الدعوة إلى الله في ميادينها الثلاثة
حمد بن حامد آل عثمان الغامدي
المقدمة
الحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة السلام على عبده ورسوله النبي الأمي ، الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين ، ومن اقتفى أثرهم ، وسارعلى هديهم إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن الدعوة إلى الله تعالى باب واسع ، ومهمة كبرى ، وأمانة عظمى ، لايؤديها حق الأداء ، ويقوم بها حق القيام ، إلاّ الأنبياء والرسل عليهم السلام ، لما آتاهم الله تعالى من قوة على حملها ، وقدرة على أدائها . أما من هم دونهم من الدعاة إلى الله تعالى ، فإن كلاً منهم يضرب فيها بسهم ، ويأخذ منها بنصيب ، قلّ أو كثر ، بقدر ما أوتيه من التوفيق والسداد ، والصبر والجهاد ، والعلم والحلم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
ولقد بعث الله تعالى رسوله المصطفى ونبيه المجتبى ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، خاتماً للنبيين ، وإماماً للمتقين ، وهداية للخلق أجمعين . فكان دينه أكمل الأديان ، ورسالته أشرف الرسالات ، ومهمته أعظم المهمات ، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته ثلاثاً وعشرين سنة ، في صبر وثبات ، وحلم وأناة ، وقوة وجهاد ، وحكمة وسداد ، مؤيداً بالوحيين ، وداعياً إلى الشهادتين ، فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم خلال هذه المدة تجري في ميادين ثلاثة كبرى :
أولها : ميدان البيان والتبليغ .
وثانيها : ميدان التزكية والتعليم .
وثالثها : ميدان الجهاد والتمكين .
حتى أظهر الله على يديه الدين ، ونصر به عباده المؤمنين ، وخذل وأخزى المعاندين من الكافرين والمنافقين ، فله تعالى الحمد والمنة ، والثناء الحسن والتمجيد .(1/1)
وإنه لما كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قد شملت هذه الميادين الجهادية الثلاثة، دلّ ذلك على أن إبلاغ الدين ونشره ، وإظهاره على الدين كله ، لايتأتى لأحد إلاَّ بخوض هذه الميادين الدعوية الجهادية ، لمن أراد أن يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، ويقوم بعده بالمساهمة في إتمام إبلاغ رسالته ، حتى يكون هذا الدين ظاهراً ، بالغاً مابلغ الليل والنهار.
ولانعني أن الداعية الفرد لابد أن يخوض غمار هذه الميادين الدعوية جميعها بنفسه ، ولكن نقول ، إن هذه الميادين الدعوية الثلاثة لابد من قيامها ، لإقامة الدين ، وإظهاره ، ونشره في العالمين ، ولايغني ميدان منها عن غيره من الميادين . وربما احتيج لميدان منها في بلاد ، واحتيج لميدان آخر في بلاد غيرها، ثم تتكامل الجهود ، وتتوحد السبيل ، وتتحقق الغايات ، فإذا العمل واحد ، والسبيل واحد ، والغاية واحدة ، وإذا الأمة قد اجتمعت على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهنالك الغاية والمراد.
وإن هذا ليدعونا إلى التنبيه والتأكيد ، على أهمية التكامل بين العاملين في الدعوة إلى الله تعالى ، في هذه الميادين الثلاثة الكبرى ، على اعتبار أن كل ميدان منها جزء من الدعوة الشاملة ، والمهمة الكاملة التي أداها الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل الأداء ، وقام بها أتم القيام .
وإذن فلا خوف ولاتعارض بين جهود الدعاة في هذه الميادين الثلاثة ، مادامت كلها على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأثره في دعوته . بل هي دعوة واحدة ، كل فيها يعمل بحسب ما آتاه الله من قدرة وطاقة وموهبة ، ويقوم بدور لايقوم به غيره ، أو أنه يقوم به مع غيره ، فيتم التكامل والتعاون والتآزر بين الدعاة إلى الله .(1/2)
فمن كان في البلاغ فهو في البلاغ ، ومن كان في الجهاد فهو في الجهاد ، ومن كان في تعلّم العلم وتعليمه فهو كذلك . فالكلّ يعمل في نصرة دين الله وإعلاء كلمته . متمماً لجهود إخوانه ، موفياً بحاجة الدين له في ميدانه .
وإنه لمن المؤسف أن يغيب هذا الفهم عن كثير من الدعاة اليوم ، جماعات وأفراداً ، حتى أصبح كل منهم يعادي أخاه الداعية المسلم إن لم يكن معه في ميدانه ، أو جماعته وحزبه ، حتى استحكم العداء والفرقة بين كثير من الدعاة والجماعات ، وما ذلك إلاّ لسوء الفهم وقصوره ، والاحتكام إلى الآراء والتحزبات ، والاعتقاد الفاسد بأن الدعوة قاصرة على مايعمله كل منهم في ميدانه ، وعلى منهجه وطريقته ، وأن غيره يعمل في غير طائل ، فتفرقت الكلمة ، وحصل التنازع ثم الفشل ، مما سنورد بيانه فيما يلي من السطور إن شاء الله، بقصد أنه إذا عرف الداء ، عرف الدواء ، وأمكن بإذن الله الشفاء .
كانت هذه الحال التي تمثلها جماعات الدعوة القائمة اليوم ، والأسباب التي أدت إليها ، سبباً قوياً دعاني إلى التفكير والتأمل في أمر الدعوة إلى الله ، وماينبغي أن تكون عليه وقد تبين لي أن كل حالات القصور والانحراف في طرق الدعوة وأساليبها القائمة اليوم ، إنما كانت بسبب الاجتهادات القاصرة حيناً والخاطئة أحياناً ، وأن الفهم الصحيح للدعوة إلى الله ، والطريق القويم فيها ، إنما يكون باتباع منهج القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة في الدعوة اتباعاً كاملاً ، غير مبتور ، ولامجزأ ، وأن سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته هو أصح السبل وأصدقها ، ولانحتاج بعده إلى الرأي والتخمين .(1/3)
فلما استقر عندي هذا اليقين ، وعلمت أن لاسبيل غيره للدعوة الصحيحة ، والمنهج القويم ، شرعت مستعيناً بالله تعالى في تأليف كتاب يتضمن الرؤية الشاملة ، والمفهوم الواسع للدعوة إلى الله تعالى ، من خلال المنهج القرآني ، والسبيل النبوي في الدعوة لا أعدوه ، مستهدياً بقوله تعالى : {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108] .
وقوله تعالى : {وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}[الأنعام:153] .
وأسميته : (( الدعوة إلى الله في ميادينها الثلاثة الكبرى )) .
وقسمته إلى ثلاثة فصول كل فصل منها يتضمن الحديث عن ميدان من ميادين الدعوة ويشتمل على عدد من المباحث المتعلقة به . وقد رأيت أن أمهّد لهذه الفصول والمباحث بتمهيد أُلقي فيه الضوء على أهمّ الأسباب التي أدّت إلى الخلاف بين الدعاة ـ اليوم ـ ، كما أدّت إلى بعض التحريف أو الانحراف عن المنهج القرآني ، والهدي النبوي في الدعوة والتبليغ . ثم تأتي فصول الكتاب ومباحثه بعد ذلك على النحو التالي :
الفصل الأول : ميدان البيان والتبليغ
ويشتمل على المباحث التالية :
... المبحث الأول : أهمية الدعوة إلى الله وفضائلها .
... المبحث الثاني : مهمة حامل الرسالة ومضمون البلاغ المبين .
... المبحث الثالث : الحكمة في البلاغ والدعوة إلى الله .
... المبحث الرابع : سبل البلاغ المبين ، وهما :
... سبيل الدعوة الفردية :
... ... الزيارة ـ الرسائل والمكاتبات ـ اغتنام اللقاءات العارضة .
... سبيل الدعوة العامة :
... ... الخطابة ـ المواعظ والدروس ـ الكتابة والتدوين .
... المبحث الخامس : صور البلاغ المبين :
... 1- العرض والبيان . ... 2- الصدع بالحق .(1/4)
... 3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
... 4- البشارة والنذارة ... 5- تعليم العقائد والأحكام
... 6- الموعظة الحسنة . ... 7- المجادلة بالتي هي أحسن .
... 8- سرد القصص للعبرة والعظة . ... 9- ضرب الأمثال .
... 10- الدعوة إلى التفكر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية .
المبحث السادس : مايترتب على البلاغ المبين من أمور .
أولاً : بالنسبة للداعية : 1- الحرج ... 2- التعرض للأذى ... 3- الحزن على المخالفين من غفلتهم والضيق من مكرهم .
... 4- خطر الوقوع في العجب والزهو . ... 5- المجاهدة .
ثانياً : بالنسبة للمدعوين :
... 1 - اختلاف أحوالهم وحاجتهم للدعوة .
أ - فمنهم من يحتاج إلى الحجج الدامغة والبراهين القاطعة المثبتة لوجود الله وسلطانه على خلقه .
ب - ومنهم من يحتاج إلى دعوته بأن يشهد أن إله إلاّ الله .
جـ - ومنهم من يحتاج أن يدعى إلى تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله.
د - ومنهم من يحتاج إلى إفهامه مقاصد الدين العامة ، وما للدنيا وما للآخرة .
هـ - ومنهم من يحتاج إلى أن يدعى إلى تصحيح عباداته ، ومعرفة أحكامها .
2- اختلاف مواقفهم تجاه الدعوة والبلاغ :
... أ - طائفة تستجيب للدعوة ، وتنضم تحت لوائها .
... ب - طائفة ترفض الدعوة ، وتناصبها العداء .
... جـ - طائفة لاتقاوم الدعوة ، ولاتستجيب لها .
ثالثاً : مواقف الدعاة بحسب حال المدعوين :
أ - مواقفهم من المستجيبين للدعوة ، المصدقين بها .
ب - مواقفهم من المحادين لله ورسوله ، المعاندين للدعوة .
جـ - مواقفهم من المسالمين للدعوة ، غير المستجيبين لها .
الفصل الثاني : ميدان التزكية والتعليم .
ويشتمل على المباحث التالية :
المبحث الأول : الحاجة إلى تكوين الوسط الاجتماعي للدعوة ، ويتضمن :
... أ - أهمية تكوين الوسط الاجتماعي للدعوة .
... ب - البيئة المكانية .
... جـ - الروابط الإيمانية في الوسط الاجتماعي للدعوة :(1/5)
... 1- التآخي ... 2- التحاب ... 3- الإيثار
... 4- التعاطف ... 5- التعاون ... 6- التناصر
... 7- حب الله ورسوله ... ... 8- لزوم الجماعة .
المبحث الثاني : سبل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة:
أولاً - القدوة الطيبة والأسوة الحسنة . ... ...
ثانياً - مخالطة المدعوين والتواضع لهم .
ثالثاً - حثهم على الصبر والتحمل ومواساتهم في ذلك .
رابعاً - الإكرام وتأليف القلوب ، ويتضمن :
... ... أ - لين الكلام وعذوبة المنطق .
... ... ب - التبسم وطلاقة الوجه .
... ... ج - العفو والإحسان .
... ... د - الثناء وذكر الفضل لأهله في غير مبالغة .
... ... هـ - إنزال الناس منازلهم .
... ... و - البذل والعطاء .
... ... ز - الرفق بالناس والتواضع لهم .
... ... ح - الضيافة وحسن الاستقبال .
... ... ط - المكافأة والجائزة .
... ... ي - البشارة .
خامساً - الشورى .
سادساً - إسناد المهمات إلى الأكفاء بحسب الطاقات .
سابعاً - تمكين المخلصين الصادقين من الصدع بالحق وعدم مؤاخذتهم على نتائجه .
ثامناً - المواعظ والقصص .
تاسعاً - التعليم والتعلّم .
عاشراً - الجمع بين العلم والعمل .
حادي عشر - الوصايا .
الفصل الثالث : ميدان الجهاد والتمكين
المبحث الأول : مرحلة الإعداد الإيماني العقدي لإظهار الدين ونشره ؛ وتتضمن :
1- التربية والتزكية .
2- غرس العقيدة الصحيحة وتمكينها في النفوس .
3- التعبد والتبتل .
4- تعميق مبدأ الولاء والبراء في النفوس المؤمنة .
5- الاستعداد للتضحية والفداء .
المبحث الثاني : مرحلة العمل الدعوي الحركي : تتضمن مايلي :
أولاً - إظهار الدين بالحجة الدامغة والبرهان القاطع . ...
ثانياً - الصبر والثبات .
ثالثاً - الهجرة . ... ...
رابعاً - طلب النصرة والمنعة . ...
خامساً - الجهاد في سبيل الله .
سادساً - إقامة الدين وتطبيق شرائعه .(1/6)
هذا ولقد تفضّل صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد مشكوراً ، مأجوراً إن شاء الله ، بالاطلاع على هذا الكتاب ، ومراجعته من أوله إلى نهايته ، على كثرة مشاغل فضيلته ، وتعدد مسئولياته . وقد أفدت من ملاحظاته العديدة ، وتوجيهاته السديدة ، أيما فائدة . فشكر الله لفضيلته ، وثقّل بعمله هذا موازين حسناته ، ونفع به وبعلمه الإسلام والمسلمين .
وإني لأرجو من الله العلي القدير ، أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين ، وما أصبت فيه فبتوفيق من الله ورحمة ، وما أخطأت فيه فبذنب مني ، وكيد من الشيطان الرجيم ، واستغفر الله من كل ذنب وخطيئة ، وعليه أتوكل ، وإليه أنيب . وصلّ اللهم على عبدك ورسولك محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً .
مكة المكرمة
الثلاثاء 9 ربيع الثاني 1418هـ ... محمد بن حامد آل عثمان الغامدي
تمهيد
أهمّ أسباب التنازع والخلاف بين الجماعات الدعوية اليوم
لقد كثر ـ في زماننا هذا ـ الجدل بين الدعاة إلى الله ، الذين أقاموا أنفسهم لنصرة الدين ، ونشره ، وهداية الناس به ، وإرشادهم إلى سبيله ، في أمور اختلفوا عليها ، وتفرقوا بسببها ، وليست مما يوجب الخلاف والتفرق ، لولا ما استحكم في النفوس من عصبيات ، وتحزبات ، لآراء واجتهادات ، أو لأشخاص وجماعات ، فكانت هذه العصبيات منفذاً للشيطان إلى صفوف هؤلاء المؤمنين ، ومعولاً في يده لهدم ما اجتهدوا في بنائه ، وضحوا في سبيل تشييده ، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى الله وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء:59] .(1/7)
ولا قوله تعالى : {وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}[الأنعام:153] .
وقوله تعالى : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105] .
وقوله تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ}[آل عمران:103] .
وقوله تعالى : {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ}[الشورى:13] .
وقوله تعالى : {إِنّ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لّسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ}[الأنعام:159] .
وكأنهم نسوا أو تناسوا ماحذرنا الله منه مما حل بالأمم السابقة من أهل الكتاب من تفرق في العلم ، وبغي في الرأي ، قال تعالى : {وَمَا تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ}[البينة:4] .
وقال تعالى : {وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}[الشورى:14] .
فكان هذا التفرق والتحزب بين الدعاة المجتهدين في دعوتهم ، سبباً للتنافر، والتدابر فيما بينهم ، حتى استحال كثير من جهودهم إلى هباء ، بل صوب بعضهم إلى بعض سهامه بالتهم ، والسخرية ، والكيد ، ونحو ذلك ، حتى غدت المعركة التي كانوا فيها صفاً واحداً أمام الشيطان وحزبه ، غدت دائرة تدور عليهم ، وتقوض أطناب مابنوه ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .(1/8)
قال الله تعالى : {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الله مَعَ الصّابِرِينَ}[الأنفال:46] . وقال تعالى في سبب هزيمة أحد : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}الآية [آل عمران:152] .
وإني لأحسب أن من أهم أسباب هذا التنازع والفشل مايلي :
أولاً : الظروف والأحوال التي نشأت فيها هذه الجماعات الدعوية :
1- فقد قام كثير من الدعوات ، أو جماعات الدعوة ، في ظل ظروف جهادية ، وردود فعل حماسية متوترة ، ضد الهجمة الاستعمارية التي عمت وطمت على العالم الإسلامي بأسره ، عدا أجزاء من جزيرة العرب ، وكادت هذه الهجمة الاستعمارية الشرسة أن تطمس معالم الدين الإسلامي ، في كثير من بلاد الإسلام ، خاصة وإن الفترة الزمنية التي سبقت هجمة الاستعمار ، كانت فترة ركود علمي ، شاع فيها الجهل بين أمة الإسلام ، وانتشرت الأمية فيها في أصقاع هذا العالم الإسلامي ، وتفشت الضلالات والبدع ، والخرافات الصوفية ، وغيرها . حتى أصبح حال المسلمين مزرياً ومضحكاً ، وشر البلية مايضحك ، بل لقد تحولت قرى ومقاطعات في بعض البلدان الإسلامية إلى ديانات غير الإسلام من وثنية وبوذية ، ونصرانية ، ونحوها ، كما حصل في الهند ، وفي بعض البلدان الأفريقية .(1/9)
فلما جاء الاستعمار إلى هذه البلدان ، وضع أنظمته ، ودساتيره ، ووجه الحياة الاجتماعية إلى الوجهة الغربية في الانحلال والتفسخ ، في الوقت الذي لم يكن في المسلمين من الوعي بدينهم ، والعلم به ، ما يتدرعون به أمام هذه الهجمة الخبيثة الماكرة ، بل إن كثيراً من أبناء المسلمين الذين تفتحت أعينهم على بريق المادية الغربية من جهة ، وعلى الأمية والجهل والفقر في بلادهم من جهة أخرى ، انحازوا إلى صفوف الهجوم الغربي ، وتبنوا مبادئه وأفكاره ، وتاهوا فخراً بما أحرزوه من تشبث بأذيال المستعمرين ، وما أحرزوه من فتات موائد أفكارهم ، وزبالات عاداتهم وتقاليدهم . هكذا أصبح حال الأمة ، وحال أبنائها .
عند ذلك هبّ رجال غيورون ، حميت في رؤوسهم الغيرة على دين الله ، وعظمت في نفوسهم أقاويل وأفاعيل أعداء الله ، وأدركوا الخطر الغربي الذي يهدد الأمة الإسلامية بطمس المستعمرين المعتدين لمعالم دينها وحضارتها ، فقاموا في الناس ينادون ويدعون إلى دين الله ، وينذرون ويحذرون من أخطار المستعمرين ، ومن شايعهم واقتفى أثرهم من المسلمين المغرورين ، ولما كان الخطر داهماً ، والهجمة متواصلة ، أخذ هؤلاء الدعاة والزعماء يحرضون العامة ، ويدعونهم إلى أن يقوموا مقام العلماء المنشغلين بمسائل العلم ، وبتلقين ثلة قليلة بين أيديهم من المتعلمين ، عن مواجهة الأخطار الداهمة ، والهجمة الاستعمارية الماكرة .
وفي هذا الوقت نفسه كانت الدعوة السلفية الصافية القوية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب ، قد حوصرت في هذه الجزيرة بشائعات وتهم وأباطيل ضدها ، من قبل الصوفية المتفشية في العالم الإسلامي ، المدعومة بالدولة العثمانية نفسها ، مما جعل أثرها لايمتد إلى سائر البلدان الإسلامية ، إلاّ قليلاً ، وبصورة غير واضحة ولاشاملة .(1/10)
فقامت جماعات من الدعاة ، في أقطار متعددة من بلاد الإسلام ، وأصقاع مترامية من دياره ، كالهند ، وباكستان ، وتركيا ، ومصر ، وغيرها . هذه الجماعات وصفها أحد الكتاب الإسلاميين المعاصرين هو : وحيد الدين خان ، بأنها أشبه ما تكون بفرق الإطفاء ، هبت من كل جانب لإطفاء هذه النار الاستعمارية المستعرة التي لاتصل إلى شيء من مقدرات الأمة وحضارتها إلاّ دمرته ، والتهمته ، والدين الإسلامي هو أول ماتسعى لإطفاء نوره ، وتقويض بنيانه ، ولقد اصطلت بهذا الحريق الاستعماري الهائل أمة الإسلام من شرقها إلى غربها في فترة ليست بالقصيرة.(1/11)
لقد كانت هذه الجماعات الدعوية الإسلامية أشبه ماتكون بفرق الطوارئ ، ونجدات الإغاثة ، لأمة يكاد يطفأ فيها نور الله بأفواه أعدائه ، وتكاد تطمس فيها معالم الدين ، وتندثر فيها صروح أمجاده ، بما أجلبوا عليها من خيلٍ ورجلٍ ، وعدة وعتاد . وهي ولاشك كأي نجدة طارئة ، وهبّة سريعة ، لابد أن يكون في جهودها الغث والسمين ، والخطأ والصواب ، ولابد أن تتأثر بالظروف العاجلة التي أحاطتها ، والبيئات الثقافية والاجتماعية التي تكونت فيها ، خصوصاً أن الانطلاقة لهذه الجماعات لم تكن من مجالس العلم ، وبقيادة العلماء ـ وهذا القصور يسأل عنه العلماء في ذلك الوقت ـ بل كانت الانطلاقة من جماهير الناس ، وعوامهم ، على أيدي رجالٍ كانوا غيورين على دينهم ، قد عُرفوا بمتانة التدين ، وصدق العزائم ، وسلامة النوايا ، مع حظ في العلم بمقاصد الدين ، وحدود الشريعة ، واطلاع على بعض العلوم والمعارف القديمة والمعاصرة ، بيد أنهم لم يكونوا من العلماء الراسخين ، ذوي التخصص والتفنن في العلوم الشرعية ، المتعمقين في مسائل هذه العلوم ودقائقها . فكان في هذه الزعامات المخلصة افتقار إلى العلم الشرعي المتخصص ، مما فوّت عليها كثيراً من التأصيل الصحيح لمناهجها ، وعمّى عليها كثيراً من معالم الطريق في دعوتها ، فاتخذت الاجتهادات والآراء الشخصية التي تمليها التجارب والظروف المحيطة بها ، أصولاً لدعوتها ، ومعالم لمناهجها ، في غياب النصوص الشرعية ، والأدلة النقلية ، التي يعلمها ، ويتقن الاستدلال بها علماء الشريعة المتخصصون .(1/12)
إن هذا النقص البيّن في المناهج الدعوية لهذه الجماعات ، ما كان ليؤخذ عليها في أول أمرها ، حينما قام زعماؤها ومؤسسوها باجتهادهم ، يوقظون النيام ، ويشعلون فتيل الهمم ، ويجمعون حولهم فئام الناس الذين شرح الله صدورهم لهذه الدعوات ، وتحركت في نفوسهم الغيرة لدين الله ، واتقدت عزائمهم بدواعي البذل والتضحيات . وذلك لأن القيادات العلمية لم تكن حاضرة بارزة وقت ذاك ، ولأن الواجب الشرعي يحتم على هؤلاء الغيورين أن يسدوا هذه الثغرة التي يتسلل منها الغزو الاستعماري إلى أبناء الأمة ، ويقوموا بواجب النصيحة والدعوة ، واستنهاض الهمم لمواجهة المستعمرين ، والعودة الصحيحة إلى دين رب العالمين .
أما وقد انقشع القتام عن الأمة الإسلامية ، وتحركت جهود العلماء الراسخين في العلم الشرعي ، المتخذين الكتاب والسنة منهجاً ، المقتفين لأثر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، والسلف الصالح من علماء الأمة ، في قرونها المفضلة . وأصبح هؤلاء العلماء موضع ثقة الأمة ، ومرجع فتواها ، فحريّ بزعامات هذه الجماعات الدعوية الإسلامية وقياداتها ، أن يتخذوا من هؤلاء العلماء السلفيين ، أهل الحديث والأثر ، مرجعاً لفتواهم ، وشوراهم ، وأن يعرضوا عليهم أصولهم ومناهجهم ، ويستنصحوهم في مسيرة دعوتهم ، لكي يستقيم بهم الطريق على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وسلف هذه الأمة الصالح ، لما ورد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((وفَضل العَالم على العابد كَفضل القمر على سائرِ الكَواكب ، وإنّ العلماء ورثَة الأنبياء ، وإنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولادرهماً وإنّما ورَّثوا العلم ، فمن أخَذه أخذ بحظٍ وافِر )) [رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وابن حبان وصححه] .(1/13)
ولما ورد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم )) الحديث [رواه الترمذي وقال : حديث حسن] ، ولأن هذه الدعوات والجماعات الإسلامية المعاصرة ، تنادي من أول أمرها وتجمع الناس على العودة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، واقتفاء أثره ، وأصحابه ، وجعلت ذلك في الغالب شعاراً لها . فأولى لها ثم أولى أن توحد صفوفها ، وتجمع قياداتها ، وتؤلف بين أتباعها على طريق واحد ، ومنهج واحد ، هو منهج الكتاب والسنة ، وطريق السلف الصالح ، أهل الحديث والأثر ، بمشورة العلماء ونصحهم بل وقيادتهم ، واتباع الدليل الشرعي المأخوذ عن فتواهم ، بعيداً عن الاجتهادات المبنية على آراء شخصية ، وتجارب ومواقف فردية أو جماعية ، لكي يتجنب المسلمون هذه الخلافات ، والصراعات ، والتناقضات ، التي تفرزها الآراء المتباينة ، والاجتهادات المتعارضة بعيداً عن النصوص الشرعية والقدوة النبوية .
ورب قائل يقول : كيف تسلم القيادات والزعامات في الجماعات الإسلامية أمر الدعوة إلى العلماء ، وقد قامت هذه الجماعات بتضحيات ، وجهود ، لم يكن لهم (أي : العلماء) فيها يد ولا نصيب ، فنقول : إن هذا القول يدل على أن حظوظ النفوس تعكر على القائلين به صفاء إخلاصهم ، وصدق جهادهم ، وإلاّ فأيّ ضير أن يلتمس الداعية المجاهد من هو أرسخ منه علماً وفهماً لنصوص الشريعة ، ثم يجعله مرجع فتواه ، وموضع نصحه ومشورته؟ ، أليست الغاية إنقاذ الأمة من الجهل والضلال والزيغ والانحراف ، ونشر الإسلام ، وإعلاء كلمة الله في الأرض على هدى من الله وبرهان؟ ، إن كان الجواب : بلى ، هي الغاية ، فلماذا لايُرجَع إلى العلماء فيما عمي على غيرهم ، وتفرقت فيه الكلمة ، وكثرت فيه الاجتهادات الخاطئة ، حتى يتوحد الصف ، وتكون المسيرة على صراط مستقيم؟ .(1/14)
إنها دعوة أرجو أن يتفهمها ويعيها الدعاة المخلصون ، لكي تتوحد الكلمة ، ويقوى الصف ، ويتحقق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) [متفق عليه].
ثانياً : ومن أسباب التنازع والفشل بين الدعاة ـ اليوم ـ تفرق المصادر والأصول :
فقد دأبت كل جماعة إسلامية للدعوة على تأصيل منهجها الدعوي ، على أصول اجتهادية ، نتجت عن تجارب دعاتها في بيئاتهم ، وظروفهم التي عملوا فيها ، فكل تجربة تمرّ بهؤلاء الدعاة ، وكل أزمة يتعرضون لها ، يستنبطون لمواجهتها أصلاً ومنهجاً وقاعدة ، يجعلونها طريقاً لدعوتهم ، ومنهجاً لايحيدون عنه ، سواء كانوا في شرق الدنيا أو غربها ، فهم يتوحدون على هذا الأصل ، وعلى هذه القاعدة التي استنبطوها من تجاربهم مع الشعوب ، أو مع الحكومات ، أو مع أفراد ، أو فئات معينة ، ويصير هذا منهجاً وديناً يدينون الله به في تبليغ الدعوة إلى الناس . وهم في هذا التأصيل ـ وإن كانوا لايغفلون المقاصد العامة للدين ـ إلاّ أنهم ـ في الغالب ـ لايرجعون إلى النصوص الشرعية إلاّ لتأكيد أصولهم ، والاستدلال على شرعيتها ، بعد وضعها ، ناهيك عما يغفلون من النصوص الثابتة لعدم موافقتها لأصولهم وتجاربهم ، وما يؤولونه منها تأويلاً جائراً ليوافق هذه الأصول ، وهذا عندهم كثير ، يعرفه كل من اتصل بأولئك الدعاة ، ووقف على أصولهم ومناهجهم . وهو سبب أصيل لما هو حاصل عند كثيرٍ منهم من المخالفات المنكرة ، والأساليب المبتدعة .(1/15)
وهذا الكتاب بما يتضمن من فصول ومباحث ، يبين أوضح البيان ـ إن شاء الله ـ أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والسيرة الشريفة العطرة قد تضمنت جميع الأصول والطرق والأساليب الشرعية لتبليغ الدين ، ومخاطبة الناس بالدعوة إليه وليس على الدعاة إلاّ أن يعودوا إلى هذه المصادر العظيمة ، ويستنبطوا منها الأصول والطرق الشرعية للدعوة إلى الله كما هو واضح وجلي في هذا الكتاب .
إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من بدئها إلى وفاته صلى الله عليه وسلم إنما كانت توجَّه بوحي من الله تعالى ، ولم يكن الاجتهاد البشري فيها يخرج بحالٍ عن إطار الوحي الإلهي ، بل كان الوحي يتنزل ، بالإقرار أو بالعتاب ، أو التوجيه أو التحذير والتنبيه للرسول صلى الله عليه وسلم على بعض ما كان يجتهد فيه صلى الله عليه وسلم برأيه ، وهذا يدل دلالة واضحة على أن العمل في الدعوة إلى الله ليس متروكاً لمجرد الاجتهاد البشري ، الذي يختلف من شخص إلى شخص ، ومن جماعة إلى جماعة ، باختلاف العقول ، والثقافات ، والظروف الاجتماعية ونحوها . بل هو محدود بحدود الوحي الإلهي ، ومقيّد بقيود السنة المطهّرة .
ومن الدلائل على أن الدعوة كانت وحياً إلهياً ولم تكن اجتهاداً بشرياً :
1- أنّ الأوامر الإلهية الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وخطابه ، ومواقفه ، كثيرة جداً ، بل هي في أكثر القرآن ، بل لاتخلو منها سورة واحدة ، ومنها على سبيل المثال :(1/16)
قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُوَاْ إِلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسّكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ . وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفي النّهَارِ وَزُلَفاً مّنَ الْلّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذّاكِرِينَ . وَاصْبِرْ فَإِنّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[هود:112ـ115] .
وقوله تعالى : {وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً . وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً . وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:27ـ29] .
وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النبي جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم}[التحريم:9] .
وقوله تعالى : {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[الشورى:15] .
بل لقد جاء كثير من آيات القرآن الكريم مصدّراً بفعل الأمر (( قل )) ، وهذا دليل على التوجيه الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وأسلوب خطابه ، وما ينبغي أن يتضمن هذا الخطاب ، ومن ذلك :(1/17)
قوله تعالى : {قُلْ إِنّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ}[الأنبياء:45] .
وقوله تعالى : {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ الله فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64] .
وقوله تعالى : {قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هََذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرَى قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:19] .
وقوله تعالى : {قُل لّعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}[ابراهيم:31] .
وقوله تعالى : {قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون] .
والآيات التي ورد فيها فعل الأمر (( قل )) موجهاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بلغت في القرآن الكريم اثنتين وثلاثين وثلاثمائة آية.
وهذا يدل دلالة واضحة على أنه لم يترك للرسول صلى الله عليه وسلم أمر الاجتهاد في توجيه دعوته ، والانتقال بها من موقف إلى موقف ، ومن مرحلة إلى مرحلة ، وإنما كان كل ذلك بوحي من الله وتوجيه فيما يقول ومايفعل على ما سيأتي بيانه من ذلك .(1/18)
2- إن آياتٍ قرآنيةً نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بالعتاب في بعض المواقف التي اجتهد فيها صلى الله عليه وسلم رأيه ، كما نزلت بالتوجيه لما يقول ومايفعل في هذه المواقف :
قال الله تعالى : {عَبَسَ وَتَوَلّى . أَن جَآءَهُ الأعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى . أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى . أَمّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنتَ لَهُ تَصَدّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزّكّى . وَأَمّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّى . كَلاّ إِنّهَا تَذْكِرَةٌ}[عبس:1ـ10] .
قال ابن كثير في تفسيره : (( ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه ، فبينما هو يخاطبه ويناجيه ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، وكان ممن أسلم قديماً ، فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، ويلح عليه ، وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لوكف ساعته تلك ، ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل ، طمعاً ورغبة في هدايته ، وعبس في وجه ابن أم مكتوم ، وأعرض عنه ، وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى : {عَبَسَ وَتَوَلّى . أَن جَآءَهُ الأعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى} أي : يحصل له زكاة وطهارة في نفسه : {أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى}أي : يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم : {أَمّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنتَ لَهُ تَصَدّى} أي : أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي : {وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزّكّى}أي : ما أنت بمطالب منه ، إذا لم يحصل له زكاة : {وَأَمّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى}أي : يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له : {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّى} أي : تتشاغل .(1/19)
ومن هاهنا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن لايخص بالإنذار أحداً ، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف ، والفقير ، والغني ، والسادة ، والعبيد ، والرجال ، والنساء ، والصغار ، والكبار ، ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة )) [تفسير ابن كثير4/411] .
وقال تعالى : معاتباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[الإسراء:73ـ75] .
وقال تعالى معاتباً رسوله صلى الله عليه وسلم في قبوله بالفدية من أسرى بدر : {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلاَ كِتَابٌ مّنَ الله سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:67ـ68] .
ومنه قوله تعالى في إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن اعتذر من المنافقين بالتخلف في غزوة تبوك : {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة:43] .(1/20)
ولو أن الاجتهادات الشخصية سائغة في الدعوة إلى الله تعالى ، وتبليغ رسالته ، دون الرجوع إلى الوحي الإلهي ، والتوجيه الرباني في ذلك ، لساغ ذلك لأصدق البشر جهاداً ودعوة ، وأعدلهم رأياً وحكمة صلى الله عليه وسلم ، ولكن هذا الدين ، تشريعه ، وتبليغه ، وحفظه ، إنما هو بتدبير الله وأمره ووحيه ، وعلى كل من حكم أو بلَّغ ، ودعا إلى دين الله تعالى أن يلتزم النصوص الإلهية في الحكم أو في التبليغ والدعوة إلى الله.
3- ومن الدلائل على أن الدعوة إلى الله كانت وحياً وتوجيهاً إلهياً ، ولم تكن رأياً واجتهاداً بشرياً ، أن الدعوة النبوية في مكة ظلت فردية ، لم يعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الملأ من الناس عامة حتى نزل أمر الله تعالى بذلك ، قال ابن إسحاق : (( وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ، واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ، ثلاث سنين ـ فيما بلغني ـ من مبعثه ، ثم قال الله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}وقوله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} )) [ابن هشام:1/262] .
4- ومنها أن القرآن نزل باتخاذ مواقف حاسمة من بعض الأفراد المعاندين ، ولم يكن ذلك باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورأيه ، بل كان بالوحي والأمر من الله تعالى ، من ذلك نزول سورة المسد في أبي لهب وزوجه أم جميل ، ومن ذلك في المنافقين ، قوله تعالى : {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84] ، ونحو ذلك من الآيات كثير .(1/21)
5- ومنها هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم مكاناً لهجرته ، حتى أُري ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين فإما أن تكون هجراً أو يثرب )) [رواه الترمذي والحاكم والطبراني] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهْلي إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب )) [رواه الشيخان] .
6- ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يجاهد الكفار بالسيف إلاّ بعد نزول الوحي بالإذن في ذلك ، في قوله تعالى : {أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39] ، ولقد قال له العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري ، من أهل بيعة العقبة ، بعد أن بايعوه : والله الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟ ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم )) [ابن هشام1/448] .
7- ومنها أنه بعد وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لم يكن له اختيار المنزل الذي ينزله ، بل كانت ناقته مأمورة بالمسير ، وهو مرخٍ لها زمامها ، إلى حيث يشاء الله تعالى . قال ابن إسحاق : (( فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف ، فصلاها في المسجد الذي في الوادي ، وادي رانوناء ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة . فأتاه عتبان بن مالك ، وعباس بن عبادة بن نضلة ، في رجال من بني سالم بن عوف ، فقالوا : يارسول الله ، أقم عندنا في العدد والعدّة ، والمنعة ، قال : خلّوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، لناقته ، فخلّوا سبيلها .(1/22)
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة ، تلقاه زياد بن لبيد ، وفروة بن عمرو ، في رجال من بني بياضة ، فقالوا : يارسول الله ، هلم إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : خلّوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، فخلّوا سبيلها .
فانطلقت ، حتى إذا مرّت بدار بني ساعدة ، اعترضه سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، في رجال من بني ساعدة ، فقالوا : يارسول الله ، هلم إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : خلّوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلّوا سبيلها .
فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج ، اعترضه سعد بن الربيع ، وخارجة بن زيد ، وعبد الله بن رواحة ، في رجال من بني الحارث بن الخزرج ، فقالوا : يارسول الله ، هلمّ إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : خلّوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها .
فانطلقت ، حتى إذا مرّت بدار بني عدي بن النجار ، وهم أخواله دِنْيا؛ أم عبد المطلب ، سلمى بنت عمرو ، إحدى نسائهم ـ اعترض سليط بن قيس ، وأبوسليط أُسيرة بن أبي خارجة ، في رجال من بني عدي بن النجار ، فقالوا : يارسول الله ، هلم إلى أخوالك ، إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : خلّوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها .
فانطلقت ، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار ، بركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم ، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ، ثم من بني مالك بن النجار ، وهما في حجر معاذ بن عفراء ، سهل وسهيل ابني عمرو . فلما بركت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لم ينزل ، وثبت فسارت غير بعيد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لايثنيها به ، ثم التفتت إلى خلفها ، فرجعت إلى مبركها أول مرة ، فبركت فيه ، ثم تحلحلت ، وزمّت ، ووضعت جرانها ، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل أبوأيوب خالد بن زيد رحله ، فوضعه في بيته )) [ابن هشام1/494] .(1/23)
8- ومنها ، قتال بدر ، قال الله تعالى : {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ في الْحَقّ بَعْدَمَا تَبَيّنَ كَأَنّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ . وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطّائِفَتِيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقّ الحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين . لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال:5ـ8] ، فكان خروجه صلى الله عليه وسلم إلى بدر بوحي وأمر من الله ، لاباجتهاد ورأي منه .
9- وفي الحديبية ، في ثنية المرار (( بركت ناقته صلى الله عليه وسلم ، فقالت الناس : خلأت الناقة ، قال : ما خلأت ، وماهو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لاتدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها ، ثم قال للناس : انزلوا ، فقيل له : يارسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهماً من كنانته ، فأعطاه رجلاً من أصحابه ، فنزل به في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء ، حتى ضرب الناس بعطن )) [ابن هشام2/310] .
ولما راجعه بعض أصحابه في الصلح ، وقال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني )) [ابن هشام2/317] ، ثم نزلت سورة الفتح : {إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً . لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً . وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً}[الفتح:1_3] .(1/24)
المقصود من هذه الاستدلالات المتعددة ، وقد أوردناها على سبيل المثال لاالحصر ، وإلاّ فإن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله تعالى بدين الحق ، إلى أن توفاه ، وأتم عليه الدين والنعمة ، إنما كانت بوحي من الله ، وتوجيه لرسوله صلى الله عليه وسلم باتخاذ الأساليب ، والطرق ، والمواقف ، وأوجه الخطاب ، التي يختارها الله سبحانه وتعالى له ، ويأمر بها ، وإنما المقصود من هذه الاستدلالات المتعددة السابقة ، أن نبين أنه مادام أن الله سبحانه وتعالى أظهر الدين وأتم به النعمة على البشرية ، عن طريق الوسائل ، والتدابير ، والأساليب ، التي أوحى بها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فإنا على يقين تام بأن هذه الوسائل والطرق الدعوية الإلهية لامزيد عليها ، ولايقوم الدين إلاّ بها ، ولايصلح أمر العباد إلاّ عن طريقها ، وليس لنا من بعدها أن نتخذ أصولاً للدعوة إلى الله ، ولاطرقاً وأساليب صادرة عن الرأي والاجتهاد ، ومبنية على تجاربنا الفردية أو الجماعية الناقصة المتبورة ، وعقولنا القاصرة المحدودة ، بل علينا أن نعود إلى الوحيين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلى سيرته المسددة بالحكمة ، والمشرفة بنبل المقاصد ، وعلو الهمة ، وكريم الخلق ، فنسلك سبيلها ، ونسير على هداها ، ونقتدي بصاحبها ، وما نحن إلاّ عبيد الله ، ودعاته ، ولن نخالف أمره ، ولن يضيعنا .(1/25)
كما إن من مقصودنا أن نبين كذلك أن الجماعات الدعوية اليوم إنما اختلفت فيما بينها بسبب اتخاذها التجارب التي مرت بها ، والآراء التي عرضت لها ، أصولاً للدعوة ، فتفرقت واختلفت نظراً لاختلاف الظروف والتجارب والأحوال التي مرت بها كل منها عما مرت به الأخرى ، بل إنها ابتعدت ـ قليلاً أو كثيراً ـ عن المنهج الرباني ، والهدي النبوي ، فيما يتعلق بالدعوة إلى الله ، في طرقها ووسائلها ، وأساليب عرضها ، مما يجعلنا نقول للمخلصين من الدعاة ، ونسائلهم : هل من سبيل إلى العودة بالأصول ، والفروع ، والوسائل والغايات ، في الدعوة إلى الله ، إلى منهج الكتاب والسنة ، والهدي العملي النبوي في السيرة المشرفة؟ ، ثم هل من سبيل إلى توحيد الجهود ، وتقوية الصفوف ، وجمع الكلمة على طريق واحد ، ومنهج واحد ، وغاية واحدة؟ ، حتى لوتعددت الميادين وتنوعت الجهود والأعمال ، فالكل ينبغي أن يسير على طريق واحد ، كل يكمل الآخر ، وكل يشد من أزر الآخر ، وكل يسدد ويبارك جهد الآخر ، فالميادين واسعة ، ولكن ينبغي أن تكون المسيرة واحدة ، قال الله تعالى : {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( مثَل المؤمنِين في تَوادهم وتَرَاحمهم وتَعَاطفهم مثل الجَسد الواحِد إذا اشْتَكى منه عُضو تَدَاعى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى )) [متفق عليه] .
إننا نعتقد جازمين أنه لاسبيل إلى ذلك إلاّ بالرجوع إلى المصادر الشرعية الأصلية كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، واستقاء الأصول الدعوية منها فهي كاملة ، وافية ، صالحة لكل زمان ومكان ، ولاخير في منهج ولاطريق لم يتخذ الكتاب والسنة مصدره ، ورائده ، وقائده ، مهما أعجب ذوو الآراء بآرائهم ، وتاه ذوو الرئاسات بخططهم ومناهجهم .
ثالثاً : ومن أسباب التنازع والفشل بين الدعاة اليوم ، التعصب والتحزب :(1/26)
وإنه لداء دويّ ، ووباء عصيّ ، وعاهة في عقول وقلوب كثير من الناس مستديمة ، ولاحول ولاقوة إلاّ بالله . وإن تعجب فعجب حال كثير من الدعاة إلى الله تعالى ، فهم يدعون الناس إلى ترك ما هم عليه من الفساد ، ونبذ التعصب للآباء والأجداد ، ثم هم لايحيدون عن أخطاء دُعوا إلى تصحيحها ، ولايسلّمون للنصوص الثابتة والأدلة الشرعية القاطعة ، فيتنازلون عن آراء قياداتهم وزعاماتهم ومناهج دعواتهم التي اجتمعوا عليها ، عصبية وحزبية ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، وقد قال الله تعالى في أقوام : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُمْ مّعْرِضُونَ}[آل عمران:23] ، وقال في أقوام : {وَإِنّ هََذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ . فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:52ـ54] .
إن على الدعاة إلى الله ـ اليوم ـ أن يتأملوا ذلك القول المسدد للإمام مالك رحمه الله تعالى حين قال : (( كل يؤخذ من قوله ويرد ، إلاّ صاحب هذا القبر )) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لقوله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3،4] ، فلاتعصب ، ولاتحزب ، لأي قول ، أو رأي ، أو اجتهاد ، إن لم يكن موثقاً بالدليل القاطع ، والنص الشرعي الثابت . قال الله تعالى : {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً}[النساء:65] .
إن هذه هي سبيل الإخاء والتوحيد ، والاجتماع ، والتكامل ، والتعاون ، بين الدعاة إلى الله ، جمع الله شملهم ، وسدد خطاهم .(1/27)
رابعاً : ومن أسباب التنازع والفشل بين الدعاة ـ اليوم ـ الرؤية القاصرة والفهم المبتور ، لمقاصد الدين ، ومرامي الدعوة والجهاد :
ولقد سمعت تمثيلاً لهذه الرؤية والفهم القاصرين من أحد الدعاة يوماً ، إذ قال : إن حال جماعات الدعوة الإسلامية اليوم في قصور فهمها ورؤيتها للدين ، كحال جماعة من العميان ، ساروا في طريق لهم ، قاصدين زيارة عميان آخرين في مكان آخر ، فلما توسطوا الطريق ، سقطوا جميعاً على شيء ضخم علموا فيما بعد أنه جثة فيل ضخم وقع في وسط الطريق ، فوقع أحدهم على خرطومه ، ووقع الآخر على رجله ، ووقع الثالث على أذنه ، ووقع الرابع على وسطه ، ثم ساروا إلى إخوانهم الذين قصدوهم بالزيارة وكانوا عمياناً مثلهم ، فذكروا لهم أنهم سقطوا في طريقهم على جثة فيل ضخم ، فسألوهم : وكيف هي صورة الفيل؟ فأجاب الذي سقط على خرطومه : الفيل مخلوق يشبه الثعبان الضخم في طوله وملمسه ، فاعترض الآخر الذي سقط على أذنه ، وقال : بل الفيل يشبه ورقة توت كبيرة ، فأنكر عليه الثالث الذي سقط على رجل الفيل ، وقال : بل الفيل يشبه جذع الشجرة ، فرد عليهم الرابع الذي سقط على وسطه ، فقال : بل الفيل يشبه الصخرة الكبيرة في حجمه وشكله . فكل منهم تصور الفيل بالجزء الذي وقع عليه منه ، ولم يدرك أن هذه كلها أجزاء من هذا المخلوق الضخم ، وأن صورته تختلف عن كل ما قالوه ووصفوه .
هكذا صوّر هذا الداعية حال الجماعات الإسلامية اليوم ، فكل منها أخذ من الدين جزءاً ، ثم اعتقد أن هذا الجزء هو الدين كاملاً ، ثم خالف كل من وصف الدين بغير ما تصوره ، وتحزب عليه .
إن النظرة الجزئية القاصرة للدين كانت سبباً لكثير من الخلاف بين الدعاة اليوم ، وتراهم أحياناً يتحاورون ويتجادلون ، وكأنك تسمع حديث الصم بعضهم لبعض ، فهذا يتكلم في واد ، فيجيبه الآخر عن وادٍ آخر ، ثم يفترقون ولم يسمع أحدهم إلاّ ما قاله هو ، وهكذا دواليك .(1/28)
إن النظرة الشاملة للدين ، ومقاصده ، وجوانبه المتعددة ، لاتكتمل في حقيقة الأمر إلاّ للعلماء الذين درسوا ، وبحثوا ، واطلعوا ، وتدبروا ، وفهموا ، ثم بعد ذلك شرحوا وبيّنوا ، أما غيرهم فإن أدرك أموراً ووعاها ، فإنه تغيب عنه أمور ، قال الله تعالى : {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبها لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43] .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الله لايقبض العِلم انتزاعاً ينْتَزِعه من النّاس ، ولكن يقبضِ العِلم بقبض العُلَماء ، حتى إذا لم يُبْقِ عَالماً ، اتّخذ النّاس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضَلّوا وأَضَلّوا )) [متفق عليه].
- - -
الفصل الأول
ميدان البيان والتبليغ
المبحث الأول : أهمية الدعوة إلى الله وفضائلها .
المبحث الثاني : مهمة حامل الرسالة ومضمون البلاغ المبين .
المبحث الثالث : الحكمة في البلاغ والدعوة إلى الله .
المبحث الرابع : سبل البلاغ المبين .
المبحث الخامس : صور البلاغ المبين .
المبحث السادس : ما يترتب على البلاغ المبين من أمور .
الفصل الأول
ميدان البيان والتبليغ
المبحث الأول : أهمية الدعوة إلى الله وفضائلها .
أولاً : أهمية الدعوة إلى الله :
لما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، فلا نبي بعده ، كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام ، ولما كانت رسالته للناس كافة ، وإلى أن تقوم الساعة ، فإن أمته قد حُمّلت أمانة الدعوة إلى الله من بعده ، حيث أمرها الله تعالى بذلك في قوله تعالى : {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104] .(1/29)
كما أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ))[رواه مسلم] .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلاّ له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره . ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لايفعلون ، ويفعلون ما لايؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) [رواه مسلم] ، وعن أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : (( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لاننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا ، لانخاف في الله لومة لائم )) [متفق عليه] .
وقد نالت هذه الأمة المحمدية ، بهذا التكليف من رب العالمين ، ومن رسوله الأمين ، تشريفاً على سائر الأمم ، حيث وصفها الله تعالى في كتابه بقوله : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران:110] ، فجعل سبحانه الخيرية لها على سائر الأمم بسبب ماتقوم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما وظيفة الأنبياء والمرسلين الذين فضلوا على سائر البشر بسبب ماحملهم الله تعالى من الرسالة ، وما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إليه سبحانه .(1/30)
فلما كان الأنبياء والرسل عليهم السلام بسبب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير البشر ، كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ كذلك ـ بسبب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير الأمم .
وكما أن القيام بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعل القائمين به في أعلى المنازل ، فإن التهاون به ، أو تركه ، يجعل المفرطين المتهاونين في أدنى المنازل ، ويعرضهم إلى أسوأ العواقب ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن أول مادخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ، ودع ماتصنع ، فإنه لايحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض )) ، ثم قال : {لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ . كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ . تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ}إلى قوله : {فَاسِقُونَ}[المائدة:78ـ81] . ثم قال : (( كلا والله ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنّه على الحق أطراً ، ولتقصرنه على الحق قصراً ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم )) [رواه أبوداود، والترمذي، وقال : حديث حسن] ، هذا لفظ أبي داود ، ولفظ الترمذي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا(1/31)
وكانوا يعتدون )) ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان متكئاً ، فقال : (( لا والذي نفسي بيده ، حتى تأطروهم على الحق أطراً )) . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا أيها الناس ، إنكم لتقرأون هذه الآية : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة:105] ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه )) [رواه أبوداود ، والترمذي ، والنسائي ، بأسانيد صحيحة] .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده ، لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ))[رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن] .(1/32)
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات في كتابه العزيز ، فجعل من أول صفاتهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إضافة إلى مايقومون به من العبادة والطاعة لله ولرسوله ، قال تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ . وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:71 ،72] ، ولما وصف سبحانه المنافقين والمنافقات ـ قبل ذلك ـ كان من أول صفاتهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، وقد لعنهم الله لذلك وتوعدهم أشد العقاب ، فقال تعالى : {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ}[التوبة:67،68] .
ثانياً : فضائل الدعوة إلى الله :(1/33)
قال الله تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ}[فصلت:33ـ35] .
فالدعوة إلى الله تعالى هي أحسن ما يتكلم به متكلم ، والداعي إلى الله هو أحسن الناس عند الله قولاً ، ولاشك أن منزلته بذلك تكون أحسن المنازل وأفضلها عند ربه جل وعلا .
هذا إلى ما تتضمن الآية الكريمة من تنبيه إلى وجوب اقتران القول في الدعوة بالعمل الصالح والاعتقاد الصحيح ، وذلك في قوله تعالى : {وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33] ، كما تتضمن وصفاً للطريق الذي يسلكه الدعاة إلى الله ، وأن من أبرز صفات هذا الطريق تحمّل الإساءة ودفعها بالحسنى ، وتلك خلّة لايطيقها إلاّ الذين تدرعوا بالصبر الجميل ، ومنزلة لاينالها إلاّ ذو حظٍ عظيم .(1/34)
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله )) . [رواه مسلم] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لاينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) [رواه مسلم] . وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : (( لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله )) ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : (( أين علي بن أبي طالب؟ )) فقيل : يارسول الله ، هو يشتكي عينيه ، قال : (( فأرسلوا إليه )) ، فأتى به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ودعا له ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال علي رضي الله عنه : يارسول الله ، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال : (( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فوا الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )) [متفق عليه] .
ثالثاً : مقاصد الدعوة إلى الله وغايتها :
إن من يدعو إلى الله تعالى ، ينبغي له أن يعرف أولاً لماذا هو يدعو ؟ أي : ماالغاية التي ينشدها من دعوته؟ وذلك لأن معرفة المقصد والغاية سبب في معرفة الطريق التي يسلكها الداعية ، والوسيلة التي يستخدمها لبلوغ هذه الغاية المنشودة .
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مقاصد الدعوة إليه ، كما أن السنة المطهرة وردت بذلك ، وهي ثلاثة مقاصد :(1/35)
المقصد الأول : إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة طاعةً لله وطلباً لرضوانه :
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ}[المائدة:67] .
وقال تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاَغُ}[الشورى:48] .
وقال تعالى : {فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:35] .
وقال تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] .
وقال تعالى واصفاً رسله : {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ}[الأحزاب:39] .
فالمقصود الأول للداعي إلى الله تعالى هو أداء الأمانة التي تحمّلها ، وإبلاغ الرسالة التي خلف الرسول صلى الله عليه وسلم على إبلاغها ، فيصدع بالحق ، وينذر الناس ، ويدعو إلى الخير ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويعلم الجاهل ، ويقوم بالنصيحة . فلا يدع شيئاً مما يجهله الناس من أمر دينهم وهو يعلمه إلاّ بيّنه لهم أتمّ البيان ، وبلّغه إليهم أكمل البلاغ ، أداءً للأمانة ، ونصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم .
وإن كان المدعوون ممن يعرضون عن دين الله ويصدّون عن سبيله ، فإنّ إبلاغه الرسالة ، وأداءه الأمانة ، يكون إظهاراً لحجّة الله عليهم : {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء:165] .(1/36)
وهذا المقصد له ثمرة عظيمة ، وهي أن الداعية إلى الله تعالى لايصده عن دعوته شيء ألبته ، فسواء استجاب له الناس ، وقبلوا دعوته ، أم أعرضوا عنه ، ولم يستجيبوا له ، وسواء ترفقوا به ، وأكرموه ، أو آذوه ، وصدوه ، وأهانوه ، فهو لاينشد رضى أحد من الناس ، ولايبالي بسخطه ، إنما مقصده وغايته امتثال أمر ربّه ، والسعي إلى رضوانه بتبليغ دينه ، وأداء رسالته ، قبل كل شيء .
قال تعالى : {وَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[القصص:87] .
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله ، وردّوا عليه ردّاً منكراً ، وآذوه إيذاءً شديداً ، حتى إنهم رموه بالحجارة ، وأدموا قدمه الشريفة . لم يكن همّه مع هذا كلّه ، إلاّ ما قال في دعائه وتضرعه إلى مولاه جل وعلا : (( إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلاّ بك ))(1).
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/420 .(1/37)
ولقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز قصة أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر ، وكيف أن الله تعالى نهاهم عن الصيد في يوم السبت ، فاحتالوا على ذلك ظلماً وعدواناً ، بحبس الحيتان في أحواض على الشواطئ وصيدها في غير السبت ، فوعظهم قوم منهم ، ونهوهم عن هذا المنكر الشنيع ، ولكنهم أصروا على عدوانهم ، فقامت طائفة أخرى يلومون الواعظين على تكرار وعظهم وإنكارهم ، مع أن هؤلاء المعتدين لا يسمعون لهم ولا يطيعون ، فأجابهم هؤلاء الدعاة بما جعله الله قرآناً متلواً ، ليكون جواباً لكل من دعا إليه ، ومقصداً له في دعوته ، فقالوا : (( معذرةً إلى ربكم )) ، أي : إعذاراً إلى الله ، ليرى منا هذا الوعظ ، وهذا الإنكار ، فيعذرنا ، ويرضى عنا . كما ذكروا مقصداً آخر لدعوتهم ، ووعظهم لهؤلاء القوم ، فقالوا : (( ولعلهم يتقون )) ، وهذا المقصد الثاني سنذكره بعد قليل إن شاء الله .
قال الله تعالى : {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ في السّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذَ قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}[الأعراف:163 ، 164] .
المقصد الثاني : السعي إلى هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور :
قال الله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] .
وقال تعالى : {الَر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1] .(1/38)
وقال تعالى : {قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}[المائدة:16] .
وقال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوْحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيْمَان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم . صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ}[الشورى:52 ، 53] .
وقال تعالى : {وَمِمّنْ خَلَقْنَآ أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:181] .
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لعلي بن أبي طالب وقد أعطاه الراية : (( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )) [متفق عليه] .
ومن ثمرة هذا المقصد في الدعوة إلى الله ، أن الداعية يقبل على الناس بدعوته وفي قلبه الرحمة بهم ، والشفقة عليهم ، والحرص على هدايتهم ، فيصبر على أذاهم ، ويتحمل المشقة في سبيل إيصال الهداية إليهم ، ويكون رفيقاً بهم ، متلطفاً في دعوتهم . عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) [متفق عليه] .
وعن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الرفق لايكون في شيء إلاّ زانه ، ولاينزع من شيء إلاّ شانه )) [رواه مسلم] .(1/39)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بال أعرابي في المسجد ، فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعوه ، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء ، أو ذنوباً من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين )) [رواه البخاري] .
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثلي ومثلكم ، كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلّتون من يدي ))[رواه مسلم] .
المقصد الثالث : إظهار الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض :
قال الله تعالى : {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54] .
وقال تعالى : {قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29] .
وقال تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:39] .(1/40)
وعن المقداد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لايبقى على ظهر الأرض بيت مدرٍ ولاوبرٍ إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام ، بعز عزيز ، وذل ذليل . إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، أو يذلهم فيدينون لها )) ، قلت : فيكون الدين كله لله . [رواه أحمد بسند صحيح] .
ومن ثمرة هذا المقصد في الدعوة إلى الله ، أن الداعية إلى الله يستشعر في دينه العزة ، ويعلم أن الذلة والهوان والصغار على الكافرين ، مهما ظهر لهم من أسباب القوة والبطش ، وأن الدائرة عليهم لامحالة ، فلا يقع في نفسه شيء من تعظيم الكافر ، أو تهيبه ، أو مداهنته .
كما أن من ثمرته أن يعلم الداعية إلى الله أن رسالته عظيمة الغاية ، بعيدة المدى ، فهي لاتبلغ تمامها حتى لايبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل . حتى يكون الإسلام ظاهراً في الأرض على كل دين ، وأمة الإسلام ظاهرة على كل أمة . مما يجعل الداعية يستجمع لهذا الأمر طاقته ، فيبذل بذلاً واسعاً ، ويفنى فناءً كاملاً في دعوته وجهاده .
ومن ثمرة هذا المقصد كذلك العلم بأن ميادين الدعوة الثلاثة الكبرى ، هي ميدان واحد في الحقيقة ، وإن تنوعت فيها الجهود ، فالتبليغ والتعليم والجهاد لايتحقق ظهور الدين إلاّ بها مجتمعة ، وإن تنوعت فيها الجهود فينبغي أن يكمل بعضها بعضاً حتى يصل الدعاة إلى تحقيق المقاصد الثلاثة لدعوتهم .
ملحظ مهم وتنبيه على مقاصد الدعوة إلى الله :(1/41)
إن المتأمل في اختلاف الدعاة إلى الله وتعدّد مشاربهم ، وتوجّهاتهم ـ في زماننا هذا ـ يدرك أن من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى الاختلاف والتنازع بينهم هو أن كل فئة من الدعاة إلى الله تمثّلت مقصداً واحداً من هذه المقاصد دون غيره ، واتّخذت منهجاً وطريقاً يفضي بها إلى تحقيق هذا المقصد وحده ، اعتقاداً بأنه المقصد الأوحد للدعوة إلى الله ، وأن بتحقيقه تتحقق الغاية من الدعوة . فأدّى ذلك إلى انحراف يسير أو كبير عن المنهج القرآني ، والهدي النبوي في دعوة الناس إلى الله تعالى .
فمن الدعاة من جعل مقصده مجرّد تبليغ الناس أوامر الله ونواهيه ، إعذاراً إلى الله ، وأداءً للرسالة ، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، ولكن في شدّة وغلظة ، وحزم وقوة ، دون أن يكون من همّه تألّف الناس ، والترفّق بهم ، تحقيقاً لهدايتهم ، وإنقاذهم من الضلالة . فنفر الناس من دعوته ، وانفضّ الناس من حوله ، وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله : {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159] ، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتألّف الناس بالمال ، والإكرام ، ونحوه . فوقع مثل هؤلاء الدعاة في مخالفة التوجيه القرآني ، والهدي النبوي في الدعوة إلى الله ، وأخلّوا بجانب الاتباع والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وتبليغه لدين الله .(1/42)
ومن الدعاة من جعل مقصد دعوته مجرّد السعي إلى هداية الناس ، وإنقاذهم من النار ، وإخراجهم من الضلالة ، فقصر همّه في دعوته على استدراج الخلق إلى دين الله ، وتألّفهم ، والتحبّب إليهم ، ومجانبة الدعوة إلى كل ما يستثقلونه ، أو يكرهونه ، ولوكان مما أمر الله به وأوجبه ، أو نهى عنه وحرّمه ، واسترضائهم بما يحبّون أن يسمعوه من الوعظ ، وذكر اليسر في الدين ، والسكوت عن المنكرات ، والتغاضي عن البدع والخرافات ، فأرضى كثيراً من الخلق بدعوته ، وإن لم يتّبعه منهم إلاّ القليل ، فسمّى ذلك حكمة ، ورفقاً ، ورحمة ، ولم يشعر بأنه قد أخلّ بأعظم مقاصد الدعوة ، وهو البيان والتبليغ ، والإنذار والتحذير ، إبلاغاً للرسالة ، وأداءً للأمانة ، وقد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدّثّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:1-2] ، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67] .
وفئة ثالثة من الدعاة إلى الله ، قصرت الدعوة على مقصد واحد هو إظهار الدين ، وإعلاء كلمة الله في الأرض ، وإرغام الباطل وأهله ، وإخضاعهم صاغرين لأوامر الله ونواهيه . ومع أنّ هذا واحد من مقاصد الدعوة الثلاثة ، إلاّ أنه لايطلب في بدايات الدعوة ، وفي حال ضعف حملة الدين ، فما أذن الله بقتال الكفار ومراغمتهم إلاّ بعد تمكّن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، وقيام دولتهم ، واجتماع الأنصار حولهم ، لذلك فإن إخلال هؤلاء بالسّنن التي قامت عليها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقصرهم الدعوة على مقصد واحد دون غيره ، أوقعهم في أخطاء ومخالفات ما كانوا ليقعوا فيها لو أنهم تمثّلوا مقاصد الدعوة إلى الله مجتمعة ، وعملوا على تحقيقها كاملة .(1/43)
لهذا فإنه ينبغي التنبّه لهذا الأمر المهم ، وهو أنه لايستقيم للدعاة منهجهم في الدعوة إلى الله ، ولاتتحقق متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولايسلمون من الانحراف والزيغ في دعوتهم إلاّ بتمثّل مقاصد الدعوة مجتمعةً ، والعمل على تحقيقها كاملةً ، بحسب ما تقتضيه الحكمة والرحمة ، وحاجة المدعوين ، وحاجة الدعوة ، آخذين بمنهج القرآن ، متّبعين لهدي سيد الأنام ، مبتعدين عن تحكيم الاجتهادات العقلانية ، والتصورات الفلسفية ، والتجارب البشرية ، في تحديد أهداف الدعوة مقاصدها .
فكما أنه لايجوز الابتداع في أمور العقيدة ، وأحكام الشريعة ، فكذلك لايجوز بحال الابتداع في منهج الدعوة وسلوك الدعاة ، قال الله تعالى : { قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي}[يوسف:108] . وقال تعالى : { وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام:153] .
وسيأتي تفصيل هذا فيما يلي عند الحديث عن وجوب الاتباع في أصول الدعوة ووسائلها إن شاء الله .
رابعاً : وجوب الاتباع في أصول الدعوة ووسائلها :
نعني بأصول الدعوة المبادئ والأسس التي قامت عليها الدعوة إلى الله ، وثبتت بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة ، ومن أهمّها : الحكمة ، والبصيرة ، والصدع بالحق ، والإعراض عن الجاهلين ، والبلاغ الكامل ، والبيان الواضح ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بمراتبه الثلاث ؛ اليد واللسان والقلب بحسب الاستطاعة ، والنصيحة ، والنذارة والبشارة ، والتزكية ، والتعليم ، والجهاد في سبيل الله ، وعدم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وجواز تأخيره إلى وقت الحاجة ، وتأليف القلوب ، وأن يسبق الدعوة علم شرعي ، وأن يصحبها عمل وإخلاص ، وصبر وثبات ، إلى غير ذلك من الأصول المقررة بالكتاب الكريم والسنّة المطهّرة .(1/44)
أما وسائل الدعوة فنعني بها الصيغة أو الأسلوب أو القالب الذي تعرض به الدعوة ، مما ورد في كتاب الله وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كالقصص ، وضرب المثل ، وصيغ الأمر والنهي ، والخطابة ، والمراسلة ، والزيارة ، والوصية ، والإسرار ، والإعلان ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، والترغيب والترهيب ، ونحو ذلك من صور الدعوة الشرعية المعهودة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وماكان عليه الصحابة رضي الله عنهم ، وأئمة السلف الصالح من بعدهم .
فإن هذه الأصول والأساليب التي قامت عليها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دين الإسلام ، وجاء بها القرآن الكريم ، ينبغي للدعاة أن يلتزموا باتباعها ، وأن يتّخذوها منهجاً لدعوتهم ، وأن لا يبتدعوا من الأصول أو الوسائل ما لم يرد في كتاب الله ، أو في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته ، أو في عمل الصحابة رضي الله عنهم ، وأئمة الهدى من سلف هذه الأمة ، فإن الدعوة إلى الله قد انتصبت معالمها ، واستنارت طريقها ، وتأسست أصولها وقواعدها بالوحيين ؛ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية و العملية ، ثم بفعل سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان . فلا ينبغي بعد ذلك ابتداع الأساليب والطرق للدعوة ، أو تقليد أهل الشرق والغرب في طرق دعاياتهم لباطلهم ومفاسدهم ، واعتقاد أنها تصلح لنشر الحق والدعوة إليه .(1/45)
وإنه لمن المعلوم المتحقق عند كل من له فقه ودراية بالدعوة أن لأساليب الدعوة ، وطرق إبلاغها ، أثراً في ربط المدعوين الذين تأثروا بها بالمصادر التي نبعت منها ، فما داموا قد تأثروا بالدعوة من خلال هذه الوسيلة والطريقة أو تلك ، فإنهم بلا شك قد أصبحوا قابلين للتأثر بالمصدر الديني أو الثقافي أو المذهبي أو الفلسفي الذي نتجت عنه هذه الوسيلة تأثراً قليلاً أو كثيراً ، مما يجعل الدعوة مشوبة بهذا الأثر الذي خالطها من خلال الوسيلة التي عرضت بها . ولإيضاح هذا القول نضرب مثالاً بوسيلة شاع في عصرنا هذا استخدامها من قبل بعض الدعاة ظانين بأنها مشروعة في تبليغ دين الله إلى الناس ، وهي ( التمثيل ) ، سواء كان مسرحياً أو تلفازياً أو سينمائياً ، فهذا التمثيل مع ما فيه من صور التكلّف الممقوت ، والزور في الأقوال والأفعال ، وتلبّس الممثلين بشخوص ليست بشخوصهم ، مع ما قد يضطرون إليه عند تصوير بعض المواقف أو الأشخاص من الإسفاف في القول والفعل ، مع هذا كله ، أو فوق هذا كله فإن التمثيل إطار ثقافي مستمد من ثقافة الغرب الفلسفية الوثنية الملحدة . وإنّ جعل الدعوة في هذا الإطار الثقافي الغريب ، يجعلها مشوبةً بأثره ، كما يجعلها دعوة إليه ، ويظهرها وكأنها معترفة بعوزها وحاجتها إلى الثقافة التي أنتجته . ومعاذ الله أن تكون دعوة الإسلام ، الذي أتمه الله وأكمله على يد خيرة أنبيائه وصفوة رسله صلى الله عليه وسلم مفتقرة إلى مثل هذه الوسائل المستعارة عن ثقافة فلسفية ملحدة متهتكة…(1/46)
إن هذا يدعونا إلى القول بأن منهج الدعوة إلى الله ، وأساليب عرضها على الناس ، ينبغي أن تكون نابعة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه سلفنا الصالح ، وذلك حتى يفهم الناس طريقة القرآن الكريم وأسلوبه ، ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته في دعوته ، وحال أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان في الدعوة والتبليغ ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ولتتربى النفوس ، وتتزكى على ذلك السمت القرآني ، والطريق المحمدي ، والمنهج السلفي ، في أي مكان من الأرض ، وفي أي زمان من الدهر .
ومما يجدر بنا التنبيه عليه كذلك ، أمر له خطره البالغ على سلامة الدعوة ، واستقامة منهجها . كما أنه سبب من أهم أسباب الخلاف والنزاع بين الدعاة إلى الله في عصرنا الحاضر ، ألا وهو قصر الدعوة إلى الله على جزء من الدين ، والتغافل والإعراض عما سواه من الجوانب الشرعية الأخرى. فيفهم المدعوون أن الدين هو هذا الجزء الذي دُعوا إليه دون ما سواه.ثم يتعصبون لفهمهم هذا وينابذون كل من يدعوهم إلى القيام بما عليهم من الواجبات الشرعية التي ليست في منهجهم القاصر. وبذلك يحصل النزاع والخلاف في الدين نتيجةً لهذا القصور في مناهج الدعوة إلى الله ، وبسبب فهم الدين من خلال هذه المناهج القاصرة.
ومن أمثلة ذلك: قصر بعض الدعاة دعوته على الإيمان على وجه الإجمال ، دون التفات إلى مايلزمه من بيان لأنواع الفرائض وما تقتضيه من أحكام ،أو حث الناس على تعلمها والعمل بها.
وفي طرق الدعوة وأساليبها كذلك قد يأخذ بعض الدعاة بتأليف القلوب دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وآخرون يأخذون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون الحكمة والبصيرة .
وربما قال بعضهم : إن دعوتنا تقوم على الشفقة والرحمة ، لا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيهما من غلظة وتنفير للمدعوين .(1/47)
وربما قال : كثرة النهي عن المنكر فيه إشاعة لذكر المنكر وعيوب الأمة .
أو قال : الدعوة تقوم على علم الفضائل لا على علم المسائل .
وغيرهم يقول : إن الناس يجب أن يُدعَوا إلى ما فيه الرخصة لا إلى العزائم من أمور الدين ، معللاً ذلك بالرغبة في التيسير على الأمة . إلى غير ذلك من القواعد والأصول الصادرة عن الآراء والأهواء لا عن الاقتداء والاتباع .
وكفى بهذا الصنيع تشويهاً لدعوة الإسلام ، وانحرافاً عن منهج القرآن ، وعن سبيل رسول الإسلام الهادي البشير والسراج المنير صلى الله عليه وآله وسلم .
لذا فإنه ينبغي للدعاة إلى الله الاتباع الكامل لكل ما ورد من أصول الدعوة ووسائلها في القرآن الكريم ، والسنة النبوّية المطهّرة . كما ينبغي لهم الوقوف عند ذلك والاقتصار عليه دون اختراع الطرق والأساليب ، والأصول والمفاهيم ، أو استعارتها من مذاهب فكرية ، أو أصول ثقافية ، أو أساليب دعائية أو إعلامية ، أو مناهج فلسفية ، أو أي مصادر أخرى غير الكتاب والسنة ، وغير المأثور من منهج سلف هذه الأمة .
