي. وفي باكستان لعب هذا البعث دوره في إزاحة " بوتو " عن منصب رئاسة الحكومة إلى زنزانة الموت. ص _103(1/96)
إنه لتهديد واسع الخطر بالنسبة إلى زعماء الوطنيين ـ مثل أنور السادات الرئيس المصري، وبولنت أجاويد رئيس وزراء تركيا. إن البعث الحالي يملك من القوة الكبرى مما لم يدركها المسلمون العاديون والغربيون إلا مؤخرا، أو هم بدأوا حديثا في إدراكها كظاهرة مميزة ساطعة و فريدة. يقول أحد الزعماء المسلمين في باكستان: عندما نؤمن بأن الله أعطانا كل قواعد اللعبة، وأن ما يلقي عقاب الله يجب أن يلقي عقاب الدولة، عندها فقط يمكن حل مشاكل باكستان أي لا بد من العودة إلى الإسلام. ويقول الجنرال ضياء الحق رئيس الدولة الباكستانية من مكة المكرمة: إن في الإسلام نجاتنا دينا ودنيا، ويقول الإخوان المسلمون المنبعثون الآن: إن الحكومة المصرية " ملعونة " لأنها تنكر دين الله وحكمه " . وترى " الجارديان " أن أسس هذا البعث تعود إلى التحول في أوائل هذا القرن " كما تدل سن بعض قادته ـ آية الله الخوميني ـ في الثامنة والسبعين، ومولانا المودودي في الخامسة والسبعين ". وتتابع الصحيفة فتقول. "على أن هذه الحركات التي تنبعث من خلال تحولات التاريخ، وبين الفينة والفينة لا علاقة كبيرة لها بالتجاوب التقليدي الذي ينبعث أحيانا في المسيحية ،كما أنها أقل ارتباطا بالتفسير الإسلامي الجديد للقيم الغربية والذي بدأ على يد الأفغاني. ثم إن هذه الجذور لا تظهر فيما يسمى بالقومية الإسلامية الجديدة. وفي الحقيقة إن أتاتورك وعبد الناصر ورضا شاه وسوكارنو وسائر الزعماء المعاصرين رفضوا هذا البعث الإسلامي بحدة وجدية حاسمتين.. أما العوامل التي أعطت هؤلاء المسلمين المتمسكين بعقيدتهم حياة جديدة خلال السنوات الأخيرة فهى عوامل معقدة ولكن اثنين منها لهما أهمية بارزة. ص _104(1/97)
الأول: هو الإدراك بأن الغرب الذي كان على قدر كبير من القوة يبدو الآن غارقا في المشاكل والأزمات. والثاني: ناشئ عن أخطاء القومية العلمانية في العالم الإسلامي نفسه، إن مولانا المودودي مؤسس " الجماعة الإسلامية " وهو الحزب العقائدي الإسلامي الأول في باكستان، يعلم بأن الرأسمالية والفاشستية والشيوعية كلها من نتائج الانهيار والفساد في الحضارة الغربية. و" البنا " مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بنشر بالدعوة نفسها. والمفكر الإيراني " السيد الحسين " أحد أبرز المبشرين بهذه العقيدة يجادل بأن " التصور البشري " للإنسان ـ كما هو قائم في الغرب ـ هو الذي جرَّه إلى ما دون الإنسان، وأن عليه أن يرتفع إلى التصور الإسلامي. إن أتاتورك الذى وصف الإسلام بأنه " أحكام ونظريات شيخ عربي " كان من أسوأ النماذج لهؤلاء، ورضا شاه ـ والد الشاه السابق في إيران ـ كانت أعماله وسياسته شبيهة بأعمال الحاكم التركي وسياسته. إن لب المعتقدات الإسلامية هو إدراك المعاني الحقيقية في الدين، واعتباره نظاما كاملا مشتقا من القرآن ومن سنة النبي، والقرآن يضع الأسس اللازمة لكل وجه من أوجه الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية. وتختتم صحيفة " الجارديان " مقالتها بقولها: " على أن انتقاد " المتدينين " هؤلاء للحضارة الغربية و" للتحرر " في العالم الإسلامي له مبرراته، حيث يرى بعضهم في العودة إلى القيم الإسلامية طريقاً للخروج من مآزق العالم المادي الذي يسود حضارة العصر التكنولوجي المثقل بالتعقيد والهموم ". أما صحيفة " الهيرالد تريبيون " فتقول: " الاضطرابات السياسية في إيران بدأت تقلق المسئولين في الولايات المتحدة، لأنهم ينظرون إليها كمركز لثورة دينية مضادة بدأت تترك بصماتها على الأحداث السياسية في مختلف مناطق العالم من لبنان إلى سوريا إلى المملكة العربية السعودية إلى باكستان ". وتتابع الصحيفة فتقول: " وكل دولة في هذه المعركة العالمية تختلف(1/98)
في ص _105
ظروفها عن الدولة الأخرى، ويجب أن نلحظ شيئا من هذا النزاع ـ بين أساليب الحياة " القديمة " و" الجديدة " ـ يدور في أمكنة أخرى من الشرق الأوسط. وهذا الشيء واضح جدا في القتال الذي يدور بين قوات التحالف الكتائبي وخصومها في لبنان . وهو ملموس في تركيا والعراق وسوريا وبالمملكة العربية السعودية. وهو يؤثر بشكل جانبي على محادثات السلام بين مصر وإسرائيل. وما يحدث الآن في إيران يمكن أن يمتد إلى العراق والدول النفطية التي تمتلك من المال أكثر مما تمتلك من الاستقرار. والعراق له موقفه من الإسلام ، وهناك انقسامات في أفغانستان وباكستان ودول الشرق الأوسط القريبة من الاتحاد السوفييتي ". ثم تصور الصحيفة خطر هذا البعث الإسلامي على إسرائيل: " والغريب أن المسئولين الإسرائيليين يرون في هذه الثورة الدينية المضادة خطراً يهدد استقرار إسرائيل والدول العربية على حد سواء! ولذلك فإنهم يأملون أن يتجنب " السادات " و " بيجن " المناقشات الفنية، والجداول الزمنية ويسويان الخلافات بينهما دون إبطاء. وهم يقولون ـ إن هنالك أشياء أهم بكثير من الخلاف بين مصر وإسرائيل تجري في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها النزاع الذي سيؤدي إلى الفوضى التي لا يريدها أحد إلا زعماء الاتحاد السوفييتي ". هذا بعض ما جاء في هذه الصحف الغربية الثلاث من كلام تسلط به الضوء على البعث الإسلامي الجديد. الذي يشمل المنطقة الإسلامية كلها. ص _106(1/99)
الفصل الثامن كيف تصدي الدعاة لهذه الغارة إن الهجوم المعاصر على ديننا أخذ شكل مروحة، فهو شامل مستوعب يتناول كل شعب الإيمان من النطق بكلمة التوحيد إلى إزالة الأذى عن الطريق.. وهو في رأيى أخطر هجوم تعرض له ديننا في تاريخه المجيد. والسؤال المتصل بقضية هذا الكتاب: هل الدفاع الثقافي مكافئ لهذا العدوان الشديد؟ والجواب: لا.. فإن الثقافة الإسلامية بحاجة ماسة إلي من ينقيها من شوائب البدع والتخريف التي تسللت إليها من عصور الضعف والانحلال وبحاجة إلى من يعيد إليها قدرتها القديمة على ضبط المصالح وكفالة الحقوق ورعاية الجماهير.. وهناك أزمة ملحوظة في العلماء الثقات والدعاة البارعين، وسوف تزيد هذه الأزمة حدة ما بقى العلم الديني يستمد رجاله من المستويات الهابطة والفئات المرجوحة في المجتمع. إن الأنبياء هم القادة الحقيقيون للفكر الإنساني، وهم مصطفون من أنفس الخلق معادن، وأزكاهم طبائع. والذين يخلفونهم في قيادة الإنسانية لا يجوز أن يختاروا المعوقين ماديا وأدبيا، والذي يدفعني إلى الجؤار بهذه الشكاة ما يلقاه الإسلام اليوم من هزائم متتابعة لضعف المتحدثين عنه وكثرة المتآكلين والمرائين به... أرسل إلى أحد الناس رسالة مطولة الصفحات يلومني فيها أني فضلت الغنى على الفقر، وطلبت من المسلمين أن يملكوا الدنيا، ويبذلوها في دعم الدين، وأرسل إلى يذكرني بقول العلماء: إن الفقير الصابر أفضل من الغنى الشاكر.! ص _107(1/100)
قلت في نفسي: هذا وأمثاله نعم العون على انتصار التبشير وضياع الدين. جادلنى أحد العلماء بعنف لأنه يرى أن قوله تعالى:( لا إكراه في الدين ) نسخ، وأن آية السيف محت كل ذلك!! وشعرت بأن الرجل أعجز من أن يفهم بقية الآية: ( قد تبين الرشد من الغي ) وهو بالتالي أعجز من القيام بخطوة ناجحة في ميدان الدعاية لهذا الدين!! خطوة يستنير بها الفكر،وتشرح بها الصدور، فعصاه في يده هى الدليل لمن شاء الدليل!! وكلف البعض بوضع قانون للزكاة في الزروع والثمار، فجعل الزكاة في الحبوب التي تدخر وحدها، وبذلك نجت تسعة أعشار الأرض المزروعة من الزكاة، لأنها مزروعة بالفواكه والموالح وقصب السكر والقطن... وهذا التصرف لا غير هو الفقه وهو الدين أي قصور هذا وأي عجز؟؟ وفي جامعة كبيرة بإحدى العواصم الإسلامية ألف الأستاذ كتابا في العبادات وشرح الاستنجاء في كتابه فلم يفعل أكثر من نقل الكلام القديم أنه طهارة بالماء والحجارة. ولعله خشى ذكر الورق في النظافة مع الماء ـ طبعا ـ لأن بعض الكتب كرة استعمال الورق.. وهذا كلام يصلح للصحراء، أو القرى البدائية، وإنما كرة الورق قديما لغلائه، أما اليوم فورق النظافة رخيص ميسور، ولا يجوز تركه وذكر ثلاثة أحجار بدله. وسيفسد جهاز المجاري كله لو نفذت هذه التعاليم .. !! وفي موسم الحج سأل معتمر أحد المفتين أنه ذبح هدى التمتع أول ذي القعدة عندما أحل من العمرة، فقال له المفتي: عليك دم آخر ولا قيمة لما ذبحت، وقلت للسائل المحرج: لا عليك.. فإن الإمام الشافعي يفتيك بأنه تم نسكك، وقال المفتي: السنة الذبح يوم النحر! قلت له: ليس في السنة أمر بذلك. وقد كان الناس يتخطفون الذبائح قديما فما يبقي منها شيء، أما الآن ص _108(1/101)
فالذبح طول أشهر الحج يسر على الفقراء وحفظ للأموال.. أما تكويم الذبائح لتحرق في " منى " منعا للأوبئة فلا يسوغ.. المشكلة في أذهان هؤلاء أنهم لا يعرفون الواقع، ومن ثم يسيئون تطبيق أحكام الشريعة. إنهم يحفظون أسماء بعض الأدوية، ولا يعرفون مما تركبت؟. ولا كيف تستعمل ليتم بها الشفاء؟ وربما أرادوا علاج مريض فقتلوه بسوء فقههم مع ما يبطنون من كبرياء.. ولندع هذه الشئون الجزئية مع سعة دلالتها، ولننظر إلى قضايا أخرى أبعد الدين عنها لسوء تصرف رجاله فيها مع أنها قضايا تتناول العلاقات بين الشعوب والحكومات، وتمس مصالح الألوف المؤلفة من الناس، ويجب أن يعرف توجيه الإسلام فيها بدقة.. هل الأمة مصدر السلطة؟ قال بعض الناس: هذا كفر، والكلمة تعني سلب الدين حقه في التحليل والتحريم. وجعل ذلك إلى الشعوب يعني أن تضل إذا شاءت وتهتدي إذا شاءت .. !! وكلمة " الأمة مصدر السلطة " عندما تعني هذا المفهوم مرفوضة جملة وتفصيلا. إن الله هو المشرع الفرد لعباده، وليس أمام أمر الله ونهيه إلا السمع والطاعة.. لكن هل هذا ما يقصده الذين نقلوا هذه العبارة؟ إنهم قد يعنون بها أن الحكم بيعة، وأن الأمر شورى، وأن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وأنه لا مكان في الدولة الإسلامية لفرعون أو كسرى أو قيصر.. فإذا أرسلوا هذه العبارة في وجه فرد مستبد فهم لا يقولون هجرا.. قد يقال: هذه الكلمة من معالم " الديمقراطية الغربية "، ونحن نرفض استيراد مبادئ أجنبية لتحكم امتنا، حسبنا ما لدينا.. ص _109(1/102)
وهذا كلام جميل وإنه ليسرني أن نحسن اتباع ما هدانا الله به.. غير أنه من الإنصاف أن نعرف وجهة النظر الكاملة عند من طبقوا النظام الديمقراطي في الغرب، وعند من حاولوا الاقتباس منه هنا، حتى لا يعترض الدعاة بجهالة ما لا يدركون. إن الدساتير هناك تتضمن مباديء أو نصوصا ثابتة ليست موضع جدل، ولا تؤخذ عليها آراء، وتتضمن شئونا أخرى توضح ما تناقش، ويقع فيه التأييد والتفنيد... والأقطار الإسلامية التي حاولت التقليد عندما تجعل الإسلام دين الدولة، والفقه الإسلامي مصدر التشريع، فإن النقاش سيكون بعد ذلك في الشئون الدنيوية، وفي المصالح المرسلة وفي تقويم أفعال الرجال تزكية أو بخساً، وتلك كلها لا حرج في تناولها، وكما قيل: لا اجتهاد مع النص، وبعيدا عن دوائر النصوص تتفاوت الأنظار وتتعدد الآراء... سيقال: إذا سلمنا بهذا الذي قلته كله، فنحن زهاد في جلب عناوين أجنبية لنظمنا الإسلامية. وهذا والله جميل، يبقى أن نكشف للناس ما لدينا، ونقول لهم هذا عوض عن ذلك، إننا نرفض ذاك الدخيل، ونقدم بدله هذا الأصيل . الشورى الإسلامية بدل الديمقراطية الغربية. وعلى العلماء والدعاة أن يكشفوا أسباب التفضيل وجوانب الترجيح.. وقلت أداعب أحد أولئك المحافظين. أولى الغيرة: هل الشورى ملزمة للحاكم؟ فأجاب: لا !! قلت: كيف تتم الشورى؟ قال: مع أهل الحل والعقد. قلت: كيف يكون مجلسهم؟ فسكت غير قليل ثم أجاب: يكونه الحاكم! قلت: مستشارون يختارهم الحاكم برغبته، وله حق ألا يلتزم برأيهم، تلك هى الديمقراطية الدينية؟.. ص _110(1/103)
يا صديقي.. إن الديمقراطية الغربية ـ وأنا أكره الاستيراد ـ امتدت في الفراغ الذي صنعتموه أنتم ووجدت لها عشاقا، لأن تصوركم للحقائق الدينية والمدنية بالغ التشويه، وملاحظتكم لطبائع البشر وتاريخ الأمم وهى تنشد الرحمة والعدالة تكاد تكون معدومة.. إنكم تحسنون الإماتة ولا تحسنون الإحياء، تقولون باسم الله هذا حرام، ولا تجيئون بالحلال الذي يشبع النهمة، ويسد طريق المعصية.. ماذا لو فكرتم في طريقة معقولة يتكون بها أهل الحل والعقد؟ وفي مواضع كثيرة تكون الشورى فيها ملزمة، وماذا لو استفدنا من تجارب الآخرين؟ وما يقال في سياسة الحكم يقال مثله في سياسة المال.. إنكم تكرهون الاشتراكية عن نظر سليم، وقد كرهناها نحن عن تجربة ومعاناة. وأذكر أن صديقي الأستاذ مصطفى السباعي ألف كتابا عن اشتراكية الإسلام ضمنه حقائق كثيرة لصرف الشباب عن الشيوعية، وقد ندم على العنوان الذي اختاره لكتابه.. وأنا أعلم سر ندمه لأنني خضت مثله هذه المحنة.. لقد ظهر لنا أن هؤلاء الاشتراكيين العرب، يريدون كلمة الاشتراكية وحدها. ولا يهتمون بعد ذلك للعقائد والعبادات التي هى لباب الإسلام. وعندما كنا نبرز لهم من تعاليم الإسلام ما يغنى عن المبادئ والتطبيقات التي سحرتهم من ثقافة الغرب والشرق، كانوا يأخذون هذا البدل المعروض ويجردونه من صبغته الإسلامية، ثم يمضون في طريقهم دون إسلام أو آخره أو خشية أو خلق... ومن هنا وضع الله الشؤم في سياستهم الاقتصادية فما دسوا أصابعهم في خضراء إلا جفت، ولا دخلوا بلدا إلا نعق بين أيديهم البوم، وعم القشف الأسر والأفراد.. إنهم ـ كما قيل ـ أفقروا الأغنياء، لم يغنوا الفقراء،: تلك هى حدود اشتراكيتهم، ومبعث كراهية الجماهير لها.. ص _111(1/104)
وقد أظهرت الأيام أن النظام الشيوعي ليس منهاجا اقتصاديا ناجحا، بل هو أسلوب قاس لمساندة حكم فردي شديد الاستبداد.. ومع هذا كله، فإن الاشتراكية حلم طبقات كثيرة من الناس، لماذا؟ ألأنهم لا يعرفون مقابحها؟ ربما. لكن الذي أرجحه أن الرأسمالية الاستعمارية في الغرب من وراء هذه الأماني الباطنة، فهى رأسمالية تأكل السحت، وتهوى الاحتكار، وتقوم على الأثرة.. والإسلام الذي شرفنا الله به احتوى ثروة هائلة من النصوص والتوجيهات التى تحترم رأس المال، وتصون حق صاحبه فيه، وفي الوقت نفسه تدفع الغني إلى جعل ماله مصدر بركة للجماعة، وتقيم من الجماعة رقيبا يمنع الغنى المطغي، والفقر المنسي سواء بسواء. وحق على العلماء والدعاة أن يربطوا سلوكهم بهذه الوصايا الإلهية فى شأن المال وكسبه وتداوله. فإذا رأوا غصبا لأرض من الأرضين، أو حق من الحقوق، صاحوا محذرين!. وإذا رأوا هضما لكادح جف عرقه دون أن يبلغه حقه، صاحوا محذرين. وإذا رأوا بائسا انقطعت موارده صاحوا يطلبون له الصدقة. والأمر أكبر من صياح واعظ، إنه يجب تحويل التعاليم السماوية إلى شبكة من القوانين الصادقة، والأنظمة المرعية، فإن الدعاية الإسلامية تحرز حظوظا مضاعفة من النجاح يوم يساندها هذا المجتمع المبارك. *** * تركة موجعة: كيف نقدر على تكفير المسلمين وإبادة تراث محمد؟ هذا هو التفكير الذي يشغل القوى المعادية للإسلام، وفي مقدمتها الصليبية والصهيونية والشيوعية!! ص _112(1/105)
كيف نحتفظ بديننا، ونستبقى تراثنا، ونسترد خسائرنا، ونستأنف دورنا الحضاري؟ هذا هو التفكير الذي يشغل رجالات الإسلام ودعاته المسئولين.. وبين الفريقين مغالبة وسباق، ولا أحب أن أخدع قومي عن حقيقة المعركة، ولا أن أعمي عن الواقع الكئيب الذي يسود خارطة العالم الإسلامي... فمن شرق الأورال إلى شواطئ المحيط الهادي تفتك الشيوعية بعقائدنا وشرائعنا، وكذلك من شرق القرم على خط يمتد فوق الأناضول وأذربيجان وإيران وأفغانستان وباكستان، ويتناول شمال الملايو وجنوبي الصين، ويلتهم في طريقه أرض التركستان المخصبة بالرجال والأموال، على امتداد هذا الخط يذوب الإسلام ذوبانا بالحديد والنار، وكل ما تملك الشيوعية من وسائل مادية ومعنوية... وعلى الفليبين ـ أعنى بقاياها ـ وجزائر إندونيسيا الكثيفة السكان، تهب عواصف صليبية عاتية تبغي استئصال الوجود الإسلامي، وتريق المال سيلاً غدقا كي تبلغ غايتها. حتى تايلاند البوذية !! إنها تمنع التايلاندي المسلم إذا نال دراسة دينية أن يعود إلى بلاده، وذلك كي يتم تجهيل وإضاعة أربعة ملايين هناك.. وفي بورما يعاني المسلمون اللون نفسه من الهوان..! فلنترك آسيا إلى إفريقيا التي ذكرنا خطة تكفيرها مع نهاية القرن الميلادي.. هناك مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية، ومجموعة الدول الناطقة بالإنجليزية، إن مطاردة الإسلام فيها قائمة على قدم وساق، فهل مجموعة الدول الناطقة بالعربية في إفريقيا تعطي الإسلام حقه في النشاط والانطلاق؟ إن النظام الناصري كان أقسى على المسلمين من قسوة اليهود على عرب فلسطين. والقتلى والجرحى من الإخوان المسلمين على امتداد ربع قرن شيء يثير الغصص... ص _113(1/106)
وفي الوقت نفسه توجد حركة ترحيب وتدليل للنشاط الصليبي حيث كان في أرض الإسلام.. وفي أخريات هذا القرن أنشئت لأول مرة من عشرين قرناً " باباوية للأرثوذكس " في مصر، وكان رئيس الأقباط في مصر بطريقاً فقط، ولكن جمال عبد الناصر نفذ ما طلب منه في هذا المجال، لحساب الصليبية العالمية. وما تم في مصر وقع مثيل له في أقطار عربية أخرى رفضت علانية أن يكون الإسلام دين الدولة، وحذفت هذه المادة من دساتيرها. إن التركة التي يواجهها الدعاة موجعة، وماذا نصنع؟ هذه حصيلة قرن الهزائم الذي يوشك أن ينتهي، فهل تنتهي معه آلامنا؟ ما نظن.. فإن القوى المعادية تزداد ضراوة وقساوة، وطريق الجهاد طويل طويل..!! ولنترك الأوضاع الداخلية، وما رسمه الإسلام فى سياسة الحكم والمال ولنلق نظرة على العلاقات الخارجية وموقف الدعاة من أحد جوانبها المهمة.. إن دار الحرب ضرب من المعاملة بالمثل، لجأ إليه الإسلام كي يصون بيضته، ويحمي حقيقته. وإلى بداية العصر الحديث كان القانون الأوروبي لا يعترف للمسلمين بكيان مادي ولا أدبي، بل كان يستبيح دماءهم وأموالهم وعقائدهم وشعائرهم. وهو في ذلك العدوان يتبع القانون الروماني، أو يصدر عنه، وقد أوضحنا أن الإسلام قاتل تأمينا لدعوته، وذياداً عن أهله، وكسراً لطوق العدوان الذي ضربه حوله الاستعمار الروماني وزميله الفارسي.. فإذا تغيرت أحوال العالم القانونية، وأنشيء مجلس أمن، وأنشئت هيئة أمم، وأقيمت مؤسسات أخرى تريد حل المشكلات ابتداء بالحوار وتعطي فرصاً شتى لسماع وجهات النظر المتباينة فلسنا نحن الذين ننكل عن هذه الساحات.. ص _114(1/107)
إننا أغنى الأرض بالبراهين على ما لدينا، لأنه الحق ! وإذا كنا مسلمين حقا لا نجرى وراء طمع، ولا تستهوينا كبرياء، فإننا نقبل على كل حوار أعفاء مخلصين مؤمنين بقوله تعالى: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) ومن هنا فنحن لا نشتري شرا، ولا نبدأ عدوانا، ولا نقبل ظلما، لا علينا ولا على غيرنا من عباد الله.. ونحن نساند كل تجمع يشبه حلف الفضول الذي تم في تاريخ العرب قديما، ونقتدي بنبينا في احترامه، وإجابة دعوته.. لقد جعلنا ديار الآخرين دار حرب لما جعلوا بلادنا دار حرب، فإذا كفوا كففنا. قال تعالى: ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين * فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ). وأعلم أن هناك ناسا من المشتغلين بالفقه يقولون: هذه الآيات كلها نسخت وأن الحرب هجوم لا دفاع... وقديماً وقع الخلاف هل الحرب سببها كفر من يحاربون أم عدوانهم.؟ وكان الجواب الصحيح أن الحرب سببها العدوان، وقد ألف ابن تيمية رسالة أوضح فيها أن شريعة القتال لدينا لكبح العدوان لا لمحو الكفر والرسالة طبعت أخيراً مع تعليق طويل .. ص _115(1/108)
وما نريد قوله أن هناك خلافات فقهية، الخطأ فيها والصواب محدودان.. أما الخلاف هنا فخطره بعيد المدى على سمعة الإسلام ومكانته الدولية والعلمية.. وقد سئمت جدل ناس ينطلقون في نزق مستغرب، ليحكموا بنسخ آيات كثيرة وليقولوا قولة تصرخ بأنهم لا يعرفون التاريخ، ولا الفقه، ولا طبائع البشر، ولا مواقف الأديان في شتى الجهات، يقولون إن الاسلام دين هجوم ! ومتى يقولون هذا ؟ في شر الأزمات التي لقيها الإسلام منذ بدأ دعوته. إنهم يرددون كلاماً لا يعرفونه، ولا يدرون عواقبه عند الله وعند الناس. والأغرب من ذلك عجزهم عن بيان محاسن الإسلام، وجدوى مبادئه على الأفراد والمجتمعات. إن فيهم مواريث خلقية من طبيعة البدو التي تشتهي الاغارات على العدو أو الصديق كما قال القطامي: وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا ومن البلاء الذي أصاب الدعوة الإسلامية في عصرنا أن حزبا سياسيا تكون على هذا الأساس في تصور العلاقات الدولية، هجوم شديد على الآخرين، أمداده الإفلاس وفراغ اليد والفكر.. والخلاف الفقهي كما قلنا قد يكون في قضية عبادية: هل ينتقض الوضوء بالشك أم لا؟ هل الطلاق البدعى يقبل أم لا؟ إن النتائج هنا محتملة سلباً وإيجاباً. أما ترك الأمور بين أيدي العابثين في قضايا قد يجر الخطأ فيها الويلات على الأمم ويهلك الحرث والنسل فهذا ما لا يسوغ. *** ص _116(1/109)