إذ إن القرآن الكريم ، والسنة المطهّرة ، قد تضمنا كافّة الأصول الدعوية ، وكافّة الوسائل والأساليب التبليغية ، وهي إن أقيمت على وجهها ، أدت الغاية منها في تبليغ الدين ، وإعلاء كلمة الله في الأرض ، على التمام والكمال ، دون حاجة إلى أصول مصطنعة ، أو أساليب متكلّفة . وما على الداعية إلاّ أن يسأل نفسه عند كل عمل من أعمال دعوته ، هل ورد هذا أو نحوه في القرآن الكريم ؟ هل فعل هذا أو مثله رسول رب العالمين ؟ هل هذا الأمر من فعل الصحابة أو من هدي السلف الصالحين ؟ فإن لم يكن له دليل على ما يريد من الكتاب والسنّة ، أو قدوة على ما يعمل من السلف الصالح ، فليتق الله ، وليحذر أن يكون من دعاة الضلالة ، وأئمة الغواية ، فإن الأمر خطير ، والمسلك شاق عسير ، والله الهادي إلى سواء السبيل .(1/48)
فتوى للإمام ابن تيمية في وجوب الاتباع في أصول الدعوة ووسائلها :
لقد سبق إلى تقرير هذا الأصل الذي ذكرناه آنفاً وهو وجوب الاتباع في أصول الدعوة ووسائلها الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ، عندما برزت في الدعوة إلى الله ـ في زمانه ـ بعض الاجتهادات المبنية على مذاهب وأصول مبتدعة ، فقد سئل رحمه الله عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر : من القتل ، وقطع الطريق ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وغير ذلك . ثم إن شيخاً من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة ، قصد منع المذكورين من ذلك ، فلم يمكنه إلاّ أن يقيم لهم سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية ، وهو بدفّ بلا صلاصل ، وغناء المغني بشعر مباحٍ بغير شبابه . فلما فعل هذا تاب منهم جماعة ، وأصبح من لا يصلي ، ويسرق ، ولا يزكي ، يتورع عن الشبهات ، ويؤدي المفروضات ، ويجتنب المحرمات ، فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه ، لما يترتب عليه من المصالح ؟ مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلاّ بهذا ؟ .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين .
أصل جواب هذه المسألة وما أشبهها أن يعلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ، ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيداً . وأنه أكمل له ولأمته الدين ، كما قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة:3] . وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه والشقاوة لمن عصاه ، فقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] . وقال تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً}[الجن:23] .(1/49)
وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به ، كما قال تعالى : {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] . وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم ، كما قال تعالى : {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي}[يوسف:108] ، وقال تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ} [الشورى:52] .
وأخبر أنه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويحل الطيبات ، ويحرم الخبائث ، كما قال تعالى : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبها لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النبي الاُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ في التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزلَ مَعَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:156-157] .(1/50)
وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بكل معروف ، ونهى عن كل منكر ، وأحل كل طيب ، وحرّم كل خبيث ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : "ما بعث الله نبياً إلاّ كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" ، وثبت عن العرباض بن سارية قال : "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون . قال : فقلنا : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ، فقال : أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي ، تمسّكوا بها ، وعضّوا عليها بالنواجذ ، وإيّاكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة" . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما تركت من شيء يبعدكم عن النار إلاّ وقد حدّثتكم به" . وقال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك" .
وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنّة كثيرة ، وترجم عليه أهل العلم في الكتب : "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة" ، كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما . فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين ، وحزبه المفلحين ، وجنده الغالبين . وكان السلف ـ كمالك وغيره ـ يقولون : السنة كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق . وقال الزهري : كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنّة نجاة .
إذا عرف هذا [الكلام لايزال لشيخ الإسلام] فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالّين ، ويرشد به الغاوين ، ويتوب به على العاصين ، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة . وإلاّ فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك ، لكان دين الرسول ناقصاً ، محتاجاً تتمة .(1/51)
وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب ، والأعمال الفاسدة نهى عنها . والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة ، فإن الشارع حكيم ؛ فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه ، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه ، بل نهى عنه ، كما قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] . وقال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] . ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك .
وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلى الله ، ولم يشرعه الله ورسوله ، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه ، وإلاّ فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع ؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم حكيم ، لا يهمل مصالح الدين ، ولايفوّت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين .
وإذا تبيّن هذا فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يتوّب المجتمعين على الكبائر ، فلم يمكنه ذلك إلاّ بما ذكره من الطريق البدعي ، يدلّ أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة ، أو عاجز عنها ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية ، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية .(1/52)
فلا يجوز أن يقال : إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة ، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلاّ الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية ، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي . بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ـ وهم خير أولياء الله المتّقين من هذه الأمة ـ تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية ، لابهذه الطرق البدعية ، وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه ، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية ، لابهذه الطرق البدعية .
فلا يمكن أن يقال : إن العصاة لاتمكن توبتهم إلاّ بهذه الطرق البدعية ، بل قد يقال : إن في الشيوخ من يكون جاهلاً بالطرق الشرعية ، عاجزاً عنها ، ليس عنده علم بالكتاب والسنة ، وما يخاطب به الناس ، ويسمعهم إياه ، مما يتوب الله [به] عليهم ، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية ، إما مع حسن القصد ـ إن كان له دين ـ ، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم ، وأخذ أموالهم بالباطل ، كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [التوبة:34] ، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلاّ لجهل ، أو عجز ، أو غرض فاسد"(1) انتهى كلامه رحمه الله .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ـ جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم 11/625 .(1/53)
وبعد أن تقرر القول بوجوب الاتباع في أصول الدعوة ووسائلها بما سبق ، وبما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه السابقة الموثّقة بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . فإنه بقي أن نذكر هنا ملحوظة هامّة فيما يتعلّق بأدوات الدعوة ووسائلها المادية ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ :
إن مصطلح "وسائل الدعوة" يشمل كذلك عند إطلاقه المصنوعات المستحدثة من الأدوات والآلات المبتكرة في هذا الزمان أو في غيره ، مما قد يستعان به في الدعوة إلى الله تعالى . فعلى هذا المعنى فإنه من المقرر عند أهل العلم والبصيرة في مثل هذه الآلات والمبتكرات أنها على أنواع :
فهي إما أن تكون وسائل محرمة كالمعازف ونحوها ، فهي لا تصلح أن تكون وسائل للدعوة إلى الله بحال ، وما جعل الله شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في محرّم . وإما أن تكون مباحة شرعاً كوسائل الاتصال ، ووسائل الكتابة والطباعة الحديثة ، ووسائل التسجيل الصوتي ، ومكبرات الصوت ، وآلات القتال المنكية بالعدو ، ونحوها ؛ فهي مباحة ، بل قد يكون استعمال بعضها واجباً عند الضرورة كآلات الحرب التي لا يستغنى عنها ، لقوله تعالى : {وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ} [الأنفال:60] . وإما أن تكون مشتبهة كبعض الوسائل الإعلامية ، فالأولى أن تنزه الدعوة إلى الله عنها ، وقد أغنى الله سبحانه عباده بما هو مشروع ومباح عن ما هو مشتبه أو محرم ـ ولله الحمد والمنّة ـ ، والدعاة إلى الله أولى الناس بالتزام ما هو مشروع ومباح عما هو مشتبه أو محرّم ، لما يفترض فيهم من قوّة الديانة ولما لهم من أثر على الناس ، إذ هم موضع القدوة والأسوة لسائر المسلمين ، والله المستعان ، وصلّى الله على محمد وآله وسلم .
- - -
المبحث الثاني : مهمة حامل الرسالة ومضمون البلاغ المبين
أولاً : مهمة حامل الرسالة :(1/54)
الأنبياء والرسل ، ثم من حمل دعوتهم من العلماء وسائر الدعاة إلى الله ، ماهم إلاّ حاملو رسالة من رب العالمين إلى عباده ؛ وهذه الرسالة فيها النذارة والبشارة ، وفيها الأوامر والنواهي ، وفيها تعريف العباد بخالقهم ، وبمبدأ وجودهم ومنتهاهم ، وبالغاية من وجودهم ، بالأمانة التي حملوها ، وما إلى ذلك من تعاليم الدين الحنيف ، والرسالة الإلهية الشاملة .
فمهمة الدعاة إلى الله ، كما كانت مهمة الأنبياء والرسل من قبل هي البلاغ والبيان لهذه الرسالة :
قال الله تعالى : {وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[النور:54] .
وقال تعالى : {فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:35] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67] .
وقال تعالى : {فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[المائدة:92] .
فحامل الرسالة ـ أيّ رسالة ـ ليس له أن يزيد عليها ، أو ينقص منها ، أو يتصرف فيها بتأخير أو تقديم ، بل الأمانة والوفاء بهذه المهمة يقتضيان أداءها كاملة ، في وضوح وبلاغ مبين ، حتى لو ترتب على ذلك إغضاب المرسل إليه ، أو سخطه ، أو التعرض لأذاه ، بسبب عدم قبوله بما تتضمنه الرسالة . إذ إن همّ الرسول هو الأداء الكامل ، والبلاغ الصادق ، وفاءً بمهمته وإرضاء لمن أرسله ، خاصة إذا كان المرسل عظيماً ذا قوة وجبروت وجلال ومهابة ، فإن رسوله عند ذلك والمبلغ عنه يكون أشد حرصاً ، وأكثر اهتماماً بأداء رسالته وإبلاغ أمره على الوجه الأكمل الذي يحبه ويرتضيه ، دون الالتفات إلى مايصدر من المرسل إليه من قبول أو رفض ، ولا إلى مايجده الرسول ذاته من مشقة الحرج ، أو التعرض للأذى .(1/55)
إذا كان هذا هو الحال فيمن يرسلهم الملوك والزعماء من المخلوقين الضعفاء ، حيث يبلغون عنهم في جرأة وصراحة ، مايحملونه من رسائلهم ، بلاغاً كاملاً دون تملق ولاتزلف لأحد ، ودون تحوير أو اختصار أو تبديل في الرسالة . إذن فكيف برسل رب العالمين ، والدعاة إليه ، أليسوا أحق وأولى بحسن الأداء وكمال البلاغ؟ ... بلى وربي ؛ وقد فعل أنبياء الله ورسله ذلك ، فبلغوا الرسالة ، وأدوا الأمانة ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، حتى أتاهم اليقين . قال تعالى في وصفهم : {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ الله وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً}[الأحزاب:39] ، لذلك فإن على الدعاة إلى الله ، المبلغين لدينه ، أن يعوا هذه المهمة ، وأن يؤدوا هذه الأمانة التي تصدّوا لحملها كاملة غير منقوصة .
ثانياً : مضمون البلاغ المبين عن رب العالمين :
ما الذي تتضمنه هذه الرسالة التي حمّلها الله الأنبياء والرسل ، ثم وكل بها أقواماً من بعدهم آمنوا بها وصدقوها ، واجتهدوا في إتمام إبلاغها ، وإيصالها إلى الناس ، وهم الدعاة إلى الله؟؟ .
إنها تتضمن كلمة واحدة جامعة مانعة ، تحمل معنى العبودية الحقة لله ، وتنفي كل عبودية لغير الله ، وهي عنوان الدين ، وأساسه المتين ، عليها يقوم بنيانه ، وبها يتم للمؤمن إيمانه ، إنها كلمة (( لا إله إلاّ الله )) .
1- فأول ما يُدعى إليه ويُبلَّغ به كلمةُ التوحيد (( لا إله إلاّ الله )) لفظاً ومعنى ، مع البيان لمدلولها ، ومايترتب على قبولها من اعتقاد وعمل .
قال تعالى : {شَهِدَ الله أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18] .
وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ}[النحل:36] .(1/56)
وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25] .
وقال تعالى : {يُنزلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوَاْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتّقُونِ}[النحل:2] .
فجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام على مرّ الأزمان والدهور إنما كانوا يدعون الناس أول ما يدعونهم إلى الإيمان بأنه (( لا إله إلاّ الله )) ، وذلك من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:59] .
- {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:65] .
- {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:73] .
- {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:85] .
- وقال موسى لقومه : {إِنّمَآ إِلََهُكُمُ الله الّذِي لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً}[طه:98] .
- {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِيَ إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبّي وَرَبّكُمْ إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ الله عَلَيهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72] .(1/57)
- وخاطب الله تعالى خاتم أنبيائه ورسله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بقوله : {قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هََذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرَى قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:19] .
وقال تعالى : {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ}[الكهف:110] .
وقال تعالى : {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ . الله الصّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ}[سورة الإخلاص] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في المواسم والأسواق يعرض على قومه الإسلام ويقول : (( يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا ))(1) .
قال ابن إسحاق : (( حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، قال : سمعت ربيعة بن عباد يحدّث أبي قال : إني لغلام شاب بمنى ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب ، فيقول : (( يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من الأنداد ، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعوني ، حتى أبين عن الله مابعثني به ))(2) .
__________
(1) الإمام أحمد ـ المسند ـ 3/63 ، بإسناد صحيح .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/423 .(1/58)
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى أهل اليمن أرشده إلى مايدعوهم إليه ، وكيفية دعوتهم بقوله : (( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ماتدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )) [رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن] .
وهكذا فإن خطاب الدعوة إلى الله أول مايتوجه إلى دعوة الناس إلى أن يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإن كانوا ممن يقولها ، فإن الدعوة تكون إلى بيان مدلولها ، والعمل بمقتضاها ، كما هو الحال في دعوة المسلمين إلى الاستقامة على دينهم والاستجابة لأمر ربهم ، فإن البدع والانحرافات ، والأفكار الهدامة ، والعقائد المنحرفة ، والركون إلى الدنيا وشهواتها إنما دخلت عليهم ، بسبب إما عدم فهمهم لمدلول هذه الكلمة الطيبة العظيمة ومعناها ، وإما لعدم تطبيقهم لها عملاً وسلوكاً إن كانوا ممن يعلم معناها ، ويدرك مدلوها .(1/59)
فاعتقاد أن لا إله إلاّ الله اعتقاداً جازماً على الوجه الصحيح ، لابد أن يدفع صاحبه إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى وتقديسه ، والاعتزاز بشرعه ، وامتثال أمره واجتناب نهيه ، وإخلاص العبادة له وحده سبحانه ، والتذلل والإخبات لجلاله ، وصرف المحبة والخوف والرجاء والإنابة إليه دون غيره ، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بما جاء به من كتاب وحكمة ، واتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ، ومحبته واقتفاء أثره ، والولاء للمؤمنين والبراء من أعداء الدين ، وهكذا يتحقق في حياة المؤمن قول الله تعالى : {قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:162] .
2- ثم إن الدعوة إلى (( لا إله إلاّ الله )) ، وإلى فرائض الإسلام وشرائعه ، تأتي مقرونة بالدعوة إلى اجتناب ما نهى الله عنه ، من شرك ، وخرافة ، وعقائد فاسدة ، وشهوات محرمة ، وبذلك يتحقق قول الله تعالى في الداعين إليه إذ يقول : {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104] .
وقوله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران:110] . فهذه هي السنة التي بعث الله بها أنبياءه ورسله إلى أقوامهم حين أمرهم بدعوتهم فقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ}[النحل:36] ، فأمر بالعبادة وأمر باجتناب مايخل بها أو ينقضها .(1/60)
ومن النهي عن المنكرات ماتضمنته دعوة لوط عليه السلام لقومه ، واستنكار ما يأتون من الفاحشة ، قال تعالى : {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بها مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ . إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ}[الأعراف:80،81] .
ودعوة شعيب لقومه بعدم الظلم والبخس في الكيل والوزن ، قال تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ}[الأعراف:85] .
وجاء في حديث جعفر بن أبي طالب للنجاشي عندما سألهم عن دينهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم قوله : (( حتى بعث الله إلينا رسولاً منا . نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ماكنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات )) (1).
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/336 .(1/61)
وفي حديث أبي سفيان إلى هرقل : (( قال : ماذا يأمركم؟ قلت : يقول اعبدوا الله وحده ولاتشركوا به شيئاً ، واتركوا مايقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة... ))(1) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء الآيات : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ }(2) [الأنعام:151] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيكم يبايعني على ثلاث )) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ }(3) . والآيات بتمامها قول الله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ مّنْ إمْلاَقٍ نّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ الله إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ .وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ .وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ
__________
(1) صفاء العدوي ـ اتحاف القارئ باختصار فتح الباري ـ 1/27 .
(2) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 2/163 .
(3) المصدر السابق .(1/62)
تَتّقُونَ}[الأنعام:151ـ153] . وسورة الأنعام مكية .
ومن الدعاة من جعلوا من أصول دعوتهم ومنهجهم أن لاينهوا عن المنكر . ويقولون : نحن لانتكلم في عيوب الأمة ، ويقولون هذا من أجل مصلحة الدعوة ، فسبحان الله! ، كيف يكون من مصلحة الدعوة مخالفة السنة الإلهية ، والحكمة النبوية في الدعوة إلى الله؟! .
وقد كان الرسل عليهم السلام إلى جانب الدعوة إلى التوحيد والعبادة يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكرات في أقوامهم ، دون فصل بين الأمر والنهي ، أو تهاون وإغضاء عن المنكرات . ولم تكن سنتهم في تأليف أقوامهم أن يتغاضوا عن منكراتهم ، وما كانوا عليهم السلام يدرأون عن أنفسهم الأذى بالسكوت عن النهي عن المنكر ، كما يحلو لبعض الدعاة ـ اليوم ـ أن يسموه حكمة ، وما هو بحكمة ، إن هو إلاّ حظ النفس من حب السلامة ، وإيثار العافية ، على البلاغ المبين .
بل إن أشد ما لاقاه الأنبياء والرسل عليهم السلام من العنت والأذى من أقوامهم ، إنما كان بسبب نهيهم عن المنكرات التي توارثها أقوامهم أباً عن جد ، وأشربوا في قلوبهم حبها ، والبقاء عليها .
فقوم صالح : {قَالُواْ يَصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هََذَا أَتَنْهَانَآ أَن نّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنّنَا لَفي شَكّ مّمّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[هود:62] .
وقوم شعيب : {قَالُواْ يَشُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}[هود:87] .
وقوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى عنهم : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هََذَا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدّكُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هََذَآ إِلاّ إِفْكٌ مّفْتَرًى}[سبأ:43] .(1/63)
قال ابن إسحاق : (( فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام ، وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردوا عليه ـ فيما بلغني ـ حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلاّ من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون ))(1) .
فالنهي عن المنكر في دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام قرين الأمر بالمعروف ، وقسيمه ، ولم يكن من أصول دعوتهم أن يدعوا إلى المعروف ، ويسكتوا عما في أقوامهم من المنكرات ، كما يشيع ـ اليوم ـ عند بعض الدعاة .
أما إن كان السكوت والإغضاء لبعض الوقت ـ وليس أصلاً في الدعوة ـ بسبب مصلحة راجحة أو لدرء مفسدة أكبر ، فهذا كما هو مقرر عند علماء الإسلام من الحكمة التي أمر الله تعالى بها في قوله : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ}[النحل:125] ، والفرق بين أن يكون السكوت عن المنكرات أصلاً في الدعوة ، وبين أن يكون لأمر عارض ومصلحة راجحة ، واضح بيّن ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
- - -
المبحث الثالث : الحكمة في البلاغ والدعوة إلى الله :
معنى الحكمة
في اللغة :
مأخوذ من حَكَمة اللجام ، وهي ما أحاط بحنكي الدابة ، وسميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد ، وهي حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه ، تمنعه عن مخالفة راكبه(2) .
وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه ؛ فقيل للعلم حكمة ، لأنه يمتنع به ، وبه يعلم الامتناع من السفه ، وهوكل فعل قبيح . وكذا القرآن ، والعقل ، والفهم(3) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/264 .
(2) ابن منظور ـ لسان العرب ـ 12/146 .
(3) الإمام القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ 3/330 .(1/64)
وأتى لفظ الحكمة لمعان عديدة منها : العدل ، والعلم ، والحلم ، والنبوة ، والقرآن ، والإنجيل ، والسنة المطهرة(1) ، وفيها جميعاً معنى المنع من الوقوع في الخطأ والسفه .
وفي الاصطلاح :
عُرِّفت الحكمة بعبارات عديدة متقاربة ، فقيل : الإصابة في القول والفعل وقيل : معرفة الحق والعمل به ، وقيل : العلم النافع والعمل الصالح ، وقيل : الخشية لله ، وقيل : السنة ، وقيل : الورع في دين الله ، وقيل : العلم والعمل به ، وقيل : وضع الشيء في موضعه ، وقيل : سرعة الجواب مع الإصابة(2) .
قال الإمام القرطبي بعد ما أورد جملة من هذه التعريفات : (( وهذه الأقوال كلها ، قريب بعضها من بعض ، لأن الحكمة مصدر من الإحكام ، وهو الإتقان في قول أو فعل . فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة ، التي هي الحبس ، فكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة ، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة ))(3) .
وأصدق التعريفات للحكمة _كما نراه_ : أنها وضع الشيء في موضعه .
أو هي : القدرة على فهم الأمور وحسن معالجتها .
أو هي : إصابة الحق بحسن التدبير .
ويطلق لفظ الحكمة على الطب أحياناً ، ويقال للطبيب أنه حكيم . وذلك لأن الطبيب يتفرد بأمرين هما جماع الحكمة ؛ أولهما : القدرة على تشخيص الداء ومعرفته ، والثاني : وصف الدواء المناسب بالقدر المناسب لكل داء .
وكما أن الطبيب حكيم ، فإن الحكيم في سائر أمور الحياة طبيب . إذ إن له قدرة على تشخيص الأمور وفهمها ، واختيار الطريق الأنسب لمعالجتها .
قال الشاعر :
وإن تسألوني بالنساء فإنني
... خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودّهن نصيب
__________
(1) المصدر السابق ، ومدارج السالكين 2/478 .
(2) المصدر السابق ، وانظر : سعيد بن علي بن وهف القحطاني ـ الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ـ ص26 .
(3) المصدر السابق .(1/65)
- وإن كان الطبيب قاصراً في معالجته على أمراض الجسد ، فإن الحكيم طبيب المواقف ، ونطاسيّ المعضلات في شتى أمور الحياة .
ويشيع في فهم كثير من الناس ، بل كثير من الدعاة إلى الله تعالى ، أن الحكمة هي : لين الجانب ، أو أنها : خفض الجناح ، أو أنها : مداراة الناس ، ونحو ذلك .
وهذه المعاني وإن كانت من صور الحكمة في أحيان كثيرة ، إلاّ أنها قد لاتكون من الحكمة في أحيان أخرى ، فضلاً عن أن تكون هي الحكمة .
وعلى هذا ، فقد يكون لين الكلام ، وخفض الجانب من الحكمة .
قال الله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ}[الإسراء:24] .
وقال تعالى مخاطباً نبيه الكريم : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الحجر:88] .
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159] .
وقال تعالى مخاطباً موسى وهارون في بعثهما لفرعون : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44] .
كما أن الحكمة أحياناً تكون في الغلظة والشدة :
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النبي جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة:73] .
وقال تعالى : {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله}[النور:2] .
وقال تعالى : {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً}[التوبة:36] .
أركان الحكمة :
أركان الحكمة ثلاثة : العلم ، فلا حكمة لجاهل .
... ... ... والحلم ، فلا حكمة لطائش .(1/66)
... ... ... وحسن التدبير ، فلا حكمة لمن لايحسن التدبير(1) .
وإذا اجتمعت هذه الثلاثة فثمّ الحكمة .
فأما العلم فإنه ركن الحكمة الأول :
إذ إن الحكيم لايكون كذلك إلاّ إذا كان عالماً بما يأتي وما يدع ، أما الجاهل فأنى له أن يعلم الحق ، أوأن يصيب الهدف . أيمكن للرامي إذا لم يكن عالماً بالرمي ، ولم يكن مبصراً للرميّة أن يصيب هدفه ؟ أو يصيد رميّته ؟ فكذلك الحكيم فإنه لايبلغ درجة الحكمة ، ولايصيب الحق إلاّ بعلم ودراية .
والداعي إلى الله ، الموصى من الله باتخاذ الحكمة في دعوته ، إنما يكون له ذلك إذا كان يدعو إلى الله على علم وبصيرة . قال الله تعالى : {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108] .
قال ابن كثير : (( يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والأنس ، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله ، أي طريقته ومسلكه وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له ، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ، ويقين وبرهان ، هو وكل من اتبعه ، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ، ويقين ، وبرهان عقلي وشرعي ))(2) .
__________
(1) ذكر ابن القيم في كتابه مدارج السالكين 2/480 ـ وتابعه على ذلك صاحب كتاب الحكمة في الدعوة ص43 ـ أن للحكمة ثلاثة أركان ، فذكر العلم ، والحلم ، والأناة . وقد رأينا أن حسن التدبير إذا لم يصاحب العلم والحلم فلا حكمة.أما الأناة فهي من لوازم الحلم غير منفصلة عنه.لذا يكون حسن التدبير هو الركن الثالث للحكمة.
(2) ابن كثير ـ التفسير ـ 2/428 .(1/67)
وقال العلامة الشيخ ابن عثيمين ، على وجه التفصيل : (( إن الدعوة إلى الله على غير علم ، خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن اتبعه . واستمعوا إلى قول الله تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108] . فقال : أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، أي أن من اتبعه صلى الله عليه وسلم ، فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لاعلى جهل ، وتأمل أيها الداعي إلى الله قول الله تعالى : {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي : على بصيرة في ثلاثة أمور :
أولاً : أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه :
بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي الذي يدعو إليه ، لأنه قد يدعو إلى شيء يظن أنه واجب ، وهو في الشرع غير واجب ، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به ، وقد يدعو إلى ترك شيء يظن أنه محرم ، وهو في دين الله غير محرّم ، فيحرّم على عباد الله ما أحله الله لهم ...
ثانياً : أن يكون على بصيرة بحال المدعو :
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن ، ماذا قال له؟ : (( إنك تأتي قوماً أهل كتاب )) ، ليعرف حالهم ويستعدّ لهم ...
ثالثاً : أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة :
وهذه يفقدها بعض الدعاة ، تجد عنده من الغيرة ، والحماس ، والاندفاع ، شيئاً كثيراً ، لايستطيع معه أن يمنع نفسه مما يريد أن ينفذه ، فيدعو إلى الله بغير حكمة ، والله سبحانه وتعالى يقول : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ }(1) [النحل:125] .
وأما ركن الحكمة الثاني فهو الحلم :
__________
(1) فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ الصحوة الإسلامية : ضوابط وتوجيهات ـ ص26 (مختصراً) .(1/68)
فالحليم يملك عقله ويملك نفسه ، ويدرك حاجته . وذلك أنه بالحلم ينتفي الطيش ، والسفه ، اللذان لايملك معهما الإنسان عقله ، وبالحلم ينتفي الغضب الذي لايملك معه الإنسان نفسه ، وكثيراً ما يقترف صاحب الغضب الفعل ، ثم يندم عليه ، ولاينفعه ندم ، وبالحلم تنتفي العجلة ، والتسرع في غير موضعهما ، فلا يفوت على الحليم مايفوت على المستعجل المتسرع .
ومن ملك عقله ، ونفسه ، وأدرك حاجته ، فلعمر الله إنه لحكيم .
وأما الركن الثالث للحكمة فهو حسن التدبير :
وحسن التدبير هو ثمرة لأمرين :
أحدهما : الذكاء والفطنة ، فلا يحسن التدبير من كان ذا غباوة أو غفلة .
وثانيهما : التجربة والخبرة ، فمن ليس له تجربة ولاطول خبرة ، فحريّ به ألا يحسن تدبير نفسه ولاغيره .
ولا غنى للداعي إلى الله تعالى عن الحكمة ، وإلاّ فإن ضرره سيكون أكبر من نفعه ، ولذلك فعليه أن يعتني بهذه الأركان الثلاثة ويوطن نفسه عليها والله المستعان .
أهمية الحكمة للداعية :
إن الداعي إلى الله تعالى لا ينبغي له أن يسير في دعوته إلاّ بالحكمة ، كما أسلفنا .
قال الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] .
وقال تعالى : {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108] .
فالحكمة طريقه التي يسلكها إلى قلوب الناس وعقولهم ، وأداته التي يعالج بها فتح هذه القلوب دون كسرها ، واستدراج هذه العقول دون قسرها . إنها أداة حرفته ومهنته .
فإذا كان لكل صاحب مهنة أدواته التي لايستغني عنها ، ولاتقوم حرفته إلاّ بها ، فإن الدعوة مهنة الأنبياء وأتباعهم من العلماء وسائر الدعاة إلى الله تعالى وإن أداتها : الحكمة .(1/69)
وانظر ـ رعاك الله ـ فأي حرفة أشرف وأرفع قدراً ، من حرفة أصحابها الأنبياء ، ووسيلتها وأداتها الحكمة .قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ .وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ .وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ}[فصلت:33 ، 34 ، 35] .
وقال تعالى : {يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}[البقرة:269] .
كيف يكون الداعية حكيماً ؟
ما دام أن الحكمة : وضع الشيء في موضعه ، أو القدرة على فهم الأمور وحسن معالجتها ، أو إصابة الحق بحسب التدبير ، أو نحواً من ذلك ، فإن الحكمة في عمل الداعي إلى الله ، أن يختار القول المناسب لمن يخاطبه ، والوقت المناسب للخطاب ، والمكان المناسب ؛ كالمسجد أو الطريق أو المنزل أو السوق أو غير ذلك ، والحال المناسب ؛ كأن يكون هادئ النفس ، أو مسروراً ، أو متحمساً ، أو نحوها ، والقدر المناسب ؛ من إيجاز أو تفصيل ، أو حزم ، أو لين ، والخطاب المناسب ؛ كالموعظة ، أو النصيحة ، أو الرسالة ، أو التعميم ، أو التخصيص ، أو الهجر ، أو الزجر ، أو الترفق ، أو نحو ذلك .
والأمر في هذا مبني على اجتهاد الداعية ، وفراسته ، وخبرته ، وحسن تدبيره ، وتحريه الأصلح ، من غير تكلف زائدٍ ، ولاتهاون وتفريط ، بل إن في بذل الجهد ، واستشارة الإخوان ، خصوصاً أهل العلم والرأي منهم ، وتحري الصواب ، إعذاراً للمجتهد .
ما يعين الداعية على التخلق بالحكمة
ومما يعين على فهم الحكمة في الدعوة ، والتخلق بها أمور ، منها :(1/70)
1- تدبر القرآن الكريم ، وتنوع خطابه بين أمر ونهي ، وترغيب في خطابه لأصناف الناس ، وعرضه لحقائق الدين وترهيب ، وقصص ، وشدة ، ولين ، وإيجاز وإطناب ، ونحو ذلك .
2- تدبر السنة المطهرة ، والسيرة النبوية المعطرة ، ومواقفه صلى الله عليه وسلم المختلفة ، في شتى أحواله ودعوته ، وما تمثله من صبر على الأذى ، وصدع بالحق ، وتلطف في الخطاب مع الثبات على المبدأ ، والتنقل بالدعوة من مكان إلى مكان ، والمواجهة الحازمة للكفر وأهله ، مرة بالثبات والصبر ، ومرة بالجهاد والزجر ، ومرة بالعفو والصفح ، ومرة بالعقاب والردع ، وغير ذلك من المواقف النبوية الكريمة .
وإن الداعية بتدبره للقرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة المعطرة ، يعطى نفسه تصوراً صحيحاً للدين ، ودعوته ، وقواعده ، وشرائعه ، ومقاصده ، فينال بذلك العلم الصحيح الذي هو الركن الأول من أركان الحكمة .
3- الوقوف على سير الصحابة رضي الله عنهم ، والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة السلف رحمهم الله ، ونبلاء الرجال في سائر الأزمان . فإن مواقف أفذاذ الرجال ، فيها القدوة الحسنة ، والمثل الحي ، كما أنها تشحذ في نفس الداعية العزائم ، وتحرك الهمم ، وتوقد الحماس ، وتبصر بالمواقف .
4- ومما يعين على التخلق بالحكمة ، كثرة التفكر ، والتدبر ، في الكون ، والحياة ، والناس ، والاتعاظ بما جرى ، وما يجري من أحوال الناس ، وما يمرّ على الداعية نفسه من المواقف والأحداث .
5- ومن أعظم الأسباب المعينة على التخلق بالحكمة ، تقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلن ، وأخذ النفس بالعفة والورع ، وطول الصمت ، وتزكية النفس ، وتطهير القلب من أدران الدنيا ، وملؤه بمحبة الله ورسوله ، فعند ذلك تشرق في وجدانه شمس البصيرة ، وتتفجر بين جوانحه ينابيع الحكمة .(1/71)
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}[الحديد:28] .
قال الله تعالى : {يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ الله يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الأنفال:29] .
وقال تعالى : {وَاتّقُواْ الله وَيُعَلّمُكُمُ الله وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282] .
6- ومما يعين الداعية على التخلق بالحكمة ، طول تجاربه ، وعمق خبرته ، بأصناف الناس ، واختلاف المواقف ، وتعدد الأساليب ، فكلما زاد تمرسه بدعوته ، ومعالجته للمواقف المختلفة ، ومخاطبتة لأصناف الناس ، وتعرضه لألوان المواجهات ، كلما ازداد حكمة ، وبصيرة ، والله الموفق والمستعان على كل حال .
- - -
المبحث الرابع : سبل البلاغ المبين
لقد سلكت الدعوة النبوية في طريقها إلى الناس ، سبيلين اثنين :
السبيل الأول : الدعوة الفردية :
وكانت أول مابدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوته ، حيث بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم فيها بأقرب الناس إليه ، وأقربهم إلى قبول الحق والهدى ، حتى تكونت النواة الأولى للدعوة من السابقين الأولين ، وهم أشد الناس قناعة ، وتصديقاً بالوحي ، وأشدهم حباً وولاءً للرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم كانت الدعوة العامة بعد ذلك .(1/72)
ويكثر وصف هذه المرحلة بالدعوة السرية ، وما كانت سرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، وذلك لأن هذه الفترة التي تقدر بثلاث سنين عند أكثر أهل السير ، أسلم فيها ما يزيد على سبعين من الصحابة رضي الله عنهم ، ولايمكن أن يخفى إسلامهم على أهل مكة ، خاصة أن كثيراً من الصحابة الأوائل كان لإسلامهم أثر عظيم على أهليهم وسائر قريش ، كإسلام أبي بكر ، وعثمان ، وطلحة ، وسعد ، ومصعب بن عمير وغيرهم .
كذلك فإن من أوائل ما نزل من الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد (( اقرأ )) ، سورة المدثر ، وفيها : (( قم فأنذر )) ، والقيام بالإنذار يقتضي إظهار الدعوة .(1/73)
كما أنه كان من أوائل الصحابة رضي الله عنهم إسلاماً ، أفراد جاءوا من قبائل شتى ، فمنهم من علم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة كضمام بن ثعلبة رضي الله عنه ، ومنهم من علم بها في قومه كأبي ذر رضي الله عنه فجاء إلى مكة فأسلم (( والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة أول الإسلام ، فكان رابع أربعة ، وقيل خامس خمسة ))(1) ، روى البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : (( لما بلغ أباذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لأخيه : اركب إلى هذا الوادي ، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء ، فاسمع من قوله ثم ائتني به ، فانطلق الآخر حتى قدمه وسمع من كلامه ، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ماهو بالشعر . فقال : ما شفيتني مما أردت . فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة ، فأتى المسجد ، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولايعرفه ، وكره أن يسأل عنه ، حتى إذا أدركه بعض الليل ، اضطجع فرآه علي ، فعرف أنه غريب ، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد ، وظل ذلك اليوم ولايراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى ، فعاد إلى مضجعه ، فمرّ به على ، فقال : أما آن للرجل يعلم منزله ، فأقامه ، فذهب به معه ، ولايسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ، حتى إذا كان يوم الثالث ، فعاد على مثل ذلك ، فأقام معه ، فقال : ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ ، قال : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت ، ففعل ، فأخبره . قال فإنه حق وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أصبحت فاتبعني ، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، قمت كأني أريق الماء ، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ، ففعل . فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخل معه ، فسمع من قوله ، وأسلم مكانه . فقال له النبي
__________
(1) أسد الغابة 1/357.(1/74)
صلى الله عليه وسلم : (( ارجع إلى قومك فأخبرهم ، حتى يأتيك أمري )) . فقال : والذي بعثك بالحق ، لأصرخن بها بين ظهرانيهم ، فخرج حتى أتى المسجد ، فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، ثم قام ، فضربوه حتى أضجعوه ، فأتى العباس فأكب عليه ، فقال : ويلكم ، ألستم تعلمون أنه من غفار ، وأن طريق تجارتكم إلى الشام ، فأنقذه منهم ، ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه ، وثاروا إليه ، فأكب العباس عليه ))(1)[رواه البخاري] .
فهذه الرواية بطولها ، تدل على أن الدعوة عرفت ، وذاع خبرها من أول أمرها حتى في قبائل العرب خارج مكة ، فالإسرار لم يكن بالدعوة . وإنما كان ممن كان يسلم من الصحابة الأوائل ، ويخاف على نفسه الفتنة ، فكان يخفي إسلامه ، وهذا في عامة الصحابة رضي الله عنهم ، وتتضح في فعل علي رضي الله عنه ، وقوله : (( فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، قمت كأني أريق الماء ، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي )) . عن محمد بن كعب : قال أبوبكر : (( أنا أول من أظهر الإسلام ، وكان علي يكتم الإسلام فرقاً من أبيه ، حتى لقيه أبوطالب ، فقال : أسلمت؟ قال : نعم ، قال : آزر ابن عمك وانصره ))(2) ، قال ابن إسحاق : (( وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ، ذهبوا في الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم . فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين ، وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم مايصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلاً من المشركين بلحي بعير ، فشجه ، فكان أول دم هريق في الإسلام ))(3) .
__________
(1) انظر : مختصر صحيح البخاري (المسمى التجريد الصريح) ـ للزبيدي ـ برقم(1470) ص331 .
(2) المحب الطبري ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة ـ 1/79 .
(3) ابن هشام 1/263 .(1/75)
يقول المباركفوري في الرحيق المختوم : (( فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين ، لايصرفه عن ذلك شيء ، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سراً ، نظراً لصالحهم وصالح الإسلام ، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا ، وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم ، فكان اتخذها مركزاً لدعوته ، ولاجتماعه بالمسلمين ))(1) .
وعلى هذا فقد كانت قريش تعلم بأمر هذه الدعوة الجديدة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، لاينكرها ، ولايخفيها ، بل كان يبلغها كل من لقيه من الناس ، وكل من توسم فيه القبول لدعوته . وكان أصحابه رضي الله عنهم كذلك ، يدعون إلى الله أفراد الناس ممن يتوسمون فيهم القبول والاستجابة ، قال ابن إسحاق : (( فلما أسلم أبوبكر رضي الله عنه ، أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله ورسوله .. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ، ممن يغشاه ويجلس إليه ))(2) . وعلى هذا فإن هذه المرحلة من الدعوة النبوية يصدق عليها أن تُسمى مرحلة الدعوة الفردية ، أقرب من تسميتها بالدعوة السرية . والله أعلم .
هذا وإن الدعوة الفردية لم تكن مرحلة فقط في الدعوة ، بل كانت سمة من سماتها في جميع مراحلها .
صور الدعوة الفردية :
اتخذت الدعوة الفردية التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صوراً عديدة منها :
أ - الزيارة(3) :
__________
(1) صفي الرحمن المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ ص105 .
(2) ابن هشام 1/249 .
(3) جعلنا الزيارة صورة من صور الدعوة الفردية ، على اعتبار أن الزائر في الأغلب الأعم ، إنما يقصد بزيارته فرداً ، أو عدداً محدوداً من الناس ، وإلاّ فإن الزيارة قد تكون لجماعة من الناس ، وللبلدة ، ونحو ذلك مما يعدّ من صور الدعوة الجماعية كذلك .(1/76)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أسواق العرب وفي المواسم يزور الأقوام في منازلهم ، يدعوهم إلى الله ، ويعرض عليهم أن يمنعوه وينصروه حتى يبلغ دين الله . عن ربيعة بن عباد الدؤلي ، قال : (( إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : (( يابني فلان إني رسول الله إليكم ، آمركم أن تعبدو الله ولاتشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله مابعثني به ))(1) . قال ابن إسحاق : (( وحدثني ابن شهاب الزهري أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم ، وفيهم سيد لهم يقال له مليح ، فدعاهم إلى الله عزوجل ، وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن حصين ، أنه أتى كلباً في منازلهم إلى بطن منهم ، يقال لهم بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، حتى ليقول : (( يابني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم )) فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم . وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، فلم يك أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم . وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ))(2) .
__________
(1) ابن هشام 1/424 .
(2) ابن هشام 1/424 ، وابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/136،137 .(1/77)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ ـ أحياناً ـ له رفقة من أصحابه في زيارته لمنازل العرب في الأسواق والمواسم . عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه وأبوبكر إلى منى ، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبوبكر رضي الله عنه فسلم ، وكان أبوبكر مقدماً في كل خير ، وكان رجلاً نسابة ، فقال ممن القوم؟ قالوا : من ربيعة ... قال : ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار ، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات ، فتقدم أبوبكر فسلم ، قال علي : وكان أبوبكر مقدماً في كل خير ، فقال لهم أبوبكر : ممن القوم؟ قالوا من بني شيبان بن ثعلبة ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عزّ في قومهم ))(1) . وقال الواقدي : (( أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال : جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى ، ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، وهو على راحلته ، مردفاً خلفه زيد بن حارثة ، فدعانا ، فو الله ما استجبنا له ولاخيّرنا له ))(2) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة يزور أقواماً من يهود ، في أسواقهم ، وفي بيت المدراس ، وهو معبدهم الذي يتدارسون فيه كتابهم .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/141 .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/143 .(1/78)
قال ابن إسحاق : (( ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ، ورغبهم فيه ، وحذرهم عذاب الله ونقمته . فقال له رافع بن خارجة ، ومالك بن عوف : بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيراً منا . فأنزل الله عزوجل في ذلك من قولهما : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[البقرة:170] .
ولما أصاب الله عزوجل قريشاً يوم بدر ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود في سوق بني قينقاع ، حين قدم المدينة ، فقال : يامعشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشاً ، فقالوا له : يامحمد ، لايغرّنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً لايعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله تعالى على ذلك من قولهم : { قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ في فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ في سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ}[آل عمران:12ـ13] .(1/79)
قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ قال : على ملّة إبراهيم ودينه ، قالا : فإن إبراهيم كان يهودياً ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلمّ إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه . فأنزل الله تعالى فيهما : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُمْ مّعْرِضُونَ . ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ في دِينِهِمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }(1) [آل عمران:23ـ24] .
ب - الرسائل والمكاتبات :
قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام : {اذْهَب بّكِتَابِي هََذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمّ تَوَلّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ . قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلاُ إِنّيَ أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ . إِنّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ الله الرّحْمََنِ الرّحِيمِ . أَلاّ تَعْلُواْ عَلَيّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:28ـ31] .
وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم الكتب ، وأرسل رسله إلى الملوك والزعماء في زمانه أداءً للرسالة ، وإتماماً للبلاغ المبين . وذلك لقول الله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ}[سبأ:28] ،
وقوله تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}[الأعراف:158] .
وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] ، وكانت هذه المكاتبات والرسائل نوعاً من دعوة الأفراد ، سواء كانوا ملوكاً ، أو زعماء ، أو غيرهم .
__________
(1) ابن هشام 1/252 .(1/80)
قال ابن هشام : (( فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً من أصحابه ، وكتب معهم كتباً إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام . فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ، ملك الروم . وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ، ملك فارس ، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة ، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية ، وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياد ابني الجلندى الأزديين ملكي عمان . وبعث سليط بن عمرو ، أحد بني عامر بن لؤي ، إلى ثمامة بن أثال ، وهوذة بن علي الحنفيين ، ملكي اليمامة . وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ، ملك تخوم الشام . قال ابن هشام : بعث شجاع بن وهب إلى جبلة بن الأيهم الغساني ، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ، ملك اليمن ))(1) .
__________
(1) ابن هشام 2/607 .(1/81)
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى أهل دما ، وهي قرية من قرى عمان ، وكان عليها رجل من أساورة كسرى . يقال له بستجان . وكتب إلى رعيّة السحيمي ، فأخذ الكتاب ورقع به دلوه ، فبعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم سرية فأخذت ماله وأهله ، فجاء المدينة نادماً ، فبايع على الإسلام ، وأحرز أهله . وكتب إلى مسيلمة الكذاب زعيم اليمامة يدعوه إلى الإسلام ، مع عمرو بن أمية الضمري . وكتب إلى عظيم بصرى وأرسله مع الحارث بن عمير الأزدي . وكتب إلى بكر بن وائل . وكتب إلى بني عمرو من حمير ، يدعوهم إلى الإسلام . وكتب إلى ذي الكلاع بن ناكور وإلى ذي عمرو مع جرير بن عبد الله البجلي فأسلما ، وأسلمت امرأة ذي الكلاع . وكتب إلى معدي كرب بن أبرهة ، وأن له ما أسلم عليه من أرض خولان . وكتب إلى أسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ، ورهبانهم . وكتب إلى يحنة بن روبة صاحب أيلة . وكتب إلى أبي ظبيان الأزدي من غامد ، فأجابه في نفر من قومه بمكة . وكتب إلى الحارث ومسروح ونعيم بن كلال من حمي ، وبعث الكتاب مع عياش بن أبي ربيعة المخزومي . وكتب إلى نفاثة بن فروة الدئلي ملك السماوة . وكتب إلى غير هؤلاء ممن ذكرهم ابن سعد في طبقاته ، وغيره من المؤرخين ))(1) .
ومن هذه الكتب :
1- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي :
__________
(1) د . مهدي رزق الله أحمد ـ السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ـ ص522ـ524 .(1/82)
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى النجاشي ملك الحبشة ، أسلم أنت ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت به ، فخلقه من روحه ، ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى الله وحده لاشريك له ، والموالاة عن طاعته ، وأن تتبعني ، وتؤمن بالذي جاءني ، فإني رسول الله ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل ، وقد بلغت ونصحت ، فاقبلوا نصيحتي ، والسلام على من اتبع الهدى ))(1) .
2- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن بالله ورسوله ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله . وأدعوك بدعاء الله ، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ، ويحق القول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت ، فإن إثم المجوس عليك ))(2) .
3- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله ، إلى هرقل عظيم الروم . سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين . فإن توليت فعليك إثم الأريسيين : {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ الله فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ} ))(3)[آل عمران:64] .
جـ - اغتنام اللقاءات العارضة :
__________
(1) المصدر السابق ص515 .
(2) المصدر السابق ص517 .
(3) المصدر السابق .(1/83)
من طرق الدعوة الفردية اغتنام اللقاءات العارضة بالمدعوين ، ودعوتهم إلى الله تعالى . ومن ذلك ما قصّه القرآن الكريم عن نبي الله يوسف عليه السلام عندما استفتاه الفتيان في رؤية كل منهما ، : { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمّا عَلّمَنِي رَبّيَ إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتّبَعْتُ مِلّةَ آبَآئِيَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ . يَا صَاحِبَيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ أَسْمَآءً سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مّآ أَنزلَ الله بها مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ . يَا صَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً وَأَمّا الاَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}[يوسف:37ـ41] .
فاغتنم يوسف عليه السلام مجيئهما إليه ، وحاجتهما عنده بتأويل رؤياهما ، ومايقتضيه الحال من إصغائهما وحرصهما على فهم كل مايقول ، اغتنم هذه الفرصة التي سنحت في الدعوة إلى الله تعالى ، وإبلاغ دينه ، وبيان وجوب توحيده سبحانه وإفراده بالعبادة دون من سواه ، فبلّغ دعوته ، ثم قضى حاجتهما بتأويل رؤياهما .(1/84)
وأخرج البيهقي عن المغيرة بن شعبة ، قال : إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبوجهل بن هشام ، في بعض أزقّة مكة ، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل : (( يا أبا الحكم ، هلمّ إلى الله وإلى رسوله ، أدعوك إلى الله )) ، فقال أبوجهل : يامحمد ، هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟! هل تريد إلاّ أن نشهد أنك قد بلغت؟ ، فنحن نشهد أن قد بلغت . فو الله لو أني أعلم أن ماتقول حق لاتبعتك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عليّ ، فقال : والله إني لأعلم أن مايقول حق ... ))(1) .
ومن اغتنام الداعية للقاءات العارضة ما أخرجه الطبراني عن ذي الجوشن الضبابي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن فرغ من أهل بدر ، بابن فرس لي يقال لها (( القرحاء )) ، فقلت : يامحمد ، قد جئتك بابن القرحاء لتتخذه ، قال : (( لا حاجة لي فيه ، وإن أردت أن أقيضك بها المختارة من دروع بدر فعلت )) ، فقلت : ماكنت لأقيضه اليوم بغرّة ، قال : (( لا حاجة لي فيه )) ، ثم قال : (( ياذا الجوشن ، ألا تسلم فتكون من أول أهل هذا الأمر؟ )) (2).
__________
(1) ابن كثير - البداية والنهاية - 3/64 ، وانظر حياة الصحابة للكاندهلوي 1/84 .
(2) الهيثمي - مجمع الزوائد 6/162 ، وانظر حياة الصحابة للكاندهلوي 1/80 .(1/85)
ومن ذلك ما أخرجه أبويعلى عن حرب بن سريج ، قال : حدثني رجل من بلعدوية ، قال : حدثني جدي ، قال : (( انطلقت إلى المدينة ، فنزلت عند الوادي ، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة ، وإذا المشتري يقول للبائع : أحسن مبايعتي ، قال : فقلت في نفسي : هذا الهاشمي الذي قد أضل الناس أهو هو؟ ، قال : فنظرت فإذا رجل حسن الجسم ، عظيم الجبهة ، دقيق الأنف ، دقيق الحاجبين ، وإذا من ثغرة نحره إلى سرته مثل الخيط الأسود شعر أسود ، وإذا هو بين طمرين ، قال : فدنا منّا ، فقال : السلام عليكم ، فرددنا عليه ، فلم ألبث أن دعا المشتري ، فقال : يارسول الله قل له : يحسن مبايعتي ، فمدّ يده ، وقال : (( أموالكم تملكون ، إني لأرجو أن ألقى الله عزوجل يوم القيامة ، لايطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ، ولا في دم ، ولا عرض ، إلاّ بحقه ، رحم الله امرأ سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل الأخذ ، سهل العطاء ، سهل القضاء ، سهل التقاضي )) ، ثم مضى . فقلت : والله لأقضينّ هذا ، فإنه حسن القول ، فتبعته ، فقلت : يا محمد ، فالتفت إلىّ بجميعه ، فقال : (( ما تشاء ))؟ ، فقلت : أنت الذي أضللت الناس وأهلكتهم وصددتهم عما كان يعبد آباؤهم؟ ، قال : (( ذاك الله )) . قال : ما تدعو إليه؟ ، قال : (( أدعو عباد الله إلى الله )) ، قال : قلت : ما تقول؟ ، قال : (( أشهد أن لا إله إلاّ الله وأني محمد رسول الله ، وتؤمن بما أنزله عليّ ، وتكفر باللات والعزى ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة )) ، قال : قلت : وما الزكاة؟ ، قال : (( يرد غنينا على فقيرنا )) ، قال : قلت : نعم الشيء الذي تدعو إليه . قال : فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إليّ منه ، فما برح حتى كان أحب إليّ من ولدي ووالديّ ومن الناس أجمعين . قال : فقلت : قد عرفت ، قال : (( وتؤمن بما أنزل عليّ؟ )) قال : قلت : نعم ، يا رسول الله . إني أرد ماءً عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى مادعوتني إليه ، فإني(1/86)
أرجو أن يتبعوك ، قال : (( نعم ، فادعهم )) ، فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه )) (1).
ومن اغتنام الداعية لبعض الأحوال ، واتخاذها مناسبة لدعوته وموعظته . ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي ، فإذا امرأة من السبي ، قد تحلب ثديها ، تسعى ، إذ وجدت صبياً ، فأخذته ، فألصقته ببطنها ، وأرضعته ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أترون هذه طارحة ولدها في النار ))؟ ، فقلنا : لا ، وهي تقدر على أن لاتطرحه ، فقال : (( الله أرحم بعباده من هذه بولدها )) [متفق عليه] .
ومثل هذا ما أخرجه أبو داود عن بعض الصحابة ، قال : (( بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل رجل عليه كساء ، وفي يده شيء قد التف عليه ، فقال : يارسول الله ، مررت بغيضة شجر فيها أصوات فراخ طائر ، فأخذتهن ، فوضعتهن في كسائي . فجاءت أمهن فدارت على رأسي ، فكشفت لها عنهن ، فوقعت عليهن ، فلففتهن بكسائي ، فهن أولاء معي . فقال : ضعهن ، فوضعتهن ، فأبت أمهن إلاّ لزومهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أتعجبون لرحم أم الأفراخ بفراخها ، فوالذي بعثني بالحق ، لله أرحم بعباده من أمّ الأفراخ بفراخها . ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن ، وأمهن معهن ، فرجع بهن ))(2) أهـ .
السبيل الثاني : الدعوة العامة
__________
(1) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 9/18 ، قال : وفيه راوٍ لم يسمّ ، وبقية رجاله وثقوا .
(2) الإمام الشوكاني ـ تحفة الذاكرين ـ ص12 .(1/87)
وهي الدعوة التي يتوجه فيها الخطاب إلى عموم الناس ، وينبغي أن يكون هذا الخطاب جامعاً مانعاً بيناً ، بحيث يتبين للمخاطبين غاية هذه الدعوة ، ومضمونها ، وما ينبغي عليهم تجاهها ، وقد كان الوحي يتنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، مخاطباً الناس عامة والمؤمنين خاصة بالدعوة إلى الإيمان والتوحيد والاستجابة لله ورسوله ، قال الله تعالى : {يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ . الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:21،22] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلََكِنّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ}[الحج:1،2] .
وقال تعالى مخاطباً المؤمنين : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[الإحزاب:70،71] .(1/88)
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُوَاْ أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنّصَارِيَ إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآمَنَت طّآئِفَةٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طّآئِفَةٌ فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ}[الصف:14] ، فالخطاب في هذه الآيات ، ونحوها ، خطاب عام إلى عموم الناس ، أو إلى عامة المؤمنين .
ولقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة الفردية إلى الدعوة العامة ، بعد ثلاث سنوات على أشهر الأقوال . وكان هذا الانتقال على مراتب ، تدرج بها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة العامة حتى بلغ بها الإنذار العام لكافة الثقلين من الجن والإنس .(1/89)
يقول ابن القيم في كتابة القيم زاد المعاد : (( فصل في ترتيب الدعوة ، ولها مراتب : المرتبة الأولى : النبوة ، الثانية : إنذار عشيرته الأقربين ، الثالثة : إنذار قومه ، الرابعة : إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله ، وهم العرب قاطبة ، والخامسة : إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر ))(1) ، والمراتب من الثانية إلى الخامسة هي مراتب الدعوة العامة (الجهرية) ، أما المرتبة الأولى وهي النبوة : فالأصح أنها لفترة ما بين نزول : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ}و : {يَا أَيُّهَا الْمُدّثّرُ}حيث نبىء الرسول صلى الله عليه وسلم بـ: (( اقرأ )) ، ولم يؤمر بعد بالإنذار والبلاغ ، وأرسل بـ : (( المدثر )) ، حيث قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدّثّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ}. ثم تأتي الفترة بين (( المدثر )) ، ونزول قول الله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} . وتقدر كما أسلفنا بثلاث سنين ، وهي مرتبة الدعوة الفردية ، المسماه عند كثير من أهل السير بفترة الدعوة السرية ، وعلى هذا فالمراتب ست ، وليست خمساً كما عدها ابن القيم رحمه الله .
أما الدعوة العامة ، فبدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمره الله بها فقال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}[الشعراء:214] ،
وقال تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] .
__________
(1) زاد المعاد 1/86 .(1/90)
قال ابن إسحاق : (( ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، وتحدث به ، ثم إن الله عزوجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاء منه ، وأن يبادي الناس بأمره ، وأن يدعو إليه ، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين ـ فيما بلغني ـ من مبعثه ، ثم قال الله له : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] ، وقال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:214،215] .
وقال تعالى : {وَقُلْ إِنّيَ أَنَا النّذِيرُ الْمُبِين}[الحجر:89] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( لما أنزل الله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} . أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : (( ياصباحاه )) ، فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني كعب : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أصدقتموني؟ )) ، قالوا : نعم ، قال : (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )) ، فقال أبولهب : ـ لعنه الله ـ : تباً لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلاّ لهذا؟! ، وأنزل الله عزوجل : {تَبّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَب}[رواه البخاري ومسلم] .(1/91)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (( لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عرفت أني إن بادرت بها قومي رأيت منهم ما أكره ، فصمَتُّ ، فجاءني جبريل عليه السلام ، فقال : (( يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار )) ، قال علي : فدعاني ، فقال : (( يا علي ، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادرتهم بذلك ، رأيت منهم ما أكره ، فصمَتُّ عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك ، فاصنع لي يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعد لنا عس لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب )) ، ففعلت ، فاجتمعوا له يومئذٍ ، وهم أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصون ، فيهم أعمامه : أبوطالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبولهب الكافر الخبيث ، فقدمت إليهم تلك الجفنة ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جذبة ، فشقها في أسنانه ، ثم رمى بها في نواحيها ، وقال : (( كلوا بسم الله )) ، فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما يرى إلاّ آثار أصابعهم . والله إن كان الرجل ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اسقهم يا علي )) ، فجئت بذلك القعب ، فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً . وأيم الله إن كان أحدهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بدره أبولهب لعنه الله ، فقال : لهدّ ما سحركم صاحبكم ، فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عدلنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب ، فإن هذا الرجل قد بدر إلى ماسمعت قبل أن أكلم القوم )) ، ففعلت ، ثم جمعتهم له ، وصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه(1/92)
، وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اسقهم ياعلي )) ، فجئت بذلك القعب ، فشربوا حتى نهلوا جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمهم ، بدره أبولهب لعنه الله إلى الكلام فقال : لهد ما سحركم صاحبكم ، فتفرقوا ، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان من الغد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا علي ، عُد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم )) . ففعلت ثم جمعتهم له . فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا ، وأيم الله ، إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة ))(1) أهـ .
وهكذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين بلاغاً عاماً ، وبلغ قومه قريشاً عندما صعد على الصفا وناداهم جميعاً بلاغاً عاماً كذلك. ولاشك أن البلاغ العام أشق على نفس الداعية ، وأعظم خطراً عليه ، كما أنه أوسع أثراً في الناس .و فيه ظهور الدين ، وعلو الكلمة ، وصراحة المواجهة . ولذلك فإن أذى قريش إنما اشتد على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بعد إعلانه الدعوة ، وصدعه بالحق .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/37 .(1/93)
يقول منير غضبان ، في كتابه فقه السيرة النبوية : (( والذي نشأ عن تعميم الدعوة لقريش كلها ، أن انضم إلى الدعوة روافد جديدة من بطون قريش التي بلغت اثني عشر بطناً ، رفعت رصيد الدعوة إلى قرابة الثلاثمائة بين رجل وامرأة ، رغم الحرب التي خاضتها قريش بقياداتها الرسمية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودينه ، ودعوته ))(1) .
صور الدعوة العامة
والدعوة العامة لها صور عديدة ، أهمها :
أ – الخطابة:
وهي أول ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم ، في بلاغه العام ، لما أنزل الله أمره إليه بقوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} . وقوله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . فإنه صعد صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وخطب فيهم ، خطبة الإنذار الأول ، فقال : (( يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني كعب : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أصدقتموني ))؟ ، قالوا : نعم ، قال : (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )) [رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] .
__________
(1) منير غضبان ـ فقه السيرة ـ ص147 .(1/94)
وما حظيت الدعوة العامة في مكة من الخطابة ، إلاّ بهذه الخطبة الموجزة البليغة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخطبة أخرى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في المسجد الحرام تعرّض بسببها لأذى شديد من قريش ، فكان أول خطيب في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : (( لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ، ألحّ أبوبكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ، فقال : (( يا أبا بكر إنا قليل )) ، فلم يزل أبوبكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد ، كل رجل في عشيرته ، وقام أبوبكر في الناس خطيباً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/29 .(1/95)
ولقد كان للخطابة دورها العظيم ، وأثرها البالغ ، في الدعوة إلى الله ، وبيان ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من موعظة وهدى للناس . وشرعت لذلك خطب الإسلام العظمى ، كخطبة الجمعة ، وخطبة العيدين ، وخطبة يوم عرفة . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كلما أهمه أمر ، وعزم على بلاغ ، أرسل مناديه ، في المدينة ، أن الصلاة جامعة ، فيجتمع الناس لذلك ، فيصعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر ، ويقف فيهم خطيباً ، مبلغاً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، مذكراً بالله ، واليوم الآخر . قال ابن إسحاق : (( وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [أي في المدينة] ، فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن نعوذ بالله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يقل ـ أنه قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : (( أما بعد ، أيها الناس ، فقدموا لأنفسكم . تعلمن والله ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ ، ثم ليقولن له ربه ، وليس له ترجمان ، ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك ، وآتيتك مالاً ، وأفضلت عليك؟ ، فما قدمت لنفسك؟ ، فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم . فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ، ولو بشق من تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها ، إلى سبع مئة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/500 .(1/96)
ومن خطبه صلى الله عليه وسلم ، خطبته يوم الفتح . قال ابن إسحاق : (( فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة ، فقال : (( لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميّ هاتين ، إلاّ سدانة البيت ، وسقاية الحاج ... )) ثم قال : (( يامعشر قريش ، ما ترون أني فاعل فيكم؟ )) قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : (( اذهبوا فأنتم الطلقاء ))(1) .
ولا تكاد تمرّ مناسبة ، أو حادثة ، يحتاج الناس فيها إلى التوجيه والبيان ، إلاّ ويقوم الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً ، يأمرهم وينهاهم ، ويعظهم ، ويذكرهم . قال ابن إسحاق : فلما كان الغد من يوم الفتح ، عدت خزاعة على رجل من هذيل ، فقتلوه ، وهو مشرك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً ، فقال : (( أيها الناس ، إن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر ، أن يسفك فيها دماً . ولايعضد فيها شجراً ، لم تحلل لأحد كان قبلي ، ولاتحل لأحد يكون بعدي ، ولم تحلل لي إلاّ هذه الساعة ، غضباً على أهلها . ألا ، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ... ))(2) أهـ .
__________
(1) ابن هشام 2/412 .
(2) المصدر السابق 2/415 .(1/97)
ومن ذلك أيضاً ، (( أن الأنصار رضي الله عنهم ، لما قسّم الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم والعطايا في الناس بعد غزوة حنين ، يتألف بها قلوب من لم يسلم ، من زعمائهم ، ليسلموا ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً ، فجاءه سعد بن عبادة رضي الله عنه يخبره أن الأنصار وجدوا في أنفسهم ، فأمره أن يجمعهم له ، فلما اجتمعوا ، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقف فيهم خطيباً : فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : (( يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم )) ، قالوا : بلى ، والله ورسوله أمنّ وأفضل ، ثم قال : (( ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ))؟ قالوا : بماذا نجيبك يارسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أما والله لوشئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدقتم ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، وعائلاً فآسيناك . أو جدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يامعشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ ، فو الذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً ، لسلكت شعب الأنصار . اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار )) . قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً ))(1) .
__________
(1) المصدر السابق 2/499 .(1/98)
وكانت خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع جامعة مانعة ، أوضح فيها حرمة البيت الحرام ، والشهر الحرام ، وحرمة دماء المسلمين وأموالهم ، وحرم فيها الربا ، وبين الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء ، إلى أن قال : (( وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، كتاب الله وسنة نبيه . أيها الناس ، اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم ، اللهم هل بلغت؟ )) قال ابن إسحاق : فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اللهم اشهد ))(1) .
وهكذا فإن الخطابة كانت لسان الدعوة ، وترجمانها ، ولقد حلت في الإسلام بمنزلة كان الشعر يحتلها في الجاهلية ، حين كان التفاخر ، والتهاجي ، والنعرات ، والعصبيات الجاهلية ، فما كان يفصح عن تلك العواطف الهوجاء مثل الشعر ، وما غدا يفصح بعد ذلك عن حكمة الإسلام ، وهدايته ، وتشريعه ، مثل الخطابة .
ثم إن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقومون في الناس بالخطابة . كما أن قواد الجيوش ، وأمراء الفتوح ، كانوا يقومون في جندهم ، بالخطب البليغة ، فيثبّت الله بها قلوب الفاتحين ، فتكون سبباً من أسباب النصر والفتح بإذن الله . ولو أردنا استقصاء ذلك لطال بنا الكلام عنه ، ولما بلغنا من ذلك شيئاً يكافئه ، لأن تاريخ الإسلام ، وأحداثه العظام ، لاتخلوا فيها حادثة ، إلاّ وللخطابة فيها مكان التوجيه والبيان ، فبها علا صوت الحق ، وارتفع لواء النصر ، وأشرقت شمس الهداية ، على مختلف الأقوام ، منذ ظهور الإسلام ، إلى يوم الناس هذا ، وعلى الله التمام .
ب- المواعظ والدروس :
__________
(1) المصدر السابق 4/604 .(1/99)
وهي ـ أيضاً ـ من صور الدعوة العامة ، إذ إن الخطاب فيها موجه إلى جمع من الناس ، وتلقى في أماكن عامة وينتفع بها جمهور الناس ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إلى أصحابه رضي الله عنهم ، منذ بداية الدعوة في المسجد الحرام ، وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم ، يتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة .
قال تعالى : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة:2] ، فكانوا يجتمعون حول الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ، ليعلمهم ما أنزل عليه من الكتاب والحكمة ، حتى إنهم ليبلغون أربعين رجلاً أو يزيدون ، في مجلس واحد ، كما يتبين ذلك من قصة خطبة أبي بكر ، من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : (( لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ، ألح أبوبكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ))(1) ، وكما ورد في إسلام عمر رضي الله عنه بنحوه(2) .
ولم ينقطع اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، للدرس والموعظة ، إلاّ ريثما انتقل إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله تعالى إذ لم يكن معه في تلك الرحلة إلاّ زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وإلاّ ريثما انتقل في هجرته إلى المدينة ، ولم يكن معه إلاّ أبوبكر الصديق ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط .
وكان أول مانزل بعد وصوله إلى قباء ، على كلثوم بن هدم رضي الله عنه ، قال : ابن إسحاق : (( ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن هدم : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا خرج من منزل كلثوم بن هدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة ))(3) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/29 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/343 .
(3) المصدر السابق 2/493 .(1/100)
ولما نزل على بني النجار بالمدينة ، كان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم هو بناء المسجد ، فكان مجلسه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه في مسجده ، يعلمهم ويبلغهم ما جاءه من الحق والهدى ، ويعظهم المواعظ البليغة التي توجل منها القلوب ، وتذرف منها العيون . عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : (( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضو عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) [رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث صحيح] .
وفي هذا المجلس المبارك كان يدور السؤال والنقاش أحياناً بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، كما هو الحال بين العالم وتلاميذه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل : يارسول الله من أكرم الناس؟ ، قال : (( أتقاهم )) . فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : (( فعن معادن العرب تسألوني؟ ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) .[متفق عليه] .
وعن أبي رفاعة ، تميم بن أسيد رضي الله عنه ، قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقلت : يارسول الله ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه ، لا يدري ما دينه؟ . فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك خطبته ، حتى انتهى إليّ ، فأتى بكرسي ، فقعد عليه ، وجعل يعلمني مما علمه الله ، ثم أتى خطبته ، فأتم آخرها [رواه مسلم] .(1/101)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ـ أحياناً ـ يبادرهم بالسؤال ، شحذاً لأذهانهم ، وتنويعاً لأساليب الدرس والتعليم . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( أتدرون من المسلم ))؟ ، قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . قال : (( أتدرون من المؤمن ))؟ ، قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم )) . ثم ذكر المهاجر . فقال : (( والمهاجر من هجر السوء فاجتنبه )) [رواه أحمد في مسنده] . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن مثل المؤمن مثل شجرة لايسقط ورقها ، فما هي ))؟ ، قال : فقالوا ، وقالوا ، فلم يصيبوا ، وأردت أن أقول : هي النخلة ، فاستحييت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( هي النخلة )) أهـ [رواه أحمد بإسناد صحيح] .
ومن أساليب الدرس والموعظة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب بها أصحابه ويشوقهم بها إلى طلب العلم القصص ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب ... )) الحديث [متفق عليها] . وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك ، إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر ... )) الحديث [رواه مسلم] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن ثلاثة من بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى ، أراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك؟ ... ))الحديث [متفق عليه] .(1/102)
ومن أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدرس والموعظة ، ضرب المثل ، ومن ذلك ، ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلتون عن يدي )) [رواه مسلم] .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) [رواه البخاري] ، ونحو هذا كثير في حديثه صلى الله عليه وسلم .
ومن أساليب الدرس والموعظة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخول بها أصحابه ، الترغيب والترهيب ، وبيان فضائل الأعمال ، وبيان الأحكام ، والوصايا ، ونحوها . والأمثلة على الترغيب والترهيب كثيرة منها : قوله صلى الله عليه وسلم : (( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك )) [رواه البخاري من حديث ابن مسعود] .
وعلى بيان فضائل الأعمال ، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ))[متفق عليه من حديث أنس] . وقوله صلى الله عليه وسلم : (( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان )) [رواه مسلم من حديث سلمان] .(1/103)
وكذلك تعليم أحكام الحلال والحرام ، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( لاتشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولاتأكلوا في صحافهما ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة )) [متفق عليه] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تصلوا على القبور ولاتجلسوا عليها )) [رواه مسلم] .
ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، قوله لأصحابه : (( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )) [رواه أبوداود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام )) [متفق عليه] .
جـ - الكتابة والتدوين :
لم تكن أمة العرب تعرف الكتاب ، فلم يكن لها علم مدون ، ولاكتاب مسطر ، بل كانت أمة أمية ساذجة ، لا أثر لها ولاخطر .
فلما أراد الله لها الكرامة ، واختارها من بين الأمم لحمل الرسالة ، وقيادة البشرية إلى الحق والعدل والهدى ، بعث فيها رسولاً اصطفاه على سائر الخلق ، وأنزل عليها كتاباً فضله على سائر الكتب فجمع لها أسباب القيادة والريادة والهدى والرشاد ، فضلاً منه تعالى ورحمة ، قال تعالى : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفي ضَلاَلٍ مّبِينٍ . وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:2ـ4] .(1/104)
وإن في كتاب الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليبلغ به الدين إلى الناس كافة أسوة وقدوة للكاتبين الذين يؤلفون المؤلفات ، ويكتبون الكتب ، في شرح وبيان أحكام الدين ، ومقاصد الشريعة ، وفي الدعوة إلى الله ، ونشر الدين . إذ إن الله حفظ دينه ، ومكن له في الأرض ، بحفظه تعالى لكتابه المتضمن لشرائع هذا الدين ، وأحكامه .
قال تعالى : {إِنّا نَحْنُ نزلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] .
وكتاب الله تعالى هو أول الكتب وأعظمها في الدعوة إلى دين الإسلام وبيان شرائعه وأحكامه ،
قال تعالى : {الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ}[البقرة:1ـ2] .
وقال تعالى : {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}[هود:1،2] .
وقال تعالى : {الَر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ}[إبراهيم:1] .
وقال تعالى : {وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النمل:89] .
وقال تعالى : {وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41، 42] .(1/105)
ومن هنا يتبين أن للكتاب أثراً بالغاً في حفظ الدين ، وفي نشره وتبليغه للناس ، ولذلك فقد انصبت جهود العلماء على التأليف والكتابة ، في شتى فنون العلم والمعرفة تحقيقاً لذلك . ومع أن هذا الأمر من بدهيات العقل التي لاتحتاج إلى دليل ، إلاّ أنا نجد في عصرنا الحاضر بعضاً من الدعاة إلى الله تعالى ، يرى أن التأليف والكتابة لاتصلح للدعوة ونشر الدين ، وأن الاشتغال بالكتب قراءة وكتابة تضييع للجهود فيما لا طائل تحته . فسبحان الله! كيف يخطر هذا على بال! ، بل كيف يكون قائله من الدعاة إلى الله تعالى ، المبلغين عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه إعجاب كل ذي رأي برأيه ، وعن ذلك أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه كائن وقد كان .
وكان أول ما نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من كتاب الله قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ . الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ . عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:1-5] .
فكانت كلمة (اقرأ) أول أمرمن الله أنزله على رسول هذه الأمة صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم على أمته جمعاء ، كان ذلك قبل نزول الأمر الإلهي بالدعوة {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] ، فكان في هذا دلالة عظيمة على أهمية العلم لحمل رسالة الإسلام . كما أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده في هذه الآيات ، بأمرين عظيمين هما : الخلق ، والعلم في قوله تعالى : {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}. وقوله : {الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ}. فلا منّة ولا نعمة أفضل على العباد بعد الخلق من العلم . وفي هذا تنبيه للأميين إلى فضل العلم ، ووجوبه عليهم ، ولزومه لهم حتى يتأهلوا لحمل الرسالة ، وهداية الخلق إلى الخالق سبحانه .(1/106)
وقد كان للكتابة أثر بالغ في حفظ الدين ، وحراسته ، وفي نشره بين الناس ، فأما حفظ الدين فيتمثل في كتابة الوحي ، حيث اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم له كتاباً يكتبون الوحي حين نزوله عليه ، فكان من كتابه في مكة : عبد الله بن أبي السرح ، وفي المدينة : أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعلي بن أبي طالب وغيرهم .