الفصل التاسع ولاؤنا لمن؟ في أوائل القرن الرابع عشر أمكن الأعداء أن يمزقوا أمتنا بالسيف، فأمست الأمة الواحدة أمما شتى، غير أن كل جماعة أبعدت عن أختها كانت تشعر بالأواصر الخفية التي تشدها إليها، فهي معزولة عنها تحت وطأة القهر وحده. وإلى آخر لحظة كان المسلمون في مصر الرازحون تحت عبء الاحتلال الإنجليزي يهرعون إلى نجدة إخوانهم في ليبيا، ويشاركونهم في مقاومة الاحتلال الإيطالي. ولعل أحر ما قيل في رثاء القائد الليبي المسلم عمر المختار قصيدة أحمد شوقي التي مطلعها: ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء والغريب أني عندما كنت في " غزة " من ثلاثين سنة رأيت أن أسم " عمر المختار" يطلق على أكبر وأهم شوارعها. إن البلاء اليهودي الذي دهم فلسطين، وأشعل النار في كل بيت، لم ينس أهل فلسطين أخوة الإسلام، وشارات الجهاد المشترك بينهم وبين إخوانهم في أرض الإسلام الواسعة ..!! لله ما أعظم هذا الدين وأقوى إيحاءه، وأوثق علائقه !! والجبهات المعادية للإسلام تدرك هذا، وتتقي خطره، من أجل ذلك اجتهدت في تحويل هذا التقطيع القسري إلى تقطيع إرادي، ورسمت سياسات طويلة ص _117(1/110)
لشغل كل إقليم بذاته وبقضاياه، ثم شنت على الجامعة الإسلامية غارة شعواء لمحو آثارها المادية والمعنوية، وذلك بغرس مباديء الوطنية والقومية، وتعليق كل قبيل من المسلمين بالتراب الذي ولد عليه، والجنس الذي انحدر منه. وفرض الاحتلال العسكري والثقافي هذا التحويل بالقوة والمكر، فهل أجداه ذلك؟ إن التعصب للتراب أو الدم دافع بدائي محقور مهما نفخنا في صورته أو زعمنا لقيمته. والأوروبيون أنفسهم أكملوا نقصه، أو سدوا فراغه، بصور من التدين أو بمذاهب فلسفية واجتماعية وضعية. فماذا يرسم للمسلمين كي يحيوا داخل النطاق الذي فرضه الاستعمار الأجنبي؟ لقد سمح بوجود شكلي للإسلام لا يجوز أن يعدوه، أو يحاول العمل خارج حدوده. وقبلت القوى المعادية للإسلام أن توضع في دساتير كثيرة مادة " دين الدولة الرسمي هو الإسلام " على أن تظل حبراً على ورق، فلا دخل لها في شئون التربية أو التشريع أو التقاليد العامة أو أصول الحكم. إن الولاء الأول للإقليم ومصلحته الخاصة والجبهة الشرقية أو الغربية التي يتبعها، واستفاد أعداء الإسلام من ذلك كسببين مهمين: الأول: أن المسلمين في طول الدنيا وعرضها جهل بعضهم بعضاً وانقطع عنه وعامله على أنه دولة أجنبية! والمسلمون الآن يقاربون ملياراً من النفوس وينتشرون رعايا كثر من سبعين دولة، وكل جزء من هذه الأمة المفرقة يحيا وفق نظامه الخاص. وقد يكون كثرة كبرى في دولته، أو يكون قلة دون نصف السكان أو أكثر، ومع ذلك فإنه يحسب طائفة لا وزن لها ولا لدينها... وكنت في أحد المؤتمرات بالولايات المتحدة فسألت أحد المسلمين عن جنسيته ص _118(1/111)
فأجاب: من " غيانا " بأمريكا الوسطى.. وسألت آخر فأجاب: من جنوب إفريقيا! وعلمت أن هناك مسلمين في زائير، وآخرين في روديسيا يتشوقون إلى الاتصال ببني ملتهم.. قلت: من لهؤلاء المسلمين يرعى عقيدتهم، ويصون كرامتهم؟ إن الكسب الأول الذي عمل له أعداء الإسلام وبلغوه هو تذويب هؤلاء في الخضم الواسع الذي انتشروا فيه دون أن تصلهم نجدة، أو حتى يسمع بصياحهم أحد.. وأنا أكتب هذه السطور أقرأ في الصحف أن بابا الفاتيكان ذهب إلى أمريكا الجنوبية كى يتعهد رعاياه هناك. وهى زيارة شخصية تؤكد الروابط الروحية والفكرية التي يتعهدها البابا بعشرات الألوف من الدعاة في أرجاء الدنيا العريضة.. أما الإسلام اليتيم فلا أبوة له ولا خلافة تتحدث باسمه، أو تحمي ثقافته أو تدافع عن بنيه، لقد ترك للعصبيات القومية والنسبة الوطنية أن تحيا فوق ما يتاح لها من أديم الأرض.. وعلى الأيام القريبة والبعيدة أن تعمل عملها في تذويب هذا الدين، وتحطيمه في نفوس الأفراد، بعد تمزيق صفوفه في المجتمعات الدولية والمحلية... أما الكسب الثاني الذى أحرزه أعداء الإسلام ـ بعد تمزيقه عالميا ـ فهو في أوطانه الأم أو في أرض العروبة نفسها.. لقد كانت الوطنيات المحدودة تقبل وجود مادة في دساتيرها تقرر أن الإسلام دين الدولة. فلما حلت القومية العربية محل القوميات الضيقة، ولد بعث عربي يتغنى بأمجاد العروبة، حذفت هذه المادة، وقيل في علانية وجحد: العروبة فوق الإسلام، لا ارتباط بهذا الدين ولا بغيره. كيف؟.. قيل: تحدثوا عن كرم محمد كما تتحدثون عن كرم حاتم! تحدثوا عن شجاعة محمد كما تتحدثون عن شجاعة عنترة! أما الحديث عن وحي نزل على قلبه أو رسالة كلف بتبليغها فلا.. ص _119(1/112)
هل الارتداد إلا هذا الكلام؟ هذا الكلام هو قرة عين اليهود والنصارى والماركسيين! ودار بيني وبين الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله ـ رئيس الإخوان ـ بسوريا ـ حديث في هذا الشأن فقال: عجزنا عن جعل الإسلام دين الدولة الرسمي، كان التيار البعثي أقوى منا.. ثم أردف يقول: لكننا استطعنا جعل الفقه الإسلامي مصدرا للتشريع. قلت في نفسي: إلى جانب الفقه الروسي والروماني..! إن جعل الفقه الإسلامى مصدرا للتشريع مادة ميتة هى الأخرى، وعقوبة الذين يريدون إحياءها رهيبة ..!! إن عصابات الرقيق الأبيض، وباعة الحشيش والمخدرات الأخرى، وجالبى الهزائم المخزية على أمتهم سنة 1967 وما قبلها، إن هؤلاء جميعا قلما يعدم أحد منهم، بل لم يعدم منهم أحد. أما الذين اتهموا بالعمل للإسلام وإحياء شرائعه، فإن أخطاءهم مميتة ودماءهم تُسفك بغزارة ورخص.. لعل السادة من وراء الحدود يرضون ويسرون !!. هذه المآسي يجب أن تنتهي من أرجاء العالم العربي والإسلامي، ولنعلن في مصارحة تامة أننا لن نترك ديننا، وأن تكليفنا بذلك سفالة لا قرار لها. إن الولاء للإسلام حق أمته الكبرى فى كل قطر تحيا فيه، وإن تطبيق شرائعه حق كل مجتمع يكون المسلمون كثرة واضحة فيه. وهناك قضية هزلية اختلقها الاستعمار العالمي ولج في تكرارها ليوهم الأغرار بصدقها، قضية الطوائف النصرانية واليهودية التي زعم أن المسلمين يتعصبون ضدها. إن هذه الطوائف هى أسعد "الأقليات" في الدنيا.. واستمتاعهم بالحقوق المادية والأدبية التي يستمتع المسلمون بها ليس موضع ريبة، والخواجات فى أوروبا وأمريكا يعرفون ذلك جيدا، ويعرفون أن ولاء المسلمين لدينهم لا يخدش مخالفيهم في الدين قليلا ولا كثيرا. ص _120(1/113)
لكن الاستعمار العالمي ـ لغرض في نفسه ـ أراد إحراج المسلمين وتعمد اتهامهم واتهام دينهم معهم، وفي ذلك يجعلنا نتحدث لنفضح المخبوء من أمره. لقد زعم الإنجليز لما دخلوا مصر أنهم مهتمون بحماية الأقباط! فليُنظر إلى الإنجليز في بلادهم يوم زعموا ذلك لنرى مبلغ احترامهم للأقليات عندهم ومبلغ احترامهم للحرية الدينية فإن تسعة أعشار الإنجليز بروتستانت! فماذا صنع هؤلاء مع القلة " الكاثوليكية " ؟ حرموها حق التصويت في الانتخابات، وحق التمثيل النيابي، وحق الاشتغال بمهنتي الطب والمحاماة، وحق التزاوج مع البروتستانت وسنوا قوانين مهينة للأسرة الكاثوليكية. بل بلغ الأمر أن الإنجليز الذين يحترمون الحرية الدينية لخصومهم حرموا على هؤلاء الخصوم أن يركبوا الخيل، حسبهم الجحاش والحمير !! فإذا ركب كاثوليكي فرسا بأكثر من خمسة جنيهات ـ أى حصاناً غالياً وجب عليه أن يبيعه لأحد البروتستانت وحكم القضاء بذلك !!! هؤلاء هم الرجال الذين اتهمونا نحن المسلمين بالتعصب الديني ضد النصارى! وهم يعلمون أن النصارى لهم من الأملاك ما يغنى، ولهم من الأوضاع ما يريح. لو أن الكاثوليك الإنجليز انضموا إلى الألمان أعداء إنجلترا في الحربين العالميتين الأولى أو الثانية لطمس البروتستانت وجوههم، واستأصلوهم وذراريهم. ولكن النصارى العرب انضموا إلى الفرنسيين فى حملتهم على مصر أيام نابليون، وانضموا إلى اليهود في هذه الأيام التي يفعل الموارنة فيها بالعرب ما يفعلون …! فماذا فعل المسلمون ؟ نسوا كل شيء. نسيت روعته في وطن كل شيء فيه ينسى بعد حين ! وبعد ذلك يقال للمسلمين: لا تذكروا الإسلام، لا تصارحوا بالولاء له، لا تطلبوا إحياء شرائعه، لا تكونوا متعصبين !! أما في الوجوه بقية حياء؟ ص _121(1/114)
على العرب ـ وهم دماغ الإسلام وقلبه ـ وعلى سائر المسلمين في القارات الخمس أن ينتبهوا لما يراد بهم. إن المراد هو التطويح بهم وبرسالتهم في مهاوي العدم. وهم سوف ينتحرون يقينا إذا نجحت بينهم مؤامرات الاستعمار، وجعلت ولاءهم لشيء ما أسبق من الولاء لدينهم. وكلمة لا بد منها إلى إخواننا النصارى، إن شياطين الاستعمار توحي إليكم أنكم بين المسلمين كالبيض بين الزنوج! وكما أن البيض هم حكام روديسيا وجنوب إفريقيا فأنتم كذلك أصحاب السيادة والثروة والسطوة في مصر والشام وغيرهما... إن هذا الكلام إفك كله، والقاعدة الوحيدة التي تشملنا هى: " لكم مالنا دون زيادة، وعليكم ما علينا دون نقص " ومن أغراكم بغير هذا فهو يمكر بكم ويستغلكم لأغراض وضيعة، فاحذروه على أنفسكم. إن كنيستكم الشرقية يا معشر النصارى بقيت حية لأنكم بين ظهرانينا ونحن لا نعرف التعصب ولا نحسنه. ولو أنكم كنتم في فرنسا لذبحتم في مجزرة " سان بارتلميو ". ولو أنكم كنتم في إنجلترا لألزموكم الهوان حتى تتلاشوا... كما فعل ذلك بغيركم. إنهم الآن يتقربون منكم ليضربونا بكم، وظننا أنكم لن تقترفوا هذه الخيانة بعد ما ذقتم حلاوة البر والعدل في جوارنا، وأورثكم ذلك مالا وجاها ما نحسدكم عليهما فأنتم له أهل... إن هناك أفرادا ينطلقون الآن أمام مبنى هيئة الأمم ليتحدثوا عن تعصب إسلامي مزعوم، وهم مستأجرون لجهات نعرفها، ما تريد الخير لكم ولا لنا فأدبوهم ليدعوا هذا الإفك، حتى نستأنف الحياة جميعا وافرين. ص _122(1/115)
إماتة الشرائع والشعائر بعد تمزيق الأمة كلها: قلنا: إن أعداء الإسلام قطعوا أرضه الواسعة سبعين وطنا ينفصل أحدها عن الآخر سياسيا واقتصاديا. ويبدو أن هذا لم يكفهم، فقد بذلوا جهداً أخطر في تقطيع حقيقته العلمية وبعثرة شعب الإيمان السبعين، فغدت دون روابط تشدها. وبدأت حركة تمويت العديد من شرائع الإسلام وشعائره، وها هو ذا القرن الثالث عشر ينتهي ونصف الإسلام ميت في ميدان الحكم والمال، والنشاط متصل للإجهاز على النصف الآخر في ميدان العقيدة والخلق والعبادة. على أن المجاهدين المسلمين ما فتئوا يبذلون طاقتهم لحراسة ما بقى، وإحياء ما مات.. ودون بلوغ هذه الغاية مراحل طوال، وأعباء شداد، يمكن تلخيصها فيما يلي: 1- أغلب الحكام المسلمين يتبعون إما الجبهة الشيوعية أو الجبهة الصليبية. وكلتا الجبهتين لها في ضرب الإسلام واستذلال أهله تاريخ أسود. وكلتاهما لا تأذن أبدا كتجمع إسلامي يحيى الولاء لهذا الدين، ويرد الحياة إلى ما هُدَّ من شرائعه.. وكثير من الحكام واهى الصلة بالعقائد والعبادات التي شرع الله، والذين يؤدون الصلوات أحيانا يريدون المحافظة على بعض المظاهر الشعبية وحسب. وهم جميعا ـ إلا ما شَذَّ ـ يرفضون عودة الإسلام إلى عالم المال، والقانون والعلاقات الدولية، والسياسات المحلية، يكفيه هذا الوجود المحدود فإن طمع في مزيد أنكروا عليه حق الحياة أصلا… وأصحاب العقلية الشيوعية أو الصليبية الغربية أوفياء للمبادئ التي استوردوها أو التي كلفوا بنقلها إلى بلادهم، وهم دائبون على تلوين أرض الإسلام بفلسفات سادتهم الجدد بعد أن حسموا صلتهم العملية بتراث محمد صلى الله عليه وسلم. ص _123(1/116)
والحكام الشيوعيون ولوا وجوههم شطر "الكرملين" يأخذون عنه.. والآخرون ينقلون عن الغرب، وكلاهما صوت سيده في عداوة الإسلام، ورفض هداياته، وكراهية أتباعه..! ولما كان هؤلاء وأولئك حراصا على انتماء اسمي للإسلام مع موالاة أعدائه جميعا فقد رأينا أن نذكر هنا جملا من القرآن الكريم تصف هذا المسلك بدقة. إننى لم أقرأ هذه العبارة: (... ويحذركم الله نفسه ) إلا في تناول هؤلاء الحكام، لقد وردت مرتين خلال بضعة سطور من المصحف الشريف... الأولى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ). ثم يبين جل شأنه أنه خبير بالضمائر وأنه يعرف من يخون الإسلام ومن يصون بيضته، يعرف من يتصرف ضده وضد رجاله، ومن يحنو على أمته ويمكر لها لا عليها. لذلك قال: ( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير * يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ). وهذه هى الثانية فى سياق الكلام عن موالاة الأعداء.. والغريب أن أدعياء الإسلام هؤلاء إذا بطشوا برجاله بلغوا نى الفتك والسفك مدى يقصر عنه الكفار المجاهرون بعداوتهم.. وقد رأيت في أقطار شتى أن الذين قتلوا إبان الاستعمار الخارجي كانوا أقل عدداً من الذين قتلوا في ظل الاستعمار الداخلي..! لذلك كان الاشتغال بالدعوة الإسلامية والسعي لإعادة الشرائع المفقودة عملا منطويا على مخاطر شداد ص _124(1/117)
2- استطاع الاستعمار العالمي أن يحرك الطوائف النصرانية ضد انتساب الكثرة لدينها، وقد حركها أخيراً لتعترض العودة إلى القوانين الإسلامية، فنشر كبير منهم مقالا يرفض في خضوع النصارى لشرائع الإسلام في الحدود والقصاص وغيرها، ولما كانت الحكومة تريد الوحدة الوطنية فإنها ضحت بالأحكام السمارية منعاً للفرقة.. والمهزلة هنا مفضوحة، فلا معنى للتعليق عليها. وإنما تعليقنا على قول الكاتب: إن الإسلام لا يلزم النصارى بأحكامه واستشهاده على ذلك بالآية الكريمة ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ). وهذه الآية جزء من سياق تاريخي متماسك، واقتطاعها منه للتدليل على أن الأحكام الإسلامية لا تشمل أهل الذمة يذكرنا بقول الشاعر القديم: ما قال ربك: ويل للأولى سكروا بل قال ربك: ويل للمصلينا وعلى هذا الأسلوب في الاستدلال تحرم الصلاة على المؤمنين، كما حرمت إقامة الأحكام السماوية على الذميين ..!! والموضوع كله ظاهر في الكتاب الكريم.. فإن الله بين أنه أنزل التوراة على اليهود ليحكموا بما جاء فيها فقال: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا…) ثم انتهت رسالة موسى، وبدأت رسالة عيسى عليهما السلام، ونزل عليه الإنجيل، وكلف اليهود باتباع النبي الجديد والكتاب الجديد، ما أقره وما غيره من التوراة. ثم انتهت رسالة عيسى عليه السلام وجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكلف النصارى باتباع الرسول الخاتم وما أنزل عليه من وحي. ص _125(1/118)
فقول الله تعالى: ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ). هو للنصارى الذين تبعوا عيسى مدة رسالته، ومدة بقاء الإنجيل بينهم !! ولا ريبة عندنا في أن الكافرين برسالة عيسى عبد الله ورسوله، والعصاة للإنجيل النازل عليه من عند الله هم قوم فاسقون. لكن رسالة عيسى التي أنهت رسالة موسى عليهما السلام، أنهتها كذلك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم! والإنجيل الذي نزل عليه من رب العالمين اختفى من قرون طوال، ولا وجود له في القارات الخمس، فما الذي يحكم به؟ إن ما يسمى الآن أناجيل هى سير كتبها نفر من الناس دونوا فيها ما ترامى إليهم من أخبار عيسى عليه السلام، فجاء تصويرهم عجيبا أشد العجب، إذ جعلوا " عيسى " وهو عبد لله إلها مع الله، وابنا له، وفادياً مقتولا على الصليب، من أجل الخليقة. ولم يكتفوا بإله ثان مع الله بل جعلوا جبريل ـ وهو عبد لله من الملائكة ـ إلها ثالثا. وهذا المثلث المتعدد الأطراف يوصف بأنه إله واحد. وعندما نزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم نَّقي عقيدة التوحيد من هذا الخلط، ورفض رفضا حاسماً أن يكون مع الله أى إله آخر من الأرض أو من السماء، وبرأ عيسى عليه السلام من هذه الدعوى الجريئة. ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) َوندع أمر العقيدة لندخل في قضية التشريع الفرعي. ص _126(1/119)
إن الله بعد أن قال: إنه منح موسى عليه السلام التوراة ثم منح عيسى عليه السلام الإنجيل قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم … ) وقال بعد ذلك: ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . . . ) أي ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وحقائق التوراة والإنجيل الجديرة بالاتباع موجودة في القرآن الكريم.. أما ما سكت القرآن عنه، ولم يطلب العمل به فقد انتهى تشريعه ـ إذا سلمنا ابتداء أنه نزل من عند الله، وهذا معنى هيمنة القرآن على ما سبق من كتب.. قد تقول: وما الذي سكت القرآن عنه ولم يستبق تشريعه فيما هو الآن موجود عند القوم في كتابهم المقدس؟ نقول: مثل هدم بيوت بعض المرضى المقرر في العهد القديم... وتدبر ما ننقله لك منه: من يوصف بأنه أبرص ؟ جاء في سفر اللاويين الإصحاح الثالث عشر: "إذا كان إنسان في جلده ناتيء أو قوباء أو لمعة تصير في جلد جسده ضربة برص، يُؤتي به إلى هارون الكاهن أو إلى أحد بنيه فإن رأي الكاهن الضربة في جلد الجسد، وفي الضربة شعر قد أبيض، ومنظر الضربة أعمق من جلد جسده فهي ضربة برص. فمتى رآه الكاهن يحكم بنجاسته " ( ص 135 من العهد القديم ). ولكن هل البرص وصف للإنسان وحده ؟ لا. إن الثوب يوصف به كذلك، جاء في سفر اللاويين: " وأما الثوب فإذا كان به ضربة برص، ثوب صوف ص _127(1/120)
أو ثوب كتان، في السدي أو اللحمة، أو في جلد أو في كل مصنوع من جلد، وكانت الضربة ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحُمرة في الثوب أو في الجلد أو فى متاع ما من جلد، فإنها ضربة برص فتعرض على الكاهن، فيرى الكاهن الضربة، ويحجز المضروب سبعة أيام فمتى رأى الضربة في اليوم السابع قد امتدت في الثوب، في السدي أو اللحمة أو الجلد فالضربة برص مفسد، إنها نجسة! فيحرق الثوب.... بالنار يحرق " ( ص 136 ). فهل يقف البرص عند الثوب؟ لا.. إن أحجار البيوت تصاب به كذلك، جاء في سفر اللاويين: " كلم الرب موسى وهارون قائلا: متى جئتم إلى أرض كنعان التي أعطيكم ملكاً، وجعلت ضربة برص في أرض ملككم، يأتي الذي له البيت ويخبر الكاهن قائلا: قد ظهر لي شبه ضربة في البيت، فيأمر الكاهن أن يفرغوا البيت قبل دخوله ليرى الضربة لئلا يتنجس كل ما في البيت .. فإذا رأى الضربة وإذا الضربة في حيطان البيت نُقِّر ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحُمرة ومنظرها أعمق من الحائط يخرج الكاهن من البيت ويغلقه سبعة أيام. فإذا رجع الكاهن في اليوم السابع ورأى الضربة قد امتدت في حيطان البيت يأمر الكاهن أن يقلعوا الحجارة التي فيها الضربة ويطرحوها خارج المدينة في مكان نجس، ويقشر البيت من داخل، حواليه، ويطرحون التراب الذي يقشرونه خارج المدينة في مكان نجس… فإذا رجعت الضربة وأفرخت في البيت… وأتى الكاهن ورأى أن الضربة امتدت في البيت، فهى برص مفسد في البيت، إنه بخس فيهدم البيت حجارته وأخشابه وكل تراب البيت، ويخرجها إلى خارج المدينة إلى مكان بخس " ( ص 139 من العهد القديم ).تلك هى أحكام الكتاب المقدس على الأجساد والملابس والبيوت. لا نريد أن نتساءل: أهذا وحي إلهى أم تخريف بشري؟ ولكنا نريد تقرير حقيقة محددة أن الله أعفى العالم كله من هذه الأحكام الواردة في الكتاب المقدس، والمحفوفة بجو العصمة وذاك تفسير قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قرآنه المصون: ص _128(1/121)
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك ..) فهل بعد ذلك يجيء مجادل ضرير ليقول: لا نقبل تطبيق أحكام الإسلام في أرض الإسلام ـ علينا نحن إتباع الكتاب المقدس، لأن القرآن يقول ذلك…؟ أين إنجيل عيسى عليه السلام الناطق بعبوديته لله، والمبشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين؟.. إننا نمنح مكافأة سخية لمن يجيء به من أي مكان في العالمين! 3- إذا كان تجهم الحكومات المدنية للإسلام قد غض من كرامته وأمات الكثير من تعاليمه، وإذا كان تمدد الطوائف الدينية الأخرى قد أحرج الإسلام وأقصى الكثير من شعائره، فهناك أمر ثالث أعجز الإسلام عن الحركة الصحيحة أو كاد، ذلك هو ضعف مؤسساته العلمية وامتلاؤها بالقاعدين والطامعين.. إن التعليم الديني في العالم الإسلامي لا يخدم الإسلام كما يجب، ولا تتجه إليه العناصر البشرية القادرة على ذلك. وقد تآمرت هيئات وأفراد على جعل خريجيه يعيشون على هامش المجتمع، وعلى جعل مناصبه هدايا للشياطين الخرس، أو حظوظا لأذناب السلطة.. أو نصيبا لبعض العابدين البله الذين لا فقه لهم ولا خوف منهم.. ومع ذلك، فإن الجماهير المخلصة أرسلت بنيها للتعليم الديني ابتغاء وجه الله ولو تعرضوا للهوان، وبدا ـ مع سيل هذا الإخلاص ـ أن جيلا من المتدينين الأذكياء سيخدم الإسلام ويعلي شعاره، بل إن هذا الجيل الغيور شرع يأخذ طريقه إلى اقتياد الأمة نحو هدفها الحبيب، نحو عودة الإسلام إلى كل ميدان أخرجه الاستعمار منه. وهنا حدث انقلاب في أرجاء العالم الإسلامي لا يمكن أن تكون المصادفات ص _129(1/122)