وأما حراسة الدين ، وحماية جنابه ، فيتمثل فيما كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم من معاهدات ، لصيانة المجتمع الإسلامي الجديد وحمايته مما قد يعترضه من أخطار . فكان من أوائل أعماله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته ووصوله إلى المدينة ، أن كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار . قال ابن إسحاق : (( وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم .
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس . المهاجرون من قريش على ربعتهم ، يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى : كل طائفة ـ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ... وإن المؤمنين المتقين على من بغي منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعاً ، ولوكان ولد أحدهم ، ولايقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولاينصر كافراً على مؤمن ، وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم . وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس . وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم . وإن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله ... ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/504 .(1/107)
ومن كتبه صلى الله عليه وسلم ومعاهداته صلح الحديبية ، بينه وبين قريش . حيث كان فتحاً مبيناً ، حفظ الله به المسلمين من كيد قريش ، وتربصهم ، حتى كان فتح مكة ، الذي نصر الله به عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده .
وأما أثر الكتابة ودورها في نشر الدين والدعوة إليه ، فيتجلى في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ومكاتباته إلى الملوك والأمراء والزعماء ؛ إلى النجاشي وكسرى وقيصر ، والحارث بن أبي شمر الغساني وهو ذة بن علي الحنفي ، والمقوقس ، والمنذر بن ساوى العبدي ، وجيفر وعبد ابني الجلندى ، ورعية السحيمي ، ومسليمة الكذاب ، وإلى بكر بن وائل ، وبني عمرو من حمير ، وإلى أهل دَما ، وإلى جبلة بن الأيهم ، وذي الكلاع بن ناكور ، ومعدي كرب بن أبرهة ، وإلى أسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران ، وإلى يحنة بن روبة صاحب أيلة ، وإلى أبي ظبيان الأزدي من غامد ، والحارث ومسروح ونعيم بن عبد كلال من حمير ، وإلى نفاثة بن فروة الدئلي ملك السماوة . وكتب إلى غير هؤلاء ممن ذكرهم ابن سعد في طبقاته وغيره من المؤرخين(1) .
وأما كتبه صلى الله عليه وسلم في بيان الشرائع ، (( فمنها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر ، وكتبه أبوبكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين وعليه عمل الجمهور .
__________
(1) د . مهدي رزق الله أحمد ـ السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ـ ص513 .(1/108)
ومنها كتابه إلى أهل اليمن ، وهو الكتاب الذي رواه أبوبكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، وكذلك رواه الحاكم في مستدركه ، والنسائي ، وغيرهما مسنداً متصلاً . ورواه أبوداود وغيره مرسلاً ، وهو كتاب عظيم ، فيه أنواع كثيرة من الفقه ، في الزكاة ، والديات ، والأحكام ، وذكر الكبائر ، والطلاق ، والعتاق ، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد ، والاحتباء فيه ، ومس المصحف ، وغير ذلك . قال الإمام أحمد : لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه ، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات . ومنها كتابه إلى بني زهير . ومنها كتابه الذي كان عند عمر بن الخطاب في نصب الزكاة ، وغيرهما ))(1) .
لقد انتشر الدين ، وتوارثته الأجيال ، وتفرعت عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم شتى علوم الإسلام ، بفضل من الله ، ثم بما بذله علماء الإسلام من جهود عظيمة في الكتابة ، والتأليف ، والتعليم ، فكانت الكتابة التي أقسم الله بها في قوله تعالى : {نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[ن:1ـ2] ، سبباً عظيماً في حفظ الدين ، وانتشاره ، وتوارثه على مرّ القرون والأجيال ، بإذن من الله الكبير المتعال .
- - -
المبحث الخامس : صور البلاغ المبين :
البلاغ المبين ـ الذي هو من أوجب مهمات الدعاة إلى الله ـ يكون على صور متعددة منها :
أولاً: العرض والبيان
فيعرض الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ماعنده من الحق على الناس ، عرضاً بيناً صريحاً ، دون مداهنة أو مداجاة ، وبأسلوب واضح البيان ، ولكن مع الترفق واللّين في طريقة العرض ، وأساليب الخطاب ، ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم بأوجه متعددة للعرض ، وأساليب متنوعة للخطاب :
__________
(1) الإمام ابن القيم ـ زاد المعاد ـ 1/117 .(1/109)
قال تعالى : {يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ . الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:21ـ22] .
وقال تعالى : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ . وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ}[البقرة:40ـ41] .
وقال تعالى : {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء:136] .
ومن صور العرض والبيان للدعوة ، قوله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل : (( يا أبا الحكم ، هلم إلى الله ورسوله ، أدعوك إلى الله ))(1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم لذي الجوشن : (( يا ذا الجوشن ، ألا تسلم فتكون من أول أهل هذا الأمر؟ ))(2) [أخرجه الطبراني] .
__________
(1) أخرجه البيهقي وابن أبي شعبة ، كذا في حياة الصحابة1/83 .
(2) الهيثمي – مجمع الزوائد 6/162 .(1/110)
ولما انتدبت قريش عتبة بن ربيعة ، ليعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم ما يصرفه عن دعوته ، من مال ، وشرف ، وملك ، وطب ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما روى ذلك ابن إسحاق في سيرته ـ : (( أقد فرغت يا أبا الوليد؟ )) ، قال : نعم ، قال : (( فاسمع مني )) ، قال : أفعل ، فقال : (( بسم الله الرحمن الرحيم . { حمَ . تَنزيلٌ مّنَ الرّحْمََنِ الرّحِيمِ . كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ . وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}[فصلت:1ـ5] ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها ، يسمع منه . ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ، ثم قال : (( قد سمعت يا أبا الوليد ماسمعت ، فأنت وذاك ))(1) .
ولما اجتمعوا له مرة أخرى ، وعرضوا عليه ما عرضوا ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن إسحاق في السيرة : (( ما بي ما تقولون . ماجئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليّ كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ماجئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم(2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/294 .
(2) المصدر السابق 1/296 .(1/111)
ومن ذلك ـ أيضاً ـ ما أخرجه أحمد عن عدي بن حاتم جاء فيه : (( فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : (( ياعدي بن حاتم ، أسلم تسلم )) ـ ثلاثاً ـ ، قال : قلت : إني على دين . قال : (( أنا أعلم بدينك منك )) ، فقلت : أنت أعلم بديني مني؟! قال : (( نعم ، ألست من الركوسيّة ، وأنت تأكل مرباع قومك؟ )) ، قلت : بلى ، قال : (( هذا لايحل لك في دينك )) ، قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، فقال : (( أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لاقوة لهم ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة؟ )) ، قلت : لم أرها وقد سمعت بها . قال : (( فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، وليفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز )) ، قال : قلت : كسرى بن هرمز؟ ، قال : (( نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لايقبله أحد )) ، قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تأتي من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها ))(1) .
وكان صلى الله عليه وسلم يأتي في المواسم إلى منى ، يقف على منازل القبائل من العرب يعرض عليهم الإسلام ، فيقول : (( يابني فلان ، إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من الأنداد ، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوني ، وتمنعوني ، حتى أبين عن الله ما بعثني به ))(2) أهـ .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 5/66 ، وابن حجر ـ الإصابة في تمييز الصحابة ـ 2/468 .
(2) ابن هشام 1/423 .(1/112)
ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق عن محمود بن لبيد ، قال : (( لما قدم أبوالحيسر ، أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل ، فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم ، فقال لهم : (( هل لكم في خير مما جئتم له؟ )) ، فقالوا له : وما ذاك؟ ، قال : (( أنا رسول الله بعثني إلى العباد ، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولايشركوا به شيئاً ، وأنزل عليّ الكتاب )) ، قال : ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، قال : فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا خير مما جئتم له ، قال : فيأخذ أبوالحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك : فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، قال : فصمت إياس ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ))(1) .
قال ابن إسحاق : (( فلما أراد الله عزوجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز ما وعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار .... قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : (( من أنتم؟ )) ، قالوا : نفر من الخرزج ، قال : (( أمن موالي يهود ))؟ ، قالوا : نعم ، قال : (( أفلا تجلسون أكلمكم؟ )) ، قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عزوجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ))(2) .
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض على الناس ، ماجاء به من عند الله ، وهو يعلم أن ذلك يصدم معتقداتهم ، وينسف عاداتهم ، ويخالف ما كان عليه آباؤهم ، ولكنه البلاغ المبين ، والعرض الصادق ، لما أمره به ربه جل وعلا من دعوة إلى الحق ، وإعراض عن الباطل ، قال تعالى : {قُمْ فَأَنذِرْ} .
__________
(1) ابن هشام 1/427 .
(2) المصدر السابق 1/427 .(1/113)
وقال تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . هذا مع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في عرضه لدعوته من رفق ولين جانب ، وصبر على ما يلاقيه من جفوة قومه ، وسوء ردهم عليه .
وفي هذا الأمر ـ أي : عرض الدعوة إلى الله على الناس ـ تفرقت سبل الدعاة إلى الله ـ اليوم ـ واجتهاداتهم ، وتحاجوا ، واختصموا ، فبعض يعرض دعوته على الناس ، في غير رفق ، ولاصبر ، إذ إن ما يراه من بعد كثير من المسلمين عن دينهم ، فضلاً عما يراه من أحوال الكفر وعناد أهله ، يثير في نفسه الغيرة على الدين ، والحماس له ، والضجر والتبرم من حال المخالفين ، فيعرض دعوته ، في أسلوب من النهر والزجر ، واحتقار المخالف واستصغاره ، مما يكون سبباً في استفزاز كثير ممن تعرض عليهم الدعوة ، فيقابلونها بالمعاندة ، والتحدي لصاحبها ، مع أنه ربما كان فيهم من هو قريب المأخذ ، سهل القياد ، ليّن الجانب ، لو أن الداعية ترفق به ، وألان له الجانب ، وعرض عليه دعوته في رفق ، وسعة صدر ، مع الصبر على الأذى ، وتحمل ما قد يتعرض له من غلظة المعاند وجفوته ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لقومه : (( فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم من الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم(1) أهـ .
وصنيع هذا الصنف من الدعاة ، لاشك أنه على غير هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وخلقه ، الذي وصفه الله تعالى بقوله :
{ وَإِنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] .
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159] ، بل إنه مخالف لأمره عليه الصلاة والسلام حين قال : (( يسّروا ولاتعسّروا وبشّروا ولاتنفّروا )) .
__________
(1) ابن هشام 1/296 .(1/114)
ومن الدعاة ـ اليوم ـ صنف آخر ، لماّ ساءه نفور كثير من الناس عن الداعين ، مما قد يكون سببه جفوة بعض الدعاة وغلظتهم مع علمه بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من رفق وحلم ، ولين جانب ، عمد إلى جعل التلطف والملاينة ، والمصانعة ، منهجاً لدعوته ، وجعل همّه في دعوته رضى الناس عنه وعنها ، وعدّ كل ما يغضب الناس ، أويتبرمون منه ، أو يردّونه ، منفّراً لهم عن الدين ، فتنازل عنه من دعوته ، واجتنبه في منهجه ، حتى استحال مزاج الناس عنده مقياساً لما يجوز وما لايجوز في الدعوة ، وحتى غدا يتخيّر من الدين ما يرضى عنه عامة الناس ، بل عامة المعاندين والفساق ، وأهل الأهواء ، ويتجنب ذكر ما لا يرضون عنه .(1/115)
كما يتجنب هذا الصنف من الدعاة مواقف الصدع بالحق ، وإظهار الغيرة على الدين ، والرد على المعاندين ، والذود عن جناب الدين . بل إن من هؤلاء من يتخلى عن عقيدة البغض في الله والبراء من أعدائه ، وإظهار عداوتهم وبغضهم ، مردداً فيما يقول ، معاني الرفق بالناس والشفقة والرحمة ، على سائر الخلق ، مؤمنهم وكافرهم ، على جميع أحوالهم ، مستشهداً بقوله تعالى : مخاطباً رسوله الكريم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ}. ناسياً أو غافلاً عن كون قتال الرسول صلى الله عليه وسلم للكفار هو من الرحمة بالعالمين ، وأن الذي قال : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ}. هو سبحانه الذي قال : {يَا أَيُّهَا النبي جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التحريم:9] ، وأن المبعوث رحمة للعالمين عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم هو القائل : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام ، وحسابهم على الله ))[متفق عليه] ، وقال : (( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد الله وحده لاشريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ))(1) .
__________
(1) الإمام أحمد ـ المسند ـ برقم(5114) ، وقال الشيخ أحمد شاكر : إسناده صحيح .(1/116)
ومن هنا يتبين لنا أن كلا السبيلين المذكورين آنفاً في الدعوة ـ وهما : اللين مع الضعف ، والشدة مع العنف ـ ، مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسبيله . وأن الحق الذي جاء به القرآن العظيم ، وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هو : البلاغ المبين ، والبيان الكامل لدين الله ، مع حسن الخطاب ، ولين الجانب ، والصبر على الأذى ، وعدم الانتصار للنفس ، والمجادلة بالتي هي أحسن .
قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ . وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ . وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ . إِنّ الله مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ}[النحل:125ـ128] .
وقال تعالى : {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}[آل عمران:187] .
ومن المعلوم أنه مع حسن الخطاب ، ولين الجانب ، والرفق في الدعوة إلى الله ، إلاّ أن هناك قلوباً قاسية ، ونفوساً متمردة معاندة ، تحاد الله ورسوله ، ولا تستجيب لدعوته ، بل إنها تواجه الدعوة إلى الله بالكيد ، والمكر ، وشتى أنواع الأذى . وهؤلاء قد ورد وصفهم في كتاب الله .
فقال الله تعالى : {وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمّ وَبُكْمٌ في الظّلُمَاتِ}[الأنعام:39] .
وقال تعالى : {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ}[فصلت:5] .(1/117)
وقال تعالى : {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ . فَقَدْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}[الأنعام:4،5] ، فنفور هؤلاء ليس بسبب جفوة الدعاة أو غلظتهم ، وإنما بسبب انحرافهم هم عن الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها ، وبسبب خبث نفوسهم وتمردها عن الحق ، وما دام الحال كذلك فإن التصنع لهم ، والسعي لكسب ودهم ورضاهم ، إنما يكون على حساب الدعوة ، بكتمان ما لا يرضونه من الحق ، ومجاراتهم في أهوائهم ، وما يشتهون ، وهذا تقصير في إبلاغ الرسالة ، وحمل الأمانة ، وانصراف عن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وإخوانه من المرسلين في دعوتهم إلى اجتهادات ، وتأولات ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وإن تأوله بعض الدعاة على أنه حكمة ، وسياسة ، تقتضيها مصلحة الدعوة ، وما هذا الصنيع من باب الحكمة ولا المصلحة ، فهؤلاء الدعاة يصدق عليهم قول القائل :
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل
ولقد حذر القرآن الكريم من التهاون في إبلاغ الدعوة ، أو الركون إلى إرضاء الظالمين ، وأنزلت التوجيهات الإلهية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات عديدة ، منبهة ومحذرة من ذلك .
فقال تعالى : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُوَاْ إِلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسّكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ}[هود:112،113] .(1/118)
وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[الإسراء:73ـ75] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67] .
ومن أوجه التوسع عند بعض الدعاة ـ اليوم ـ في مفهوم الرفق والمداراة والحكمة ، ما ابتليت به الدعوة إلى الله في زماننا هذا ، من سلوك كثير من الدعاة في دعوتهم الناس طرقاً ومسالك شتى في تملق من يدعونهم ، ومصانعتهم ، مجتهدين في التحايل على نفسياتهم ، والتلون بما يرضي أذواقهم ، والتجمّل بما يوافق أهواءهم ، حتى أصبح الداعية خاضعاً للأهواء ، مستجيباً لميل أهل الباطل ورغباتهم ، همّه أن يدخل على نفوسهم السرور ، بما يتكلم فيه من يسر الدين ، ونعيم الآخرة دون إنذار ولاتخويف ، ولانهي عن منكر ، ولاتحذير من ضلالة ، حتى أصبح كثير من الدعاة يشتغلون بالظرف ، ويتفننون في الدعابة ، وربما اللعب واللهو أكثر مما يشتغلون به من دعوة وإرشاد ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر . وما ذلك إلاّ بسبب تقديم الآراء والاجتهادات البشرية ، على النصوص الشرعية ، والسيرة النبوية ، فتنوعت المناهج الدعوية ، وتعددت السبل ، وكثرت الاجتهادات ، وثارت الخصومات ، وظهرت الفرقة بين الدعاة ، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من هذا بقوله :
{ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الله مَعَ الصّابِرِينَ}[الأنفال:46] .(1/119)
وقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ الله فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}[آل عمران:31] .
ثانياً : الصدع بالحق
من صور البلاغ والدعوة المحمدية الصدع بالحق ، قال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الْمُدّثّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:1،2] .
وقال تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] .
وقال تعالى : {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً . وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:28ـ29] .
وقال تعالى : {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ الله وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً}[الأحزاب:39] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : (( ياصباحاه )) ، فاجتمع الناس إليه ؛ بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يابني عبد المطلب ، يابني فهر ، يابني كعب : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، أصدقتموني؟ )) ، قالوا : نعم ، قال : (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )) ، فقال أبولهب ـ لعنه الله ـ : تباً لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلاّ لهذا؟! ، وأنزل الله عزوجل : {تَبّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ}[رواه البخاري ومسلم] .
وعن أبي اليمان ، وأبي المثنى : أن أباذر قال : بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً ، وواثقني سبعاً ، وأشهد عليّ سبعاً ، ألا أخاف في الله لومة لائم [أخرجه أحمد] .(1/120)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك أنت الظالم ، فقد تودع منهم )) [رواه الإمام أحمد وصححه أحمد شاكر] .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره [إلى أن قال] : وعلى أن نقول الحق أينما كنا لانخاف في الله لومة لائم [متفق عليه] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر ))[رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن] .
ولقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدع بالحق ، والجهر بالدعوة في مكة ، لعدد من أصحابه ، بلغت بهم الغيرة على دين الله ، والحماس لإظهار الحق مبلغها ، فألحّوا على الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهور والمواجهة ، والصدع بالحق ، وإعلانه على رؤوس المشركين ، رغم قلة عدد المسلمين وضعفهم ، وشدة بطش المشركين وعنفهم . فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم . ومع أنه تعرض كل منهم لأذى المشركين وبطشهم ، كما تعرض بقية الصحابة رضي الله عنهم لشدة الأذى ، وزيادة البطش ، إلاّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً منهم ، ولم يلمه ، بل كان راضياً عنهم ، وعمّا صنعوه من جهاد لإظهار الحق والصدع به .(1/121)
فهذا أبوذر الغفاري رضي الله عنه ، يذكر قدومه على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة لما سمع به ، فيقول : فقلت يارسول الله ، اعرض عليّ الإسلام ، فعرض عليّ ، فأسلمت مكاني ، فقال لي : (( يا أبا ذر ، اكتم الأمر ، وارجع إلى قومك ، فإذا بلغك ظهورنا ، فأقبل )) . فقلت : والذي بعثك بالحق ، لأصرخن بها بين أظهرهم . فجاء إلى المسجد وقريش فيه ، فقال : يامعشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فقاموا ، فضربت لأموت ، فأدركني العباس ، فأكب عليّ ، وقال : ويلكم تقتلون رجلاً من غفار ، ومتجركم وممركم على غفار؟ ، فأطلقوا عني . فلما أصبحت ، رجعت ، فقلت مثل ماقلت بالأمس ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ . فصنع بي كذلك ، وأدركني العباس ، فأكب عليّ . فهذا أول إسلام أبي ذر(1) . [متفق عليه]
وكان ممن أسلم ، وسارع إلى إظهار الإسلام والدعوة إليه ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فقال : يارسول الله علام نخفي ديننا ، ونحن على الحق ، ويظهر دينهم وهو على الباطل؟ ، قال : (( يا عمر ، إنا قليل ، قد رأيت ما لقينا )) ، فقال عمر : فوالذي بعثك بالحق لايبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلاّ أظهرت فيه الإيمان . ثم خرج ، فطاف بالبيت ، ثم مرّ بقريش وهي تنتظره . فقال : أبوجهل بن هشام : يزعم فلان أنك صبوت ، فقال عمر : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له وأن محمداً عبده ورسوله . فوثب المشركون إليه ، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه ، وأدخل أصبعه في عينيه ، فجعل عتبة يصيح ، فتنحى الناس ، فقام عمر . فجعل لايدنو منه أحد إلاّ أخذ بشريف ممن دنا منه ، حتى أعجز الناس . واتبع المجالس التي كان يجلس فيها ، فيظهر الإيمان(2) .
__________
(1) الإمام الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ 1/54 . وقال : أخرجه البخاري ومسلم من طريق المثنى بن سعيد عن أبي حمزة .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/30 .(1/122)
وكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة ، حتى أسلم عمر بن الخطاب ، فلما أسلم قاتل قريشاً ، حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه ، وكان يقول : إن إسلام عمر كان فتحاً ، وإن هجرته كانت نصراً ، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم ، قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه(1) .
وهذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه أول خطيب في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصدع بالحق ، ويجهر به ، فعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ، ألح أبوبكر على رسول صلى الله عليه وسلم في الظهور ، فقال : (( يا أبابكر إنا قليل )) ، فلم يزل أبوبكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد ، كل رجل في عشيرته . وقام أبوبكر في الناس خطيباً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وثار المشركون على أبي بكر ، وعلى المسلمين ، فضربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً ، ووطئ أبوبكر ، وضرب ضرباً شديداً . ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة ، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ، ويحرفهما لوجهه ، ونزا على بطن أبي بكر ، حتى ما يعرف وجهه من أنفه . وجاء بنوتيم يتعادون ، فأجلت المشركين عن أبي بكر ، وحملت بنو تيم أبابكر في ثوب ، حتى أدخلوه منزله ، ولايشكون في موته ، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد ، وقالوا : والله لئن مات أبوبكر لنقتلن عتبة بن ربيعة . فرجعوا إلى أبي بكر ، فجعل أبوقحافة ، وبنو تيم يكلمون أبابكر حتى أجاب ، فتكلم آخر النهار ، فقال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، فمسوا منه بألسنتهم ، وعذلوه ، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير ، انظري أن تطعميه شيئاً
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/342 .(1/123)
أو تسقيه إياه ، فلما خلت به ألحت عليه ، وجعل يقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، فقالت : والله مالي علم بصاحبك ، فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب . فاسأليها عنه ، فخرجت ، حتى جاءت أم جميل ، فقالت : إن أبا بكر يسألك ، عن محمد بن عبد الله ، فقالت : ما أعرف أبابكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ، قالت : نعم ، فمضت معها ، حتى وجدت أبابكر صريعاً دنفاً ، فدنت أم جميل ، وأعلنت بالصياح ، وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر ، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم . قال : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قالت : هذه أمك تسمع ، قال : فلا شيء عليك منها ، قالت : سالم صالح ، قال : أين هو؟ ، قالت : في دار الأرقم ، قال : فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ، ولا أشرب شراباً ، أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل ، وسكن الناس ، خرجتا به يتكئ عليهما ، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبله ، وأكب عليه المسلمون ، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة ، فقال أبوبكر : بأبي وأمي يارسول الله ، ليس بي بأس ، إلاّ ما نال الفاسق من وجهي ، وهذه أمي برة بولدها ، وأنت مبارك ، فادعها إلى الله ، وادع الله لها ، عسى الله أن يستنقذها بك من النار . قال : فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاها إلى الله ، فأسلمت . وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهراً ، وهم تسعة وثلاثون رجلاً ، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبوبكر(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/29 .(1/124)
لقد منّ الله على أبي بكر جزاء مالقي من الأذى في إظهار دين الله ، وإعلاء كلمته ، بمنّة خاصة به هي إسلام أمه ، ومنّة عامة للإسلام والمسلمين هي إسلام حمزة بن عبد المطلب ، فسبحان الله! ما أسرع ما يفرج الله الكربة ، ويرفع البلاء! .
ومن صور الصدع بالحق ، والجهاد بإظهاره ، ما رواه ابن إسحاق في سيرته فقال : كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : والله ماسمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه؟ ، فقال عبد الله بن مسعود : أنا ، فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه . قال : دعوني فإن الله سيمنعني ، قال : فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ، ثم قرأ : {بِسمِ الله الرّحمَن الرَّحيْمِ}رافعاً بها صوته : {الرّحْمََنُ . عَلّمَ الْقُرْآنَ}، قال : ثم استقبلها يقرؤها . قال : فتأملوه ، فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد؟ ، قال : ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ماجاء به محمد . فقاموا إليه ، فجعلوا يضربونه في وجهه ، وجعل يقرأ ، حتى بلغ منها ماشاء الله أن يبلغ . ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك . فقال : ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن . ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً ، قالوا : لا ، حسبك ، قد أسمعتهم ما يكرهون(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/314 .(1/125)
وهكذا فإن ثبات الصحابة رضي الله عنهم ، وصدعهم بالحق ،وصبرهم على الأذى مع ضعفهم ، وقلة عددهم ، كان سبباً في ازدياد هيبة الدين في نفوس المشركين ، وزيادة عدد المسلمين منهم ، كما كان سبباً في اضطراب صفوف المشركين ، وقهر معنوياتهم ، وإدخال الحزن والألم إلى نفوسهم ، مع رسوخ الإيمان في قلوب المؤمنين ، وتزايد استعدادهم للتضحية والفداء في سبيل إعلاء كلمة الله ، وإظهار دينه على الدين كله ولوكره المشركون .
فأين من هذا مايفعله كثير من الدعاة اليوم؟ ، عندما يصدع بكلمة الحق رجل منهم أورجال ، فيؤذون عليها . أو يواجهون أعداء الدين بموقف صلب ، فيتعرضون منهم للأذى ، وشدة العداء والبطش ، فإذا بأصوات كثير من إخوانهم تتعالى ، بالتقريع لهم ، وذم صنيعهم ، واتهامهم بالطيش وعدم الحكمة ، مدعين بأن هؤلاء الذين واجهوا الباطل ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، قد قوّضوا جهود الآخرين ، وأضروا بمصلحة الدين ، وتسببوا في إعاقة الدعوة ، وما إلى ذلك من ألفاظ التوبيخ والتقريع . سبحان الله!! ، أوليس في كتاب الله قوله تعالى :(1/126)
{يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54] ، أو ليس في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهاده هو وأصحابه ، وتعرضهم للأذى وصبرهم عليه ، ما يدل على أن الدعوة إلى الله تعالى باب واسع ، وميدان فسيح ، يتسع لكل الجهود الخيِّرة ، والمواهب والقدرات المتعددة ، والفداء والتضحيات العظيمة . إنها جهاد ، وبذل ، وعطاء ، وفداء . وإن الحكمة في الدعوة هي كل ذلك ، وليست مجرد اللين ، وطلب السلامة والعافية ، كما فهمها كثير من الصالحين .
ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من صور البلاغ المبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو سمة هذه الأمة ، وخصوصيتها من بين الأمم . لأن الأنبياء والرسل في الأمم السابقة كانوا يتوارثون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كلما توفي نبي أو رسول بعث الله من يصلح أمر الناس ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر . فلما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل ، ورثت أمته القيام بهذه المهمة العظمى ، فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس .
قال تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران:110] ، وكلف الله تعالى هذه الأمة بهذه المهمة العظيمة تكليفاً ، فقال تعالى :
{ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104] .(1/127)
ومن أبرز الصفات التي يتميز بها المؤمنون عن المنافقين صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالمنافقون وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم بقوله :
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}[التوبة:67] ، أما المؤمنون فوصفهم الله بقوله :
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:71] .
كما إن من أبرز صفات نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم عند أهل الكتاب في التوراة والإنجيل أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، قال تعالى : {الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النبي الاُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ في التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157] .
وقد ذم الله كفار بني إسرائيل ولعنهم بسبب عدم إنكارهم للمنكر فيما بينهم ، فقال تعالى :
{لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ . كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79] .(1/128)
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمثابة الحراسة للدين والحماية له من أن تنتهك حرماته ، أو يستخف بشرائعه ، أو ينتقص من أركانه ، أو سائر بنيانه ، وهذه الحراسة افترضها الله على من ولاه أمر المسلمين ، فقال تعالى :
{الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ في الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ}[الحج:41] .
كما افترضه على سائر الأمة وخاصة العلماء منها بقوله تعالى :
{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104] .
وقوله تعالى : {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}[آل عمران:187] .
وقوله تعالى : {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ في الْكِتَابِ أُولََئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ . إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ}[البقرة:159،160] .(1/129)
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مروا بالمعروف وانهو عن المنكر قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم )) [رواه ابن ماجة وحسنه الشيخ الألباني] ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أو شك أن يعمهم الله بعقاب )) [رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وصححه ابن حبان وابن باز والألباني وأحمد شاكر] ، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم )) [رواه الترمذي وحسّنه الألباني] .
ومثّل الرسول صلى الله عليه وسلم لأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخطورة تركه ، بمثل بليغ ، وصورة مؤثرة ، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا . فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) [رواه البخاري] ، وهذا الحديث دليل صريح على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه هلاك الأمة بأسرها ، وكفى بذلك رادعاً وزاجراً عن التراخي فيه أو الإعراض عنه .(1/130)
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ، أوضحها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) [رواه مسلم] .
وهذا دليل على أنه من كان له سلطان على غيره ، واستطاعة على تغيير المنكر بيده ، دون حدوث مفسدة أكبر ، وجب عليه مباشرة تغيير المنكر على هذه الرتبة . ومن لم يكن له استطاعة على تغيير المنكر بيده ، ولكن لديه علم يبين به المنكر لصاحبه ، ويستطيع إبلاغه ، دون حدوث مفسدة أكبر ، كان النهي عن المنكر باللسان في حقه أوجب . أما من لم يستطع تغيير المنكر بيده ، ولا النهي عنه بلسانه ، خوفاً من أذى يصل إلى درجة الضرر الشديد ، أو القتل ، أوخشية من مفسدة أكبر تقع بسبب هذا النهي ، فإن إنكاره بقلبه ، وبغضه له ، كافٍ في سلامته من التبعة ، ونجاته من الإثم .
وقد فهم بعض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، أن من لوازمه الشدة والغلظة ، بمقتضى أنه أمر ونهي ، فأغلظوا الأمر والنهي ، حتى اقترن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بمعنى الشدة والغلظة ، ونفر كثير من الناس من قبوله ، إلاّ على سبيل الإكراه والإخضاع مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقيقته يقتضي الرفق ، وحسن الخلق ، قال الإمام الفقيه المجاهد الداعية إلى الله أحمد بن تيمية الحراني في رسالته (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) : (( والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف ، بالمعروف ، ونهيك عن المنكر غير منكر ))(1) .
__________
(1) الإمام ابن تيمية ـ رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ص17 .(1/131)
وبسبب هذا الفهم السقيم لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وادعاء أنه يعني الغلظة والفظاظة نفر منه جماعةٌ من الدعاة إلى الله واستوحشوه ، وعدّوه منافياً للرحمة والشفقة ، حتى قال قائلهم : نحن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر ، وإنما ندعو إلى الله ، لأنّ الدعوة فيها الرحمة والشفقة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه الغلظة والشدّة .
فسبحان الله! كيف ورد هذا الفهم على قوم يدّعون لأنفسهم السير على منهج الأنبياء في دعوتهم وتبليغهم . إن هذا الفهم السقيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند هؤلاء ، وغيرهم ، إنما ورد عليهم والله أعلم من موارد الجهل ومن متابعة بعض الصوفية في أصولهم ومفاهيمهم . وذلك لاعتقادهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخالف معنى الرحمة التي أرسل بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا من جهلهم وانحراف فهمهم ، وإلاّ فإنه من أخص صور الرحمة التي أرسل بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأظهرها في دعوته .
قال الله تعالى : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ {156} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:156، 157] فصفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبرز الصفات التي يتميز بها النبي الأميّ الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، وبها يعرفه المؤمنون من أهل الكتاب، وباتباعهم له تكتب لهم الرحمةوالرضوان.
رابعاً: البشارة والنذارة
من صور البلاغ المبين البشارة والنذارة :(1/132)
قال الله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً}[الفرقان:56] .
وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[سبأ:28] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النبي إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً . وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً . وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً}[الأحزاب:45ـ47] .
وقال تعالى : {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}[الأنعام:48،49] .
وقال تعالى : {رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى الله حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً}[الأنعام:165] .
وقال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:214،215] .
وقال تعالى : {وَأَنذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوَاْ إِلَى رَبّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ}[الأنعام:51] .
وقال تعالى : {الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا . قَيّماً لّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مّن لّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً . مّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً . وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ الله وَلَداً}[الكهف:1ـ4] .(1/133)
والبشارة أو التبشير : إدخال الفرح إلى النفوس بإخبارها بما يسرها . والبشارة في الدين تكون بما وعد الله عباده المؤمنين من خيري الدنيا والآخرة جزاء طاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ، وبما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك .
والنّذارة أو الإنذار : التحذير والتخويف ، من خطر داهم ، أو سوء عاقبة لفعل غير حسن . وتكون في الدين بما توعد الله به من عصاه وخالف أمره من عقوبة في الدنيا والآخرة ، وبما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك في حديثه .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ، فصعد عليه ، ثم نادى : (( يا صباحاه )) ، الحديث [متفق عليه] .
وقال صلى الله عليه وسلم لقومه لما اجتمعوا له مرة : (( ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليّ كتاباً ، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً ))(1) .
والبشارة تكون لمن آمن وصدق ، تثبيتاً له ، وترغيباً في زيادة العمل الصالح ، وإدخالاً للسرور والحبور على نفسه ، وليتقوّى ويصبر على البلاء بتذكر المواعيد الدنيوية ، والأخروية من الله تعالى ، قال الله تعالى :
{وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابها وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25] .
وقال تعالى : {إِنّ هََذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}[الإسراء:9] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/296 .(1/134)
وقال تعالى : {فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً}[مريم:97] .
وقال تعالى : {وَبَشّرِ الصّابِرِينَ . الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[البقرة:155،156] .
أما إذا وردت البشارة في القرآن الكريم،مخاطباً بها المنافقون ، أوالكافرون ، فالمراد إنما هو التبكيت ، والتوبيخ ، والوعيد ، والتهديد ،
قال تعالى : {بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[النساء:138] .
وقال تعالى : {وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3] .
وقال تعالى : {وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ الله تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الجاثية:8] .
أولاً : البشارة :
لقد بشر الله عباده المؤمنين بالخير في الدنيا والآخرة ، جزاء ما عملوا ورضاً بما صنعوا ، وذلك على نحو ما سيأتي تفصيله :
أ - البشارة بخير الدنيا :
1 - الحياة الطيبة :
قال الله تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النحل:97] .
2 - زيادة النعم والبركات في النفس والمال والولد :
وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام : {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوّةً إِلَى قُوّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلّوْاْ مُجْرِمِينَ}[هود:52] .
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ}[الأعراف:96] .(1/135)
وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً . يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً}[نوح:10ـ12] .
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}[المائدة:66] .
3 - الأمن :
قال تعالى : {الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلََئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ}[الأنعام:82] .
وقال تعالى : {وَعَدَ الله الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}[النور:55] .
4 - كشف الضر والكرب :
قال تعالى حكاية عن أيوب عليه السلام : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}[الأنبياء:84] .
وقال تعالى حكاية عن ذي النون عليه السلام : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:88] .
5 - النصر :
قال تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ . وَإِنّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات:171ـ173] .
وقال تعالى : {إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ في الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ}[غافر:51] .(1/136)
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] .
وقال تعالى : {وَلَيَنصُرَنّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنّ الله لَقَوِيّ عَزِيزٌ}[الحج:40] .
6 - التثبيت في القول والعمل :
قال تعالى : {يُثَبّتُ الله الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ في الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفي الآخِرَةِ}[إبراهيم:27] .
وقال تعالى : {إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ}[الأنفال:12] .
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً}[النساء:66] .
7 - الاستخلاف في الأرض والتمكين :
قال الله تعالى : {وَعَدَ الله الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}[النور:55] .
وقال تعالى : {وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكّنَ لَهُمْ في الأرْضِ}[القصص:5،6] .
وقال تعالى : {قَالَ عَسَى رَبّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:129] .
8 - حسن الخاتمة عند الممات :
قال تعالى : {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا الله ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ في الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفي الآخِرَةِ}[فصلت:31] .(1/137)
وقال تعالى : {الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32] .
وقال تعالى : {يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً . فَادْخُلِي في عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنّتِي}[الفجر:27ـ30] .
ب - البشارة بخير الآخرة :
ا - نعيم القبر :
قال الله تعالى : {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا الله ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ في الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفي الآخِرَةِ}[فصلت:31] .
2- الأمن :
قال الله تعالى : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هََذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء:103] .
وقال تعالى : {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان:55] .
وقال تعالى : {أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62] .
وقال تعالى : {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا الله ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13] .
3 - لقاء الأخلاء :
قال الله تعالى : {الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ . يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}[67،68:الزخرف] .
وقال تعالى : {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ}[الطور:21] .
4 - أخذ الكتاب باليمين :
قال الله تعالى : {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ . فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}[الانشقاق:7ـ9] .(1/138)
وقال تعالى : {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلََئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}[الإسراء:71] .
وقال تعالى : {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ . إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ . فَهُوَ في عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ}[الحاقة:19،21] .
5 - الظل :
قال الله تعالى : {إِنّ الْمُتّقِينَ في ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ}[المرسلات:41] .
وقال تعالى : {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ}[يس:56] .
وقال تعالى : {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}[الإنسان:14] .
6 - ثقل الموازين :
قال الله تعالى : {فَأَمّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ في عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ}[القارعة:6] .
وقال تعالى : {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المؤمنون:102] .
7 - اجتياز الصراط :
قال الله تعالى : {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم:8] .
وقال تعالى : {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الحديد:12] .
8 - بشارة الملائكة وسلامهم على المؤمنين :
قال الله تعالى : {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ}[الرعد:23،24] .(1/139)
وقال تعالى : {وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:73] .
9 - نضارة الوجوه وبشرها :
قال الله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] .
وقال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مّسْفِرَةٌ . ضَاحِكَةٌ مّسْتَبْشِرَةٌ}[عبس:38،39] .
وقال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ . لّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}[الغاشية:2،3] .
وقال تعالى : {وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:107] .
10 - الجنة ونعيمها :
قال الله تعالى : {مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ}[محمد:15] .(1/140)
وقال تعالى : {مُتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً . وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً . وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ . قَوَارِيرَاْ مِن فِضّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً . وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً . عَيْناً فِيهَا تُسَمّى سَلْسَبِيلاً . وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مّنثُوراً . وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمّ رَأَيْتَ نَعِيْماً وَمُلْكاً كَبِيْراً . عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً . إِنّ هََذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مّشْكُوراً}[الإنسان:13ـ22] .
وقال تعالى : {عَلَى سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ . مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ . يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ . لاّ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزفُونَ . وَفَاكِهَةٍ مّمّا يَتَخَيّرُونَ . وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ . وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ . جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ . لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً . إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً}[الواقعة:15ـ26] .
وقال تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف:71] .
ثانياً : النذارة :
تكرر في القرآن الكريم النذير بعذاب واقع لكل من خالف أمر الله سواء كان العذاب في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً ، وذلك على نحو ما سيأتي تفصيله :(1/141)
قال الله تعالى : {وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}[السجدة:21] .
أ- النذارة بعقاب الدنيا :
1 - الغرق :
قال تعالى : {وَقَوْمَ نُوحٍ لّمّا كَذّبُواْ الرّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}[الفرقان:37] .
وقال تعالى : {وَإِن نّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ}[يس:43] .
2 - الصاعقة والصيحة :
قال الله تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصلت:13] .
وقال تعالى : {مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ}[يس:49] .
وقال تعالى : {وَمَا يَنظُرُ هََؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}[ص:15] .
3 - الخسف :
قال الله تعالى : {أَأَمِنتُمْ مّن في السّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16] .
وقال تعالى : {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}[الإسراء:68] .
وقال تعالى : {إِن نّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ}[سبأ:9] .
4- الحصب وإسقاط الكسف من المساء :
قال الله تعالى : {أَمْ أَمِنتُمْ مّن في السّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك:17] .
وقال تعالى : {فَمِنْهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً}[العنكبوت:40] .
وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ}[سورة الفيل] .(1/142)
وقال تعالى : {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ}[الإسراء:92] .
5 - المسخ :
قال الله تعالى : {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ}[يس:67] .
وقال تعالى : {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ . فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ}[البقرة:65،66] .
وقال تعالى : {مَن لّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ}[المائدة:60] .
وقال تعالى : {يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نزلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّآ أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً}[النساء:47] .
6 - السنين :
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ}[الأعراف:130] .
وقال تعالى : {وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّتَيهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِيَ إِلاّ الْكَفُورَ}[سبأ:16،17] .
وقال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مّعِينٍ}[الملك:30] .
7 - الآفات من الحشرات والمستقذرات (والأمراض) :(1/143)
قال الله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمّلَ وَالضّفَادِعَ وَالدّمَ آيَاتٍ مّفَصّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مّجْرِمِينَ . وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ}[الأعراف:133،134] .
8 - لباس الجوع والخوف :
قال الله تعالى : {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النحل:112] .
وقال تعالى : {فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ . لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ . قَالُواْ يَوَيْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ . فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}[الأنبياء:12ـ15] .
9 - إتيان الساعة بغتة :
قال الله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[الزخرف:66] .
وقال تعالى : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ}[الشورى:17] .
وقال تعالى : {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقّ الْقَمَرُ}[القمر:1] .
وقال تعالى : {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا}[محمد:18] .
10 - ضيق الصدر والضنك :
قال الله تعالى : {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ في السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:125] .(1/144)
وقال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى}[طه:124] .
11 - الضلال والتخبط والحيرة :
قال الله تعالى : {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}[النور:40] .
وقال تعالى : {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}[الكهف:104] .
وقال تعالى : {وَاعْلَمُواْ أَنّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:24] .
12 - سوء الخاتمة :
قال الله تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظّالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأنعام:93] .
وقال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الأنفال:50] .
وقال تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}[محمد:27] .
ب - النذارة بعقاب الآخرة :
أولاً: في القبر :
قال الله تعالى : {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ . النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ}[غافر:46] .
ثانياً: في المحشر :
1 - هول الخروج من الأجداث :
قال الله تعالى : {فَإِذَا نُقِرَ في النّاقُورِ . فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ . عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:8ـ10] .(1/145)
وقال تعالى : {فَتَوَلّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ إِلَى شَيْءٍ نّكُرٍ . خُشّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنّهُمْ جَرَادٌ مّنتَشِرٌ . مّهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هََذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر:6ـ8] .
وقال تعالى : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ}[المعارج:43،44] .
وقال تعالى : {وَنُفِخَ في الصّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ . قَالُواْ يَوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ . إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس:51ـ53] .
2 - اسوداد الوجوه وكآبتها :
قال الله تعالى : {فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106] .
وقال تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مّسْوَدّةٌ}[الزمر:60] .
وقال تعالى : {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ . تَظُنّ أَن يُفْعَلَ بها فَاقِرَةٌ}[القيامة:24،25] .
وقال تعالى : {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ . تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ . أُوْلََئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:40ـ42] .
3 - هلع القلوب وشخوص الأبصار :
قال الله تعالى : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر:18] .
وقال تعالى : {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ . أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}[النازعات:8،9] .
وقال تعالى : {إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ}[إبراهيم:42] .(1/146)
وقال تعالى : {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}[إبراهيم:43] .
4 - مشيهم على الوجوه في المحشر :
قال الله تعالى : {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}[الملك:22] .
وقال تعالى : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}[الإسراء:97] .
وقال تعالى : {الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنّمَ أُوْلََئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ سَبِيلاً}[الفرقان:34] .
5 - حجبهم عن الله تعالى :
قال الله تعالى : {كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ . ثُمّ إِنّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ}[المطففين:15،16] .
وقال تعالى : {أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ في الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:77] .
6 - خزيهم عند العرض على الله :
قال تعالى : {وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفّاً لّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لّن نّجْعَلَ لَكُمْ مّوْعِداً}[الكهف:48] .
وقال تعالى : {وَيَقُولُ الأشْهَادُ هََؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظّالِمِينَ}[هود:18] .
7 - الحسرة والندامة :
قال الله تعالى : {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ في غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[مريم:39] .
وقال تعالى : { حَتّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ}[الأنعام:31] .(1/147)
وقال تعالى : {وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً . يَوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً}[الفرقان:27،28] .
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا في الأرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[يونس:54] .
8 - خزيهم عند وضع الكتاب وأخذ الصحف :
قال الله تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً}[الكهف:49] .
وقال تعالى : {وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابها الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:28] .
وقال تعالى : {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:19ـ20] .
وقال تعالى : {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ . فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً . وَيَصْلَى سَعِيراً}[الانشقاق:10ـ12] .
9 - خزيهم بشهادة أعضائهم عليهم :
قال الله تعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النور:24] .(1/148)
وقال تعالى : {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ . وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُوَاْ أَنطَقَنَا الله الّذِي أَنطَقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلََكِن ظَنَنتُمْ أَنّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمّا تَعْمَلُونَ . وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ}[فصلت:19ـ23] .
10 - خزيهم بعداوة الأخلاء وفرار الأقرباء :
قال الله تعالى : {الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ}[الزخرف:67] .
وقال تعالى : {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ}[المدثر:48] .
وقال تعالى حكاية عنهم : {وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ . فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ . وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[الشعراء:99ـ101] .
وقال تعالى : {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً . يُبَصّرُونَهُمْ يَوَدّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ . وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيهِ . وَمَن في الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ يُنجِيهِ . كَلاّ إِنّهَا لَظَى}[المعارج:10ـ15] .
وقال تعالى : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:34-37] .
11 - البَكَم والصمم والعمى :
قال الله تعالى : {هََذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ . وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}[المرسلات:35،36] .(1/149)
وقال تعالى : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}[الإسراء:97] .
وقال تعالى : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ}[يس:65] .
وقال تعالى : {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه:124ـ126] .
ج - في نار جهنم :
1 - وهم يساقون إليها :
قال الله تعالى : {وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَى جَهَنّمَ زُمَراً حَتّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هََذَا قَالُواْ بَلَى وَلََكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ . قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ}[الزمر:71،72] .
وقال تعالى : {كُلّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك:8] .
وقال تعالى : {إِذِ الأغْلاَلُ في أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ . في الْحَمِيمِ ثُمّ في النّارِ يُسْجَرُونَ}[غافر:71،72] .
وقال تعالى : {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}[الأنبياء:40] .
2 - وهم فيها :
قال الله تعالى : {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}[الزمر:16] .(1/150)
وقال تعالى : {فَالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ . يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ . وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:19ـ22] .
وقال تعالى : {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ في الأصْفَادِ . سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النّارُ}[إبراهيم:49،50] .
وقال تعالى : {يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهُهُمْ في النّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرّسُولاَ}[الأحزاب:66] .
وقال تعالى : {ثُمّ إِنّكُمْ أَيّهَا الضّآلّونَ الْمُكَذّبُونَ . لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقّومٍ . فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ . فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}[الواقعة:51ـ55] .
وقال تعالى : {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً . إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً . جَزَآءً وِفَاقاً}[النبأ:24ـ26] .
وقال تعالى : {لَهُمْ مّن جَهَنّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ}[الأعراف:41] .
3 - جدالهم العقيم :
قال الله تعالى : {كُلّمَا دَخَلَتْ أُمّةٌ لّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتّى إِذَا ادّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاُولاَهُمْ رَبّنَا هََؤُلآءِ أَضَلّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مّنَ النّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلََكِن لاّ تَعْلَمُونَ . وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لاُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}[الأعراف:38،39] .(1/151)
وقال تعالى : {وَإِذْ يَتَحَآجّونَ في النّارِ فَيَقُولُ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مّغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مّنَ النّارِ . قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُلّ فِيهَآ إِنّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر:47،48] .
وقال تعالى : {وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22] .
4 - وماهم بخارجين منها :
قال تعالى : {وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ}[الزخرف:77] .
وقال تعالى : {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ وَجَآءَكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ}[فاطر:37] .
وقال تعالى : {قَالُواْ رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ . رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ . قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ}[المؤمنون:106،108] .
وقال تعالى : {قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ}[غافر:11] .
وقال تعالى : {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ}[البقرة:167] .(1/152)
وقال تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ}[المائدة:37] .
خامساً : تعليم العقائد والأحكام على وجه التفصيل
من صور البلاغ المبين ، تعليم العقائد والأحكام على وجه التفصيل ، والمراد ، أن إبلاغ الناس بالدين أول مايكون على وجه الإجمال ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : (( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لاإله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أن الله فرض عليه خمس صلوات كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )) الحديث . [رواه البخاري] ، فإنهم إذا قبلوا واستجابوا لله ولرسوله بما فرض الله عليهم من دينهم ، فإن الدعوة لهم حينئذ تنتقل من طلب الإقرار والإذعان بذلك ، إلى بيان الكيفية التي تكون عليها هذه الفرائض والواجبات ، ومطالبتهم بها ودعوتهم إلى أدائها بكل أجزائها وتفصيلاتها على الوجه الذي فرضها الله عليه ، وكما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه . قال الله تعالى : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة:2] .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبين لأصحابه ويعلمهم ما افترض الله عليهم من العبادات ، مرة تعليماً عملياً ، فيقول لهم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))(1) ، أو يقول كما في حجة الوداع : (( خذوا عني مناسككم ))(2) .
__________
(1) الألباني ـ إرواء الغليل ـ 1/291 برقم (262) ، وقال : أخرجه البخاري وغيره من حديث مالك بن الحويرث .
(2) الألباني ـ إرواء الغليل ـ 4/270 برقم (1074) ، وأخرجه مسلم ، والنسائي وغيرهما ، واللفظ للنسائي2/50 .(1/153)
ومرة تعليماً قولياً ، كما في حديث المسيء صلاته لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني ، فقال : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها )) [متفق عليه] .
ومرة تعليماً كتابياً ، كما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في العقول والديات ، عن الزهري قال : جاءني أبو بكر بن حزم بكتاب في رقعة من أدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هذا بيان من الله ورسوله : {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ، فتلا منها آيات ثم قال : (( في النفس مائة من الإبل ، وفي العين خمسون ، وفي اليد خمسون ، وفي الرجل خمسون ، وفي المأموم ثلث الدية )) [رواه النسائي في كتاب القسامة] .
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن أبابكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله ، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سأل فوقها فلا يعط . في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة ، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى ، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى ، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة ، طروقة الجمل ، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ... )) الحديث [أورده البخاري بطوله في كتاب الزكاة] .
وهكذا فإن من تمام البلاغ المبين ، أن تعلم العقائد وأحكام العبادات وسائر الشرائع بتفاصيلها على الوجه الذي فرضه الله تعالى ، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته .(1/154)
سادساً : الموعظة الحسنة
قال الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النحل:125] .
وقال تعالى : {أُولََئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ الله مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[النساء:63] .
والوعظ : النصح والتذكير بالعواقب(1) ، ويكون بالترغيب والترهيب ، والقصص والأخبار ، والنظر والاعتبار . وقيل : تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب(2) .
والموعظة الحسنة هي خطاب الداعية إلى قلوب المدعوين ، ووسيلته إلى تحريك العواطف وشحذ الهمم ، وهي من أهم وسائل الدعوة وأقواها أثراً ، لأنها تصب في القلوب مباشرة ، فتعالج أمراضها ، وتصلح فسادها ، وتوقظ غافلها ، وتحيي بإذن الله صريع المعاصي منها ، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهو القلب )) [رواه البخاري ومسلم] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد أصحابه بالموعظة التي توجل منها القلوب وتذرف منها العيون ، وربما وعظهم فيخفضون رؤوسهم ولهم خنين ، ويرفعونها وقد أخضلت لحاهم بالدموع ، وكان يبلغ من تأثرهم في مجلسه صلى الله عليه وسلم حتى كأنهم يرون الجنة والنار رأي عين .
__________
(1) الجوهري ـ معجم الصحاح 3/1181 ، وابن منظور ـ لسان العرب 7/466 .
(2) ابن منظور ـ لسان العرب 7/466 .(1/155)
ومن المواعظ ما تشحذ به الهمم ، وتستنهض به العزائم ، وتستخرج به مواهب الفداء والتضحيات والبذل والعطاء ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ، وجاء فيه : (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض )) ، قال : يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه ، يارسول الله ، جنة عرضها السموات والأرض؟! ، قال : نعم ، قال : بخ بخ!! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما يحملك على قول بخٍ بخٍ؟ )) ، قال : لا والله يارسول الله ، إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال : فإنك من أهلها ، قال : فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منها ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه ، إنها حياة طويلة ، قال : فرمى ما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل ـ رحمه الله ـ )) [رواه مسلم] .
وعند ابن إسحاق : (( ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرّضهم ، وقال : (( والذي نفس محمد بيده ، لايقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، إلاّ أدخله الله الجنة )) ، قال عمير بن الحمام رضي الله عنه ـ أخو بني سلمة ـ وفي يده تمرات يأكلهن : بخٍ بخٍ!! أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاّ أن يقتلني هؤلاء؟! ، قال : ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/627 ، وابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/277 .(1/156)
وعن أبي عمرو ، جرير بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار ، أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رأى بهم من الفاقة . فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن وأقام ، فصلى ، ثم خطب ، فقال : {يَا أَيُّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ}. إلى آخر الآية : {إِنّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، والآية الأخرى التي في آخر الحشر : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ} . تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : (( ولو بشق تمرة )) ، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )) [رواه مسلم] .(1/157)
والمواعظ ترق لها القلوب الطيبة ، وتصحّ بها النفوس الخيرّة ، وتستجيب لها الفطر السليمة ، وأما القلوب القاسية ، والنفوس الخبيثة ، والفطر المريضة ، فلا تنتفع بشيء منها ، وحينئذ فلن تنتفع بشيء أبداً . قال الله تعالى حكاية عن هود عليه السلام وهو يعظ قومه : {فَاتّقُواْ الله وَأَطِيعُونِ . وَاتّقُواْ الّذِيَ أَمَدّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ . أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ . وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ . إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ . إِنْ هََذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ . وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ . فَكَذّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنّ في ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ}[الشعراء:131ـ139] .
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتا . وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لّدُنّآ أَجْراً عَظِيماً . وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً}[النساء:66ـ68] .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة طيبة ، قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان ، لاتمسك ماءً ، ولاتنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )) [متفق عليه] .(1/158)
وينبغي للواعظ ، أن يتخيّر لموعظته المكان المناسب ، والوقت المناسب ، والموضوع المناسب ، وأن يتخذ لمن يعظهم أسلوب الخطاب المناسب :
عن أبي الطفيل قال : (( سمعت علياً على المنبر يقول : أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ، لاتحدثوا الناس إلاّ بما يعلمون )) [أخرجه البخاري في كتاب العلم ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله](1) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( ما أنت محدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلاّ كان عليهم فتنة ))[أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله] (2) .
كما أن عليه أن لايكثر على الناس ، فيطيل عليهم فيملهم ، ويضجرهم ، مما قد يترتب عليه نفورهم منه ، وعدم انتفاعهم بما يعظهم به .
عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، قال : (( كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم ، وإني أتخولكم بالموعظة ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا ، مخافة السآمة علينا )) [متفق عليه] .
سابعاً : المجادلة بالتي هي أحسن
قال الله تعالى : {وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] .
وقال تعالى : {وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}[العنكبوت:46] .
والمجادلة : المناقشة والمناظرة ، لإظهار الصواب ، وإلزام الخصم(3) .
والمجادلة : خطاب الداعية لعقول المدعوين ، والغرض الشرعي منها : الإقناع بالحجة والبرهان ، لإظهار الحق وبيانه ، وإلزام المخاطبين بقبوله عقلاً ونقلاً .
__________
(1) ابن عبد البر ـ جامع بيان العلم وفضله 1/539 .
(2) المصدر السابق 1/539 برقم (888) .
(3) انظر : المعجم الوسيط ، مادة (جدل) .(1/159)
والمجادلة التي يراد بها الدعوة إلى الله ، وإظهار دينه ، ينبغي أن تكون بالتي هي أحسن ، كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه الكريم : {وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال ابن كثير في تفسيره : (( أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب )) ، وذلك لأن المجادلة فيها معنى المغالبة والمخاصمة ، والنفوس مجبولة على حب الانتصار والغلبة ، لذلك يلجأ كثير من الناس عند إلزامه بالحجة إلى المكابرة والمعاندة ، وردّ الحق ورفضه . قال الله تعالى : {ومِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ . ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ في الدّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:8،9] .
وقال تعالى : {إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن في صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56] ، قال سيد قطب في ظلال القرآن : (( والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة ، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة ، وقيمته كريمة ، وأن الداعي لا يقصد إلاّ كشف الحقيقة في ذاتها ، والا هتداء إليها ، في سبيل الله ، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر ))(1) .
وليعلم أن من النفوس ما هو خبيث مريض ، لاتنفع معه المجادلة والإقناع ، كما أخبر الله تعالى عن قوم نوح : {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ}[هود:32] .
__________
(1) سيد قطب ـ في ظلال القرآن ـ 4/2202 .(1/160)
وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ في رِبّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ الله يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[البقرة:258] .
والدعوة بالمجادلة الحسنى يناسب أن يخاطب به ، كل من له حظ من عقل راجح ، ورأي سديد حازم ، أو علم صحيح ، وفكر ثاقب ، كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم حصين والد عمران ، وذلك (( أن قريشاً جاءت إلى الحصين ـ وكانت تعظمه ـ فقالوا له : كلِّم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبّهم . فجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أوسعوا للشيخ ـ وعمران وأصحابه متوافرون ـ ، فقال حصين : ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا ، وتذكرهم ، وقد كان أبوك حصينة وخيراً؟ ، فقال : (( ياحصين ، إن أبي وأباك في النار . يا حصين ، كم تعبد من إله؟ )) ، قال : سبعاً في الأرض وواحداً في السماء ، قال : (( فإذا أصابك الضر من تدعوا؟ )) ، قال : الذي في السماء ، قال : (( فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ، أرضيته في الشكر ، أم تخاف أن يغلب عليك؟ )) ، قال : ولاواحدة من هاتين . قال : وعلمت أني لم أكلم مثله ، قال : (( يا حصين ، أسلم تسلم )) ، قال : إن لي قوماً وعشيرة فماذا أقول؟ ، قال : (( قل : اللهم ، استهديك لأرشد أمري ، وزدني علماً ينفعني )) ، فقالها حصين ، فلم يقم حتى أسلم ))(1).
__________
(1) الحافظ ابن حجر ـ الإصابة في تمييز الصحابة ـ 1/336 .(1/161)
أما من كان من أهل الأمراض الأربعة ؛ الكبر أو الحسد أو التعصب والفخر أو الهوى ، فإن كلاً من هذه الأمراض الأربعة حجاب كثيف على قلب صاحبه ، من أن يصل إليه نور الهداية ، أو يسمعه داعي الحق ، إلاّ أن يشاء الله .
لقد كان جواب أهل الكبر على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ما أخبر الله تعالى عنهم : {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ}[فصلت:5] .
وكذلك آل فرعون لموسى لما جاءهم بالبينات : {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لّتَسْحَرَنَا بها فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:132] ، وقد شكا نوح عليه السلام إلى ربه حال قومه المستكبرين فقال :
{وَإِنّي كُلّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوَاْ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً}[نوح:7] .وهكذا دأب سائر المستكبرين في جوابهم لرسلهم .
قال الله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنّهُ كَانَت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُوَاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلّواْ وّاسْتَغْنَى الله وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ}[التغابن:6] .
وأما أهل الحسد فقد قال الله تعالى عنهم :
{وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ}[البقرة:109] .
وقال عنهم : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرا . أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً}[النساء:53،54] .(1/162)
وقال تعالى : {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنّ فَرِيقاً مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:146] .
وأما أهل التعصب والفخر ، فقال الله تعالى عنهم : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ . وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[البقرة:170،171] .
وقال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزلَ الله وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[المائدة:104] .
وأما أهل الهوى ، فقال الله تعالى عنهم : {كُلّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}[المائدة:70] .
وقال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلََهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكّرُونَ}[الجاثية:23] .
وقال تعالى : {فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله إِنّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[القصص:50] ، وقد تجتمع هذه الأمراض النفسانية الخبيثة في نفس واحدة ، وقد تصاب نفس بواحد منها أو أكثر ، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية والسلامة .(1/163)
والمقصود أن المجادلة بالتي هي أحسن ، تتقبلها في الغالب النفوس السليمة من هذه الأمراض ، وربما انتفع بعض من ابتلي بشئ منها الأمراض بأمورٍ أخرى كالإكرام ، وتأليف القلوب أحياناً ، أو إشهار السيف ، وإظهار القوة في أحيان أخرى ، وذلك إذا توفرت للمسلمين أسباب القوة والجهاد في سبيل الله ، أما في الدعوة الفردية والدعوة بغير قوة ومنعة ، فإن الداعية إلى الله يتخير من الأساليب ما يناسب حال المدعوين ، قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}[النساء:63] .
وقال تعالى : {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا {29} ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}[النجم:29، 30] .
وقال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199] .
ثامناً : سرد القصص للعبرة والعظة
وقال تعالى : {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ}[الأعراف:176] .
وقال تعالى : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ}[هود:100] .
وقال تعالى : {نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3] .
وقال تعالى : {وَكُلاّ نّقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ في هََذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[هود:120] .(1/164)
لقد اتخذ القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف القصة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله وطريقاً من طرق البيان ، والموعظة ، والإقناع ، والتأثير النفسي العميق ، وسبيلاً لإظهار المواقف المتشابهة لمختلف الأمم الكافرة ، في مختلف الأزمان ، والأقطار ، في مواجهة سلطان الدين ، وتحديها له ، واستعمالها لجميع أساليب المكر ، والبطش ، والعدوان ، لإطفاء نوره ، والقضاء على أوليائه وأنصاره ، قال تعالى : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32] ، ولبيان جهاد الأنبياء والمرسلين ، وصبرهم ، وثباتهم ، مع ما تعرضوا له من أنواع الأذى ، وصنوف الابتلاء ، تثبيتاً للمؤمنين ، وبياناً لسنن الله تعالى في السابقين .
وقد تنوع القصص في القرآن الكريم والسنة المطهرة في أسلوبه ، وموضوعاته ، تنوعاً يخاطب النفس الإنسانية في أحوالها المختلفة ، وعلى مستوياتها العاطفية المتعددة ، ويكشف عن أحداث كونية واجتماعية ، وعن نماذج بشرية ، وطوائف إنسانية متكررة الحصول ، في كل زمان ، ومكان ، ليعطي بذلك بياناً مفصلاً ، وموقفاً واضحاً ، للمنهج الإلهي (الإسلام) من كل تلك الظواهر والأحداث ، منذ أنشأ الله الإنسان على هذه الأرض وحتى يرث الله الأرض ومن عليها .
- فمن القصص القرآني ما يصور النماذج البشرية التي تمثل الصراع بين الحق والباطل ، كما يصور مافي الباطل من ظلم وطغيان ، كقصة ابني آدم :
قال تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ الله مِنَ الْمُتّقِينَ . لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنّيَ أَخَافُ الله رَبّ الْعَالَمِينَ}[المائدة:27،28] .(1/165)
ومن ذلك قوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بها وَلََكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ}[الأعراف:175،176] .
ومنه قوله تعالى في مؤمن آل فرعون : {وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ}[غافر:28] .
ومنه في سورة يس قوله تعالى : {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ}[يس:20] .
ومثل هذا ما ورد في السنة المطهرة ، في أحاديث كثيرة مشهورة ، وبعضها مطول نشير إليه إشارة لأن المقام مقام استشهاد على وجود هذا النوع من القصص في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك مثل حديث الأبرص والأقرع والأعمى ، من بني إسرائيل . عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( ثلاثة من بني إسرائيل ، أبرص ، وأقرع ، وأعمى ، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك؟ ... )) الحديث [متفق عليه] .
ومثله حديث الغلام الذي يتردد بين الساحر والراهب ، وهو حديث طويل كذلك . عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر ، قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ... )) الحديث [رواه مسلم] .(1/166)
ومثله حديث النفر الثلاثة الذين في الغار . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار ، فقالوا : إنه لاينجيكم من هذه الصخرة إلاّ أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ... )) الحديث [متفق عليه] .
ومن ذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب ، فأتاه ، فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة؟ ، فقال : لا ، فقتله ، فكمّل به مائة . ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجلٍ عالمٍ ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ ، فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ . انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى ، فاعبد الله معهم ، ولاترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً ، مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط . فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ـ أي حكماً ـ ، فقال : قيسوا مابين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا ، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة )) [متفق عليه] . وفي رواية في الصحيح : (( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر ، فجعل من أهلها )) . وفي رواية في الصحيح : (( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي ، وإلى هذه أن تقربي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له )) ، وفي رواية : (( فنأى بصدره نحوها )) .(1/167)
- ومن القصص القرآني والنبوي ، ما يصور طوائف من الناس مجتمعة على سلوك معين ، وحال يتكرر في الناس ، قال الله تعالى : {إِنّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنّهَا مُصْبِحِينَ . وَلاَ يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مّن رّبّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصّرِيمِ . فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ . فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَن لاّ يَدْخُلَنّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ}[القلم:17ـ24] .
ومنه قصة أصحاب السبت ، قال الله تعالى : {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ في السّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذَ قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}[الأعراف:163،164] .
ومن هذا النوع من القصص القرآني أيضاً ، ما يصوره القرآن من حال إخوة يوسف واجتماعهم على الكيد لأخيهم قال الله تعالى : {لّقَدْ كَانَ في يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ . إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إِلَى أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلاَلٍ مّبِينٍ . اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[يوسف:7ـ9] .(1/168)
وتستغرق هذه القصة ، سورة كاملة ، هي سورة يوسف ، على تنوع في الأحداث والمواقف والأشخاص ، التي نستلهم منها العظات والعبر البالغة ، وقد ختمت بقوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلََكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف:111] .
ومما ورد من ذلك في الهدي النبوي ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ، ودع ما تصنع فإنه لايحل لك ، ثم يلقاه من الغد ، وهو على حاله ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلهُ وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ... )) الحديث . هذا لفظ أبي داود ، وفي رواية الترمذي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم ، وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود ، وعيسى بن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )) ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان متكئاً ، فقال : (( لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً ))[رواه أبوداود والترمذي ، وقال : حديث حسن] .
وعن عائشة رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنما أهلك الذين من قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ))(1) .
__________
(1) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم2348 .(1/169)
- ومن القصص القرآني والهدي النبوي ما يصور أحداثاً ومواقف خاصة ؛ منها أحداث الفتن والملاحم التي تكون قبل قيام الساعة ، وهذا النوع مجمل في القرآن مفصّل في السنة المطهرة ، كقول الله تعالى : {حَتّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ . وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ مّنْ هََذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ}[الأنبياء:96،97] .
وقوله تعالى : {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَآءُ بِدُخَانٍ مّبِينٍ . يَغْشَى النّاسَ هََذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ . رّبّنَا اكْشِفْ عَنّا الْعَذَابَ إِنّا مْؤْمِنُونَ}[الدخان:10ـ12] .
وقال تعالى : {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبّةً مّنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ}[النمل:82] .
أما القصص النبوي ، فقد فصّل في وصف ما سيقع في آخر الزّمان من فتن وملاحم ، مبالغة في الإنذار والتحذير منها ، وعلامة من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم وصدقه ، ولكونه ما ترك خيراً مما يرجوه لأمّته إلاّ دلّها عليه ، وما ترك شراً مما يخافه عليها إلاّ حذرها منه وكان صلى الله عليه وسلم يورد ذلك أحياناً في أسلوب القصص المصوّر للأحداث والوقائع كأحسن ما يكون القصص وأبلغه .(1/170)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق ، فيخرج إليهم جيش من المدينة ، من خيار أهل الأرض يومئذٍ . فإذا تصافوا قالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم ، فيقول المسلمون : لا والله لانخلي بينكم وبين إخواننا ، فيقاتلونهم ، فينهزم ثلث لايتوب الله عليهم أبداً ، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله ، ويفتتح الثلث لايفتنون أبداً ، فيفتحون قسطنطينة ، فبينا هم يقتسمون الغنائم ، قد علقوا سيوفهم بالزيتون ، إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم ، فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاءوا الشام خرج ، فبيناهم يعدون للقتال يسوون الصفوف ، إذ أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى بن مريم ، فأمّهم ، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فلو تركه لانذاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله بيده ، فيريهم دمه في حربته ))(1) [رواه مسلم] .
ومن القصص القرآني ما يصوّر أحداث قيام الساعة وأهوال يوم القيامة ، قال الله تعالى : {إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ . وَإِذَا النّجُومُ انكَدَرَتْ . وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ . وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ . وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ . وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ . وَإِذَا النّفُوسُ زُوّجَتْ . وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ . وَإِذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ . وَإِذَا السّمَآءُ كُشِطَتْ . وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ . وَإِذَا الْجَنّةُ أُزْلِفَتْ . عَلِمَتْ نَفْسٌ مَآ أَحْضَرَتْ}[التكوير:1ـ14] .
__________
(1) الخطيب التبريزي ـ مشكاة المصابيح ـ برقم5421 .(1/171)
ومنه قوله تعالى : {وَنُفِخَ في الصّورِ فَصَعِقَ مَن في السّمَاوَاتِ وَمَن في الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ الله ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ . وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبها وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ . وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَى جَهَنّمَ زُمَراً حَتّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هََذَا قَالُواْ بَلَى وَلََكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ . قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ . وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:68ـ73] .
ومن الهدي النبوي كذلك ما يصور قيام الساعة ، وأحداث اليوم الآخر ، وكأنها تجري أمام سامعها رأي عين ، فمن ذلك ، ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يطوي الله السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون؟ ، أين المتكبرون؟ ، ثم يطوي الله الأرضين بشماله ـ وفي رواية : يأخذهن بيده الأخرى ـ ثم يقول : أنا الملك : أين الجبارون؟ ، أين المتكبرون؟ )) [رواه مسلم] .(1/172)
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون : اشفع إلى ربك ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله ، فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد ، فيأتوني ، فأقول : أنا لها . فأستأذن على ربي ، فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها لاتحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد ، وأخرّ ساجداً ، فيقال : يامحمد ، ارفع رأسك ، وقل تسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يارب ، أمتي أمتي ، فيقال : انطلق ، فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخرّ له ساجداً ، فيقال : يامحمد ، ارفع رأسك ، وقل تسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يارب ، أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من خردلة من إيمان ، فأنطلق ، فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخرّ له ساجداً ، فيقال : يامحمد ، ارفع رأسك ، وقل تسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يارب ، أمتي أمتي ، فيقال : انطلق ، فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردلة من إيمان ، فأخرجه من النار ، فأنطلق ، فأفعل ، ثم أعود الرابعة ، فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخرّ له ساجداً ، فيقال : يامحمد ، ارفع رأسك ، وقل تسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يارب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلاّ الله ، قال : ليس ذلك لك ، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال : لا إله إلاّ الله )) [متفق عليه] .(1/173)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن الناس ، قالوا : يارسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ ، فذكر معنى حديث أبي سعيد غير كشف الساق ، وقال : (( يضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولايتكلم يومئذٍ إلاّ الرسل ، وكلام الرسل يومئذٍ : اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان ، لايعلم قدر عظمها إلاّ الله ، تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعمله ، ومنهم من يخردل ثم ينجو . حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرجه ممن كان يشهد أن لا إله إلاّ الله ، أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله ، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود ، فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود . فيخرجون من النار قد امتحشوا ، فيصب عليه ماء الحياة ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ويبقى رجل بين الجنة والنار . وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة ، مقبل بوجهه قبل النار ، فيقول : يارب ، اصرف وجهي عن النار ، فإنه قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فيقول : هل عسيت إن أفعلْ ذلك أن تسأل غير ذلك؟ ، فيقول : لا وعزتك ، فيعطى الله ماشاء الله من عهدٍ وميثاق ، فيصرف الله وجهه عن النار؟ . فإذا أقبل به على الجنة ورأى بهجتها ، سكت ماشاء الله أن يسكت ، ثم قال : يارب ، قدمني عند باب الجنة ، فيقول الله تبارك وتعالى : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لاتسأل غير الذي كنت سألت ، فيقول : يارب ، لاأكون أشقى خلقك ، فيقول : فما عسيت أن أُعطيت ذلك أن تسأل غيره ، فيقول : لاوعزتك ، لاأسألك غير ذلك ، فيعطى ربه ماشاء من عهد وميثاق ، فيقدمه إلى باب الجنة ، فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها ، وما فيها من النضرة والسرور . فسكت ماشاء الله أن يسكت ، فيقول : يارب أدخلني الجنة ، فيقول الله تبارك وتعالى : ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! ، أليس(1/174)
قد أعطيت العهود والميثاق أن لاتسأل غير الذي أعطيت ، فيقول : يارب ، لاتجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو ، حتى يضحك الله منه ، فإذا ضحك أذن له في دخول الجنة ، فيقول : تمنّ ، فيتمنى ، حتى إذا انقطعت أمنيته ، قال الله تعالى : تمنّ من كذا وكذا ، أقبل يذكره ربه ، حتى إذا انتهت به الأماني ، قال الله : لك ذلك ومثله معه )) . وفي رواية أبي سعيد : (( قال الله : لك ذلك وعشرة أمثاله )) . [متفق عليه] .