من ورائه، فقد حُوَّلت المعاهد الدينية البحتة إلى جامعات عامة تدرس الدين والدنيا معا كما قيل.. تم ذلك في الأزهر والزيتونة والقرويين وفي يوم واحد أقفلت الجامعة الإسلامية في ليبيا والجامعة الإسلامية في السودان ثم أُعيد فتحها على نطاق ضيق بعد انحسار المد الشيوعي. ولا نقول: إن التعليم الديني ألغى وأودع كفنه، بل أخذ طريقه فقط إلى الذبول والانزواء. وقد اشتغلت بالتعليم الجامعي قرابة عشرين سنة ـ إلى جانب عملي بالدعوة في وزارة الأوقاف ـ ولمست كيف تعامل المؤسسات الدينية؟؟ إن الوقف الخيري نظام أقلق التبشير العالمي وأقض مضجعه، وقد أعلنت عليه حرب خفية وجلية. واحتقارا للعاملين بوزارة الأوقاف ـ في مصر ـ لم يعين وزير واحد من موظفي هذه الوزارة خلال أربعين سنة ؟ وأغلب الموظفين الكبار يجاء بهم من خارجها؟؟ أما الأزهر نفسه فإن طابعه الديني يوشك على الزوال، وصفات التقوى والأدب مع الله والغيرة على الإسلام تم نقلها إلى دور الآثار العربية والإسلامية.. قد يفهم من ذلك أن تخريب المؤسسات التعليمية الإسلامية يجيء من عدوان المعتدين وأهواء ذوي السلطة، وأسارع فأقول: إن العلماء التقليديين أنفسهم مسئولون عن هذه الحال ويحملون أمام الله قسطاً كبيرا من مآسيها... وشاء الله أن يزدهر التعليم الديني في جزيرة العرب ليجدد ما درس في أقطار أخرى. ولقيت الدكتور محمد الرشيد عميد كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز الذي تفاهم معي على العمل في مكة المكرمة وكنت يومئذ مهزوماً مظلوماً ضائقا لما أصابني وأنا أحمل علم الدفاع عن بقايا الإسلام في علم التشريع، ص _130(1/123)
كان يراد تنصير قوانين الأسرة فاستمتنا في رد هذه الفتنة وأصابنا من ذلك ما أصابنا... قال لي الدكتور محمد الرشيد: لا عليك أن تخدم أبناء المسلمين في دولة تقوم على الدين، وترفعه لها شعارا. وكان الانتقال إلى المملكة العربية السعودية مباغتة لي، وكنت قد نقلت فى أول كتاب ألفته كلاما عن الملك عبد العزيز يصف صرامته في تأديب البدو والقبائل التي مردت على إيذاء الحجيج.. ويظهر أن الكاتب الذي نقلتُ عنه جار فى حكمه واشتط في اتهامه، وأنا على كل حال مسئول عن الكلام الذي نقلته وإن وصف خطأ بأني قلته... وقد سافرت إلى مكة وبدأت العمل في الجامعة وبدأت كذلك أدرس تاريخ الملك عبد العزيز أدرسه سرا، وأتعرف على معالمه وحدي... وكان أول ما استوقفني كتيب فيه الأدعية المأثورة التي كان الملك يتلوها تقرباً إلى الله وتطلعا إلى فضله..!! قلت: ملك عابد؟؟ هذا غريب!! وبدأت أجمع المعلومات، وأنا بعيد عن أي حاكم في المملكة فعلمت ما لم أكن أعلم. عرفت أن الرجل كان صواما قواماً مقبلا على ربه، راغبا في نصرة دينه، يتحرى الحق ويسأل عنه أهل الذكر.. ويريد أن يقيم دولة للإسلام تجمع ما تفرق من أمره، وتحميه من الخرافات والأباطيل.. وعرفت أنه كان متواضعاً للناس، يبعثر فيهم ما يجيئه من مال، وكان المال يومئذ قليلا، لما يستكشف النفط بعد وتغزر موارده. وتأملت فى مؤسسي الأسر المالكة التي ظهرت خلال القرنين الأخيرين فوجدتُ محمد علي باشا أقام ملكا عريضا بمساعدة فرنسا، وأنه حيث دخل بلدا كان ينقل القوانين الوضعية الفرنسية ويستبدلها بالقوانين الإسلامية. أما عبد العزيز فكان الهدف الأول والنداء الأول له إقامة حكم إسلامي تطبق فيه تعاليم الكتاب والسنة. ص _131(1/124)
وقد استطاع أن يجمع تحت هذه الراية أقطاراً فيحاء من جنوبي سوريا شمالا إلى شمال اليمن جنوبا واصلة بين البحر الأحمر والخليج الفارسي شرقاً وغربا، ولم تتوحد البلاد على هذا النحو إلا على عصر ازدهار الإسلام. وقد هاجمه بعض المتدينين وطعنوا فيه لأنهم رغبوا إليه أن يعلن الحرب على إنجلترا ويأذن لهم بفتح العراق، ولكن الرجل أبي أن يتعرض لمغامرة هى في عقباها مقامرة خاسرة. وعند التأمل نجد الحق معه ولا ريب أنه كان سياسيا ماهرا بعيد النظر. إنني أكتب هذه الكلمات إنصافا للحقيقة العلمية، لا رغبة ولا رهبة، أكتبها بعد خمس سنين قضيتها فى السعودية كأي أستاذ يشتغل بالتعليم والتربية، ما قال لى مسئول: لماذا كتبت عنا كذا..؟ أو لعلك تستدرك ما ذكرت قديماً عنا، لا.. انه العدل مع رجل عظيم أفضى إلى ربه ولا نزكي على الله أحدا... ولأعد بعد ذلك الاستدراك الواجب إلى موضوعي، إن أجهزة التعليم الديني في العالم الإسلامي الرحب تحتاج إلى تصحيح ودعم، فجمهور العلماء والدعاة ليسوا على مستوى الإسلام العظيم ـ وما أبرئ نفسي فطالما استعذت بالله من شر نفسي وسوء عملي ـ وأرى لكي تستقيم الحقائق الدينية في بصائر ذويها، ولكي يحسنوا الترجمة عنها، أن تجتمع أمور. منها ضرورة دراسة النفس الإنسانية، ولا حرج في الاستعانة بالعلوم الإنسانية في تطورها الجديد وتجاربها الكثيرة لاستكشاف أغوار النفس وأهوائها. ومنها دراسة التاريخ العالمي، ومتابعة كفاح الأمم وهى تبحث عن حقوقها، أو عن الحقائق الخافية عليها، وملاحظة المظالم الدامية التي اقترفتها البشرية، وكيف وقعت فيها وكيف خلصت منها، وما العبر التي خرجت بها من هذا التاريخ الطويل...؟ ومنها دراسة التاريخ الإسلامي نفسه دراسة نقد واستيعاب، والاستفادة ص _132(1/125)
الذكية مما اكتنفه من أحوال حسنة أو سيئة، وتحديد قربه أو بعده، من القيم المقررة في هذا الدين. ومنها دراسة النشاط الفقهي والأدبي والتربوي في المدارس الإسلامية المختلفة وإحياء علم المقارنة بين شتى المذاهب الفكرية وبذل الجهود للخروج بحقائق نافعة. ومنها دراسة الأدب العربي في أدواره وأعصاره ونقل نماذج للآداب الأجنبية الأخرى التي لها مكانة مرموقة عند أصحابها. وإنما يدعوني إلى ذلك ما شعرت به من قماءة عدد كبير من علماء الدين، وضيق أفقهم، وجمعهم الذي يثير الاشمئزاز بين الجهل والجلافة. وقلما خلا قطر زرته من هذا الصنف الرديء... وشيء مهم لا بد من ذكره: إن السعة العقلية مهما حمدت لا تغني فتيلا عن عظمة القلب وصدق العلاقة برب العالمين... اًن الصدع بالحق لا محيص عنه عندما نرى كفراً بواحاً، وخطراً على الإسلام داهماً. وعلماء الدين الذين يلوذون بالصمت في هذه الظروف ليسوا علماء دين، إنهم طلاب دنيا نعوذ بالله أن نكون منهم، وندعوه أن يرزقنا العصمة، وإذا أراد بعباده فتنة قبضنا إليه غير مفتونين. *** ص _133(1/126)
الفصل العاشر الأبعاد الجديدة: بعد ما صعدوا هبطنا!! الإنسان بفطرته يكره الرق والظلم والجهالة، ويحب الحرية والعدالة والمعرفة. ونحن نقدم الإسلام للناس إيمانا ونظاما، أو بتعبير العصر " دينا ودولة " فإذا كان الإسلام الذى نقدمه لا يشبع حاجة الفطرة إلى ما تحب، ولا يقيها سيئات ما تكره، فإن الناس سوف تفر منه يقينا ..! قد تقول: كيف يوصف الإسلام بالتناقض مع الفطرة، والتنافر مع ما تهوى وتبغض، وهو دين الفطرة؟ إنه المعروف الذى قال فيه الشاعر: ولم أر كالمعروف، أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل..! نقول: ذلك حق كله، والشبهة تجئ للإسلام من سوء العرض وسوء التطبيق، ومن قبل هذا وذاك، من سوء الفقه، وكلال البصيرة!! وقد شكوت إلى صديق لى أن الإسلام فى العصور الأخيرة كان يحارب فى جبهتين، جبهة الأتباع الهمل الذين ظفروا منه بأطراف وقشور، وعموا عن حقائقه الكبرى.. وجبهة الخصوم الضاغنين الذين عرفوه خطراً على أطماعهم، وضوءاً على ظلماتهم... والجبهة الأولى هى مكمن الداء.. لقد كان المتحدث عن الإسلام فى بلاط كسرى من أدهى الرجال وأذكاهم حين قال لحاشية كسرى وقادته: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله... إن للكلمة القصيرة الواعية هنا آثارا تتجاوز قصر كسرى إلى ما وراءه من ص _134(1/127)
جماهير هائمة سائمة، ولو أن الإسلام بعقائده وعباداته سيبقى الكسروية وآصارها، ما لام الفرس أحد إذا زهدوا فيه. فى ظنى أن " ربعيا " رضي الله عنه فقه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل التى يدعوه فيها إلى الإسلام، وهى الرسالة التى ختمها بقوله ـ سبحانه: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ).. توحيد لله، وإصلاح للأرض، وإحسان للعمل، ومساواة بين الناس.. هذه المعانى الناضرة تظل خيالات حائرة حتى يخرجها التطبيق الحسن إلى عالم الواقع، فتنجذب إليها الطبائع المستقيمة، وتهرع إليها الجماهير وهى مطمئنة راغبة.. إن الإسلام يوم تقدمه فرعونية حاكمة، أو قارونية كانزة، فمن حق الشعوب أن ترفضه وتنأى عنه...! فمن الذى يؤثر العيش فى ظل فرد متسلط إذا كان فى مجتمعه يمرح فى ظل حقوق الإنسان؟ ومن الذى يرضى الانتقال إلى مجتمع ضاع فيه الحق المعلوم إذا كان فى مجتمعه الأول مُعانا تحيط به ضمانات ضد المسغبة والضياع؟ ثم من قال: إن الذى يُعرَض على هؤلاء الحائرين هو دين الله الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحكم به خلفاؤه الراشدون؟ إن على دعاة الإسلام وعلمائه أن يعرفوا دينهم، وقضاياه الكبرى. وعندما أنظر إلى أغلب المنسوبين إلى الدعوة والعلم أحس غضبا وأسفاً، لأنهم دون ذلك. والصغار لا يستطيعون فهم القضايا الكبرى، كما تعجز المراصد البدائية عن ص _135(1/128)
التقاط صور للكواكب البعيدة، كذلك الدعاة الضيقون والعلماء بالتسمية والوظيفة لا بالفكر والفؤاد ..!! عندما سأل حذيفة النبي صلى الله عليه وسلم هل بعد عصره الطيب شر؟ ـ أى خير مشوب.. قال: " نعم "، وقال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: " نعم، وفيه دخن". سأل حذيفة: ما دخنه؟ قال المعصوم صاحب الرسالة الخاتمة: " أناس يهدون بغير سنتى تعرف منهم وتنكر ".. إن هناك دعاة وعلماء جل بضاعتهم هذا الدخن، ولقد تسلسل فى أعصار متطاولة حتى بلغ هذا الجيل، كثيفاً سخيفا، ثم غلب على ثقافتنا النظرية وسياستنا العملية فلم يكن عجبا أن يتراجع الإسلام عن أقطار بلغها، بل أن يهدد فى بيضته نفسها لولا بقايا من لطف الله.. المشكلة العلمية فى نظرى هى الأساس فليس تصور الإسلام وتصويره درساً لبعض النظرات الكلامية فى العقيدة، وإحصاء لبعض الفروع العملية فى الفقه. الإسلام أكبر من ذلك، ولا يعرف روحه وأبعاده، ويقدر على تعريفها للناس إلا امرؤ راسخ القدم فى الكتاب والسنة، واقف على سير الخلفاء والأئمة المتبوعين، خبير بأخطاء ، الساسة والدارسين على سواء... سمعت يوما إحدى خطب الجمعة فقلت لصاحبى: لو أن أحدا نقل هذه الخطبة على أنها من مواعظ القرن الخامس أو السادس ما أنكر عليه أحد... قال: وما الذى يجعل الدعاة والواعظين يفرون من مواجهة هذا العصر؟ قلت: مزيج من الخوف والقصور، الخوف من الحكام، والقصور عن البلاغ الشافى.. وسمعت خطيبا يهدر وكأنما ثكل أبنه، لأن الناس اعتدوا على شعر اللحية ص _136(1/129)
ولا ريب أن اللحية من سنن الفطرة ولكن هذا الخطيب لم ينس ببنت شفة عندما قتل نحو عشرين ألف مسلم فى زنجبار، وسكت هو وغيره سكوتاً مطبقاً.. لماذا؟ لأن وعيهم بالإسلام وحقيقته وقضايا أمته محصور فى نطاق خاص ( ذلك مبلغهم من العلم ) . والعلم بالحياة الإنسانية، وما ظهر فيها من فلسفات، وما تسوقه للناس من إغراءات، ضرورة ملحة لإحسان عرض الإسلام، وكشف الجوانب التى تضئ حياتهم منه. لقد كنا نصدر المبادئ والقيم إلى غيرنا، فهل استغنى هذا الغير عنا؟ وبم؟ ولم زهد فينا؟ ما هى أخطاؤنا..؟؟ إن أخطاءنا فى جنب الله كثيرة، وتقصيرنا فى خدمة الإسلام فاضح، ومن قرون والفقه الدستورى والدولى عندنا صفر، وفقه المعاملات مجمد، والتربية الفردية والاجتماعية فوضى... ومع أن فقه العبادات متحرك إلا أن الخلافات فيه تشير إلى عوج عقلى ينفر المتدينين من المسالك الدينية جملة. أفهم شخصياً أن يثور جدل حول سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة، وحول الوضوء من أكل لحم الإبل أو عدمه.. لكن الإنس والجن لا يفهمون لماذا تكون هذه الأمور التوافه مثار معارك طاحنة وتغاضب شديد.. كنت أسير فى أحد شوارع القاهرة فوجدت مبنى لبعثة إيطالية تدرب أبناءنا على صنع الأحذية... قلت لنفسى: حتى فى هذا الميدان نحتاج إلى تدريب ثم وثب بذهنى خيال دعاة يريدون نشر الإسلام بالسيف فقلت لهم فى الخيال: حاربوا حفاءكم أولا، ثم تواضعوا لله، وتعلموا دينكم ممن هو أبصر منكم بأصول الدين، وفروعه، ووسائله، وغاياته، إنكم عبء على دين الله ودنيا الناس.. ص _137(1/130)
وهناك حقيقة لا يجوز أن تغيب عنا، نريد أن نعرفها: هل توقف سير القافلة البشرية عندما توقف العقل الإسلامى عن التفكير؟ هل توقف التعمير العالمى عندما قل إنتاجنا فى استعمار الأرض؟ كلا… إن العالم مضى فى طريقه يسعى ويطفر، وحقق فى سعيه وطفرته خيرا كثيرا وشرا كثيرا، أما خيره فإنه تجاوب مع نداء الفطرة فى مجالات تتصل بالحريات الإنسانية والحقوق السياسية، وأما شره فإنه يمشى مع الغرائز الدنيا، ويسر لها وقودها على نحو جعل الصعاليك يستمتعون بما لم يستمتع به الملوك الأقدمون ….!! وأحب أن أضع بين يدى الدعاة صورة سريعة عن المقومات الأساسية للمجتمع الغربى كتبها أخونا الأستاذ سيد أبو المجد، وغرضى من ذلك أمور: الأول: أن يعرف الدعاة من يواجهون؟ وما الفكر الذى يحركهم؟ وما البديل الذى ينبغى أن نعده نحن ليحل محله؟ والثانى: أن يعرفوا مصادر الشر التى تنطلق فى الدنيا إثر انتصار الغرب، وانتشاره فى القارات الخمس، واقتباس الناس منه ما يحمد وما يعاب.. وأخيراً… أن يصحو المسلمون من غفلتهم ، ومن تطاحنهم على شئون لا يباليها أولو النهى، وكيانهم مهدد من القواعد. إننا نتحاقد على أرغفة الخبز وفى الدنيا ثروات طائلة. ونتخاصم على شكليات، وقد أقام غيرنا موضوعات لها طول وعرض.. وهذه هى مقومات الفكر الغربى الحديث: 1- الواقعية المادية: تتجه الحضارة الغربية المعاصرة إلى الإيمان بالواقع الحسى الملموس والميل عن الروحية والمثالية والأفكار المعنوية، فانصرفت عن الدراسات الميتافيزيقية، والسبحات الروحية، وقد نتج هذا عن عدة عوامل أهمها: ص _138(1/131)
أولا : طبيعة البلاد الغربية العنيفة القاسية المتقلبة التى توحى بالكفاح والنضال والاعتماد على الجهود البشرية الملموسة، دون ارتكان على قوى خارجية معنوية، أو التماس معونة من السماء. ثانيا: الديانة المسيحية بحسب ما صورها الكهان والأحبار لا تتفق مع العقل الواعى المفكر الذى يجرب ويحلل ويستنبط، لأن فكرة التثليث معقدة بعيدة عن المنطق الدارس والبحث الرصين، ولأن فكرة الانصراف عن الدنيا كل الانصراف، والإقبال على الآخرة كل الإقبال، وما يستدعيه هذا من رهبانية وزهد فى الطيبات، وتسامح يصل إلى درجة الإذلال، هذا كله كفيل بهدم الحياة والقضاء على البشرية جمعاء. ثالثا: اهتزت العقيدة المسيحية فى نفوس الغربيين كل الاهتزاز نتيجة لتحكم الكنيسة فى قلوب وعقول المسيحيين، وفرضها حصاراً نفسيا وثقافيا يشل حركة التطور والتفكير، ويساعد على هذا ظهور كثير من المصلحين الاجتماعيين ومن أشهرهم " مارتن لوثر " الذى أضعف سلطة الكنيسة وأذهب هيبتها من النفوس، وأعانه على هذا تأييد الكنيسة للحكم الإقطاعى، والملوك الطغاة المستبدين. رابعا: اتصل الغربيون بالمسلمين عن طريق الأندلس من جهة، وعن طريق الحروب الصليبية من جهة، فاستزادوا من الحضارة الإسلامية جانب العمل المثمر. وإن كان التعصب الدينى حال بينهم وبين الجانب الروحى الوضاء. خامسا: الثورات المتلاحقة والحروب الطاحنة التى تعتمد على الأسلحة المادية، وتجعل لها السلطان الأول فى النصر جعلتهم يقبلون على الماديات كل الإقبال، ويتفننون فى الإيمان بها كل فاستغلوا خيرات بلادهم واستثمروها خير استثمار، فنمت الثروات واتسعت التجارات، فأقبلوا على إرضاء غرائزهم وإشباع نفوسهم وإمتاع حواسهم بما صرفهم عن الروحانيات إلى الماديات. ص _139(1/132)
سادسا: النهضة الصناعية وما أنتجته من خيرات وفيرة صرفتهم إلى البحث فى بطون الأرض عن المعادن والمناجم والخامات الأولية، ودفعتهم إلى المبالغة فى الإنتاج وساعدهم على هذا اختراع الآلات ووفرة الثروات، فأصبحت المادة هى الإله المفضل الذى يستحق فى نظرهم العبادة والتقديس. ولهذا كله كفروا بالديانات جميعا ـ إلا المحترفين منهم ـ ووجهوا إلى الديانات السماوية أعنف الحروب، وبخاصة الإسلام، لأنه وقف عقبة فى طريق استعمارهم للأمم الإسلامية، فحاربوه تارة بالجيوش الجرارة، وتارة باسم العلم، وتارة باسم التبشير.. وكثيرا ما حاكوا الدسائس وأشعلوا نيران الفتنة بين المسلمين، فمزقوهم كل ممزق، وشردوهم كل تشريد، ولم يكتفوا بهذا، بل خلقوا طوائف دينية تحمل اسم الإسلام وتعمل على هدم الإسلام، مثل البهائية، والقاديانية، أو شجعوا بعض المنحرفين مثل الإسماعيليين. * * * 2- الحضارة العلمية : استطاع العلم فى العصر الحديث أن يكشف عن كثير من الحقائق المادية: فكشف الجراثيم الوبائية، وعرف مركز الأرض من الشمس ومن الأجرام السماوية، واستطاع أن يسخر البخار لطى الأرض وقطع البحار. كما كشف الكهرباء واستغلها فى الصناعة والتجارة وتيسير سبل الرخاء، وها هو ذا أخيراً يفتت الذرة ويطلق المارد الجبار من عقاله ليسيطر عن طريقه على الأرض والسموات، وها هو ذا يغزو الفضاء ويحاول الوصول إلى الكواكب واستغلالها لخير الإنسان، وقد دفعته نشوة الانتصار إلى أن يحاول خلق الحياة، هذه النهضة العلمية القوية جعلت كثيرين من الغربيين يؤمنون بالعلم وحده، ويعتقدون أنه الجدير بالعبادة والتقديس، فنادوا بأن عصر الديانات قد انتهى إلى غير رجعة، وأن البحث فيما وراء الطبيعة، عبث فى عبث، وأوهام فى أوهام، وخيالات تدور فى أذهان المرضى أو المنحرفين. وقد أعانهم على هذا الاتجاه نظريات "فرويد" فى علم النفس ومحاولته. ص _140(1/133)
إثبات أن الإنسان عبد نزواته وغرائزه الجنسية، وأن العقل الباطن هو المسيطر الفعال فى توجيه الإنسان، وبهذه النظرية أدخل الإنسان فى حظيرة الحيوان. ثم كانت نظرية " داروين " التى تنادى بأن الإنسان سليل الحيوان وأنه ينتمى إلى فصيلة القرود، وهذه النظرية تعارض ما أوردته الديانات السماوية جميعا كل من خلق آدم، وأنه خليفة الله فى أرضه، وأن الله كرم بنى آدم وحملهم أمانته، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلا. وكلما وصل الغربيون إلى كشف علمى جديد هللوا له وكبروا، واعتقدوا أنهم فى طريقهم إلى كشف أسرار الكون والسيطرة على مقومات الحياة. وكلما نظروا إلى الشرقيين وإيمانهم بالروحانيات، ازدادوا اقتناعا بأن علة تأخير الشرقيين هو تمسكهم بالدين، وبهذا حكموا على المبادئ بالشخصيات... ولم لا ؟ أليس لهم العذر من أوضاعنا نحن؟ *** 3- المذاهب الاقتصادية: تسيطر على العالم الغربى الآن عدة مذاهب اقتصادية لها كل الهيمنة على آرائه وأفكاره ومستقبله فى الحياة، وأهم هذه المذاهب مذهبان هما: المذهب الرأسمالى: وتعتنقه أمريكا والدول التى تدور فى فلكها، ويستندون فى تبرير الإيمان بهذا المذهب على أنه: (أ) يكفل للأفراد حرية التملك وهى حق مشروع يرتكن على غريزة فطرية فى النفس البشرية، ومقاومة هذه الغريزة خروج على مقومات الحياة. (ب) يعطى هذا المذهب لكل إنسان ثمرة ما يبذله من جهود، ولا يحرمه حقاً من حقوق الحياة. (جـ) يبيح هذا المذهب للفرد أن يصل بثمرة جهوده إلى أقصى ما يستطيع ص _141(1/134)
ثم يترك هذه الثمرة أو معظمها من بعده للأبناء والأحفاد، وهذا يكفل بناء الأسرة على أساس متين، والأسرة هى أساس الدول والشعوب. (د) يحفظ هذا المذهب للفرد جميع حقوقه فلا يكون عبدا للجماعة توجهه كيفما تشاء، بل يستطيع هو أن يوجهها إن كان من ذوى المواهب والعبقريات. وفى هذه الآراء كثير من المغالطات، فإن طغيان رأس المال فى الدول الرأسمالية يكاد يسلب الأفراد حقوقهم، ويخضع الشعوب لحفنة قليلة من الرأسماليين تسيطر على الحكومات، وتدفعها إلى الحروب الاستعمارية وتسخرها لقضاء ما لها من مآرب وشهوات، وكثيرا ما تنتشر فى هذه الدول البطالة، وما تجره وراءها من مشكلات، وفى الدول الرأسمالية أصبحت الشركات الكبرى وأربابها من أصحاب الملايين هم السادة المسيطرون، وإن نادوا بالديمقراطية والإخاء والمساواة تخديراً للشعوب وتسخيراً للجماعات. * المذهب الشيوعى: وهو سائد الآن فى روسيا ومن والاها من دول المعسكر الشرقى وكذلك الصين ومن والاها، ويستندون فى تبرير اعتناقهم لهذا المذهب إلى الأسباب الآتية: (أ) أنه يهدم نظام الطبقات فلا تتحكم طبقة فى أخرى ولا يستعبد فريق من الشعب سواه. (ب) يدعو هذا المذهب إلى المساواة المطلقة فلا سيد ولا مسود ولا تابع ولا متبوع، فكل المعتنقين لهذا المذهب زملاء متساوون ولقب كل منهم الرفيق. (ج) يكافئ هذا المذهب كل إنسان بحسب ما يبذله من جهود، فلا ظلم ولا تسخير، ولا استعباد ولا استرقاق. (د) يكفل هذا النظام لكل إنسان العمل والإنتاج، فلا عطلة ولا بطالة، وبهذا يستطيع كل إنسان أن يطمئن إلى موارد رزقه بغير مشقة أو عناء. ص _142(1/135)
وفى هذه الآراء كثير من المغالطات فإن هذا المذهب حين يهدم نظام الطبقات يعطى الحق لفئة قليلة من زعماء الحزب بالتحكم المطلق فى حياة الشعب جميعه، وتسخيره لقضاء مآربها، وفرض الحكم المطلق عليه حتى يصل إلى التجرد من جميع الحريات... وما الأفراد فى هذا الحكم إلا آلات مسخرة: لا تملك حرية التعبير، أو حرية الملك، أو حرية الاعتقاد، ولهذا قام الحكم الشيوعى على سلب الحريات وإراقة الدماء لأوهى الأسباب وأتفه الملابسات، وأكل زعماء الشيوعيين بعضهم بعضا، وكلما وليت طائفة منهم الحكم لعنت أختها ورمتها بأشنع الخيانات. والشيوعية فوق هذا تحارب الديانات وتراها أفيونا مخدراً للشعوب، وبهذا تسلب الإنسان سموه النفسى، وعزاءه الروحى ورقيه المعنوى، وتحيله إلى حيوان أعجم أو آله صماء. وأخيراً... تستطيع أن تقول: إن الغربيين ارتقوا ماديا بانصرافهم إلى المادة كل الانصراف، ولكنهم: تجردوا عن المعنويات وانصرفوا عن الروحانيات وأغفلوا المثل الأخلاقية العليا، وحادوا عن الحق والخير والجمال، فسمت حياتهم المادية وانحطت قواهم الروحية، فقامت بينهم الحروب المدمرة والثورات الساحقة، ونشأ فيهم الانحلال الخلقى، وسيطرت عليهم النزعات البهيمية، وأوشكت الكشوف العلمية الرائعة التى حققوها أن تكون وبالا ساحقاً عليهم، وستقضى عليهم القضاء الأخير ما لم يفيئوا إلى الصواب، ويرجعوا إلى الإيمان، ويوازنوا بين المادة والروح وبين الجسم والنفس، وبين الدنيا والدين. أى يرجعوا إلى الإسلام.. والإسلام الذى نطلب من هؤلاء أن يعودوا إليه إسلام نظرى، تصوره أقلام الكتاب وأفواه الخطباء الذين أحسنوا فهمه من ينابيعه النقية. ص _143(1/136)
أما أمتنا المترامية الأطراف بين المحيطين الكبيرين فهى فى غرف المحافل الدولية مجموعات من العالم الثالث، العالم المتخلف الفقير إلى عون أصحاب الحضارات المتقدمة.. إن هذه الأمة ليست ما صنع الإسلام الحق، لأن الإسلام الحق صنع خير أمة أخرجت للناس، أى صنع الأمة الأولى فى العالم، لا أمة الدرجة الثالثة أو الثانية.. وقد أسمع كلام أشخاص يتحدثون عن عودة إلى الإسلام الحق فأتشاءم من أصواتهم، وكأنها نعيب البوم..! لماذا؟ لأن المسلمين لو استجابوا لهم ما ازدادوا إلا خبالا، ربما عادوا إلى حياة تشبه حياة الترك أو المماليك فى أيامهم العجاف،.. وهى حياة لم تقدم خيرا لا للمسلمين ولا للعالمين..! دعاة فتانون: مع أن أعداء الإسلام فى هذا العصر أقوياء، ومع استمتاعهم بمقادير كبيرة من العلم والدهاء، ومع أنهم أحرزوا ضدنا انتصارات كبيرة فى أكثر من ميدان، مع هذا كله فلست أخافهم على ديننا قدر ما أخاف على هذا الدين من متحدث جاهل، أو منافق عليم اللسان، أو سياسى يتخذ إلهه هواه ولأتناول الآن المتحدثين الجهال فإن قصورهم فتح علينا أبواب شرور كثيرة. إن قصة الغرانيق لم يخترعها مبشر كذوب، وإنما روجها متحدث أحمق من جلدتنا يتكلم بلغتنا. وقرية عشق الرسول لـ زينب بنت جحش لم يختلقها عدو كاشح، وإنما ألفها متعالم من عندنا، خفيف العقل والحكم.. وقد اضطرب السلوك الإسلامي في بناء الأسرة لأن حديثا موضوعا ينهي عن تعليم النساء الكتابة، وعن إسكانهن الغرف، شاع بين الناس.. ص _144(1/137)
وآفة بعض المتحدثين في الإسلام أنهم يستقبلون المرويات التافهة وأذهانهم خالية أو فقيرة من الوعي بتوجيهات القرآن الكريم وهو دستور الإسلام الأول. ولا يجوز لفقيه أن يتناول السنن الصحاح وهو جاهل بالقرآن نفسه فكيف بما هو دون الصحيح من تلك المرويات؟ إن الصورة المتكاملة والجميلة للإسلام تؤخذ من الكتاب والسنة، الكتاب أولا ثم السنة بعد ذلك. والسنة أساسها ما تواتر ثم ما صح أما المرويات الضعيفة ـ وما أكثرها ـ فلها شأن آخر يعرفه الراسخون في العلم... وقد وقع في يدي كتاب يوزع في بعض العواصم الإسلامية، ويتأثر به الكثيرون، وجدت على غلافه ثلاثة أسماء " لعلماء " لهم مناصب مهمة، وطالعت الكتاب فاستغربت ما حوى من صور رديئة للإسلام وتعاليمه في قضية اجتماعية كبيرة الشأن. هل صحيح أن البيت المسلم سجن، وأن الزوجة داخله متهمة إلى الأبد، وأن أنواع الحيطة تتخذ لمنعها من الإثم ؟؟ كذلك يقول الكتاب فقد جاءت هذه العبارات به تحت عنوان " نظام سليم لحياة المرأة يتجلى في الحجاب". قال على رضي الله عنه: ألا تستحون، ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها وكان الصحابة رضي الله عنهم يسدون النوافذ وثقوب الجدران لئلا تطلع منها النساء على الرجال أو الرجال على النساء. وقد رأى معاذ بن جبل زوجته تطلع في كوة فضربها، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وكان على رضي الله عنه يقول: أكفف أبصارهن بالحجاب (!) فإن شدة الحجاب عليهن خير من الارتياب.. فإن استعطت ألا يعرفن غيرك فافعل ! فالحجاب حصن حصين للمرأة يمنع عنها الشكوك والأوهام، ولزومها بيتها خير وأسلم عاقبة..". ص _145(1/138)
نقول: هذا الكلام كله هراء، ولا تصح نسبته لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى أصحابه، والمرويات التي يعتمد عليها هذا الكتاب ظاهرة المخالفة لما تواتر من خروج النساء إلى المسجد النبوى من الفجر إلى العشاء يرين الرجال ويراهن الرجال ولكن مع غض البصر كما أمر الله ورسوله، إن الإسلام لم يأمر بعدم النظر وإنما أمر بغض البصر. وقد تصورت المشرفين على هذا الكتاب في مواقف تستحق الدراسة، لقد روى البخارى أن صحابية أحبت أن تكون مع المجاهدين في البحر، تركب الأسطول، وتقاتل في سبيل الله، وطلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بذلك، فأجابها وطمأنها وبشرها.. لو كان مؤلف الكتاب حاضراً لقال لها: مالك يا امرأة وهذا العمل؟ وما تكلفك أمراً لا تحسنينه؟ امكثي في بيتك ولا تكوني من العصاة. وتصورت أن المؤلف مع بنت شعيب وهى تقول لأبيها في شأن موسى: ( قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ). إنه سيضربها على فمها ويقول لها: اخرسى.. ما أدراك أنه قوى؟ لعلك نظرت إليه وفكرت فيه يا... إن هذا النوع من المتحدثين عن الإسلام يقف من سيرة الإسلام، ويصد عن سبيل الله، وقد عرفت أنهم يقلدون مذهب ابن حنبل رضي الله عنه، وأحمد بن حنبل بريء من هذا المسلك، وهو لا يقول إن وجه المرأة عورة، ذكر ذلك المغنى لابن قدامة، وكذلك رأى أئمة المذاهب المتبوعة، أبو حنيفة ومالك... قال ابن قدامة ( ص 431 من الجزء الأول ): قال مالك والأوزاعي والشافعي: " جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر ص _146(1/139)
منها) قال: الوجه والكفين، ولأن النبي نهى المرأة المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والعطاء، وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة ". ولكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة. إلى أن قال (ص 432): ويكره أن تتنقب المرأة وهى تصلي... وأجمعوا على أن المرأة، تكشف وجهها في الصلاة والإحرام. نقول: وذلك كتحريم تغطية الرأس على الرجال عند الإحرام، والرأس ليس بعورة ـ بالنسبة لهم ـ وإلا ما وجب كشفه وكذلك الوجه والكفان بالنسبة إلى المرأة، ونحن نعلم أن هناك متطيرين يرون أظافرها عورة، وهؤلاء لا وزن لا لرأيهم ولا لروايتهم. وجاء في الجزء السابع من المغنى والشرح الكبير مزيد من الإيضاح لهذه القضية... إذا أراد امرؤ الزواج فخطب إحدى النساء فماذا يفعل ليستريح إلى الزواج منها: يقول الحنابلة: يكفيه ما يرى عادة، ولا ينبغي له أكثر من ذلك. قال صاحب المغنى: " لا خلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلى وجهها، وذلك لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن وموضع النظر، ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة". وقد رويت أقوال أخرى فيما يرى سوى الوجه والكفين لا مكان لذكرها هنا. قال صاحب المغنى: " وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها لتكون الشهادة واقعة على عينها، قال أحمد: لا يشهد على امرأته إلا أن يكون قد عرفها بعينها، وإن عامل امرأة في بيع أو إجارة فله النظر إلى وجهها ليعلمها بعينها فيرجع إليها بالدرك ". ص _1 ص(1/140)
نقول: وأدب الإسلام العام هو غض النظر، فلا يجوز التفرس والحملقة، وإنما أباح الحنابلة النظر فيما ذكرنا لطبيعة التعامل والتقاضي، وقد نقل ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى أنه يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه لأنه عورة ـ أي ما عدا الوجه.. قال صاحب المغنى: " فأما نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان: إحداهما: لها النظر إلى ما ليس بعورة، والأخرى: لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها ". نقول: يعني الوجه والكفين، وقد رد ابن قدامة حديث: " أفعمياوتان أنتما "؟ وهو حديث مرفوض عند جمهرة العلماء بل مخالف لما صح بالنسبة إلى البيت النبوي الكريم، وبالنسبة إلى جمهور الأمة. فأما بالنسبة إلى البيت النبوي فقد قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترنى بردائه وأنا أنظر الحبشة يلعبون في المسجد " (متفق عليه). وأما بالنسبة إلى جمهور الأمة فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس:" اعتدى في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك ". (متفق عليه أيضا). إنه غريب ألا يعرف الحنابلة مذهبهم، أليس الجهل عيباً؟ قد يقولون: نحن نعرف المذهب ولكنا نرى الميل إلى وجهة نظر أخرى! نقول: ليكن لكم ذلك على أن لا تعيبوا من يردد فقه إمامكم ويأخذ به، فليس ابن حنبل متهماً في نُصحه للأمة وإخلاصه للدين. فكيف إذا كان فقهه في هذه القضية فقه جمهرة العلماء! فقه السنة لا يلزم، وفقه المذاهب لا يلزم، إذن ما الذي يلزم..؟ تفكير المتشائمين وهواة جمع التوافه ؟ وينقل الكتاب الذي بين أيدينا كلاماً عن حكم السماع، سماع الغناء والموسيقى، فيذكر هذه العبارات: قال صلى الله عليه وسلم " إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرنى بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصليب وأمر الجاهلية ".. ص _148(1/141)
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: " أمرت بهدم الطبل والمزامير "! وقال بعض العلماء: إن استماع الملاهي والتلذذ بها معصية توجب الفسق، وترد به الشهادة! وأبلغ من ذلك في الزجر قول أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله: " إن السماع فسق والتلذذ به كفر ". نقول: هذه المرويات كلها مرفوضة، فالأحاديث لا نصيب لها من الصحة، وتفسيق المسلمين أو تكفيرهم لسماع مزمار ونحوه كلام فارغ.. وما رواه البخارى يفيد إباحة السماع والتلذذ في مناسبات معينة كالأعياد والأعراس.. وإرسال الأحكام الشرعية بهذه الطريقة يضر الإسلام ولا ينفعه، وقبل ذلك هو جور على الحقيقة الدينية.. والغريب.. أني كنت في مجلس يضم نفراً من كبار أهل العلم، وكنا بحاجة إلى أن نسمع نشرة الأخبار، وجيء بالراديو، وشرعنا نسمع فإذا النشرة ـ على العادة ـ تبدأ باللحن الموسيقي المميز، وتعالت الأصوات مذعورة: أغلق الراديو.. أقفل الراديو.. أطفئ الراديو. وخرس الصوت ثم فتح الراديو بعد دقيقة ليسمع الحاضرون الأخبار بعد ما تنزهت الآذان عن سماع الموسيقى الملعونة... لقد ملكتني الدهشة أول الأمر، فلم أكن أدري طول حياتي أن هذا الصوت حرام، ثم أخذت أضحك وأهز رأسي، وقال لي أحد الذين لاحظوني: كأنك تحب السماع؟ قلت: نعم! فرمقني بنظرة نارية أطفأتها أنا بدعابة سريعة.. وانتهت القضية.. ما على هؤلاء الاخوة لو درسوا النصوص الواردة، وميزوا صحيحها من سقيمها، واستوعبوا وجهات النظر في فقهها؟ إن القول بأن شيئاً ما منكر يحتاج إلى نصوص قاطعة، فإذا انعدم القاطع ورويت آثار محتملة الدلالة، وتشعبت وجهات النظر في الفهم فقد أصبح الأمر قضية فقهية عادية، وأصبح الميل مع وجهة ما مذهبا من مذاهب الإسلام... ص _149(1/142)
والذي يزعم أن رأيه هو الدين، وأن رأى غيره خارج على الإسلام، رجل أحمق لا ينبغي أن يشتغل بالدعوة إلى الإسلام. أظن وزارة الإعلام متعبة مع هؤلاء المتزمتين، إنهم لا يقولون للمسئولين: هذه أغنية هابطة فامنعوها، وتلك موسيقي خنثة فأسكتوها، كلا.. الغناء كله حرام، والموسيقى كلها حرام، لا تسمعوا الناس شيئا بتاتا. فإذا ذهبت تناقشهم لم تجد أكثر من إشاعات علمية في ميدان السنة أو أفهاما عائمة في بعض الآيات... ولنترك هؤلاء المتزمتين إلى الصنف المقابل... إلى العلماء المنحلين الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، إن هؤلاء يرون المعاصي تقترف فيصادقون أصحابها، ويرون أحكام الإسلام ميتة فلا يحاولون إحياءها، ويرون أنصار الحق مستوحَشين ضعافا فلا يؤنسون وحشتهم ولا يدعمون جانبهم.. وما ظنك بعالم دين يقف ليصفق مع المصفقين، ويهتف باسم واحد من أولئك الذين يحيون على أنقاض الإسلام ورفات المكافحين، إن هذا الصنف المنحل الملق لا يصلح لشيء بل ما يصلح الدين إلا بزواله.. والدعوة الإسلامية منكوبة بالمتزمتين البله والمتملقين اللئام.. ولا تزيدنى الأيام إلا إحساسا بهذه الحقيقة: إن حاجة الإسلام إلى الذكاء لا تقل عن حاجته إلى الإخلاص، أو بتعبير القدامى: لا بد من الفقه الواسع إلى جوار النية الخالصة... لو كان الأمر بيد المتزمتين لبقيت أسواق النخاسة في أرجاء الدنيا تبيع الأحرار على أنهم رقيق، ولو كان الأمر بيدهم ما فتحت مدرسة لتعليم البنات أبدا... أما حزب المنافق العليم اللسان، فهو وراء فساد المجتمع، وتجور الحكام، وضياع الجماهير... **** ص _150(1/143)
الفصل الحادي عشر عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق كان الوحى الإلهى قديما يتخير بقاعاً من الأرض لينزل بها كما ينزل الغيث في مكان دون مكان. لكن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت نقلة جديدة بالعالم كله، وتحولا في حركة الوحي الإلهي على ظهر الأرض. إذ جاءت الرسالة الأخيرة لكل بشر يعقل ويسمع، ثم هى قد صحبت الزمان في مسيرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإن الجيل الذي يليه مخاطب بها مكلف أن يمشي في سناها. والإجماع معقود بين المسلمين على عموم الرسالة وخلودها، ونريد أن نلقي نظرة على الآيات التي دلت على عالمية الرسالة لنستخلص منها حكماً محدداً. قال تعالى في سورة التكوير: ( فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم ). وقال في سورة القلم: ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين ). وقال في سورة سبأ: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . ص _151(1/144)
وقال في سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) . وقال في سورة الأنبياء: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ). وقال في سورة يوسف: ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين ) . وقال في سورة الأنعام: ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ) . وقال أيضا في السورة نفسها: ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ) . وهذه الآيات كلها مكية، أي أن عالمية الرسالة تقررت منذ بدأ الوحي وفي الأيام التي كانت الدعوة فيها تعانى الأمرين. كان القرآن يقرر أنه رسالة للعالم كله في الوقت الذي كان فيه أهل مكة يستكثرون أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً لهم وحدهم !! ولم تنزل بالمدينة آية تتحدث عن هذه العالمية اكتفاء بما تمهد في صدر الدعوة إلا آية واحدة من سورة الأحزاب هى قوله جل شأنه: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . وختم النبوة تقرير لهذه العالمية فإن القارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق، ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب ص _152(1/145)
محمد صلى الله عليه وسلم وحده صوت السماء بين الناس إلى أن يحشدوا للحساب فيقال لهم: ( لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ). وآية ختم النبوة صدقتها الأيام المتتابعة فها قد مضت أربعة عشر قرناً وما نزل من السماء وحي. وقد حاول الاستعمار الأوروبي أن يضع يده على مخبول في الهند وآخر في إيران ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهيهات هيهات فإن الأوروبيين أنفسهم احتقروا الرجل الذي صنعوه فما تبع أحدهم نبي الهند ولا نبي العجم، وبدأت اللعبة تنكشف ويفر عنها المستغفلون !! إن الصباح العريض الذي بزغ مع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سوف يظل وحده النور الذي يغمر العالم ويملأ الأفق إلى أن يأذن الله بانتهاء الحياة والأحياء. وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات الناطقة بعالمية الرسالة مكية كى ندحض فرية لبعض المستشرقين الذين زعموا أن محمدأ صلى الله عليه وسلم بدأ عربي الرسالة، معنياً بقومه وحدهم، فلما نجح في إخضاعهم أغراه النجاح بتوسيع دائرة الدعوة، فزعم أنه للخلق كلهم. وهذا تفكير متهافت بين السخف، فقد رأيت بالاستقراء أن عالمية الرسالة تم التصريح بها في أوائل ما نزل من الوحي. !! ثم نسأل: متى تم خضوع العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يغريه النجاح بمزيد من التوسع؟ إن مكة التي طاردته لم تفتح له إلا قبل الممات بسنتين اثنتين، فأين استقرار النصر، والتطلع إلى إخضاع الدنيا، وهو لما ينته من الجزيرة العربية نفسها؟؟ إن هذا الفكر الاستشراقي لم يلق حفاوة من عاقل، ولذلك نخلص منه لنقرر ص _153(1/146)
حقائق أخرى نابعة من هذه الحقيقة المؤكدة، أن محمد صلى الله عليه وسلم رسول العالم من رب العالمين... وأول ما نقرره أن هذه الصفة انفرد بها محمد عليه الصلاة والسلام، فكل الأنبياء من قبله محليون، ورسالتهم محدودة الزمان والمكان، ابتداء من آدم إلى عيسى عليهما السلام. والنصارى يرون أن رسالة عيسى عليه السلام عالمية وينطلقون بها في كل مكان ليبلغوها وينشروها، ونحن نحب نبي الله عيسى عليه السلام ونعتقد أنه رسول حق إلى بني إسرائيل خاصة: ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) . على أن النصرانية التي تشيع بين الناس اليوم، وتساندها قوى كثيرة، تخالف رسالات السماء كلها، إذ هى فلسفة تجعل من عيسى محليه السلام إلها أو شبه إله، إلها يرسل الرسل، ويُنزل الكتب، ويغفر الذنوب، ويُحاسب الخلائق!! والنصرانية بهذا المفهوم المستغرب لا يعنينا أن تكون عالمية أو محلية، لأنها شيء آخر غير ما نزل به الوحي على سائر الرسل. قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . إن هذه النصرانية الجديدة لا تتصل بعيسى الذي مهد لمحمد عليهما الصلاة والسلام. كما لا تتصل بعيسى الذي بلغ تعاليم إبراهيم وبنيه عليهم السلام، ومن ثم فهى في نظرنا منهج بشري مستقل بأفكاره عما قبله وعما بعده.. ص _154(1/147)
ورسل الله يصدق بعضهم بعضا ويمهد السابق للاحق ما استطاع. ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم أقامت مفهوم العالمية فيها على أن الدين واحد. من الأزل إلى الأبد، وأن الأنبياء إخوة في التعريف بالله والدلالة عليه واقتياد البشر إليه. وإن القرآن الكريم جمع في سياقه الباقي كل ما تناثر على ألسنة النبيين من عقائد وفضائل. ولذلك فإن الإيمان بهم جميعا مطلوب، والكفر بأحدهم انسلاخ من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نفسه. ومن الطبيعي أن تبدأ الرسالة عملها في بقعة ما من أرض الله. وقد شرع النبي العربي المحمد يعلم الأميين من عبدة الأوثان، ويرشد الحائرين والجاحدين من أهل الكتاب، وبعد تسع عشرة سنة من الدعوة الدائبة استطاع أن يظفر من الوثنية الحاكمة بحقه في الحياة وحق من يتبعونه في العيش بدينهم والتجمع عليه. عندما نال هذا الحق في معاهدة الحديبية وأصبح له موضع قدم يستقر فيه ويدعو منه أخذ يرسل إلى أهل الأرض، يبلغهم الحق، ويفتح عيونهم على سناه. ومَن أهل الأرض يومئذ؟ الروم غربي الجزيرة وشمالها، والفرس في الناحية المقابلة، وحكام آخرون يعيشون فى جوارهم أو يدورون في فلكهم هل كان وراء الرومان من يفهمون الخطاب شمالي أوروبا أو وسطها؟ أو وسط إفريقيا وجنوبها. كانت هناك قبائل السكسون والجرمان والغالة والوندال، وقبائل أخرى مشابهة لها في إفريقيا، وكانت هناك وراء الفرس شعوب وصفها ذو القرنين بأنهم لا يكادون يفقهون قولا. على أية حال إن النبي المبعوث للعالم أرسل إلى إمبراطور الروم وملك الفرس وحاكم مصر ونجاشي الحبشة وإلى الأمراء المنتشرين حول الجزيرة يدعوهم إلى توحيد الله واعتناق الإسلام. ص _155(1/148)
لعله بدأ بالجيران الذين يلونه فبلغ أمر ربه حتى إذا أتم هدايتهم تجاوزهم إلى من يلونهم من أجناس البشر. أو لعل الفكر البشري في هذه الآونة لم يبلغ درجة الوعي وأهلية الخطاب إلا في هذه البقاع المتحضرة التي ظهرت فيها جمهرة الرسالات السماوية من قديم... على أية حال فإن اليقظة الإنسانية التي بدأت في جزيرة العرب ما كانت نهضة جنس متفوق، ولا طماح زعيم متطلع، بل كانت حركة قبيل من الناس اختارتهم العناية العليا ليربطوا جماهير البشر بالله الواحد، وليسيروا في هذه الدنيا وفق هُداه لا وفق هواهم: ( الر... كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ) . وأكذب الناس على الله وعلى عباده من يزعم الإسلام طوراً من أطوار البعث العربي. إن هذا الكلام لا يساويه فى الرخص والغثاثة إلا ما تضمنه من إفك وتضليل، فإن محمداً عليه الصلاة والسلام رفض رفضاً باتاً أن يكون للعرق أو اللون، أو القوة، أو الثروة أى رجحان في موازين الكرامة الإنسانية، والمحور الذي دار عليه الإسلام هو التوحيد في العبادة والتشريع والوجهة والولاء. ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ). وقد قلنا، ولا نزال نقول: إن الله ربى محمدا صلى الله عليه وسلم ليربى به العرب، وربي العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم ليربي بهم الناس، فرسالة العرب أن يكونوا جسورا لهدايات السماء، وأن يعلموا الخلق ما تعلموه من الخالق. ص _156(1/149)