مزايا البلاغ بالقصص
1- جبل الله تعالى النفوس البشرية ، على حب القصص ، والإقبال على سماعه ، والتأثر بما يتضمن من أخبار وأحداث وأشخاص ، مما يجعله من أنسب أساليب الخطاب ، لعرض الحق وبيانه ، والتحذير من الباطل ، وتصوير عواقبه الوخيمة ، وآثاره القبيحة ، لذلك فإن القرآن الكريم المحكم في تنزيله ، البليغ في بيانه وتفصيله ، قد تضمن من قصص الأنبياء عليهم السلام ، وأقوامهم من الأمم السابقة ، وكذلك قصص غيرهم ، ممن في قصصهم عبرة وعظة الشيء الكثير ، لأن خالق الناس أجمعين يعلم ما لهذا القصص في النفوس البشرية من أثر بالغ ، تتعظ به النفوس السوية ، وتهتدي به القلوب التقية .
وكذلك كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، في عرضه لدعوته ، وخطابه لأمته ، كما في الأمثلة السابقة .
2- القصص تتضح فيه معالم الخير والشر ، ومواقف الحق والباطل ، لأنه يعتمد التصوير والتشخيص ، بحيث يتحول السامع بما يتصوره من أحداث وشخصيات ومواقف ، وكأنه مشاهد ، يرى ما يتضمنه القصص ، وينفعل به ، ويتأثر له .
3- القصص ينتهي إلى موعظة وعبرة ، فخاتمة القصة ونهايتها ، هي جامعة العبرة ، ومحور الفكرة ، وناطقة الموعظة . وهي تصل إلى النفوس ، بعد تشوق ، وترقب منها ، فتستقر فيها ، وتظل تؤثر بها كلما تذكر السامع أحداثها ، أو مر بما يشابهها ، أو يذكره بها .(1/175)
4- القصص تعليم وتذكير غير مباشر ، فسامعه والمطلع عليه ، هو الذي يستخرج منه الموعظة ، ويستنبط منه الفائدة ، دون إملاء عليه ، بل يكون هو المعلم لنفسه ، الواعظ لها ، وهذا أوقع في النفس ، وأحرى لها أن تتأثر به وتتقبله ، ثم إن السامع للقصص والمطلع عليه كلما تكرر عليه ذلك القصص وقف منه على شيء من العبر والفوائد ، غير الذي وقف عليه من قبل ، وهكذا يظل القصص ، معيناً لاينضب ، وبحراً لايستوعب من الفوائد والمواعظ والعبر .
5- القصص بأحداثه ، وأشخاصه ، وما يدور فيه ، وما ينتهي إليه ، من ألصق الأمور بالذاكرة ، وأثبتها فيها ، كما أنه من أيسر الأمور على الأذهان ، وأقربها إليها .
فالقصة لاتكاد تنسى من ذاكرة سامعها ، أو قارئها ، ولايزال الذهن يلتذ بتكرار صورها عليه ، وتتابع أحداثها فيه حتى يكاد ينشغل بها عن غيرها ، ويلتذ بها عما سواها ، لذلك فإن الموعظة بها أدوم ، والفائدة منها ألزم ، فهي للدعوة والوعظ من أنسب الأساليب وأقواها .
6- ومن فوائد البلاغ بالقصص ، أن السامع له ، والمطلع عليه ، يستشعر إمكانية وقوعها له فما دام أن القصة تنبئ عن أحداث وقعت ، أو يمكن وقوعها ، وأن من تدور حوله من الأشخاص هم بشر عاديون ، فإنه يستشعر أن مواعظها وفوائدها ، قريبة منه ، ممكنة الوقوع ، له أو لغيره ، فإن كان فيها إنذار وتحذير ، كان أكثر استشعاراً للخطر ، واستعداداً للحذر ، وإن كان فيها بشارة وترغيب ، كان أشوق إليها ، وأكثر تمثلاً لها ، وتأثراً بها .
7- والقصص لما فيه من تصوير للمشاهد ، وتشخيص للوقائع فإنه يورث السامع له ، أو القارئ إيماناً بما يتوصل إليه من عبرة وعظة يبلغ درجة اليقين الذي لايتزعزع .(1/176)
وهذا كله واضح بيّن فيما تضمنه القرآن الكريم من القصص ، وما حدّث به رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم منه ، سواء ما يتعلق بماضٍ وقع ، أو مستقبل سيقع ، وفي هذا دليل على أهمية القصص في عرض الدعوة إلى الله ، وإبلاغ دينه إلى الناس .
تاسعاً : ضرب الأمثال
ومن صور البلاغ المبين لأمر رب العالمين ، ضرب الأمثال . وهذا كثير في القرآن الكريم وفي هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وهو من أجلّ الأساليب في تقريب المعاني ، وتجليتها ، وبيانها ، للناس . قال الإمام السيوطي في كتابه الإتقان : (( أفرده بالتصنيف الإمام الحسن الماوردي من كبار أصحابنا ، قال تعالى : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ في هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ}[الزمر:27] .
وقال تعالى : {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبها لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43] ، وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن القرآن نزل على خمسة أوجه : حلال ، حرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ؛ فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال )) . قال الماوردي : من أعظم علم القرآن علم أمثاله ، والناس في غفلة عنه ، لانشغالهم بالأمثال ، وإغفالهم الممثلات ، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام ، وقال غيره : قد عدّه الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن ، فقال : ثم معرفة ماضرب فيه من الأمثال الدوال على طاعته ، المبينة لاجتناب ناهيه ))(1) .
وقال السيوطي كذلك : (( ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال ، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال . وفشت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء ))(2) .
__________
(1) الإمام السيوطي ـ الإتقان في علوم القرآن ـ ص167 .
(2) المصدر السابق .(1/177)
وأما عن الغاية من ضرب الأمثال ، والحكمة منها ، فيقول السيوطي في الإتقان : (( وقال الشيخ عز الدين : إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيراً ووعظاً . فما اشتمل منها على تفاوت ثواب ، أو على إحباط عمل ، أو على مدح ، أو ذم ، أو نحوه ، فإنه يدل على الأحكام . وقال غيره : ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة : التذكير ، والوعظ ، والحث ، والزجر ، والاعتبار ، والتقرير ، وتقريب المراد للعقل ، وتصويره بصورة المحسوس ؛ فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص ، لأنها أثبت في الأذهان ، لاستعانة الذهن فيها بالحواس ، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ ، والغائب بالمشاهد ))(1) .
وضرب المثل في القرآن الكريم جاء على صور متعددة ، قال الإمام الزركشي في البرهان : (( والمثل هو المستغرب ، قال الله تعالى : {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} ، وقال تعالى : {مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ} ؛ ولما كان المثل السائر فيه غرابة استعير لفظ المثل للحال ، أو الصفة ، أو القصة ، إذا كان لها شأن ، وفيها غرابة .
أما استعارته للحال ، فكقوله : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ، أي حالهم العجيب الشأن كحال الذي استوقد ناراً .
أما استعارته للوصف ، فكقوله تعالى : {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} ؛ أي الوصف الذي له شأن ، وكقوله : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ، وكقوله : {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} ، وقوله : {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً} ، وقوله سبحانه : {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} .
__________
(1) المصدر السابق .(1/178)
وأما استعارته للقصة ، فكقوله تعالى : { مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ} ؛ أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ؛ ثم أخذ في بيان عجائبها ))(1) .
ويأتي المثل في القرآن الكريم كذلك ، كالدليل والبرهان على حقيقة ثابتة جلية ، يتغافل عنها الناس ، أو يغفلون ، ومنه قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . مَا قَدَرُواْ الله حَقّ قَدْرِهِ إِنّ الله لَقَوِيّ عَزِيزٌ}[الحج:73،74] .
وسنورد فيما يلي صوراً من أمثال القرآن ، ثم من الأمثال النبوية داخلة تحت هذه الأصناف ، لندلك بذلك على أن (( المثل )) ، وسيلة من وسائل الدعوة ، وصورة من صور البلاغ المبين .
فمما يصور الحال :
1- قال الله تعالى : {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مّمْلُوكاً لاّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رّزَقْنَاهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ . وَضَرَبَ الله مَثَلاً رّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}[النحل:75ـ76] .
2- وقال تعالى : {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النحل:112] .
ومما يدل على الصفة :
__________
(1) الإمام الزركشي ـ البرهان في علوم القرآن ـ 1/489 .(1/179)
1- قال تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً}[الكهف:45] .
2- وقال تعالى : {الله نُورُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُوْرٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}[النور:35] .
ومما يكون قصة فريدة ، جامعة للمواعظ والعبر :
1- قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً . كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً وَفَجّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً . وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً}الآيات [الكهف:32ـ34] .
2- وقوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوَاْ إِنّآ إِلَيْكُمْ مّرْسَلُونَ . قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَآ أَنزلَ الرّحْمََنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ}[يس:13ـ15] .
ومن الأمثال في الحديث النبوي الشريف :(1/180)
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل البخيل والمتصدق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق ، فلا ينفق شيئاً إلاّ سبغت على جلده ، حتى تخفى بنانه ، وتعفو أثره . وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلاّ لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها فلا تتسع ))(1) .
2- وعن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل المسلمين واليهود والنصارى ، كمثل رجلٍ استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل ، فعملوا إلى نصف النهار ، فقالوا : لاحاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملنا لك ، فقال لهم : لاتفعلوا ، أكملوا بقية عملكم ، وخذوا أجركم كاملاً ، فأبوا وتركوه ، فاستأجر أجراء بعدهم ، فقال : اعملوا بقية يومكم ، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا ، حتى إذا كان حين صلاة العصر ، قالوا : لك ماعملنا ، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال : أكملوا بقية عملكم ، فإنما بقي من النهار شيء يسير ، فأبوا ، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ، ومثل ما قبلوا من هذا النور ))(2) .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثلي كمثل رجلٍ استوقد نارً ، فلما أضاءت ماحولها ، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار ، يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ، ويغلبنه ، فيتقحمن فيها ، فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار : هلم عن النار ، هلم عن النار ، فتغلبوني ، فتقحمون فيها ))(3) .
__________
(1) الشيخ الألباني ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم548 ، وصحيح الجامع الصغير برقم5826 .
(2) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم5852.
(3) الألباني ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم1544 ، وصحيح الجامع الصغير برقم5858 .(1/181)
4- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثلي ومثل مابعثني الله به ، كمثل رجلٍ أتى قوماً ، فقال : ياقوم إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء . فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا ، وانطلقوا على مهلهم فنجوا . وكذبته طائفة منهم ، فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش ، فأهلكهم ، واجتاحهم . فذلك مثل من أطاعني فاتبع ماجئت به ، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق ))(1) .
5- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل المؤمن مثل النحلة ، إن أكلت أكلت طيباً ، وإن وضعت وضعت طيباً ، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره . ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب ، إن نفخت عليها احمرت ، وإن وزنت لم تنقص ))(2) .
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل الذي يتعلم العلم ، ثم لايحدث به ، كمثل الذي يكنز ، فلا ينفق منه ))(3) .
7- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لايذكر الله فيه ، مثل الحي والميت ))(4) .
عاشراً : الدعوة إلى التفكر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية :
من صور البلاغ المبين ، ما ورد في القرآن الكريم في كثير من سوره وآياته ، من لفت للأنظار والأذهان ، إلى ما في الكون من مخلوقات ، يتجلى فيها بديع صنع الله تعالى ، وعجيب خلقه ، وعظيم حكمته جل وعلا .
__________
(1) الألباني ـ مختصر مسلم ـ برقم1526 ، وصحيح الجامع الصغير برقم5860 .
(2) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم5846 ، وقال : حديث حسن .
(3) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم 5835 .
(4) المصدر السابق برقم 5827 .(1/182)
وذلك في معرض التعريف بالخالق سبحانه ، وماله من صفات الكمال ، والاقتدار ، قال الله تعالى : {سَبّحَ للّهِ مَا في السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . هُوَ الأوّلُ وَالاَخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ في سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الاُمُورُ . يُولِجُ الْلّيْلَ في النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ في الْلّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}[الحديد:1ـ6] .
وقال تعالى : {أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ . إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ . فَسُبْحَانَ الّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:81ـ83] .
وفي معرض التعريف بنعمه وآلائه على خلقه ، يقول سبحانه : {الله الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ . وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ . وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ}[إبراهيم:32ـ34] .(1/183)
وقال تعالى : {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ . وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَى الله قَصْدُ السّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ . هُوَ الّذِي أَنزلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ في ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ . وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالْنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنّجُومُ مُسَخّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنّ في ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ في الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنّ في ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَذّكّرُونَ . وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَى في الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلامَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ . أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكّرُونَ . وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنّ الله لَغَفُورٌ رّحِيمٌ}[النحل:4ـ18] .(1/184)
وتأتي الدعوة القرآنية إلى التفكّر في عجيب خلق الله ، وبديع صنعه ، وكمال حكمته تعالى ـ كذلك ـ في معرض تعريف الإنسان بعبودية الكون من حوله لله سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السّمَاوَاتِ وَمَن في الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}[الحج:18] .
وقال تعالى : {هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ . وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بها مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ في الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}[الرعد:12،13] .
وقال تعالى : {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً . تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلََكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}[الإسراء:43،44] .
وتأتي كذلك هذه الدعوة إلى التفكّر والتدبر في خلق الله ، وبديع صنعه ، في معرض الإنكار على الكافرين ، والتقريع واللوم لمن لايتفكر ولايعتبر بهذه الآيات الكونية العظيمة . قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنّ الله سَخّرَ لَكُمْ مّا في السّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ}[لقمان:20] .(1/185)
وقال تعالى : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ أَمّن يَمْلِكُ السّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَمَن يُدَبّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ . فَذَلِكُمُ الله رَبّكُمُ الْحَقّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاّ الضّلاَلُ فَأَنّى تُصْرَفُونَ}[يونس:31،32] .
وأثنى الله سبحانه وتعالى على الذين استجابوا لدعوته ، فتدبروا آياته ، وتفكروا في بديع صنعه ، قال الله تعالى : {إِنّ في خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ . الَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ الله قِيَاماً وَقُعُوْداً وَعَلَى جُنُوْبِهْمْ وَيَتَفَكَّرُوْنَ في خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَاخَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:190،191] .
وقال تعالى : {إِنّ في خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزلَ الله مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164] .
وكما قامت الدعوة القرآنية للتفكر والتدبر في آيات الله الكونية ، كذلك قامت الدعوة إلى التفكر والتدبر في آيات الله القرآنية . قال الله تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}[محمد:24] .
وقال تعالى : {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ}[ص:29] .(1/186)
وقال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء:82] .
وكما وردت الدعوة في القرآن الكريم إلى التفكر والتدبر ، متكررة ، وملحّة ، ومبسوطة ، في كثير من آياته وسوره . كذلك وردت هذه الدعوة على لسان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، لتلفت الأنظار والبصائرإلى هذا المصدر الإيماني العظيم ، الذي يتضمن أعظم الدلالات على وجود الله ، وكمال صفاته ، ووحدانيته ، ألا وهو التفكر في الكون ؛ سمائه وأرضه ، صغيره وكبيره ، متحركه وساكنه ، بما في ذلك الإنسان نفسه ، قال الله تعالى : {وَفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21] . فكل مافي الكون آية من آيات الله ، وإن في نفس الإنسان لأعظم الآيات ، لوتدبر وتفكر .
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة ، مثل ذلك ، ثم يكون مضغة ، مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ... (( الحديث [متفق عليه] .
عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي آية أنزلها الله عليك أعظم؟ ، قال : (( آية الكرسي )) ، ثم قال : (( يا أباذر! ما السماوات السبع في الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة )) [أخرجه الألباني في الصحيحة برقم109] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( تفكروا في آلاء الله ، ولاتفكروا في الله ))(1) .
__________
(1) الألباني ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم1788 ، وصحيح الجامع الصغير برقم2975 .(1/187)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( تفكروا في خلق الله ، ولاتفكروا في الله ))(1) .
وعن عون بن عبد الله ، قال : قيل لأم الدرداء رضي الله عنهما : (( ماكان أكثر عمل أبي الدرداء رضي الله عنه؟ قالت : التفكر ))(2) .
- - -
المبحث السادس : مايترتب على البلاغ المبين من أمور :
أولاً : بالنسبة للداعية المبلّغ :
يترتب على البلاغ المبين بالنسبة للداعية أمور ، تحمّلها الرسل الكرام ، وصبروا عليها ، وجاهد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في تحمّلها ، والصبر عليها ، جهاداً كبيراً ، حتى أكمل الله به الدين ، وأتم به النعمة ، فقال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة:3] .
وهذه الأمور التي سنذكرها بعد قليل ، كثيراً ما يتحاشاها طوائف من الدعاة اليوم ، ويقصرون في البلاغ المبين تفادياً لمواجهتها ، وتجنباً لوقوعها . ولربما لبّس عليهم الشيطان ، وأغراهم هوى النفس ، فعدّوا فعلهم هذا من الحكمة التي أمر الله بها في قوله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ}[النحل:125] ، ولربما وصفوا من يبلغ الناس بلاغاً مبيناً ، يتعرض بسببه إلى شيء من الأذى والفتن ، لربما وصفوه بالرعونة ، والطيش ، وعدم الحكمة ، بل بالصد عن سبيل الله، وعن هداية خلقه .
__________
(1) الألباني ـ الصحيحة ـ برقم 1788 ، وصحيح الجامع الصغير برقم2976 .
(2) أبو الشيخ الأصبهاني ـ كتاب العظمة ـ برقم46 ، قال محققه المباركفوري : صحيح إن شاء الله.(1/188)
وما حصل لهم هذا إلاّ لأنهم فهموا الحكمة على أنها كل ما يوصل إلى السلامة من الأذى ، وإلى رضى الناس ، وعدم نفورهم ، ومصادمتهم للدعاة ، فأخذوا يبلغون الناس ، ويتجنبون ما ينفرون منه ، ويغضبهم ، بسبب مصادمته لأهوائهم وشهواتهم . فكتم هؤلاء الدعاة كثيراً من العلم والحق ، حرصاً على أن يقبل الناس ببعضه ، وخشية من أن ينفروا منه كله . وعدّوا ذلك إنجازاً عظيماً ، وحكمة بالغة . وما هكذا علمنا القرآن ، وما هكذا كان أنبياء الله ورسله . قال الله تعالى : {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67] . ولكنها الاجتهادات البشرية ، والآراء العقلانية ، بعيداً عن النصوص الشرعية ، من كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيرته ، هدانا الله وإخواننا المسلمين إلى سواء السبيل .
أما مايترتب على البلاغ المبين ، مما عاناه أنبياء الله ورسله ، عند إبلاغ أقوامهم ، وأشدهم في ذلك بلاءً رسولنا صلى الله عليه وسلم ، لعلو قدره ، ورفعة منزلته ، وكمال دعوته ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد أوذيت في الله ومايؤذى أحد ، وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علىّ ثلاثون من بين يوم وليلة ، ومالي ولبلال ما يأكله ذو كبد ، إلاّ ما يواري إبط بلال )) [أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح] .
فيترتب على البلاغ المبين بالنسبة للداعية المبلّغ أمور ، من أهمها ما يلي :
1- الحرج :(1/189)
فالنفس البشرية عند ما تتوقع الصدّ من الآخرين ، أو الكره والبغض ، أو الاستهزاء والسخرية ، لأمر من الأمور ، فإنه يعتريها الشعور بالحرج ، واستثقال الأمر ، وتهيب المواقف المؤدية إليه . فكيف بالداعية إلى الله ، وهو يواجه الناس كلهم ، ومنهم العتاة والجبارون ، ومنهم السفهاء المتفحشون ، وهو يعلم أن أكثرهم لن يقبلوا بدعوته وهي تخالف هواهم ، ولن يرضوا بالحق الذي جاء به وهو يهدم باطلهم ، ولن ينقادوا له وهو يقطع صلاتهم بملذاتهم الخبيثة ، وشهواتهم المحرمة ، وعاداتهم المستحكمة .
فهو يخرج إلى الناس ، ليأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، وينذرهم سوء العاقبة ، والنفس مثقلة بهمّ المواجهة ، وشدة الحرج ، ولكنها الرسالة ، ولكنها الأمانة ، ولكنها طبيعة الدعوة إلى الحق وثقلها .
قال الله تعالى مخاطباً رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : {المص . كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:1،2] .
وقال تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ . وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ}[الحجر:94ـ98] .
وقال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ}[النحل:127] .(1/190)
ولما أمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون ، قال تعالى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَى}[طه:24] ، فاستشعر موسى عليه السلام ، عظم المسئولية ، وثقل الأمانة ، وضخامة المواجهة ، فدعا ربه : {قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي . يَفْقَهُواْ قَوْلِي . وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي}[طه:25ـ32] ، فلما أمرهما سوياً بالذهاب إلى فرعون لدعوته : {قَالاَ رَبّنَآ إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:45ـ46] .
وأخرج الإمام أحمد عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن . وكاد أن يبطئ ، فقال له عيسى عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن ، وتأمربني إسرائيل أن يعملوا بهن . فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي . قال : فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعدوا على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله عزوجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ... ))(1)الحديث [رواه أحمد وأبويعلى والترمذي وابن ماجة والحاكم والطبراني] .
__________
(1) انظر : ابن كثير ـ قصص الأنبياء ـ ص546 .(1/191)
ومما يدل على عظم المسئولية ، وثقل الأمانة في الدعوة إلى الله ، ما رواه الحافظ أبوبكر البيهقي في الدلائل ، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية ، من حديث ابن عباس عن علي بن أبي طالب ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:214،215] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عرفت إني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره ، فصمتّ . فجاءني جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار )) ، قال : فدعاني ، فقال : (( يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فاصنع لنا ياعلي شاة ، على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عسّ لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب ... ))(1) الحديث ، ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( عرفت إني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره ، فصمت )) ، دليل على استشعاره صلى الله عليه وسلم ، ثقل الأمر ، وعظم المسئولية .
هذا وليس من البلاغ المبين ، وأداء الأمانة في شيء ، أن يدفع الداعية إلى الله عن نفسه الحرج ، بالتخفف من صراحة الإنذار ، ووضوح البيان ، فيقتصر في خطابه للناس بالدعوة على مايرضيهم ، ويسكت عما يكرهونه ، وينفرون منه ، موافقة لهواهم ، واتقاءً لأذاهم ، ثم يدعي مدعٍ أن هذا من باب الحكمة ، وعدم التنفير ، والسعي لاستدراج المدعوين إلى الهداية .
ويكفي أن يقال لمثل هذا : فما بال أنبياء الله ورسله ، لم يتجنبوا ما تجنبته من خطاب الناس ، وما سلموا مما سلمت منه؟؟ ، أبلغت من الحكمة ما لم يبلغوه؟ أم قصّرت في البلاغ المبين الذي بلّغوه؟؟!! .
2- التعرض للأذى :
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/37 .(1/192)
وهو أيضاً من لوازم البلاغ المبين في الغالب ، فمن بلّغ البلاغ المبين ، فيغلب أن يتعرض للأذى الحسي أو المعنوي ، أو هما معاً ، قال الله تعالى : {ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلّ مَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ}[المؤمنون:44] .
وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ:34] .
وقال تعالى : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ في الأوّلِينَ . وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نّبِيّ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الزخرف:6،7] .
وقال تعالى : {أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}[البقرة:87] .
وقال تعالى : {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ . وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[الحج:42ـ44] .
وقال تعالى : {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ في مِلّتِنَا}[إبراهيم:13] .
وهكذا فإن رسل الله تعالى ، بسبب صدقهم في النصح لأقوامهم ، وكمال بلاغهم عن الله تعالى في بيان ما عليه أقوامهم من الضلال والغواية ، وإنذارهم بالعذاب الأدنى والعذاب الأكبر ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، دون مداهنة ولامصانعة ، كما أمرهم الله بذلك ، قال الله تعالى : {فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ . وَدّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:8،9] .
وقال تعالى : {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29] .(1/193)
وقال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ الله قَوِيّ عَزِيزٌ}[الحديد:25] ، فإنهم بسبب ذلك قد تعرضوا لصنوف الأذى ، وأنواع البلاء ، في سبيل الدعوة إلى الله ، وإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، قال تعالى : {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33] .
و قد لاقوا ما لاقوه ، مع كمال أخلاقهم ، وحسن خطابهم ؛ ولين جانبهم ، وسعة حلمهم ، وعظم صبرهم ، إلاّ أنهم يقولون الحق ، لاتأخذهم في الله لومة لائم ، قال الله تعالى في وصفهم : {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ الله وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً}[الأحزاب:39] .
لذلك فقد شرع للدعاة إلى الله أن يصبروا على الأذى ، وأمروا به ، احتساباً للأجر من الله ، وثقة بنصره ، وأن العاقبة للمتقين ، قال الله تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لّهُمْ}[الأحقاف:35] .
وقال تعالى : {وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[يونس:109] ، وجاء في وصية لقمان لابنه ما حكاه الله عنه ، في سورة لقمان : {يَا بُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ}[لقمان:17] .
3- الحزن على المخالفين الغافلين ، والضيق من مكر الماكرين:(1/194)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحزن أشد الحزن ، من صدود قومه ، حرصاً على هدايتهم ، وإشفاقاً عليهم ، ويضيق صدره صلى الله عليه وسلم بما يرى من مكرهم وعنادهم ، بدلاً من الإذعان لأمر الله ، والإستجابة لرسوله ، قال الله تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ . فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:128،129] .
وقال تعالى : {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ}[النحل:37] .
وقال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ}[النحل:127] .
وقال تعالى : {قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلََكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33] .
وقال تعالى : {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوَاْ إِنّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}[لقمان:23] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ في الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ}[المائدة:41] .
وعن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي )) [رواه مسلم] .(1/195)
ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لايريد قتالاً ، سمع بأن قريشاً يعاهدون الله لايدخلها أبداً ، قال الزهري : (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ياويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة . فما تظن قريش ، فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة ))(1) . وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ، من الحزن على قومه ، والإشفاق عليهم ، ما لايخفى ، ولكنه حزن وإشفاق مع حزم وعزم على إظهار دين الله ، والجهاد في سبيله ، مهما كانت العوائق ، أو عظمت التضحيات .
4- خطر الوقوع في العجب والزهو :
إن الوقوع في العجب ، والزهو بالنفس أو العمل ، من أخطر ما يتعرض له الداعية إلى الله المبلغ لدينه . وهذا إنما يكون عند استجابة الناس له ، واتخاذهم إياه إماماً وقدوة . ومع كثرة سماعه لألفاظ الثناء والمدح ، ورؤيته لنظرات الإعجاب والإكبار من أتباعه ، وتلاميذه ، والمعجبين به ، فيقع في نفسه ما يقع من عجب ، ورياء ، ونحوه ـ إن لم يعصمه الله من ذلك ـ ، مما يعكر عليه صفو إخلاصه ، ويفسد عليه صدق توجهه ، ويفوّت عليه ثمرات جهاده ودعوته .
قال الله تعالى : {لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:188] .
وقال تعالى : {يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات:17] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/309 .(1/196)
وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، رد الناس في تعظيمه ، ومدحه ، إلى القصد ، حتى لايفتنهم الشيطان بذلك ، عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه ، قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : (( السيد هو الله تبارك وتعالى )) ، قلنا : وأفضلنا ، وأعظمنا طولاً ، فقال : (( قولوا بقولكم ، أو بعض قولكم ، ولايستجرينكم الشيطان )) [رواه أحمد بسند جيد] .
وعن أنس رضي الله عنه : أن ناساً قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : (( يا أيها الناس ، قولوا بقولكم ، ولايستهوينكم الشيطان . أنا محمد عبد الله ورسوله . ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزوجل )) [رواه النسائي بسند جيد] .
ولما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً ، في عشرة آلاف من أصحابه ، وقد نصره الله ، وأعزه ، وأعلى قدره ، ورفع ذكره ، وهزم أعداءه ، قال ابن إسحاق : (( وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله ، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمسّ واسطة الرحل ))(1) .
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ، يحرصون على التواضع ، وهضم أنفسهم ، بعد أن أعزهم الله بالدين ، وأعلى شأنهم في العالمين ، فكان أحدهم يذكر ماكان عليه قبل إسلامه ، من الهوان ، بل كان منهم من يتهم نفسه بكثرة الذنوب ، ويكثر البكاء .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 4/405 .(1/197)
أخرج الدينوري عن محمد بن عمر المخزومي ، عن أبيه ، قال : نادى عمر بن الخطاب : الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس وكثروا ، صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أيها الناس ، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم ، فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب ، فأظل يومي ، وأي يوم! ، ثم نزل . فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين : ما زدت على أن قمأت نفسك ـ يعني عبت ـ فقال : ويحك يا ابن عوف : (( إني خلوت فحدثتني نفسي ، فقالت : أنت أمير المؤمنين ، فمن ذا أفضل منك ، فأردت أن أعرفها نفسها ))(1) .
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : والله الذي لا إله غيره لو تعلمون علمي ، لحثيتم التراب على رأسي ، ويقول : لو تعلمون ذنوبي ، ما وطئ عقبي اثنان ، ولحثيتم التراب على رأسي ، ولوددت أن الله غفرلي ذنباً من ذنوبي ، وأني دعيت عبد الله بن روثة(2) .
واستأذن رجل عمر رضي الله عنه في القصص على الناس ، فقال : (( إني أخاف أن تقص عليهم ، فتترفع عليهم في نفسك ، حتى يضعك الله تحت أرجلهم يوم القيامة ))(3) .
5 - المجاهدة :
__________
(1) انظر : الكاندهلوي ـ حياة الصحابة ـ 2/562 . وقال : كذا في المنتخب 4/417 .
(2) الإمام الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ 1/495 .
(3) ابن رجب الحنبلي ـ مجموعة رسائله ـ رسالة ما ذئبان جائعان ص93 .(1/198)
ويترتب على البلاغ المبين ، والدعوة إلى رب العالمين كذلك ،كون الداعية في مجاهدة دائمة ، سواء كان ذلك في عبادته ، لأنه قدوة الناس ، وداعيهم إلى حسن العبادة . أوفي صبره وتحمله لمن لايستجيب له ، ومن يؤذيه ، لأنه يسير على طريق الأنبياء والرسل في دعوته ، فينبغي أن يقتدي بهم في تحمله وصبره . أو في مدافعة نفسه عن الغرور والعجب ، أو الفتور والملل ، فإن النفس لأمارة بالسوء ، وهي إن مدحت اغترّت ، وإن ذمّت تسخطت وتبرمت ، وإن أهملت فترت وملّت ، والداعية في كل هذه الأحوال مجاهد لنفسه على الاستقامة ، معافس لها على الثبات ، محرّض لها على السير والعمل ، مخاصم لها على التقصير والكسل .
قال الله تعالى : {وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69] .
وقال تعالى : {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَابْتَغُوَاْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ في سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35] .
وقال تعالى : {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنّ أَجَلَ الله لاَتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ الله لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:5،6] .
وقال تعالى : {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ الله لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200] .
وإن في إمام العبّاد ، وقدوة المجاهدين ، وصفوة المخلصين ، رسولنا صلى الله عليه وسلم ، القدوة ، والأسوة ، في جهاده ، وصبره ، وعبادته ، وثباته على الحق .(1/199)
كان صلى الله عليه وسلم قدوة أصحابه في مجاهدته ، وشدة تحمله ، وصبره ، على أذى المشركين ، وهو يبلغ عن ربه جل وعلا البلاغ المبين ، أخرج البزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : (( بينا رسول صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وأبوجهل بن هشام ، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة و عقبة بن أبي معيط ، وأمية بن خلف ، ورجلان آخران ، كانوا سبعة ، وهم في الحجر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فلما سجد أطال السجود . فقال أبوجهل : أيكم يأتي جزور بني فلان ، فيأتينا بفرثها ، فنكفؤه على محمد؟ ، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط ، فأتى به ، فألقاه على كتفيه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد .
قال ابن مسعود : وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ، ليس عندي منعة تمنعني ، فأنا أذهب ، إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه ، ثم استقبلت قريشاً تسبّهم ، فلم يرجعوا إليها شيئاً . ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، قال : (( اللهم عليك بقريش ـ ثلاثاً ـ عليك بعتبة ، وعقبة ، وأبي جهل ، وشيبة )) . ثم خرج من المسجد ... الحديث )) . [وأخرجه الشيخان والترمذي وغيرهم] .
ومن مجاهدته وتحمله وصبره صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الترمذي عن أبي طلحة رضي الله عنه ، قال : (( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ، ورفعنا ثيابنا عن حجر حجر على بطوننا ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين ))(1) .
__________
(1) الإمام المنذري ـ الترغيب والترهيب ـ 5/156 .(1/200)
ومن مجاهدته في عبادته صلى الله عليه وسلم ما روته عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقلت له : لم تصنع هذا يا رسول الله ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ، قال : (( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟ )) [متفق عليه] .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في عظم صبره ، ومجاهدته في تعبده ، ودوامه على ذلك .
عن أبي عبد الله حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنهما ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فافتتح البقرة ، فقلت يركع عند المائة . ثم مضى ، فقلت يصلي بها في ركعة . فمضى ، فقلت : يركع بها . ثم افتتح النساء ، فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها . يقرأ مترسلاً ، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مرّ بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ . ثم ركع ، فجعل يقول : (( سبحان ربي العظيم )) ، فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : (( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد )) ، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع ، ثم سجد ، فقال : (( سبحان ربي الأعلى )) ، فكان سجوده قريباً من قيامه . [رواه مسلم] .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ، فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء . قيل : وما هممت به؟ ، قال : هممت أن أجلس وأدعه . [متفق عليه] .(1/201)
وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصبر ، والمجاهدة ، وتحمل الأذى في سبيل تحقيق الإيمان بالله تعالى ، والدعوة إليه ، عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه ، قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ ، فقال : (( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه . والله ليُتِمّن الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلاّ الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون )) [رواه البخاري] ، وفي رواية : وهو متوسد بردة وقد لقينا من المشركين شدة .
وعن عثمان رضي الله عنه قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء ، إذ بعمار ، وأبيه وأمه يعذبون في الشمس ، ليرتدوا عن الإسلام ، فقال أبوعمار : يارسول الله ، الدهر هكذا؟ ، فقال : (( صبراً يا آل ياسر . اللهم اغفر لآل ياسر ، وقد فعلت )) [أخرجه أحمد والبيهقي والبغوي وغيرهم] . وفي حديث آخر عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما . أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بهم وقال : (( صبراً يا آل ياسر ، صبراً يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة )) [أخرجه أبوأحمد الحاكم] .
ثانياً : ما يترتب على البلاغ المبين بالنسبة للمدعوين :
1- اختلاف أحوالهم وحاجاتهم للدعوة :
تختلف أحوال المدعوين من حيث قربهم أو بعدهم من الحق ، ومن حيث درجة الخلل الحاصل في عقائدهم ، أو عباداتهم ، أو فهمهم للدين .
وعلى الداعية إلى الله أن ينظر إلى حال المدعوين ، وما هم في حاجة إليه من بلاغ ، فيجعل أسلوب الخطاب ، ومضمون الخطاب في بلاغه ، موافقاً لحالهم ، وطبقتهم .(1/202)
فالمبلغ عن الله ورسوله كالطبيب الذي يصف الدواء المناسب لكل داء . وما أنزل الله من داء إلاّ وله دواء . وكلما كان الطبيب حاذقاً في تشخيص العلة ، ووصف الدواء ، كان الدواء أنفع وأنجع بإذن الله . وكذا الداعية ، فهو ينظر إلى أحوال المدعوين ، ويبلغهم ما يحتاجونه من أمور دينهم :
أ - فمنهم من يحتاج إلى الحجج الدامغة والبراهين القاطعة ، المثبتة لوجود الله وسلطانه على خلقه ، كما هو الحال مع الدهريين والشيوعيين ، وسائر الماديين الملحدين وكل من آمن بإله غير الله ولم يؤمن بالله تعالى ، وهذا يكون بلفت أنظارهم وعقولهم إلى الآيات الكونية ، ودفع معتقداتهم الفاسدة بالحجج العقلية الثابتة .
قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ في رِبّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ الله يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[البقرة:258] .
وقال تعالى عن فرعون : {قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَى كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى . قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَى . قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي في كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى . الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّى}[طه:49ـ53] .(1/203)
وقال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ أَمّن يَمْلِكُ السّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَمَن يُدَبّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ}[يونس:31] .
ب - ومنهم من يحتاج إلى دعوته بأن يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وهم سائر المشركين الذين يعتقدون أن مع الله آلهة أخرى ، أو الذين يشركون معه غيره من خلقه في العبادة ، ويقولون : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى الله زُلْفَى}[الزمر:3] .
فهؤلاء يُدعَون إلى توحيد الألوهية لله سبحانه وتعالى ، في العبادة كالخضوع والسجود والدعاء ، والاستغاثة ، والذبح والنذر ، وما إلى ذلك من صنوف العبادة ، وألوان التقرب . قال الله تعالى : {يُولِجُ الْلّيْلَ في النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ في الْلّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى ذَلِكُمُ الله رَبّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ . إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:13،14] .(1/204)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لحصين والد عمران : (( يا حصين ، كم تعبد من إله؟ )) ، قال : سبعاً في الأرض وواحداً في السماء ، قال : (( فإذا أصابك الضر من تدعو؟ )) ، قال : الذي في السماء ، قال : (( فإذا هلك المال من تدعو؟ )) ، قال : الذي في السماء ، قال : (( فيستجيب لك وحده ، وتشركهم معه؟ أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟ )) ... فلم يقم حتى أسلم ...الحديث(1) . وأتاه رجل فقال : أنت رسول الله؟ أو قال : أنت محمد؟ ، فقال : (( نعم )) ، قال : ما تدعو؟ ، قال : (( أدعو الله عزوجل وحده ، من إذا كان لك ضر فدعوته كشفه عنك ، ومن إذا أصابك عام فدعوته أنبت لك ، ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك )) ، فأسلم الرجل ))(2) .
ج - ومنهم من يحتاج أن يدعى إلى تحقيق (شهادة أن محمداً رسول الله) ، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به دون زيادة أو نقصان . وهذا يكون مع أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة .
قال تعالى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى:21] .
وقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ الله فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}[آل عمران:31] .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ )) [متفق عليه] . وفي رواية لمسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
__________
(1) ابن حجر – الإصابة في تمييز الصحابة – 1/336 .
(2) الهيثمي – مجمع الزوائد – 8/72 ، وفيه الحكم بن فضيل وثّقه أبوداود وغيره وضعّفه أبوزرعة وغيره .(1/205)
وعن جابر رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش ، يقول : (( صبحكم ومساكم )) ، ويقول : (( بعثت أنا والساعة كهاتين )) ويقرن بين أصبعيه ؛ السبابة والوسطى ، ويقول : (( أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) [رواه مسلم] ، وقال صلى الله عليه وسلم من حديث العرباض بن سارية : (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )) [رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح] .
د - ومنهم من يحتاج إلى إفهامه ، مقاصد الدين العامة ، وما للدنيا وما للآخرة ، وهؤلاء هم عامة الغافلين بطلب الدنيا عن الآخرة ، والمنصرفين إلى شهوات العاجلة عن الآجلة .
قال تعالى : {وَذَكّرْ فَإِنّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ . وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ . مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنّ الله هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:55ـ58] .
وقال تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن نّصِيبٍ}[الشورى:20] .
وقال تعالى : {وَمَا هََذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64] .(1/206)
وقال تعالى : {إَنّ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدّنْيَا وَاطْمَأَنّواْ بها وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُوْلََئِكَ مَأْوَاهُمُ النّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ في جَنّاتِ النّعِيمِ . دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهُمّ وَتَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}[يونس:7ـ10] ، والآيات في هذا الباب كثيرة ، لاتكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من التذكير بأمر الآخرة ، ومآل الناس فيها ، والدعوة إلى عدم الاغترار بالدنيا ، والانشغال بها .
عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها ، فقدم بمال من البحرين ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة ، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف ، فتعرضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : (( أظنكم سمعتم أن أباعبيدة قدم بشيء من البحرين؟ )) ، فقالوا : أجل ، يارسول الله، فقال : (( أبشروا وأمّلوا ما يسركم ، فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم )) [متفق عليه] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء )) [رواه مسلم] .(1/207)
وعن ابن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعن جنبتي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعند رأس الصراط داعٍ يقول : استقيموا على الصراط ولاتعوجّوا ، وفوق ذلك داعٍ يدعو : كلما همّ عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك! لاتفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه )) . ثم فسّره فأخبر : (( أن الصراط هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتحة محارم الله ، وأن الستور المرخاة حدود الله ، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن ، وأن الداعي من فوقه واعظ الله في قلب كل مؤمن ))(1) .
هـ - ومن المدعوين من هو على هدى في اعتقاده ، واجتهاد في عمله ، ولكنه يجهل كثيراً من أحكام دينه ، فيقع عليه الخلل في عباداته ، فيحتاج إلى أن يدعى لتصحيح هذه العبادات ، ومعرفة هذه الأحكام ، فعلى الداعية أن يبين للناس ما يحتاجون من أحكام دينهم ، وينبههم إلى ما يقعون فيه من الخلل والنقص في عباداتهم .
قال تعالى : {لَقَدْ مَنّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مّبِينٍ}[آل عمران:164] .
وقال تعالى : {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[آل عمران:187] .
__________
(1) الخطيب التبريزي ـ مشكاة المصابيح ـ 1/67 برقم191 ، قال : رواه رزين ، ورواه أحمد ، قال الألباني محققه : وكذا الأجري والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا .(1/208)
وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه ، قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم . فلما رأيتهم يصمّتونني ، لكني سكت . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمي ، ما رأيت معلماً قبله ولابعده ، أحسن تعليماً منه . فو الله ما كهرني ولاضربني ، ولاشتمني ، قال : (( إن هذه الصلاة لايصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن )) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، قلت : يارسول الله ، إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالاً يأتون الكهان ، قال : (( فلا تأتهم )) ، قلت : ومنا رجال يتطيرون؟ ، قال : (( ذاك شيء يجدونه في صدورهم ، فلا يصدنّهم )) [رواه مسلم] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في ناحية المسجد ، فصلى ، ثم جاء فسلم عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وعليك السلام ، ارجع فصل ، فإنك لم تصل )) ، فرجع فصلى ، ثم جاء ، فسلم ، فقال : (( وعليك السلام ، ارجع فصل ، فإنك لم تصل )) ، فقال في الثالثة ـ أو في التي بعدها ـ : علمني يارسول الله . فقال : (( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، فكبر . ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً )) ـ وفي رواية ـ (( ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها )) [متفق عليه] .(1/209)
وهكذا فإن أحوال المدعوين تختلف بعضها عن بعض ، ومنها غير الذي ذكرنا ، ولكن المقصود : أن الداعية ينظر إلى ما يحتاجه المدعوون من العلم والموعظة ، فيبلغهم ما جاء من عند الله ورسوله في ذلك ، ويجتهد في البيان والإبلاغ ، بأحسن الأساليب وأبينها .
قال الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] .
2- اختلاف مواقفهم تجاه الدعوة والبلاغ :
تختلف مواقف المدعوين ، وتتباين ـ على وجه العموم ـ عند عرض الدعوة إلى الله عليهم ، عرضاً فيه البيان الكامل ، والبلاغ المبين ، وذلك على النحو التالي(1) :
أ - طائفة من الناس تستجيب للدعوة ، وتنضوي تحت لوائها :
وهؤلاءهم المؤمنون المصدقون الذين إذا دعوا إلى الله أجابوا من غير تردّد ولا إبطاء ويدفعهم إلى ذلك أمور ، منها :
__________
(1) هذا بصفة عامة ، وفي أغلب الأحوال ، وإلاّ فإن هناك أحوالاً خاصة ، تخالف هذه القاعدة ، من ذلك ، أن لايستجيب للداعية أحد ممن يدعوهم ، كما في حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عرضت عليّ الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ... الحديث" [متفق عليه] .
ومن ذلك أن تكون الدعوة في فئة من المسلمين ، فيكون منهم المستجيب ، و المتثاقل ، ولايكون فيهم المحاد والمعاند . ولكن ما نذكره أعلاه هو الأغلب الأعم من أحوال الناس .(1/210)
1- عدم القناعة بما عليه أهل الباطل ، وبغض أعمالهم من قبل أن تبلغهم الدّعوة ، ومن ذلك (( أن أبا ذر رضي الله عنه ، كان منكراً لحال الجاهلية ، يأبى عبادة الأصنام ، وينكر على من يشرك بالله ، وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه ، ويبدو أنه كان متأثراً بالأحناف ، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة ))(1) .
وعن أبي نجيح عمرو بن عَبَسه ـ بفتح العين والباء ـ السلمي ، رضي الله عنه ، قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة ، وأنهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً ، فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مستخفياً جرآءٌ عليه قومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة ... الحديث . [رواه مسلم] .
-------------------
2- كونهم من أهل الفطر السليمة ، والأذواق الصحيحة .
قال الله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ الله الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم:30] .
3- كونهم من أهل العقول الراجحة ، والرأي السديد ، الذين وصفهم الله تعالى بأولي الألباب ، وقال تعالى : {وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوَاْ إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشّرْ عِبَادِ . الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلََئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلََئِكَ هُمْ أُوْلُو الألْبَابِ}[الزمر:17،18] .
__________
(1) د. أكرم العمري ـ السيرة النبوية الصحيحة ـ 1/144 .(1/211)
وفي قصة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه دليل على أثر العقل الراجح ، والرأي السديد ، في معرفة الحق وقبوله . أخرج الواقدي عن خالد رضي الله عنه قال : لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضرني رشدي . فقلت : قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فليس في موطن أشهده إلاّ أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء ، وأن محمداً سيظهر . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ، خرجت في خيل من المشركين ، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان . فقمت بإزائه وتعرضت له . فصلى بأصحابه الظهر أمامنا ، فهممنا أن نغير عليهم ، ثم لم يعزم لنا ـ وكانت فيه خيرة ـ فاطلع على مافي أنفسنا من الهم به ، فصلى بأصحابه صلاة العصر ، صلاة الخوف ، فوقع ذلك منا موقعاً ، وقلت : الرجل ممنوع . فاعتزلنا ، وعدل عن سير خيلنا ، وأخذ ذات اليمين . فلما صالح قريشاً بالحديبية ، ودافعته قريش بالرواح ، قلت في نفسي : أي شيء بقي؟ ، أين أذهب؟ ؛ إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمداً ، وأصحابه عنده آمنون . فأخرج إلى هرقل ، فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية ، فأقيم في عجم . أفأقيم في داري بمن بقي؟ ، فأنا في ذلك ، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية ، فغيّبت ولم أشهد دخوله . وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ، فطلبني ، فلم يجدني ، فكتب إليّ كتاباً فإذا فيه :(1/212)
بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد : فإني لم أعجب [إلاّ] من ذهاب رأيك عن الإسلام ، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟! ، وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك ، وقال : (( أين خالد؟ )) ، فقلت : يأتي الله به ، فقال : (( مثله جهل الإسلام؟! ولوكان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين ، كان خيراً له ، ولقدّمناه على غيره )) ، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة .
قال : فلما جاءني كتابه نشطت للخروج ، وزادني رغبة في الإسلام ، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ... )) ، ثم ذكر من أمر خروجه هو وعثمان بن طلحة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم إلى أن وصلوا المدينة ، قال : فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرّ بنا ، فلبست من صالح ثيابي ، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيني أخي ، فقال : أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك ، فسرّ بقدومك ، وهو ينتظركم ، فأسرعنا المشي ، فاطلعت عليه ، فما زال يتبسّم إليّ حتى وقفت عليه ، فسلمت عليه بالنبوة ، فردّ علي السلام بوجه طلق . فقلت : إني أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله ، فقال : (( تعال )) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( الحمد لله الذي هداك . قد كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لايسلمك إلاّ إلى خير ))(1) .
4- اجتباء الله تعالى ، واصطفاؤه لهم :
قال الله تعالى : {الله يَجْتَبِيَ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}[الشورى:13] .
وقال تعالى : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:42] .
وقال تعالى : {ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:32] .
__________
(1) ابن كثير – البداية والنهاية 4/238 .(1/213)
وقال تعالى : {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:4] .
5- التأثر بالناصح المخلص ، والمستشار الأمين :كما في قصة إسلام خالد بن الوليد ـ المذكورة سابقاً ـ ، وقوله عن كتاب أخيه إليه ، ونصيحته له ، قال : فلما جاءني كتابه نشطت للخروج ، وزادني رغبة في الإسلام . وكما في قصة إسلام أبي سفيان رضي الله عنه ، ونصيحة العباس له : قال العباس : ويحك يا أبا سفيان ، أسلم ، واشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يضرب عنقك ، قال : فشهد شهادة الحق وأسلم(1) .
6- ظهور الحق ، وعلو شأنه ، وانخذال الباطل ، ووضوح بطلانه : فإن أهل مكة لما دخلها الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحاً ، وأظهر الله الحق ، وخذل الباطل ، أسلموا جميعهم ، وكذلك في سائر الفتوحات الإسلامية ، لما يرى الناس ظهور الحق ، وعلو شأنه ، يدخلون فيه أفواجاً .
قال الله تعالى : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أَفْوَاجاً . فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا}[سورة النصر] .
ب - طائفة ترفض الدعوة ، وتناصبها العداء :
وهؤلاء هم : (المستكبرون المعاندون) .
وأهل هذه الطائفة غالباً - هم من ذوي الشوكة والخطر في أقوامهم ، وهم :
أ – إما أن يكونوا من ذوي الجاه والسلطان . كفرعون وأبي جهل وأشأم ثمود وأضرابهم ، وما من نبي إلاّ كان الملأ من قومه هم أشد الناس عداوة له(2) .
فنوح عليه السلام : {قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ في ضَلاَلٍ مّبِينٍ}[الأعراف:60] .
وهود عليه السلام : {قَالَ الْمَلأ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ وِإِنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[الأعراف:66] .
__________
(1) المصدر السابق 4/289 .
(2) الملأ : هم ذوو الجاه والسلطان .(1/214)
وصالح عليه السلام : {قَالَ الْمَلأ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنّ صَالِحاً مّرْسَلٌ مّن رّبّهِ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ . قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا بِالّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الأعراف:76] .
ولوط عليه السلام ، تبع ضعفاء قومه كبراءهم فاجتمعوا على عصيانه : {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوهُمْ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ}[الأعراف:82] .
وشعيب عليه السلام : {قَالَ الْمَلأ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَشُعَيْبُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ في مِلّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنّا كَارِهِينَ}[الأعراف:88] .
وموسى عليه السلام : {قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنّ هََذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:109] .
{ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127] .(1/215)
وعيسى عليه السلام مكر به اليهود ، قال ابن كثير : (( حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته اليونان ، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه ، فغضب الملك من هذا ، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور وأن يصلبه ، ويضع الشوك على رأسه ... فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام ... وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع إلى السماء ... فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه ))(1) .
وقال تعالى : {وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلََكِن شُبّهَ لَهُمْ}[النساء:157] .
ورسولنا صلى الله عليه وسلم ، كذبه الملأ من قومه وآذوه ، قال تعالى : {وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هََذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ . أَجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلََهاً وَاحِداً إِنّ هََذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنّ هََذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ . مَا سَمِعْنَا بِهََذَا فِى الْمِلّةِ الآخِرَةِ إِنْ هََذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ}[ص:4ـ7] .
ب - وإما أن يكونوا من ذوي الحسد والطغيان :
فنوح عليه السلام كان من دوافع إيذاء قومه له الحسد .
قال تعالى : {فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هََذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لأنزلَ مَلاَئِكَةً مّا سَمِعْنَا بِهََذَا في آبَآئِنَا الأوّلِينَ}[المؤمنون:24] .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 1/492 .(1/216)
وموسى عليه السلام كان من دوافع تكذيب آل فرعون له الحسد .
قال تعالى : {قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ في الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس:78] .
ورسولنا صلى الله عليه وسلم ، كان من أسباب معاندة المشركين وتكذيبهم له الحسد . أخرج البيهقي عن المغيرة بن شعبة ، قال : إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أني أمشي أنا وأبوجهل بن هشام في بعض أزقة مكة ، إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل : (( يا أبا الحكم ، هلم إلى الله ، وإلى رسوله ، ادعوك إلى الله )) .
فقال أبوجهل : يامحمد ، هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟ ، هل تريد إلاّ أن نشهد أنك قد بلغت؟ ، فنحن نشهد أنك قد بلغت . فو الله لو إني أعلم أن ماتقول حق لاتبعتك .
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عليّ ، فقال : والله إني لأعلم أن مايقول حق ، ولكن يمنعني شيء : أن بني قصيّ قالوا : فينا الحجابة ، فقلنا : نعم ، قالوا : فينا السقاية ، فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا الندوة ، فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا اللواء ، فقلنا : نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا ، حتى إذا تحاكت الركب ، قالوا : منا نبي ، والله لا أفعل(1) .
وقد ذكر الله تعالى عن اليهود حسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وللعرب قاطبة ، على ما آتاهم الله من النبوة والكتاب .
قال تعالى : {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ}[البقرة:109] .
__________
(1) ابن كثير – البداية والنهاية 3/63 .(1/217)
وقال تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً}[النساء:54] .
ج - وإما أن يكونوا أتباعاً مسخّرين للمستكبرين مستجيبين لأمرهم :
قال تعالى : {وَإِذْ يَتَحَآجّونَ في النّارِ فَيَقُولُ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مّغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مّنَ النّارِ}[غافر:47] .
وقال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ . وَقَالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ في أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[سبأ:31ـ33] .
ويدفع هذه الطائفة (المستكبرين والمعاندين) لمواجهة الدعوة أمور ، منها :
1 - الكبر والغرور :
قال تعالى : {إِنّهُمْ كَانُوَاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلََهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ}[الصافات:35] .
وقال تعالى : {أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ}[البقرة:87] .
وقال تعالى : {فَأَمّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ في الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدّ مِنّا قُوّةً}[فصلت:15] .
2 - الحسد والمنافسة :(1/218)
قال تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}[النساء:54] .
وقال تعالى : {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة:109] .
3 - الخوف على ما عندهم من الجاه ، أو المعتقد :
قال تعالى : {قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ في الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس:78] .
ولهم في مواجهة الدعوة ، وصدها ، طرق وأساليب ، منها :
1 - إظهار البغض ، واستعراض القوة :
قال تعالى : {فَأَمّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ في الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدّ مِنّا قُوّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ الله الّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت:15] .
وقال تعالى : {قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127] .
2- الدعاية المضللة :
قال تعالى : {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات:52،53] .(1/219)
لقد مارست قريش هذا النوع من المواجهة والحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته ، ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق من اجتماع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يامعشر قريش ، إنه قد حضر الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل ، وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا أسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولاسجعه . قالوا : فنقول : مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون ، وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولاتخالجه ، ولاوسوسته ، قالوا : فنقول : شاعر ، قال : ماهو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ؛ رجزه ، وهزجه ، وقريضه ، ومقبوضه ، ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول : ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ، ولاعقدهم ، قالو : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ ، قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ـ قال ابن هشام : ويقال لغدق ـ وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنه باطل . وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقولٍ هو سحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لايمرّ بهم أحد إلاّ حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره ... قال ابن إسحاق : فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس ، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها ))(1) .
3- السخرية والاستهزاء :
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/272 .(1/220)
قال الله تعالى : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[يس:30] .
وقال تعالى : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ في الأوّلِينَ . وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نّبِيّ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الزخرف:7] ، ومن استهزائهم برسولنا صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله سبحانه بقوله : {وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهََذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمََنِ هُمْ كَافِرُونَ}[الأنبياء:36] .
4- التحقير والإهانة :
قال الله تعالى : {وَنَادَى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ قَالَ يَقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهََذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيَ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مّنْ هََذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:51،52] .
ومن أسوأ ما فعله أعداء الدين بدعاته المصلحين ، فعل قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم صفوة الخلق وسيد البشر ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة ، وجمع من قريش في مجالسهم ، إذ قال قائل منهم : ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان ، فيعمد إلى فرثها ، ودمها ، وسلاها ، فيجيء به ، ثم يمهله ، حتى إذا سجد ، وضعه بين كتفيه؟ ، فانبعث أشقاهم ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه . وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً ، فضحكوا ، حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك . فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام ـ وهي جويرية ـ فأقبلت تسعى ، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه . وأقبلت عليهم تسبهم ... الحديث [رواه البخاري ومسلم] .
5 - التهديد والوعيد :(1/221)
ومن أساليب الطائفة المعادية للدعوة إلى الله التهديد والوعيد ، قال الله تعالى عن مواجهتهم لنوح عليه السلام : {قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116] .
وعن مواجهتهم للوط عليه السلام : {قَالُواْ لَئِن لّمْ تَنتَهِ يَلُوطُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[الشعراء:167] .
وتلقى إبراهيم عليه السلام التهديد من آزر : {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}[مريم:46] ، وهكذا يواجه سائر الأنبياء والرسل التهديد والوعيد من أقوامهم ، ويواجه ذلك الدعاة من بعدهم .
قال الله تعالى : {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ في مِلّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:13،14] .
6 - الإيذاء بالقتل ، أو الضرب ، أو الحبس ، أو الإخراج :
ففي الإيذاء بالقتل ، قال الله تعالى : {إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[آل عمران:21] .(1/222)
ومن الإيذاء بالضرب : ما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبقية الصحابة رضوان الله عنهم ، عندما قام في المسجد الحرام خطيباً ، وثار المشركون على أبي بكر ، وعلى المسلمين ، فضربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً ، ووطئ أبوبكر ، وضرب ضرباً شديداً ، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة ، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ، ويحرفهما لوجهه ، ونزا على بطن أبي بكر ، حتى ما يعرف وجهه من أنفه ))(1) ، وكذلك بلال رضي الله عنه ، قال ابن إسحاق : (( وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا والله ، لاتزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى ، فيقول ، وهو في ذلك البلاء : أحد أحد ))(2) . وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، (( لما جهر بالقرآن خلف المقام ، فقاموا إليه ، فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ فيها ماشاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثروا في وجهه ، فقالوا : هذا الذي خشيناه عليك ، فقال : ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً ، قالوا : حسبك ، قد أسمعتهم ما يكرهون ))(3) ، ومثلهم بقية الصحابة رضي الله عنهم من المستضعفين كعمار ، وأبيه ، وأمه ، وخباب بن الأرت ، وغيرهم .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/29 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/318 .
(3) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/315 .(1/223)
ومن الإيذاء بالحبس والسجن : ما جاء في القرآن الكريم عن نبي الله يوسف عليه السلام ، قال الله تعالى : {ثُمّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّى حِينٍ}[يوسف:35] ، وقد تعرض كثير من الصحابة رضي الله عنهم للسجن من المشركين ، وقيدوا بالقيود ، ومن أولئك أبوجندل بن سهيل بن عمرو ، قال الذهبي : كان من خيار الصحابة ، وقد أسلم ، وحبسه أبوه ، وقيّده ، فلما كان يوم صلح الحديبية ، هرب يحجل في قيوده ، وأبوه حاضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، لكتاب الصلح ))(1) .
ومن ذلك ما أخرجه ابن سعد عن محمد بن إبراهيم التيمي ، قال : (( لما أسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، أخذه عمه الحكم بن أبي العاص ابن أمية فأوثقه رباطاً ، وقال : أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ ، والله لا أحلّك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين ، فقال عثمان : والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه . فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه ))(2) .
وكذلك (( لما أسلم أبوبكر وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما ، أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية ، فشدهما في حبل واحد ، ولم يمنعهما بنو تيم ، وكان نوفل بن خويلد يدعى (( أسد قريش )) ، فلذلك سمي أبوبكر وطلحة القرينين ))(3) . [أخرجه الحاكم والبيهقي] .
ومن الإيذاء بالإخراج من الديار : ما ذكر الله تعالى من حال أنبيائه ورسله مع أقوامهم : {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ في مِلّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:13،14] .
__________
(1) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ 1/191 .
(2) ابن سعد – الطبقات الكبرى 3/55 .
(3) المصدر السابق 3/215 .(1/224)
ومن ذلك ما ورد في خبر ورقة بن نوفل ، لما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما رأى في غار حراء ، من نزول جبريل عليه السلام ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، أكون حياً ، حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أو مخرجيّ هم؟ )) ، فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلاّ عودي [متفق عليه] .
7 - الحصار والمقاطعة :
لاتدخر طائفة المحادين لله ورسوله من الكفار والمنافقين وسعاً في مقاومة الدعوة إلى الله ، ومحاولة القضاء عليها ، وعلى المؤمنين الداعين إليها بشتى الأساليب والطرق ، ومن ذلك الحصار المادي والمقاطعة ، وقد حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، وجميع بني هاشم في مكة ثلاث سنين ، قال ابن كثير في البداية والنهاية : (( قال موسى بن عقبة عن الزهري : ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين ، كأشد ما يكونون ، حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتدّ عليهم البلاء ، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأى أبوطالب عمل القوم ، جمع بني عبد المطلب ، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله ، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله . فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم . فمنهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيماناً وتصديقاً ، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمعوا على ذلك ، اجتمع المشركون من قريش ، فأجمعوا أمرهم أن لايجالسوهم ، ولايبايعوهم ، ولايدخلوا بيوتهم ، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل . وكتبوا في مكرهم صحيفة ، وعهوداً ، ومواثيق ، [أن] لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ، ولايأخذهم بهم رأفة ، حتى يسلموه للقتل . فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ، واشتد عليهم البلاء والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق ، فلا يتركون لهم طعاماً يقدم مكة ، ولابيعاً ، إلاّ بادروهم إليه فاشتروه ))(1)
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/82 .(1/225)
.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المنافقون في المدينة يتربصون بالمؤمنين الدوائر ، وقد كشف الله أمرهم ، وفضح تدبيرهم ، لما أرادوا حصار المؤمنين ، ومقاطعتهم ، قال الله تعالى : {هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتّى يَنفَضّواْ وَلِلّهِ خَزَآئِنُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلََكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ}[المنافقون:7] ، وهكذا تتوافق تدابير الكفر وأهله في عدائهم للمؤمنين مع اختلاف الزمان والمكان ، حتى لكأنهم يرمون عن قوس واحدة ، وهذه سنة الله في ابتلاء المؤمنين ، وإقامة الحجة على أعدائه من الكافرين والمنافقين .
8 - تأليب الآخرين ، واستعداؤهم على المؤمنين :
قال الله تعالى : {فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمّ أَتَى . قَالَ لَهُمْ مّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى . فَتَنَازَعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى . قَالُوْا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيْدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مَنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى . فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[طه:60ـ64] .(1/226)
كان السبب في اجتماع الأحزاب من قريش وغطفان ، في عشرة آلاف ، لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، في غزوة الخندق ، في شوال سنة خمس للهجرة : أن نفراً من اليهود ، منهم : سلام بن أبي الحقيق النضري ، وحيي بن أخطب النضري ، وكنانة بن أبي الحقيق النضري ، وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبوعمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزَّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله ، فقالت قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه؟ ، قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه . فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلا . أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ الله وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}[النساء:51،52] ، قال : فلما قالوا ذلك لقريش ، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه ، من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له ، ثم خرج أولئك النفر من يهود ، حتى جاءوا غطفان ، من قيس عيلان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا معهم فيه(1) .
ج - طائفة ثالثة لاتقاوم الدعوة ولاتستجيب لها :
من طوائف المدعوين التي تظهر وتتميز تجاه البلاغ المبين ، طائفة من الناس لا تقاوم الدعوة ، ولا تسرع في الاستجابة لها .
وهؤلاء هم عامة الناس .
ويدفعهم إلى هذا الموقف أمور ، منها :
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 3/214 .(1/227)
1- أن منهم من يتريث ليستجلي الأمر ، ويسعى فيه إلى التثبت : فحين سأل الحواريون عيسى بن مريم أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، قال الله تعالى : {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ}[المائدة:113] .
ولما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته على بني شيبان بن ثعلبة بمنى ـ وكان يعرض دعوته صلى الله عليه وسلم ونصرته على القبائل ـ ، قال له هانيء بن قبيصة ، وكان من أشياخهم : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، وصدقت قولك ، وإني أرى أنّ تركنا ديننا ، واتباعنا إياك على دينك ، لمجلس جلسته إلينا ، ليس له أول ولا آخر ، لم نتفكر في أمرك ، وننظر في عاقبة ما تدعونا إليه ، زلة في الرأي ، وطيشة في العقل ، وقلة نظر في العاقبة ، وإنما تكون الزلّة مع العجلة ، وإن من ورائنا قوماً نكره أن نعقد عليهم عقداً . ولكن ترجع ونرجع ، وتنظر وننظر ))(1) .
2- ومن هذه الطائفة من يتهيب مخالفة الناس ، وإن كان موافقاً للحق في نفسه ، ومن ذلك حال أبي طالب ، لما عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قول : (( لا إله إلاّ الله )) قبل موته ، قال ابن إسحاق : فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال : يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها ))(2) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/142 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/418 .(1/228)
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : لما حضرت وفاة أبي طالب ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( يا عماه ، قل : لا إله إلاّ الله ، أشهد لك بها يوم القيامة )) ، فقال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : ما حمله عليه إلاّ فزع الموت لأقررت بها عينك ، ولا أقولها إلاّ لأقر بها عينك ، فأنزل الله عزوجل : {إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1) [القصص:56] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه الشريفة على القبائل بالموسم ، فمر على منازل عبس بمنى ، وكان معهم ميسرة بن مسروق العبسي ، فقال لقومه : أحلف بالله لو قد صدّقنا هذا الرجل ، وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا ، لكان الرأي ، فأحلف بالله ليظهرن أمره ، حتى يبلغ كل مبلغ . فقال القوم : دعنا منك ، لاتعرضنا لما لاقبل لنا به . وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميسرة ، فكلمه ، فقال ميسرة : ما أحسن كلامك وأنوره ، ولكن قومي يخالفونني ، وإنما الرجل بقومه ، فإن لم يعضدوه فالعدى أبعد ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج القوم صادرين إلى أهليهم ... فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً ، وحج حجة الوداع ، لقاه ميسرة فعرفه . فقال : يا رسول الله ، والله ما زلت حريصاً على اتباعك من يوم أنخت بنا ، حتى كان ما كان ، وأبى الله إلاّ ما ترى من إسلامي ، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي ، فأين مدخلهم ، يا رسول الله؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار )) ، فقال : الحمد لله الذي أنقذني . فأسلم وحسن إسلامه . وكان له عند أبي بكر مكان ))(2) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/122 .
(2) المصدر السابق 3/144 .(1/229)
3- ومن هذه الطائفة من يشق عليه مفارقة هواه وشهوته ، فيخضع لهواه ولا يستجيب لداعي الله ، فيكون من الخاسرين . ولربما كتبت له السعادة ، فيتغلب على نفسه ، ويفارق هواه ، فيكون من التائبين .
قال الله تعالى في هؤلاء وأمثالهم : {فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله إِنّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[القصص:50] .
وقال تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلََهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}[الفرقان:43] .
وهوى النفس يشتمل على شهواتها النفسانية كالعجب ، والكبر ، وحب الظهور ، وحب الرئاسة ، والأنانية ، ونحوها . كما يشتمل على شهواتها المادية كالزنا ، وشرب الخمر ، وأخذ أموال الناس بالباطل ونحوها . وصاحب التعلق بالشهوات المادية أرجى للتوبة ، من صاحب التعلق بالشهوات النفسانية . والأمر كله بيد الله تعالى : {فَيُضِلّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4] .
ومن الانصراف عن الحق إلى هوى النفس وشهواتها ، ما رواه ابن هشام في سيرته قال : حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي ، وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم : أن أعشى بني قيس بن ثعلبة .. خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد الإسلام ، فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
وماذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا
- - - - - - - - - - - - ... - - - - - - - - - - - -
ألا أيهذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعداً
فإن تسألي عني فيارب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
- - - - - - - - - - - - ... - - - - - - - - - - - -
وآليت لا آوى لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقي محمدا(1/230)
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله ندى
نبياً يرى ما لاترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
- - - - - - - - - - - - ... - - - - - - - - - - - -
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حيث أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا
فلما كان بمكة أو قريباً منها [والأصح بالمدينة أو قريباً منها] ، اعترضه بعض المشركين من قريش ، فسأله عن أمره ، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا أبا بصير ، إنه يحرم الزنا ، فقال الأعشى : والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب ، فقال له : يا أبا بصير ، فإنه يحرم الخمر ، فقال الأعشى : أما هذه فو الله إن في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرف ، فأتروى منها عامي هذا ، ثم آتيه فأسلم ، فانصرف فمات في عامه ذلك ، ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(1) .
4- ومنهم من يعظم أشخاصاً من المخالفين ، ويتعلق قلبه بذواتهم ، فيتبعهم في مخالفتهم للحق حباً لهم ، وتعظيماً لشأنهم ، قال الله تعالى : {وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ الله وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ}[البقرة:165] .
وقال تعالى : {وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ . كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السّعِيرِ}[الحج:3،4] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/386 .(1/231)
ولقد حذر الله تعالى المؤمنين من الوقوع في هذا التعظيم ، والحب لأعداء الله ، والصادين عن سبيله ، فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُوَاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ اسْتَحَبّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ . قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُواْ حَتّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:23،24] .
وأخبر الله سبحانه وتعالى عن عاقبة هذا المحابي ، المتابع لمن أحب ووالى من أعداء الله ، فقال تعالى : {وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً . يَوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً . لّقَدْ أَضَلّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}[الفرقان:27ـ29] ، جاء في سبب نزول هذه الآيات ، ما رواه الواحدي عن الشعبي ، قال : (( وكان عقبة [بن أبي معيطٍ] خليلاً لأمية بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمداً . وكفر ، وارتد ، لرضا أمية ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية ))(1) .
__________
(1) الواحدي ـ أسباب النزول ـ ص347 .(1/232)
وذكر السهيلي في الروض الأنف عن أبي بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط قال : (( وكانا متصافيين ، حسناً ما بينهما . فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمع منه ، فبلغ ذلك أبياً ، فأتى عقبة ، فقال : ألم يبلغني أنك جالست محمداً ، وسمعت منه؟ ، ثم قال : وجهي من وجهك حرام أن أكلمك ـ واستغلظ من اليمين ـ إن أنت جلست إليه ، أو سمعت منه ، أو لم تأته ، فتتفل في وجهه ، ففعل من ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله ، فأنزل الله تعالى فيهما ، [وذكر الآيات] ))(1) .
مواقف هذه الطائفة من الدعوة والدعاة :
1- تجنب ملاقاة الدعاة ، والفرار منهم : قال الله تعالى في وصفهم : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ . فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ}[المدثر:49ـ51] .
وكان المشركون يتواصون ، بعدم الجلوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم سماع القرآن .
قال الله تعالى : {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت:26] ، قال ابن إسحاق : (( فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، وجعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، وهو يصلي ، يتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلوا من القرآن ، وهو يصلي ، استرق السمع دونهم ، فرقاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، فظن الذي يستمع أنهم لايستمعون شيئاً من قراءته ، وسمع هو شيئاً دونهم ، أصاخ له يستمع منه ))(2) .
2- التقلب في المواقف ، والتردد بين المعاداة والملاطفة :
__________
(1) السهيلي ـ الروض الأنف ـ 3/293 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/314 .(1/233)
قال الله تعالى : {وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج:11] .
وقال تعالى : {إِنّ الّذِينَ ارْتَدّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لِلّذِينَ كَرِهُواْ مَا نزلَ الله سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمْرِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}[محمد:25،26] .
وقال تعالى : {وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلََئِكَ الّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ}[محمد:16] .
فيكون أحدهم أو الجماعة منهم مع الداعية إلى الله يستمع لما يقول ، ويسلم بما يسمع ، حتى يظن الداعية أن القوم قد فقهوا عنه ، واستجابوا لموعظته ، وما أن ينعق ناعق بكلمة فيها ذم للداعية ، أو لدعوته ، أو ترغيب في الدنيا ، ولهوها ، أو تخويف لهم من الدين وتكاليفه ، وما قد يتعرض له المؤمنون من الأذى ، إلاّ وجدتهم قد انفضوا عما كانوا عليه من التفاف حول الداعي إلى الله ، وتفرقوا عنه وراء هذا الناعق ، أو غيره من الدعاة إلى الدنيا وإلى لهو الحديث . روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (( الناس ثلاث : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، والباقي همج رعاع أتباع كل ناعق(1) . وروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه ، قال : (( وسائر الناس همج لاخير فيهم ))(2) .
__________
(1) ابن عبد البر ـ جامع بيان العلم وفضله ـ رقم 149 .
(2) المصدر السابق برقم 134 .(1/234)
3- ومنهم من يظل على فتوره زمناً ، ولاتكون له عزيمة على قبول الحق ، والقيام به ، ثم يتداركه الله بلطف من عنده ، فيحيى قلبه ، وينير بصيرته ، ويصحح إيمانه ، فإذا به يستجمع عزيمته على الرشد ، ويستنهض همته إلى الهدى ، فيقوم في الدين قومة ، يعز الله بها دينه ، ويعلي بها كلمته ، فيلحق ، ويسبق ، ويبلغ مالا يبلغه غيره ، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : {إِنّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ}[النحل:90] ، قال عثمان [ابن مظعون] : (( ما أسلمت ابتداءً إلاّ حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي ))(1) .
وكان عمرو بن ثابت بن وقش [الملقب بالأصيرم] شاكاً في الإسلام ، فكان قومه [من الأنصار] يكلمونه في الإسلام ، فيقول : لو أعلم ما تقولون حقاً ما تأخرت عنه! حتى إذا كان يوم أحد بداله الإسلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد . فأسلم وأخذ سيفه ، فخرج حتى دخل في القوم ، فقاتل حتى أثبت ، فوجد في القتلى جريحاً ميتاً . فدنوا منه وهو بآخر رمق ، فقالوا : ما جاء بك يا عمرو؟ ، قال : الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، ثم أخذت سيفي وحضرت ، فرزقني الله الشهادة ، ومات في أيديهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنه لمن أهل الجنة )) ، قالوا : قال الواقدي : فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد ، قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول ـ والناس حوله ـ : أخبروني برجل يدخل الجنة ، ولم يصل لله سجدة قط! ، فيسكت الناس ، فيقول أبوهريرة : هو أخو بني عبد الأشهل ، عمرو بن ثابت بن وقش .
__________
(1) الإمام القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ 10/165 .(1/235)
قالوا : وكان مخيريق اليهودي من أحبار اليهود ، فقال يوم السبت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ـ : يا معشر اليهود ، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي ، وأن نصره عليكم لحق . قالوا : إن اليوم يوم السبت ، قال : لاسبت ، ثم أخذ سلاحه ، ثم حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأصابه القتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مخيريق خير يهود )) ، وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد ، قال : إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله . فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلم ))(1) .
ثالثاً : مواقف الدعاة بحسب حال المدعوين :
أ- مواقف الدعاة إلى الله من المستجيبين للدعوة المصدقين بها :
1- إظهار الفرح والبشر باستجابتهم ، وإظهار حبهم ، وموالاتهم .
قال ابن إسحاق في حديث إسلام عمر رضي الله عنه : (( فقال عمر : يارسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله ، وبما جاء من عند الله ، قال : فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم ))(2) .
__________
(1) الواقدي ـ كتاب المغازي ـ 1/262 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/146 .(1/236)
وحدّث عمرو بن العاص رضي الله عنه عن إسلامه هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فقال : (( وأنخنا بالحرة ، فلبسنا من صالح ثيابنا ، ، ثم نودي بالعصر ، فانطلقنا حتى طلعنا عليه [أي : على رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، وإن لوجهه تهللاً ، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا ... قال : فو الله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا ، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة ، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة ))(1) ، وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه في إسلامه : فأنخنا بظهر الحرة ركابنا ، فأخبربنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرّ بنا ، فلبست من صالح ثيابي ، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيني أخي : فقال : أسرع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أخبر بك ، فسرّ بقدومك ، وهو ينتظركم . فأسرعت المشي ، فاطلعت عليه ، فما زال يتبسم إليّ حتى وقفت عليه ، فسلمت عليه بالنبوة ، فرد علي السلام بوجه طلق ، فقلت إني أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنك رسول الله ، فقال : (( تعال )) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الحمد لله الذي هداك ، قد كنت أرى لك عقلاً ، ورجوت ألا يسلمك إلاّ إلى خير ))(2) .
وقال جرير بن عبد الله البجلي ، يذكر إسلامه : (( لما دنوت من المدينة ، أنخت راحلتي ، وحللت عيبتي ، ولبست حلتي ، ثم دخلت المسجد ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب . فرماني الناس بالحدق . فقلت لجليسي : يا عبد الله ، هل ذكر رسول الله من أمري شيئاً؟ ، قال : نعم ، ذكرك بأحسن الذكر . بينما هو يخطب ، إذ عرض له في خطبته ، فقال : (( إنه سيدخل عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن ، ألا وإن على وجهه مسحة ملك )) ، قال : فحمدت الله ))(3) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 4/238 .
(2) المصدر السابق4/240 .
(3) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ 2/531 .(1/237)
وعن عدي بن حاتم قال : لما دخل ـ يعني جريراً ـ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ألقى له وسادة ، فجلس على الأرض . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أشهد أنك لاتبغي علواً في الأرض ولافساداً )) ، فأسلم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا أتاكم كريم قوم ، فأكرموه )) . وعن قيس قال : سمعت جرير بن عبد الله يقول : ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تبسّم في وجهي ، وقال : (( يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن ، على وجهه مسحة ملك ))(1) .
2 - العناية بهم والاهتمام بتعليمهم وتربيتهم :
قال الله تعالى : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}[الجمعة:2] .
وعن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه ، قال : (( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكيء على برد له أحمر ، فقلت له : يارسول الله ، إني جئت أطلب العلم ، فقال : (( مرحباً بطالب العلم ، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب ))(2) .
3- تخولهم بالمواعظ ، لترقيق القلوب ، وتمكين الإيمان ، وشحذ الهمم .
قال الله تعالى : {هََذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتّقِينَ}[آل عمران:138] .
وقال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النحل:125] .
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتا . وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لّدُنّآ أَجْراً عَظِيما . وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً}[النساء:66ـ68] .
__________
(1) المصدر السابق .
(2) الألباني ـ صحيح الترغيب والترهيب ـ ص106 برقم 68 ، وحسّنه .(1/238)
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : (( كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكّرنا في كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، لوددت أنك ذكّرتنا كل يوم ، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُملِّكم ، وإني أتخولكم بالموعظة ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا )) . [متفق عليه] .
وعن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه ، قال : (( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، وصعد المنبر ، فخطبنا حتى حضرت الظهر ، فنزل ، فصلى ، ثم صعد المنبر حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس ، فأخبرنا ما كان وما هو كائن ، فأعلمنا أحفظنا )) . [رواه مسلم] .
4- اتخاذ زمانٍ ومكانٍ للقاء بعضهم ببعض ، واجتماعهم ، للتفقه في الدين ، والتشاور ، والتواصي بالحق ، والتعاون على البر والتقوى .
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم وهم في مكة ، في أول الإسلام يلتقون بالرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام ، ثم لما اشتد أذى قريش عليهم ، انتقل مكان لقياهم واجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم بن الأرقم ، ثم لما أسلم أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب ، والفاروق عمر بن الخطاب ، خرج المسلمون إلى المسجد الحرام ، يصلون ويلتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وقد أعزهم الله بإسلام حمزة وعمر .(1/239)
ثم لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كان أول ماصنع أن بنى المسجد وآخى بين المهاجرين والأنصار . فأصبح المسجد النبوي محور المجتمع في المدينة النبوية ، وأصبحت الأخوة في الله رابطة القلوب ، وجامعة الشمل ، وتكونت الجماعة الإسلامية الأولى على هذين الأساسين العظيمين ، لقاء القلوب والأرواح على الأخوة في الله ، ولقاء الأجسام والأشباح في بيت من بيوت الله ، فكان لقاءً لله وفي الله وبالله ، فباركه الله تعالى ، واثنى على أهله في الذكر الحكيم ، فقال تعالى : {في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ . رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور:36ـ38] .
ب - مواقف الدعاة إلى الله من المحادين لله ورسوله ، المعاندين للدعوة :
1- البراء منهم ، ومن أعمالهم :
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ}[الممتحنة:1] .
وقال تعالى : {لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] .
وقال تعالى : {قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[سورة الكافرون] .(1/240)
روى ابن كثير في تفسيره : (( أن سعد بن مالك قال : أنزلت في هذه الآية : {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا}الآية [لقمان:15] ، قال : كنت رجلاً براً بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت ، لتدعنّ دينك هذا أولا آكل ولا أشرب حتى أموت ، فتعير بي ، فيقال : يا قاتل أمه ، فقلت : لاتفعلي يا أمه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء ، فمكثت يوماً وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت . فمكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت . فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحت قد اشتد جهدها . فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه تعلمين ، والله لوكانت لك مائة نفس ، فخرجت نفساً نفساً ، ما تركت هذا لشيء ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت لا تأكلي ، فأكلت ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 3/381 .(1/241)
وروى الحاكم في مستدركه من طريق الواقدي في إسلام خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه ، قال : (( وأرسل أبوه في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ، ورافعاً مولاه ، فوجدوه . فأتوا به أباه ـ أبا أحيحة ـ فأنّبه ، وبكّته ، وضربه بمقرعة في يده ، حتى كسرها على رأسه ، ثم قال : اتبعت محمداً ، وأنت ترى خلافه قومه ، وما جاء به من عيب آلهتهم ، وعيبه من مضى من آبائهم؟ ، فقال خالد : قد صدق والله ، واتبعته ، فغضب أبوه ـ أبو أحيحة ـ ونال منه وشتمه ، ثم قال : اذهب يالكع حيث شئت ، والله لأمنعنك القوت . قال خالد : فإن منعتني فإن الله عزوجل يرزقني ما أعيش به ، فأخرجه ، وقال لبنيه : لايكلمه أحد منكم إلاّ صنعت به ما صنعت به . فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يلزمه ويكون معه )) . وذكره في الاستعياب من طريق الواقدي وزاد : (( وتغيب عن أبيه في نواحي مكة ، حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ، فكان خالد أول من هاجر إليها )) ، وأخرج الحاكم أيضاً عن خالد بن سعيد ، أن سعيد بن العاص بن أمية مرض ، فقال : (( لئن رفعني الله من مرضي هذا ، لايعبد إله ابن أبي كبشة ببطن مكة أبداً )) ، فقال خالد بن سعيد عند ذلك : اللهم لاترفعه ، فتوفى في مرضه ذلك ))(1) .
ولما أسلم حصين والد عمران قام إليه عمران فقبّل رأسه ويديه ، ورجليه ، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى ، وقال : (( بكيت من صنيع عمران ، دخل حصين وهو كافر ، فلم يقم إليه عمران ، ولم يلتفت نا حيته ، فلما أسلم قضى حقه ، فدخلني من ذلك الرقّة ))(2) .
__________
(1) ابن سعد ـ الطبقات الكبرى ـ 4/95 .
(2) ابن حجر ـ الإصابة في تمييز الصحابة 1/337 .(1/242)
وكان الطفيل بن عمرو الدوسي قد فهم هذا المعنى ، وهو البراءة من المشركين ، وأعداء الدين جميعهم ، حتى يسلموا ، منذ أول إسلامه ، قال ابن إسحاق في إسلام الطفيل ، قال : (( فلما نزلت أتاني أبي ، وكان شيخاً كبيراً ، قال : فقلت : إليك عني يا أبت ، فلست منك ولست مني ، قال : ولم يا بني؟ ، قال : قلت : أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : أي بنيّ ، فديني دينك ، قال : فقلت : فاذهب ، فاغتسل ، وطهر ثيابك ، ثم تعال ، حتى أعلمك ما علمت . قال : فذهب ، فاغتسل ، وطهر ثيابه . قال : ثم جاء ، فعرضت عليه الإسلام ، فأسلم . قال : ثم أتتني صاحبتي ، فقلت : إليك عني ، فلست منك ولست مني ، قالت : لم؟ ، بأبي أنت وأمي ، قال : قلت : قد فرق بيني وبينك الإسلام ، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم ، قالت : فديني دينك ، قال : قلت : فاذهبي إلى حنا ذى الشّرى ـ قال ابن هشام : ويقال : حمى ذي الشرى ـ فتطهري منه ... فذهبت ، فاغتسلت ، ثم جاءت ، فعرضت عليها الإسلام ، فأسلمت ))(1) .
2- الصبر على أذاهم :
قال الله تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ}[النحل:127] .
وقال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ الله حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}[الروم:60] .
وقال تعالى : {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[الأنعام:34] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/384 .(1/243)
ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر على الأذى ، وهو يدعو قومه وسائر الناس إلى الله تعالى ، أروع الأمثال ، وأعلى مراتب الصبر والتحمل في سبيل الله . قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلاّ ما يواري إبط بلال )) . قال الترمذي : حسن صحيح(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/45 .(1/244)
وأخرج البخاري عن عروة بن الزبير : (( سألت ابن العاص ، فقلت : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله؟ قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة ، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط ، فوضع ثوبه على عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبوبكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ ...}[غافر:28] ، وقد روى البيهقي عن محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة ، قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : (( ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما كانت تظهره من عداوته؟ ، فقال : لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط . سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، وصرنا منه على أمر عظيم ـ أو كما قال ـ ، قال : فبينما هم في ذلك ، طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي ، حتى استلم الركن . ثم مر بهم طائفاً بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفتها في وجهه ، فمضى ، فمر بهم الثالثة ، فغمزوه بمثلها ، فقال : (( أتسمعون يا معشر قريش؟ ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح )) ، فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم من رجل إلاّ وكأنما على رأسه طائر وقع ، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه ، حتى إنه ليقول : انصرف أبا القاسم راشداً فما كنت بجهول . فانصرف رسول اله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد ، اجتمعوا في الحجر وأنا معهم ، فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه ، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه .(1/245)
فبينما هم على ذلك ، طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، فأحاطوا به ، يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا؟ ، لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نعم أنا الذي أقول ذلك )) ، ولقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه . وقام أبوبكر ينكي دونه ، ويقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، ثم انصرفوا عنه . فإن ذلك لأكبر ما رأيت قريشاً بلغت منه قط ))(1) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : (( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت ، وأبوجهل وأصحاب له جلوس ، وقد نحرت جزور بالأمس ، فقال أبوجهل : أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان ، فيأخذه ، فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ ، فانبعث أشقى القوم ، فأخذه ، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وضعه بين كتفيه . قال : فاستضحكوا ، وجعل بعضهم يميل على بعض ، وأنا قائم انظر ، لوكان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه . حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة ، فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه . ثم أقبلت عليهم تشتمهم ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ، رفع صوته ، ثم دعا عليهم ، وكان إذا دعا ، دعا ثلاثاً ، وإذا سأل سأل ثلاثاً ، ثم قال : (( اللهم عليك بقريش )) ثلاث مرات ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك ، وخافوا دعوته ، ثم قال : (( اللهم عليك بأبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ... )) ، وذكر السابع فلم أحفظه . فو الذي بعث محمداً بالحق ، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر )) [رواه مسلم] .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/44 .(1/246)
وأخرج أبونعيم في دلائل النبوة ، عن عروة بن الزبير قال : ومات أبوطالب ، وازداد من البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة ، فعمد إلى ثقيف يرجو أن يقروه وينصروه ، فوجد ثلاثة نفر منهم ، سادة ثقيف ، وهم إخوة ؛ عبد يا ليل ابن عمرو ، وحبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه ، وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه . فقال أحدهم : أنا أسرق ثياب الكعبة ، إن كان الله بعثك بشيء قط ، وقال الآخر : والله لا أكلمك ، وقال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك؟ ، وأفشوا ذلك في ثقيف ـ الذي قال لهم ـ ، واجتمعوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقعدوا له صفين على طريقه ، فأخذوا بأيديهم الحجارة ، فجعل لايرفع رجله ، ولايضعها ، إلاّ رضخوها بالحجارة ، وهم في ذلك يستهزئون ويسخرون . فلما خلص من صفّيهم ، وقدماه تسيلان الدماء ، عمد إلى حائط من كرومهم ، فأتى ظل حبلة من الكرم ، فجلس في أصلها مكروباً ، موجعاً ، تسيل قدماه الدماء ، فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلما أبصرهما كره أن يأتيهما ، لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله ، وبه الذي به . فأرسلا إليه غلامهما عداساً بعنب ، وهو نصراني من أهل نينوي . فلما أتاه وضع العنب بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بسم الله )) ، فعجب عداس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أي أرض أنت يا عداس؟ )) ، قال : أنا من أهل نينوي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متى )) ، فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متى ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايحقر أحداً يبلغه رسالات الله تعالى ، قال : يا رسول الله أخبرني خبر يونس بن متى ، فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس بن متى ما أوحي إليه من شأنه ، خرّ ساجداً للرسول(1/247)
صلى الله عليه وسلم ، ثم جعل يقبل قدميه ، وهما تسيلان الدماء . فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما ، سكتا . فلما أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمد ، وقبلت قدميه ، ولم نرك فعلت هذا بأحد منا؟ ، قال : هذا رجل صالح ، حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا ، يدعى يونس بن متى . فأخبرني أنه رسول الله ، فضحكا ، وقالا : لايفتنك عن نصرانيتك ، إنه رجل يخدع ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ))(1) .
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقتدون به في صبره على الأذى ، فيصبرون على أذى المستكبرين المعاندين . قال ابن إسحاق : (( ثم إنهم عدوا على من أسلم ، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ، من استضعفوا منهم ، يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ، ويعصمه الله منهم . وكان بلال ، مولى أبي بكر رضي الله عنهما ، لبعض بني جمح ، مولداً من مولديهم ، وهو بلال بن رباح ، وكان اسم أمه حمامة ، وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة ، فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا والله لاتزال هكذا . حتى تموت ، أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى ، فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد ))(2) .
وعن خباب رضي الله عنه ، قال : (( لقد رأيتني يوماً وقد أوقدوا لي ناراً ، ووضعوها على ظهري ، فما أطفأها إلاّ ودك ظهري ))(3) .
__________
(1) أبونعيم الأصبهاني ـ دلائل النبوة ـ ص295 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/318 .
(3) علي بن برهان الدين الحلبي ـ السيرة الحلبية ـ 1/483 .(1/248)
فالمستكبرون المعاندون ، لايدعون الدعاة إلى الله يبلغون دينه ، ويهدون الناس إليه ، دون أن يتعرضوا لهم بالأذى ، والمكر ، ودون أن يبذلوا في سبيل ذلك كل مالديهم من جهد وقوة. فالسنّة في هذه الحال ؛ إن كان الدعاة في ضعف ، وعدم قدرة على مواجهة هؤلاء ، وإيقافهم عن أذاهم ، أن يصبروا عليهم ، ويتحملوا الشدائد في سبيل دعوتهم ، مع مواصلة المسير في طريق الدعوة ، وإبلاغ دين الله وإرشاد خلقه إليه ، دون أي تردد ، أو تخاذل ، أو توقف عن المسير ، حتى يأذن الله بالنصر والتمكين ، وإظهار الدين ، وخذلان المبطلين .
قال الله تعالى : {وَعَدَ الله الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:55] .
3- الاستمرار في عرض الدعوة عليهم :
قال الله تعالى : {وَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[القصص:87] .
وهكذا ينبغي لمن دعا إلى الله أن لايتأثر بما يلقاه من الأذى والإعراض . بل يظل على دعوته صابراً محتسباً ، حتى يهيء له الله من يستجيب له ومن ينصره .(1/249)
أخرج الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد من بني الديل ـ وكان جاهلياً فأسلم ـ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز ، وهو يقول : (( يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلاّ الله تفلحوا )) ، والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابيء كاذب يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبولهب(1) .
وأخرج الإمام أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز ، يتخللها ، يقول : (( يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلاّ الله تفلحوا )) ، قال : وأبوجهل يحثي عليه التراب ، ويقول : لايغوينكم هذا عن دينكم ، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم ، وتتركوا اللات والعزى ، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم(2) .
ولما جاءت قريش إلى أبي طالب تهدده ، وعرض ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته ))(3) .
قال ابن إسحاق : (( ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ، ويدعو إليه ))(4) ، وقال في موضع آخر : (( فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله تعالى صابراً محتسباً ، مؤدياً إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء ))(5) .
4- السعي لإعلاء كلمة الله ، والظهور على من عاداه:
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/39 .
(2) ابن كثير – البداية والنهاية 3/137 .
(3) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/266 .
(4) المصدر السابق 1/265 .
(5) المصدر السابق 1/408 .(1/250)
فينبغي للدعاة إلى الله أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في سعيه وجهاده لإعلاء كلمة الله في الأرض ، وذلك بالصبر على المعاندين المستكبرين أولاً ، ثم الظهور عليهم ، وإخضاعهم للحق ، عندما تقوى شوكة المؤمنين ، ويؤيدهم الله بنصر من عنده .
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النبي جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة:73] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هََذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ . قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:28،29] .
وقال تعالى : {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام ، وحسابهم على الله )) [متفق عليه] .
ج - مواقف الدعاة إلى الله من المسالمين للدعوة المحجمين عن قبولها:(1/251)
1- الحرص عليهم ، والرفق بهم : ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الخلق ، أشد ما يكون الحرص ، وأبلغ ما يكون الاهتمام ، قال الله تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ}[التوبة:128] .
وقال تعالى : {فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}[الكهف:6] ، أي مهلك نفسك أسفاً عليهم .
وقال تعالى : {فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ}[القصص:50] .
وعن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجلٍ أتى قوماً ، فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعينيّ ، وإني أنا النذير العريان ؛ فالنجاء النجاء . فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا . وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش ، فأهلكم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني ، فاتبع ماجئت به ، ومن عصاني ، وكذب ما جئت به من الحق )) [متفق عليه] .
وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثلي كمثل رجل استوقد ناراً . فلما أضاءت ما حولها ، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ، ويغلبنه ، فيتقحمن فيها . فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقحمّون فيها )) . هذه رواية البخاري ، ولمسلم نحوها ، وقال في آخرها : قال : (( فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار : هلم عن النار ، هلمّ عن النار . فتغلبوني ؛ تقحمون فيها ))(1) .
__________
(1) الخطيب التبريزي ـ مشكاة المصابيح ـ برقم 148،149 .(1/252)
2- عرض الدعوة عليهم دون ملل ، ولايأس : فمهمة الرسل عليهم السلام ، ومن بعدهم الدعاة إلى الله ، هي البلاغ المبين ، قال الله تعالى : {وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[العنكبوت:18] .
وقال تعالى : {فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:35] .
وقال تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاَغُ}[الشورى:48] .
لذا فإن على الدعاة إلى الله ألا يتخلوا عن مهمتهم الأولى ، ووظيفتهم الكبرى ، وهي عرض الدعوة على الناس ، وإبلاغهم بأوامر الله إبلاغاً مبيناً ، في رفق وأناة ، وحرص على هدايتهم ، سواء استجاب لهم الناس أم لم يستجيبوا ، فلعل من لم يستجب اليوم ، يكون غداً في مقدمة الحاملين للواء الدعوة إلى الله ، المجاهدين في سبيله ، وقد كان إسلام حمزة في السنة الثالثة أو الرابعة للبعثة ، وإسلام عمر كذلك ، وإسلام خالد وعمرو قبيل الفتح ، وإسلام عكرمة وسهيل بن عمرو وأبي سفيان وغيرهم بعد الفتح ، فلا يستبطيء الداعية استجابة المدعوين ، ولايتخلى عن مهمته ، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن من أنبياء الله ورسله من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد من قومه ، إذ لم يستجب له أحد . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه : (( عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ... )) الحديث [متفق عليه] .
ولما استبطأ يونس عليه السلام استجابة قومه له ، وشق عليه إعراضهم عن دعوته غضب منهم ، فتركهم ، وركب السفينة ، فابتلاه الله جل وعلا ، بابتلاع الحوت له ، وفي هذا عظة وعبرة لمن بعده من الدعاة ، كي يصبروا ، ولا يتعجلوا نتائج دعوتهم مهما طال بهم الزمان ، وبقومهم الإعراض والصد .(1/253)
ثم إنه سبحانه استجاب بعد ذلك لتضرعه ، فأنقذه من بطن الحوت ، وأرسله إلى قومه مرة أخرى ، وهم مائة ألف أو يزيدون ، وأكرمه ، وأقرّ عينه باستجابتهم له وإيمانهم جميعاً .
قال تعالى : {فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ . لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، وهذه فضيلة اللجأ إلى الله تعالى ، والاستغاثة به وقت الشدة خاصّة لمن كان قبل ذلك من المسبحين الذاكرين الله تعالى في أوقات الرخاء : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ . وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ . وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآمَنُواْ فَمَتّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[الصافات:143ـ148] .
ولقد أمر سبحانه وتعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم بالصبر في الدعوة ، وعدم استبطاء استجابة المدعوين له ، أو اليأس من صلاحهم ، واستجابتهم ، فقال تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ . لّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ . فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ}[القلم:48ـ50] .
فينبغي مواصلة الدعوة ، حتى يأذن الله بالهداية لمن شاء ، ويذل بها من يشاء ، قال تعالى : {إِنّ الّذِينَ يُحَآدّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ في الأذَلّينَ . كَتَبَ الله لأغْلِبَنّ أَنَاْ وَرُسُلِيَ إِنّ الله قَوِيّ عَزِيزٌ}[المجادلة:20،21] .
3- تأليف قلوبهم بالإكرام المادي والمعنوي :
قال الله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ}[آل عمران:159] .(1/254)
وفي قصة إسلام حصين والد عمران رضي الله عنهما ، أن حصيناً لما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يسلم ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أوسعوا للشيخ ... )) فلما أراد حصين أن يخرج ، قال لأصحابه : (( قوموا فشيعوه إلى منزله ))(1) . وعن أبي ذر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : (( كيف ترى جعيلاً؟ )) ، قلت : مسكيناً كشكله من الناس ، قال : (( فكيف ترى فلاناً؟ )) ، قلت : سيداً من سادات الناس ، قال : (( فجعيل خير من مثل هذا ملء الأرض )) ، قلت : يا رسول الله ، ففلان هكذا ، وأنت تصنع به ما تصنع؟ ، قال : (( إنه رأس قومه فأنا أتألفهم ))(2) .
__________
(1) ابن حجر ـ الإصابة في تمييز الصحابة ـ 1/336 .
(2) الكاندهلوي ـ حياة الصحابة ـ 2/442 ، قال : كذا في الكنز 3/320 .(1/255)
ولما قسم الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم بعد حنين ، قال ابن إسحاق : (( وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس ، يتألفهم ويتألف بهم قومهم ، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مئة بعير ، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة ، أخا بني عبد الدار مئة بعير ... وأعطى الحارث بن هشام مئة بعير ، وأعطى سهيل بن عمرو مئة بعير ، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مئة بعير ، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي ـ حليف بني زهرة ـ مئة بعير ، وأعطى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر مئة بعير ، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مئة بعير ، وأعطى مالك بن عوف النصري مئة بعير ، وأعطى صفوان بن أمية مئة بعير ، فهؤلاء أصحاب المئين . وأعطى دون المئة رجالاً من قريش ... قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه : يارسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مئة مئة ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض ، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، ولكني تألفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ))(1) .
4- تخولهم بالمواعظ ، وعرض الدلائل والبراهين العقلية والكونية عليهم :
قال الله تعالى : {أُولََئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ الله مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[النساء:63] .
وقال تعالى : {فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ . لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ}[الغاشية:21،22] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/496 .(1/256)
وقال تعالى : {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى ءَآللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ . أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلََهٌ مّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلََهٌ مّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[النمل:59ـ61] .
وقال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الْلّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ . وَمِن رّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:71ـ73] .
5- الدعاء لهم :(1/257)
قال الله تعالى : {وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة:103] ، أي : ادع لهم . وعن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ ، قال : (( لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت . فانطلقت وأنا مهموم على وجهي . فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة ، قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال ، فسلّم عليّ ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت : إن شئت أطبقت علهيم الأخشبين )) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، ولايشرك به شيئاً )) [متفق عليه] .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحكي نبياً من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، ويقول : (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون )) [متفق عليه] .
- - -
الفصل الثاني
ميدان التزكية والتعليم
المبحث الأول : الحاجة إلى تكوين الوسط الاجتماعي للدعوة .
المبحث الثاني : وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة .
الفصل الثاني
ميدان التزكية والتعليم
قال الله تعالى : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة:2] .(1/258)
إن ميدان التزكية والتعليم هو الميدان الثاني في الدعوة إلى الله ، بعد ميدان البيان والتبليغ وذلك أن الناس ينقسمون عند إبلاغهم البلاغ المبين ، ودعوتهم إلى عبادة رب العالمين ـ كما مرّ معنا في الفصل السابق ـ إلى فئات ثلاث :
فئة تستجيب لدعوة الله ، وترغب في عبادته ، وتعلم دينه .
وفئة تستكبر وتستنكف عن عبادته ، وتعادي الدعاة إليه .
وفئة تتردد ، وتحجم عن قبول الدعوة ، دون إظهار العداوة لها .
فإذا كانت الفئة الثالثة في هذا التقسيم ، وهي فئة المترددين المسالمين هي محل الدعوة ، والفئة الثانية فيه وهي فئة المستكبرين المعاندين هي محل الجهاد ، فإن الفئة الأولى وهي فئة المستجيبين لداعي الله هي محل التربية والتزكية والتعليم . إذ إن هذه الفئة التي تابت وأنابت إلى ربها ، تكون بعد توبتها في أمس الحاجة إلى التربية والتزكية في وسط اجتماعي نقيّ صالح ، تتلقى فيه الرعاية والتوجيه ، والعلم والعمل . وذلك حفاظاً على بذرة إيمانها التي أخذت تنمو وتورق في القلوب التائبة . أو قل ومضة النور التي أخذت تشع في تلك القلوب ، وتشرق على تلك الجوارح ، وتسطع أعمالاً صالحة وأقوالاً زكية .
إن هذه الفئة المؤمنة بحاجة ماسة إلى رعاية ينمو بها إيمانها ويزداد ، وإلى توجيه تستقيم به أعمالها وتثبت ، وإلى تعليم تستنير به بصائرها وتهتدي.(1/259)
والتزكية والتربية أصل أصيل في الدعوة المحمدية ، ينبغي أن يعتني بها الدعاة إلى الله ، ويولونها جلّ نشاطهم ، وغاية اهتمامهم ، لأنها الوسيلة إلى تكوين النواة الأولى ، والقاعدة الصلبة ، للمجتمع الإسلامي المثال . وهي تلك الفئة الصفوة المؤمنة ، الصادقة ، الصابرة ، التي يقوم بها الدين ، ويتحطم على صبرها الظلم والجور من الكافرين ، والكيد والمكر من المنافقين ، وتنتشر بها الهداية ، وينتصر بجهادها الحق ويعلو ، ويظهر الله بها دينه على الدين كله ولو كره المشركون . تلك الفئة المؤمنة التي قال الله تعالى عن سلفها وقدوتها : {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً}[الأحزاب:23] .
وقال عنهم : {مّحَمّدٌ رّسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً}[الفتح:29] .
وقال عنهم : {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ}[الحشر:8] ،
وقد جعلهم قدوة في الإيمان :
فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ}[التوبة:119] ، هذه النواة الأولى ، والقاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي المثال ، إنما تبنى بالتربية ، والرعاية ، والمتابعة .(1/260)
إن التربية والتزكية للفئة المؤمنة ، المستجيبة لداعي الله ، سنة شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم للدعاة ، حين كان في مكة ، يرعى أصحابه ، ويوجههم ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، أوفي المسجد الحرام . ثم بعد هجرته صلى الله عليه وسلم ، حين كان مسجده صلى الله عليه وسلم دوحة علم وإيمان . يتلقى فيه أصحابه رضي الله عنهم دروس الإيمان والعلم ، وتربية الأرواح والضمائر ، ومعاني السمو ، والنزاهة ، والعفة ، والتقوى ، والورع ، واليقين ، والبذل ، والتضحية ، والجهاد .
في تلك الرياض النضرة ، والبيئة الإيمانية المعطرة ، تربى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزكت نفوسهم ، وتلقوا منه صلى الله عليه وسلم الوحي ، وتفقهوا في الدين ، وعملوا بما علموا ، واجتهدوا في نيل مرضاة الله ، وتحصيل ثوابه ، واجتنبوا كل ما يسخطه ويكون سبباً لعذابه . ثم سعوا إلى نشر دينه ، وإعلاء كلمته ، فوق كل أرض وطئوها ، وتحت كل سماء تظللوها .
إن التربية الإيمانية ، والتزكية الشرعية ، هي الخطوة الثانية ـ بعد البلاغ المبين ـ في طريق الدعوة إلى الله ، وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه . فإذا ثبتت الأقدام على الطريق ، ورسخت أصول الإيمان في أصول القلوب ، واستنارت البصائر بنور الوحي القرآني ، وفقه الهدي النبوي . عند ذلك يكون المجتمع المؤمن مؤهلاً لمواجهة الباطل ، وتبديد ظلماته ، وقمع غروره ، وإزالة شروره ، لإظهار دين الله على الدين كله ولوكره الكافرون . ويكون المجتمع المؤمن كذلك مستعداً لتحمل مشقات الدعوة ، وتضحيات الجهاد ، والصبر على أذى الأعداء ، والثبات عند نزول الشدائد ، وحدوث الابتلاء .
وسوف نعرض فيما يلي ـ إن شاء الله ـ إلى مقومات التربية والتزكية الإيمانية ووسائلها ، وذلك في مبحثين :
المبحث الأول : الحاجة إلى تكوين الوسط الاجتماعي للدعوة .(1/261)
المبحث الثاني : وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة .
المبحث الأول : الحاجة إلى تكوين الوسط الاجتماعي للدعوة :
قال تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا}[الكهف:28] .
وقال تعالى : {في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ . رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}[النور:36،37] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:119] .
وقال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10] .
يتبين من الآيات السابقة أهمية تكوين الوسط الاجتماعي للفئة المؤمنة ، وأهمية العناية بالروابط القلبية والاجتماعية بين أفرادها كما يتبين عناية القرآن الكريم بكل ذلك . وهو يصف العلاقة فيما بينهم بالأخوة ، والرحمة ، ويصف اجتماعهم بأنه دائم ومتواصل في أول النهار وآخره (( بالغداة والعشي )) ، وأن المكان الأمثل لهذا اللقاء الأخوي ، والاجتماع الرباني ، هو بيوت الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه .
كما يحث القرآن الكريم على الحفاظ على الوسط المؤمن ، بروابطه الأخوية ، وأجوائه الربانية ، فيأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق ، ويذكرهم بأن بعضهم أولياء بعض وأن لهم أعمالاً ومهمات مشتركة .
قال تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:71] .(1/262)
كما يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه على البقاء معهم ، رعاية لهم في هذا الوسط الاجتماعي ، الذي يتلقون فيه الوحي ، ويتعاونون فيه ويتآزرون ، ويتواصون فيه بالحق ويتواصون بالصبر .
قال تعالى : {وَالْعَصْرِ . إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ . إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ}[سورة العصر] .
ولابد لهذا الوسط المؤمن من مكان ، يلتقي فيه الأحبة في الله ، يعبدون ربهم ، ويتعاونون على البر والتقوى ، كما أنه لابد لهم من روابط أكيدة ، وعلاقات متينة ، تؤلف بين قلوبهم وأرواحهم ، من المحبة والإيثار ، والتواد والتراحم ونحوها . إضافة إلى أعمال مشتركة ، وعبادات يجتمعون عليها ، ويتنافسون على الإحسان فيها . يتوج كل ذلك سمت مشترك ، وصفات موحدة ، وشعار متميز ، وهذا ماكان عليه المجتمع الأول والصفوة المختارة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين ألف الله بين قلوبهم ، وحين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرعاهم ويزرع في قلوبهم الخير والإيمان . وهذا ما سنتناوله فيما يلي إن شاء الله تعالى .
أولاً - المكان :
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه الذين استجابوا لدعوته وصدقوه ، في أول الأمر بالمسجد الحرام . حيث كان يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويجلسون حوله ؛ يستمعون منه القرآن ، ويتلقون منه تعاليم الدين الحنيف ، ويستهدون بهديه ، ويسترشدون بأمره ، حتى غاظ هذا الأمر قريشاً ، وأنفوا من اجتماع المستضعفين حوله صلى الله عليه وسلم ، بين نواديهم ، فاشتدوا عليهم بالأذى ، والسخرية منهم ، فكان ذلك سبباً لانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان أمين ، بعيد عن أذى المشركين وبطشهم ، هو دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي .(1/263)
قال ابن إسحاق : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد ، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه ؛ خبّاب ، وعمار ، وأبوفكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن محرّث ، وصهيب ، وأشباههم من المسلمين ، هزئت بهم قريش ، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون . أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لوكان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه ، وما خصهم الله به دوننا . فأنزل الله فيهم : {وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ }(1) الآيات [الأنعام:52] .
وعن ابن مسعود قال : (( مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب ، وغيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يامحمد ، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ ، أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ . اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فنزلت هذه الآية : {وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إلى آخر الآيات ))(2) [الإنعام:52،53] .
انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الوسط الإيماني ، إلى مكان آمن ، بعيد عن أنظار قريش وأذاهم ، هو دار الأرقم بن أبي الأرقم ، بجوار الصفا . وكان ذلك في السنة الرابعة ، من البعثة الشريفة على الأرجح فكان لقاء المؤمنين متواصلاً بها ، يلتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم الكتاب والحكمة(3) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/392 .
(2) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 2/118 .
(3) صفي الرحمن المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ ص104 .(1/264)
أخذ هذا الوسط الإيماني المبارك يزداد اتساعاً ، بازدياد الأعداد التي كانت تدخل إلى الإسلام من أبناء قريش ورجالهم ونسائهم ، رغم الاضطهاد والسخرية وشدة الأذى .
ولما بلغ عددهم الأربعين أو قريباً منه ، منّ الله على المسلمين بإسلام حمزة بن عبد المطلب ، فقويت شوكتهم بإسلامه ، ثم أسلم عمر بن الخطاب ، فأعز الله به الإسلام والمسلمين . فألحّ عمر ، وألح سائر الصحابة معه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج مرة ثانية إلى المسجد الحرام ، وإظهارشعائر دينهم ، على مرأى ومسمع من قريش ، فخرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جواره حمزة وعمر ومعهم بقية الصحابة إلى المسجد ، فهابتهم قريش ، ولم يستطع أحد أن يمنعهم من المسجد ، أو يتعرض لهم بالأذى . قال ابن إسحاق : (( وأسلم عمر بن الخطاب ، وكان رجلاً ذا شكيمة لايرام ما وراء ظهره ، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحمزة ، حتى عازّوا قريشاً ، وكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة ، حتى أسلم عمر بن الخطاب ، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه ))(1) .
وكان الصحابة رضي الله عنهم ، قبل ذلك لما اشتد عليهم أذى قريش ، يخرجون إلى شعاب مكة ، يستخفون بصلاتهم . قال ابن إسحاق : (( وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ، ذهبوا إلى الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم . فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلاً من المشركين بلحي بعير ، فشجّه ، فكان أول دم هريق في الإسلام ))(2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/342 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/263 .(1/265)
وبعد أن أذن الله تعالى لرسوله الكريم بالهجرة إلى المدينة النبوية ، كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله إليها ، هو تأسيس المسجد ؛ المكان الذي يجتمع فيه المسلمون لعبادتهم ، ويلتقون فيه على أمر دينهم . وكان أول نزوله صلى الله عليه وسلم بقباء ، وبها أسس أول مسجد في الإسلام .
قال ابن إسحاق : (( فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ، في بني عمرو بن عوف ، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجده ، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة ))(1) .
قال ابن كثير : (( وقد ادعى السهيلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسسه في أول يوم قدم إلى قباء ، وحمل على ذلك قوله تعالى : {لمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ} (2) [التوبة:108] .
__________
(1) المصدر السابق 1/494 .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/207 .(1/266)
قال ابن إسحاق : (( حتى إذا أتت [أي ناقته] دار بني مالك بن النجار ، بركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم ، وهو يومئذٍ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ، ثم من بني مالك بن النجار ، وهما في حجر معاذ بن عفراء ؛ سهل وسهيل ابني عمرو . فلما بركت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل ، وثبت ، فسارت غير بعيد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لايثنيها ، ثم التفتت إلى خلفها ، فرجعت إلى مبركها أول مرة ، فبركت فيه . ثم تحلحلت ، وزمّت ، ووضعت جرانها . فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله ، فوضعه في بيته . ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل عن المربد لمن هو؟ ، فقال له معاذ بن عفراء : هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو ، وهما يتيمان لي ، وسأرضيهما منه ، فاتخذه مسجداً . قال : فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني مسجداً ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ، ومساكنه ، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليرغب المسلمين فيه . فعمل المهاجرون والأنصار ، ودأبوا فيه ، فقال قائل من المسلمين :
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وارتجز المسلمون وهم يبنون ، يقولون :
لاعيش إلاّ عيش الآخرة ... اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
قال ابن هشام : هذا كلام وليس برجز .
قال ابن إسحاق : (( فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاعيش إلاّ عيش الآخرة ، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/496 .(1/267)
ويتبين من هذا مدى عناية الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه باجتماع المسلمين ، في مكان لعبادتهم وإقامة وسطهم الإيماني المبارك ، سواء كان ذلك في مكة عندما اجتمع بهم أولاً في المسجد الحرام ، ثم انتقل إلى دار الأرقم ، ثم عاد بهم مرة آخرى إلى المسجد بجوار الكعبة المشرفة ، بعد أن أيّده الله بإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما ، أو كان ذلك بالمدينة لما قام بتأسيسه لمسجد قباء أول وصوله إلى المدينة ، ثم لمسجده الشريف أول ما استقرت به راحلته ، فنزل يسأل عن المربد ، لمن هو حتى اشتراه ، ثم عمل فيه بنفسه حثاً للمؤمنين على بنائه وإعمار المساجد من بعده .
كما يتبين كذلك ـ مما سبق ـ أن الأصل في الوسط الإيماني أن يكون في المسجد ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما اضطر إلى الانتقال بأصحابه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة ، حماية لهذا الوسط الإيماني الأول من أن يتفرق ، أو يتلاشى ، عاد بهم إلى المسجد عند أول بادرة ظهرت فيها قوة للمسلمين ، وهيبة لجنابهم ، وذلك بإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما .
وهذه الدروس النبوية ينبغي أن لاتفوت على من أراد أن يترسم خطاه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى ، وإظهار دينه ، وهداية خلقه .
ثانياً - الروابط الإيمانية في الوسط الاجتماعي للدعوة المحمدية :
لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، كما منّ عليهم أن ألف بين قلوبهم فأصبحوا إخواناً ، بعدما فرقتهم الجاهلية بعصبياتها ، وجهلها ، وفخرها بالأنساب ، وفساد عقائدها ، وتمكن العداواة بين أفرادها وقبائلها . فأصبح المجتمع المؤمن بفضل الله في أحسن نظام ، وأشد التئام ، وأزكى روابط ، وأطيب حياة .(1/268)
قال الله تعالى : {لَقَدْ مَنّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مّبِينٍ}[آل عمران:164] .
وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم : {هُوَ الّذِيَ أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين . وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنّ الله أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:62،63] .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه إلى الإسلام ، وكان في نفس الوقت يرعى أحسن الرعاية من دخل تحت لوائه ، واستجاب لدعوته ، في وسط إيمانيّ تمثّل في مجتمع النواة الأولى للإسلام ، من الصفوة المختارة ، من السابقين الأولين في الإسلام ، فكان هذا المجتمع الإيماني الأول ، أنموذجاً متميزاً للمجتمع المسلم ، ودرعاً حصينة لدعوته ، وأساساً متيناً لبنيانه ، ومنطلقاً عريقاً لحضارته وأمجاده ...
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يغرس في ذلك الوسط الإيماني الأول ، مبادئ الإسلام ، وروابطه المتينة ، وروحه القوي ، وحقائقه الراسخة . وينظم ذلك العقد الغالي ، في نظام من الأخوة والمحبة ، والفداء والتضحية ، والرأفة والرحمة ، والذلة للمؤمنين ، والعزة على الكافرين . فجاء وصف ذلك في كتاب الله تعالى في صورة بليغة رائعة .(1/269)
قال تعالى : {مّحَمّدٌ رّسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ الله الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[الفتح:29] ، هذه الروابط التي حثّ عليها القرآن الكريم ، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على غرسها في نفوس أصحابه ، حتى تمثلت واضحة في حياتهم ، نفصّل الحديث عنها فيما يلي إن شاء الله.
1- التآخي :
قال الله تعالى : {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10] .
وقال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}[آل عمران:103] .
وقال تعالى : {فَمَنْ عُفي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:178] .
وقال تعالى : {فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ في الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب:5] .
وقال تعالى : {وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ}[الحشر:10] .(1/270)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يحث أصحابه ، وسائر أمته ، على التآخي في الله ، والارتباط برباط الأخوة الإيمانية ، لتحل محل روابط العصبية ، والمصالح الدنيوية ، ولتوحد بين المؤمنين ، مهما اختلفت الأنساب ، والأجناس ، وتباعدت الديار والأوطان .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( المسلم أخو المسلم ، لايظلمه ، ولايسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة )) [متفق عليه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المسلم أخو المسلم ، لايخونه ، ولايكذبه ، ولايخذله . كل المسلم على السلم حرام عرضه وماله ودمه . التقوى ههنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )) [رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن] .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( المؤمن أخو المؤمن ، فلا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولايخطب على خطبة أخيه ، حتى يذر )) [رواه مسلم] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا لقي أحدكم أخاه ، فليسلم عليه ، فإن حالت بينهما شجرة ، أو جدار ، أو حجر ، ثم لقيه ، فليسلم عليه )) [رواه أبوداود وإسناده صحيح] .
وعن ثوبان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم ، لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع )) ، قيل : يارسول الله : وما خرفة الجنة؟ ، قال : (( جناها )) [رواه مسلم] .(1/271)
ولقد نفّر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحذر من هجر المسلم لأخيه المسلم ، تنفيراً شديداً ، وتحذيراً بالغاً . عن أبي أيوب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ؛ يلتقيان ، فيعرض هذا ، ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) [متفق عليه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لايحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث . فإن مرت به ثلاث ، فليلقه ، فليسلم عليه . فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر ، وإن لم يرد عليه ، فقد باء بالإثم ، وخرج المسلم من الهجرة )) [رواه أبوداود بإسناد حسن] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، فمن هجر فوق ثلاث ، فمات ، دخل النار )) [قال الإمام النووي : رواه أبوداود بإسناد على شرط البخاري ومسلم](1) .
وعن أبي خراش ، حدرد بن أبي حدرد الأسلمي ، ويقال السلمي الصحابي رضي الله عنه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من هجر أخاه سنة ، فهو كسفك دمه )) [رواه أبوداود بإسناد صحيح] .
وهذه الأخوة في الله ، لاتنفصم عراها ، ولاتنفك أواصرها ، حتى الموت ، فالمؤمن يدعو لأخيه ، ويستغفر له . عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه ، وقال : (( استغفروا لأخيكم ، وسلوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل )) اهـ [رواه أبوداود ، وسنده حسن] .
2- التحاب :
__________
(1) الإمام النووي ـ رياض الصالحين ـ ص473 .(1/272)
قال الله تعالى : {وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}[الحشر:9] ، لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، ورغبهم في أن يتحابوا في الله ، حتى يقوم مجتمعهم الطيب الطاهر على صفاء المحبة ، مع نقاوة الإيمان .
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) [متفق عليه]
وعنه رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان )) ثم ذكر منه : (( وأن يحب المرء لايحبه إلاّ لله )) [متفق عليه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلاّ ظله )) ، ثم ذكر منهم : (( ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه )) [متفق عليه] .
وعنه رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لاظل إلاّ ظلي )) [رواه مسلم] .
وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، إلى سبل هذه المحبة ، وأسباب قيامها بينهم ، ورسوخها في قلوبهم ، وأرواحهم . عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده لاتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولاتؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم )) [رواه مسلم] .
وعنه رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً )) ، وذكر الحديث إلى قوله : (( إن الله قد أحبك كما أحببته فيه )) [رواه مسلم] .(1/273)
وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه )) [رواه أبوداود والترمذي ، وقال : حديث حسن] .
وعن أنس رضي الله عنه ، (( أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فمرّ رجل به ، فقال : يارسول الله إني لأحب هذا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( أأعلمته؟ )) قال : لا ، قال : (( أعلمه )) ، فلحقه ، فقال : إني أحبك في الله ، فقال : أحبك الذي أحببتني له )) اهـ . [رواه أبوداود بإسناد صحيح] .
3- الإيثار :
من المعاني العظيمة ، والأخلاق الكريمة ، التي قام عليها المجتمع المؤمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتوجيه منه إلى فضائل الأعمال ، وغرس منه في النفوس لمكارم الأخلاق . ماكان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الإيثار ، الذي بلغوا به في المحبة أعلى المراتب ، وتجاوزوا به حد المساواة بالنفس ، إلى درجة تفضيل إخوانهم ، وتقديمهم على أنفسهم . وقد أثنى الله عليهم بذلك في كتابه الكريم ، فقال : {وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9] .
لقد بلغ الصحابة رضي الله عنهم هذه المرتبة العظيمة من المحبّة والإيثار بفضل ما كان يحثّهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغّبهم فيه من المحبّة والأخوة والإيثار .(1/274)
من ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : (( قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال : (( لا )) . قالو : أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا )) . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار : (( إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم )) ، فقالوا : أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أو غير ذلك؟ )) ، قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ ، قال : (( هم قوم لايعرفون العمل ، فتكفونهم ، وتقاسمونهم الثمر )) ، قالوا : نعم )) . وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا حميد بن أنس ، قال : (( قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قومٍ قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلاً في كثير ، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله . قال : (( لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم )) [رواه الإمام أحمد ، وقال ابن كثير : حديث صحيح](1) .
وعن أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري ، فقال له سعد : أي أخي ، أنا أكثر أهل المدينة مالاً ، فانظر شطر مالي ، فخذه ، وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها . فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك ، دلوني على السوق ))(2) . الحديث [أخرجه أحمد ، والشيخان بنحوه] .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/227 .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/226 .(1/275)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : (( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلاّ ماء ، ثم أرسل إلى أخرى ، فقالت : مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلاّ ماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من يضيف هذا الليلة؟ )) ، فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية : قال لامرأته : هل عندك شيء؟ ، فقالت : لا ، إلاّ قوت صبياني . قال : علليهم بشيء ، وإذا أرادوا العشاء ، فنوميهم . وإذا دخل ضيفنا ، فاطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل . فقعدوا وأكل الضيف ، وباتا طاويين . فلما أصبح ، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة ))[متفق عليه] .
وعن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة ، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية ، فهم مني وأنا منهم ))[متفق عليه] .
4- التعاطف :
قال الله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}[التوبة:71] .
وقال تعالى : {مّحَمّدٌ رّسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح:29] .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ))[متفق عليه] .(1/276)
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس عطفاً على الضعفة ، وذوي الحاجات ، وسائر الناس . وكان يحث أصحابه رضي الله عنهم على ذلك ، ويرغبهم فيه . فكانوا يتسابقون ويتنافسون على البر ، والعطف على الناس . مما جعل هذا الحسّ الإنسانيّ الإيمانيّ ينمو في نفوسهم ، ويظهر جلياً في تعاملهم ، حتى عمّت بسببه الطمأنينة والسكينة والاستقرار أرجاء المجتمع المؤمن بالمدينة النبوية .
عن أبي عمرو ، جرير بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : (( كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار ، أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر . فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج . فأمر بلالاً فأذن ، وأقام ، فصلى ثم خطب ، فقال : {يَا أَيُّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية : {إِنّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . والآية الأخرى التي في آخر الحشر : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ} . تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : (( ولو بشق تمرة )) ، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت . ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء . ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ))[رواه مسلم] .(1/277)
وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف شرف كبيرنا ))[حديث صحيح رواه أبوداود والترمذي ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح] ، وفي رواية أبي داود (( حق كبيرنا )) .
ومن التعاطف الذي أوصى الله تعالى به ورسوله ، وقام عليه المجتمع الإسلامي الأول في أكمل صورة ، وأجمل مقام ، بر الوالدين وصلة الأرحام ، والوصية بالجار .
قال الله تعالى : {وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً}[الإسراء:23،24] .
وقال تعالى : {وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}[الرعد:21] .
وقال تعالى : {وَاعْبُدُواْ الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:36] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر ، أحدهما أو كليهما ، فلم يدخل الجنة ))[رواه مسلم] .
وعنه رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ ، قال : (( أمك )) ، قال : ثم من؟ ، قال : (( أمك )) ، قال : ثم من؟ ، قال : (( أمك )) ، قال : ثم من؟ ، قال : (( أبوك ))[متفق عليه] .(1/278)
وعنه رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم ، قامت الرحم : فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ ، قالت : بلى ، قال : فذلك لك )) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اقرأوا إن شئتم : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ في الأرْضِ وَتُقَطّعُوَاْ أَرْحَامَكُمْ . أَوْلََئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:22،23] .[متفق عليه] .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس الواصل بالمكافيء ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ))[رواه البخاري] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والله لايؤمن ، والله لايؤمن )) ، قيل : من يارسول الله؟ ، قال : (( الذي لايأمن جاره بوائقه ))[متفق عليه] .
وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيراً أو ليسكت ))[رواه مسلم] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره ))[رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن] .
ما أحوج الدعاة إلى الله اليوم ، وسائر المؤمنين ، أن يتعاطفوا ويتراحموا فيما بينهم ، ويبروا الآباء ، ويصلوا الأرحام ، ويحسنوا إلى الجار ، ويكرموا الضيف ، ويعطفوا على المسكين واليتيم . وما أبهى وأجمل مجتمعاً قام على هذه المعاني ، وتحلى بهذه الأخلاق .
5- التعاون :(1/279)
ومن المعاني التي ينبغي أن يقوم عليها الوسط الاجتماعي المؤمن ، خلق التعاون .
قال الله تعالى : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرَّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2] .
وعن أبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في أهله بخيرٍ فقد غزا ))[متفق عليه] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل ، فقال : (( لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما ))[رواه مسلم] .
وعن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه ، قال : قلت : يارسول الله أي الأعمال أفضل؟ ، قال : (( الإيمان بالله والجهاد في سبيله )) إلى أن قال : فإن لم أفعل؟ ، قال : (( تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ))[متفق عليه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) الحديث[رواه مسلم] .
وعنه رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كل سلامى من الناس عليه صدقة . كل يوم تطلع فيه الشمس ، تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة )) الحديث[رواه البخاري ومسلم] .
وعن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) وشبّك بين أصابعه[متفق عليه] .
6- التناصر :(1/280)
كما بنى الرسول صلى الله عليه وسلم ، المجتمع المسلم الأول ، على الإخاء ، والحب ، والتعاون ، والتراحم فيما بين أفراده . كذلك فقد أسس في بنيانه ما يحفظ هذا الكيان الصالح ، والوسط المبارك ، من دعوة إلى التناصر ، والتآزر ، ضد كل من يسعى لتعكير صفوه ، أو تهديم بنيانه ، أو الاعتداء على أفراده . وكان القرآن الكريم يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤكداً هذه المبادئ ، وموجهاً إليها ، وداعياً إلى التمسك بها . ومثنياً على المؤمنين الذين يحرصون على قيامها ، وحمايتها .
قال الله تعالى : {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُوْلََئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مّن وَلاَيَتِهِم مّن شَيْءٍ حَتّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ في الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إِلاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:72] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من رد عن عرض أخيه ، ردّ الله عن وجهه يوم القيامة ))[رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن] .
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً . أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ ، قال : (( تحجزه ـ أوتمنعه ـ من الظلم فإن ذلك نصره ))[رواه البخاري] .(1/281)
ومن المباديء التي قام عليها المجتمع الأول المبارك في المدينة النبوية ، ذلك الميثاق النبوي العظيم ، الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، أول وصوله إلى المدينة ، ليكون رباط حب وإخاء ، وعهد فداء وولاء ، وأساساً متيناً من أسس ذلك البناء المسلم الذي يشد بعضه بعضاً ، ويقوم على التناصر والتآزر .
قال ابن إسحاق : (( وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود ، وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم . إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو عوف على ربتعم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ... وأن لايحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعاً ، ولو كان ولد أحدهم ، ولايقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولاينصر كافراً على مؤمن ، وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ... وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره ، وإنه لاتجار قريش ولا من نصرها . وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين ، إلاّ من حارب في الدين ، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم ... ))(1) اهـ.
7- حب الله ورسوله :
قال الله تعالى : {وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ}[البقرة:165] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/501 .(1/282)
وقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ الله فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}[آل عمران:31] .
وقال تعالى : {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ}[المائدة:54] .
لقد قام المجتمع الإسلامي الأول على أساس راسخ من حب الله ورسوله ، فكانت قلوب كل المؤمنين مجتمعة على هذا الحب ، متحالفة متواثقة على حمايته وصيانته في المهج والأرواح ، مستعدة لفدائه بالنفس والمال والأهل والولد .
وكان هذا الحب مبنياً على مبدأ التقديم ، أي تقديمه على كل حب ، وإيثاره على كل رابطة أو مصلحة ، فلو نازع حب الله ورسوله في قلب العبد المؤمن أيُّ حب آخر من المحبوبات الدنيوية كحب الوالد أو الولد أو الأخ أو الزوج أو العشيرة أو الأموال المكتسبة أو التجارة الرابحة أو المساكن الطيبة أو حب النفس ونحوها لقدم المؤمنون حب الله ورسوله على جميع هذه المحبوبات ، بل لجعلوها فداءً للحب الأعظم حب الله ورسوله . وذلك امتثالاً لقول الله تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُواْ حَتّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24] .
وامتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، من حديث أنس رضي الله عنه ، قال : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما ... )) الحديث[متفق عليه] ، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ))[متفق عليه] .(1/283)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه الصحابة رضوان الله عليهم ، في مناسبات شتى إلى تحقيق هذا الحب في النفس اعتقاداً جازماً ، وإظهاره عملاً وتطبيقاً . روى الإمام البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه ، قال : (( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال عمر رضي الله عنه : (( يارسول الله ، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاّ من نفسي )) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ، والذين نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك )) ، فقال له عمر : فإنه الآن والله ، لأنت أحب إليّ من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الآن ياعمر )) اهـ .(1/284)
وقد كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى في حياة الصحابة رضي الله عنهم ، بذلاً وعطاءً ، وتضحية ، وفداءً . ففي أُحدٍ لما شُجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته ، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته الشريفة ، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبوعامر ليقع فيها المسلمون ، وهم لايعلمون ، قال ابن هشام : (( فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً ، ومصّ مالك بن سنان ، أبو أبي سعيد الخدري ، الدّم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ازدرده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من مسّ دمي دمه لم تصبه النار )) [وروى] عن عائشة ، عن أبي بكر الصديق ؛ أن أبا عبيدة بن الجراح نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسقطت ثنيتة ، ثم نزع الأخرى ، فسقطت ثنيتة الآخرى ، فكان ساقط الثنيتين ... قال ابن إسحاق : (( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين غشيه القوم : (( من رجل يشري لنا نفسه؟... )) ، قال : فقام زياد ابن السكن في نفرٍ خمسة من الأنصار ... فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجلاً رجلاً ، يقتلون دونه ، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، ثم فاءت فئة من المسلمين ، فأجهضوهم عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أدنوه مني )) ، فأدنوه منه ، فوسّده قدمه ، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام : وقاتلت أم عمارة ، نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد ... فقالت : خرجت أول النهار وأنا أنظر مايصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أصحابه ، والدولة والريح للمسلمين . فلما انهزم المسلمون ، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقمت أباشر القتال ، وأذب عنه بالسيف ، وأرمي عنه بالقوس ، حتى(1/285)
خلصت الجراح إليّ ... .
قال ابن إسحاق : (( وترّس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبودجانة بنفسه ، يقع النبل في ظهره ، وهو منحنٍ عليه ، حتى كثر فيه النبل . ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال سعد : فلقد رأيته يناولني النبل ، وهو يقول : (( ارم ، فداك أبي وأمي ... )) اهـ .
قال ابن هشام : (( حدثني بعض أهل العلم : أن عبد الرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذٍ فهتم ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، أصابه بعضها في رجله فعرج ))(1) .
وروى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : (( لما كان يوم أحد وولى الناس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية ، في اثني عشر رجلاً من الأنصار ، وفيهم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم ، فأدركهم المشركون . فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : (( من للقوم؟ )) ، فقال طلحة : أنا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كما أنت )) . فقال رجل من الأنصار : أنا يارسول الله ، فقال : (( أنت )) ، فقاتل حتى قتل . ثم التفت فإذا المشركون . فقال : (( من للقوم؟ )) ، فقال طلحة : أنا ، قال : (( كما أنت )) ، فقال رجل من الأنصار : أنا ، فقال : (( أنت )) ، فقاتل حتى قتل ، ثم لم يزل يقول ذلك ، ويخرج لهم رجل من الأنصار ، فيقاتل قتال من قبله حتى يقتل ، حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من للقوم؟ )) ، فقال طلحة : أنا . فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضُربت يده فقطعت أصابعه ، فقال : حس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لوقلت بسم الله لرفعتك الملائكة ، والناس ينظرون )) ، ثم ردّ الله المشركين ))(2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 3/80ـ83 .
(2) الألباني ـ صحيح سنن أبي داود برقم (2951) 2/661 .(1/286)
وروى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : (( لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبوطلحة رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوِّب [أي مترِّس] عليه بجحفة . قال : وكان أبوطلحة رضي الله عنه رجلاً رامياً ، شديد النزع ، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً ، قال : وكان الرجل يمرّ معه الجعبة من النبل ، فيقول : (( انثرها لأبي طلحة )) . قال ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ينظر إلى القوم ، فيقول أبوطلحة رضي الله عنه : يانبي الله ، بأبي أنت وأمي ، لاتشرف . لايصيبك سهم من سهام القوم . نحري دون نحرك )) .[متفق عليه] .
وهكذا الحب الصادق لله ورسوله يفعل بالمحبين . إنه يوقفهم مواقف العظمة والفداء ، وينزلهم منازل الصادقين ، الذين أحبهم الله تعالى وأمرنا أن نكون معهم ، فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ}[التوبة:119] .
وإن من علامة حب الله ورسوله ، امتثال أمر الله ورسوله ، والتسليم له ، والإخبات . قال الله تعالى : {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً}[النساء:65] .
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال:24] .(1/287)
وقد ضرب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم المثل الرائع ، في المسارعة إلى امتثال أمر الله ورسوله ، عن طيب نفس ، ومحبة قلب ، وإذعان صادق . عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، قال : (( كان الناس إذا نزلوا تفرقوا في الشعاب والأودية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان )) ، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلاّ انضم بعضهم إلى بعض ، حتى يقال : لوبسط عليهم ثوب لعمّهم ))(1) .
وعن أنس رضي الله عنه : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاءٍ ، فقال : (( أُكلت الحُمُر )) ، فسكت . ثم أتاه الثانية ، فقال : (( أُكلت الحمر )) ، فسكت ، ثم أتاه الثالثة ، فقال : (( أُفنيت الحُمُر )) . فأمر منادياً فنادى في الناس : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية )) ، فأكفئت القدور ، وإنها لتفور باللحم ))(2) .
وعنه رضي الله عنه ، قال : (( كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة رضي الله عنه ، وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت . قال : فقال لي أبوطلحة : اخرج فأهرقها ، فخرجت فهرقتها . فجرت في سكك المدينة )) .
قال الحافظ ابن حجر : وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها(3) .
__________
(1) المصدر السابق برقم (2288) 2/498 .
(2) الحافظ ابن حجر ـ فتح الباري ـ برقم (4199) 7/467 .
(3) المصدر السابق 10/39 .(1/288)
وكان هذا الإذعان ، وهذا الحب لله ورسوله في النساء كما هو في الرجال ، ومن ذلك أن فاطمة بنت قيس ، طلقها زوجها ثلاثاً ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا حللت فآذنيني )) . فآذنته . فخطبها معاوية وأبوجهم وأسامة بن زيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أما معاوية فرجل تَرِبٌ لامال له ، وأما أبوجهم فرجل ضرّاب للنساء ، ولكن أسامة بن زيد )) ، فقالت بيدها هكذا ، أسامة! أسامة! ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( طاعة الله وطاعة رسوله خير لك )) قالت : فتزوجته ، فاغتبطت ))(1) .
ثم إن الصورة تتجلى في وضوح ، فيما رواه البيهقي في قصة عروة بن مسعود الثقفي لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية يكلمه في أمر قريش ، وقد انتدبته قريش لذلك . قال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : ثم جعل عروة يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم . فو الله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلاّ وقعت في كف رجلٍ منهم ، فدلك بها وجهه وجلده . وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له . قال : فرجع عروة لأصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ؛ وفدت على قيصر ، وكسرى ، والنجاشي . والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه تعظيم أصحاب محمد . والله إن تنخم نخامة إلاّ وقعت في كف رجلٍ منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ))(2) .
__________
(1) الإمام مسلم ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ 1/1119 .
(2) الإمام البيهقي ـ شعب الإيمان ـ 2/199 ، وأسعد صاغر ـ تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ـ ص12 .(1/289)
إن هذا الحب لله ورسوله ، مع هذا الإذعان والخضوع لأمر الله ورسوله ، هو مصدر عزّ المسلمين ، وقوتهم ، وجماع هيبتهم . وهو ما ينبغي أن يُعتنى به في بناء المجتمع الإسلامي اليوم ، بل هو الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه البناء .
8- لزوم الجماعة :
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ الله حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}[آل عمران:102،103] .
وقال تعالى : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105] .
وقال تعالى : {إِنّ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لّسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ إِنّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[الأنعام:159] .
وقال تعالى : {وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}[الأنعام:153] .
فالقرآن الكريم يرشد إلى لزوم الجماعة ، وأنها سبب للقوة والألفة بين المسلمين . كما أنها سبب لطاعة الله تعالى ، والوصول إلى مرضاته ، والنجاة من سخطه ومقته وعقابه ، كما حذر من الفرقة والاختلاف ، وبيّن أن الذين تفرقوا واختلفوا في دينهم من أهل الكتاب قد أوجب الله عليهم العذاب العظيم . والآيات في هذا المعنى كثيرة محكمة .
ولزوم الجماعة في الاعتقاد من أوجب الواجبات ، والجماعة : (ماكان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه) كما جاءت بذلك الأحاديث . ومما ورد في لزوم الجماعة وعدم الفرقة :(1/290)
عن عامر بن سعد عن أبيه قال : وقف عمر بالجابية ، فقال : (( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( من أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ ))(1) .
وعن ابن عمر ، عن عمر (رضي الله عنهما) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد بحبحة الجنة ، فعليه بالجماعة ))(2) .
وعن أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( يد الله مع الجماعة ))(3) .
وعن النعمان بن بشير ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ))(4) .وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من فارق الجماعة ، وخالف الطاعة ، مات ميتة جاهلية ... ))(5) الحديث[رواه مسلم] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين ، كلها في النار إلاّ واحدة وهي الجماعة ))(6) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ : {وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام:153] ، ثم خط خطاً ، وخط حوله خطوطاً ، ثم قال : (( هذه السبل ، فما منها سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه ))[رواه أحمد والحاكم وقال صحيح ولم يخرّجاه] .
__________
(1) ابن أبي عاصم ـ كتاب السنة ـ برقم 86 وصححه الألباني .
(2) المصدر السابق برقم 88 . وصححه الألباني .
(3) المصدر السابق برقم 81 . وصححه الألباني .
(4) المصدر السابق برقم 93 ، قال الألباني : إسناده حسن ، ورجاله ثقات .
(5) الآجري ـ كتاب الشريعة ـ برقم 7 .
(6) ابن أبي عاصم ـ السنة ـ برقم 64 وصححه الألباني .(1/291)
وكما أن لزوم الجماعة في الاعتقاد فرض ، فكذلك في العبادات . فإن الله سبحانه وتعالى قد شرع الجماعة في كثير من العبادات والطاعات ، تعظيماً لشأن الجماعة في الإسلام ، وحثاً عليها ، وتأسيساً لهذا المجتمع المؤمن على مبادئ الاجتماع من التحابب ، والتآزر ، والتعاون . وترسيخاً لأعظم مظاهر القوة في المجتمع وهي التلاحم والتواصل والالتقاء .
فشرعت الجماعة في الصلوات الخمس المكتوبة . وجعلت الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة . عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ))[متفق عليه] .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ما من ثلاثة في قرية ولا بدوٍ ، لاتقام فيهم الصلاة إلاّ قد استحوذ عليهم الشيطان . فعليكم بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))[رواه أبوداود بإسناد حسن] .
كما شرعت الجماعة في صلاة الجمعة ، وفي صلاة العيدين ، وفي صلاة الكسوف ، وصلاة الاستسقاء ، وصلاة التراويح .
والصيام اجتماع في الوقت ، سواء كان ذلك بالنسبة لليوم من تبين الخيط الأبيض والخيط الأسود ، إلى غروب الشمس ، أو شهر رمضان تجتمع الأمة كلها على صيامه فرضاً لازما .
وفي الزكاة اجتماع على مبدأ إخراج الزكاة عند بلوغ النصاب وتمام الحول ، على الأصناف الثمانية الذين جعل الله تعالى لهم الزكاة .
والحج اجتماع عام عظيم في مهبط الوحي ، وقبلة المسلمين ، ومهوى أفئدتهم ، على شعائر واحدة ، وفي أوقات محدودة . وتبلغ الوحدة الاجتماعية في الحج حدّ توحيد اللباس ، والالتزام بكيفيته .
وهكذا في الجهاد في سبيل الله ، والتحلق في طلب العلم ، ونحوه .(1/292)
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم رغّب أصحابه ، وحثهم ، على الاجتماع ، في منازلهم ، ومجالسهم ، وعلى طعامهم ، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، قال : (( كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن تفرقكم في هذا الشعاب والأودية ، إنما ذلك من الشيطان )) ، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلاّ انضم بعضهم إلى بعض )) [رواه أبوداود بإسناد حسن] .
وعن وحشي بن حرب رضي الله عنه ، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : يارسول الله ، إنا نأكل ولانشبع ، قال : (( فلعلكم تفترقون )) ، قالوا : نعم ، قال : (( فاجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله ، يبارك لكم فيه ))[رواه أبوداود وغيره ، وهو حسن لشواهده] .
اجتماع المسلمين على سمت واحد في آدابهم ومعاملاتهم :
يلتزم المسلمون بسمات ومظاهر تميزهم عن سائر المجتمعات ، وتوحدهم في كل زمان ومكان . فتحية المسلمين فيما بينهم هي السلام ، قال الله تعالى : {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيّةً مّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيّبَةً}[النور:61] .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ ، قال : (( تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ))[متفق عليه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولاتؤمنوا حتى تحابوا . أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ ، أفشوا السلام بينكم ))[رواه مسلم] .
وفي اللباس ؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( البسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم ))[رواه أبوداود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح] .(1/293)
وعن أبي جُريّ جابر بن سليم رضي الله عنه ، قال : رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه ، لايقول شيئاً إلاّ صدروا عنه ، قلت : من هذا؟ ، قالو ا : رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : عليك السلام يارسول الله ـ مرتين ـ ، قال : (( لاتقل عليك السلام . عليك السلام تحية الموتى ، قل : السلام عليك )) ، قال : قلت : أنت رسول الله؟ ، قال : (( أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرُّ فدعوته كشفه عنك ، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرضٍ قفرٍ أو فلاة ، فضلّت راحلتك ، فدعوته ردها عليك )) ، قال : قلت : اعهدْ إليّ ، قال : (( لاتسبنّ أحداً )) ، قال : فما سببت بعده حراً ، ولاعبداً ، ولابعيراً ، ولاشاة ، (( ولاتحقرن من المعروف شيئاً ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، إن ذلك من المعروف . وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار ، فإنها من المخيلة . وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك ، فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه ))[رواه أبوداود والترمذي بإسناد صحيح] .
وفي المشية ؛ قال الله تعالى : {وَلاَ تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}[الإسراء:37] .
وقال في وصف عباده ، عباد الرحمن : {وَعِبَادُ الرّحْمََنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً}[الفرقان:63] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ... )) الحديث[رواه البخاري] .
وفي الجلوس ؛ عن الشريد بن سويد رضي الله عنه قال : (( مربي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا ، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري ، واتكأت على ألية يدي ، فقال : (( أتقعد قعدة المغضوب عليهم )) [رواه أبوداود بإسناد صحيح] .(1/294)
وفي الاضطحاع ؛ عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ... )) الحديث[متفق عليه] .