وإذا كانوا تلامذة لخاتم الرسل، فهم ـ بما درسوا ـ أساتذة للشعوب الأخرى، تتلقى عنهم وتستضيء بهم. وهذه المكانة للأمة العربية مكانة عالية حقا، بيد أنها لا تقوم على الدعوى، بل على البلاغ، ولا تقوم على البطالة بل على التضحية، وذلك معنى قول الله تبارك اسمه: ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ). وقد قامت دولة الإسلام بدورها العالمي هذا، على عهد النبوة وأيام الخلافة الراشدة، وتدافع التيار إلى مداه أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وإن كان هذا التيار قد شابه من الكدر والدخن ما أزري به ، وحط قدره، حتى توقف آخر الأمر. والمسلمون في هذا العصر يكادون يجهلون أن لهم رسالة عالمية، بل إن حياتهم وفق شرائع دينهم وشعائره موضع ريبة وقد تكون موضع مساومة. وأذكر أن حواراً دار بيني وبين الأستاذ على أمين بعد ما كتب يستنكر أذان الفجر، ويزعم أنه يزعج النيام المستريحين قلت له: إن إيقاظ الناس للصلاة مقصود قصداً، وفي آذان الفجر كلمة تقول: " الصلاة خير من النوم" قال: من أراد الصلاة فليشتر منبهاً يوقظه ليصلى. قلت له: إن جمهور المسلمين ـ وهم كثرة هذا البلد ـ يريدون الصلاة علانية، ويريدون أن يصبغوا الحياة الاجتماعية بها، وأن ينظموا نومهم ونبههم على أوقاتها. فإذا شاء الكسالى غير ذلك فليتواروا بإثمهم، لا أن يفرضوه على المجتمع، ويطلبوا من المؤمنين التواري بدينهم. ص _157(1/150)
وأشهد أن الرجل لان وتأثر واستكان، وأرجو أن يكون قد تاب ومات مغفورا له، وإنما ذكرت هذا الحوار ليعرف من يجهل مبلغ ما انحدرت إليه أمتنا. إن الشيوعية تريد أن تكون نظاما عالميا، وكذلك المادية والإباحية، وكذلك الصهيونية والصليبية. أما الإسلام فإن طبيعته العالمية يُراد إنكارها، وإذا تم ذلك فإن وجوده المحلي ينبغي الخلاص منه والإجهاز عليه... وأريد أن نعرف: من نحن؟ وما ديننا؟ وما هدفنا؟ وما طبيعة جهادنا ومداه؟ إننا ورثة الإسلام وحملته، وأصحاب الحضارة الوحيدة التي تعترف بالدنيا والآخرة والروح والجسد والعقل والعاطفة. وفي قرآننا وسنة نبينا صلاحنا وصلاح العالم من حولنا، وقد هنا على أنفسنا فكان طبيعياً أن نهون على غيرنا، وزهدنا في ديننا فكان طبيعياً أن يزهد العالم فيه.. وقد بدأت في الأفق تباشير عودة ناجحة إلى هذا الدين العظيم، فلنصور بدقة طبيعة النور الذي خصنا الله به، طبيعة الرسالة التي شاء الله أن تُحق الحق وتُبطل الباطل، وتهدى الحيارى في المشارق والمغارب. ويفرض علينا هذا المعنى أمورا ذات بال.. أولها: ما دام محمد صلى الله عليه وسلم للعالم كله وليس للعرب خاصة، فيجب علم العرب ـ وهم الذين تحدث محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم وكلفهم بنقل رسالته إلى غيرهم ـ يجب عليهم أن يوصلوا هذا القول إلى كل قبيل من الناس، وبكل لغة يتم التفاهم بها.. أي أنه يجب عليهم أن يتقنوا كل اللغات العالمية، وما استطاعوا من اللغات المحلية، وأن يودعوا كل لغة خلاصة كافية هادية من تعاليم الإسلام في مجال العقيدة والخلق والعبادة وشتى أنواع المعاملات... وأن يذكروا بدقة ولطف الفروق الكبيرة بين أصول الإيمان عندنا وعند أهل الأديان الأخرى سماوية كانت أم أرضية.. ص _158(1/151)
إن هذا الواجب لم يكن منه بد حتى لو كان الميدان خالياً لنا وحدنا... فكيف وهناك أجهزة عالمية مخوفة تخصصت في تحقير الإسلام وإهانة نبيه؟ فكيف وقد تآمرت على الإسلام شتى القوى، وتألب ضده خصوم خبثاء يصطادون الشبه ويتلمسون للأبرياء العيوب؟ إن الاستعمار سخر أجهزة إلحادية وصليبية سبقتا إلى أجيال كثيفة من الزنوج والجنس الأصفر، وتركت في نفسه سموما ضد محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، وانتهزت الصمت الذى خيم على أجهزة الدعاية الإسلامية، والسلبية المشينة التي لذنا بها، وراحت تكذب وتكذب، حتى نجحت في تلويث سمعتنا، وقدرت على غرس تدين مختل الأصول مضطرب السلوك. وأمكنها بسهولة أن تصد عن سبيل الله، وتردم معالم الصراط المستقيم. إن ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلفنا ويحملنا عبء المسارعة إلى تعليم الجاهل، ومراجعة المخدوع، وتعريف الناس بربهم الواحد الأحد الفرد الصمد، وربطهم بالدين الذي حمل رايته جميع الأنبياء، ثم نقاه وشد دعائمه وثبت أهدافه النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. والأمر الثاني المتصل بعالمية الرسالة يرجع إلى اللغة العربية، فلغة الرسالة الخالدة يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها ولدى الناس أجمعين، فإن الله باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان قد أعلى قدرها وميزها على سواها. والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن وسياجه، فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف.. ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم، وما أكثر أولئك الأذناب في الجامعات والمجامع ودور الإذاعات والصحف وغيرها.. إن آباءنا عليهم الرضوان نشروا اللغة العربية بكل الوسائل المتاحة لهم، ص _159(1/152)
وما تأسست مدرسة لخدمة الدين إلا انقسمت علومها بين مناهج الشريعة ومناهج اللغة والآداب.. ويلاحظ الآن انكماش مفزع في هذا الميدان ورواج سمج للهجات العامية والمصطلحات الأجنبية والترجمات الركيكة والكلمات الدخيلة.. واللغة العربية لا تخدم بالحماس السلبي، بل لا بد من إعادة النظر في شئون شتى تتصل بكيانها وتعليمها.. ولنفرق من الآن بين طرق تعليمها للتلامذة العرب والتلامذة الأجانب، ولنبتكر أساليب ميسورة لتدريس المصادر وتصريف الأفعال وجموع التكسير وأنواع المترادفات وغير ذلك مما يعانيه طلاب العربية.. إن هناك لغات لم يشرفها الله بوحى، ولم تصحب حضارة إنسانية مشرقة يخدمها أبناؤها بذكاء نادر، فما دهى العرب حتى تركوا لغتهم توشك أن تكون من اللغات الميتة أو الثانوية في هذه الدنيا؟ إننا عجزنا عن جعل اللغة العربية لغة أولى بين الألف مليون مسلم الذين يعتنقون الإسلام، وهذا وحده فشل ذريع نؤاخذ به يوم الحساب. ويرجع هذا الفشل إلى أن العرب أنفسهم لا يجلون لغتهم، بل لقد استطاع الاستعمار الثقافي أن يكرهها لهم أو يحقرها لديهم.. فأي بلاء هذا؟ والمطلوب الآن للفور إقصاء اللهجات الدامية والرطانات الأعجمية عن جميع منابر الصحافة والإعلام وإعادة الحياة إلى اللغة الفصحى في كل محفل.. وأكرر مطلباً آخر ذكرته في أحد المؤتمرات وهو إنشاء مدارس وإرسال بعثات لنشر اللغة العربية وحدها أي دون ربط اللغة بالدين، فإن هذا التعليم المجرد سيوسع القاعدة للغة القرآن، وسيكون يوما رافدا من روافد الحق والإيمان. والأمر الثالث والأخير في عالمية الدعوة يتصل بالوضع الأدبي والمادي داخل الأمة الإسلامية نفسها. ص _160(1/153)
إن الخلق الزاكي لغة إنسانية عالمية تعجب وتقنع، وبهذه اللغة تفاهم الصحابة والتابعون مع الشعوب التي عرفوها وعرفتهم فدخل الناس في دين الله أفواجا. أي أن القدوة الحسنة ـ فردية كانت أو جماعية ـ تفرض احترام العقيدة والحفاوة بها. وهذه القدوة ليست دورا تمثيليا تؤدى إلى الخداع واجتذاب المشاهدين، كلا كلا.. فحبل الكذب قصير ! إن هذه القدوة هى الحلاوة في الثمرة الناضجة، أو الرائحة في الزهرة العاطرة، أي هى نضج الكمال الذاتي الحق. وقد شاء الله أن يؤتي السلف الصالح أنصبة جزلة من هذا الحسن الذاتي ففتحت لهم المدن العظام أبوابها، وألقت إليهم الجماهير بقيادها.. وإنني أشعر اليوم بغضاضة شديدة حين أرى السائحين والسائحات يجوبون بلادنا ويدرسون أحوالنا، ثم يتجاوزوننا بقلة اكتراث أو باستهانة بالغة. إنهم لا يرون ـ فيما يشهدون ـ أثر الإسلام الحق في نظافته وسموه، بل يرون شعوبا أقل منهم كثيراً في المستوى الحضاري ولا أقول في المستوى الخلقي المعتاد. وتلك أحوال تصد عن الإسلام ولا تغري باعتناقه. وعالمية الإسلام تفرض على أتباعه أن يقدموا من سلوكهم الخاص والعام نماذج جديرة بالإكبار، أو على القليل جديرة بالسؤال عن حقيقة الإسلام لمن لمن يعرفوا هذه الحقيقة، وما أكثرهم في أرض الله. *** ص _161(1/154)
لأجهزة الإعلام رسالة: من نماذج عرض الدعوة الإسلامية هذا القول المحدد: ( قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ). أي أعلمتكم بما عندي فأصبحنا جميعا أنا وأنتم سواء في معرفة العقيدة التي أنادي بها. فإن انصرفتم بعد ذلك فعن تجاهل لا عن جهل إذ أني أفرغت جهدي في البلاغ المبين إن ما أدعو إليه معروف لكم كما هو معروف لي. وهذا الكلام يفرض على الإعلام الإسلامى الشمول التام، فكما أن رسالة الإسلام عامة إلى الخلائق لا يشذ منها أحد، فكذلك تعاليم الإسلام يجب أن تقدم كلها عن طريق أجهزته العاملة فلا يخفي منها شيء بحيث يكون الداعي والمدعو سواء في الإحاطة بمحتويات هذا الدين دقيقها وجليلها... وهذا الآذان المستوعب أو الإعلام الشامل يتم في نطاق المياسرة والمجاملة والرغبة عن النزاع والإثارة، فإن ذلك ما توحي به الآيات الآتية: ( وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ) . ( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ). ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) والعرض الإعلامي الحريص على بث الحق وإيثار السلام ورفض الشحناء يستطيع أن يبرز تعاليم الإسلام في صور شتى لعل أيسرها الخبر المجرد، لكن ص _162(1/155)
أيكفي ذلك في عالم تبرجت فيه الدعوات وافتتنت فيه أساليب الاستهواء، إن الحوار الزكي في قصة شائقة أو تصوير الواقع في هذه القصة بل الصورة الساخرة والنكتة البارعة، إن هذه جميعاً أصبحت من وسائل البلاغ المبين بل أصبحت وسائل محتومة لقوله تعالى: ( وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ). وذاك ما لا بد أن تدركه أجهزة الإعلام الإسلامي. الإسلام دين متحرك سيال لا يعرف الجمود في مكان ولا زمان، وهذا التمدد في طبيعته يتم وفق عناصر الشمول والمياسرة التي أبناها. فنحن المسلمين مكلفون أن نبسط وجهة نظرنا في كل شيء مقرونة بالأدلة المقنعة التي توضح موقفنا وتحدد من نحن؟ وماذا نريد ؟ وكذلك يجب أن نعرف ما لدى غيرنا بدقة وإنصاف ثم نترك للعقل الإنساني العادي أن يقارن ويحكم ! إن القرآن الكريم طلب من معارضي الدعوة أن يأتوا بما لديهم من أدلة على وجهة نظرهم: ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . وذلك في جداله الحسن مع أهل الكتاب، وقد تكرر هذا الطلب في الحوار الطويل مع المشركين: ( أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . وانعدام البرهان هو الذي جعل الفتية المؤمنين أصحاب الكهف يزدرون الشرك ويرفضون البقاء عليه: ( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) ص _163(1/156)
والسلطان البين هو الدليل المقنع ووجهة النظر المحترمة المدعومة، فمن كان منطقه صفرا من هذا السناد فليواجه مصيره العدل عند الله: ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه ) . ومن هذا العرض يستبين المنطق الذي تعمل منه أجهزة الإعلام الإسلامى، إن لديها ثروة طائلة من الحقائق الدينية والاجتماعية والسياسية. وهذه الثروة تحتاج إلى ذكاء حاد في استكشافها وتربيتها كما تحتاج إلى لياقة واسعة في قرع الآذان بها أو تفتيح الأعين عليها. ولن يتم ذلك إلا بين يدي دراسة مستبحرة لما عند الآخرين واستبانة واعية لكل ما يكون وجهة نظرهم وسر رضاءهم بما عندهم. ومحور الإعلام الإسلامي هنا هو الصدق ونشدان الحق وحب الخير للناس أجمعين. الإعلام الإسلامي يرسم صورة صادقة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا تزيد فيها ولا نقص، وليس لديه كما ذكرنا ما يخفيه أو يستحي منه، وهو حسن الظن بالفطرة الإنسانية يرى أنها يوم تعرف الحق تبادر إلى قبوله وأنها إن تريثت فإلى حين !! أي أن جمهرة البعيدين عن الإسلام لم يعتنقوه لجهلهم به فقط. ( ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . ومن هنا فالعبء ثقيل على أجهزة الدعاية الإسلامية التي ينبغي أن تعمل ليلا ونهارا لمحو هذا الجهل الغالب. والاقتناع الحر أساس النجاح المرتقب، وهذا يقتضي مهادا طويلا من العناصر الثلاثة التي أحصاها القرآن في دعوته : الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الهادي الرفيق والزمن جزء من العلاج فليس من العقل أن تبذر اليوم لتحصد اليوم! ص _164(1/157)
لا بد من إعداد برامج طويلة، ومن تقليب النفس الإنسانية بين ألوان من الفكر والعاطفة، ومن تجربة مفاتيح كثيرة لنصل إلى غورها، فإن تحويل الناس عن مواريثهم الروحية والاجتماعية جهد بعيد المدى ما ينجح فيه إلا المخلصون الأذكياء... وصوت الإسلام في ميدان الإعلام يجب أن يكون جهيرا، فإن لصاحب الحق مقالا. إن التعريف بالله الواحد ودينه الحق قضية لا تعالج بفتور واسترخاء. وإذا كان هناك من يعتبرون الإلحاد ذكاء وتقدماً ويبذلون في سبيل نشره جهوداً مضنية، فإن حملة الإسلام سيكونون أطول نفساً وأشد غيرة وأرسخ قدماً: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) ويعني هذا: أن الإعلام الإسلامى وثيق الإيمان برسالته عظيم المغالاة بها، وأن الصبغة الدينية والعبادية لا يمكن أن تنفك عن أعماله وسائله المختلفة. وأجهزة الإعلام عندما تؤدي دورها ـ والحالة هذه ـ هى ميادين جهاد ومساجد صلاة ومدارج تقوى ورضوان. والشمول في المادة التي يقدمها الإعلام يتناول الإسلام وتاريخه وحضارته وأمته. وكلمة الإسلام عنوان على حقائق العقيدة والشريعة والعبادات والأخلاق وشتى المعاملات. وكلمة التاريخ عنوان على الوقائع والسياسات التي نشأت عن المد الإسلامي من أربعة عشر قرناً. وكلمة الحضارة عنوان على النشاط الفكري والروحي والعمراني وجملة القيم الدينية والمدنية التي صاحبت مسيرة الإسلام واستقرت معه حيث استقر أو تأثرت بقية العالم بها. ص _165(1/158)
وكلمة الأمة الإسلامية تعني جميع المنتسبين إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من كل الأجناس والألوان سواء أكانوا شعوبا مستقلة أو أقليات تحيا وسط أمم أخرى .. إن أجهزة الإعلام الإسلامية تهتم بذلك كله ويبدو اهتمامها في برامجها المسموعة والمرئية والمقروءة على أساس أن العالم الإسلامي وحدة متماسكة مهما بلغت جسامة الفتوق في كيانه ومهما وهت علاقة بعض أجزائه بالأصل الجامع والروح الشائع.. وإعلامنا - كما قلنا - يقرر ما عنده كله، وسيكون هناك خلاف بين ما يقرره وما تقرره ملل ومذاهب أخرى كثيرة، وهنا لا بد من إبراز الشخصية الإسلامية دون ميوعة أو تفريط إبرازا يؤكد شرعيتها ووجهتها ومنهجها وغايتها ويرجح لدى المشاهدين والمتابعين كفتها بأدب وتلطف... إن إعلامنا صورة لما نقول ونؤمن وصدى لما ننشد من خير للحياة والأحياء.. ونحن مسلمون، والإسلام دين ودولة ، إيمان ونظام.. فليرنا العالم أجمع من خلال إذاعتنا وصحافتنا، من خلال كتبنا ورسائلنا، من خلال اجتماعاتنا ومؤتمراتنا على هذا الواقع الدائم. لكن كيف يؤدي الإعلام الإسلامي هذه الوظيفة الكبيرة ؟ إننا لا نعرض طريقة واحدة لهذا الأداء بداهة فما أكثر صور العوض، وصدق النية يدفع إلى الاكتشاف والاختراع... إنه يمكن تقديم درس في التوحيد وتمجيد الخالق لا بقراءة نظرية تقليدية بل ببضع دقائق في التلفاز تبرز فيها على الشاشة الصغيرة صورة كونية فخمة تتجلى فيها مظاهر القدرة العليا وتصحبها كلمات سريعة موجزة تدل على أن العلم يقود إلى الإيمان. إن أجهزة الإعلام في العالم كله تنطلق من مبادئ معينة وتخدم مصالح معينة، والإعلام الإسلامي يرتبط بمبادئ ومصالح معروفة المصدر والنسبة، فلا وجه للغرابة إذا كانت تعاليم الدين ولحمته وسداه، وإذا كان - شأن غيره من الأجهزة - يفسر وقائع الحياة وفق فكرته هو وينظر إليها من زاويته هو... ص _166(1/159)
الإعلام حتى في نشرات الأخبار وسوق الأحداث يكشف عن فلسفته ومذهبه وتقديره الخاص لما يكون. وهو في مواد الثقافة ومواد الترفيه أيضا يضفي على الحياة لونه الخاص ويعمل في ذكاء لتذكير من ينسى وتعليم من يجهل. وأجهزة الإعلام الإسلامي حين تنهض بواجبها تغرس العقائد والعبادات التي تتبناها وتعلي شعارا واحدا في برامجها ووسائلها كلها... ولما كانت هناك قوى تعارض فكرنا وتكوه شعارنا وتثير الشبه ضد قضايانا وتحاول بكل طريقة النيل منا فنحن مضطرون أن نلحظ ذلك فيما نقول ونفعل !! لا نرد ردا مباشرا، بل لنبني عرضنا على نحو يكشف في هدوء ما قد يثار ضدنا ويشرح بلطف تهافته وضعفه... وإذا احتاج الأمر إلى مقارعة إعلام آخر يتهجم علينا التزمنا فضائل الإسلام في الود والتمحيص فذاك أليق وأجدى ! وهناك نقاط أرى ضرورة الحديث فيها كي يتضح دور الإعلام الإسلامي في العلاقات الإنسانية. نحن المسلمين نؤمن بالإخوة الإنسانية، ونعد اختلاف الأجناس والألوان مصدر تعارف لا تناكر، ونود أن يحيا أهل الأرض في ضوء قوله تعالى: ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ). وقصة دار الإسلام ودار الحرب فرضتها علينا ظروف خارجية ومؤامرات عدوانية. فإن هناك للأسف من يستكثر علينا حق الحياة بديننا، ويريد بشق النفس أن يجتاح عقائدنا ويجتاحنا معها.. ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) . ومن حقنا أن نواجه هذا التحدي الذي فرض نفسه على العلاقات الدولية قديما، فإذا انتهى انتهت معه آثاره وما أشوقنا إلى انتهاء هذه الأوضاع. ص _167(1/160)
لكن أتراها زالت؟ إنه مطلوب من العرب أن يرتدوا عن دينهم ويتنازلوا عن أرضهم بكل تبجح!.. فهل يمكن إرساء العلاقات الإنسانية على هذا الأساس المنهار؟ إن الإعلام الإسلامي ينشغل بهذه القضية انشغالا محيطاً فليس الإسلام بالدين الذي يطارد ولا المسلمون بالأمة التي تستباح. ويمكن بسط هذه القضية عن طريق المقال والكتاب والقصة والتعليق والخبر وإحياء التاريخ الماضى وكشف التاريخ المعاصر وعقد الدراسات والندوات وغير ذلك مما يحط عن المسلمين أوزار هذا الظلم الفادح... وشيء آخر يتصل بالكيان الإسلامي ويدخل في رسالة الإعلام. إن عدد المسلمين اليوم يبلغ " المليار " وإن مارت في ذلك مؤسسات استعمارية.. وأكثر من ربع هذا العدد يعيش على شكل " أقليات " داخل دول أخرى كبيرة وصغيرة وربما عاش في ظل نظم تبغضه وتود له العنت والدمار.. وجدير بوسائل الإعلام الإسلامى أن تقترب من هؤلاء الإخوة، بل أن تخالطهم وتتعرف على آلامهم ومشكلاتهم.. وتلك فريضة تنبع من تضامن المسلمين ومن الجامعة الكبرى التي تشد أطرافهم في كل القارات. ويمكن إشعار هؤلاء أنهم موصولون بأمتهم الكبرى عن طريق أركان دائمة لهم في صنوف الإذاعات، وشتى الصحف والمجلات. إنهم إن شعروا بالقطيعة والوحشة استسلموا لما يراد بهم وتفانوا في أديان ومذاهب أخرى وهذه طامة. لننتقل إلى ميدان الأسرة لنرى أثر الإعلام فيه، وكيف حاول الإعلام المضاد لدينا أن ينال من شريعتنا وتقاليدنا الطاهرة... ص _168(1/161)
لقد رأيت الجهود المبذولة لتنصير قوانين الأسرة الإسلامية ولمست عشرات الحيل التي اتخذت لجعل المسلمين يقبلون قانونا جديدا للأحوال الشخصية يبدأ بسلب الرجل حق الطلاق، ويشجب مبدأ تعدد الزوجات، وينتهي بإلغاء التفرقة بين الذكر والأنثي في الميراث... عرضت روايات تمثيلية للرجل يقول كلمة عابرة فتلقي بها امرأة وأولادها في الطريق، أو لرجل متزوج من أربع وأعجبته خامسة فجاء "بالمأذون " ليطلق واحدة مكان الواحدة الجديدة ولم يكن يدرى بالضبط من التي يريد تسريحها..؟؟ ونظمت حملات دعائية رهيبة ضد زيادة النسل، بل اقترح حرمان الولد الثالث من حق التعليم والتموين والتمريض... الخ. ويلاحظ أن تحديد النسل يُشجع على أوسع نطاق بين المسلمين وحدهم، وأن أتباع الأديان الأخرى لديهم تعليمات مشددة بتكثير النسل، بل لدى الشيوعيين هذه التعليمات واستطاع من أعداء الإسلام في رسائل الإعلام أن يقدموا للمسرح رواية "ديك وتسع فراخ " وأن يبرزوا في الصحافة صورة ساخرة لمحمد أفندي الذي تزوج تسعا.. والقمة الإنسانية التي يراد غمزها بهذه العناوين معروفة وإذا كان الكافرون بديننا يستغلون الإعلام لترويج سخافاتهم أفلا نستطيع نحن أن نستغل الإعلام لدعم فضائل الفقه والطهارة والاستقامة التي ينشدها الإسلام للأسرة خاصة وللعلاقة العامة بين الجنسين..؟ لقد هُزِمَ حظر الطلاق في إيطاليا ـ مقر البابوية ـ بعد استفتاء عام وبعد تظاهرات عنيفة سارت فيها ملايين من الجنسين. وهُزِمَ هذا الحظر بإقصاء القوانين الكنسية في أغلب البلاد النصرانية، أفلا يستطيع الإعلام الإسلامي أن يشرح عمليا قوله تعالى: ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ) ص _169(1/162)