وعن يعيش بن طخفة الغفاري رضي الله عنه ، قال : قال أبي : بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني ، إذ رجل يحركني برجله ، فقال : (( إن هذه ضجعة يبغضها الله )) ، قال : فنظرت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم [رواه أبوداود بإسناد صحيح] .
ومن الخصال التي حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم على التزامها السواك ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( لولا أن أشق على أمتي ـ أو على الناس ـ لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة )) [متفق عليه] .
ومن السمات التي تميز بها المجتمع المسلم ، إعفاء اللحية ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أحفوا الشوارب ، وأعفوا اللحى )) [متفق عليه] .
ومنها أيضاً ، الأخذ بسنن الفطرة ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الفطرة خمس . أو خمس من الفطرة : الختان ، والاستحداد ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وقص الشوارب ))[متفق عليه] .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عشر من الفطرة ؛ قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء )) ، قال الراوي : ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة . قال وكيع ـ وهو أحد رواته ـ : انتقاص الماء ، يعني : الاستنجاء .[رواه مسلم] .(1/295)
وهكذا فإن مبدأ الجماعة أساس في بناء المجتمع المسلم ، في معتقده ، وعبادته ، وآدابه ، وسلوكه . مع تنفير الإسلام أهله من الشذوذ عن الجماعة ، أو مفارقتها ، في اعتقاد ، أو عبادة ، أوسلوك ، أو غيره . وعلى هذا المبدأ العظيم ينبغي أن يجدد البناء لهذا المجتمع المؤمن بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .
- - -
المبحث الثاني : وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة :
أولاً - القدوة الطيبة والأسوة الحسنة :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الطيبة والأسوة الحسنة لأمته ، في كل فعل جميل ، وكل خلق حسن .
قال الله تعالى : {لّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً}[الأحزاب:21] .
وقال تعالى : {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ}[التوبة:120] ، وكذلك كان الأنبياء والرسل عليهم السلام لأتباعهم ، قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ}[الممتحنة:4] .
وقال تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَة وَإِيتَآءَ الزّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:73] .(1/296)
فالقدوة الطيبة والأسوة الحسنة أساس متين في تزكية النفوس وتهذيبها . وذلك لأن تحلي الداعية أو المربي أو المعلم بما يدعو إليه من الاعتقاد أو السلوك والأخلاق ، يجعل هذه الدعوة صورة حية ماثلة للعيان ، مما يمكّن في نفوس أتباعه القناعة التامة بما يقول ، وأن ما يدعو إليه أمر يمكن تحقيقه وتطبيقه ، وهم يرون بأعينهم ذلك التطبيق ، ويلمسون آثاره الطيبة الجميلة على الداعي أو المربي نفسه ، فيتأثرون به أعظم التأثر ، ويؤمنون به أصدق الإيمان ، فإنه عندما يكون في مواقف البذل أول الباذلين ، وفي مواقف الفداء والتضحية ، أول المضحين ، فإن ذلك يحفز أتباعه على اقتحام هذه المواقف في رضىً واطمئنانٍ تامين ، كما يزيد من تعلقهم به ، ويقينهم بصدقه ، وحرصهم عليه .
وهكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ولأمته من بعده ، فكان يواجه الناس بدعوته ، ويبلغهم رسالة ربه ، ويتعرض في سبيل ذلك لصنوف الأذى ، وألوان السخرية والاستهزاء ، فيواجه كل ذلك بالصبر الجميل ، والحلم الواسع ، ممتثلاً قول الله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199] .
وقوله تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ الله يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:13] .
وقوله تعالى : {وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[يونس:109] .
وقوله تعالى : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}[المزمل:10] .
فكان صبر النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه وعفوه عن الجاهلين ، دافعاً لأصحابه رضي الله عنهم على الصبر ، وقوةً لهم على تحمل الأذى من المعاندين . فهم يرونه صلى الله عليه وسلم يؤذى وهو أكرم الخلق على الله ، ويصبر وهو المؤيد من عند الله ، فيقوى صبرهم ، ويزداد تحملهم ، ويهون عليهم ما يلقون .(1/297)
ومثل ذلك في جهاده صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يخوض المعارك في مقدمة أصحابه إعلاء لكلمة الله وجهاداً في سبيله . عن علي رضي الله عنه قال : (( لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً )) .[رواه أحمد ، وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تضمن الله لمن خرج في سبيله ... ـ [إلى أن قال] ـ والذي نفسي بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولايجدون سعة ، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده ، لوددت أن أغزو في سبيل الله ، فأقتل ، ثم أغزو ، فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ))[رواه مسلم] .
لقد كان هذا الجهاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً قوياً ، في حب الصحابة رضي الله عنهم للجهاد في سبيل الله ، واقتحامهم للمعارك إعلاءً لكلمة الله ، وتقديم أنفسهم بين يدي الله طلباً للشهادة في سبيله .
(( قاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناوله السهام ، ويقول : (( ارم فداك أبي وأمي )) ، وكان سعد من مشاهير الرماة . ودافع أبوطلحة الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رامياً ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف على القتال ، فيقول له أبوطلحة : لاتشرف يصبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ... وقد ورد أن أبا دجانة كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم بظهره حتى كثر النبل فيه ))(1) .
__________
(1) د.أكرم العمري ـ السيرة النبوية الصحيحة ـ 2/387 .(1/298)
فهذا الفداء وهذه التضحية إنما نمت ورسخت جذورها في قلوب الصحابة رضي الله عنهم ، بسبب وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم ، وتقديمه نفسه الشريفة للفداء والجهاد في سبيل الله قبل نفوسهم ، فكان الأسوة الحسنة التي تأسوا بها ، والقدوة الطيبة التي تمثلوها ، واقتدوا بها ، فكان جهادهم ، وسعيهم لإظهار دين الله ، والتضحية في سبيله ، ثمرة من ثمرات هذه القدوة الصالحة والأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لأصحابه ، ولأمته من بعده في تبليغ دين الله ، والجهاد في سبيله ، كذلك كان قدوة صالحة في البذل والعطاء ، والجود والسخاء ، ابتغاء وجه الله وإعلاء دينه . عن جابر رضي الله عنه ، قال : (( ماسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط ، فقال : (( لا )) اهـ [متفق عليه] .
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : (( ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلاّ أعطاه . ولقد جاءه رجلٌ ، فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : ياقوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لايخشى الفقر )) .. الحديث [رواه مسلم] .
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، أنه قال : بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين ، فعلقه الأعراب يسألونه ، حتى اضطروه إلى سمرةٍ ، فخطفت رداءه . فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( أعطوني ردائي ، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعماً ، لقسمته بينكم ، ثم لاتجدوني بخيلاً ولاكذاباً ولاجباناً ))[رواه البخاري] .
وعن عائشة رضي الله عنها ، أنهم ذبحوا شاة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما بقي منها؟ )) ، قالت : مابقي منها إلاّ كتفها ، قال : (( بقي كلها غير كتفها ))[رواه الترمذي وإسناده صحيح] .(1/299)
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتوكي فيوكى عليك )) . وفي رواية : (( أنفقي ، أو انفحي ، أو انضحي ، ولاتحصي فيحصى عليك ، ولاتوعي فيوعي الله عليك ))[متفق عليه] .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواداً ، كريماً ، منفقاً في سبيل الله ، فتنافس أصحابه رضي الله عنهم في البذل والعطاء ابتغاء وجه الله . عن عمر رضي الله عنه ، قال : (( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدق ، ووافق ذلك مالاً عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبابكر رضي الله عنه ، إن سبقته يوماً . فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما أبقيت لأهلك؟ )) ، قلت : أبقيت لهم . قال : (( ما أبقيت لهم؟ )) ، قلت : مثله . وأتى أبوبكر بكل ما عنده . فقال : (( يا أبابكر ، ما أبقيت إلى أهلك )) ، قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، قلت : لاأسبقه إلى شيء أبداً )) .[رواه أبوداود والترمذي وغيرهما ، وقال : حسن صحيح] .
وعن كثة مولى عبد الرحمن بن سمرة ، قال : (( جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة ، قال : فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ، ويقول : (( ماضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم ))[رواه أحمد] .(1/300)
وعن عبد الرحمن بن حباب السلمي ، قال : (( خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فحث على جيش العسرة . فقال : عثمان بن عفان : عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول بيده هكذا يحركها ، وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب : (( ما على عثمان ما عمل بعد هذا ... )) ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به ، وقال : (( ثلاث مرات ، وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ))(1) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبادته ، كما كان في دعوته وجهاده وإنفاقه ـ قدوة لأصحابه ، وأسوة حسنة لأمته . فكان يوجه أصحابه إلى اتّباعه والاقتداء به فيما يفرض عليهم من العبادات ، ويعلمهم أن يقتدوا به في ذلك . (( صلّى صلى الله عليه وسلم ـ مرة ـ على المنبر (وفي رواية : أنه ذو ثلاث درجات) فـ[قام عليه فكبر ، وكبر الناس وراءه ، وهو على المنبر] ، [ثم ركع وهو عليه] ، ثم رفع ، فنزل القهقري حتى سجد في أصل المنبر ، ثم عاد ، [فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى] ، حتى فرغ من آخر صلاته ، ثم أقبل على الناس ، فقال : (( يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ))(2)[رواه البخاري ومسلم وابن سعد] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( صلّوا كما رأيتموني أصلي ))(3)[أخرجه البخاري وغيره من حديث مالك بن الحويرث] .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 5/5 .
(2) الألباني ـ صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ـ ص71 .
(3) الألباني ـ إرواء الغليل ـ برقم 262 .(1/301)
وكان الصحابة رضوان الله عليهم ، يحرصون أشد الحرص على متابعته صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ، فكانوا يرمقونه فيما يقول ويعمل ، ليقتدوا به في عبادته . عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : (( رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجدت قيامه ، فركعته ، فاعتداله بعد ركوعه . فسجدته ، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء )) . وفي رواية البخاري : (( ما خلا القيام والقعود قريباً من السواء )) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : رمقت النبي صلى الله عليه وسلم ، شهراً وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر : {قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ}، و : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ})).[رواه الترمذي وقال : حديث حسن] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل فيقومون ، وكان يصوم التطوع فيصومون ، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل صيامه أحياناً ـ رغب الصحابة كذلك في متابعته والاقتداء به في ذلك ، وشرعوا يصومون الوصال ، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عنه ، شفقة عليهم ، وعلى سائر الأمة بعدهم . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، قالوا : إنك تواصل ، قال : (( إني لست مثلكم ؛ إني أطعم وأسقى )) . ورواه أبوهريرة وعائشة وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم ، ولمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : (( فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ))[متفق عليه] .
وهكذا فإن القدوة من أهم وسائل التزكية والتربية في الوسط الاجتماعي للدعوة ، وهي من أقوى الوسائل لإقناع المدعوين بصدق الداعية في دعوته ، وتشجيعهم على التمسك بها والتضحية من أجلها .
ثانياً - مخالطة المدعوين والتواضع لهم :(1/302)
ومن أهم وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة مخالطة المدعوين ، والتواضع لهم . بحيث يكون الداعية ملازماً لتلاميذه ، وأتباعه ، وإخوانه ، مخالطاً لهم ، قريباً منهم ، في ليل أو نهار ، في مجلس علم ، أو ذكر ، أو عبادة ، أو تشاور . في حضر أوسفر ، في شدة أو رخاء . مع إظهار محبتهم ، والتواضع لهم ، فيشعرهم بأنه واحد منهم ، يشعر بما يشعرون ، ويعاني ما يعانون ، مع زيادة عنايته بهم ، وتفقد أحوالهم ، فيكون معهم كالوالد مع أولاده ، وكالرأس مع جسده .
قال الله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[الكهف:28] .
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ))[متفق عليه] .
وعن أبي هريرة وأبي ذر قالا : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه ، فيجيء الغريب ولايدري أيهم هو ، حتى يسأل ، فطلبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكاناً من طين ، فكان يجلس عليه ، ونجلس بجانبيه ))(1) .
__________
(1) أبوالشيخ الأصبهاني ـ كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ـ ص60 .(1/303)
ولما وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه بني سعد بن بكر ، قال ابن إسحاق : (( فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، فقال : أيكم ابن عبد المطلب؟ ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا ابن عبد المطلب )) . قال : أمحمد؟ ، قال : (( نعم ))(1) .
وفي هذا دلالة على تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم في جلوسه بين أصحابه كأي واحد منهم ، لم يتميز بمكان أو هيئة بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس .
وكان صلى الله عليه وسلم يباسط أصحابه ويمازحهم . عن أنس بن مالك قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( ياذا الأذنين )) . قال محمود : قال أبوأسامة : يعني يمازحه .
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير : (( يا أباعمير ، مافعل النغير )) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قالوا : يارسول الله، إنك تداعبنا ، قال : (( نعم ، غير أني لاأقول إلاّ حقاً ))(2) .
ثالثاً - حثهم على الصبر والتحمل ومواساتهم في ذلك :
كان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحث المؤمنين على الصَّبر :
قال الله تعالى : {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ الله لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200] .
وقال تعالى : {لَتُبْلَوُنّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ}[آل عمران:186] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/574 .
(2) الترمذي ـ الشمائل المحمدية ـ ص193 ، بإسناد صحيح .(1/304)
وقال تعالى : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ . إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الّذِينَ آمَنُواْ وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ . وَلِيُمَحّصَ الله الّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ الله الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ}[آل عمران:139ـ142] .
وقال تعالى : {الَمَ . أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ الله الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:1ـ3] .
وقال تعالى : {وَمَن جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ الله لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ . وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[العنكبوت:6،7] .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالصبر ، ويحثهم عليه ، مع ما كانوا فيه من الشدة والكرب ، بسبب أذى المشركين لهم ، واستهزائهم بهم ، واجتماعهم على معاداتهم وتعذيبهم .(1/305)
أخرج البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، قلنا له : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ، قال : (( كان الرجل فيمن قبلكم ، يحفر له في الأرض ، فيجعل فيه ، فيجاء بالميشار ، فيوضع على رأسه ، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنّ هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لايخاف إلاّ الله عزوجل أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ))(1) .
قال ابن إسحاق : (( وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر ، وبأبيه ، وأمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة . فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ، فيما بلغني : (( صبراً آل ياسر ، موعدكم الجنة ))(2) .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال : (( كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته ، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ، ومرنّا عليه ، وصبرنا له ، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، خرجت من الليل أبول ، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي ، فإذا قطعة جلد بعيرٍ ، فأخذتها ، فغسلتها ، ثم أحرقتها ، فوضعتها بين حجرين ، ثم أستفّها ، وشربت عليها الماء ، فقويت عليها ثلاثاً ))(3) .
__________
(1) الزبيدي ـ التجريد الصريح (مختصر صحيح البخاري) برقم 1508 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/320 .
(3) أبونعيم الأصبهاني ـ حلية الأولياء ـ 1/93 .(1/306)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : (( نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجوع في وجوه أصحابه ، فقال : (( أبشروا فإنه سيأتي عليكم زمان ، يُغدى على أحدكم بالقصعة من الثريد ، ويراح عليه بمثلها )) ، قالوا : يارسول الله ، نحن يومئذٍ خير ، قال : (( بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ ))(1) .
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخرّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخصاصة ـ وهم أصحاب الصفة ـ حتى يقول الأعراب : هؤلاء مجانين أو مجانون . فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف إليهم ، فقال : (( لو تعلمون مالكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة ))(2)[رواه الترمذي وصححه ابن حبان في صحيحه] .
وعن أم سليم رضي الله عنها : قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اصبري ـ فو الله ـ مافي آل محمدٍ شيء منذ سبع ، ولا أوقد تحت برمة لهم منذ ثلاث . والله ، لو سألت الله يجعل جبال تهامة كلها ذهباً لفعل ))(3) .
__________
(1) المنذري ـ الترغيب والترهيب ـ 3/139 .
(2) المصدر السابق 5/176، وكذا حلية الأولياء 1/339 ، وانظر حياة الصحابة 1/318 .
(3) الكاندهلوي ـ حياة الصحابة ـ 1/312 ، وقال : أخرجه الطبراني ، كما في كنز العمال 4/42 .(1/307)
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصبر والتحمل ، ويذكرهم بالأجر في ذلك ، ويرغبهم فيه . بل كان يحذرهم من الشبع ، والترف ، ورغد العيش . عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، إلى البحرين ، يأتي بجزيتها . فقدم بمالٍ من البحرين ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة ، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف ، فتعرضوا له ، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : (( أبشروا وأمّلوا ما يسركم ، فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ))[متفق عليه] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وجلسنا حوله ، فقال : (( إن مما أخاف عليكم من بعدي ، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ))[متفق عليه] .
رابعاً - الإكرام وتأليف القلوب :
قال الله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ}[آل عمران:159] .
وقال تعالى : {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ}[فصلت:34] .
وقال تعالى : {وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً}[الإسراء:28] .(1/308)
إن إكرام النفوس ، وتأليف القلوب ، متعدد الجوانب ، متنوع السبل ، إذ إن النفوس لها مداخل ومسارب ، من تلطّف في الولوج إليها بلطائف المعروف ، وأحسن الدخول إليها بصنائع الإحسان ، تمكن من استخلاص ودّها ، وامتلاك أزمة ولائها .
وإن للقلوب المستغلقة مفاتيح برّ وإحسان ، من عالجها بها في رفق وأناة ، تفتحت له أبوابها ، وانفسحت له جنباتها ، حتى يستقر في أعماقها ودّه ، وتتعلق بشغافها محبته ، وتتسع أنحاؤها لكل ماعنده . فالإكرام وتأليف القلوب ، من أنفع الأمور ، لامتلاك النفوس الكريمة ، ومعالجة القلوب الخيّرة الرحيمة . وما أحوج الداعية الناصح لدعوته إلى سلوك هذا السبيل الخيّر في استفتاح القلوب ، وامتلاك النفوس .
هذا مع العلم أن من النفوس ما استحكم فيها خبث الكفر والطغيان ، وتمكن منها سوء الطبع ومكر الشيطان . وإن من القلوب ما هو منتكس عن الحق ، متردٍ في مهاوي الضلالة والكفر ، لايعرف معروفاً ، ولاينكر منكراً ، قال تعالى : {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ . خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}[البقرة:6،7] .
ولكن ليس للداعية من سبيل إلى معرفة حقائق النفوس والقلوب ، فإنما علمها عند الله . وما عليه إلاّ أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه في دعوته ، دون يأس أو قنوط رجاء أن يجعله الله سبباً لهداية من يشاء من خلقه . والله أعلم بعباده ، يهدي من يشاء ، بعلمه المحيط ، وحكمته البالغة ، قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4] .(1/309)
وقال تعالى : {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنّ الله يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[فاطر:8] .
أما سبل الاكرام وتأليف القلوب ، فهي عديدة متنوعة ، منها ماهو معنوي ، ومنها ماهو حسّي ماديّ ، وسنفصل الكلام عنها فيما يلي إن شاء الله . فمنها :
أ - لين الكلام وعذوبة المنطق :
قال الله تعالى مخاطباً موسى وأخاه : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44] .
وقال تعالى : {وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] .
وقال تعالى : {وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً}[الإسراء:28] .(1/310)
إن الكلمة اللينة العذبة ، تسري في أعماق النفوس ، كما تسري جرعة الماء البارد في أوصال الجسد الظاميء ، إنها تتلطف بالنفوس حتى تأسرها أسراً رفيقاً ، فتأخذ بزمامها ، وتجذبها إليها ، وهي راضية مطمئنة . ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حسن الخطاب ، ولين الكلام ؛ ومن ذلك ، أنه كان في الموسم بمنى ، يعرض نفسه على القبائل ، فأتى قوماً ، يقال لهم : بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، حتى إنه ليقول لهم : (( يابني عبد الله ، إن الله عزوجلّ قد أحسن اسم أبيكم ))(1) ، يتلطف لهم بذلك . ولمّا لقي نفراً من الخزرج في الموسم ، قال : (( أفلا تجلسون أكلمكم؟ )) ـ بأسلوب الاستفهام ، تلطفاً ـ ، قالوا : بلى . فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عزوجلّ ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن(2) . ولما جاءه عتبة بن ربيعة يعرض عليه المال والجاه والنساء والطب ثمناً لترك الدعوة ، وعدم مخاطبة قريش بها ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أقد فرغت يا أبا الوليد؟ )) ، قال : نعم ، قال : (( فاسمع مني )) ، فتلا عليه الآيات من سورة فصلت ، ثم قال : (( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ))(3) . فيدعوه بكنيته لا باسمه ، تلطفاً في الخطاب .
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ، ولالعاناً ، ولاسباباً ، كان يقول عند المعتبة : (( ماله ترب جبينه ))[رواه البخاري] .
وعن أبي هريرة قال : قيل : يارسول الله ، ادع على المشركين . قال : (( إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة ))[رواه مسلم] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/424 .
(2) المصدر السابق 1/428 .
(3) المصدر السابق 1/294 .(1/311)
وكان صلى الله عليه وسلم يرغّب أصحابه في الكلمة الطيبة ، ولين الكلام . عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والكلمة الطيبة صدقة ))[رواه البخاري ومسلم] .
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة ))[رواه البخاري ومسلم] .
ب - التبسم وطلاقة الوجه :
ومن سبل الإكرام وتأليف القلوب ، التبسم وطلاقة الوجه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر البشاشة ، ويكثر التبسم لأصحابه ، ومن يفد عليه . عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء رضي الله عنه ، أنه قال : (( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(1) . وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، قال : (( ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلاّ ضحك ، وفي رواية : إلاّ تبسم ))(2) .
وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ولايقول إلاّ حقاً . عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : (( يا ذا الأذنين )) ، قال أبوأسامة : يعني يما زحه(3) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قالوا يارسول الله : إنك تداعبنا ، قال : (( نعم . غير أني لا أقول إلاّ حقاً ))(4) .
__________
(1) الترمذي ـ الشمائل المحمدية ـ ص186 .
(2) المصدر السابق ص189 .
(3) المصدر السابق ص193 .
(4) المصدر السابق ص195 .(1/312)
وعن أنس رضي الله عنه ، أن رجلاً من أهل البادية ـ كان اسمه زاهراً ـ وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية . فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه )) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان رجلاً دميماً . فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ، وهو يبيع متاعه ، واحتضنه من خلفه ، وهو لا يبصره . فقال : من هذا؟ ، أرسلني ، فالتفت ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل لايألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من يشتري هذا العبد؟ )) ، فقال الرجل : يارسول الله إذاً والله تجدني كاسداً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لكن عند الله لست بكاسد )) ، أو قال : (( أنت عند الله غالٍ ))(1) .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : (( كان رسول الله يقبل بوجهه وحديثه على أشرّ القوم ، يتألفهم بذلك ، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ ، حتى ظننت أني خير القوم ، فقلت : يارسول الله ، أنا خير أو أبوبكر؟ ، فقال : (( أبوبكر )) ، فقلت : يارسول الله ، أنا خير أو عمر؟ ، فقال : (( عمر )) ، فقلت : يارسول الله ، أنا خير أم عثمان؟ ، قال : (( عثمان )) ، فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني ، فلوددت أني لم أكن سألته ))(2) [قال الهيثمي : رواه الطبراني ، وإسناده حسن] .
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بإسداء المعروف ، وطلاقة الوجه ، فعن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتحقرن من المعروف شيئاً ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق ))[رواه مسلم] .
ج - العفو والإحسان :
__________
(1) المصدر السابق ص197 .
(2) الهيثمي ـ مجمع الزوائد 9/15 .(1/313)
ومن سبل الإكرام ، وتأليف القلوب ، العفو والإحسان . قال الله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199] .
وقال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ الله يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:13] .
وقال تعالى : {ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}[المؤمنون:96] .
وقال تعالى : {ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ}[فصلت:34] .
فمما يتألف به الداعية قلوب الناس العفو عنهم ، والإحسان إليهم . عن أنس رضي الله عنه ، قال : (( كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي ، فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد ، مُرْ لي من مال الله الذي عندك . فالتفت إليه ، فضحك ، ثم أمره له بعطاء )) [متفق عليه] .
وعن جابر رضي الله عنه ، قال : (( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء رجل من المشركين ، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة ، فاخترطه ، فقال : تخافني؟ ، قال : (( لا )) ، قال : فمن يمنعك مني؟ ، قال : (( الله )) ، وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في صحيحه ، قال : من يمنعك مني؟ ، قال : (( الله )) ، قال : فسقط السيف من يده ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف ، فقال : (( من يمنعك مني؟ )) ، فقال : كن خير آخذ ، فقال : (( تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأني رسول الله )) ، قال : لا ، ولكني أعاهدك أن لا أقاتل ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلى سبيله ، فأتى أصحابه ، فقال : جئتكم من عند خير الناس )) [متفق عليه] .(1/314)
ومن عفوه صلى الله عليه وسلم وإحسانه ، ما قاله لقومه يوم فتح مكة إذ قال : (( يامعشر قريش ، ما ترون أني فاعل فيكم؟ )) ، قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال : (( اذهبوا فأنتم الطلقاء )) ، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ، ومفتاح الكعبة في يده ، فقال : يارسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أين عثمان بن طلحة؟ )) ، فدعي له ، فقال : (( هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم برّ ووفاء ))(1) .
د - الثناء وذكر الفضل لأهله في غير مبالغة :
ومن سبل الإكرام وتأليف القلوب ، الثناء وذكر الفضل لأهله في غير مبالغة ، لما في ذلك من التشجيع والتحفيز المعنوي ، ولكي يشعر العاملون المخلصون بأن عملهم ليس في هباء ، بل هو محسوس ملموس ، يمكنهم تشييد الأعمال تلو الأعمال على قاعدته الصلبة . فتطمئن قلوبهم ، وتقوى عزائمهم على مواصلة البذل والتضحية والفداء .
قال الله تعالى : {إِنّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة:120] .
وقال تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ}[آل عمران:195] .
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أنبيائه والصالحين من عباده ، ثناء متكرراً ، وهو في القرآن كثير . ومن ذلك قوله تعالى عن نوح عليه السلام : {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ في الْعَالَمِينَ . إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[الصافات:79ـ81] .
وقال تعالى مثنياً على إبراهيم : {إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ}[هود:75] .
وقال تعالى عن داود : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ}[ص:30] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/412 .(1/315)
وقال تعالى عن إسماعيل : {وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً . وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً}[مريم:54،55] .
وقال تعالى مخاطباً موسى : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه:41] .
وقال تعالى مثنياً على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ}[التوبة:128] .
وقال مثنياً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه : {مّحَمّدٌ رّسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً}[الفتح:29] .
كما أثنى الله تعالى على المهاجرين والأنصار بقوله : {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ . وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:8،9] .
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم ، ما يكاد يدع مناسبة يستحق فيها أحد أصحابه الثناء إلاّ ويثني عليه ، ويذكره بما يطيب خاطره ، ويشحذ عزمه ، ويدعم إيمانه في غير مبالغة ، ولا إكثار ، فإذا حفظت عنه الكلمة في أحد أصحابه ظلت تتردد في نفس صاحبها ، وعلى ألسنة الآخرين ، حتى تكون سمة له ، ومعلماً لمنزلته في الدين ، ومكانته عند النبي الأمين صلى الله عليه وسلم .(1/316)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه ـ من حديثه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبوبكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ )) مرتين فما أوذي بعدها [رواه البخاري](1) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ـ من حديثه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبوبكر ، ولوكنت متخذاً خليلاً لاتّخذت أبابكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام ، لاتبقينّ في المسجد خوخة إلاّ خوخة أبي بكر ))(2) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى إني لأرى الريّ يجري في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب )) ، قالوا : فما أوّلت ذلك يارسول الله؟ ، قال : (( العلم ))(3) . وعن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يقول : (( قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد ، فإن عمر بن الخطاب منهم ))(4) . قال ابن وهب : تفسير محدثون : ملهمون .
ومن حديث عائشة رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن عثمان رضي الله عنه : (( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ))(5) . وقال صلى الله عليه وسلم حين جاء عثمان رضي الله عنه ـ في تجهيز جيش العسرة ـ بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( ماضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم )) يرددها مراراً ))(6) اهـ .
__________
(1) الزبيدي ـ التجريد الصريح ـ برقم 1522
(2) الإمام مسلم ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ 7/108.
(3) المصدر السابق 7/112 .
(4) المصدر السابق 7/115 .
(5) المصدر السابق 7/116 .
(6) د.أكرم العمري ـ السيرة النبوية الصحيحة ـ 2/525 .(1/317)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما ، (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال يوم خيبر : (( لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله )) ، قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، قال : فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : (( أين علي بن أبي طالب )) . الحديث(1) . وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال : خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك ، فقال : يارسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ ، فقال : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لانبي بعدي ))(2) .
وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص يوم أحد ، وهو يناوله السهام : (( ارم فداك أبي وأمي ))(3) . وكانت مفخرة سعد رضي الله عنه فكان يقول : جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد . [رواه البخاري في كتاب الفضائل](4) .
وقال صلى الله عليه وسلم في أبي طلحة رضي الله عنه : (( لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة ))(5) .
وقال صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام ـ من حديث جابر ـ : (( لكل نبي حواري وحواريّ الزبير ))(6) .
وقال صلى الله عليه وسلم في أبي عبيدة ـ من حديث أنس ـ : (( لكل أمة أمين ، وإن أميننا أيتها الأمة أبوعبيدة بن الجرّاح ))(7)[رواه البخاري] .
__________
(1) الإمام مسلم ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ 7/121 .
(2) المصدر السابق 7/120 .
(3) المصدر السابق 7/125 .
(4) الزبيدي ـ التجريد الصريح برقم 1537 .
(5) أكرم العمري ـ السيرة النبوية الصحيحة ـ 2/387 ، وقال : رواه أحمد بإسناد رجاله ثقات .
(6) الإمام مسلم ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ 7/127 .
(7) الزبيدي ـ التجريد الصريح ـ برقم 1546 .(1/318)
وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن حارثة ، من حديث عبد الله بن عمر : (( وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلىّ وإن هذا [أي : أسامة بن زيد] لمن أحب الناس إليّ بعده ))(1)[رواه البخاري].
وفي أبي بن كعب ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : (( إن الله أمرني أن أقرأ عليك : {لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ} )) . قال : وسماني؟ ، قال : نعم ، فبكى ))(2) .[رواه البخاري] .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [في غزوة ذي قرد] : (( كان خير فرساننا اليوم أبوقتادة ، وخير رجالتنا سلمة )) ، قال : ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين : سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعاً ، ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة ))(3) [رواه مسلم بطوله في كتاب الهجرة والمغازي] .
وفي الأنصار رضي الله عنهم ، عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الأنصار كرشي وعيبتي ، وإن الناس سيكثرون ، ويقلون ، فاقبلوا من محسنهم ، واعفوا عن مسيئهم ))(4)[رواه مسلم] .
وفي عامة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتسبوا أصحابي ، لاتسبوا أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولانصيفه ))(5)[رواه مسلم] .
__________
(1) المصدر السابق برقم 1540 .
(2) المصدر السابق برقم 1546 .
(3) المنذري ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم1176 .
(4) الإمام مسلم ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ 7/174 .
(5) المصدر السابق 7/188 .(1/319)
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يثني على أصحابه خيراً ، إكراماً لما يبذلونه من التضحيات والفداء ، وتثبيتاً لقلوبهم ، وتحفيزاً لهممهم ، وشحذاً لعزائمهم ، وهو أمر ينبغي للدعاة أن يتنبهوا إليه ، مع الحذر من المبالغة فيه ، أو الإكثار ، أو وضعه في غير مواضعه . فربما فقد الثناء بذلك أثره المرجو ، بل ربما استحال الثناء ملقاً ومداهنة ، وتضليلاً ، إذا لم يكن بقدره ، وفي مواضعه .
هـ - إنزال الناس منازلهم :
ومن إكرام الناس ، وتأليف قلوبهم ، أن يُنزل ذوو الهيئات والأقدار منازلهم ، فيقدم المتقدم منهم ، ويكرم الكريم في قومه ، وأهله ، ويعامل بما يناسب منزلته ، فإن ذلك أحرى أن يؤلف الله به قلوبهم على الحق والهدى ، وأن يكونوا سبباً لهداية من دونهم من أقوامهم .(1/320)
ومن ذلك ما أخرجه ابن إسحاق عن عدي بن حاتم الطائي ، قال : (( فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : (( من الرجل؟ )) ، فقلت : عدي بن حاتم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بي إلى بيته ، فو الله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً ، تكلمه حاجتها . قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بملك ، قال : ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا دخل بي بيته ، تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً ، فقذفها إليّ ، فقال : (( اجلس على هذه )) ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : (( بل أنت )) ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض . قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم قال : (( إيه ياعدي بن حاتم ، ألم تك ركوسياً؟ )) ، قال : قلت : بلى . قال : (( أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ )) ، قال : قلت : بلى ، قال : (( فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك )) ، قال : قلت : أجل والله . وقال : وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يجهل ، ثم قال : (( لعلك ياعدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ، ما ترى من حاجتهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لايوجد من يأخذه . ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لاتخاف . ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم )) ، قال : فأسلمت ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/580 .(1/321)
ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق ـ أيضاً ـ عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال : (( خرجت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت رجلاً من بني حنيفة ، لايشعرون من هو ، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( أتدرون من أخذتم؟ ، هذا ثمامة بن أثال الحنفي ، أحسنوا إساره )) . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، فقال : (( اجمعوا ماكان عندكم من طعام ، فابعثوا به إليه )) ، وأمر بلِقْحته أن يغدى عليه بها ويراح ، فجعل لايقع من ثمامة موقعاً ، ويأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : (( أسلم ياثمامة )) ، فيقول : إيها يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن ترد الفداء فسل ما شئت ، فمكث ما شاء الله أن يمكث . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً : (( أطلقوا ثمامة )) ، فلما أطلقوه خرج حتى أتى البقيع ، فتطهر ، فأحسن طهوره ، ثم أقبل ، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ))(1) .
ومن ذلك ما أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، (( أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيت مزحوم ، فقام بالباب ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً ، فلم ير برحاء ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رداءه فلفّه ، ثم رمى به إليه ، فقال : (( اجلس عليه )) ، فأخذه جرير ، فضمه ، ثم قبّله ، ثم ردّه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : أكرمك الله يارسول الله كما أكرمتني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ))[رواه الطبراني في الصغير والأوسط . قال الهثمي : وفيه عون بن عمرو القيسيّ وهو ضعيف](2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/638 .
(2) الهيثمي – مجمع الزوئد 8/15 .(1/322)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : دخل عيينة بن حصن رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبوبكر وعمر رضي الله عنهما ، وهم جلوس جميعاً على الأرض ، فدعا لعيينة بنمرقة ، فأجلسه عليها ، وقال : (( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ))(1) .
وعن أبي راشد بن عبد الرحمن رضي الله عنه ، قال : (( قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في مائة رجل من قومي ...[إلى أن قال :] ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما اسمك ومن أنت؟ )) ، فقلت : أنا أبومعاوية بن عبد اللات والعزى . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بل أنت أبوراشد بن عبد الرحمن )) ، وأكرمني ، وأجلسني إلى جانبه ، وكساني رداءه ، وأعطاني حداه ، ودفع إليّ عصاه ، وأسلمت . فقال للنبي صلى الله عليه وسلم من جلسائه : يارسول الله إنا نراك قد أكرمت هذا الرجل ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هذا شريف قومه ، فإذا أتاكم شريف قومه فأكرموه ))(2) .
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، ينزل الناس منازلهم ، ويكرم ذوي الهيئات والمراتب في أقوامهم ، ويوصي أصحابه بذلك ، تأليفاً لقلوب هؤلاء ، ووفاء بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق ، وإقرار المروءات ، وهذا ما ينبغي للدعاة أن يقوموا به ، ويحرصوا عليه ، في دعوتهم الناس إلى الهدى والرشاد .
و - البذل والعطاء :
__________
(1) المصدر السابق 8/16 .
(2) المصدر السابق 8/16 ، وفي صحيح الجامع الصغير للألباني مختصراً بلفظ : "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" برقم 269 ، وأشار إلى مجموع طرقه 1/111 .(1/323)
ومن سبل الإكرام التي يتألف بها الداعية قلوب المدعوين السخاء والبذل والعطاء ، فيما يتمكن من بذله وعطائه ، من مال ، أو جاه ، أو ضيافة ، أو ما أشبه ذلك من أوجه البر ، وصنوف البذل والجود ، فإن البذل والعطاء يقع في نفوس الناس بموقع ، بل إنه كالغيث الذي تخصب به الأرض فتكون صالحة لإخراج النبات والزرع والشجر ، وما يجني منها من صنوف الثمار ، وطيّب الطعام .
لقد أثنى الله تعالى على المنفقين أهل البذل والعطاء ، والجود والكرم ، في آيات كثيرة :
قال الله تعالى : {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ الله ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:262] .
وقال تعالى : {وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابها وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لّمْ يُصِبها وَابِلٌ فَطَلّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:265] .
وقال تعالى : {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:274] .
وقال تعالى : { إِنّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ}[التوبة:111] .
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : (( ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلاّ أعطاه . ولقد جاءه رجل ، فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : ياقوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لايخشى الفقر . وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلاّ الدنيا ، فما يلبث إلاّ يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها )) . [رواه مسلم] .(1/324)
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، أنه قال : بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين ، فعلقه الأعراب يسألونه ، حتى اضطروه إلى سمرة ، فخطفت رداءه . فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( أعطوني ردائي ، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعماً ، لقسمته بينكم ، ثم لاتجدوني بخيلاً ، ولاكذاباً ، ولاجباناً ))[رواه البخاري] .
قال ابن إسحاق : (( وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس يتألفهم ، ويتألف بهم أقوامهم ، فأعطى أباسفيان بن حرب مئة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مئة بعير ، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة أخا بني عبد الدار مئة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام مئة بعير ، وأعطى سهيل بن عمرو مئة بعير ، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مئة بعير ، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي حليف بني زهرة مئة بعير ، وأعطى عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر مئة بعير ، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مئة بعير ، وأعطى مالك بن عوف النصري مئة بعير ، وأعطى صفوان بن أمية مئة بعير . فهؤلاء أصحاب المئين .
وأعطى دون المئة رجالاً من قريش ، منهم مخرمة بن نوفل الزهري ، وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي ، لاأحفظ ما أعطاهم ، وقد عرفت أنها دون المئة . وأعطى سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل ، وأعطى السهمي خمسين من الإبل .
قال ابن إسحاق : وأعطى عباس بن مرداس أباعر فسخطها ، فعاتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عباس بن مرداس يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كانت نهاباً تلا فيتها
وإيقاظي القوم أن يرقدوا
فأصبح نهبي ونهب العُبيدِ
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ
إلا أفائل أعطيتها
وما كان حصن ولاحابس
وما كنت دون امرئ منهما ... بكرّي على المهر في الأجرع
إذا هجع الناس لم أهجع
بين عيينة والأقرع(1/325)
فلم أعط شيئاً ولم أمنع
عديد قوائمها الأربع
يفوقان شيخي في المجمع
ومن تضع اليوم لايرفع
قال ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اذهبوا به ، فاقطعوا عني لسانه )) ، فأعطوه حتى رضي . فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(1) . وفي صحيح مسلم من حديث رافع بن خديج قال : فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ))(2) .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف القلوب بالبذل والعطاء . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه : يارسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مئة مئة ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض ، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، ولكني تألفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ))(3) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 4/492 .
(2) الإمام مسلم ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ 3/108 .
(3) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/496 .(1/326)
وقد كان لهذا العطاء والبذل أبلغ الأثر في نفوس هؤلاء القوم ـ وقد كانوا رؤوس الناس يومئذٍ ، وزعماءهم ـ حتى كان ذلك سبباً في انشراح صدورهم للإسلام ، وإقبالهم عليه . وكانوا هم بعد ذلك سبباً في دخول أقوامهم الإسلام أفواجاً . وعند مسلم عن صفوان بن أمية قال : (( أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ . قال ابن شهاب : أعطاه يوم حنين مائة من الغنم ، ثم مائة ، ثم مائة )) ، وفي مغازي الواقدي3/946 : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان يومئذٍ وادياً مملوءاً إبلاً ونعماً ، فقال صفوان : ماطابت بهذا إلاّ نفس نبي )) . قال القسطلاني في المواهب : (( وإنما أعطاه ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن داءه لايزول إلاّ بهذا الدواء وهو الإحسان فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم ))(1) .
وفي المغازي للواقدي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، قالا : حدثنا حكيم بن حزام قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين مائة من الإبل فأعطانيها ، ثم سألته مائة فأعطانيها ، ثم سألته مائة فأعطانيها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ياحكيم بن حزام ، إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولايشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول )) . قال : فكان حكيم يقول : والذي بعثك بالحق ، لاأرزأ أحداً بعدك شيئاً ، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه ، فيقول عمر : أيها الناس ، إني أشهدكم على حكيم أني أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه ))(2) .
__________
(1) القسطلاني ـ المواهب اللدنية ـ 2/368 .
(2) الواقدي ـ كتاب المغازي ـ 3/945 ، ورواه مسلم مختصراً ، كما في مختصر المنذري لمسلم برقم561 .(1/327)
ز - الرفق بالناس والتواضع لهم :
ومن سبل الإكرام ، وتأليف القلوب على الإيمان بالله وحده ، والاستجابة لداعي الحق والرشاد ، الرفق بالناس والتواضع لهم . قال تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215] .
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ}[آل عمران:159] .
وقال تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا}[الكهف:28] .
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لايعطي على العنف ، وما لايعطى على ماسواه ))[رواه مسلم] .
وعنها رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إن الرفق لايكون في شيء إلاّ زانه ، ولاينزع من شيء إلاّ شانه ))[رواه مسلم] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : بال أعرابي في المسجد ، فقام الناس إليه ، ليقعوا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء ، أو ذنوباً من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ))[رواه البخاري] .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السام عليكم ، فقلت : بل عليكم السام واللعنة ، فقال : (( ياعائشة ، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )) ، قلت : أولم تسمع ما قالوا؟ ، قال : (( قد قلت : وعليكم ))[متفق عليه] .(1/328)
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم ، ما رواه أنس رضي الله عنه قال : (( إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم ، فتنطلق به حيث شاءت )) .[رواه البخاري] .
وما أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن عدي بن حاتم رضي الله عنه ، حين وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إلى بيته ، فو الله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيتة امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً ، تكلمه حاجتها ))(1) .
وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه ، قال : (( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقلت : يارسول الله ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه ، لايدري ما دينه؟ ، فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك خطبته ، حتى انتهى إليّ ، فأتى بكرسي ، فقعد عليه ، وجعل يعلمني مما علمه الله ، ثم أتى خطبته ، فأتمّ آخرها ... ))[رواه مسلم] .
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبلٍ من ليفٍ ، وعليه إكاف من ليف ))(2) .
وعنه رضي الله عنه ، قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير ، والإهالة السنخة ، فيجيب . ولقد كان له درع عند يهودي ، فما وجد مايفكّها حتى مات ))(3) .
ح - الضيافة وحسن الاستقبال :
ومن إكرام الناس ، وتأليف قلوبهم ، لقبول الدعوة إلى الله ، حسن ضيافتهم واستقبالهم ، بله ما ينمّ عنه هذا الخلق من الديانة ، والمروءة ، وكرم المحتد .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/580 .
(2) الترمذي ـ الشمائل المحمدية ـ 333 .
(3) الترمذي ـ الشمائل المحمدية ـ 334 .(1/329)
ولقد أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام ، ووصف ضيافته وحسن استقباله لمن وفد عليه ، قال تعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ}[الذاريات:24-27] .
كما أثنى سبحانه على الأنصار في حسن استقبالهم لإخوانهم من المهاجرين ، وإيثارهم لهم على أنفسهم ، قال تعالى : { وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9] .
وقال تعالى في صفة الأبرار من عباده : {وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}[الإنسان:8،9] .
ولما نزل على رسول صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}. جمع أهل بيته ؛ أعمامه وأقاربه وأطعمهم وسقاهم ، ثم دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى ، وبلغهم ما أنزل إليه ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/37 .(1/330)
ومن ضيافة الأنصار رضي الله عنهم ، وحسن استقبالهم لإخوانهم المهاجرين إليهم ، ومواساتهم إياهم ، ما رواه الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}. قال : (( أي من كرمهم وشرف أنفسهم ، يحبون المهاجرين ، ويواسونهم بأموالهم ، قال الإمام أحمد : حدثنا حميد عن أنس ، قال : قال المهاجرون : يارسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم ، أحسن مواساة في قليل ، ولاأحسن بذلاً في كثير . لقد كفونا المؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال : (( لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم )) . قال ابن كثير : وقال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد ، قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين ، قالوا : لا ، إلاّ أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : (( أما لا ، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة )) . قال : وقال البخاري حدثنا الحكيم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبوالزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : (( لا )) ، فقالوا : أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ ، قالوا : سمعنا وأطعنا ))(1) .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه ، ويدعوهم إلى إطعام الطعام ، واستقبال الوافدين ، وإكرام الضيف . عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ))[رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح] .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 4/296 .(1/331)
وعن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته )) ، قالوا : وما جائزته يارسول الله؟ . قال : (( يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهوصدقة عليه ))[متفق عليه] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع الأضياف على أصحابه الكرام رضي الله عنهم . فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ، بسادس )) أو كما قال . وإن أبابكر جاء بثلاثة ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة... )) الحديث [متفق عليه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( أبا هرّ ))، فقلت : لبيك يارسول الله ، قال : (( الحق أهل الصفة ، فادعهم )) ، قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لايأوون على أهل ولامال ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم ، وأصاب منها ، وأشركهم فيها )) .[متفق عليه] .(1/332)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني مجهود ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلاّ ماء ثم أرسل إلى أخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلاّ ماء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من يضيف هذه الليلة؟ )) ، فقال رجل من الأنصار : أنا يارسول الله ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء؟ ، فقالت : لا ، إلاّ قوت صبياني ، قال : علّليهم بشيء ، وإذا أرادوا العشاء فنوّميهم . وإذا دخل ضيفنا ، فأطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل . فقعدوا ، وأكل الضيف ، وباتا طاويين . فلما أصبح ، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة ))[متفق عليه] .
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يتنافسون في إكرام ضيوف الإسلام ، وحسن استقبالهم ، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترغيباً في دين الله ، وتأليفاً لقلوب الناس عليه .
ط - المكافأة والجائزة :
ومن سبل الإكرام ، وتحفيز النفوس المؤمنة ، وتشجيعها على ملازمة فعل الخير ، والمضي فيه المكافأة والجائزة . وهي إما معنوية ، وقد تقدم ذكر جملة منها ؛ كلين الكلام ، والتبسم وإظهار البشاشة ، والعفو والإحسان ، والثناء وذكر الفضل لأهله ، وإنزال الناس منازلهم ، والرفق والتواضع للناس ، ونحوها . وإما مكافآت مادية حسية ، وقد ورد في القرآن الكريم صور متنوعة منها ، جزاءً على حسن الأعمال ، وصدق النوايا ، ونبل المقاصد ، وذلك في آيات كثيرة جداً ، منها :(1/333)
قال الله تعالى في عبده وخليله إبراهيم : {وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ}[الأنبياء:68ـ72] .
وقال تعالى عن إسماعيل : {فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنّ هََذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات:103ـ107] .
وفي يونس قال تعالى : {فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ . لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ . وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ . وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآمَنُواْ فَمَتّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[الصافات:143ـ148] .
وفي زكريا قال تعالى : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ}[الأنبياء:90] .
وقال تعالى في أهل القرى : {وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ}[الأعراف:96] .
وقال في أهل الكتاب : {وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ . وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}[المائدة:65ـ66] .(1/334)
وقال في أهل الاستقامة : {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا الله ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ في الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيَ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ . نزلاً مّنْ غَفُورٍ رّحِيمٍ}[فصلت:30ـ32] .
وفي المستغفرين قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً . يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً}[نوح:10ـ12] .
وفي عامة أهل الإيمان . قال تعالى في جزائهم العاجل: {وَعَدَ الله الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}[النور:55] .
وفي جزائهم الآجل : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ}[لقمان:8] .
وفي خاصة المتقين قال تعالى : { هََذَا ذِكْرٌ وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ . جَنّاتِ عَدْنٍ مّفَتّحَةً لّهُمُ الأبْوَابُ . مُتّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ . وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ . هََذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ . إِنّ هََذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نّفَادٍ}[ص:49ـ54] .(1/335)
ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكافأة وحسن الجزاء ، على الأعمال الصالحة . مارواه أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأله في أثره ، فليصل رحمه ))[متفق عليه] . وعنه رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من كانت الآخرة همه ، جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة .. ))(1)الحديث .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكافئ أصحابه ـ أحياناً ـ مكافأة مادية ، جزاء عمل صالح ، أو موقف نبيل . روى ابن إسحاق في سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي ، قول عبد الله بن أنيس ، بعد أن ذكر قدومه على خالد بن سفيان وقتله ، ثم رجوعه إلى المدينة قال : (( فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني ، قال : (( أفلح الوجه )) ، قلت : قد قتلته يارسول الله . قال : (( صدقت )) ثم قام بي ، فأدخلني بيته ، فأعطاني عصاً ، فقال : (( أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس )) . قال : فخرجت بها على الناس ، فقالوا : ماهذه العصا؟ قلت : أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرني أن أمسكها عندي . قالوا : أفلا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله لم ذلك؟ ، قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يارسول الله ، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال : (( آية بيني وبينك يوم القيامة . إن أقل الناس المتخصرون يومئذ )) ، قال : فقرنها عبد الله بن أنيس بسيفه ، فلم تزل معه حتى مات ، ثم أمر بها فضمّت في كفنه ، ثم دفنا جميعاً ))(2) .
__________
(1) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير برقم 6510 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/620 .(1/336)
وممن كرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافأه أبوطلحة رضي الله عنه . عن أنس بن مالك رضي الله عنه : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ، ثم انصرف إلى البدن فنحرها ، والحجام جالس ، وقال بيده عن رأسه ، فحلق شقه الأيمن ، فقسّمه فيمن يليه ، ثم قال : (( احلق الشقّ الآخر )) ، فقال : (( أين أبوطلحة؟ )) ، فأعطاه إياه ))(1) .
ومن المكافأة ، مارواه مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، قال : (( غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن ، فبينا نحن نتضحّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء رجل على جملٍ أحمر ، فأناخه ، ثم انتزع طلقاً من حقبه ، فقيّد به الجمل ، ثم تقدم يتغدى مع القوم ، وجعل ينظر ، وفينا ضعْفة ورقّة من الظهر ، وبعضنا مشاة ، إذ خرج يشتد ، فأتى جمله ، فأطلق يده . ثم أناخه ، فقعد عليه ، فأثاره ، فاشتد به ، فاتّبعه رجلٌ على ناقةٍ ورقاء . قال سلمة : وخرجت أشتد ، وكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل ، فأنخته ، فلما وضع ركبته في الأرض ، اخترطت سيفي ، فضربت رأس الرجل ، فندر ، ثم جئت بالجمل أقوده ، عليه رحله وسلاحه . فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس معه ، فقال : (( من قتل الرجل؟ )) ، قالوا : ابن الكوع ، قال : (( له سلبُه أجمع ))(2)[رواه مسلم] .
__________
(1) المنذري ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم 730 .
(2) المنذري ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم 1144 .(1/337)
ومن المكافأة ، ما رواه الطبراني في الأوسط ، عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بأعرابي ، وهو يدعو في صلاته ، وهو يقول : (( يا من لاتراه العيون ، ولاتخالطه الظنون ، ولايصفه الواصفون ، ولاتغيره الحوادث ، ولايخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل ، وأشرق عليه النهار ، وما تواري من سماءٍ سماءً ، [وفي رواية : ولاتواري منه سماءٌ سماءً] ، ولا أرض أرضاً ، ولابحر مافي قعره ، ولاجبل ما في وعره . اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه )) . فوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعرابي رجلاً ، فقال : (( إذا صلّى فائتني به )) . فلما صلى أتاه ، وقد كان أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب من بعض المعادن . فلما أتاه الأعرابي ، وهب له الذهب ، وقال : (( ممن أنت يا أعرابي )) ، قال : من بني عامر بن صعصعة يارسول الله ، قال : (( هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ )) ، قال : للرحم بيننا وبينك يارسول الله ، قال : (( إن للرحم حقاً ، ولكن وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عزوجل ))(1) .
ي - البشرى :
__________
(1) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 10/157 ، وقال : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبوعبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة .(1/338)
ومن سبل الإكرام وتأليف القلوب ، البشارة . فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لايترك فرصة لإدخال السرور والبهجة على نفوس أصحابه رضي الله عنهم إلاّ اغتنمها ، فكان يسارع صلى الله عليه وسلم إلى زفّ البشرى إليهم كلما علم أمراً فيه خير تُسَرُّ به نفوسهم . وسنورد الأمثلة على ذلك ، بعد أن نقف بين يدي كتاب الله تعالى لنرى كيف أن الله جل جلاله ، يبادر المؤمنين الصالحين من عباده بالبشرى ، ليرضي نفوساً طالما سعت إلى مرضاته ، ويسرّ قلوباً طالما وجلت هيبة له ، وخوفاً من سخطه .
قال الله تعالى عن عبده وخليله إبراهيم : {وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبّي سَيَهْدِينِ . رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينِ . فَبَشّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}[الصافات:99ـ101] .
وقال تعالى عنه أيضاً : {إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ}[الصافات:111،112] .
وقال تعالى عن امرأة إبراهيم : {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}[هود:71] .
وقال تعالى عن زكريا : {يَا زَكَرِيَّا إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً}[مريم:7] .
وقال تعالى : { فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي في الْمِحْرَابِ أَنّ الله يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ}[آل عمران:39] .
وقال تعالى عن مريم البتول : {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً في الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ}[آل عمران:45] .
وقال تعالى مبشراً للمؤمنين : {وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ}[البقرة:25] .(1/339)
وقال تعالى : {وَاتّقُواْ الله وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ مّلاَقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:223] .
وقال تعالى : {وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ}[يونس:2] .
وقال تعالى : {وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ}[الحج:34] .
وقال تعالى : {وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج:37] .
وقال تعالى : {وَبَشّرِ الصّابِرِينَ}[البقرة:155] .
وقال تعالى : { وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوَاْ إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشّرْ عِبَادِ}[الزمر:17] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً .
وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وسائر المؤمنين ، بشارات خاصة ، وبشارات عامة .
فممن بشرهم صلى الله عليه وسلم في أحوال خاصة كعب بن مالك ، حين تاب الله عليه بعد تخلفه عن تبوك ، قال كعب : (( فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : (( أبشر بخير يومٍ مرّ عليك مذ ولدتك أمك )) ، فقلت : أمن عندك يارسول الله أم من عند الله؟ ، قال : (( لا ، بل من عند الله عزوجل )) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه )) .الحديث [متفق عليه] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها [بعد نزول تبرئتها من حديث الإفك] : (( أبشري ياعائشة ، أمّا الله فقد برّأك ))(1) .
وعن عبد الله بن أبي أوفى ، وعن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بشروا خديجة ببيت في الجنة من قصب ، لاصخب فيه ولانصب ))(2) .
__________
(1) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم 38 .
(2) المصدر السابق برقم 2826 .(1/340)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته ، ثم خرج ، قال : (( فقلت : لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأكونن معه يومي هذا ، قال : فجاء المسجد ، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : خرج ، ووجّه ها هنا . فتخرجت على إثره ، أسأل عنه ، حتى دخل بئر أريس ، فجلست عند الباب ، وبابها من جريد ، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته ، فتوضأ ، فقمت إليه ، فإذا هو جالس على بئر أريس ، وتوسط قُفّها ، وكشف عن ساقيه ، ودلاهما في البئر . فسلمت عليه ، ثم انصرفت ، فجلست عند الباب ، فقلت : لأكوننّ بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم . فجاء أبوبكر رضي الله عنه ، فدق الباب ، فقلت : من هذا؟ ، فقال : أبوبكر ، فقلت : على رسلك ، ثم ذهبت ، فقلت : يارسول الله ، هذا أبوبكر يستأذن ، فقال : (( ائذن له ، وبشره بالجنة )) ، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر : ادخل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة ، فدخل أبوبكر ، فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ، ودلى رجليه في البئر ، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكشف عن ساقيه . ثم رجعت فجلست ، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني ، فقلت : إن يرد الله بفلان خيراً ـ يريد أخاه ـ يأت به . فإذا إنسان يحرك الباب ، فقلت : من هذا؟ ، فقال : عمر بن الخطاب ، فقلت : على رسلك؟ ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلمت عليه ، فقلت : هذا عمر بن الخطاب يستأذن ، فقال : (( ائذن له وبشره بالجنة )) ، فجئت ، فقلت له : ادخل ، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة . فدخل ، فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف ، عن يساره ، ودلّى رجليه في البئر ، ثم رجعت فجلست ، فقلت : إن يرد الله بفلان خيراً يأت به ، فجاء إنسان يحرك الباب ، فقلت : من هذا؟ ، فقال : عثمان بن عفان ، فقلت : على رسلك ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/341)
فأخبرته ، فقال : (( ائذن له ، وبشره بالجنة )) ، على بلوى تصيبه ، فجئت ، فقلت له : ادخل ، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، على بلوى تصيبك ، فدخل فوجد القف قد ملئ ، فجلس وجاهه ، من الشق الآخر )) .(1)[رواه البخاري] .
وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، بحسن العاقبة فيما أصابهم من بلاء ، تقوية لنفوسهم ، وتسلية لهم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أبشر عمار ، تقتلك الفئة الباغية ))(2) ، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بعمار بن ياسر وبأهله يعذبون في الله عزوجل ، فقال : (( أبشروا آل ياسر موعدكم الجنة ))(3) .
ومن ذلك ما رواه عمرو بن عوف الأنصاري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباعبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها ، فقدم بمال من البحرين ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة ، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف ، فتعرضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : (( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ )) ، فقالوا : أجل يارسول الله ، فقال : (( أبشروا ، وأمّلوا مايسركم ، فو الله مالفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ))[متفق عليه] .
__________
(1) الزبيدي ـ التجريد الصريح ـ برقم 1525 .
(2) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم31 .
(3) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 9/293 ، وقال : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة .(1/342)
وعن عبد الله بن مسعود قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجوع في وجوه أصحابه ، فقال : (( أبشروا فإنه سيأتي عليكم زمان يغدى على أحدكم بالقصعة من الثريد ويراح عليه بمثلها )) ، قالوا يارسول الله : نحن يومئذٍ خير ، قال : (( بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ ))(1) .
وعن أم العلاء رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أبشري يا أم العلاء ، فإن مرض المسلم ، يذهب خطاياه ، كما تذهب النار خبث الحديد ))(2) .
ومن بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وسائر المؤمنين ، ما كان يبشرهم به من غنائم الأجر على صالح الأعمال .
عن أبي موسى رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أبشروا ، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم ))(3) .
وعن جبير رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أبشروا ، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به ، فإنكم لن تهلكوا ، ولن تضلوا بعده أبداً ))(4) .
وعن بريدة ، وأنس ، وسهل بن سعد رضي الله عنهم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد ، بالنور التام يوم القيامة ))(5) .
وعن سهل بن حنيف ، وزيد بن خالد الجهني ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( بشر الناس أنه من قال : لاإله إلاّ الله وحده لاشريك له ، وجبت له الجنة ))(6) .
__________
(1) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 10/323 ، وقال : رواه البزار وإسناده جيد .
(2) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم 37 .
(3) المصدر السابق برقم 33 .
(4) المصدر السابق برقم 34 .
(5) المصدر السابق برقم 2823 .
(6) المصدر السابق برقم 2824 .(1/343)
وعن أبيّ رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( بشر هذه الأمة بالسناء ، والدين ، والرفعة ، والنصر ، والتمكين في الأرض . فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب ))(1) .
خامساً - الشورى :
ومن وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة ، الشورى بين المؤمنين وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بقوله : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى:38] ، وسُمِّيت السورة التي أنزل فيها هذا الوصف بسورة (( الشورى )) ، تعظيماً لشأن الشورى ، وبياناً لأهميتها ، وعظيم قدرها . كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها ، فقال تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ}[آل عمران:159] ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مستغنياً عن مشاورة الناس بما كان يتنزل عليه من الوحي من رب العالمين ، ولكن ليعلم الناس أن الشورى عبادة أرشد الله إليها ، ورغب عباده فيها ، لما فيها من المصالح العظيمة والعواقب المحمودة . ومن هذه المصالح :
1- أنها رحمة للأمة ، ومصدر من مصادر الرشد والهداية إلى الحق والصواب . إذ إنها مظنة الرأي الصائب ، فإجماع العقول المستقيمة ، والفطر السليمة على رأي يدل على أنه أقرب شيء إلى الحق ، إن لم يكن هو الحق عينه ، ولاأقل من أن تبرز في الشورى الآراء المتعددة ، فيسهل الترجيح بينها ، واختيار أفضلها وأقربها إلى الصواب ، فإن الشورى قد جعلت لأمته من بعده مصدراً لاستلهام الحق ، وسبباً من أقوى الأسباب للوصول إلى الصواب .
__________
(1) المصدر السابق برقم 2825 .(1/344)
2- إن في الشورى حفظاً للأمة ، وبعداً بها عن القهر والجور والاستبداد ، فإخضاع الجماعة لرأي الواحد منهم وأمره ، مظهر من مظاهر القهر والاستبداد ، إذ إن الواحد ، مظنة الخطأ ، والهوى ، والمصلحة الفردية ، والتحيز ، في كثير من الأحيان . أما الشورى فإنها سبب لانتفاء كل هذه الأخطاء ، وتحقيق مصلحة الجماعة ، وتوخي الحق بعيداً عن الهوى ، والتحيز ، والاستبداد .
3- إن الشورى مظهر للمساواة بين الناس ، إذ يشارك فيها أفراد عديدون ، على مستويات مختلفة في السن ، والعلم ، والجاه ، والنسب ، ونحوها ، فيكون ذلك سبباً للتآلف ، والمحبة ، والشعور بالعدل ، والمساواة .
4- والشورى مظهر للتعاون بين أفراد الجماعة المسلمة ، ويكون هذا التعاون في استخلاص الرأي الذي يحقق للجميع الخير ، ويوصلهم إلى الحق والصواب .
5- وفي الشورى إعطاء الثقة للآخرين ، فإنك إذا شاورت أخاك في أمرٍ ، فإنك إنما تنبئه عن ثقتك بعقله ، واستحسانك لرأيه ، مع إشعاره بأن له عندك منزلة وقدراً ، مما يورث التواد ، والتعاطف بين المؤمنين .
6- والشورى إشعار لكل من يشارك فيها بمسئوليته تجاه أمته ، ودينه ، كما أنها إشعار له بأنه أهل لتحمل هذه المسئولية ، والقيام بها .
7- وبالشورى تطمئن الجماعة المسلمة ، إلى ما يصدر من آراء ، وترضى بما يتوصل إليه من النتائج ، إذ إن الشورى مظهر للاجتهاد الذي لايلام بعده المجتهد . فينفي عن الجماعة المسلمة شر التلاوم ، والتشاجر ، والتدابر ، وكفى بذلك نعمة من الله وفضلاً .
8- وبالشورى تستخرج كنوز العقول ، من الحكمة ، والفطنة ، وسداد الرأي ، وحسن التدبير ، وتتجلى فيها المواهب ، وهذه ثروة الأمم الحقيقية التي لاغناء لأمة عنها .
9- إنها مظهر صادق لاجتماع الكلمة ، ووحدة الصف ، والهدف ، مما يقوي شوكة الجماعة المسلمة ، ويشعر أفرادها بالتماسك ، والتواصل ، والترابط فيما بينهم .(1/345)
10- إنها تعبير عن الولاء ، والتفاف حول الإمام ، أو القائد ، أو الأمير ، وبذل الجهد في استخلاص الرأي السديد ، لتعزيز موقفه ، ومؤازرته ، والاجتماع تحت لوائه .
وهذه المصالح الشرعية الدينية منها والدنيوية المتحققة من الشورى ، توضح بعضاً من الحكمة في وصف القرآن الكريم للمؤمنين بالشورى ، وتوجيههم إلى فعلها ، وأمر الله تعالى لرسوله بأن يشاور من معه من المؤمنين ، ليكون أسوة لكل صاحب ولاية ، في مشاورة من معه من أتباعه ورعيته .
وللشورى صور ثلاث ، نوضحها فيما يلي :
الصورة الأولى :
أن يعرض شخص رأيه ومشورته على قائده وأميره فيقبلها منه ، ويعمل بها : فمن ذلك مشورة الحباب بن المنذر على الرسول صلى الله عليه وسلم ، حين نزل الرسول صلى الله عليه وسلم بأدنى ماء من بدر ، فعرض عليه الحباب بن المنذر رأياً قبله منه صلى الله عليه وسلم ، وعمل به . قال ابن إسحاق : فحدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا : أن الحباب بن المنذر بن الجموح ، قال : يارسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولانتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ، قال : (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )) ، فقال : يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نغوّر ماوراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً ، فنملؤه ماءً . ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولايشربون . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد أشرت بالرأي )) ، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماءٍ من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغوّرت ، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه ، فمليء ماءً ، ثم قذفوا فيه الآنية .(1/346)
ومن ذلك مشورة سعد بن معاذ رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء العريش في بدر ، قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أنه حُدِّث : أن سعد بن معاذ قال : يانبي الله، ألانبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعدّ عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام يانبي الله ، مانحن بأشد لك حباً منهم ، ولوظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ، ويجاهدون معك . فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ، ثم بُني لرسول صلى الله عليه وسلم عريش ، فكان فيه ))(1) .
ومن هذه الصورة للشورى ـ أيضاً ـ ما كان يعرضه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأي ، فينزل القرآن موافقاً لرأيه ، مما يؤكد على أن هذه الصورة من الشورى مشروعة ، بل مستحبة ، ومطلوبة . فكل من رأى رأياً فيه مصلحة للمسلمين فيستحب له أن يعرض رأيه على ولي أمرهم ، لتتحقق بذلك المصلحة لهم ، بل قد يكون واجباً في بعض الأحيان إن كان في عدم إظهار رأيه ضرر عليهم . عن أنس ، وابن عمر أن عمر قال : (( وافقت ربي في ثلاث ، قلت : يارسول الله ، لواتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ ، فنزلت : {وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى}، وقلت : يارسول الله ، يدخل على نسائك البر والفاجر ، فلو أمرتهن يحتجبن؟ ، فنزلت آية الحجاب . واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة ، فقلت : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن ، فنزلت كذلك )) . وفي رواية لابن عمر ، قال : قال عمر : (( وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر )) .[متفق عليه] .
الصورة الثانية :
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/620 .(1/347)
أن يطلب الإمام أو القائد أو الأمير أو غيرهم من شخص أن يشير عليه في أمرٍ ما ، أو أن يفوّضه في الرأي أو الحكم . فمن الحالة الأولى ، مارواه البخاري في كتاب المغازي ، عن الزهري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الكتاب [الذي صالح عليه قريشاً في غزوة الحديبية] قال لأصحابه : (( قوموا ، فانحروا ، ثم احلقوا )) ، قال : فو الله ما قام منهم رجل ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، دخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يانبيّ الله أتحب ذلك؟ ، اخرج ، ثم لاتكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك ، وتدعو حالقك فيحلقك . فخرج ، فلم يكلم أحداً منهم ، حتى فعل ذلك ؛ نحر بُدْنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 4/178 .(1/348)
ومن الحالة الثانية ، وهي تفويض الرأي أو الحكم لمن هو أهل لذلك ، إنزاله صلى الله عليه وسلم أمر بني قريظة ، إلى حكم سعد بن معاذ ورأيه . قال ابن إسحاق : فلما حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار ، قد وطئوا له بوسادة وأدم ، وكان رجلاً جسيماً جميلاً ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون : يا أباعمرو ، أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاّك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه ، قال : لقد آن لسعد أن لاتأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل ، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمع منه . فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قوموا إلى سيّدكم )) ، فأما المهاجرون من قريش ، فيقولون : إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ، وأما الأنصار فيقولون : قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاموا إليه ، فقالوا : يا أبا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ .
قالوا : نعم ، قال : وعلى من ها هنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نعم )) ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء .(1/349)
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : (( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ))(1) .
الصورة الثالثة :
أن يشاور الإمام أو الأمير أو القائد القوم من أتباعه ، ويسمع من كل من له رأي منهم ، كبيراً كان أم صغيراً ، ثم يختار من أقوالهم ما يترجح عنده صوابه ، ويعزم عليه متوكلاً على الله ، لقول الله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى الله إِنّ الله يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ}[آل عمران:159] .
ومن ذلك مشاورته صلى الله عليه وسلم أصحابه قبيل معركة بدر ، قال ابن إسحاق : وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبوبكر الصديق ، فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب ، فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو ، فقال : يارسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ، لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له به .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/239 .(1/350)
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أشيروا عليّ أيها الناس )) ـ وإنما يريد الأنصار ـ وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة ، قالوا : يارسول الله ، إنا برءاء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا ، فأنت في ذمتنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألاّ تكون الأنصار ترى عليها نصره إلاّ ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يارسول الله؟ ، قال : (( أجل )) ، قال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ماجئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يارسول الله لما أردت ، فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق ، لواستعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله . فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشّطه ذلك . ثم قال : (( سيروا ، وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/615 .(1/351)
ومن ذلك مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبيل معركة أحد ، في البقاء في المدينة ، والتحصن بها ، أو الخروج إلى العدو خارج المدينة . فتأمل معي ـ بارك الله فيك ـ هذه الشورى العظيمة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، قبيل المعركة بيومٍ واحد . وما برز فيها من كوامن الإخلاص ، وأمارات الفداء والتضحية ، لدين الله ، من أولئك الأسود الأشاوس ، حزب الله ، وحزب رسوله ، الأبرار . لقد شاور صلى الله عليه وسلم أصحابه ، أيبقون في المدينة ، ويتحصنون بها من عدوهم الذي نزل بعدده وعدته خارجها ، أم يخرجون إلى عدوهم ويقاتلونه خارجها ، ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى البقاء في المدينة إلاّ أنه نزل عند رغبة الذين أشاروا بالرأي الآخر وهو الخروج إلى العدوّ وقتاله خارج المدينة إرضاءً لإخلاصهم وصدقهم في لقاء عدوهم ، فقبل مشورتهم ، ونزل عند رغبتهم ، وفي ذلك حكمة بالغة ، وفوائد جمّة ، أرادها الله تعالى ، وهدى إليها رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وسنورد هذه الشورى بكاملها ، كما وردت عند الواقدي في كتابه (( المغازي )) ، قال : فحدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، قال : ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : (( أيها الناس ، إني رأيت في منامي رؤيا ؛ رأيت كأني في درع حصينة ، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته ، ورأيت بقراً تذبح ، ورأيت كأني مردف كبشاً )) . فقال الناس : يارسول الله ، فما أولتها؟ ، قال : (( أما الدرع الحصينة فالمدينة ، فامكثوا فيها ، وأما انقصام سيفي من عند ظبتة فمصيبة في نفسي ، وأما البقر المذبّح ، فقتلى من أصحابي ، وأما مردفٌ كبشاً ، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله ... )) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أشيروا عليّ )) . ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ يخرج من المدينة(1/352)
لهذه الرؤيا . فرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن يوافق على مثل ما رأى ، وعلى ما عبر عليه الرؤيا . فقام عبد الله بن أبيّ فقال : يارسول الله ، كنا نقاتل في الجاهلية فيها ، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ، ونجعل معهم الحجارة . والله ، لربما مكث الولدان شهراً ، ينقلون الحجارة إعداداً لعدونا ، ونشبّك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية ، وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ، ونقاتل بأسيافنا في السكك . يا رسول الله ، إن مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قطّ ، وما خرجنا إلى عدوّنا قط إلاّ أصاب منا ، وما دخل علينا قط إلاّ أصبناه ، فدعهم يارسول الله ، فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين ، لم ينالوا خيراً . يارسول الله ، أطعني في هذا الأمر ، واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي ، وأهل الرأي منهم ، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رأي ابن أبيّ ، وكان ذلك رأي الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( امكثوا في المدينة ، واجعلوا النساء والذراري في الآطام ، فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة ، فنحن أعلم بها منهم ، وارموا من فوق الصياصي والآطام )) ، فكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن .(1/353)
فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً ، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى عدوّهم ، ورغبوا في الشهادة ، وأحبوا لقاء العدّو : اخرج بنا إلى عدونا . وقال رجال من أهل السنّ وأهل النيّة ، منهم حمزة بن عبد المطلب ، وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك بن ثعلبة ، في غيرهم من الأوس والخزرج : إنّا نخشى يارسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم ، فيكون هذا جرأة منهم علينا . وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجلٍ فظفّرك الله عليهم ، ونحن اليوم بشرٌ كثير ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به ، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا . ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرى من إلحاحهم كاره ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم ، يتسامون كأنهم الفحول .
وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري : يارسول الله ، نحن والله بين إحدى الحسنيين ، إما يظفّرنا الله بهم فهذا الذي نريد ، فيذلّهم الله لنا ، فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر ، فلايبقى منهم إلاّ الشريد ، والأخرى يارسول الله ، يرزقنا الله الشهادة ، والله يارسول الله ما أبالي أيهما كان ، إن كلاً لفيه الخير . فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إليه قولاً ، وسكت .
فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه : والذي أنزل عليك الكتاب ، لاأطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة . وكان يقال : كان حمزة يوم الجمعة صائماً ، ويوم السبت صائماً ، فلاقاهم وهو صائم .
قالوا : وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم : يارسول الله ، أنا أشهد أن البقر المذبّح قتلى من أصحابك وأنى منهم ، فلم تحرمنا الجنة؟ ، فو الذي لاإله إلاّ هو لأدخلنّها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بمَ؟ )) ، قال : إني أحب الله ورسوله ، ولا أفر يوم الزحف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت . فاستشهد يومئذ .(1/354)
وقال إياس بن أوس بن عتيك : يارسول الله ، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح ، نرجو يارسول الله أن نذبّح في القوم ، ويذبَّح فينا ، فنصير إلى الجنة ، ويصيرون إلى النار ، مع أني يارسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها ، فيقولون : حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها . فيكون هذا جرأة لقريش ، وقد وطئوا سعفنا ، فإذا لم نذبّ عن عرضنا لم نزرع . وقد كنا يارسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا ، ولايطمعون بهذا منّا ، حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا . فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك ، وعرفنا مصيرنا ، لانحصر أنفسنا في بيوتنا .(1/355)
وقام خيثمة أبوسعد بن خيثمة فقال : يارسول الله ، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع ، وتستجلب العرب في بواديها ، ومن تبعها من أحابيشها ، ثم جاءونا قد قادوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، حتى نزلوا بساحتنا ، فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا ، فيجرّئهم ذلك علينا ، حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا أطرافنا ، ويضعوا العيون والأرصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ، ويجترئ علينا العرب حولنا ، حتى يطمعوا فينا ، إذا رأونا لم نخرج إليهم ، فنذبّهم عن جوارنا ، وعسى الله أن يظفّرنا بهم ، فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الأخرى فهي الشهادة . لقد أخطأتني وقعة بدر ، وقد كنت عليها حريصاً . لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج ، فخرج سهمه ، فرزق الشهادة ، وقد كنت حريصاً على الشهادة . وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة ، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : الحق بنا ، ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، وقد والله يارسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ، ورق عظمي ، وأحببت لقاء ربي ، فادع الله يارسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقتل بأحد شهيداً .
وقالوا : قال أنس بن قتادة : يارسول الله ، هي إحدى الحسنيين ، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر في قتلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أخاف عليكم الهزيمة .(1/356)
قالوا : فلما أبوا إلاّ الخروج ، صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس ، ثم وعظ الناس ، وأمرهم بالجدّ والجهاد ، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا . ففرح الناس بذلك ، حيث أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إلى عدوهم . وكره ذلك المخرج بشرٌ كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم . ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالناس ، وقد حشد الناس ، وحضر أهل العوالي ، ورفعوا النساء في الآطام . فحضرت بنو عمرو بن عوف ولفّها ، والنبيت ولفّها ، وتلبسوا السلاح . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ، ودخل معه أبوبكر وعمر رضي الله عنهما ، فعمّماه ، ولبّساه . وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره ، ينتظرون خروجه . فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ، فقالا : قلتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلتم ، واستكرهتموه على الخروج ، والأمر ينزل عليه من السماء ، فردّوا الأمر إليه ، فما أمركم فافعلوه ، وما رأيتم له فيه هوى أو رأي فأطيعوه . فبينا القوم على ذلك من الأمر ، وبعض القوم يقول : القول ما قال سعد ، وبعضهم على الشخوص ، وبعضهم للخروج كاره ، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته ، وقد لبس الدرع فأظهرها ، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم ، كانت عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد . واعتمّ ، وتقلّد السيف . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ندموا جميعاً على ما صنعوا ، وقال الذين يلحّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان لنا أن نلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ يهوى خلافه ، وندّمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام . فقالوا : يارسول الله ، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدالك ، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك ، فقال : (( دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولاينبغي لنبيّ إذا لبس(1/357)
لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه .. )) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه ، امضوا على اسم الله ، فلكم النصر ما صبرتم ))(1) .
فهذه الشورى العظيمة مثال لكل قائد في جنده ، أو رائد في قومه ، أو متبوع في أتباعه ، يسمع من الصغير كما يسمع من الكبير ، ويقبل الرأي الذي يتوخى صوابه ، وإن خالف رأيه ، ويحلم على الجميع ، فإذا عزم فلا تردد ، ولاتخاذل ، بل توكل على الله ، ورضىً بما يكتبه الله ويقدره .
سادساً - إسناد المهمات إلى الأكفاء بحسب الطاقات :
من وسائل التربية والتزكية في الوسط الإيماني للدعوة ، إسناد المهمات إلى الأكفاء ، كل على قدر طاقته ، وبحسب مواهبه وقدراته . فقد آتى الله سبحانه وتعالى عباده من القدرات المتباينة ، والمواهب المختلفة ، ما يمكن كل إنسان ، أو كل فئة من الناس ، من القيام بدور لا يقوم به غيرهم .
وإعطاء كل واحدٍ من المؤمنين فرصته للقيام بدوره في خدمة دينه ، وإرضاء ربه ، وبناء مجتمعه ، يجعل المجتمع المسلم قائماً على التعاون والتآزر والتكامل . كما يشجع كل مؤمن على بذل طاقته ووسعه ، في إبراز قدراته ، واستثمار مواهبه . وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه .
__________
(1) الواقدي ـ كتاب المغازي ـ 1/209 .(1/358)
لما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء ، وأدهشه ما رآه من حال الملك ، وثقل الوحي . كان أول من حدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفضى إليه بما رآى ، خديجة بنت خويلد زوجه الوفية المخلصة ، العاقلة ، الرزان رضي الله عنها وأرضاها . روى ابن إسحاق من رواية عبيد بن عمير الليثي ، عن أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديثه : (( وانصرفت راجعاً إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها ، مضيفاً إليها ، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنت؟ ، فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي ، ثم حدثتها بالذي رأيت ، فقالت : أبشر يا ابن عم واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده ، إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة ، ثم قامت ، فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عمها ، وكان ورقة قد تنصر ، وقد قرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل ، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه رأى وسمع ، فقال ورقة بن نوفل : قدوس قدوس ، والذي نفس ورقة بيده ، لئن كنت صدقتيني يا خديجة ، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبي هذه الأمة ، فقولي له : فليثبت ))(1) . فكان دور خديجة رضي الله عنها في هذا الموقف عظيماً ، وما كان أحد ليقوم بهذا الدور ، ويقف هذا الموقف ، أحسن مما قامت به خديجة . فقد ثبّت الله بها رسوله ، وأيده بما قالت من التأييد والتثبيت ، وشد بها أزره ، عند أول خطوة من خطوات الدعوة ، وأول ساعة من ساعات النبوة .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/238 .(1/359)
ولما أراد صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة ، اختار الصديق رضي الله عنه ليكون له رفيقاً وصاحباً في هجرته . قال ابن إسحاق : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ، ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين ، إلاّ من حُبس أو فُتن ، إلاّ علي بن أبي طالب ، وأبوبكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنهما . وكان أبوبكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتعجل لعل الله يجعل لك صاحباً ، فيطمع أبوبكر أن يكونه ))(1) .
ومن مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الهجرة . قال ابن إسحاق : وكان أبوبكر رضي الله عنه رجلاً ذا مال ، فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتعجل ، لعل الله يجد لك صاحباً )) ، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما يعني نفسه ، حين قال له ذلك . فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما في داره ، يعلفهما إعداداً لذلك(2) .
__________
(1) المصدر السابق 1/480 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/484 .(1/360)
ومن مواقف الصديق في هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، أن أباه عباداً حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر ، قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج أبوبكر معه ، احتمل أبوبكر ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف ، فانطلق بها معه . قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة ، وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ، قالت : قلت : كلا ، يا أبت ، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً . قالت : فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوباً ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ، ضع يدك على هذا المال . قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لابأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك (1).
ومن مواقف الصديق رضي الله عنه في الهجرة كذلك أنه أمر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما بنهاره ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر . وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يريحها عليهما ، يأتيهما إذا أمسى في الغار . وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما(2) .
__________
(1) المصدر السابق 1/488 .
(2) المصدر السابق 1/485 .(1/361)
ومن مواقف الصديق رضي الله عنه البهيّة في هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير : وقد قال أبوالقاسم البغوي ، حدثنا داود بن عمرو الضبي ، ثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبوبكر إلى ثور ، فجعل أبوبكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة ، وخلفه مرة ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك ، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك . حتى إذا انتهينا إلى الغار من ثور ، قال أبوبكر : كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه ، فإن كانت به دابة أصابتني قبلك . قال نافع : فبلغني أنه كان في الغار جحر ، فألقم أبوبكر رجله ذلك الجحر ، تخوفاً أن يخرج منه دابة ، أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال ابن كثير] : وهذا مرسل ، وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/177 .(1/362)
ونقل ابن كثير عن البيهقي رواية عن محمد بن سيرين قال : ذكر رجال على عهد عمر ، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر ، فبلغ ذلك عمر ، فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ، ومعه أبوبكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( يا أبابكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟ )) ، فقال : يارسول ، أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال : (( يا أبابكر لوكان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ )) ، قال : نعم والذي بعثك بالحق . فلما انتهيا إلى الغار ، قال أبوبكر : مكانك يارسول الله ، حتى استبرئ لك الغار ، فدخل ، فاستبرأه ، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة ، فقال : مكانك يارسول الله ، حتى استبرئ ، فدخل فاستبرأ ، ثم قال : انزل يارسول الله ، فنزل ، ثم قال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة ، خير من آل عمر ))(1) .
والمهمات والمسئوليات التي أسندها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر ، وكان ابن بجدتها ، كثير ، ولقد كان هو وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما بمنزلة الوزيرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ولما اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض قبيل وفاته ، جعل الإمامة على الناس في الصلاة لأبي بكر ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ، قيل له في الصلاة ، فقال : (( مروا أبابكر فليصل بالناس )) ، فقالت عائشة رضي الله عنها : إن أبابكر رجل رقيق ، إذا قرأ غلبه البكاء ، فقال : (( مروه فليصل )) . وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : إن أبابكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء )) .[متفق عليه] .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/178 .(1/363)
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، من الرجال الأكفاء الذين أسند إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المهمات العديدة ، فقد أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مهمة حفظ الودائع ، بعد خروجه للهجرة ، وخلّفه عليها بمكة في بيته صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : (( ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خروجه ، إلاّ على بن أبي طالب ، وأبوبكر الصديق ، وآل أبي بكر . أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فيما بلغني ـ أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة ، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلاّ وضعه عنده ، لما يُعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم ))(1) .
قال ابن إسحاق : (( فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه )) ، قال : فلما كانت عتمة من الليل ، اجتمعوا [أي : فتيان قريش] على بابه يرصدونه متى ينام ، فيثبون عليه . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام ... قال ابن إسحاق : ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : والله إن هذا لمحمد نائماً ، عليه برده ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا ، فقام علي رضي الله عنه ، عن الفراش ، فقالوا : والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا ))(2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/485 .
(2) المصدر السابق 1/483 .(1/364)
ومما أسند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه من المهمات ، حمل الراية لفتح خيبر . عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : (( لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله )) ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها . فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : (( أين علي بن أبي طالب؟ )) ، فقيل : يارسول الله هو يشتكي عينيه ، قال : (( فأرسلوا إليه )) ، فأتى به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ودعا له ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال علي رضي الله عنه : يارسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ ، فقال : (( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ))[متفق عليه] .
وهكذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك أحداً من أصحابه دون أن يسند إليه دوراً يقوم به ، ومسئولية توكل إليه ، متوخياً في كل واحد منهم ، ما لديه من طاقات ، وما وهبه الله من المواهب ، فكان كل واحد منهم لبنة في صرح الإسلام الشامخ ، لايتم البناء إلاّ بها .
وإسناد المهمات للأكفاء ، كل بحسب ما آتاه الله من طاقة وموهبة ، باب واسع في التربية النبوية ، لايسعنا أن نستقصيه ، أو نلم بجانب من جوانبه ، وإنما المراد هو الاستشهاد ببعض المواقف والأفراد .
ومن أراد الوقوف على المزيد فليطالع السيرة النبوية ، والكتب المعنية بمناقب الصحابة رضوان الله عليهم وسيرهم .
وقد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس زاد المعاد ، عدداً من أسماء الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانت لهم مهمات محددة ، أوكل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم مسئولياتها .(1/365)
قال : (( فصلٌ في خدامه صلى الله عليه وسلم : فمنهم أنس بن مالك ، وكان على حوائجه ، وعبد الله بن مسعود صاحب نعله وسواكه ، وعقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته ، يقود به في الأسفار ، وأسلع بن شريك ، وكان صاحب راحلته ، وبلال بن رباح المؤذن ، وسعد ، موليا أبي بكر الصديق ، وأبوذر الغفاري ، وأيمن بن عبيد ، وأمه أم أيمن موليا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أيمن على مطهرته وحاجته .
فصل في كتّابه صلى الله عليه وسلم : أبوبكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وعامر بن فهيرة ، وعمرو بن العاص ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن الأرقم ، وثابت بن قيس بن شماس ، وحنظلة بن الربيع الأُسَيدي ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن رواحة ، وخالد بن الوليد ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وقيل : إنه أول من كتب له . ومعاوية بن أبي سفيان ، وزيد بن ثابت ، وكان ألزمهم لهذا الشأن وأخصهم به .(1/366)
ثم ذكر رسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ، فقال : فصل في كتبه ورسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ، قال فيه : (( وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع . فأولهم عمرو بن أمية الضمري ، بعثه إلى النجاشي ... وبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم ، واسمه هرقل ...وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ، واسمه ابرويز بن هرمز بن أنوشروان ... وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس واسمه جريج بن ميناء ملك الاسكندرية ، عظيم القبط ... وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء ... وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة ... فهؤلاء الستة هم الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد ...وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد الله ابني الجلندي الأزديين بعمان ، فأسلما ، وصدقا ... وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين ، قبل منصرفه من الجعرانة ... وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري باليمن ... وبعث أبا موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك ... ثم بعث بعد ذلك علي بن أبي طالب إليهم ... وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري ، وذي عمرو ، يدعوهما إلى الإسلام ، فأسلما ... وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى مسيلمة الكذاب ... وبعث عياش بن أبي ربيعة المخزومي بكتاب إلى الحارث ، ومسروح ، ونعيم ، بني عبد كلال من حمير )) .
فصل في مؤذنيه صلى الله عليه وسلم : وكانوا أربعة : اثنان بالمدينة : بلال بن رباح ، وهو أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمرو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى ، وبقباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر ، وبمكة أبومحذورة ، واسمه أوس بن مغيرة الجمحي ...(1/367)
فصل في أمرائه صلى الله عليه وسلم : منهم باذان بن ساسان ، من ولد بهرام جور ، أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن كلها بعد موت كسرى ، فهو أول أمير في الإسلام على اليمن ، وأول من أسلم من ملوك العجم . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد باذان ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها ، ثم قتل شهر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنعاء خالد بن سعيد بن العاص . وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر بن أبي أمية المخزومي كندة والصدِف ... وولى زياد بن أبي أمية الأنصاري حضرموت . وولى أباموسى الأشعري زبيد وعدن الساحل . وولى معاذ بن جبل الجَنَد . وولى أباسفيان صخر بن حرب نجران . وولى ابنه يزيد تيماء . وولى عتاب بن أسيد مكة ، وإقامة الموسم بالحج بالمسلمين سنة ثمان ، وله دون العشرين سنة . وولى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن ، والقضاء بها . وولى عمرو بن العاص عمان وأعمالها . وولى الصدقات جماعات كثيرة ، لأنه كان لكل قبيلة والٍ يقبض صدقاتها ، فمن هنا كثر عمال الصدقات . وولى أبابكر إقامة الحج سنة تسع ...
فصل في حرسه صلى الله عليه وسلم : فمنهم سعد بن معاذ ، حرسه يوم بدر حين نام في العريش ، ومحمد بن مسلمة حرسه يوم أحد ، والزبير بن العوام حرسه يوم الخندق . ومنهم عباد بن بشر ، وهو الذي كان على حرسه ، وحرسه جماعة آخرون غير هؤلا ، فلما نزل قوله تعالى : {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ}[المائدة:67] ، خرج على الناس فأخبرم بها ، وصرف الحرس .
فصل فيمن كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم : علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، والمقداد بن عمرو ، ومحمد بن مسلمة ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، والضحاك بن سفيان الكلابي . وكان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير . ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية .(1/368)
فصل فيمن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ، ومن كان يأذن عليه : كان بلال على نفقاته ، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي على خاتمه ، وابن مسعود على سواكه ونعله ، وأذن عليه رباح الأسود ، وأنسة مولياه ، وأنس بن مالك ، وأبوموسى الأشعري .
فصل في شعرائه وخطبائه صلى الله عليه وسلم : كان من شعرائه الذين يذبّون عن الإسلام : كعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ، وكان من أشدهم على الكفار حسان بن ثابت . وكعب بن مالك ، يعيرهم بالكفر والشرك . وكان خطيبه ثابت بن قيس بن شماس .
فصل في حُداته الذين كانوا يحدون بين يديه صلى الله عليه وسلم في السفر : منهم عبد الله بن رواحة ، وأنجشة ، وعامر بن الأكوع ، وعمه سلمة بن الأكوع ))(1) .
__________
(1) ابن القيم ـ زاد المعاد ـ 1/116-128.(1/369)
وأما أمراؤه صلى الله عليه وسلم على السرايا والجيوش ، فمنهم : حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر ، وعبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ ، وسعد بن أبي وقاص إلى الخرار ، وإلى كنانة ، وعبد الله بن جحش إلى نخلة ، ومحمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف ، وزيد بن حارثة في عدة سريا ، وأبوسلمة إلى قطن ، وعبد الله بن أنيس إلى سفيان بن نبيح الهذلي ، والمنذر بن عمرو إلى بئر معونة ، وعاصم بن ثابت إلى الرجيع ، وعمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان ، وعكاشة إلى غمر مرزوق ، وعبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ، وعلي بن أبي طالب إلى بني سعد ، وعبد الله بن رواحة إلى أسير رزام ، وإلى مؤتة ، وكرز بن جابر إلى ذي الجدر ، وعبد الله بن عتيك لقتل ابن أبي الحقيق ، وأياد بن سعيد قبل نجد ، وعمر بن الخطاب إلى تربة ، وأبوبكر إلى بني كلاب ، وبشير بن سعد إلى فدك ، وغالب الليثي إلى الميفعة وغيرها ، وابن عمر إلى نجد ، وابن أبي العوجاء إلى بني سليم ، وشجاع بن وهب إلى بني عامر ، وكعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح ، وعمرو بن العاص إلى ذات السلاسل ، وأبوعبيدة إلى سيف البحر ، وأبوقتادة إلى غطفان ، وابن أبي حدرد إلى الغابة وأضم ، وعبد الله بن حذافة ، وخالد بن الوليد ، وسعد بن زيد الأشهلي ، والطفيل بن عمرو الدوسي ، وأبوعامر الأشعري ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، وعبد الله بن عوسجة ، وقطبة بن عامر ، والضحاك بن سفيان ، وعلقمة بن مجزّز ، والمقداد بن الأسود ، والمغيرة بن شعبة ، وأسامة بن زيد ، وسريته إلى البلقاء آخر سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(1) .
سابعاً - تمكين المخلصين الصادقين من الصدع بالحق ، وعدم مؤاخذتهم على نتائجه :
__________
(1) انظر : ابن هشام ، والمغازي للواقدي ، والدرر لابن عبد البر ، وعيون الأثر لابن سيد الناس .(1/370)
هناك نفر من ذوي النوايا الصادقة ، والهمم العالية ، والنفوس الأبية الشامخة ، لايملكون إلاّ أن يقتحموا ميدان الصدع بالحق ، والمبادرة إلى إعلاء كلمة الله في الأرض ، والذب عن دين الإسلام وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيعلنون كلمة الحق صريحة مدوية ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ودافعهم إلى ذلك صدق النيّة ، وقوّة العزيمة ، وعمق الإخلاص ، وثبات اليقين .
وقد يرى غيرهم أن الحكمة أو المصلحة تقتضي عدم اتخاذ هذا الموقف أو ذاك ، خصوصاً أنّ هذه المبادرات القوية ، قد يترتب عليها بعض المخاطر ، والأضرار ، على من يقوم بها ، وربما على غيره .
والحق أن مثل هذه المبادرات القوية في الصدع بالحق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قد لاتكون بالضرورة منافية للحكمة ، بل إن الحكمة قد تقتضي أن لاتهدر جرأة الأبطال ، ولاتوهن عزائم ذوي الإقدام ، إذا كان الأمر يقتضي جرأة وإقداماً ، وقوة في إظهار الحق ، وصدقاً في مواجهة الباطل .
والقرآن الكريم يعرض علينا صوراً من هذه المواقف الجريئة الصادقة في إعلان الحق وإظهاره ، إعلاءً لكلمة الله . وتحدياً لجور الباطل ، وإبلاغاً لرسالة الدين ، ورجاء في أوبة الآيبين ، وتوبة التائبين ، وهداية الناس إلى طريق مستقيم .(1/371)
قال الله تعالى في قصة صاحب يس ، بعد أن كذب قومه المرسلين : {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ . اتّبِعُواْ مَن لاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مّهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرّحْمََنُ بِضُرّ لاّ تُغْنِ عَنّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ . إِنّيَ إِذاً لّفي ضَلاَلٍ مّبِينٍ . إِنّيَ آمَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس:20ـ27] .
قال ابن كثير : قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وكعب ، ووهب ، رضي الله عنهم ، فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد ، فقتلوه ، ولم يكن له أحد يمنع عنه ، وقال قتادة : جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون ، فلم يزالوا به حتى أقعصوه ، وهو يقول ذلك ، فقتلوه رحمه الله ))(1) .
قال ابن إسحاق في عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه ، لما قتله قومه بالطائف ، وهو يدعوهم إلى الإسلام : (( فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : إن مثله في قومه لكمثل صاحب ياسين في قومه ))(2) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 3/484 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/538 .(1/372)
ومن تلك المواقف الصادقة موقف مؤمن آل فرعون ، لما رآهم تمادوا في كفرهم وطغيانهم ، وصدهم عن دين الله ، بعد ماجاءهم موسى عليه السلام بالبينات ، حتى بلغ بهم الأمر ما وصفه الله تعالى بقوله : {فَلَمّا جَآءَهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوَاْ أَبْنَآءَ الّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ في ضَلاَلٍ . وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيَ أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبّهُ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ في الأرْضِ الْفَسَادَ . وَقَالَ مُوسَى إِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ . وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ . يَقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ في الأرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ . وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ}، ولاتزال الآيات الكريمات توضح موقف هذا الداعية المعرّض نفسه لأشد الأخطار في سبيل إظهار الحق والذب عنه . إلى أن يقول الله تعالى حكاية عنه : {وَيَاقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ . تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ(1/373)
وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ . لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدّنْيَا وَلاَ في الآخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى الله وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ . فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى الله إِنّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ}[غافر:25ـ45] .(1/374)
قال ابن كثير في تفسيره : (( وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلاّ هذا اليوم ، حين قال فرعون : {ذَرُونِيَ أَقْتُلْ مُوسَى}، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل . وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ، كما ثبت بذلك الحديث . ولاأعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ الله}، اللهم إلاّ ما رواه البخاري في صحيحه ...[عن] عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبوبكر رضي الله عنه ، فأخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ}. [وفي رواية أوردها ابن كثير من رواية أبي حاتم] عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل : ما أشد ما رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قال مرّ صلى الله عليه وسلم بهم ذات يوم ، فقالوا له : أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ ، فقال : (( أنا ذاك )) ، فقاموا إليه ، فأخذوا بمجامع ثيابه ، فرأيت أبابكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه ، وهو يصيح بأعلى صوته ، وإن عينيه ليسيلان ، وهو يقول : (( يا قوم : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ} )) ، حتى فرغ من الآية كلها ))(1) ، فأبوبكر الصديق رضي الله عنه من أولئك النفر المؤمن ، الذي لايملك إلاّ أن يصرخ في وجه الباطل ، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، غير مبالٍ
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 4/70 .(1/375)
بما يكتنفه من الأخطار . وقد سبق في موضوع الصدع بالحق أن أوردنا لأبي بكر رضي الله عنه أيضاً موقفه العظيم في أول خطبة له في الإسلام ، وما لاقاه من الضرب والأذى ، وما لاقاه إخوانه المؤمنون كذلك بسبب موقفه القوي الحازم .
ومن هذه المواقف الغيورة على دين الله ، موقف الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أصحاب السبت ، الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه ، حيث صدعوا بالحق ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم . قال الله تعالى : {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ في السّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذَ قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}[الأعراف:163،164] .(1/376)
قال الإمام الطبري في تفسيره : عن علي [بن طلحة] ، عن ابن عباس قوله : (( {وَإِذَ قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}[الأعراف:164] . هي قرية على شاطئ البحر بين [مصر] والمدينة ، يقال لها أيلة ، فحرّم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم . فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها ، فمكثوا بذلك ما شاء الله . ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة وقالوا ، تأخذونها وقد حرّمها الله عليكم يوم سبتكم ، فلم يزدادوا إلاّ غياً وعتواً ، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم . فلما طال ذلك عليهم ، قالت طائفة [من النهاة] : تعلمون أن هؤلاء القوم قد حق عليهم العذاب : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}، و[طائفة] كانوا أشد غضباً لله من الطائفة الأخرى ، فقالوا : {مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}. وكلٌ قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله ، نجت الطائفتان اللتان قالوا : {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}. والذين قالوا : {مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ}. وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان ، فجعلهم قردة وخنازير ))(1) .
ومن المبادرات القوية لإظهار دين الله ، ما سبق ذكره في موضوع الصدع بالحق ، من إظهار أبي ذر الغفاري رضي الله عنه إسلامه ، وإعلانه عنه بمكة ، وما لاقاه من قريش من الأذى والضرب المبرح .
ومنها إعلان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إسلامه ، في نوادي قريش بقوة ، وحزم ، وكيف اجتمعوا عليه ، لضربه ، والتنكيل به ، وكيف قاومهم مقاومة عنيفة ، حتى أعجزهم ، وقد مرّ ذكره في موضوع الصدع بالحق .
__________
(1) الإمام الطبري ـ جامع البيان ـ 6/93 .(1/377)
ومنها جهر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، بالقرآن ، خلف المقام ، في الضحى ، على مرآى ومسمع ، من قريش ، وهم في نواديهم ، وما تعرض له بسبب ذلك ، من الضرب ، والأذى ، وقد مر ذكره في موضوع الصدع بالحق أيضاً .
ومن هذه المواقف موقف ثمامة بن أثال الحنفي رضي الله عنه ، بعد إسلامه ، قال ابن هشام : (( فبلغني أنه خرج معتمراً ، حتى إذا كان ببطن مكة يلبي ، فأخذته قريش ، فقالوا : لقد اخترت علينا ، فلما قدموه ليضربوا عنقه ، قال قائل منهم : دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم ، فخلّوه ...[وفي رواية قالوا] : أصبوت يا ثمامة؟ فقال : لا ، ولكني اتبعت خير الدين ، دين محمد ، ولا والله لاتصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تأمر بصلة الرحم ، وإنك قد قطعت أرحامنا ، وقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أن يخلّي بينهم وبين الحمل ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/639 .(1/378)
ومن تلك المبادرات القوية ما سبق ذكره في موضوع المشاورة ، ورأي الشبان ومن وافقهم من أهل السن أمثال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك بن ثعلبة وغيرهم يوم أحد ، من الخروج إلى قتال المشركين خارج المدينة ، وعدم البقاء بها ، مع أن رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ، والأكابر من أصحابه من المهاجرين والأنصار كان البقاء في المدينة ، والتحصن بها . ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم آثر أن يستجيب لتلك النفوس المتوقدة حماساً ، المتفجرة صدقاً وإخلاصاً ، وأن يعطيها الفرصة في إظهار ما بها من طاقات ، وما لديها من إمكانات . فمناجزة الحق للباطل ، يناسبها أن تنطلق تلك الهمم العلية إلى مداها ، فالموقف موقف صراع ، وصدام ، ومغالبة ، فلماذا تكبت العزائم ، وتحبس الهمم ، في قيود من الحذر والحيطة . إن الحكمة ليست دائماً هي الحذر والحيطة ، واللين والمسالمة ، إنها أحياناً في قوة المبادرة ، وسرعة المناجزة . إنها وضع الشيء في موضعه . ولئن كانت معركة أحد قد أسفرت من حيث عدد القتلى عن هزيمة المسلمين ، إلاّ أنها في واقع الأمر كانت خطوة إلى الأمام في مسيرة الدعوة المحمدية ، وكانت ميداناً للبطولات الإيمانية ، وكانت حلقة للدروس العملية . وقد تميز فيها أهل الصدق عن أهل النفاق ، وزاد بها المؤمنون إيماناً واعتزازاً بدينهم . ولم يعاتب الله سبحانه ولارسوله ولاأحد من المؤمنين من كان رأيه الخروج إلى الأعداء ومواجهتهم ، بل إن الملاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يعطي أهل الحماس الشديد ، والإخلاص الأكيد ، فرصتهم لإظهار صدقهم ، والتضحية لدين الله تعالى ، مهما كلف ذلك من عنت الكافرين ، وتعرض المؤمنين لأذاهم ، فإن الصراع بين الحق والباطل ، يحتاج إلى مثل هذه الوقفات الجريئة ، والمبادرات الشجاعة . وهذه الدروس جميعها مما ينبغي للدعاة أن يعوه ، وينتفعوا به في دعوتهم ، ومواجهتهم للباطل ،(1/379)
فالذي يقاوم الباطل ويتصدّى له من أهل الحقّ لا ينبغي أن يلام ولا يعنّف على فعله وإن لم ينتج عن فعله نفع عاجل ، وفائدة ظاهرة ، فإن فعله لا يخرج عن كونه عملاً صالحاً ، وأما النتائج فأمرها بيد الله تعالى ، إن شاء حقّقها في حينها ، وإن شاء أخّرها إلى حين ، وإن شاء أبطنها ، وإن شاء أظهرها ، فله الأمر كلّه سبحانه . وإنّما ينبغي للدعاة إلى الله وسائر أهل الحقّ التناصح فيما بينهم ، وأن يعتذروا للصالحين المجتهدين منهم إن أخطأوا ، ويحمدوا الله لهم إن أصابوا . هذا ما تقتضيه الأخوة الإيمانية ، والنصرة الدينية ، والحكمة الدعوية . أما التلاوم والتنازع بين المؤمنين من الدعاة وغيرهم فإنهما بذرة الشقاق ، ومبدأ التفرّق ، ومعول الهدم ، ونذير الفشل والخذلان ، نعوذ بالله من ذلك كلّه . قال الله تعالى : {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46] . ومن تأمل السيرة النبوية المعطرة وسير الصحابة رضي الله عنهم ، يجد أن هذا الباب – أعني الصدع بالحق وعدم المؤاخذة عليه - ميدان واسع لاستنباط الدروس والعبر والإفادة منها في مجال الدعوة إلى الله تعالى .
ثامناً - المواعظ والقصص :(1/380)
ومن وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة ، تعهد الفئة المؤمنة بالموعظة والتذكير ، والترغيب والترهيب ، وذكر أيام الله في الذين خلوا ، وذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ، وما لاقوه من الأذى والعنت من أقوامهم ، ووصف الجنة والنار ، والحشر والحساب ، وحقارة الدنيا ، وعظم الآخرة ، وما جعل الله على الأعمال الصالحة من الثواب ، وما جعل على الأعمال السيئة من العقاب . ونحو ذلك مما ترقق به القلوب ، وتزكّى به النفوس ، وتطهّر به الأرواح ، وتقوّى به الهمم ، وتشحذ به العزائم ، فإن كل ذلك مما تحتاجه الفئة المؤمنة ، لتتزود به في الإقبال على الله وعبادته ، وعمارة الأرض بطاعته ، والتصدي للباطل وتقويض أركانه ، وإظهار الحق وإعلاء بنيانه ، وليظل الإيمان جذوة متقدة في النفوس المؤمنة ، ونوراً ساطعاً في القلوب الزكية ، وروضة يانعة الثمار ، وارفة الظلال ، ندية الغصون ، جارية العيون ، وكل ذلك سبيله الموعظة والتذكير ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا في الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ . قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ}[يونس:57،58] .
وقال تعالى : {وَلَقَدْ أَنزلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ}[النور:34] .
ولقد قصّ الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز القصص ، عن الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وما لاقوه من أقوامهم وما حلّ بهؤلاء الأقوام من عقاب وتدمير بسبب تكذيبهم ومعاداتهم لرسلهم ، وذلك للعبرة والموعظة به .
قال تعالى : {نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ}[يوسف:3] .(1/381)
وقال تعالى : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ}[الأعراف:176] .
وقال تعالى : {لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُوْلِي الألْبَابِ}[يوسف:111] .
وقال تعالى : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ}[هود:100] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه ويقص عليهم أيام الله في الأمم السابقة ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل لايقوم إلاّ لعظم الصلاة(1) . وقد تبعه أصحابه على هذا النهج فيمن بعدهم ، فعن أبي وائل شقيق بن سلمة ، قال : كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، لوددت أنك تذكرنا كل يوم ، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم ، وإني أتخولكم بالموعظة ، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا ، مخافة السآمة علينا )) .[متفق عليه] .
وقد تقدم الحديث عن المواعظ في مبحثين من الفصل الأول هما : مبحث سبل البلاغ المبين ، ومبحث صور البلاغ المبين ، بما فيه الكفاية ، وإنما المقصود من إيراده هنا ، هو التأكيد على أهمية المواعظ والقصص للدعاة أنفسهم في وسطهم الاجتماعي ، كما هي مهمة لعامة الناس في حال إبلاغ الدين وعرضه على الناس .
تاسعاً - التعليم والتعلّم :
__________
(1) رواه البزار وأحمد والطبراني في الكبير وإسناده صحيح كما في مجمع الزوائد للهيثمي 1/191 .(1/382)
المفترض أن تكون قيادة الوسط الاجتماعي للدعاة ، وريادته ، وتوجيهه ، بيد العلماء الربانيين ، ولذلك فإن الفئة المؤمنة في هذا الوسط الزكيّ ، تتلقى العلم ، والتوجيه ، على يد علمائها ، وذلك اقتداء بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ، ويوجههم ، ويعظهم ، وهو على منبره خطيباً ، أو في حلق الذكر معلماً ، أو في الطريق ، أو على الدابة ، أو في أي مكان تسنح فيه فرصة الإرشاد ، والتعليم ، والتوجيه ، ولاغرو في ذلك فقد قال الله تعالى عنه في محكم آياته : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}[الجمعة:2] .
وقال تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لّي مِن دُونِ الله وَلََكِن كُونُواْ رَبّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79] .
وقد مرّ معنا طرفٌ من تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وإرشاده لهم ، في مباحث الفصل الأول المتعلق بالبلاغ المبين وسبله ، وصوره . ونذكر هنا طرفاً منها :
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمني التشهد كما يعلمني السورة من القرآن ... )) الحديث(1)[رواه مسلم] .
وعن أبي الزبير عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ))(2) .[رواه أحمد ورجاله ثقات] .
__________
(1) المنذري ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم 305 .
(2) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 2/139 .(1/383)
وعن حطان بن عبد الله الرقاشي قال : (( صليت مع أبي موسى رضي الله عنه صلاة ، فلما كان عند القعدة ، قال رجل من القوم : أقرّت الصلاة بالبر والزكاة ، قال : فلما قضى أبوموسى الصلاة وسلم ، انصرف . فقال : أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ ، قال : فأرمّ القوم ، ثم قال : أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ ، فأرمّ القوم ، فقال : لعلك يا حطان قلتها؟ ، قال : ما قلتها ، ولقد رهبت أن تبكعني بها . فقال رجل من القوم : أنا قلتها ، ولم أرد بها إلاّ الخير . فقال أبوموسى : ما تعلمون كيف تفولون في صلاتكم . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا ، فبيّن لنا سنتنا ، وعلمنا صلاتنا ، فقال : (( إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ، ثم ليؤمكم أحدكم ، فإذا كبَّر فكبروا ، وإذا قال : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاالضَّالِّين}. فقولوا : آمين ، يجبكم الله . فإذا كبر وركع ، فكبروا واركعوا ، فإن الإمام يركع قبلكم )) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فتلك بتلك ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، يسمع الله لكم . فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده . فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا ، فإن الإمام يسجد قبلكم ، ويرفع قبلكم )) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فتلك بتلك ، وإذا كان عند القعدة ، فليكن من أول قول أحدكم : التحيات الطيبات الصلوات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . أشهد أن لاإله إلاّ الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ))(1) .[رواه مسلم] .
__________
(1) المنذري ـ مختصر صحيح مسلم ـ برقم 304 .(1/384)
ومن تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا أخذت مضجعك ، فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم إني أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لاملجأ ولامنجا منك إلاّ إليك . آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت . واجعلهن من آخر كلامك ، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة )) . قال : فرددتهن لأستذكرهن ، فقلت : آمنت برسولك الذي أرسلت ، قال : (( قل : آمنت بنبيك الذي أرسلت ))(1) .[رواه مسلم] .
ومن ذلك ، ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( يا غلام ، أو يا غُليّم ، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ )) ، فقلت : بلى ، فقال : (( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ))(2)[أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح] .
عاشراً - الجمع بين العلم والعمل :
من وسائل التزكية والتربية في الوسط الإيماني للدعوة الجمع بين العلم والعمل ، قال الله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}[محمد:19] .
__________
(1) المصدر السابق برقم 1896 .
(2) الإمام أحمد ـ المسند ـ 4/2804 .(1/385)
وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم ، ومن تبعهم من سلفنا الصالح ، أروع الأمثلة في الجمع بين العلم والعمل ، فما أن يتنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية فيها أمر أو نهي ، إلاّ سارعوا إلى امتثال الأمر وفعله ، واجتناب المنهي عنه وتركه . وما أن يذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضائل الأعمال ، ومحاسن المستحبات ، حتى يسارعوا إلى التنافس في ميدانها ، والتسابق في مضمارها .
عن أنس رضي الله عنه قال : (( كان أبوطلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخلٍ ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ، ويشرب من ماء فيها طيب . فلما نزلت هذه الآية : {لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّى تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ}[آل عمران:92] ، قام أبوطلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يارسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول : {لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّى تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ}، وإن أحب مالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله تعالى ، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يارسول الله حيث أراك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بخٍ! ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين )) ، فقال أبوطلحة : أفعل يارسول الله ، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه )) .[متفق عليه] .(1/386)
وفي الصحيحين أن عمر رضي الله عنه ، قال : (( يارسول الله ، لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به؟ ، قال : (( احبس الأصل وسبّل الثمرة )) اهـ [متفق عليه] . وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله : (( حضرتني هذه الآية : {لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّى تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ}، فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ، يعني تزوجتها ))(1) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : (( لما نزلت : {مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}[الحديد:11] . قال أبوالدحداح الأنصاري : يارسول الله ، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ ، قال : (( نعم يا أبا الدحداح )) ، قال : أرني يدك يارسول الله ، قال : فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي ، قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال : فجاء أبوالدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي عز وجل ))(2) .
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نعم الرجل خريمٌ الأسدي ، لولا طول جمّته وإسبال إزاره )) ، فبلغ خريماً ، فعجّل ، فأخذ شفرةً فقطع بها جمته إلى أذنيه ، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه .[رواه أبوداود بإسناد حسن] .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 1/328 ، من رواية أخرجها البزار .
(2) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 1/259 ، من رواية أخرجها ابن أبي حاتم ، وكذا الهيثمي في مجمع الزوائد9/324 ، وقال : رواه أبويعلى ، والطبراني ورجالهما ثقات ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح .(1/387)
وعن أبي جُرَيٍّ جابر بن سليم رضي الله عنه ، قال : (( رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه ، لايقول شيئاً إلاّ صدروا عنه ، قلت : من هذا؟ ، قالوا : رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : عليك السلام يارسول الله ـ مرتين ـ قال : (( لاتقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الموتى . قل : السلام عليك )) ، قال : قلت : أنت رسول الله؟ قال : (( أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفرٍ أو فلاةٍ ، فضلّت راحلتك ، فدعوته ، ردها عليك )) ، قال : قلت : اعهد إليّ ، قال : (( لاتسبنّ أحداً )) ، قال : فما سببت بعده حراً ، ولاعبداً ، ولابعيراً ، ولاشاة ... )) الحديث [رواه أبوداود والترمذي بإسناد صحيح] .(1/388)
ومن الجمع بين العلم والعمل ، وامتثال الأمر ، واجتناب النهي ، فور العلم بهما ، تعظيماً لله ، واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ما فعلته نساء المهاجرين والأنصار ، لما نزلت آية الحجاب . عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَى جُيُوبِهِنّ}[النور:31] ، شققن مروطهن فاختمرن بها ، وعن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة ، قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن ، فقالت عائشة رضي الله عنها : إن لنساء قريش لفضلاً ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولاإيماناً بالتنزيل ، لقد أنزلت سورة النور : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَى جُيُوبِهِنّ}. انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته ، وابنته ، وأخته ، وعلى كل ذي قرابته ، فما منهن امرأة إلاّ قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به ، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 3/245 .(1/389)
ومن ذلك ما فعله الصحابة رضي الله عنهم يوم أنزلت آية تحريم الخمر ، حيث قرنوا العلم بالعمل . فما أن علموا أنها حرمت إلاّ وبادروا إلى إهراقها ، وكسر آنيتها ، والانتهاء عنها . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : (( بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء ، حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر ، فسمعت منادياً ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ، قال : فما دخل علينا داخل ، ولاخرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا ، واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أم سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}. إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ} ))(1) [المائدة:90،91] . الحديث ، وفي رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : (( كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة ، وما شرابهم إلاّ الفضيخ البسر والتمر ، فإذا منادٍ ينادي ، قال : اخرج ، فانظر ، فإذا منادٍ ينادي ألا إن الخمر قد حرمت ، فجرت في سكك المدينة ، قال : فقال : أبوطلحة ، اخرج ، فأهرقها ، فهرقتها ))(2) .
هذه أمثلة ناصعة ، بينة على حسن أخذ العلم ، وحسن تطبيقه والعمل به ، إذ كان الصحابة رضي الله عنهم يتصفون بعد أخذ العلم بصفتين كريمتين هما : المبادرة بالعمل ، والصدق في أدائه وتطبيقه على أتم الوجوه وأكملها . وهذا ما ينبغي أن يعتني به الدعاة إلى الله . وسائر المؤمنين ، في تزكية أنفسهم ، وحملها على البر والمعروف .
حادي عشر - الوصايا :
__________
(1) المصدر السابق 2/83 ، وفي الصحيحين بنحوه .
(2) المصدر السابق 2/83 .(1/390)
مما تحتاجه الفئة المؤمنة في وسطها الإيماني ، أن يعتني المربون من العلماء الربانيين ، والدعاة الموجهين ، بالوصية . فيوصي العالم والمربي والداعية من يشرف على تربيتهم ، أو بعضهم ، أو أحدهم بأمور ، يخصها بالذكر ، ويحث على العناية بها ، لأهمية هذه الأمور لجميع الناس ، أو لفئة خاصة ، أو لأفراد معينين أو لواحد منهم بعينه .
والوصية تعطي الأمر الموصى به بروزاً ، وظهوراً ، وأهمية بالغة . كما تعطي الشخص أو الفئة الموجهة إليهم خصوصية ، تظهر عناية المربي بهم ، وفضلهم على غيرهم . مما يجعل الوصية في التربية والتزكية أعمق أثراً وأبعد مدى في النفوس من أي وسيلة أخرى .
ولقد اعتنى القرآن الكريم بالوصية ، كوسيلة للتربية ، والتزكية والتعليم ، في صور كثيرة ، وأحوال متعددة .
فوصى الإنسان بوالديه ، قال تعالى : {وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14] .
ووصى الرسل عليهم السلام بإقامة الدين ، قال تعالى : {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ}[الشورى:13] .
ووصى سبحانه المؤمنين بالتقوى ، قال تعالى : {وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ الله}[النساء:131] .
كما وصاهم تعالى في الميراث ، فقال تعالى : {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ}[النساء:12] .(1/391)
وذكر الله سبحانه وتعالى في محكم آياته ، تواصي المؤمنين بعضهم لبعض ، ومن ذلك ما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب ، قال تعالى عن إبراهيم : {إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ . وَوَصّى بها إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيّ إِنّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إَلاّ وَأَنْتُم مّسْلِمُونَ}[البقرة:132] ، كما أثنى سبحانه وتعالى على التواصي بين المؤمنين ، وبيّن أنه سبب للفوز والنجاة في الآخرة : قال تعالى : {ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ . أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[البلد:17،18] .
وقال تعالى : {وَالْعَصْرِ . إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ . إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ}[سورة العصر] .
ولقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم عناية بالغة بالوصية . يعم بها سائر الأمة في أمور يلفت إليها العناية والاهتمام ، ويخص بها أحداً منهم ، تكريماً له ، وإظهاراً لمنزلته عنده صلى الله عليه وسلم ، وتأكيداً على الأمر الذي يوصي به لأهميته ، وعظيم نفعه .
ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم العامة : عن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على ناقته الجدعاء ، في حجة الوداع ، يقول : (( أوصيكم بالجار )) حتى أكثر ، فقلت : إنه يورثه ))(1) .
__________
(1) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم2548 ، وانظر مجمع الزوائد 8/165 .(1/392)
وعن عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب ، حتى يحلف الرجل ولايستحلف ، ويشهد الشاهد ولايستشهد . ألا لايخلون رجل بامرأة إلاّ كان ثالثهما الشيطان . عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو مع الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة . من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن ))(1) .
وعن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أوصيكم بالأنصار ، فإنهم كرشي وعيبتي ، وقد قضوا الذي عليهم ، وبقي الذي لهم . فاقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ))(2) .
وكان صلى الله عليه وسلم يخص بعض أصحابه بوصية ، يؤثره بها ، تكريماً له ، أو يكون له بها نفع يناسب حاله ، ويصلح به أمره . عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده ، وقال : (( يا معاذ ، والله إني لأحبك ، ثم أوصيك يا معاذ ، لاتدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك ، وحسن عبادتك ))[رواه أبوداود والنسائي بإسناد صحيح] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : (( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع ؛ بحب المساكين ، وأن أدنو منهم ، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني ، ولاأنظر إلى من هو فوقي . وأن أصل رحمي وإن جفاني . وأن أكثر من لاحول ولاقوة إلاّ بالله . وأن أتكلم بمرّ الحق ، ولاتأخذني في الله لومة لائم . وأن لاأسأل الناس شيئاً ))(3) .
__________
(1) المصدر السابق برقم 2546 .
(2) المصدر السابق برقم 2547 .
(3) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 3/93 ، وقال : رواه الطبراني في الكبير والصغير بنحوه ، قال : وأظنه رواه أحمد ، ورجاله ثقات إلاّ أن الشعبي لم أجد له سماعاً من أبي ذر .(1/393)
وعنه رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أوصيك بتقوى الله تعالى ، في سر أمرك وعلانيته ، وإذا أسأت فأحسن ، ولاتسألنّ أحداً شيئاً ، ولاتقبض أمانة ، ولاتقض بين اثنين ))(1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : (( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام ))[متفق عليه] .
وعنه رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أوصيك بتقوى الله ، والتكبير على كل شرف ))(2) .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : (( أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ماعشت : بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصلاة الضحى ، وبأن لا أنام حتى أوتر ))[رواه مسلم] .
وكان الصحابة رضي الله عنهم ـ أحياناً ـ يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصيهم ، جماعة أو أفراداً ، فيبادر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوصية لكلٍ بما يناسب حاله ، وأهمية الأمر الذي يوصيه به ، فعل الطبيب النطاسي المشفق بمريضه المشتكي المتوجع ، يصف له الدواء الناجح لما يشتكيه ويتوجع منه ، فيكون بذلك البرء والعافية بإذن الله .
عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه ، قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يارسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ، قال : (( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد حبشي ... )) الحديث [رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح] .
__________
(1) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم 2544 ، وكذا صحيح الترغيب والترهيب 804 ، بإسناد حسن .
(2) المصدر السابق برقم 2545 بإسناد حسن .(1/394)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : قلت : يارسول الله ، أوصني ، قال : (( عليك بتقوى الله ما استطعت ، واذكر الله عند كل حجر وشجر ، وما عملت من سوء فأحدث لله فيه توبة ، السر بالسر ، والعلانية بالعلانية ))(1)[رواه الطبراني وإسناده حسن] .
وعن جرموز بن أوس الهجيمي قال : قلت : يارسول الله ، أوصني قال : (( أوصيك أن لا تكون لعاناً ))(2) .
وعن سعيد بن زيد الأزدي ، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : (( أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحي من الرجل الصالح من قومك ))(3) .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أوصيك بتقوى الله تعالى ، فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله تعالى ، وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء ، وذكرك في الأرض ))(4) .
- - -
الفصل الثالث
ميدان الجهاد والتمكين
المبحث الأول : مرحلة الإعداد الإيماني العقدي .
المبحث الثاني : مرحلة العمل الدعوي الحركي .
الفصل الثالث
ميدان الجهاد والتمكين
قال الله تعالى : {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33] .
إن الميدان الثالث من ميادين الدعوة إلى الله تعالى ، هو (ميدان الجهاد والتمكين) . وهذا الميدان وكذلك الميدان الثاني للدعوة وهو (ميدان التزكية والتعليم) ، إنما هما ثمرة ونتيجة لجهود الدعاة إلى الله تعالى في الميدان الأول وهو (ميدان البيان والتبليغ) .
__________
(1) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 10/74 .
(2) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم 2542 ، وفي مجمع الزوائد 8/71 .
(3) المصدر السابق برقم 2541 ، وفي مجمع الزوائد 10/284 .
(4) المصدر السابق برقم 2543 بسند حسن .(1/395)
ذلك لأن (البيان والتبليغ) يخاطب به الناس جميعاً ، ويدعون فيه إلى عبادة الله وحده لاشريك له ، إبلاغاً لدين الله ، وطلباً لهداية الناس ، وإنقاذاًلهم من الضلالة . فيكون من نتيجته ، أن تتميّز فئتان من الناس ؛ (فئة تؤمن بالبلاغ وتصدقه) و (فئة تعاديه وتقاومه) .
فأما الفئة الأولى ، فإن الدعاة إلى الله تعالى ينتقلون بها إلى (ميدان التزكية والتعليم) لتتلقى فيه التربية الإيمانية ، والتزكية الوجدانية ، والعلم الشرعي الصحيح . كما تهيأ فيه للقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى ، ونشر دينه .
وأما الفئة الثانية ، وهي (المعادية المعاندة) ، فإنه ينبغي في بداية الدعوة ـ مع ضعف دعاتها ، وقلَّة أنصارها ـ الإعراض عن هذه الفئة ، والصبر على أذاها ، وتجنب مواجهتها ، وعدم تحديها أو استثارتها ، وذلك لأنّ الدعوة إلى الله في هذه المرحلة لاتزال في ميدانها الأول (ميدان البيان والتبليغ) ، أو ميدانها الثاني (ميدان التزكية والتعليم) فيكون في تهييج هذه الفئة إضرارٌ بالدعوة إلى الله ، وتحميلٌ للدعاة ما لايطيقونه من الأذى والعنت . ولذلك فقد وجّه الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة إلى إعلان الدعوة مع الإعراض عن أذى المشركين ، وعدم الالتفات إليه ، أو الرد عليهم بمثله : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] .
وقال تعالى : {فَأَعْرِضْ عَن مّن تَوَلّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا}[النجم:29] .
وقال تعالى : {اتّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:106] .
وقال تعالى : {أُولََئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ الله مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[النساء:63] .(1/396)
وقال تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لّهُمْ}[الأحقاف:35] .
وقال تعالى : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}[المزمل:10] .
وقال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ الله حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}[الروم:60] .
أما إذابلغت الدعوة إلى الله تعالى أشدها ، واستوت على سوقها ، وأصبح لها مجتمع ، وإمام ، وقوة ، ونصرة . فعند ذلك يمكن الانتقال بها إلى (ميدان الجهاد والتمكين) لنشر دين الله ، وإبلاغ الرسالة إلى الناس كافّة . فمن استجاب من الكفار للدعوة فبها ونعمت ، ومن لم يستجب منهم ، أخضع لها بالجهاد ، فإمّا أن يسلموا وإما أن يؤدّوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون .
وهذا الجهاد هو جهاد الدعوة الذي تمثّل في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه ، كما تمثل في الفتوحات الإسلامية في الصدر الأول .
وإنه لمما ينبغي التنبيه إليه والاهتمام به أن ميدان الجهاد والتمكين لايقتحم جزافاً ، بل إن له شروطاً وأحكاماً ، ينبغي مراعاتها ، والتقيد بها ، تحقيقاً للحكمة في إبلاغ دين الله ، وتطبيقاً لشرعه ، واتباعاً لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم :
وهذه الشروط :
أولها : أن يعد المجتمع الإسلامي إعداداً إيمانياً سليماً ، بغرس العقيدة الصافية من الشوائب في أفراده . وبتربيته تربية جادّة صحيحة على الفضائل ، والأخلاق الإسلامية الكريمة ، وهو ما عبّر عنه بعض العلماء الدعاة بـ (التصفية والتربية)(1) .
ثانياً : أن يكون له إمام ، يدعو الناس إلى الجهاد ، ويقودهم إليه .
__________
(1) هذه عبارة الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني ، ويعني بالتصفية : الدعوة إلى التوحيد والمتابعة وتخليص المجتمع الإسلامي من الشرك والبدعة ، وبالتربية : تهذيب النفوس بالعبادة الصحيحة والأخلاق الحسنة.(1/397)
ثالثاً : أن تكون له قوة تمكنه من الظهور على الكفار ، لقول الله تعالى : {وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ}[الأنفال:60] ، وأن يكون له كذلك أنصار يؤازرونه على الحق ، ويعينونه عليه .
كذلك فإن هذا الميدان من ميادين الدعوة إلى الله ، يحتاج إلى مرحلة من الإعداد تسبقه ، كما يحتاج إلى التدرج في إظهار الدين وتمكينه ، حتى يبلغ هذا التدرج ذورة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمته ، وإخضاع الناس لأمره تعالى وشرعه . وهذا ما سوف نتناوله بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى فيما يلي من الصفحات ، وذلك على مبحثين ، هما : مرحلة الإعداد ، ومرحلة العمل .
- - -
المبحث الأول : مرحلة الإعداد الإيماني العقدي لإظهار الدين ونشره :
لاشك أن إظهار دين الحق ، وإعلاء كلمة الله في الأرض ، لا يتمان إلاّ بهدم صروح الباطل ، وتقويض أركان الكفر والفساد من كل جانب ، حتى يذل الكفر وأهله ، ويعز الإسلام وأهله ، ويدين أهل الأرض بكلمة الحق : (( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله )) .
وهذا أمر لا يكون إلاّ بصراعٍ ومغالبة ، ونزال ومواجهة ، وتضحيات جسيمة ، وإرادات صادقة عظيمة . وهو ما ينبغي أن تهيأ له النفوس المؤمنة تهيئة كاملة ؛ بغرس العقائد ، وشحذ الهمم ، وترويض العزائم ، وتحميلها الشدائد ، وعقد القلوب على حب الله ورسوله قبل كل حب ، وإيثار ما عند الله تعالى على ما عند غيره ، واليقين بوعده ووعيده ، والإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة .
فإذا ما استكملت النفوس فضائلها ، والهمم طاقتها ، والعزائم قوتها ، والقلوب صدق إيمانها وتوجهها ، عند ذلك تكون مرحلة إظهار دين الإسلام على الدين كله ولوكره الكافرون . فإنها الغاية العظمى ، والمطلب الأسنى ، لكل مسلم .(1/398)
إن العمل على إظهار دين الله ونصره ، يعني الدخول في ميادين الصراع ، والمغالبة بين الحق والباطل ، لإظهار الحق وإزهاق الباطل . وإن الباطل لايزهق ، ولايدحض ، إلاّ بقوة قاهرة من الحق وأهله ، تبدأ بقوة الإيمان وصدق اليقين لدى أهل الحق ، الذين يسعون لإظهاره ، وحماية جنابه .
ثم بقوة الإرادة والعزيمة منهم على إظهار الحق ونصره .
ثم بقوة الاستعداد للتضحية والفداء في سبيله .
ثم بقوة الحجة والبرهان ، لدحض الباطل أولاً من ميادين العقل ، وساحات القلوب .
ثم بقوة الصبر والثبات على تلقي الأذى ، والكيد ، والمكر ، من الأعداء .
ثم بقوة العدد والعدة في ميادين الجهاد في سبيل الله .
ثم بقوة الصدق عند اللقاء والمواجهة .
ولعل ذلك من حكمة تأخر الإذن بالجهاد في سبيل الله إلى ما بعد الهجرة ، وإلى ما بعد تحقق النصرة ، وتحفز النفوس المؤمنة إلى إظهار دين الله ، وإعلاء كلمته . إذ إنه لايكفي لإقامة الجهاد مجرد الرغبة في الانتصار على الأعداء ، وإظهار الدين ، فقد أخبرنا الله عن حال الملأ من بني إسرائيل الذين طلبوا الجهاد ، دون أن يعدوا أنفسهم له ، فقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيّ لّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نّقَاتِلْ في سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاّ نُقَاتِلَ في سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلّوْاْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ}[البقرة:246] .
فلما كانوا غير مؤهلين لقتال أعدائهم لا بقوة إيمانية ولا بقوة ميدانية ، لم ينفعهم مجرّد الحماس والرغبة في القتال ، فتولوا منخذلين إلاّ قليلاً منهم .(1/399)
إن مرحلة الإعداد للجهاد في سبيل الله إعلاءً لكلمة الله وإظهاراً لدينه وإبلاغاً لرسالته ، تقوم على نوعين من الإعداد :
النوع الأول : الإعداد الميداني المادّي ، ويكون بأمرين :
أ – حشد الجيوش المؤمنة ، وتدريبها على صنوف القتال .
ب – جلب الأسلحة والمعدّات العسكرية اللازمة لذلك .
وهذا النوع يتناول في أبحاث ودراسات متخصّصة تعنى بالجانب العسكري الميداني ليس هذا البحث مكاناً لها ، وإنّما يتناول النوع الثاني من الإعداد على ما سنبيّنه إن شاء الله .
أمَّا النوع الثاني : فهو الإعداد الإيماني العقدي : وهو موضوعنا في هذا المبحث ، ويتحقّق هذا النوع بأمور نفصّلها فيما يلي إن شاء الله :
1- التربية والتزكية :
وقد مرّ معنا فصلٌ كاملٌ ، في معنى التزكية ، والوسط الاجتماعي الذي تتم فيه ، والوسائل والسبل الموصلة إليها ، بما يغني عن إعادة القول ، وتفصيل البحث فيها ، فليرجع إليه .
2- غرس العقيدة الصحيحة وتمكينها في النفوس :
فالقرآن الكريم كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة ببيان العقيدة الإسلامية من جميع جوانبها في وضوح وجلاء ، مع نسف العقائد الجاهلية في قوة ومضاء ، في غير هوادة ، ولا غموض . وهذه هي التصفية والتربية التي نادى بها بعض الدّعاة في زماننا .
ففي غرس عقيدة التوحيد ونسف عقائد الشرك :
قال الله تعالى : {قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[سورة الكافرون] .
وقال تعالى : {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ . الله الصّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ}[سورة الإخلاص] .(1/400)
وقال تعالى : {قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هََذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرَى قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:19] .
وقال تعالى : {أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ . لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ . لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هََذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ . وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:21،25] .
وقال تعالى مبيناً مصير المشركين يوم القيامة وعاقبتهم هم وشركاءهم ، في تهديد لهم ، وتخويف ، وتنديد شديد ، قال تعالى : {إِنّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ . إِنّهُمْ كَانُوَاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلََهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ . وَيَقُولُونَ أَإِنّا لَتَارِكُوَ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مّجْنُونٍ . بَلْ جَآءَ بِالْحَقّ وَصَدّقَ الْمُرْسَلِينَ . إِنّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الألِيمِ . وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . إِلاّ عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ}[الصافات:34ـ40] .
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل هجرته ، يواجه أشدّ صنوف الأذى من المشركين ، وهو يدعو الناس إلى كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) لا يردّه ذلك عن دعوته .(1/401)
جاء في مجمع الزوائد للهيثمي(1) قال : عن الحرث بن الحرث ، قال : قلت لأبي : ما هذه الجماعة ، قال هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم ، قال : فنزلنا ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل ، والإيمان ، وهم يردون عليه ، ويؤذونه ، حتى انتصف النهار ، وانصدع الناس عنه . [قال الهيثمي : رواه الطبراني ، ورجاله ثقات] .
وعن منبت الأزدي ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ، وهو يقول : (( يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلاّ الله تفلحوا )) . فمنهم من تفل في وجهه ، ومنهم من حثا عليه التراب ، ومنهم من سبّه ، حتى انتصف النهار . [قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه منبت بن مدرك ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات] .
وعن رجل من بني مالك بن كنانة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز ، يتخللها ، يقول : (( يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلاّ الله تفلحوا )) ، قال : وأبوجهل يحثي عليه التراب ، ويقول : لايغوينكم هذا عن دينكم ، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم ، وتتركوا اللات والعزى ، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . [قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح] .
__________
(1) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 6/21،22 .(1/402)
وعن ربيعة بن عباد بن بني الديل ، وكان جاهلياً ـ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز ، وهو يقول : (( يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلاّ الله )) ، والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيئ الوجه ، أحول ، ذو غديرتين ، يقول : إنه صابئ ، كاذب . يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه ، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا لي : هذا عمه أبو لهب . وفي رواية : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفرّ منه ، وهو يتبعه . [قال الهيثمي : رواه أحمد ، وابنه ، والطبراني في الكبير بنحوه ، والأوسط ، باختصار الأسانيد ، وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد ثقات الرجال] .
وقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم عقيدة الإسلام ، حتى تمكنت في قلوبهم ، وامتزجت بدمائهم وأرواحهم ، فجلّ القرآن المكي ، إنما كان في بيان العقيدة ، وتأكيدها ، والدعوة إليها ، والإجابة على ما يدور في أذهان الباحثين عن الحق وقلوبهم من أسئلة عن دينهم وعقيدتهم ، أو ما يثيره المعاندون من أسئلة يحسبونها حججاً لباطلهم .
فإذا كان السؤال عن الله سبحانه وتعالى ، فإن القرآن يجيب عنه ، ويوضح من هو الله؟ .
1- {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ . الله الصّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ}[سورة الإخلاص] .
2- {هُوَ الله الّذِي لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ هُوَ الرّحْمََنُ الرّحِيمُ . هُوَ الله الّذِي لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبّرُ سُبْحَانَ الله عَمّا يُشْرِكُونَ . هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا في السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:22ـ24] .(1/403)
3- {الله لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255] .
وإذا كان السؤال عن الكون ، وكيفية خلقه؟ ، فإن القرآن يجيب ، موضحاً كيفية خلق الكون .
{أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ . وَجَعَلْنَا في الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ . وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ . وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء:30ـ33] .
وإذا كان السؤال ، عن خلق الإنسان ، فإن القرآن يتنزل بالجواب المبين :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ . ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مّكِينٍ . ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:12ـ14] .
وإذا كان السؤال ، عن المقصد الذي خلق الإنسان من أجله ، والوظيفة التي حمل أمانتها وكلف بها ، فإن القرآن الكريم ، يبين الجواب عنه أحسن بيان :(1/404)
قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ . مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنّ الله هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56ـ58] .
وقال تعالى : {إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً . لّيُعَذّبَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ الله غَفُوراً رّحِيماً}[الأحزاب:72ـ73] .
وإذا كان السؤال ، عن مصير هذا الإنسان ومآله ، فإن القرآن يوضح الأمر ويجليه ، مبيناً أن الدار الآخرة هي مصير الإنسان ومآله ،
قال الله تعالى في سورة السجدة : {وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا في الأرْضِ أَإِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ . قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ}[السجدة:10،11] .
وقال تعالى : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ . أَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوَى نزلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ . وَأَمّا الّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النّارُ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ}[السجدة:18ـ20] .(1/405)
والآيات في بيان اليوم الآخر ، والجنة والنار ، وحال الإنسان في الدار الآخرة ، لاتكاد تخلو منها سورة في القرآن الكريم ، بل إن السور المكية إنما تدور موضوعاتها حول محور العقيدة ، وتصوير أهوال اليوم الآخر . وفي هذا دلالة واضحة على أن ترسيخ العقيدة في النفوس ، وتجليتها وإيضاحها بكل تفصيل ودقة ، هو أساس من أسس تكوين الاستعداد لدى الفئة المؤمنة ، التي يقوم بها الدين في الأرض ، ويظهره الله على يديها .
ومن غرس العقيدة الصحيحة وتمكينها في النفوس ، تعميق اليقين في القلوب بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى :
قال الله تعالى : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ الله رَبّ الْعَالَمِينَ}[التكوير:29] .
وقال تعالى : {مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ في الأرْضِ وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاّ في كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ . لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:22،23] .
فإذا علم العبد المؤمن علم اليقين أن كل شيء يجري منه أو عليه إنما هو بقدر الله تعالى ، أقبل على عمله وهو مطمئن النفس بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فقويت بذلك عزيمته على مواجهة الصعاب ، وتحمل المشاق في سبيل الله ومرضاته . روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر ، فنزلت : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ . إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:48ـ49] . [رواه مسلم] .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء ))[رواه مسلم] .(1/406)
وعن أبي حفصة الشامي ، قال : قال عبادة بن الصامت لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يك ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصبك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : رب وماذا أكتب؟ ، قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة )) ، يابني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من مات على غير هذا فليس مني ))(1)[رواه أبوداود في سننه] .
قال ابن القيم رحمه الله ـ بعد أن أورد جملة من أحاديث القدر ـ : (( فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لايمنع العمل ولايوجب الاتكال عليه ، بل يوجب الجد والاجتهاد ، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال : ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن . وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم ، وصحة علومهم ))(2) .
وإن تقديم التضحيات بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله في الأرض ، لايتم إلاّ لمن أوتي من الفهم والإيمان بالقدر مثل ما أوتي الصحابة رضي الله عنهم أو قريباً منه ، فإنهم لما أيقنوا بأن قدر الله قد سبق ، وأنهم لن يصيبهم إلاّ ما كتب لهم ، اجتهدوا في طاعة الله وعبادته ، وبذل النفس والنفيس في سبيل إظهار دينه ، وإعلاء كلمته ، فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، دون الانشغال بالنتائج ، أو التعلق بالأسباب تعلقاً يخدش التوحيد أو يوهن الإيمان بل عملوا واجتهدوا وجاهدوا وتوكّلوا على الله الواحد القهار ، فنصرهم الله وأعز بهم الإسلام .
3- التعبد والتبتل :
العبادة هي شخص الإيمان وصورته ، وفيها تكمن حقيقته ، وبها يعرف ضعفه وقوته ، فالإيمان يظل دعوى لادليل عليها ، حتى تصدقه العبادة وتدل عليه .
__________
(1) شمس الحق آبادي ـ عون المعبود وشرح سنن أبي داود ـ برقم (4686) 6/305 .
(2) ابن القيم ـ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ـ ص46 .(1/407)
والعبادة روضة المحبين ، وميدان الصادقين ، وطريق العباد إلى رضوان رب العالمين . وبأعمال العبادات يزداد الإيمان ويقوى ، وتتأصل جذوره في القلوب وترسخ . وبها تتعود النفوس المؤمنة على الصبر ، وتحتسب الأجر ، وتستشعر القرب من الله ، وتتخذ الزلفى إليه .
لذلك كان التعبد أساساً في تمكين الإيمان وتحقيق اليقين . ولعل هذا يفسّر نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول أيام الدعوة ، يعلمه الوضوء والصلاة . قال ابن إسحاق : (( وحدثني بعض أهل العلم : أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبريل عليه السلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رأى جبريل توضأ ، ثم قام به جبريل فصلى به ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ، ثم انصرف جبريل عليه السلام . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة ، كما أراه جبريل ، فتوضأت ، كما توضأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما صلّى به جبريل فصلت بصلاته ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/244 .(1/408)
وكان من حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الصلاة ، أنهم مع خوفهم من قومهم ، وتخفيهم عنهم بإسلامهم ، إلاّ أنهم كانوا يجتمعون فيخرجون في شعاب مكة ، لأداء الصلاة ، قال ابن إسحاق : (( وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ، ذهبوا في الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم . فبينا سعد بن أبي وقاص في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلاً من المشركين بلَحي بعير ، فشجه ، فكان أول دم هريق في الإسلام ))(1) .
__________
(1) المصدر السابق 1/263 .(1/409)
وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج معهم ، أو مع بعضهم إلى الشعاب ، لأداء الصلاة ، قال ابن إسحاق : (( وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة ، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ، ومن جميع أعمامه ، وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذ أمسيا رجعا . فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثم إن أباطالب عثر عليهما يوماً ، وهما يصليان ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ ، قال : (( أي عمّ ، هذا دين الله ، ودين ملائكته ، ودين رسله ، ودين أبينا إبراهيم ـ أو كما قال صلى الله عليه وسلم ـ بعثني الله به رسولاً إلى العباد ، وأنت أي عمّ ، أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوته إلى الهدى ، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه )) ، أو كما قال . فقال أبوطالب : أي ابن أخي ، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ، ولكن والله لايُخلَص إليك بشيء تكرهه ما بقيت . وذكروا أنه قال لعلي : أي بني ، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ ، فقال : يا أبت ، آمنت بالله وبرسول الله ، وصدقته بما جاء به ، وصليت معه لله واتبعته . فزعموا أنه قال له : أما إنه لم يدعك إلاّ إلى خيرٍ فالزمه ))(1) .
ولما للعبادة ، والتبتل ، من أثر في تمكين الإيمان ، وترسيخ اليقين ، في قلوب المؤمنين ، فقد فرض الله سبحانه وتعالى قيام الليل على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهو بمكة ، وذلك لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المزمل ، قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الْمُزّمّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:1ـ4] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/247 .(1/410)
جاء في تفسير ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله تعالى :
{ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}، [قال : ] فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلاّ قليلاً ، فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف عنهم فرحمهم ، وأنزل الله بعد هذا :
{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ}. إلى قوله : {فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسّرَ مِنْهُ}[المزمل:20] ، فوسع الله ، وله الحمد ، ولم يضيق .
وعن سعيد قال : لما أنزل الله على نبيه : {يَا أَيُّهَا الْمُزّمّلُ}. قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين : {إِنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ...}. إلى قوله : {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ}. فخفف الله عنهم بعد عشر سنين .
وعن قتادة : )){ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}. قاموا حولاً أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم ، فأنزل الله تخفيفاً بعد في آخر السورة ))(1) .