وأن يسوق القصص الحق ـ لا الروايات المختلقة لإقرار مبدأ الطلاق، وجعله في يد الرجال؟ وإذا كان هناك من يُسيء استعمال هذا الحق فلا ينقطع بوسائل الإعلام الكثيرة فهلا ترشيده وإلزامه الجادة؟ والإسلام حرم الزنا تحريما صارما وأباح تعدد الزوجات إن ضمنت العدالة! فهل أوروبا التي حرمت التعدد حظرت الزنا أم جعلته كلا مباحاً ؟ ألم تنتشر هناك الخلائل لتحل مكان الحلائل؟ ألم يتح للرجل أن يطيح بعفاف العشرات في سر أو علن؟ ألم يتحول الرقص المزدوج إلى تقليد رسمي قائم يرى فيه الرجال زوجاتهم في أحضان الآخرين، ـ تُرى أهذا العناق فرصة لذكر الله وإصلاح ذات البين؟؟ إن الإعلام الإسلامي يقدر على شرح أحكام الأسرة بوسائل لا حصر لها، ويقدر على سحق الهجوم الجاهلي المستهين بحدود الله... ذكر لي صديق قادم من إحدى عواصم الغرب أن سيدة أبدت إعجابها الشديد بما أوجبه الإسلام من نفقة للفتاة إن لم تكن على أهلها فمن بيت المال، قالت هذه السيدة: إن تكليف الفتاة بالكسب عند بلوغ سن الرشد، ومنع أى عون عنها كان من أهم الأسباب لاستسلام المرأة وذهاب عفافها.. ولو نفذت تعاليم الإسلام فى هذا المجال لحفظت أعراض كثيرة.. ونستطيع عن طريق الأركان المخصصة للمرأة فى الإذاعة والصفحات المخصصة لها فى الجرائد والمجلات أن نغرس فضائل كثيرة، وأن نمحو ونثبت فى التقاليد التى تحكم البيت والمجتمع وأن نزود الفتيات والأمهات بنصائح تعين على إنشاء جيل قوى محترم منتج... نحن المسلمين ننظر إلى الإعلام وإلى وسائله الرائعة التى ابتدعها العصر الحديث على أنها إمكانات ضخمة لنشر الحق وأخذ الناس به خصوصاً الأجيال ص _170(1/163)
الناشئة... وفى أقطار كثيرة كان الإعلام عنصراً فعالا فى نشر ثقافات شعبية جيدة، وفى تعويد الجماهير عادات صائبة نافعة. وإذا كانت قاعدة الإعلام عندنا أن يعرف الناس من نحن؟ وما رسالتنا فى الحياة، فإن ذلك قد يتقاضانا أن ننقد أنفسنا وأن ننبه إلى أخطاء وقع فيها الخاصة والعامة لا تعتبر ترجمة أمينة لكتابنا وسنة نبينا... أعتقد أنه يجب أن ينتعش بين المسلمين فن " النقد الذاتى " وهو فن يقوم على محاكمة الواقع الإسلامى إلى المثل المقررة فى الإسلام ذاته، وبيان مسافة القرب والبعد والصواب والخطأ فى هذا الواقع المضطرب... وهذا النقد هدفه إنصاف الإسلام ذاته وإعطاء أجهزته الإعلامية قدرات على صدق التعبير وحماسه... إن ثمت إجماعاً على أن المسلمين منحرفون عن دينهم، وأن هذا الانحراف يشمل سلوك الفرد والمجتمع، وتكاد الدول الإسلامية كلها تعد فى جملة الدول المتخلفة... وهذا الهوان الحضارى سوف ينسحب على الإسلام ذاته شئنا أم كرهنا، وسيظن كثيرون أنه يكمن وراء قصورنا وتقصيرنا. ولكى نجنب ديننا هذا الظلم الشديد ينبغى أن نذكر الحقيقة مستقاة من مصادرها الدينية الوثيقة ثم نذكر العوج الملحوظ فى أحوالنا وأفعالنا وبراءة الإسلام منه، وهذا النقد الذاتى ينهض على دراسة عميقة للإسلام وتاريخه وحضارته، ولا مانع بتة من أن تتسع دائرته لتتناول أخطاء وقعت فى الماضى. فإن المسلمين غير معصومين، أما الإسلام نفسه فمعصوم ويتمم هذا المعنى نقد علمى آخر للمعارضة الناقمة على ديننا والتى اعترضت من قديم سيرته، ومحور هذا النقد تفنيد التهم والشبهات التى أثارها المبشرون والمستشرقون أصحاب الأغراض المغشوشة والمنهج العلمى المكذوب... والإعلام الإسلامى عندما يقوم بهذا الجهد الداخلى والخارجى يوفر جواً نظيفاً لمعرفة الإسلام، ومعرفة الخير العظيم الذى أسداه محمد صلى الله عليه وسلم ـ للعالم. ص _171(1/164)
وبقى عنصر أخير فرطنا فيه كثيراً وهو تعليم اللغة العربية، سواء للمسلمين الأعاجم أو لغير المسلمين! إن الجهل باللغة العربية يشيع بين 80 أو 85 فى المائة من المسلمين، وأما الجهل بها فى أرجاء العالم فشئ مفزع، ولا يمكن عدها لغة عالمية مع أنها الوعاء الفذ للرسالة العالمية الوحيدة التى طرقت أبواب العالم، وشاء القدر الأعلى أن تبقى فيه إلى يومه الأخير. ونحن نطلب ثلاثة أشياء محددة لإحياء اللغة العربية والحفاظ على مكانتها: اـ تأليف بعثات وجماعات لتعليم اللغة وحدها دون ربط هذا التعليم بالبلاغ الدينى، أى تهيئة معرفة اللغة وإتقانها لأى إنسان يطلب المزيد من الثقافة. وسوف يجنى الإسلام على المدى البعيد ثمرة الازدهار اللغوى المجرد. 2- الجد فى محاربة اللهجات العامية ـ داخل الوطن العربى ـ وتضييق الخناق عليها ومنع البرامج التى تقدم الأحاديث باللغات العامية ومنع الأزجال والمواويل والشعر الفوضوى المبتدع أخيرا، والذى يسمونه الشعر المرسل. 3- إحياء الأدب العربى الخالص وتقريبه من طبيعة العصر، أى تجريده من التكلف وافتعال المحسنات اللفظية، وتشجيع الشعراء المجيدين بشتى الوسائل... وقبل ذلك... لا بد أن تقوم مجامع اللغة العربية بجهد محترم فى نشر ألفاظ الحضارة وجعل العربية لغة للعلوم الحديثة... إن العناية باللغة العربية جزء حقيقى من عملي الإعلام الإسلامى، وخطوة مقصودة ليعرف العالم أجمع من نحن ؟ وما رسالتنا؟. وتلك هى الوظيفة العتيدة لأجهزة الإعلام، ومنها تبدو النظرية الإسلامية للدعاية الإسلامية والعلاقات الإنسانية. كم مخا غسلوه... أو بتعبير صحيح: لوثوه: نجح الإعلام المعادى للإسلام فى بلوغ أهدافه، واستطاع بالثقافة المسمومة واللهو الرخيص أن يفسد الأفكار، ويعلق النفوس بالدنايا.. ص _172(1/165)
وهذا نجاح محدود الضرر، أما النجاح الفادح الضرر المخوف النتائج على المدى القربب والبعيد فهو ما خلفه من عوج فى شتى المؤسسات الاجتماعية والسياسية، بل فى شتى المؤسسات التربوية والعلمية.. لقد نظرت إلى هذه المؤسسات الموجهة لأمتنا فوجدت الصف الأول من قادتها يحمل أسماء إسلامية وقلوبا فارغة من الإسلام أو مرتدة عنه، حتى لقد استطاع جاسوس يهودى ذكى أن يصل الى هذا الصف، وأن يرشح لإحدى الوزارات وما كشفته إلا المصادفات هذا اليهودى لم يتكلف صلاة ولا صياما ولا شارات من شارات التدين، فالأمر يتطلب إطراح هذا كله. وتتبعت سيرة أحد الزعماء الكبار فوجدته يسترضى اليهود، ويتملق النصارى ويشمخ بأنفه على المسلمين وحدهم! مسكينة هذه الأمة العربية والإسلامية. أما الصف الثانى فى هذه المؤسسات فهو يقوم على عدد غير قليل من الطوائف النصرانية وعدد مقارب من المسلمين التائهين، ونفر معدود من المتمسكين بالعبادات الشخصية والأخلاق الجادة... وتتخذ القرارات المهمة على الأغلب فى هذا النطاق، وقلما يظفر الإسلام بخير فى هذا الجو، فخصومه أيقاظ، وأبناؤه ذاهلون، والقلة الصاحية مخذولة. ونجاح الإعلام فى إنشاء هذه البلبلة لا يعود إلى مهارته وحدها، فمن ورائه إرهاب أجنبى شديد الخفاء، يطارد كل عنصر يمكن أن يفيد الإسلام منه وهو يتخلى عن هذه السرية ويخلع القناع ويملى مطالبه فى الأزمات التى تحرجه... كما حدث عندما طالبت الدول الكبرى بحل جماعة الإخوان المسلمين، وظلت الأمور تتدحرج بعد ذلك حتى قتل " حسن البنا " فى القاهرة بعد ما رتبت الأجهزة الرسمية هذا القتل... إن الاستعمار قد يرى التصفية الجسدية لا بد منها !! بيد أن المؤمنين لم يتراجعوا أمام هذه الشدائد، والواقع أن المقاومة الإسلامية ص _173(1/166)
خلال الثلاثين سنة الأخيرة بين كر وفر، وهى لم تهدأ الا لتستعد، ولم تخمد فى جبهة إلا لتشتعل فى أخرى. وما دام الأعداء مصرين على قتل الإسلام فيستحيل أن تجف الأرض من دماء المدافعين حتى يستنقذوا عقائدهم وشرائعهم وتراثهم كله.. والتفاوت بين الجهاد فى عصرنا هذا وبين الجهاد القديم، أن أعداء الإسلام ـ كما قلنا ـ اصطنعوا لهم رجالاً منا، نعم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا أوعزوا إليهم أن ينهبوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويبددوها فى كل فج... ووقفوا هم يرقبون المعركة عن كثب، ويمدون "عملاءهم " بما يحتاجون إليه بين الحين والحين. ومكاسب أعداء الإسلام متفاوتة بين قطر وآخر.. فما كسبته الصليبية العالمية من " مصطفى كمال " والمعجبين به شئ مثير حقا.. وما كسبته الشيوعية العالمية من " عبد الفتاح إسماعيل " فى اليمن الجنوبى ـ مثلاً ـ شئ مثير كذلك.. والأمر يتطلب من المدافعين مزيداً من الدراسة واليقظة وتقليب النظر فى خطط المقاومة الواجبة أمام كلب الأعداء وكثرة المنافقين العملاء.. وأمر آخر أجدر بالانتباه والحذر، هو رعاية صفوف المؤمنين، وتجنبها حماس الأصدقاء القاصرين، وتطلع الأذكياء الطامعين. يوشك أن يستدير الزمن كهيئته الأولى، وتعود للإسلام قوته وتخفق رايته ولكن دون ذلك أهوال لا نخشاها إن شاء الله، وبين المحيطين الهادى والأطلسى تتحرك طلائع التحرير، وتشتبك مع أعداء الله. وظنى أن العراك طويل، ليكن.. حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. منذ شهور لقينى بمكة المكرمة صومالى مسلم ـ والصوماليون كلهم مسلمون ـ بيد أن الرجل الذى لقينى كان حار العاطفة. ظاهر الغيرة على دينه وبلده مشدوداً إلى المسلمين حيث كانوا بالأخوة التى ربط الله بها القلوب، قال لى ص _174(1/167)
عاتبا: ما أذهلكم عنا؟.. قلت له: ما ننساكم فى سراء ولا ضراء، ولقد تابعنا نشاطكم فى تحرير أرضكم من الاستعمار الحبشى بحماسة وتابعنا عودة الاستعمار الحبشى إلى هذه الأرض بأسى ! ومن قبل ومن بعد كنا نرقب أحوالكم الداخلية بضيق وحسرة !! فقال لى الرجل وهو مقطب الجبين: هلا طالبتم بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات من المسلمين والمسلمات! فقلت له: ما كنت أحسب أن هناك نسوة معتقلات لديكم. الذى وقر فى نفسى من سنين أن عددا أو أعدادا من العلماء والمجاهدين فتنوا، أو أودعوا السجون، لأنهم قاوموا التغيير الشيوعى الذى قلب المجتمع الصومالى رأسا على عقب، وقد حسبت أن تلك الحال انتهت بعد طرد الروس من الصومال وأن المجاهدين المسلمين سكن روعهم من صفحة جديدة من الحكم الوطنى المتحرر.. ! فقال لى الرجل غاضبا: إنكم تجهلون عنا كل شئ، إن الخبراء الروس طُردوا ولكن فلسفة الروس الحمراء لم تُطرد، بل ظلت تحرسها الحراب الحادة! إن ناظرة المدرسة تُمسك بمقص فى يدها فإذا وجدت فتاة طويلة الأكمام قطعت ما يستر الذراعين. فإذا قاومت فالويل لها ولذويها !! ولقد أغلقت مساجد كانت الفتيات المسلمات تتجمع فيها لتلقي الثقافة الدينية وأداء شعائر الصلوات الخمس، وتوجد الآن معتقلات لمسلمات لا ذنب لهن إلا التدين وطاعة الله، واستطرد الرجل ـ وهو يرى دهشتى ـ أنتم تعلمون أن عشرة من علماء المساجد قتلوا رمياً بالرصاص لأنهم خطبوا ضد تشريعات الأسرة الجديدة التى سوت بين الرجل والمرأة فى الميراث، فهل تغيرت هذه القوانين الكافرة وعاد للشريعة الإسلامية احترامها بعد خروج الروس من الصومال؟ كلا… إن الزحف الأحمر الذى قتل ـ فى مقاومته ـ من قتل، وسجن من سجن، لا يزال يرين بوطأته الغليظة على صدورنا... ص _175(1/168)
وبصماته فى ميدان التعليم والتشريع لا تزال باقية! إن لجنة العفو الدولية استنكرت الأسلوب الهمجى الشائن الذى قتل به علماء المساجد! والذى ووريت به جثثهم! وهناك مسلمون كثيرون لا يدرون ما يقع بين ظهرانينا !! وقلت للرجل وأنا خجلان: لقد استنكرنا هذه المجزرة فى حينها، وشكونا إلى الله من اصطبغت يده بدمها، ولكننا ظننا أن رؤساء الصومال قد عادوا إلى الإسلام بعد ما ظهر لهم غدر الروس وبعد ما تكشف لهم أن الشيوعية حلم كاذب. وضحك الرجل الصومالى ضحكة صفراء يائسة وهو يقول: لقد غدرت الشيوعية بحكامنا، وكان لهم أمل فى أمريكا فلم تذكرهم فى وقت الشدة.. وكأن إذلال الشعب الصومالى أمر مرغوب. كان لهذا الحوار الكئيب صدى فى نفسى بعيد المدى... تذكرت كلاماً للرئيس " زياد برى " يشرح فيه لماذا غيَّر أحكام القرآن الكريم فى المواريث.. قال: إن الإسلام دين تقدمى، وأنه منح المرأة نصف الميراث لما كانت الجاهلية لا تعطيها شيئا وكانت المرأة فى المجتمع متأخرة مادياً وأدبياً.. وكان هذا العطاء القرآنى تكريماً للمرأة. ثم قال: ولكن بعد تقدم العصور وتساوى الذكورة والأنوثة فى الخصائص المادية والأدبية أضحت التسوية بين الجنسين لازمة، وأضحى الحكم الإسلامى غير صالح لهذه المرحلة الجديدة.. وظاهر أن الرئيس الصومالى يردد الكلام الذى قيل له فى موسكو وهو لا يدرى قليلا ولا كثيراً عن النتائج المخزية لإلغاء الفروق الفطرية بين الرجل والمرأة، ولا النتائج الحيوانية لإلغاء نظام الأسرة كله، وما شرعه الدين للبيت من تعاليم تتصل بالحضانة والتربية والنفقة والتوجيه الخاص والعام.. إن بقاء العقائد والعادات مرتبط بجو البيت وكيان الأسرة، ولذلك تخاصم الشيوعية بعنف الوضع الاجتماعى القائم على نظام الأسرة العتيد، وقد تبعتها الفلسفات ص _176(1/169)
المادية التى تسود أوروبا وأمريكا تقريبا.. وكان من نتائج ذلك أن الأولاد اللقطاء أخذوا يبرزون إلى المجتمعات بنسبة فاحشة، دون قلق أو محاذرة، وأن طوفان الشهوة غمر كل شئ !.. والمستغرب أن بعض الرؤساء مفتون بهذه التيارات الوضعية، ويريد أن يحمل الجماهير عليها بالعصا... وبإخماد أنفاس المعارضين، وقد ظننت أن الصومال فى محنته سيعود إلى دينه ويثوب إلى رشده، ولكنى كنت واهما... وعرفت سر الهزائم التى أصابت جبهات التحرير فى أريتريا والصومال، وليس سراً أن جمعاً غفيراً من القادة المسلمين قتل فى الميدان الأريتيرى، قتلهم الشيوعيون قبل أن يقتلهم الأحباش، إن هذه الجبهات هزمت نفسها قبل أن يهزمها الشيوعيون القادمون من كوبا ومن روسيا… كانت هذه الجبهات تستطيع أن توحد خطتها وأن تنسق ضرباتها العسكرية فى شتى الميادين، وقد ظلت أكثر من عام قديرة على ذلك، ولكن انشغالها بضرب الإسلام وأحكامه وتعاليمه أذهلها عن المسلك الوحيد المؤدى إلى النصر مصداق قوله تعالى: (…ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ). إن الرئيس " زياد برى " تنقل بين جميع العواصم العربية يطلب النجدة ويشكو العدوان، فهل سمع من أحد نصحا بضرورة تطهير البلاد من آثار الشيوعية فى التعليم والتشريع؟ أكاد أشك من هذا الأمر، بل لقد كنت أضحك وأنا أقرأ اسم الرئيس العربى يكتب " سياد " لأن وكالات الأنباء العالمية تقرأ الاسم مكتوباً بالحروف الرسمية فى الصومال بعد أن حكم بالإعدام على الحروف العربية ـ ثم يجئ الصحافيون العرب فيقلدون الخواجات فى نقل الاسم إلى " سياد" بدل " زياد " ما هذا الهزل؟ كفر بالعروبة بعد الكفر بالإسلام أما تتحرك الجامعة العربية للدفاع عن عنوانها وسط هذه الجهالات الصفيقة أم أنها تؤثر الصمت على أية حال...؟ ص _177(1/170)
الفصل الثانى عشر تربية الفرد والمجتمع لقد زرت دول الخليج ونزلت بكثير من فنادقها الكبرى، ووجدت تواصياً غريباً بإهمال اللغة العربية وازدراء النطق بها... لغة التخاطب الفريدة هى الإنجليزية. الهندى الذى استعمر الإنجليز وطنه وعقله لا يعرف غيرها. وهو لا يُخاطب العرب الذي يعمل بفنادقهم إلا بها.. إذا ذهب عربى إلى لندن وجب عليه طوعا أو كرهاً أن يتحدث بالإنجليزية. أما العرب فى بلادهم وفى جزيرتهم ـ وطن العروبة الأول ـ فعليهم أن ينتقلوا إلى اللغة الإنجليزية كى يقضوا في الفنادق بضع ليال !! ومع ذلك فنحن ـ لإتقاننا في التزوير ـ نسمى دول المنطقة دول الخليج العربى (!) مع أن العروبة هناك لها منزلة هون. أعنى اللغة والدين والتقاليد .. ومنزلة الفرنسية فى المغرب " العربى " كمنزلة الإنجليزية في الخليج العربي .. مسكينة لغة القرآن.. !! حتي إذاعة جمهورية مصر العربية تنطق بالعامية الهابطة أكثر مما تنطق بالعربية الفصحى.. ولا أدرى لماذا تعامل اللغة العربية وحدها بهذه الخطة المنكورة المحقورة.. ولماذا لا يتوارى الرؤساء الذين لا يحسنون النطق بالعربية بدل أن يثيروا اشمئزازنا بهذه البغام العامى الرديء كنت أرتقب من دول الجامعة العربية أن تتخذ قراراً جماعياً بتعليق قبول الصومال عضواً بها على احترام اللغة العربية. ولكن الجرأة الشيوعية من جانب والجبن القومى من جانب آخر، جعل الأمور تنجرف إلي مجرى سوف تضيع فيه العروبة والإسلام معاً إن لم يصح المخلصون إلي هذا المصير المفزع فيعودوا إلي العروبة حتماً ، وإلي احترام الإسلام الذى تدين به الكثرة الساحقة من العرب التائهين.. ص _178(1/171)
حدد القرآن الكريم عمل النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس في ثلاثة عناصر متماسكة هي: تلاوة الآيات، والتزكية، والتعليم.. قال تعالي: ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) العنصر الأول : تلاوة آيات الله، ذلك أن الوحى الأعلى هو دعامة البناء النفسى والاجتماعى، هناك مجتمعات ترفض الوحى لأنها ملحدة، وأخرى تقوم على وحي مرور ومشوب بالأباطيل، أما الأمة التي يبنيها الإسلام فأساسها الفذ آيات الوحي الحق، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. العنصر الثاني: التزكية، وهي أقرب الكلمات وأدلها علي معني التربية، بل تكاد التزكية والتربية تترادفان في إصلاح النفس وتهذيب الطباع وشد الإنسان إلي أعلي كلمات حاول المثبطات والهواجس أن تسف به وتعوج. العنصر الثالث: التعليم، وتعني به الآية تنوير الذهن بما يفتقر إليه من هدايات كثيرة في عالم الغيب والشهادة، أي في عالم المادة وما وراء المادة. والقرآن كتاب تضمن علوماً إنسانية شتى في العقائد والتشريع والتاريخ والأخلاق.. وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ الذى بلغه وطبقه ـ نموذج راق للثقافة الراشدة والسلوك الحكيم. والسلف الذين حملوا الرسالة علما وعملا كانوا أبصر الناس بالحياة، فلم يعبدوها ولم يزهدوها، بل عاشوا أصحاب مبادئ واضحة، حققت علي ظهر الأرض أغلي الحضارات وأشرفها. وحديثنا الآن عن العنصر الأوسط ـ أى التربية ـ وقبل أن نبسط القول نؤكد ما أشرنا إليه من قبل عن تطابق التزكية والتربية، فقد وردت كلمة التزكية في عدة مواضع من الكتاب العزيز يجب أن نتدبرها. قال تعالى: ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ). ص _179(1/172)
ارتكاب الجرائم مظهر للانحراف، كذلك الجرى مع الهوى ورفض قيود الشرع. وما علاج ذلك؟ التزكية قال تعالى: ( ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ). التزكية هنا تعنى الإيمان والإصلاح وضبط الغرائز ومقاومة الشر ومنع كل أسباب الجريمة، التزكية من الزكاة - أى الطيبة - وهي للقلب كالذكاء إلى العقل. وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول تبارك تعالى: ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ). المعروف في الإسلام أن الفطرة الإنسانية خلقت سوية مستقيمة، وأنها لو بقيت علي أصل الخلقة ما أشركت ولا أفسدت، فالعوج الذى يلحقها طارئ لا أصيل. تولد العين ابتداء قادرة علي النظر، فإذا عميت فمن مرض عارض، وفى الحديث القدسى يقول الله عز وجل: " إني خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ". وما معني: ( فألهمها فجورها وتقواها ).؟ قال ابن عباس: بين لها الخير والشر، وقيل: جعل فيها فجورها وتقواها: أى هي قابلة للبقاء علي طبيعتها، وقابلة للميل مع التيارات التي تهب عليها، فتديرها علي غير محورها. ( قد أفلح من زكاها ) أى زكي نفسه بطاعة الله، وطهرها من الأخلاق الدنيئة، والرذائل - هكذا قال قتادة - ( وقد خاب من دساها ). أى أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي - هكذا قال ابن كثير !! ص _180(1/173)
وروى أحمد عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن، والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسى تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنى أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها ". قال زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكهن!! عندما نتدبر هذا الحديث نجده أحصي آفات نفسية مهلكة للأفراد والجماعات. فالعجز المقعد للهمم والمطفئ للآمال، والكسل المورث للخمول المثبط عن أداء الواجبات، والجبن المعجز عن كلمة الحق ومواقف البسالة والصمود، والبخل الذى يمنع من العطاء ويربط صاحبه بالأثرة والضيق، والقلب القاسى الذى لا يكترث لآلام الغير، والنفس المنهومة التى تنطلق وراء أطماعها لا تهدأ أبدا، والمعرفة التي يجعلها صاحبها سلاحا لبلوغ المآرب، وكل ما يهبط بالمرء، ويبعده عن رحمة الله، هذه الآفات جميعا لا بد من البراءة منها حتي تزكو النفس وتطيب !! وهل تتم تربية إلا بالبعد عنها؟ وهل يعلو مستوى الفرد والمجتمع إلا باستكمال الفضائل التي تقابلها؟ وسعة العلم لا تدل علي زكاة القلب وحسن الخلق، فإن النفس الرديئة تستغل ما وهب لها من ذكاء، وما أتيح لها من اطلاع كي تحقق مآربها الصغيرة. وقد رأينا علماء ذرة باعوا ما لديهم من أسرار للجواسيس الروس، نظير ماذا ؟ نظير مال كثر أو قل سينفق فى بعض الملذات المنقضية، والشهوات المحقورة !! ورأينا علماء دين ينكرون ما يوقنون بصدقه، أو يعبرونه بسرعة، إرضاء لحاكم، أو ارتقاباً لنفع. وعلماء أهل الكتاب الذين عاصروا النبوة، والذين جاءوا من بعدهم ضربوا أسوأ الأمثلة لهذا اللون من الجحود، وهذا اللدد في عداوة الإسلام. ص _181(1/174)
وقد وصف القرآن الكريم من تصرفهم الأهواء، ويتدلون إلي الحضيض مع ما أوتوا من معرفة وذكاء، فقال جل شأنه: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ) . إنه لما آثر الهبوط تركه القدر يهوى، ولو أنه جاهد ورغب في التسامي لأخذ القدر بيده، وأعانه علي الرفعة... نعم.. فالتربية معاناة وتعب، وهي لا تتم إلا بعد مراحل طويلة.. وعلاج النفس البشرية قد يكون أصعب من علاج الحجر الصلد أو الحديد ذى البأس الشديد... ولكن ما منه بد إذا شئنا الكمال.. !! أما إذا رغبنا فى الحياة علي ما نستحلي، فلن يكلفنا ذلك إلا أن نرتع كما ترتع البهائم، والمصير أخيرا إلي الذبح.. !! لكي تكون إنسانا له خلق كريم، يستقيم مع منطق الفضيلة، ويهرب من الدنايا ويأبي مقارفتها فماذا تصنع؟ إن علماء الأخلاق يعرفون الخلق بأنه عادة الإرادة، وهذا التعريف يحتاج إلي شرح، فالنفس الإنسانية قد تميل إلي أمرها، وقد يقوي ميلها فتتحول إلي ركبة. يرى الاتجاهين من ميل طارئ أو رغبة عارضة لا يسمي خلقا يجب أن تنمو الرغبة، وتشتد، وتصير إرادة جازمة. فإذا بلغ الاتجاه النفسي هذا الحد من العزم، فقد شارف ميدان الخلق، ولما يبلغه بعد ! إنه لن يكون صاحب خلق معين حتي تستقر إرادته، وترسخ عزيمته، ثم تكون الإرادة الراسخة عادة يصدر عنها، ويلتزمها التزام الغريزة التي ولد بها ويصعب التفصي عنها. هذا هو الخُلُق، وهذا معني تعريفهم له بأنه عادة الإرادة، والتجانس بين ص _182(1/175)
كلمتي الخُلق والعادة قائم في اللغة، وقد جاء في القرآن الكريم: ( إن هذا إلا خلق الأولين ) أي دأبهم وعادتهم... وهناك ناس كثيرون نفوسهم رجراجة، تسودها ميوعة مطلقة، يجرون نحو الخير ونحو الشر لأنهم لا ينبعثون من داخل أنفسهم، بل يتحركون في الدنيا وفق التيارات التي تعلو بهم وتهبط، وتتقدم بهم أو تتأخر.. أمثال هؤلاء يظلون فى طفولة خلقية لا وزن لها حتى تولد لهم شخصية محددة ويستقلون بقيادة أنفسهم.. والذى يهمنا في مجال التربية تكوين الأخلاق الحميدة بكل ما تفرضه العادة علي ذويها من نظام ورتابة، فان انعدام الأخلاق، أو وجود بذرتها في حال بدائية رخوة لا يغني شيئاً، لأن الطباع السيئة في النفس تتحرك دون كابح قوى يصدها. نعم.. نحن نريد تكوين الأخلاق، لأن الخلق وحده هو الذى يهزم نوازع الضعف ووساوس الهوى، وتأمل في قول، أبي تمام يصف " البطل " الذى آثر الشهادة علي الحياة الدنيا: وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر!! ولهذا يقول شوقي: وليس بقائم بنيان قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا كنت يوماً في معمل الفيزياء! وشاهدت المغناطيس وهو يمر فوق ذرات ـ بودرة من الحديد ـ ورأيت الذرات تنتظم سطوراً مطردة مدهشة، إن عمل الإيمان في قوى البشر ومواهبهم هو عمل هذا المغناطيس. أي أن الإيمان يمنع الفوضى والتشويش والتسيب، ويقيم نظاماً خلقياً دقيقاً يصوغ الفرد والجماعة في أوضاع محكمة، إن المرء المحبوس داخل رغباته لا يعرف غيرها، ولا يبالي بشرع ولا وضع، هو وحش مقنع. ص _183(1/176)
وقد وصف القرآن حياته الداخلية والخارجية ـ أعني النفسية والاجتماعية ـ بهذه الكلمات: ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) . نعم.. لقد انفرط أمره كله، كعقد انقطع خيطه، وانتثرت حباته فما يدرى أين ضاعت؟ والإسلام ـ وهو فطرة الله في الأنفس ـ يريد حماية الإنسانية من هذا التدني، فماذا صنع؟ إن أنواع الكمال كثيرة، وقد علمنا أنها لا تنشأ ارتجالاً، و لكنها تتكون علي مكث، ومع عوامل متراخية. فإذا كان اكتمال الإنسان يحتاج مثلاً إلي أخلاق النظافة والإخلاص والنظام، وأنه لا يطهر جسدا وروحا إلا بما يغرسها في كيانه، فلتربط هذه الأخلاق بالصلوات الخمس المكتوبة علي كل نفس ليلا ونهارا. وجه يغسل خمس عشرة مرة كل يوم، لم لا يكون وضيئا؟ إنسان يعرض قلبه علي ربه طرفي النهار وزلفا من الليل، لم لا يكون مخلصا؟ مجتمع تصطف فيه المناكب والأقدام، وتطلب لهذا الصف مرارا في الساعة كذا والدقيقة كذا، لم لا يكون منظما؟ والصبر والأمانة والرفق والتحمل والبشاشة أخلاق لا بد منها للبناء الإنسانى السليم في الفرد والجماعة، فلتربط هذه الأخلاق ـ إلي جانب الصلاة ـ بالصوم وما يوحي به من عفة وتماسك وانضباط.. ولا نسترسل في سرد الفضائل واحدة واحدة، ولا فيما يغرسها بأعماق النفس والمجتمع. وإنما ننبه إلي شئ مهم بالغ الخطر، هو أن تحول العبادات إلي رسوم ظاهرة، وإلي صور من الغيبيات التي يؤديه الناس دون وعي، قاتل لهذه العبادات ومبطل لآثارها.. ص _184(1/177)
وهذا التحول غير مستغرب عندما يهبط الوعى من منطقة حاشية الشعور إلي منطقة شبه الشعور.. فإن أغلب الناس عندئذ يقوم بالعمل وهو سارح الذهن أو شبه مخدر..!! ونحن ندرى أن هناك من يصلي ولا تنهاه صلاته عن سوء القول والعمل ومن يصوم فلا يتعلم من صومه الاقتصاد في الضرورات والمرفهات.. وآفة التدين من قديم الاكتراث بالشكل دون الموضوع. إن قضية المصلي الذى لا يقرأ وراء إمامه حرفاً قد تخلق نزاعاً بين البعض فهل الحماس الذى يصحب هذا البعض يبقي علي شدته عندما يتعلق الأمر بالمصلى الذى لا يضبط لسانه ولا أعماله؟ إنني أشمئز عندما أرى الخلاف الفقهي فى صور الطاعات يقطع ما أمر الله به أن يوصل، مع أن نتائج هذا الخلاف مقبولة كلها، خطؤها وصوابها.. ومن المقطوع به أن الكراهية والتنقص وعدم تجويد ما يكلف المرء به من أعمال، رذائل مقبوحة في الدنيا والآخرة.. لا ريب أن المسلمين بحاجة إلي تصحيح مفاهيم شتي في أذهانهم وأحوالهم. وقد وفر الإسلام ضمانات كثيرة لتكون التربية الدينية ناجعة في كل ميدان، مؤتية ثمارها في كل وقت. وأولى الضمانات التحكم فى البيئة إذ أن البيئة السيئة تهزم الإيمان والشرف فى الأغلب، إن إنبات أجيال كريمة الشمائل، نامية الفضائل يقتضى هيمنة ورقابة صارمتين على البيت والشارع والمدرسة... بل نظام الدولة نفسه! ليس البيت ملتقى ذكر وأنثى لإشباع الغرائز الدنيا، إنه محضن حصين لتكوين الأولاد الشرفاء المؤدين لحقوق الله وحقوق الناس، والذين تمتد بهم القيم الرفيعة والسير الزاكية، وقد علم الله عباده المكرمين أن يستعطفوه ليحقق لهم هذه الغاية، علمهم أن يقولوا: ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) . ص _185(1/178)
وهل يتعلم الأولاد الصدق، والحياء، والنبل، وإقام الصلاة، وإعطاء الصدقة، والبر بالجار، وإكرام الضيف، والاهتمام بالزى النظيف السابغ واحترام التقاليد والآداب العامة.. هل يتعلمون ذلك إلا من مسالك والديهم، والاقتباس منهم وهم فى أخص شئونهم؟ إن تربية الأولاد لمحتاج إلى علم خاص يدرس للجماهير حيثما تجمعوا. ورب البيت وربة البيت ليس واجبهما فقط توفير الغذاء والكساء للأولاد، بل واجبهما الأهم إحسان التنشئة وغرس العادات الطيبة فى دماء أعقابهم. وفي الحديث: " إن الله سائل كل امرئ عما استرعاه، حفظ ذلك أم ضيعه ".. وكثيرا ـ ما كنت أتساءل: متى يملأ النساء صفوف المسجد المؤخرة بدل هذا الفراغ الغريب؟ متى يملأ الأولاد الصفوف الوسطى بدل التسكع فى الطرق أو الإغراق فى اللعب؟ متى تلتقى الأسرة فى بيت الله ـ الأسرة كلها ـ التوجيهات الدائمة والموقوتة التى تربطها بالإسلام ـ وتصلها بشعائره ومقاصده؟ والإسلام مع ذلك كله يحث المسلم أن يسعه بيته فلا يهجره إلى ناد أو ملهى. نعم… ينبغى أن يألف جو الأسرة كما يحث المسلمة على إحسان تبعل رجلها حتى يكون البيت عامرا بالود والبشاشة والسكينة.. فإذا تجاوزنا البيت إلى أى تجمع بشرى فى الشارع أو المدرسة أو الديوان أو النادى، رأينا تعاليم الإسلام متكاتفة على جعل السلوك مضبوطا داخل حدود، ملتزماً بمعان بينة... فلو جلس امرؤ فى الطريق لأمر ما فعليه أن يغض بصره، ويحفظ لسانه، ويأمر بالخير، وينهى عن الشر، ويعين الضعيف ويدعم المظلوم. إن الأمة المرباة يتبعها أدبها كظلها فهى لا تنفك عنه فى قول أو فعل. والبون بعيد بين مجتمع عابث صاخب ومجتمع جاد وقور، بين مجتمع متحاب ص _186(1/179)
متراحم ومجتمع متحاسد حقود. وأخيراً: بين مجتمع مكلف بإماطة الأذى عن الطريق فهو يمهده للسائرين دون قمامات ولا حفر، ومجتمع لا يبالى بسكب الأقذار فى جوانبهه، وتضييق الخناق على السائرين فيه... والأساس انبعاث الأفراد عن مبادئ ثابتة توحى إليهم نبذ المنكر وإشاعة المعروف. والشرع والعقل لا يتفاوتان فى تعريف ما هو المنكر؟ ولا فى تبيين ما هو المعروف؟ فإن الفطر السليمة تهتدى إلى ذلك تلقائيا، أما الفطر المعوجة فهى تشوه أى ودين ربما لا تحسن فهمه، وإذا فهمته لم تحسن تطبيقه... وأرى أن التقاليد العامة يجب أن تناقش بين الحين والحين ليعرف مدى توافقها أو تفاوتها مع أصول العقيدة والفضيلة، فإن العرف السائد قد يبدأ حسنا ثم تنحرف به تيارات محدثة فلا يصل إلى غايته. وكم من تقاليد لو أعيد وزنها لرجع الناس عنها كلا أو جزءا، والمعيار الثابت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أما آراء الرجال بعد فموضوع دراسة وموازنة... وهذا يتأدى بنا إلى حديث سريع عن المقاييس الخلقية، إن عدم الأخلاق قدم لنا آراء كفر من الفلاسفة الذين حاولوا من عند أنفسهم تحديد معنى الفضيلة، هناك مقاييس اللذة وهناك مقاييس الواجب والكمال. وفى عصرنا هذا أصبحت للمجتمع الاشتراكى تقاليد يربى عليها الأجيال الجديدة، وللمجتمع الحر أو الرأسمالى أخلاق أخرى يشيعها فى أكناف بيئته.. ومعنى هنا أن الدولة أمسى لها دور كبير فى مجال التربية، وأنها تملك من وسائل المحو والإثبات ما يجعل تصرفها بعيد الأثر. وهذا حق. ما يمكن إغفاله، وقديماَ قال العرب: إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة اى أن الأمير الذى يستهين بالكلمة، ولا يبالى بالتزوير تنطلق فعلته فى كل فج ما يقفها شئ... ص _187(1/180)
ترى ما نتيجة ذلك إذا استقر الأمر للكذابين النتيجة أن يصبح الكذب عملة متداولة الدودة الملحدة تغرس الكفر وتشرع التحلل وتُرغم الجنسين معا على الانحدار فرجالها كما وصف القرآن المنافقين والمنافقات: ( بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ) قص على صديق سورى أن نادى حزب البعث فى مدينه القنيطرة كان مرسوما عليه شعار الحزب: " اشتراكية. حرية ، وحدة "، وتحته مكتوب هنا البيت: لا تسل عن ملتى أو مذهبى أنا بعثى اشتراكى عربى فلما احتل اليهود الجولان، ودخلوا القنيطرة بدون قتال، مسحوا هذا كله، وكبوا مكانه هذه الآية: ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ). ألا يشعر المسلم بغصة وهو يسمع هذا النبأ، إننى آثرت تسجيله فى بحث تربوى ليعلم أهل الأرض أن الذين انهزموا أمام اليهود، لم يكونوا عرب مسلمين، ولم يكونوا على حظ تافه أو جليل من شمائل الإيمان أو أخلاق الرجولة ثم إن أعمدة التربية فى الأمة كلها عندما تجرى انتخابات لانتخاب حاكم ما، فإذا النتيجة 99.999 فى المائة من الأصوات تأييداً وولاة لهذا الحاكم، والحقيقة التى يعرفها أهل الأرض والسماء أن ذلك كذب من الألف إلى الياء. فى عصرنا هذا... للحاكم دخل كبير فى تكوين الأخلاق الفردية والجماعية وفى رعاية الأمانات والعهود. قديما كانوا يقولون: السلطان من لا يعرف السلطان، نعم كان هناك من ص _188(1/181)
يستطيع العيش بعيداً عن أهل السلطة، مستريحاً من رغبتهم ورهبتم وعطائهم وحرمانهم... أما اليوم، فإن السلطة تفرض على كل امرىء معرفتها طوعاً أو كرها، إن دوائر العمل الحكومى هيمنت على الأقوات والثقافات معاً، وهى تدخل بيتك لتسمعك من برامج الإذاعة ما تشاء، وترقب كسبك لتأخذ منك ما تشاء، وتقدر سنك لتجنيدك متى تشاء، ولتأخذ ابنك إلى المدرسة عندما تشاء... إن العزلة عن الحكومات أضحت مستحيلة، ومن ثم فإن آثار الحكومات فى إضعاف الأخلاق وتقويتها لا يمكن تجاهلها ولا الإفلات منها. وفى ظل النظام الشيوعى حتم أن يدرس الإلحاد للأولاد. وفى ظل النظام العلمانى حتم أن يشب الأولاد، فى ظل تساوى الأضداد من إيمان وإلحاد وتبرج واحتشام. وفى ظل بعض النظم تفشو المكاسب الحرام، وتظل بأعناقها القناطير من الدنانير دون نكير. أو تنتشر الرشوة والغش فلا يكاد أحد يقضى أرباً له إلا لولوغ فى الإثم... فكيف تنفصل النظرة الأخلاقية عن الفطرة السياسية؟ وكيف توضع مقاييس أخلاقية لا ارتباط لها بالواقع الذى يفرض نفسه؟ تتجه التربية إلى النفس الإنسانية من ثلاث جهات هى جملة المظاهر الثلاثة للشعور كما أحصاها علم النفس، فهناك ناحية المعرفة، ثم ناحية الوجدان، ثم ناحية الإرادة والسلوك.. وقوام الناحية الأولى تزويد الإنسان بثروة علمية نافعة تجعله خبيراً بالحياة مدركاً لحقائقها دون خطأ أو مبالغة، وفى عصرنا هذا انتظمت مراحل التعليم، وتضمنت كل ما وصلت إليه الإنسانية من ارتقاء عقلى، وخصائل محترمة. ويحتاج الشخص العادى إلى بضعة عشر عاما من الاستذكار والاستبصار حتى يكون على حظ مرض من الثقافة العامة، ويحتاج إلى أمد آخر للتخصص ص _189(1/182)
فيما يميل إليه من أنواع الدراسة.. ولن تنقطع حاجة الإنسان إلى التعلم ما دام حيا، فإن الكون لم يعطنا إلا القليل من أسراره، والمسلم لا يشبع من معرفة، وهو يزداد معرفة بالله كلما اتسعت مداركه. وأنواع العلوم التى يتلقاها عن الكون والناس والحياة تجعله أضبط للحقائق، وأقدر على الاستنتاج وأهدى للصواب. ولا نعرف ديناً احتفى بالعلم وجعله لباب التقوى كالإسلام، إن المستوى الراقى للعقل الإنسانى مهاد جميل لما بعده من حس رقيق، وانطباع شريف؟ والحديث يطول عن آفات الجهل والقصور والفهم الجزئى لبعض القضايا الطبيعية والإنسانية والدينية. على أن سعة العلم لا تستلزم طيبة القلب ولا صفاء الروح، فكان لا بد من جهد آخر يصقل معدن الإنسان، ويخفف كثافته، ويرجع الجانب الروحى فيه. وللحضارة الحديثة فى هذا الشأن نهج لا نقره كله ولا ننكره كله، كما أن للمسلمين تقاليد لا نقرها كلها ولا نأباها كلها. الغربيون يدللون الطبيعة البشرية، ويلبون رغباتها، ويرفضون الكبت والقيود الكثيرة التى توضع على ميول المرء ومنازعه.. أما نحن المسلمين فنتجه بعنف ـ أو هكذا كنا ـ إلى التكلف والتظاهر وإخفاء المطالب النفسية أو قتلها فى ظل أوضاع افتعلناها ليس لها أصل سماوى قائم.. وكلتا الوجهتين لها وعليها،،، فإن الكبت مطلوب إلى آخر الدهر بالنسبة إلى الحرام الذى يأباه الله جل شأنه، فمن تطلع إلى حليلة غيره وجب عليه سحق رغبته حتى الموت. وإذا تركت له رغبة إلى جائز لا يملكه وجب عليه التصبر حتى يملك، وهذا معنى قوله تعالى: ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . ص _190(1/183)
وعلى المجتمع ألا يطل أمد العجز ـ والحالة هذه ـ كما أن عليه ألا ينشئ أحوالاً خاصة أو عامة توهى أسوار الكبت المطلوب، وتهزم إرادة التسامى.. وليس لأحد أن يحرج الطبيعة البشرية بحظر مباح، أو بمحاكمتها على أمور عفا الله عنها، وترك الحديث فيها غير نسيان ولا ذهول. إن المصارحة أو المياسرة أفادت فى الغرب من جانب ولكنها أضرت مع الإسراف والتفريط، وكذلك فعلت تقاليد الحذر والتكلف والرياء، فقد أفادت من جانب وملأت الحياة عقدا وعللا من جانب آخر.. والحل الوحيد أن تقدم نصوص السماء على كل غرف أو تقليد.. إن الإنسان خليط عجيب من أصول متناقضة، فهو من نفس الرحمن تخلق، وفي الحمأ المسنون احتبس، كما يصنع جهاز ساحر في قوته ودقته، ثم تحاط آلاته وأجزاؤه بمعوقات وأقذاء، تعرقل الحركة، وتضعف القوة، وتذهب الرواء علي أن كل ما خالط الجهاز الفذ من أكدار قد ترك للإرادة البشرية أن تذهب به وتمحو أثره، وهي علي ذلك قديرة، بل هي به مكلفة. وهذا سر الحياة منذ وحدت وهو معني قوله تعالي بعد قسم برسالات السماء: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) أي إنسان مطالب بالحفاظ علي هذا التقويم الأحسن، مطالب بالتغلب علي الجواذب التي تشده إلي أسفل سافلين، وليس يقدر علي ذلك إلا مؤمن ملتزم بالإحسان والإصلاح ما دام حيا.. وفي رأيي أن كثيراً من المتدينين صدموا الفطرة البشرية عن جهل أو غلو، كما أن الآخرين تحللوا من قيود الأدب، والتسامي، وانساقوا مع الأهواء الجامحة حتي نسوا الله فأنساهم أنفسهم.. ص _191(1/184)
والتربية الصحيحة توجب مع سعة العقل والمعرفة، سناء الروح وحنينه الدائم إلي أصله الأول، وربه الكبير. وأخيراً.. نذكر الإسلام في التربية البدنية، فإن بعض الذين كتبوا أو تحدثوا عن الإسلام أساءوا تقرير هذا الحكم، وفي شبابي الباكر انخدعت بكلام هؤلاء، وفهمت أن الإنسان تكفيه في غذائه لقيمات أو تمرات، وأن المسلم يسهر عينه فما يألف الفراش، ولا يسكن في الليل. وهذه صورة باطلة لموقف الإسلام من الجسد وحقوقه، فما يكره الإسلام إلا الشره والتشبع والسرف، كما يكره الإسلام الجزع في أزمات الحصار وطوارئ الحروب... أما نظام التغذية الذي يضعه الأخصائيون للمحافظة علي الجسم وضمان تقويته وتنميته فإن الدين لا ينتقص منه درهما، والواقع أن ميل الناس إلى السرف في الطعام والزهو بأطايبه شائع، ولا يلام الدين علي اعتراضه وإنكاره وكذلك قيام الليل، إن لبعض الناس طاقة كبيرة علي السهر، وبديه أن يرفض الإسلام كل سهر يضيع صلاة الفجر، فإذا تاحت ـ لبعض الناس في بعض المناطق قدرة علي السهر، فلتكن الليالي بيضاء لا حمراء، بيضاء بالتهجد والقراءة لا حمراء بالإثم واللهو. ومن الناس من يكدح سحابة نهاره ويفتقر إلي الليل ليريح بدنه ويجم أعصابه فمن يمنعه ذلك؟ ما دام يؤدى فرائضه . إن السهر الذى يضعف الوعي، ويقلل الإنتاج، ويبعثر الواجبات جرم. وليس تهجدا مقبولا وكل نافلة تضيع فريضة لا يقبلها الله، ولا يقرها دينه… إنه لأمر مستحب أن يكون المرء صاحب جسم جلد حمال لمشاق الحياة، وعاقبته موصولة لا تخور في الطريق، وتستسلم للإعياء والنقوص وما يراه الأخصائيون والأطباء لترويح الجسد وصيانته يمكن وضعه صيفاً ص _192(1/185)
وشتاء في إطار من تعاليم الإسلام، وهي تعاليم توصي بالاعتدال والاستعفاف وتكره المزالق والمساخر.. إننا بعد هذه النظرات في تربية الفرد والمجتمع نضع أصابعنا علي الحقيقة المرة في حياتنا، وهي أننا لم نوثق أواصرنا بالإسلام، ولم نحسن لا فقهه ولا سلوكه، وليس يغني عنا اسم طنان، وجوف خواء. ثم إننا لما فقدنا الاندفاع الذاتي بقوانا الخاصة شرعت التيارات الوافدة تجرفنا هنا وهناك، وتُلحقنا بها أذنابا لا رءوسا... ولتنظر إلي هذه الأمثلة من فقدان الوعي في ميدان اللغة... كنت أسمع المذيعين ينطقون كلمة "رباط " عاصمة المغرب بفتح الراء، فأقول: الكلمة كجهاد وقتال بالكسر، فما هذا الإصرار علي فتحها ؟ وأخيرا عرفت أن الكلمة يكتبها الفرنسيون "RABAT"،، بفتح الراء، فتنازلنا نحن عن لغتنا، وتبعناهم علي خطئهم. وفي مصر بلد كبير اسمه " سيوط " ومنه الحافظ المعروف جلال الدين السيوطي، فلما أغار نابليون علي مصر، وقاومه أهلها استطاع بتفوقه العسكري أن يهزم الشعب والحكومة، وفر الأمراء المماليك من وجهه إلي "سيوط" ليستأنفوا المقاومة من هناك.. واستحث نابليون رجاله لمتابعة المماليك قائلا لهم: إلي " سيوط،" وحرف الجر المقابل " إلي" بالفرنسية " A" وصاح الجنود وراء قائدهم " أسيوط " والمدهش المذهل أن صيحة المغيرين أصبحت علما علي البلد المهزوم فسميت أسيوط !!! ونسي العرب اسم بلدهم الأصلي !!! ويمتد هذا السخف إلى كتاب اسم "مكة" بالحروف اللاتينية، فالميم تكسر والتاء تطير، والعرب من وراء الفرنجة يكتبون الكلمة " MACCA " فما هذا الهزل؟ هذه الأمثلة على طرافة موضوعها تومئ إلى الانحلال العام فى الشخصية العربية. ولا نستطيع الزعم بأننا ملتزمون. لتراثنا، ولا محافظون على مقوماتنا فى
ص _044(1/186)
الفصل الخامس مولد الخلافة التركية في منتصف القرن السابع ماتت الدولة العباسية بعد حياة طويلة مليئة بالغفلة والتفريط. وفي نهاية هذا القرن ولدت الخلافة التركية، وكانت أول الأمر دويلة ضعيفة الشأن، ثم ظلت تتقلب في مراتب القوة حتى أضحت ـ باسم الإسلام ـ الدولة الأولى فى العالم. والمسلمون لا يكترثون لاختلاف الجنس ، فإن العقيدة الجامعة محت فروق الدم واللون، وقد رأى المسلمون من قبل عناصر تركية تقود الخلافة العباسية كما رأوا أمراء من السلاجقة والأكراد والمغول يؤسسون دولاً بين العراق ومصر، ويبلون أحسن البلاء فى الدفاع عن الإسلام. ولم يشعر العرب بضيق من هذه القيادات البعيدة عن جنسهم، بل عاونوها، وقاسموها المغارم والمغانم. ونحن نريد إلقاء نظره فاحصة على الأحوال التي اكتنفت المسلمين عند سقوط العباسيين وبعد أيلولة الأمر إلى الترك لنعرف السر فى النهج الذي سارت عليه الخلافة الجديدة مع الصليبية الغربية، وأثر ذلك في الدعوة الإسلامية إلى اليوم. ظلت " أوروبا، قرنين من الزمان في حرب عوان مع العالم الإسلامي، ومع أن هذه الحرب انتهت بتراجع الصليبية العالمية بعد ما لقيته من هزائم، إلا أن التضحيات الفادحة التى قدمها المسلمون تركت في نفوسهم ذكريات مرة. وكان يمكن أن تتلاشى هذه الذكريات لولا أن الصليبية بقيت تحارب الإسلام وأمته سرا وعلنا في جبهات جديدة نشير إليها بإيجاز.
ص _003(1/187)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التاريخ الإسلامي سجل لعمل أمتنا بهذا الدين، وعملها له، ورفعها لمناره ، وحياطتها له، حتى لا تُطفئه الرياح الهوج... والإسلام دين معصوم الأصول، بيد أن العمل له يتفاوت ويلحقه العثار والعوج...! ونحن الآن نتهيأ لاستقبال القرن الخامس عشر ونريد أن نلقي نظرة سريعة على مسيرة الدعوة الإسلامية خلال ذلك الماضي الطويل، لماذا؟ لنحاكم أنفسنا إلى مبادئنا الثابتة، ولنتعرف ما لنا وما علينا بدقة. وهذا البحث متابعة تتسم بالإيجاز المقصود لسبقنا أو تخلفنا، وفشلنا أو نجاحنا. وهو يقوم على أن تاريخنا المديد كيان واحد متماسك الأجزء، مجدد الهدف، يرث الأخلاف علي الأسلاف منهجا واحدا"، وبلاغا واحدا، وتجمعهم أمام الله مسئولية مشتركة. ولم أكثرت في هذا البحث بسرد الوقائع المقررة والأيام المشهودة، إنما كان اكتراثي بحال الدعوة الإسلامية ومبلغ الوفاء لها، والتوفيق في عرضها، ومساندتها، على أساس أننا الأمة التي حملت الوحي الخاتم، وأن أحزاب الشيطان وقوى الشر واقفة لنا بالمرصاد منذ بدأنا نشر الحق واستبقاء عناصره في هذه الدنيا.. وقد اجتهدت في تثبيت ملامح الصورة المطلوبة لدعوتنا المكافحة المصابرة مع تقطع هذه الصورة أحيانا خلال الأحداث الكبيرة التي مرت بنا.. حتى إذا انتهيت من دولة الخلافة الأخيرة، وقفت وقفة متأنية قليلا في شرح
ص _004(1/188)
أسباب انهيار الحضارة الإسلامية، ثم استأنفت الحديث عن كفاح الدعوة ضد قوى هائلة تجمعت بغتة تريد الإجهاز علينا. وقد استغرق القسم الثاني من هذا البحث وصفا" لشعب الهجوم المعاصر على الإسلام، والطريقة المثلى لمواجهته في شتى الميادين التي افتتحها.. ونحن نقدم لأولادنا وأحفادنا الرسم البياني لديننا العظيم ودعوته واثقين أنهم خلال القرن الخامس عشر للهجرة سوف ينهضون بواجب ضخم ويدعمون الحق الذي شرفهم الله به، ويردون فلول الباطل مذعورة مدحورة، (لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق ).. ! وأحمد الله على ما هدى من صواب وأستغفره على ما يكون من خطأ (إليه أدعو وإليه مآب) محمد الغزالى ص _195(1/189)
إن اضطراب المستوى الثقافي والسياسي لأمتنا لا يُسأل عنه جيل واحد، فنحن المسلمين الذين يسؤنا ما يلقاه الإسلام اليوم من حظوظ سيئة وما نلقاه نحن من متاعب ثقيلة، إنما نجني تفريط أناس سبقونا، ونحصد ما غرسوا وما نبديه من مقاومة ونكنه من ثبات، ومصابرة، ربما تراخت آثاره فلم يظفر بها إلا أولادنا أو أحفادنا، كأنها رصيد مدخر لهم، تكشف عنه الأيام في إبانه.. وما نبغي بهذا الكلام دفاعا عن أنفسنا، ولا غمطا لغيرنا، وإنما نريد إبراز وحدة الكيان الاجتماعي للأمة وتماسك أحوالها وإن تغايرت القرون. إن الحق الذي نعمل لاستقراره لا بد أن يستقر، والباطل الذي نكدح لبواره لا بد أن يبور.. ولكن متى؟ ليس ذلك إلينا، ولا توقيته في مقدورنا. إننا نحيا في ضوء إيمان قدمه لنا سلف صالح، فلماذا نستكثر أن تحيا الأخلاف المقبلة في ضوء ما نقدم من كفاح؟ وأن يطوينا الليل لتنعم هى بتباشير الصباح؟ لعل ذلك الذي نقرره هو سر الأمر الحاسم في قول الله لنبيه: ( فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ) على المجاهدين المسلمين أن يعملوا، ولذتهم ليست اقتطاف الثمر العاجل، وإنما لذتهم في الشعور بتوفيق الله والأمل فى رضاه.. وندع هذه الخاطرة في قصة الثواب والعقاب إلى ما هو أهم في مسيرة الأمة الإسلامية نفسها، إن حاضر المسلمين ومستقبلهم تقرره أنصبتهم من اليقين والخلق والكفاءة على قيادة الحياة باسم الله، نعم.. وفرة هذه الأنصبة هو الذي يرجح كفتنا، ويدعم جانبنا، ويسوق النصر سوقا إلينا، شئنا أم أبينا.. ص _194(1/190)
أما النصارى الذين جعلوا عيسى إلها، فليسوا له بأتباع. والتثليث الذي اعتنقوه بعد تأليه جبريل روح القدس هو ضرب من الشرك مهما كابروا. نحن وحدنا أتباع عيسى، وأتباع النبي الخاتم الذي أنصفه، وشرفه، أتباع محمد عليه الصلاة والسلام. وسنظل إلى قيام الساعة فوق الذين كفروا، وسيظل كتابنا المحفوظ هو وحده مصدر الحقائق الدينية التي يحاسب الناس على التمسك بها أو التفريط فيها كما جاء في آية أخرى: (... وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ) . والآيات كثيرة في أن الله مظهر الإسلام على كل الأديان، لكن الأمر خاضع لقوانين محكمة يجب أن يحترمها المسلمون قبل غيرهم. إن الحق لا ينتصر إلا بأتباع أيقاظ ساهرين مضحين، ولا ينتصر إلا بعد عراك مرير مع مبادئ وملل أخرى انخدع بها أصحابها واستماتوا هم أيضاً في نصرتها. وقد مرت قرون أربعة عشر على ديننا حوت من العبر ما يستحق الدرس، وقد كتبنا مقالا عن الخط البياني لمسيرة الإسلام نحب إيراده هنا. الرسم البياني لمسيرة الإسلام في العالم متموج مضطرب، قد يسمو فيصل إلى القمة وقد يهبط حتى يمس القاع. وليس ذلك مستغربا عندما نلاحظ السنن الكونية التي تحكم دنيانا، فإن هذه السنن تقلب الناس بين السراء والضراء ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) . ولا أريد الآن الحديث عما عرض للمسلمين في تاريخهم الممتد من نصر أو هزيمة، وإنما أريد التوقف طويلا لأتعرف على عوامل الصعود والهبوط في حياتنا العامة، وسأكتفي هنا بملحظ واحد أريد تجليته ولفت الأنظار إليه. ص _193(1/191)
ميدان اللغة والتربية والتشريع والتقاليد العامة! فماذا بقى على الموت الأدبى الذريع ؟ إن عودتنا إلى الإسلام هى عودة الروح إلى الكيان الهامد، وذلك ما يجب أن ينعقد عليه العزم، ونحن نودع قرنا ونستقبل قرنا أملاً باليمن إن شاء الله. يوم الإسلام قادم: نحن نعتقد أن المستقبل لنا لا علينا، وأن حكمنا الذى انهار سيقوم مرة أخرى شامخا عزيزا، وأن اليهود الذين يعربدون فى منطقتنا، ولهم على حكام العرب صولة ستخمد نارهم وتذوب دولتهم، وأن المد الصليبى والشيوعى والوثنى ستتبدد قواه ويعقبه جزر عميق. نعم.. فللإسلام جولة أخرى لا تقوم الساعة إلا وقد بلغت مداها ورفعت سناها. وتالى القرآن الكريم المتدبر معانيه يلحظ ذلك فى مواضع كثيرة.. اننى عندما أقرأ قول الله لعيسى ابن مريم: (...وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) أشعر أن يومنا قادم حتما، فإن هذا القول توجه إلى عيسى بعد أن وجه إلى الناس هذه العبارة الواضحة: (...وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ). فكفر من كفر بعيسى، وأسلم لله من أسلم. وأول المسلمين المستجيبين لدعوة عيسى هم الحواريون الذين قالوا: ( آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين . .) ثم نجيء نحن بعدهم. فالإيمان بالله الواحد، وبأن عيسى رسوله، هو وضعنا نحن المسلمين. ص _196(1/192)
شئنا أم أبينا؟ إن هذا تعبير غريب، لكن غرابته تذهب عندما نقرأ قوله تعالى في مفتتح الحديث عن انتصار " بدر " : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ). إن القدر ساق التمكين سوقا إلى القلة المؤمنة في صحراء الجزيرة لأنها أجدر به وأولى.. إن من مصلحة الدنيا أن يقع هذا التحول، وأن ينتزع زمام التوجيه من أيدي الوثنيين ليوضع في أيدي المؤمنين الذين ترشحوا له بمواهبهم ومكاسبهم المعنوية أكثر مما ترشحوا له بدعاواهم وأمانيهم العاجلة.. ويظهر ذلك جليا في فتح مكة. فإن المعاهدة التي ألتزمها المسلحون كانت تزخر هذا الفتح عشر سنين، ولكن الوثنية الحاكمة هى التي سعت إلى حتفها بظلفها، فغدرت وعبثت واستقدمت المسلمين بعد سنتين ليتسلموا مقاليد الأمور في أم القرى.. إن المسلمين في هذه الأيام الغابرة لم يكونوا مشغولين بالتطلع واستعجال السيادة، بل كانوا مشغولين بتزكية أنفسهم وتنميتها بما يرضي الله، كانوا مشغولين بمضاعفة أنصبتهم من التقوى والأدب والأمل والعمل بما يجعلهم أئمة خير وبر، فكانت العقبى لهم، وأقبلت الدنيا عليهم، وما كانوا فيها يؤملون، ولا لها يعملون. ومضت السنن الكونية في عملها العتيد الخالد فغربت الشمس عن " المدائن" و " القسطنطينية " لتشرق في " مكة " و " المدينة ". وانتقلت عواصم الحضارة إلى جزيرة العرب. أترى ذلك تم عن محاباة أو مصادفة؟ كلا، إن المصلحة العليا للإنسانية هى التي اقتضت ذلك، إن التقاليد السياسية لعمر في المدينة المنورة كانت أشرف ص _197(1/193)
ألف مرة مما عرف الفرس والرومان، كان المسلمون يومئذ فلاسفة فى حقوق الإنسان كما كانوا فلاسفة في حقوق الرحمن، أما خصومهم فكانوا قطعانا من الأميين تتخلف بهم الحياة ويسود وجهها.. فلندرك ـ نحن المسلمين المعاصرين ـ هذه الحقائق، إن التاريخ ليس سجل معارك حربية منتصرة أو منكسرة، قدر ما هو سجل مستويات عقائد وأخلاق وقدرة على تطويع الحياة للقيم الرفيعة.. وآباؤنا الأوائل نماذج عملية لذلك كله.. وطبيعي أن يحفل تراث النبوة بما يشرح الخط البياني لسير المسلمين وأن يحذر من الفتن الكثيرة التي تملأ الطريق. والفتن في حياة الأفراد والجماعات شيء لا بد منه، ومواجهتها باليقظة والرشد حق على كل مؤمن، وقد وقر في بعض الأذهان أن الفتن حكر على الفصل الأخير من رواية الإنسانية، وأن المسلمين سوف يواجهون آخر الزمان جزرا لا مد معه، وأدواء لا أدوية لها. وهذا جهل كبير، والواقع أن أحاديث الفتن لا يجوز أن يقرأها العامة، ولا أرى أن يقرأها إلا أخصائيون في علل المجتمعات وأطوار الأمم وأسرار التاريخ.. إن الحديث عن غُربة الإسلام ليس حديثاً عن مستقبل دين كما يتوهم البعض، ولكنه حديث عن عرض يعرو الدين حينا ثم يذهب بذهاب أسبابه. وقد يعود مثنى وثلاث ويذهب كذلك لأن معنى الحديث الوارد هو أن الخط البياني لسير الإسلام لن يأخذ طريقه صعدا مع موجة الفتح الأول، بل سيتراجع وينحرف وتغلب الفتن، ثم ينصر الإيمان وينجح رجاله مرة أخرى في استعادة سيطرتهم وتفوتهم ويبدأ الإسلام صفحة جديدة، لا تبقى جدتها طويلا، بل تناوشها الفتن تريد طيها، ويبقى الصراع الأيدي بين الحق والباطل إلى قيام الساعة. ونستطيع أن نؤكد أن البعث يجيء وللحق أنصار شداد وألوية مرفوعة وكتائب تحميه وتقرر هيبته وتستبقى كتابه العزيز، إن هذا ما ينضح به قوله ص _198(1/194)
تعالى: ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ). لقد مرت بالمسلمين قرون أربعة عشرة، فيها قرون حية، وأخرى هامدة، فيها أيام مزهرة بالعلم وأخرى مظلمة بالجهل. وامتددنا حتى أدبنا الجبابرة، وانكمشنا حتى استنسر بأرضنا البُغاث.. ليكن، فتلك طبيعة الحياة الدنيا.. والدرس الذي لا يجوز أن يغيب عنا أننا ما فقدنا الصدارة قط ونحن أوفياء لربنا ونبينا. ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) ومن قدرنا نحن مسلمي القرن الرابع عشر أن تسقط الخلافة الإسلامية في أوائل هذا القرن، وما هذه أول مرة تسقط فيها الخلافة، لقد ديست فى بغداد على أيدي الهمج في القرن السابع.. وسقوط الخلافة الإسلامية حدث شنيع، ولكنه مهما قبح دون سقوط الثقافة الإسلامية …!! لقد بقى العلم الإسلامي يضع في العقول النور ويضع في القلوب اليقين. وكافح العلماء حتى صنعوا أجيالا أشرف وأزكى وعادت الخلافة مرة أخرى ترفع علم التوحيد في المشارق والمغارب.. وخصوم الإسلام في هذا العصر مستميتون أن يسقطوا معاقل الثقافة الإسلامية وأن يردموا منابعها أو يلوثوها ما استطاعوا، وذلك حتى لا تعود للإسلام وحدته الكبرى ودولته الجامعة، ومن ثم فإن الجهاد العلمى الآن فريضة محكمة، إن الثقافة الحارسة لتراثنا كفاح أدبى هائل النتائج، بل إنه الكفاح الذي يوزن فيه بدماء العلماء بدماء الشهداء.. أذكر أن الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ـ طيب الله ثراه ـ قال لي: عندما أسقط الحلفاء الخلافة فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، قررت جميع القوى ص _199(1/195)
التي شاركت في ذلك أن تنتقل إلى القاهرة كي تضرب ضربتها الأخيرة بوصف القاهرة هى العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي.. لكن موطن الأزهر قاومت ولا تزال. ونرجو أن تظل راية الثقافة الإسلامية مرتفعة في مصر، وشتى عواصم الإسلام. وإنى إذ أقرر هذه المقاومة لا أريد الترويج لخدعة كبيرة يفهم منها أن التعليم الديني بخير، وأن الثقافة الإسلامية في أمان. العكس هو الصحيح، والمسلمون يعانون أزمة ضروسا في الدعاة والمربين، والفقهاء والمفتين. والميدان الإسلامي من عشرين سنة ينتقص كما وكيفا، وهنا مكمن الخطر.. لقد قلت: إن الهزائم العسكرية عرض يزول، أما الهزائم الثقافية فجرح مميت، والثقافة الصحيحة هى التي تبني الإنسان المسلم والمجتمع المسلم على قواعدها الركينة من كتاب الله وسنة رسوله، وعبقرية البناء الصحيح المتين هى التي استبقت صرح الإسلام إلي يوم الناس هذا... إنه أمام التمزيق المتعمد للرقعة الإسلامية الكبرى لا بد من ثقافة تؤكد وحدتنا العاطفية والفكرية، وأمام المغالاة بالقشور والرسوم والمخاتلة بالصور الشائهة نريد ثقافة تنشيء العقل المسلم والضمير المسلم والسلوك المسلم، وأمام العجز الشائن في شئون الدنيا نريد ثقافة تجعل عبادة الله سواء في المسجد والمصنع... لقد ضاقت نفسي بلفيف من الناس يدعون الإسلام ولا جهد لهم إلا استفزاز الأقوياء وتلقي الضربات.. أما العمل الصامت الذكي لخدمة الإسلام وأمته فقلما يحسنون. وما كان ذلك دأب سلفنا الذين امتلئوا أمانات وكفايات من أخمص القدم إلى ذؤابة الرأس، اقتحمتهم العيوم أول ما خرجوا من الصحراء، فلما اشتبكوا مع أبناء الحضارات المدبرة في فارس والروم جثا التاريخ بين أيديهم يُسَجِّل ويَرْوى. ص _200(1/196)
ومهما تكن الهزائم التي أصابتنا خلال هذا القرن فإن يوم الإسلام قادم لا ريب فيه. إن الدنيا هينة على الله، بيد أن اكتمال الصورة لامتحانها الطويل لا بد منه، ومن معايم العزة الإلهية أن يجعل الله فصولها الأخيرة نضرة للحق، وهواناً للباطل في الصورة التي يشاؤها، تبارك اسمه. سنظل نقاتل الإلحاد الشيوعي، والعدوان اليهودي، والاستعمار الصليبي تحت علم التوحيد وسيكون القتال قاسيا كثير الشهداء. وفي ذروة هذه المعركة سينزل عيسى ابن مريم ليكذب بنفسه الذين جعلوه إلها مع الله، ولن يقبل هدنة إلا إذا اندحر الباطل وسويت قلاعه بالرغام ..!! على أن الميدان الأول للدعاة هو " نفوسنا وصفوفنا ". إننا جهلة بديننا ومتعدون لحدود الله، إن صفوفنا مزقتها الأهواء والفوضى.. وتوجد أصوات جهيرة حينا، وخافتة حينا، تهيب بالأمة التائهة أن تستوي على الصراط.. إنها صدى الصوت الأول، صوت النبوة التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، فهل نفتح لها مع مطالع القرن الجديد صفحة جديدة؟ ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة ) التعصب للحق: التعصب وصف رديء عندما يكون معناه جمود الفكر، وانحصار الأفق، والتشبث بالهوى، والجنوح إلى الباطل مهما بدا عواره. ص _201(1/197)
ونحن نرفض هذا الوصف ونأباه على أنفسنا وقومنا. ولكن عندما يكون التعصب أثرا لاحترام الحق، وإكبار أهله، ودعم جانبهم، وكره عدوهم، فإن التعصب هنا يرادف الإيمان والجهاد، ولا يتخلى عنه امرؤ ذو دين !! وفي العالم اليوم: * حقائق أرخصها الضعف. * وحقوق هضمها البغي. * وقوى شرسة استمرأت العدوان. * ومسلمون طمع فيهم من لا يدفع عن نفسه، حتى كان البغاث بأرضنا يستنسر! أفلا يوقظنا مرأى هذه الصور الكريهة إلى أن نعرف من نحن؟ وماذا نحمل من رسالات الله؟ وماذا نستطيع أن نسديه لأنفسنا وللعالم أجمع لو غالينا بديننا وتاريخنا، وشققنا الطريق إلى المستقبل على سناه الهادي؟؟ وعندما أقرأ سورة " الممتحنة " يحيا في نفسي معنى التعصب للحقيقة، والدفاع عنها، والوقوف إلى جانبها على رقة الحال، وكآبة المنظر في الأهل والمال !! إنه ليس من الشرف أن أجامل من يهين الحق، وليس من صدق اليقين أن أمالئه وأترضاه. وقد نزلت سورة " الممتحنة " لتلقن المؤمنين هذا الدرس حتى يبقى حياً في نفوسهم إلى يوم الدين، فقال جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) ص _202(1/198)
عيب واضح أن أصادق عدو الله وعدوي، وأن أبسط يدي ولسانى له بالسلام، وهو يزدري ما عندي، ولا يتوانى!! ومن هنا عدلت السورة النهي عن المصافاة، فقالت بعد إثبات كفرهم: ( يخرجون الرسول وإياكم ) . لماذا؟: ! ( أن تؤمنوا بالله ربكم ) . ثم اطرد السياق القرآني يقول: ( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ) . أي فلا تسلكوا هذا المسلك، وتطووا قلوبكم على حب من طردكم وأهانكم !! كيف تفعلون هذا؟.. ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) . والتعبير بـ " أنا " في هذا الموضع يفرض علينا أن نتوقف قليلا لنتدبره فقوله جل شأنه: ( وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) . فيه معنى التحذير من الرقيب الخبير. وهذا المعنى صرحت به ـ كما أشرنا من قبل ـ سورة أخرى في مثل هذه القضية قال تعالى ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ) والغريب أن هذا التحذير يتكرر في الموضع نفسه، مؤكداً علم الله بما نخفي وما نعلن، حتى لا نتورط في مسالمة عدو يبتغي إبادتنا، أو الوقوف منه موقفا بعيداً عن الصرامة والمفاصلة، فقال جل شأنه : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه ) ص _203(1/199)
تحذير يتكرر مرتين بعبارة رهيبة هى: (... ويحذركم الله نفسه ) إنها هناك توضيح لقوله هنا: ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ). هكذا بدأت سورة " الممتحنة " تعلمنا ضرورة التعصب للحق، والتمسك بأهدابه، وكراهية المعتدين عليه، والنفور من مودتهم. وإذا كان هذا المعنى الحاسم قد تصدرها: فإنه قد تمشى في آياتها على صور متفاوتة، ثم كان لها الختام المبين فقال جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) . إن الأحياء من الكفار قد قنطوا من عودة إخوانهم الذين ماتوا إلى الحياة مرة أخرى أو أن الموتى من الكفار قد يئسوا من الحصول على مكانة عند الله فى الدار الآخرة. سواء أكان هذا المعنى أو ذاك فإن المؤمنين لا يليق أن يصادقوا قوما تلك حالتهم !! ولنلق على السورة من بدئها إلى ختامها نظرة جامعة نتعرف بها أسباب النزول كما ذكرها المفسرون والمؤرخون. لقد استغرق نزول هذه السورة ـ على وجازتها ـ قريبا من عامين، وصدرها نزل في السنة " الثامنة " عندما قررت الكتائب المؤمنة أن تجهز على الوثنية المتحكمة في مكة، وأن تعيد إلى دائرة التوحيد هذا المعقل الأشم. ووسط السورة نزل في السنة " السادسة " بعض ما تم لا "عهد الحديبية " بين المسلمين وأهل مكة، وبدأ التنفيذ وظهرت بعض المشكلات. ص _204(1/200)
وآخر السورة نزل بعد الفتح الكبير، وإقبال أهل مكة رجالا ونساء على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بتعاليم الإسلام. ومع الاختلاف الزمني الملحوظ في نزول الآيات فإن ترتيبها لم يفقد ذروة من الاتساق والتماسك. بل هو نسق من الإعجاز الساري في أسلوب القرآن الكريم كله. وأشعر بأن القرآن في علم الله القديم كان على هذا الترتيب الذي نحفظه، وأن الآيات كانت تنزل وفق الأحداث، ثم يؤمر الرسول بوضعها في مكانها توقيف إلهي، فتعود إلى وضعها الأزلي على النحو الذي يقرأ الآن. والمحور الذي دارت عليه السورة كلها، هو الحب والبغض فى الله، وهو قاسم مشترك بين أجزاء السورة منذ بدأ النزول، ولذلك فإن وحدة الموضوع ظاهرة شائعة فيها، ففي أوائل السورة نقرأ كيف رفض القرآن الكريم ما وقع من " حاطب بن أبي بلتعة " الذي راسل أهل مكة يخبرهم باستعداد الرسول للسير نحوهم، كي يأخذوا أهبتهم !! وهو عمل شنيع، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن الرجل تقديراً لسابقته في خدمة الإسلام لكان جزاؤه القتل. وهنا نرى الوحي ـ بعد استنكار التصرف السابق ـ يقول للمؤمنين : ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ) . أي لا يجوز أن يخفف شيء ما من حدة الخصام للكفر وشيعته، ولو، كان الحرص على القرابة والولد والمال فإن جانب الله أولى بالرعاية. والمثل الأعلى أن يقول المؤمنون لأعدائهم: ( إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ). ص _205(1/201)
وهذه مصارحة بالقطيعة في سبيل الله، ومعالجته بالحب لله والبغض لله. وليس أمام المؤمنين إلا هذا السلوك. وقد كان إبراهيم والمؤمنون معه على هذا الغرار، وإذا كان إبراهيم قد لاين أباه يوما وقال له: ( إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ). فذلك اللين ليس مهادنة للضلال، ولا ضعفا في الإحساس بحق الله.. كلا: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ). وهكذا انقطعت أغلى الصلات إيثارا لحق الله. إن حق الله على عبده لا يرجحه شيء في الأولين ولا في الآخرين.. والاستهانة به ضلال مبين. هل هذا التهجم الشديد ضد الضلال والضالين يرجع إلى غلظة طبع أو شراسة خلق ! لا.. لا.. إننا في شوق إلى سيادة السلام، وامتداد عواطف الحب إلى كل قلب، والأمر بيننا وبين خصومنا واضع مستقيم، ومن حاسننا حاسناه، وكنا أسرع إليه بالود والرحمة. ولكن كيف نلين مع من استباح كرامتنا، ونشد إساءتنا وإهانتنا، وأخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ إن مصادقة من يفعل ذلك بنا نذالة وخسة يهبط إليها مؤمن قال تعالى:3 ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ص _206(1/202)
ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ). والظلم هنا: الهوان، قبول الدنية، والاستكانة إلى الضيم، والرضا بحياة الفسوق والمروق، والعيش في كنف الفاسقين المارقين. هذا صدر السورة الذي استغرق نصفها، ونزل في السنة " الثامنة ". أما وسطها الذى نزل من قبل، فهو يعود بنا إلى نص في معاهدة الحديبية يقضي بأن يرد المسلمون عن المدينة من لحق بهم مؤمنا من أهل مكة، وإن كان أهل مكة يقبلون من لحق بهم مرتدا..!! ومع أن الأيام أثبتت جدوى هذا النص على المؤمنين إلا أن القرآن الكريم استثنى النساء ابتداء من تطبيقه وأمر المؤمنين أن يمتحنوا المؤمنات الفارات بدينهن فإذا علموا منهن صدق الاعتقاد وشرف الغاية قبلوهن في المجتمع الإسلامي فوراً. إن هؤلاء النسوة المهاجرات التاركات لأزواج كافرين بجب أن نرحب بهن وأن نقدم تحية إكبار للعاطفة التي خرجت بهن إلى دار الإيمان. لقد كرهن رجالهن وفارقنهم لله فلا ينبغي أن يعدن لهم ، قال تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ). وإتماماً لإقامة المجتمع على احترام الدين، وإعزاز مشاعر الحب والبغض لله صدر الأمر بتسريح الزوجات الكافرات: ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ). إن قبول هؤلاء النساء المؤمنات ومفارقة الكافرات تشريع متكامل وحكمته واضحة وقد نفذت معاهدة الحديبية بالنسبة إلى الرجال الذين ما لبثوا أن نظموا ص _207(1/203)
حرب العصابات ضد أهل مكة حتى اضطروهم إلى أن يطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قبولهم في المدينة ونصل إلى آخر السورة لنقرأ بيعة النساء، كان ذلك بعد فتح مكة واستسلام أهلها لكتائب الرحمن. إن أولئك الناس طالما آذوا الله ورسوله. وها هى ذي هند المرأة التي أكلت كبد حمزة قد أعلنت دخولها في الإسلام، فماذا نصنع معها؟! لا شيء ننسى الماضي، ونغفر الأخطاء ونعلمها وصاحباتها كيف يتأدبن بآداب الإسلام، ثم يصبحن بعد أخواتنا: ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) نعم.. إن الله غفور رحيم، فلننس الماضي ولنتحاب في الله. لقد كان القرآن في هذه السورة يرقب متاب هؤلاء وعودتهم إلى الصواب وإقلاعهم عن إيلام المؤمنين، قال تعالى: ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ) . والمودة المرتقبة إنما تقع من أناس يخف ضغط التعصب على قلوبهم ورؤوسهم، ويجوز أن تنقشع غيوم الغفلة عن آفاقهم وضمائرهم. فإن المرء قد يخطئ لملابسات معينة أحاطت به، وربما ظل على خطئه لأن هذه الملابسات بقيت في مكانها، لم تجد من يزيلها أو ينتقصها. لكن ما الموقف إذا تشبث الإنسان بالزلل وهو يُدعى إلى الاستقامة؟ ص _208(1/204)
أو أصر على الخطأ وهو يرى وجه الحق وضيئا مشرقا؟ إن هذا الإنسان أجدر خلق الله بالمقت وأولاهم بالعقاب الآجل والعاجل.. وإنك لترى الوحي الإلهي طافحا بالوعيد وهو يتناول أولئك الجاحدين من صرعى التعصب الأعمى: ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ). ولنلفت النظر إلى أن الغفلة هنا ليست قصور عقل عن المعرفة الغائبة، ولكنها بلادة قلب عن استيعاب المعرفة المبذولة، والنصح القريب! وهذا هو التعصب الذي يأباه على نفسه كل عاقل أو منصف. والقرآن في آيات كثيرة يلمح إلى هذا المعنى وإن لم يذكر التعصب بلفظه، فإذا قال تعالى ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ). فإن المقصود أناس طال نصحهم وطالت لجاجتهم، طال تعليمهم وطال صدودهم... وليس المقصود وصف أقوام تعرض عليهم الدعوة لأول مرة. وبديهي أن ينتهى هذا الصدود بما ينتهي به كل جحد وتبجح، من استمراء للشر واستهانة بالخير واستحلاء للقبيح. ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ). وقد صحب التعصب من قديم حيف شديد على أهل الإيمان، وتطاول على أهل الإيمان وتطاول حقوقهم المادية والأدبية وتصوير كذوب لأقوالهم وأعمالهم وإلحاق للمعايب. ص _209(1/205)
والمقابح بسيرتهم وتاريخهم وكان نصيب الأمة الإسلامية كبيراً من هذا التعصب الجائر الآثم. ولست أستغرب مسالك الأشرار إذا جاءت وفق طبائعهم، فإن الذئب المفترس لا يستكثر عليه أن يعقر ويغتال. إنما الغرابة من موقف المسلمين الذين كثرت حولهم الأنياب الجائعة، والطوايا الكنود، ومع ذلك فهم غارون مسترسلون في " طيبتهم " وتهاونهم... فإلى متى؟ إن أرضنا انتقصت من أطرافها شرقاً وغرباً وفق خطة رسمت بأناة وروية... ثم بدأت الإغارة على قلب العالم الإسلامي استكمالاً للإجهاز عليه طولاً وعرضا"، فهلا عرفنا ما يراد بنا؟ إن في العالم الآن طوفاناً نجساً من التعصب ضد الإسلام وأمته، وأمامى وأنا أكتب هذه السطور أنباء الدماء المراقة والأشلاء المحرقة للمسلمين المستضعفين في الفيليبين، وما قصة الإسلام الذبيح في الفليبين إلا نموذج مكرر لأقطار أخرى من الأرض أهين فيها الدين واستبيح حماه، وشرد أهلوه، وأكلت حقوقهم بل إن المسلمين ـ حيث يكونون كثرة في بلاد أخرى ـ تجرأ عليهم كل ذي ملة، وتطلع إلى ما لم يكن يحلم به في يوم من الأيام !! ألا نتعلم التعصب للشرف والعرض والأرض في هذه الظروف العصيبة؟ لعلنا... لعلنا فإذا تحقق ما نصبو إليه فلله الحمد.. نحن ما نسعى إلى قتال ولا نشتاق إلى سفك دم. لكن إذا فرض علينا القتال فإن الذرة من التهاون في كراهية المعتدين جريمة توجب أن ندخل المعركة بكل ما لدينا من غضب وقسوة وصرامة.(1/206)