__________
(1) ابن جرير الطبري ـ جامع البيان ـ 14/125،126 .(1/411)
وفي صحيح مسلم حديث طويل جاء فيه: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (( أن الله تعالى افترض قيام الليل على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً كاملاً ، ثم خفف عنهم لما أنزل آخرها بعد ذلك فأصبح قيام الليل تطوعاً . ولما في هذا الحديث من فوائد متعددة للدعاة خاصّة ، ولسائر المؤمنين عامة ، فإني أورده بطوله من صحيح الإمام مسلم ، قال : عن قتادة عن زرارة : (( أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله ، فقدم المدينة ، فأراد أن يبيع عقاراً له بها ، فيجعله في السلاح والكراع ، ويجاهد الروم حتى يموت . فلما قدم المدينة ، لقي أناساً من أهل المدينة ، فنهوه عن ذلك ، وأخبروه : أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : (( أليس لكم في أسوة؟ )) ؛ فلما حدثوه بذلك ، راجع امرأته ، وقد كان طلقها ، وأشهد على رجعتها . فأتى ابن عباس ، فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن عباس : ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قال : من؟ ، قال : عائشة ، فأتها فاسألها ، ثم أتني فأخبرني بردها عليك . فانطلقت إليها ، فأتيت على حكيم بن أفلح ، فاستلحقته إليها ، فقال : ما أنا بقاربها ، لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً ، فأبت فيهما إلاّ مضياً . قال : فأقسمت عليه . فجاء ، فانطلقنا إلى عائشة ، فاستأذنا عليها ، فأذنت لنا ، فدخلنا عليها ، فقالت : أحكيم؟ (فعرفته) ، فقال : نعم ، فقالت : من معك؟ ، قال : سعد بن هشام ، قالت : ابن هشام؟ ، قال ابن عامر : فترحمت عليه ، وقالت : خيراً . قال قتادة : ـ وكان أصيب يوم أحد ـ فقلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألست تقرأ القرآن؟ ، قلت : بلى ، قالت : فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ، قال : فهممت أن(1/412)
أقوم ، ولا أسأل أحداً عن شيء حتى أموت ، ثم بدالي فقلت : انبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ألست تقرأ : {يَا أَيُّهَا الْمُزّمّلُ }؟ ، قلت : بلى ، قالت : فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه به حولاً ، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة . قال : قلت : يا أم المؤمنين انبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كنا نعدّ له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل . فيتسوّك ، ويتوضأ ، ويصلي تسع ركعات ، لايجلس فيها إلاّ من الثامنة ، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ، ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يقوم فيصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ، ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلّم وهو قاعد ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني . فلما سنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذه اللحم ، أو تر بسبع ، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول ، فتلك تسع يا بني . وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أحب أن يداوم عليها . وكان إذا غلبه النوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان . قال : فانطلقت إلى ابن عباس ، فحدثته بحديثها ، فقال : صدقت ، ولوكنت أقربها ، أو أدخل عليها ، لأتيتها حتى تشافهني به . قال : قلت : لو علمت أنك لاتدخل عليها ما حدثتك حديثها ))[رواه مسلم] .(1/413)
وفي حديث جبريل لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان ، أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يقوم على عبادات ظاهرة بدنية ومالية ، وأن الإيمان منه يقوم على عبادات باطنة قلبية ، وأن غاية المسلم أن يبلغ بعبادته درجة الإحسان ، وهي أن يعبد الله كأنه يراه . عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لايرى عليه أثر السفر ، ولايعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الإسلام ؛ أن تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتجح البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) ، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأل ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان؟ ، قال : (( أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره )) ، قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان؟ ، قال : (( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) ، قال : صدقت ... الحديث .[رواه مسلم] .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في العبادة ، ويجتهدون في التعبد والتبتل حتى يبلغ بعضهم أن ينهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن مجاوزة الحد في العبادة ، والمشقة على النفس .(1/414)
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها ، وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء ، فلا أتزوج أبداً . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقال : (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ، أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ))[متفق عليه] .
وعن أنس رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا حبل ممدود بين الساريتين ، فقال : (( ما هذا الحبل؟ )) ، قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( حلّوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذ فتر فليرقد ))[متفق عليه] .(1/415)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول : والله لأصومن النهار ، ولأقومن الليل ، ما عشت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنت الذي تقول ذلك؟ )) ، فقلت له : قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قال : (( فإنك لا تستطيع ذلك ، فصم وأفطر ، ونم وقم ، وصم من الشهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر )) ، قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، قال : (( فصم يوماً وأفطر يومين )) ، قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، قال : (( فصم يوماً وأفطر يوماً ، فذلك صيام داود صلى الله عليه وسلم ، وهو أعدل الصيام )) . وفي رواية : (( هو أفضل الصيام )) ، فقلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا أفضل من ذلك )) ، ولأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ من أهلي ومالي . وفي رواية : (( ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة؟ )) ، فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أرد بذلك إلاّ الخير ، قال : (( فصم صوم نبي الله داود ، فإنه كان أعبد الناس ، واقرأ القرآن في كل شهر )) ، قلت : يا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : (( فاقرأه في كل عشرين )) ، قلت : يانبي الله إني أطيق أفضل من ذلك؟ ، قال : (( فاقرأه في كل عشر )) ، قلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : (( فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك )) ، فشددت ، فشُدِّد عليّ ، وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر )) ، قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، وكان يتعاهد كنته ـ أي : امراة ولده ـ فيسألها عن بعلها ، فتقول له : نعم الرجل من رجل ، لم يطأ لنا فراشاً ، ولم يفتش(1/416)
لنا كنفاً منذ أتيناه . فلما طال ذلك عليه ، ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( القني به )) ، فلقيته بعد ذلك ، فقال : (( كيف تصوم؟ )) ، قلت : كل يوم ، قال : (( وكيف تختم؟ )) ، قلت : كل ليلة ـ وذكر نحوما سبق ـ وكان يقرأ على بعض أهله السبع الذي يقرؤه ، يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل ، وإذا أراد أن يتقوّى أفطر أياماً ، وأحصى ، وصام مثلهن ، كراهية أن يترك شيئاً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم ))[قال الإمام النووي : كل هذه الروايات صحيحة معظمها في الصحيحين وقليل منها في أحدهما](1) .
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يتخذون العبادة زاداً ، وقربى ، وزلفى إلى الله ، وكانوا يتقوون بها على الجهاد والدعوة ، وبذل النفس والمال ، فكيف الحال بالدعاة إلى الله اليوم؟ وهم يكثرون القول ، ويقلّون العمل؟ ، ويذكّرون الناس ، وينسى كثير منهم نفسه؟ ، ونحن منهم ، ولاحول ولا قوة إلاّ بالله .
4- تعميق مبدأ الولاء والبراء في النفوس المؤمنة :
إن دخول الإسلام لا يكون إلا من باب واحد هو باب (( لا إله إلاّ الله )) ، هذه الكلمة العظيمة التي ـ كما يقول ابن القيم ـ لأجلها نصبت الموازين ، ووضعت الدواوين ، وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، وأسست الملة ، ولأجلها جردت السيوف للجهاد ، وهي حق الله على العباد .
__________
(1) النووي ـ رياض الصالحين ـ ص79 .(1/417)
هذه الكلمة العظيمة التي هي الأساس الراسخ لمبدأ الولاء والبراء في الإسلام ، حيث إن معناها : لامعبود بحق إلاّ الله ، وهذا المعنى يتضمن البراء من عبادة ما سوى الله تعالى ، والولاء لله تعالى بعبادته وحده لاشريك له . قال الله تعالى : {قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ .لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[سورة الكافرون] .
وقال تعالى : {وَإِن كَذّبُوكَ فَقُل لّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيَئُونَ مِمّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ}[يونس:41] .
وقال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ في شَكّ مّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَلََكِنْ أَعْبُدُ الله الّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:104] .
وقال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[الشورى:15] .
وهذه الآيات جميعها مكية ، ولم تزل تتواصل آيات الولاء والبراء مدة نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم سواء في مكة أو في المدينة ، بل إن الآيات المدنية كانت أقوى لهجة ، وأكثر حسماً في هذه القضية ، ولعل ذلك بسبب تميز المجتمع المسلم في المدينة ، فكانت الآيات المدنية تؤكد على وجوب هذه التميز ، وتطالب كل مسلم بأن يكون في حياته وشخصيته محققاً لهذا التميز العظيم ؛ الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين والمنافقين .(1/418)
قال الله تعالى : {لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة:22] .(1/419)
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً في سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ . إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوَاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسّوَءِ وَوَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ . لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ رّبّنَا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[الممتحنة:1ـ4] .(1/420)
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ . فَتَرَى الّذِينَ في قُلُوبِهِم مّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:51ـ52] .
وقال تعالى : {إِنّمَا وَلِيّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَن يَتَوَلّ الله وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ فَإِنّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ . يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتّقُواْ الله إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ}[المائدة:55ـ57] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أوثق عرى الإيمان : الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله . والبغض في الله عزوجل ))(1) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ))(2)[رواه أبوداود] .
__________
(1) الألباني ـ صحيح الجامع الصغير ـ برقم 2539 .
(2) الخطيب التبريزي ـ مشكاة المصابيح ـ برقم (30) 1/17 .(1/421)
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على فهم تام بمعنى (( لا إله إلاّ الله )) ، وما تتضمنه من معنى الولاء والبراء ، فقد كان أحدهم منذ دخوله الإسلام ، ونطقه بالشهادتين ، يخلع كل ولاء لغير الله ويطّرحه ، فلا للعشيرة ولا للأهل ولا للوالد ولا للولد ولاء إلاّ من بعد الولاء لله تعالى ، ووفق ما يقتضيه . وقد سطّروا رضي الله عنهم في ذلك أعاجيب ، من المواقف الثابتة ، والإرادات الحاسمة ، والصدق التام . بلا تردد ، ولا مداهنة ، ولا تنازل عن شيء من الولاء لله ، والعداء لأعدائه .(1/422)
أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير عن أبيه ـ أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ـ قال : (( كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديماً ، وكان أول إخوته أسلم ، وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف على شفير النار ، فذكر من سعتها ما الله أعلم به ، ويرى في النوم كأن أباه يدفعه فيها ، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بحقويه ، لئلا يقع ، ففزع من نومه ، فقال : أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق . فلقي أبا بكر بن أبي قحافة ، فذكر ذلك له ، فقال : أريد بك خير . هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه ، فإنك ستتبعه ، وتدخل معه في الإسلام ، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها ، وأبوك واقع فيها . فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد ، فقال : يامحمد ، إلام تدعو؟ ، قال : (( أدعوك إلى الله وحده لاشريك له وأن محمداً عبده ورسوله ؛ وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا يبصر ، ولا ينفع ، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده )) ، قال خالد : فإني أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله ، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه . وتغيب خالد ، وعلم أبوه بإسلامه ، فأرسل في طلبه فأتى به ، فأنبّه ، وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه ، وقال : والله لأمنعنّك القوت ، فقال خالد : إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به ، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يكرمه ويكون معه ))(1) ، وفي رواية للحاكم في مستدركه من طريق الواقدي : (( وأرسل أبوه في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ، ورافعاً مولاه ، فوجدوه ، فأتوا به أباه ـ أبا أحيحة ـ فأنّبه ، وبكّته ، وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه ، ثم قال : أتبعت محمداً وأنت ترى خلافه قومه ، وما جاء به من عيب آلهتهم ، وعيبه من مضى من آبائهم؟ ، فقال خالد : قد صدق ـ والله ـ واتبعته
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/31 .(1/423)
، فغضب أبوه ـ أبو أحيحة ـ ونال منه ، وشتمه ، ثم قال : اذهب يالكع حيث شئت ، والله لأمنعنك القوت ، قال خالد : فإن منعتني فإن الله عز وجل يرزقني ما أعيش به ، فأخرجه ، وقال لبنيه : لا يكلمه أحد منكم إلاّ صنعت به ما صنعت به ، فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يلزمه ، ويكون معه ))(1) ، وفي الاستيعاب لابن عبد البر من طريق الواقدي : (( وتغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ، فكان خالد أول من هاجر إليها ))(2) . وأخرج الحاكم أيضاً (( عن خالد بن سعيد أن سعيد بن العاص بن أمية مرض ، فقال : لئن رفعني الله من مرضي هذا لايعبد إله ابن أبي كبشة ببطن مكة أبداً ، فقال خالد بن سعيد عند ذلك : اللهم لا ترفعه ، فتوفى في مرضه ذلك ))(3) .
وفي إسلام حصين والد عمران رضي الله عنهما ، يظهر الولاء والبراء من عمران لأبيه في مجلس واحد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أعرض عنه عمران وهو كافر ، فلما أسلم قبّل رأسه ويديه ورجليه ، ففي خبر أخرجه ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين ، جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحصين : (( قل : اللهم استهديك لأرشد أمري وزدني علماً ينفعني )) ، فقالها حصين ، فلم يقم حتى أسلم . فقام إليه عمران فقبّل رأسه ويديه ورجليه ، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى ، وقال : (( بكيت من صنيع عمران ، دخل حصين وهو كافر ، فلم يقم إليه عمران ، ولم يلتفت ناحيته . فلما أسلم قضى حقه ، فدخلني من ذلك الرقّة ))(4) .
__________
(1) أبوعبد الله الحاكم ـ المستدرك على الصحيحين ـ 3/277 .
(2) ابن عبد البر ـ الاستيعاب ـ 1/401 .
(3) أبوعبد الله الحاكم ـ المستدرك على الصحيحين ـ 3/378 .
(4) ابن حجر ـ الإصابة في تمييز الصحابة ـ 1/337 .(1/424)
ومن المواقف الثابتة في الولاء لله والبراء من أعدائه ، ولو كانوا من أقرب الناس قربى ، ماكان من شأن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع أمه ، وهي تعمل جاهدة لرده عن دينه . أخرج الطبراني في كتاب العشرة ، عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال : أنزلت في هذه الآية : {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا}الآية [لقمان:15] ، قال : كنت رجلاً برّاً بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت ، لتدعن دينك هذا ، أو لا آكل ، ولا أشرب حتى أموت ، فتعيّر بي ، فيقال : يا قاتل أمه ، فقلت : لاتفعلي يا أمه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء ، فمكثت يوماً وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت ، فمكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت ، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحت قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك ، قلت : يا أمه ، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفساً نفساً ، ما تركت ديني هذا لشيء ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت لا تأكلي ، فأكلت ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 3/381 .(1/425)
ومن مواقف الصحابة رضي الله عنهم في الولاء والبراء ، والثبات على الحق ما كان منهم في بدر ، إذ كان أحدهم يواجه أباه من المشركين أو ابنه أو أخاه بالسيف ، ليقتله ولاءً لله تعالى ولرسوله ، وبراءً من أعداء الله ورسوله ، ولوكانوا من أقرب الناس قربى . قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : (( أنزلت هذه الآية : {لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ}. إلى آخرها ، في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم ، ولوكان أبوعبيدة حياً لاستخلفته . وقيل في قوله تعالى : {وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ}. نزلت في أبي عبيدة ، قتل أباه يوم بدر ، : {أَوْ أَبْنَآءَهُمْ}في الصديق ، همّ يومئذٍ بقتل ابنه عبد الرحمن {أَوْ إِخْوَانَهُمْ}في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}في عمر ، قتل قريباً له يومئذٍ أيضاً ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذٍ ، فالله أعلم ))(1) .
وقد نهض أبوبكر الصديق رضي الله عنه إلى ابنه عبد الرحمن ، يوم أحد ، وكان في صفوف المشركين ، ليقتله . كما جاء في كتاب المغازي للواقدي ، في يوم أحد ، قال : وطلع يومئذٍ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس ، مدججاً لا يرى منه إلاّ عيناه ، فقال : من يبارز؟ ، أنا عبد الرحمن بن عتيق ، قال : فنهض إليه أبوبكر ، فقال : يارسول الله ، أنا أبارزه ، وقد جرد أبوبكر سيفه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( شم سيفك ، وارجع إلى مكانك ، ومتعنا بنفسك ))(2) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 4/288 .
(2) الواقدي ـ كتاب المغازي ـ 1/257 .(1/426)
وهكذا كان حال مصعب بن عمير رضي الله عنه ، مع أخيه أبي عزيز يوم بدر ، قال ابن إسحاق : (( وحدثني نبيه بن وهب ، أخو بني عبد الدار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه ، وقال : (( استوصوا بالأسارى خيراً )) . قال : وكان أبوعزيز بن عمير بن هاشم ، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى . قال : فقال أبوعزيز : مرّ بي أخي مصعب بن عمير ، ورجل من الأنصار يأسرني ، فقال : شدّ يديك به ، فإن أمّه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ... قال ابن هشام : وكان أبوعزيز صاحب لواء المشركين ببدر ، بعد النضر بن الحارث ، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليَسَر ـ وهو الذي أسره ـ ما قال ، قال له أبوعزيز : يا أخي ، هذه وصاتك بي ، فقال له مصعب : إنه أخي دونك ))(1) .
ولما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسرى ، (( قال لعمر : (( ما ترى يا ابن الخطاب؟ )) ، قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبوبكر ، ولكن أرى أن تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه ، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين ، وهؤلاء صناديدهم ، وأئمتهم ، وقادتهم ))(2) .
إن هذه المواقف الحاسمة من الشرك وأهله ، لتدل على أن الصحابة رضي الله عنهم ، قد امتلأت قلوبهم بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبق لقرابة لا تؤمن بالله ورسوله ذرة من محبة أو ولاء .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/646 .
(2) المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ ص255 .(1/427)
ولم يكن الأنصار بأقل من المهاجرين في ولائهم لله ورسوله ، وبراءتهم من المشركين والمنافقين ، وكل من حاد الله ورسوله . بل إن لهم من المواقف المشرفة في ذلك ، ما يثير الإعجاب والإعتزاز في نفوس المؤمنين . ومن ذلك أنه لما أنزل الله سبحانه وتعالى في المنافقين قوله تعالى : {يَقُولُونَ لَئِن رّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْهَا الأذَلّ}الآية[المنافقون:8] ، وكان الذي قال ذلك هو عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين ، وكانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع ، فكان ممن تصدى له في ذلك ، وعزم على قتله ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي . قال ابن كثير : (( وقال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ، أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ لما بلغه ما كان من أمر أبيه ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يارسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجلٍ أبرّ بوالده مني . إني أخشى إن [أمرت] به غيري فيقلته ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتل مؤمناً بكافر ، فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بل نترفق به ، ونحسن صحبته ، ما بقي معنا )) . وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما : أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة ، وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة ، واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي ، قال له ابنه : وراءك ، فقال : مالك ويلك؟ ، فقال : والله لاتجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه العزيز ، وأنت الذليل . فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إنما يسير ساقة ، فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه ، فقال ابنه عبد الله : والله(1/428)
يارسول الله ، لايدخلها حتى تأذن له ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن . وقال أبوبكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أبوهارون المدني ، قال : قال عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول لأبيه : والله لاتدخل المدينة أبداً ، حتى تقول : رسول الله الأعز وأنا الأذل . قال : وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يارسول الله ، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي ، فو الذي بعثك بالحق ، ما تأملت وجهه قط هيبة له ، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك ، فإني أكره أن أرى قاتل أبي ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 4/325 .(1/429)
وجاء في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، عندما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك هو ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية رضي الله عنهم أجمعين ، وما كان من أمر معاقبتهم على ذلك بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم ، قال كعب بن مالك : (( ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، أيها الثلاثة ، من بين من تخلف عنه ، قال : فاجتنبنا الناس ، أو قال : تغيّروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا ، وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ، ولايكلمني أحد . وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ، ثم أصلي قريباً منه ، وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال عليّ من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فو الله ما ردّ علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله ، هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ، فسكت ، فعدت فناشدته ، فسكت . فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار... )) الحديث [متفق عليه] .(1/430)
ومن ذلك ما كان من أمر محيّصة بن مسعود وأخيه حويصة الأنصاريين الأوسيين رضي الله عنهما . قال ابن إسحاق : (( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه )) ، فوثب محيّصة بن مسعود على ابن سنينة ، رجل من تجار يهود ، كان يلابسهم ، ويبايعهم ، فقتله . وكان حويّصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم بعد ، وكان أسنّ من محيّصة ، فلما قتله ، جعل حويّصة يضربه ، ويقول : أي عدوّ الله ، أقتلته؟ ، أما والله لربّ شحمٍ في بطنك من ماله . قال محيّصة : فقلت : والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك . قال : فو الله إن كان لأول إسلام حويّصة ، قال : آء لله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ ، قال : نعم ، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها ، قال : والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب ، فأسلم حويّصة ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/58 .(1/431)
ومن صور الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والبراء من أعداء الله الكافرين والمنافقين ، التي سطرتها مواقف الأنصار ، الصادقة ، النبيلة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، ما كان من إخراج بعضهم للمنافقين من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إخراجاً عنيفاً ، مع قرابتهم لهم في النسب ، إذ كان كل رجل منهم يخرج من المنافقين من كان من قرابته ، وذي نسبه . قال ابن إسحاق : (( وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد ، فيستمعون أحاديث المسلمين ، ويسخرون ، ويستهزئون بدينهم ، فاجتمع يوماً في المسجد منهم ناس ، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم ، خافضي أصواتهم ، قد لصق بعضهم ببعض ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً . فقام أبوأيوب ، خالد بن زيد بن كليب ، إلى عمرو بن قيس أحد بني غنم بن مالك بن النجار ـ كان صاحب آلهتهم في الجاهلية ـ فأخذ برجله ، فسحبه حتى أخرجه من المسجد ، وهو يقول : أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة . ثم أقبل أبوأيوب أيضاً إلى رافع بن وديعة ، أحد بني النجار ، فلبّبه بردائه ، ثم نتره نتراً شديداً ، ولطم وجهه ، ثم أخرجه من المسجد ، وأبوأيوب يقول له : أفٍّ لك منافقاً خبيثاً : أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو ، وكان رجلاً طويل اللحية ، فأخذ بلحيته ، فقاده بها قوداً عنيفاً ، حتى أخرجه من المسجد . ثم جمع عمارة يديه ، فلدمه بهما في صدره لدمة خرّ منها . قال : يقول : خدشتني ياعمارة ، قال : أبعدك الله يا منافق ، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك ، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : وقام أبومحمد ، رجل من بني النجار ، كان بدرياً ، وأبومحمد مسعود بن أوس بن زيد .. إلى قيس بن عمرو بن سهل ، وكان قيس غلاماً شاباً ، وكان لايعلم في المنافقين شاب غيره ، فجعل يدفع في(1/432)
قفاه حتى أخرجه من المسجد . وقام رجل من بلخدرة بن الخزرج ، رهط أبي سعيد الخدري ، يقال له : عبد الله بن الحارث ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج المنافقين من المسجد ، إلى رجل يقال له : الحارث بن عمرو ، وكان ذا جُمّة ، فأخذ بجمته ، فسحبه بها سحباً عنيفاً على ما مرّ به من الأرض ، حتى أخرجه من المسجد . قال : يقول المنافق : لقد أغلظت يا ابن الحارث ، فقال له : إنك أهل لذلك ، أي عدو الله ، لما أنزل الله فيك ، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنك نجس . وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زويّ بن الحارث ، فأخرجه من المسجد إخراجاً عنيفاً ، وأفّف منه ، وقال : غلب عليك الشيطان وأمره ))(1) .
وفي عقيدة الولاء والبراء : الحب في الله والبغض في الله ، يقول ابن تيمية رحمه الله : (( وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ، وإن ظلمك ، واعتدى عليك . والكافر تجب معاداته ، وإن أعطاك وأحسن إليك ؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل ، وأنزل الكتب ، ليكون الدين كله لله ، فيكون الحب لأوليائه ، والبغض لأعدائه ، والإكرام لأوليائه ، والإهانة لأعدائه ، والثواب لأوليائه ، والعقاب لأعدائه . وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر ، وفجور وطاعة ، ومعصية وسنّة وبدعة ، استحق من الموالاة والثواب بقدر مافيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد ، موجبات الإكرام والإهانة . فيجتمع له من هذا وهذا ، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته . هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه ))(2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/528 .
(2) ابن تيمية ـ مجموع الفتاوى ـ 28/209 .(1/433)
وقول ابن تيمية رحمه الله أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، دلّل عليه بقوله تعالى : {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيَءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ الله يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ . إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:9،10] ، قال رحمه الله : (( فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي ، والأمر بالإصلاح بينهم ))(1) .
وقوله : (( والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك )) دليله قول الله تعالى : {لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] .
__________
(1) المصدر السابق 28/209 .(1/434)
ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كان أفقههم بدين الله ، من أول دخولهم فيه ، إذ كانوا قد عرفوا من أول إسلامهم ، أن الدخول في دين الله يكون قلباً وقالباً ، ظاهراً وباطناً ، وأن حب الله ورسوله يقتضي بغض أعداء الله ورسوله ، ومحاربتهم ، حتى يكون الدين كله لله ، وحتى تكون كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا . فهذا أبوالهيثم بن التيهان رضي الله عنه ، لما اجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم به وبقومه الأنصار في بيعة العقبة ، قال : يارسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ ، قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : (( بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم )) ... ، قال ابن إسحاق : (( وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري ، أخو بني سالم بن عوف : يامعشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ ، قالوا : نعم ، قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً ، أسلمتموه ، فمن الآن . فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، على نهكة الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يارسول الله ، إن نحن وفينا بذلك؟ ، قال : (( الجنة )) . قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/442،446 .(1/435)
قال ابن إسحاق : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفضّوا إلى رحالكم ، قال : فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والله الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟ ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ))(1) .
فلما أصبحوا ، جاءهم عدد من أشراف قريش ، يسألونهم عن الخبر ، قال أبي بن كعب رضي الله عنه ، وهو راوي الخبر : (( وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وعليه نعلان له جديدان ، قال : فقلت له : يا أباجابر [أي لعبد الله بن حرام الأنصاري] ، أما تستطيع أن تتخذ ، وأنت سيد من ساداتنا ، مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ ، قال : فسمعها الحارث ، فخلعهما من رجليه ، ثم رمى بهما إليّ ، وقال : والله لتنتعلنهما . قال : يقول أبوجابر : مه ، أحفظت ـ والله ـ الفتى ، فاردد إليه نعليه . قال : قلت : والله لا أردهما ، فأل ـ والله ـ صالح ، لئن صدق الفأل لأسلبنّه )) . فانظر ـ حفظك الله ـ إلى قول هذا الصحابي الجليل الذي لايرى في فعل هذا الكافر ، المحادّ لله ورسوله ، إحساناً ، بل يرى فيه فألاً صالحاً ، بأن يمكنه الله من رقبته فيقتله ، ومن ماله فيسلبه .
__________
(1) المصدر السابق 1/448 .(1/436)
ومثل هذا الفهم لعقيدة الولاء والبراء ، ما كان من شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإنه لما أسلم ، خرج إلى المسجد يعلن إسلامه ، فثاروا عليه ، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم ، قال ابنه عبد الله ـ فيما بعد ـ يسأله : (( يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك ، جزاه الله خيراً . قال : يابني ، ذاك العاص بن وائل ، لاجزاه الله خيراً ))(1) . كان أبوحفص ، لايرى لكافرٍ عليه إحساناً ، ما دام يحاد الله ورسوله . وهذه هي عقيدة الولاء والبراء ، التي فهمها الصحابة رضي الله عنهم من معنى (( لا إله إلاّ الله )) . وعاشوا بها ، وجاهدوا فيها ، وماتوا عليها . وهي أساس في الاعتقاد لكل مؤمن ، يسعى ، ويجاهد ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى .
5- الاستعداد للتضحية والفداء :
مما يمهد لإظهار دين الله الحق على الدين كله ولو كره الكافرون ، أن تكون النفوس المؤمنة قد أشربت حب الفداء والتضحية لهذا الدين ، مهما تكلفت في سبيل ذلك من مشقات وصعاب ، حتى تصبح النفوس والأموال عند أصحابها رخيصة في سبيل إرضاء الله تعالى ، وإظهار دينه ، وإعلاء كلمته في الأرض . كما أنه لا بد أن يرسخ في النفوس المؤمنة ، أن هذا الدين يحتاج لإظهاره بإذن الله إلى التضحيات والبذل ، والعطاء ، حتى يظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون .
قال الله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِيْنَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلآ إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيْبٌ}[البقرة:214] .
__________
(1) المصدر السابق 1/349 .(1/437)
وقال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ الله الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ}[آل عمران:142] .
وقال تعالى : {إِنّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً في التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111] .
ففي مرحلة الإعداد لإظهار دين الله الحق على الدين كله ، ينبغي أن تكون هذه الروح المتأهبة للفداء ، المطمئنة للبذل والتضحية ، المعظمة لله ، المرخصة للدنيا ومتاعها وزينتها من أجل الله ، هي الروح التي يحملها بين جنبيه كل مؤمن ومؤمنة . عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن أحب عبداً لايحبه إلاً لله ، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ))[متفق عليه] .
وقد مرّ معنا قريباً قول العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري رضي الله عنه ، من أول ساعة با يعوا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ، حين قال : (( والله الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟ ))(1) .
وقول سائر إخوانه من الأنصار عندما قالوا : (( فإنا نأخذه [أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم] على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يارسول الله ، إن نحن وفينا بذلك؟ ، قال : (( الجنة )) ، قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ))(2) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/448 .
(2) المصدر السابق 1/446 .(1/438)
وأما عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، فإنه لما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هم فيه من البلاء ، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة ، قال : والله إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجلٍ من أهل الشرك ، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء ، والأذى في الله ما لايصيبني ، لنقص كبير في نفسي . فمشى إلى الوليد بن المغيرة ، فقال له : يا أبا عبد شمس ، وفت ذمتك ، قد رددت إليك جوارك ، فقال له : لم يا ابن أخي؟ ، لعله آذاك أحد من قومي ، قال : لا ، ولكني أرضى بجوار الله ، ولا أريد أن استجير بغيره؟ ، قال : فانطلق إلى المسجد ، فاردد عليّ جواري علانية ، كما أجرتك علانية . قال : فانطلقا ، فخرجا حتى أتيا المسجد ، فقال الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري ، قال : صدق ، قد وجدته وفياً كريم الجوار ، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله ، فقد رددت عليه جواره . ثم انصرف عثمان ، ولبيد بن ربيعة .. في مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
قال عثمان : صدقت ، قال لبيد : وكل نعيم لا محالة زائل .(1/439)
قال عثمان : كذبت ، نعيم الجنة لا يزول . قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش ، والله ماكان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟ ، فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه من سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا ، فلا تجدن في نفسك من قوله ، فردّ عليه عثمان ، حتى شرى أمرهما . فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ، فقال : أما والله يا ابن أخي ، إن كانت عينك عما أصابها لغنيّة ، لقد كنت في ذمة منيعة . قال : يقول عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر ، يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي ، إن شئت فعد إلى جوارك ، فقال : لا ))(1) .
__________
(1) المصدر السابق 1/370 .(1/440)
ومثل ذلك ما كان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وكان أول من جهر بالقرآن من الصحابة رضي الله عنهم بمكة ، قال ابن إسحاق : (( وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، قال : كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعهموه؟ ، فقال عبد الله بن مسعود : أنا ، قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم ، إن أرادواه ، قال : دعوني فإن الله سيمنعني . قال : فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ، ثم قرأ : {بِسْمِ الله الرّحْمََنِ الرّحِيمِ} رافعاً بها صوته ، {الرّحْمََنُ . عَلّمَ الْقُرْآنَ} . قال : ثم استقبلها يقرؤها . قال : فتأملوه ، فجعلو يقولون : ماذا قال ابن أم عبد؟ ، قال : ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه ، فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ماشاء الله أن يبلغ . ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً ، قالوا : لا ، حسبك ، قد أسمعتهم ما يكرهون ))(1) .
__________
(1) المصدر السابق 1/314.(1/441)
ومما يذكر في هذا المقام ، كلمة المقداد بن عمرو رضي الله عنه ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم في طريقهم إلى بدر ، وما تتضمنه من معاني الفداء والتضحية ، وبذل النفس في سبيل الله ، حيث قال : (( يارسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لانقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى : {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون . فو الذي بعثك بالحق ، لوسرت بنا إلى برك الغماد ، لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ))(1) .
وليست نفس المقداد بن عمرو وحدها ، في ميدان المحبة والفداء لله ورسوله ، فإن نفوس الصحابة من المهاجرين والأنصار جميعاً ، قد أشربت حب الله ورسوله ، وتاقت قبل اللقاء إلى اللقاء ، وقبل المسير إلى الفداء : قال الله تعالى فيهم :
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ}[آل عمران:143] .
__________
(1) المصدر السابق 1/615 .(1/442)
فهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه ، لما أعاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم القول ، في مسيرهم لبدر ، وقال : (( أشيروا عليّ أيها الناس )) ، قال سعد : والله لكأنك تريدنا يارسول الله؟ ، قال : (( أجل )) ، قال : فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ماجئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة . فامض يارسول الله لما أردت ، فنحن معك . فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته ، لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، ومانكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله . فسرّ رسول الله بقول سعد ، ونشّطه ذلك ، ثم قال : (( سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ))(1) .
وهكذا فقد بلغ إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذا المبلغ العظيم الذي أصبحت فيه النفوس هينة ، والأموال رخيصة ، في سبيل نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض . وحتى غدا الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في هذا الميدان الشريف ويتسابقون إليه ، طيبة نفوسهم بما يقدمونه في سبيل الله من بذل وعطاء ، وتضحية وفداء .
- - -
المبحث الثاني : مرحلة العمل الدعوي الحركي لإظهار الدين ونشره
إن الغاية من إرسال الله سبحانه وتعالى الرسل ، وإنزال الكتب ، وأمره بالبلاغ والدعوة ، أن يحتكم جميع العباد لأمره ، ويخضعوا لسلطانه ، ويقروا بعبوديته عملاً واعتقاداً ، فلا ربّ لهم سواه ، ولا إله لهم غيره . فيعبدوه لايشركون به شيئاً :
قال الله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ أِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله}[النساء:64] .
__________
(1) المصدر السابق 1/615 .(1/443)
وقال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد:25] .
وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25] .
وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً}[النساء:65] .
وهذه هي الغاية و الأصل من خلق الله سبحانه وتعالى للثقلين الجن والإنس :
قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] .
وعلى ذلك فإن إظهار دين الإسلام على ما سواه من الأديان والمعتقدات ، وإخضاع العباد لشرعه وسلطانه طوعاً وكرهاً ، غاية مقصودة ومطلب منشود من وراء جهود الدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيله . عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلاّ بحق الإسلام ، وحسابهم على الله ))[متفق عليه] .
ولكن هذه المرحلة لا تأتي إلاّ بعد البلاغ المبين لدين رب العالمين ، بالدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتحصل بذلك نعمة الهداية لمن آمن وصدّق .(1/444)
قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}[المائدة:15،16] .
كما تقوم به الحجة على من أبى واستكبر .
قال تعالى : {رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى الله حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً}[النساء:165] .
كذلك لا تأتي إلاّ بعد تربية المؤمنين وتزكية نفوسهم في مجتمع إيماني ، يرسخ به الإيمان ، ويصح به الاعتقاد ، وتصدق به العزائم .
قال تعالى : {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}[الجمعة:2] .
ثم بعد ذلك يتّبع المؤمنون طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في اتخاذ الأسباب المؤدية لإظهار الدين ، ودحر الكفر ، وإحضاع أهله لأمر الله وشرعه . وهذه هي مرحلة العمل لإظهار الدين ، التي تعقب مرحلة الاستعداد وتهيئة النفوس لها . ومن أهم خطواتها ما يلي :
أولاً - إظهار الحق بالحجة الدامغة والبرهان القاطع :(1/445)
إن البلاغ المبين لدين رب العالمين ، تتلقاه قلوب صادقة ، باحثة عن الحق ، بالإيمان والتصديق ، والرضى والطمأنينة . فتؤمن به وتصدقه ، قال الله تعالى في هؤلاء : {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ . فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:83ـ85] . ومن دعائهم : {رّبّنَآ إِنّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ}[آل عمران:193] .
وتتحير قلوب مشوبة بأدران الشهوات ، وأوحال الشبهات ، وتتردد في قبوله ، والإيمان به ، ولا ينكشف ما بها ، إن أراد الله لها الهداية ، وساق إليها التوفيق والتسديد ، إلاّ بحجة ، دامغة ، ودليل قاطع ، يزول بهما عنها ما يغشى على أنوار البصيرة فيها ، ويوصد أبواب الهداية إليها ، فترى ، وتبصر ، وتسلك طريق الهداية والفلاح . قال الله تعالى مخاطباً نبيه موسى عليه السلام : {وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوَاْ إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَى . فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى}[طه:69ـ70] .
وتظل قلوب نكدة خبيثة ، محجوبة عن الحق ، بحجب كثيفة من الكبر ، والحسد ، والعناد ، والفساد ، سادرة في غيّها ، منطوية على قبحها ، تجادل في الله بغير سلطان ولابرهان .(1/446)
قال الله تعالى : {إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن في صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56] .
وقال تعالى : {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ في الْبِلاَدِ}[غافر:4] .
وهؤلاء ما يواجهون بالحجة الدامغة ، والدليل القاطع إلاّ لقهرهم ، وكسر عنادهم ، وإرغام أنوفهم ، وإضعاف موقفهم ، وإضعاف تأثيرهم على غيرهم .
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ في رِبّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ الله يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[البقرة:258] .
وقال تعالى : {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ الله فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:61] .
إن المحادين لدين الله ، المعارضين لدعوته أول ما يواجهون به أهل الحق ـ دفاعاً عن باطلهم ، ومحاولة لدفع الحق ـ والتغلب عليه ، المجادلة والمناظرة . وهؤلاء على فريقين : فريق يتوهمون أنهم على حق ، ويظنون أن معهم حجة . وهؤلاء أرشد الله سبحانه وتعالى إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن حتى يتبين لهم الحق .(1/447)
قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل:125] .
وقال تعالى : {وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنَا وَإِلََهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت:46] .
وفريق أهل لجاجة وعناد ، لاتنفع معهم الحجة الظاهرة ، ولا البرهان الساطع ، وإنما يجادلون مكابرة ، ومعاندة . فهم يعلمون أنهم على باطل ، وأن ماجاء من عند الله هو الحق ، ولكنهم أهل غيّ ، وكبر .
قال تعالى عنهم : {وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ}[الحج:3] .
وقال تعالى : {ومِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ . ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ في الدّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:8،9] .
وقال تعالى : {فَلَمّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هََذَا سِحْرٌ مّبِينٌ . وَجَحَدُواْ بها وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوُّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:13،14] .
دوافع المعاندة والمحادة للدعوة :
وهؤلاء المعاندون ، إما أن يكون عنادهم ، وكفرهم ، بدافع الكبر .
قال تعالى : {إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن في صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56] .(1/448)
وقال تعالى : {وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ الله تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الجاثية:7،8] .
وإما بدافع الحسد .
قال تعالى : {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنّ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:109] .
وقال تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً}[النساء:54] .
وإما بدافع التعصب الأعمى .
قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[البقرة:170] .
وإما بدافع الهوى .
قال تعالى : {فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله إِنّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[القصص:50] .
وقال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلََهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكّرُونَ}[الجاثية:23] .
محاجة الأنبياء لأقوامهم ومجادلتهم :
وهؤلاء المعاندون ، قد كان للأنبياء عليهم السلام معهم في أممهم ، مناظرات ، ومجادلات ، لقهرهم ودحرهم بسلطان الحق ، وحجته الدامغة ، وبرهانه الساطع ، فما كان منهم إلاّ أن خرجوا إلى إظهار التحدي والتكذيب البذيء .(1/449)
قال الله تعالى عن قوم نوح : {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ}[هود:32] .
وقال تعالى عن قوم هود : {قَالُواْ يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيَ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[هود:53] .
وقال تعالى في كفار قريش : {وَإِذْ قَالُواْ اللّهُمّ إِن كَانَ هََذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:31،32] .
حجة إبراهيم على قومه :(1/450)
ومن الحجج الدامغة ، والأدلة الساطعة ، لإظهار دين الله الحق ، وإزهاق الباطل ، ودحر أهله ، ما أوتيه إبراهيم علي السلام على قومه من حجج قاطعة وبراهين ساطعة ، لم يملكوا معها إلاّ الخروج ، عن حدود المناظرة ، والمجادلة ، إلى الأذى والعدوان ، لما أيقنوا أن لا حجة لهم ، وأن الحق الذي احتج له إبراهيم عليه السلام ، سيزهق ما يعبدون من إفك ، وما يعتقدون من باطل . وكانوا يصنعون أصناماً ، ويعتقدون أنها تستمد قوة وتأثيراً ، من الكواكب السبعة السيارة ، ويعتقدون بأن لهذه الكواكب قوة وتأثيراً على الخلق ، فاتخذوا الأصنام آلهة في الأرض ، والأجرام السماوية آلهة في السماء . فأراد إبراهيم أن يبطل اعتقادهم ، ويدحض حججهم ، بأن تلك الأجرام السماوية لا تصلح أن تكون آلهة ، أو أن يكون لها أثر على الخلق ، فبدأ بأصغرها وهو الكوكب ؛ وقيل أنه الزهرة ، فأثبت بطلان أن يكون إلهاً لأفوله ، وعدم قدرته على الخروج من مساره الذي جعل الله له ، ثم القمر ، ثم الشمس ، وهي أكبر هذه الأجرام ، وكلها مسيرة في مسار لا تقدر أن تحيد عنه ، ولا تملك أن تبقى ظاهرة دون أن تأفل وتغيب . فأثبت بذلك أنها مخلوقة ـ مسيرة ـ وأن الخالق المتصرف في هذا الكون هو الله سبحانه وتعالى ، وهو الذي ينبغي للخلق أن يعبدوه ، ويخضعوا لأمره وسلطانه .(1/451)
قال الله تعالى : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضَلاَلٍ مّبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هََذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ . فَلَمّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هََذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأكُونَنّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالّينَ . فَلَماّ رَأَى الشّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هََذَا رَبّي هََذَآ أَكْبَرُ فَلَمّآ أَفَلَتْ قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ . إِنّي وَجّهْتُ وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:74ـ79] .(1/452)
قال ابن كثير : (( وقد اختلف المفسرون في هذا المقام هل هو مقام نظر أو مناظرة ... والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه ، مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم ... وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيّرة ، وهي : القمر ، وعطارد ، والزهرة ، والشمس ، والمريخ ، والمشترى ، وزحل ، وأشدهن إضاءة ، وأشرفهن عندهم ، الشمس ، ثم القمر ، ثم الزهرة . فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لاتزيغ عنه يميناً ولا شمالاً ، ولا تملك لنفسها تصرفاً ، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ... ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم ثم انتقل إلى الشمس كذلك ، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع : {قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ} ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 2/132 .(1/453)
قال الله تعالى : {وَحَآجّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجّوَنّي في الله وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً وَسِعَ رَبّي كُلّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلََئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ .وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:80ـ83] .(1/454)
قال ابن كثير : (( يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم حين جادله قومه ، فيما ذهب إليه من التوحيد ، وناظروه بشبه من القول ، أنه قال : {أَتُحَاجّوَنّي في الله وَقَدْ هَدَانِ}، أي : تجادلونني في أمر الله ، وأنه لا إله إلاّ هو ، وقد بصرني ، وهو هداني إلى الحق ، وأنا على بينة منه ، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة ، وشبهكم الباطلة ، وقوله : {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً}، أي : ومن الدليل على بطلان قولكم ، فيما ذهبتم إليه ، أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئاً ، وأنا لا أخافها ، ولا أباليها ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ، ولا تنظرون ، بل عاجلوني بذلك ... وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد ، فيما قص [الله] عنهم في كتابه ، حيث يقول : {قَالُواْ يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيَ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . إِن نّقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ الله وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى الله رَبّي وَرَبّكُمْ مّا مِن دَآبّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ}(1) الآية [هود:53ـ56] .
__________
(1) المصدر السابق 2/133 .(1/455)
ولقد انتقل إبراهيم عليه السلام ، لإثبات بطلان هذه الأصنام التي يعبدها قومه ، من الحجة العقلية النظرية إلى الحجة العملية ، والبرهان الواقعي . فعمد إلى أصناهم فجعلها جذاذاً ، وحطمها عن آخرها ، ولم يبق إلاّ كبيرها ، فعلق الفأس عليه ، ليثبت بذلك أن هذه الأصنام ، لاتضر ولا تنفع ، فهي لن تضره شيئاً مع ما فعله بها ، بل إنها لا تملك أن تدفع عن نفسها الضر ، وقد حطمها ، ودمّرها ، عليه صلوات الله وسلامه . وهذه أعظم حجة ، وأقوى برهان ، لوكانوا يعقلون .(1/456)
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هََذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ في ضَلاَلٍ مّبِينٍ . قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ . قَالَ بَل رّبّكُمْ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الّذِي فطَرَهُنّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مّن الشّاهِدِينَ . وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُواْ مَن فَعَلَ هََذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ . قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ . فَرَجَعُوَاْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوَاْ إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ . ثُمّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هََؤُلآءِ يَنطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ . أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:51ـ67] .
فلما ألجمتهم الحجة القاطعة ، والدليل المبين ، وعرفوا أن آلهتهم لو كانت تنفع أو تضر ، لنفعت نفسها ، وأضرت بمن هاجمها ، ما كان منهم ، إلاّ أن جمعوا لإبراهيم حطباً كثيراً ، وأوقدوا ناراً عظيمة ، ثم قذفوه فيها ، تعبيراً عن حقد الباطل المرير ، على الحق وأهله الداعين إليه .(1/457)
قال الله تعالى عنهم : {قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68] .
فأخزاهم الله ، وأخسرهم ، ورد كيدهم في نحورهم ، ونصر عبده نصراً مبيناً ، إذ أمر النار بأمره ، تبارك اسمه ، وتعالى جده : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ . وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:69ـ71] .
حجة موسى على قومه :
وكذلك كان حال نبي الله موسى عليه السلام مع فرعون ، إذ خاطبه أولاً بالحجة العقلية ، والبرهان الكوني . قال الله تعالى : {قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَى كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى . قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَى . قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي في كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى . الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّى . كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنّ في ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَى}[طه:49ـ54] .(1/458)
وهذا تعريف بيّن واضح من موسى عليه السلام للخالق العظيم المستحق للعبادة سبحانه وتعالى ، فبين أن الإله الذي يدعو فرعون وقومه إلى عبادته ، والخضوع لأمره ، هو الخالق الذي خلق كل شيء ، وهداه إلى ما خلق له . فلما لم يكن لفرعون حجة ، ينفي بها ما قال موسى ، أو يثبت بها ما يدعيه لنفسه من الأولوهية ، احتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا الله : {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَى}، قال ابن كثير : (( أي : فما بالهم إذا كان الأمر كذلك ، لم يعبدوا ربك ، بل عبدوا غيره . فقال لهم موسى في جواب ذلك : هم وإن لم يعبدوه ، فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم ، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ ، وكتاب الأعمال : {لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى}. أي : لا يشذ عنه شيء ، ولا يفوته صغير ولا كبير ، ولا ينسى شيئاً ))(1) .
__________
(1) المصدر السابق 3/136 .(1/459)
ثم أخذ موسى عليه السلام يبيّن من آلاء الله ، ونعمه على خلقه ، ما يدل على قدرته وربوبيته لخلقه ، واستحقاقه للعبادة جل في علاه : {الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً}[طه:53] ، ولكن فرعون اللئيم ، بدلاً من أن يذعن للحق ، ويفرح بما جاءه من العلم عن الله تعالى ، ويقر بألوهيته وربوبيته تعالى ، أخذ يجادل في استكبار وسخرية ، معرضاً عن كل ما أورده عليه موسى من الحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة . قال تعالى مخبراً عن هذه المناظرة ، في شيء من التفصيل : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِيَ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ . قَالَ لَئِنِ اتّخَذْتَ إِلََهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[الشعراء:23ـ29] ، ويتبيّن من هذه الآيات أنه على رغم ما كان فرعون يواجه به موسى عليه السلام من سخرية واستخفاف وهو يعرض عليه الحجج والبراهين ، على وجود الخالق المعبود سبحانه وتعالى ، إلاّ أن موسى عليه السلام ، لم يصده عن عرض دعوته ، وبيان حجته ، كل ما كان يقوله فرعون ، ويشغب به عليه أثناء المناظرة . وذلك ليؤدي رسالته ، التي أمر بها على وجه الكمال والتمام ، إبراءً لذمته ، وإقامة لحجة الله على عدوه .(1/460)
فلما لم تُجدِ الحجة العقلية ، والنظر الكوني ، في اقناع فرعون بتصديق الحق ، والإذعان لما جاء به موسى عليه السلام من الهدى ، بسبب عتوّه ، واستكباره ، مع يقينه وقومه بأنه الحق ، كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بها وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوُّاً}[النمل:14] . لما لم تجد تلك الحجج العقلية ، والنظر الكوني ، انتقل موسى عليه السلام إلى البراهين ، والأدلة الحسية ، وذلك بإظهار المعجزات الباهرة ، الدالة على صدق نبوّته ، وعلى قدرة الله القاهرة ، وعظمته الظاهرة . قال تعالى مخبراً عن ذلك :
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مّبِينٍ . قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ . فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مّبِينٌ . وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنّاظِرِينَ}[الشعراء:30ـ33] ، فلم يزدد فرعون لعنه الله إلاّ عتواً ، واستكباراً .
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلّهَا فَكَذّبَ وَأَبَى . قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى .فَلَنَأْتِيَنّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى}[طه:56ـ58] .
وقال الله تعالى في سورة الشعراء : {فَجُمِعَ السّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ . وَقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنتُمْ مّجْتَمِعُونَ . لَعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:38ـ40] .
فلما اجتمع سحرة فرعون في يوم الزينة ، وظن فرعون أن ماعندهم من السحر سيتفوّق على ما عند موسى عليه السلام من المعجزة الربانية :(1/461)
{قَالَ لَهُمْ مّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مّلْقُونَ . فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزّةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ . فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُواْ آمَنّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ . رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الشعراء:43ـ48] .
لقد ظهر الحق ، وأبصره كل ذي عينين ، وآمن به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فهاهم السحرة الذي جاءوا لنصرة فرعون ، ومغالبة موسى عليه السلام ، آمنوا وصدقوا لما رأوا الآية الباهرة والمعجزة الظاهرة ، وعلموا أنه الحق من ربهم . أما الظالمون ، المكابرون ، المعاندون ، فيأبون الاعتراف بالحق ، والإذعان له ، مع علمهم به ، ويقينهم بأنه الحق ، وأنهم على الباطل . إنها النفوس الخبيثة ، والقلوب القاسية المريضة ، تأبى إلاّ اللجاجة والعناد ، والكفر ، والفساد . فها هو فرعون ، بعد هذه الحجة الدامغة ، والدليل القاطع ، والبيان الساطع ، يخاطب السحرة الذين آمنوا ، كما أخبر الله تعالى عنه :
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:49] .
هكذا يخرج المعاندون المستكبرون ، من معركة الحجة والبرهان ، منهزمين ، مقهورين . ولكن مكشري الأنياب ، مشرعي السهام ، فينتقلون إلى منازلة الحق في ميدان جديد ، هو ميدان الاعتداء على أهله ، بكل أنواع الأذى ، ووسائل التعذيب والتنكيل الجسدي ، والقهر ، والتدمير المعنوي .
إن ميدان الحجة والبرهان ، هو أول الميادين ، التي يسعى فيها أهل الباطل إلى رد الحق ، ودحضه .(1/462)
قال الله تعالى : {وَيُجَادِلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً}[الكهف:56] .
وهو أول الميادين التي أظهر الله فيها رسله ، ومن اتبعهم في نشر دعوته ، على خصومهم من أهل الباطل .
قال تعالى : {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}[الفرقان:33] .
ثم يكون بعد ذلك ميدان الصبر والثبات ، ومواصلة الدعوة إلى الله . ثم اتخاذ أسباب القوة والمنعة بالهجرة وطلب النصرة ، ثم ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله ، لإظهار دينه ، وإعلاء كلمته ولو كره المشركون .
حجة نبينا صلى الله عليه وسلم على قومه :
ولقد كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قريش وغيرهم ، جولات وجولات ، من التبليغ والبيان ، وإظهار الحجّة بالدليل والبرهان . وإن كان القرآن الكريم ، قد تولى هذا الشأن ، من الردّ على المشركين ، وتفنيد مزاعمهم ، وإبطال حججهم ، والاستدلال عليهم في كل قضية يوردونها ، بالأدلة العقلية والأدلة الكونية من خلق السموات وآياتها ، والأرض ومحتوياتها ، والطير ، والحيوان ، والإنسان . ونشأة الخلق ، وتكوينه ، ونهايته ، وفنائه ، وإعادته . وهذا يشمل معظم آيات القرآن الكريم ، ولو أردنا استقصاء هذه الحجج ، والأدلة ، والبراهين ، لنقلنا معظم آيات القرآن الكريم . ولكنا نكتفي هنا بالاستدلال ببعض الآيات ، على بعض القضايا التي كان يجادل فيها المشركون ، ويتولى القرآن الكريم الرد عليهم ، ودحض أقوالهم . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يرد عليهم في أغلب الأحيان ، بتلاوة القرآن على مسامعهم ، وفيه ما كان يلجم أفواههم ، ويحيّر عقولهم ، ويبهر ألبابهم . ومن ذلك :
1- الرد على مجادلتهم عن شركهم ، وادعائهم الألوهية لأصنامهم :(1/463)
1- قال الله تعالى : {وَيَقُولُونَ أَإِنّا لَتَارِكُوَ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مّجْنُونٍ}[الصافات:36] .
2- وقال تعالى : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهََذَا الّذِي بَعَثَ الله رَسُولاً . إِن كَادَ لَيُضِلّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلّ سَبِيلاً}[الفرقان:41،42] .
ردّ القرآن عليهم :
أ - بالأدلة العقلية :
1- قال تعالى : {قُلْ لّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً . سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً}[الإسراء:42،43] .
2- وقال تعالى : {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ . مَا اتّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لّذَهَبَ كُلّ إِلََهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمّا يَصِفُونَ}[المؤمنون:90،91] .
3- وقال تعالى : {أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ . لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ . لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:21ـ23] .
ب - بالأدلة الكونية :(1/464)
قال تعالى : {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى ءَآللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ . أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلََهٌ مّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلََهٌ مّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ . أَمَّنْ يُجِيْبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خَلَفَاءَ الأَرْضِ ءَإِلَهٌ مَعَ الله قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُوْنَ . أَمّن يَهْدِيكُمْ في ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلََهٌ مّعَ الله تَعَالَى الله عَمّا يُشْرِكُونَ . أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلَهٌ مّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل:59ـ64] .
2- الرد على إنكارهم للبعث والنشور :
أ - ادعاؤهم :
وقال تعالى : {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ}[النحل:38] .
وقال تعالى : {زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن لّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ}[التغابن:7] .
وقال تعالى : {وَلَئِن قُلْتَ إِنّكُمْ مّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هََذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ}[هود:7] .(1/465)
وقال تعالى واصفاً استنكارهم لمسألة البعث : {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ}[الصافات:16،17] .
وقال تعالى : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78] .
ووصف قولهم لبعضهم : {أَيَعِدُكُمْ أَنّكُمْ إِذَا مِتّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنّكُمْ مّخْرَجُونَ . هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ . إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}[المؤمنون:35ـ37] .
وقولهم : {إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الاُوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ . فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الدخان:35،36] .
وقال تعالى عنهم : {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ}[الجاثية:24] .
ب - الردّ عليهم :
وهكذا يورد القرآن الكريم أقوال منكري البعث ، وجدالهم في هذه القضية ، ثم يفند أقوالهم ويثبت البعث والنشور بالحجج والبراهين الدامغة ، من عدة وجوه ، وذلك على النحو التالي :
1- قياس الموت والبعث على النوم واليقظة :
قال الله تعالى : {الله يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مّسَمّى إِنّ في ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ}[الزمر:42] .
وقال تعالى : {وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُم بِاللّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنّهَارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمّى ثُمّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأنعام:60] .(1/466)
وانظر ـ رعاك الله ـ إلى بلاغة القرآن الكريم ، كيف يمزج بين حالي الموت والمنام والبعث واليقظة وكأنها حال واحدة ، فلم يوردها على صورة التشبيه ، أو القياس ، وإنما أوردها في سياق واحد ، يوحي بأن الحال واحدة ، لافرق بين الموت والنوم إلاّ أن النفس تقبض في الأولى وترسل في الثانية . وهذا من أبلغ الأساليب في تقرير التطابق بين الأمرين .
2- قياس البعث بعد الموت على إحياء النبات بنزول المطر :
قال تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فصلت:39] .
وقال تعالى : {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الروم:50] .
3- قياس البعث بعد الموت على النشأة الأولى وخلق الإنسان من تراب ونطفة :
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ في الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّى وَمِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَلِكَ بِأَنّ الله هُوَ الْحَقّ وَأَنّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنّ الله يَبْعَثُ مَن في الْقُبُورِ}[الحج:5ـ7] .(1/467)
وقال تعالى : {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً . أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً . فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنّهُمْ وَالشّيَاطِينَ ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثِيّاً}[مريم:66ـ68] .
وقال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:77ـ79] .
وقال تعالى : {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيّ يُمْنَى . ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:36ـ40] .
وهذا النوع من القياس ، يورده القرآن الكريم ، في صور متعددة ، وأساليب بليغة متنوعة ، تظهر الحجة على منكري البعث ، في أقوى صورها ، وأجلاها ، تأمّل هذا الحوار العجيب الذي يورده القرآن الكريم ، مع منكري البعث والنشور ، ويختمه بنبرة تقريرية جازمة ، مليئة بالتحدي ، والوعيد الشديد :
قال الله تعالى : {وَقَالُوَاْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً . قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً . أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً . يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً}[الإسراء:49ـ52] .(1/468)
وقال الله تعالى : {الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ . ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ . ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ . وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا في الأرْضِ أَإِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ . قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ}[السجدة:7ـ11] .
4- قياس خلق الإنسان على خلق غيره من الكائنات التي هي أعظم منه وأكبر :
قال الله تعالى : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ}[الصافات:11] .
وقال تعالى : {أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا . رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا . وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا . وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا . أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا . وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}[النازعات:27ـ32] .
وقال تعالى : {لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[غافر:57] .
وقال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ الله الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأحقاف:33] .
3- بيان قضية الخلق والحكمة منه والمصير الذي يؤول إليه :(1/469)
لقد خاضت جميع الديانات المحرّفة ، والمعتقدات الفاسدة ، والفلسفات المتخبطة ، في تفسير خلق الإنسان ، والكون من حوله ، والخالق ، والحكمة من الخلق ، والمصير الذي يؤول إليه بتفسيرات مضللة ، وتأويلات متحيرة ، ملؤها الشك ، والحيرة ، والتخبط ، والتناقض . فنزل القرآن الكريم يوضح الأمر ، ويجلّي الحقيقة ، ويجيب على تساؤلات المتحيرين ، في هذه المسائل الكبرى ، ويرد على الضالين المنحرفين .
فعن الخالق ، من هو؟
قال تعالى : {الله الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ . وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ . وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ}[إبراهيم:32ـ34] .
وقال تعالى : {الله الّذِي خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ}[الروم:40] .
وقال تعالى : {الله لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255] .
وعن الإنسان كيف خُلق؟(1/470)
قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ . ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مّكِينٍ . ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:13،14] .
وعن السموات والأرض ، كيف خلقتا؟
قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ . وَجَعَلْنَا في الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ . وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ . وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء:30ـ33] .
وقال تعالى : {قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ . ثُمّ اسْتَوَى إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ . فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ في يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى في كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[فصلت:9ـ12] .
وعن الحكمة من خلق الإنسان ، لم خُلق؟(1/471)
قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ . مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنّ الله هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56ـ58] .
فمسألة الرزق ليست هي المسألة التي يجب أن يشغل بها الإنسان حياته وفكره ، وليست مقصداً لحياته ، ولا غاية لوجوده ، كما يتبادر لأذهان أهل الغفلة ، والانحراف . وإنما الحكمة من خلق الله للإنسان ، والغاية التي جعلها لوجوده ، هي العبادة لخالقه سبحانه وتعالى .
وعن الحكمة من خلق السموات والأرض ، لم خُلقن؟
قال تعالى : {الله الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ لّتَعْلَمُوَاْ أَنّ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمَا}[الطلاق:12] ، فالغاية من خلق السموات والأرض أن يرى الإنسان فيهن قدرة الله ، وعظمته ، وجلاله ، وجبروته ، ورحمته ، فيعبد الله على بصيرة ، ويتعرف عليه سبحانه من خلال تفكيره في خلقه ، وتدبره لصنعه .
وعن مصير الإنسان الذي يؤول إليه؟
قال تعالى : {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[المائدة:105] .
وقال تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}[يونس:4] .
ويصور القرآن الكريم هذا المصير الذي لابد للإنسان أن يؤول إليه .(1/472)
قال تعالى : {وَنُفِخَ في الصّورِ فَصَعِقَ مَن في السّمَاوَاتِ وَمَن في الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ الله ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ . وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبها وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ . وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَى جَهَنّمَ زُمَراً حَتّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هََذَا قَالُواْ بَلَى وَلََكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ . قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ . وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ . وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[الزمر:68ـ74] .
وعن مصير الكون بعد هذه الحياة الدنيا؟
قال تعالى : {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ . لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ . خَافِضَةٌ رّافِعَةٌ . إِذَا رُجّتِ الأرْضُ رَجّاً . وَبُسّتِ الْجِبَالُ بَسّاً . فَكَانَتْ هَبَآءً مّنبَثّاً}[الواقعة:1ـ6] .
وقال تعالى : {إِذَا السّمَآءُ انفَطَرَتْ . وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ . وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ . وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ . عَلِمَتْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ وَأَخّرَتْ}[الانفطار:1ـ5] .(1/473)
وقال تعالى : {إِذَا السّمَآءُ انشَقّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبها وَحُقّتْ . وَإِذَا الأرْضُ مُدّتْ . وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلّتْ}[الإنشقاق:1ـ5] .
وقال تعالى : {يَوْمَ تُبَدّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ}[إبراهيم:48] .
وهكذا فإن القرآن الكريم ، قد اتخذ من الحجة الظاهرة ، والأدلة الباهرة ، سبباً لدعوة الناس إلى الحق ، وبيانه لهم ، وإقناعهم به ، وإزالة ما علق بقلوبهم وعقولهم ، من معتقدات فاسدة ، وأفكار منحرفة ، ودحض كل ذلك ، بالحجة والبرهان . مع التحدي أن يكون لهم حجة أو برهان فيما يدّعون .
قال تعالى : {أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هََذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ}[الأنبياء:24] .
وقال تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[يونس:38] .
وقال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هََذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأحقاف:4] .
وقال تعالى : {أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلََهٌ مّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل:64] .(1/474)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما يرد على المشركين من قريش وغيرهم ، وعلى الكافرين من أهل الكتاب ، في مجادلاتهم ، ومساءلاتهم ، ومناقشاتهم ، ـ في أغلب الأحيان ـ بالقرآن . يتلو عليهم آيات الله ، وفيها الحجج الباهرة ، فيلجمهم بها ، ويخرسهم . وربما سألوه ، أو جادلوه ، فينتظر صلى الله عليه وسلم ، حتى ينزل عليه القرآن بالجواب ، والرد عليهم . فترى في كثير من آيات القرآن الكريم أن الأمر يأتي من الله العلي القدير ، إلى رسوله البشير النذير صلى الله عليه وسلم ، بلفظ : {قل}، إذ يتولى الله جل جلاله الرد على هؤلاء بما ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، ويتولى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، الإبلاغ ، وأداء الرسالة . امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله :
{يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67] .(1/475)
جاء عتبة بن ربيعة ـ وكان سيداً من سادات قريش ـ ، يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم المال ، والجاه ، والملك ، والطب ، على زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون : قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّاً تراه ، لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل ، حتى يداوى منه ، أو كما قال له . حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه ، قال : (( أقد فرغت يا أبا الوليد؟ )) ، قال : نعم ، قال : (( فاسمع مني )) ، قال : أفعل ، قال : (( {بِسْمِ الله الرّحْمََنِ الرّحِيمِ . حمَ . تَنزيلٌ مّنَ الرّحْمََنِ الرّحِيمِ . كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ . وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} )) ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ، ثم قال : (( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/293 .(1/476)
قال ابن إسحاق : (( ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ ، قد ارفتّ ، فقال : يا محمد ، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرمّ ، ثم فتّه في يده ، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نعم ، أنا أقول ذلك . يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ، ثم يدخلك الله النار )) ، فأنزل الله تعالى فيه : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . الّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ}))(1) [يس:78ـ80] .
قال ابن إسحاق : (( واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة ـ فيما بلغني ـ الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي ، وكانوا ذوي أسنان في قومهم ، فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه . وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه . فأنزل الله تعالى فيهم : {قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ))(2)[سورة الكافرون] .
__________
(1) المصدر السابق 1/361 .
(2) المصدر السابق 1/362 .(1/477)
ولم تترك قريش سبيلاً إلى مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ سلكته . ومن ذلك أنهم بعثوا النضر بن الحارث ، قال ابن إسحاق : (( وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار يهود ، وقالوا لهما : سلاهم عن محمد ، وصفالهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا ، حتى قدما المدينة . فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث ، نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل ، فالرجل متقوّل ، فروا في رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ ، فإنه قد كان لهم حديث عجب . وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق والأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ ، وسلوه عن الروح ما هي؟ ، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه ، فإنه نبي ، وإن لم يفعل ، فهو رجل متقوّل ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .. حتى قدما مكة على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء ، أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فروا فيه رأيكم .(1/478)
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتية في الدهر الأول ، قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوافاً ، قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ ، قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أخبركم بما سألتم عنه غداً )) ، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه . فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فيما يذكرون ـ خمس عشرة ليلة ، لايحدث الله إليه في ذلك وحياً ، ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا : وعدنا محمد غداً ، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها ، لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبتة إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، والروح .
قال ابن إسحاق : (( فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لجبريل حين جاءه : (( لقد احتبست عني يا جبريل ، حتى سؤت ظناً )) ، فقال له جبريل : {وَمَا نَتَنزلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً} ))(1) [مريم:64] .
وربما جادل الرسول صلى الله عليه وسلم القوم ، وحاجهم ، حتى يسكتهم ، وذلك امتثالاً لقول الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل:125] .
__________
(1) المصدر السابق 1/300 .(1/479)
قال ابن إسحاق : (( وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ـ فيما بلغني ـ مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس . وفي المجلس غير واحدٍ من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : {إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ . لَوْ كَانَ هََؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ . لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}[الأنبياء:98ـ100] .(1/480)
قال ابن إسحاق : (( ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي ، حتى جلس . فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ، وما قعد . وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم . فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمداً : أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ . فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم (عليهما السلام) . فعجب الوليد ، ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم . فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده . إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته . فأنزل الله تعالى عليه في ذلك : {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَى أُوْلََئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ في مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء:101ـ102] ، أي عيسى بن مريم ، وعزيراً ، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله ))(1) .
مجادلات أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) المصدر السابق 1/358 .(1/481)
جادل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بعد هجرته إلى المدينة ـ كما جادلته قريش بمكة . وكانوا يجادلونه بشبه مما لديهم ، فيرد على شبههم ، ويبين لهم الحق ، ويذكرهم بما أنزل عليهم من التوارة . فأما من كان منهم يجادل ، ويسأل ، بحثاً عن الحق ، وتحرياً عنه ، فإنهم كانوا يذعنون للحق ، ويسلمون لله ، وهم قلة من أهل الكتاب من أمثال عبد الله بن سلام ، ومخيريق ، وثعلبة بن سعيد ، وأسيد بن عبيد وغيرهم . وأما من كانوا يجادلون عناداً ، ومكابرة ، ورغبة في التشويش ، والشغب ، على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من أمثال : حيي بن أخطب ، وأخواه أبوياسر ، وجديّ ، وكنانة بن الربيع ، وسلام بن أبي الحقيق ، وأبورافع الأعور ، وكعب بن الأشرف ، وسلاّم بن مشكم وغيرهم .
فإنهم كانوا يبهتون ، ويندحرون ، وينكشف زيفهم ، وعنادهم ، لحلفائهم من الأوس والخرزج ، وسائر العرب .(1/482)
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفراً من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن أربعٍ نسألك عنهن ، فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك ، وآمنّا بك . قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، لئن أخبرتكم بذلك لتصدّقنني )) ، قالوا : نعم . قال : (( فاسألوا عما بدالكم )) . قالوا : فأخبرنا كيف يشبه الولد أمه ، وإنما النطفة من الرجل؟ ، فقال لهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنشدكم بالله ، وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ، ونطفة المرأة صفراء رقيقة ، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ ، قالوا : اللهم نعم ، قالوا : فأخبرنا كيف نومك؟ ، فقال : (( أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به ، تنام عينه ، وقلبه يقظان؟ ، فقالوا : اللهم نعم ، قال : فكذلك نومي ، تنام عيني وقلبي يقظان . قالوا : فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ ، قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها ، وأنه اشتكى شكوى ، فعافاه الله منها ، فحرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ ، قالوا : اللهم نعم ، قالوا : فأخبرنا عن الروح؟ ، قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمونه جبريل ، وهو الذي يأتيني؟ )) ، قالوا : اللهم نعم ، ولكنه لنا عدو ، وهو مَلَك ، إنما يأتي بالشدّة ، وبسفك الدماء ، ولولا ذلك لاتبعناك . قال : فأنزل الله عز وجل فيهم : {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(1)[البقرة:97] . الآيات .
__________
(1) المصدر السابق 1/543 .(1/483)
قال ابن إسحاق : (( ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ورافع بن أبي رافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها ، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك . وإنما يريدون بذلك فتنتة عن دينه ، فأنزل الله تعالى فيهم : {سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ الله بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ} )) (1)[البقرة:142،143] .
__________
(1) المصدر السابق 1/550 .(1/484)
ومن ادعاءات اليهود ـ لعنهم الله ـ ومجادلاتهم بالباطل ، قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . قال ابن إسحاق : (( وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء ، وبحري بن عمرو ، وشأس بن عدي ، فكلموه ، وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الله ، وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى . فأنزل الله تعالى فيهم : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[المائدة:18] .
قال ابن إسحاق : (( ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، ورغّبهم فيه ، وحذرهم غِير الله وعقوبته ، فأبوا عليه ، وكفروا بما جاءهم به ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب : يا معشر يهود ، اتقوا الله ، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته ، فقال رابع بن حريملة ، ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيراً ونذيراً بعده ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مّنَ الرّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ))(1) [المائدة:19] .
__________
(1) المصدر السابق 1/563 .(1/485)
قال ابن إسحاق : (( ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس [وهو بيت اليهود الذي يتدارسون فيه كتابهم] ، على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ ، قال : (( على ملّة إبراهيم ودينه )) ، قالا : فإن إبراهيم كان يهودياً ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلمّ إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، فأنزل الله تعالى فيهما : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُمْ مّعْرِضُونَ . ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ في دِينِهِمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} )) [آل عمران:23ـ24] .
وقال أحبار يهود ، ونصارى نجران ، حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلاّ يهودياً ، وقالت النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم إلاّ نصرانياً ، فأنزل الله عز وجل فيهم : {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ . هَأَنْتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهََذَا النبي وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ} ))(1) [آل عمران:65ـ68] .
__________
(1) المصدر السابق 1/252 .(1/486)
وهكذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض دين الله ، ويبلغه للناس ، مقروناً بما أوحي إليه من الأدلة القرآنية ، والحجج الربانية ، فيكتفى حينئذ بتلاوة القرآن ، على أسماع من يدعوهم ، فإن قبلوا ، وإلاّ كفّ عن مجادلتهم ، وأعرض عن أذاهم له ، وصبر ، ومضى في دعوته . وربما حاججهم ، وجادلهم ، بالأدلة العقلية ، والكونية ، لبيان الحق ، وإظهار الدين ، واستكمال البلاغ المبين . وهو في ذلك كله ممتثل لقول الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل:125] .
نتائج المجادلة بالحجة والبرهان :
إن إظهار الحق بالحجة والبرهان من قبل الأنبياء والرسل وأتباعهم من الدعاة والمصلحين إلى أقوامهم يفضي إلى نتيجتين :
الأولى ، تتعلق بالمدعوين ، وتـتمثل في أمرين :
الأمر الأول : تسليم أصحاب الفطر السليمة ، والقلوب الصافية ، التي لم يكدرها الكبر ، والحسد ، والتعصب الأعمى ، والأهواء المضلّة . وإخباتهم للحق ، وانقيادهم له ، طائعين ، مستبشرين . فيدخلون في دين الله على بيّنة ، وقناعة ، وإيمان . وهذا هو الأمر الذي شرعت من أجله المجادلة بالتي هي أحسن .
قال الله تعالى : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44] .
وقال تعالى : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ في هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ}[الزمر:27] .
الأمر الثاني : كسر المعاندين وقهرهم ، وفضح باطلهم ، وإضعاف سلطانهم ، بسبب ظهور الحق على باطلهم ، ظهوراً بيناً ، بسلطان الحجة ، وقوة البرهان ، فيضعف سلطانهم ، ويفتضح أمرهم ، ويزول الاغترار بهم .(1/487)
قال الله تعالى : {فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}[البقرة:258] .
أما النتيجة الثانية : فتتعلق بالداعين ، وما يلحقهم من أذى المدعوين :
وذلك أن هؤلاء المعاندين ، لايجدون من سبيل ، إلى الإبقاء على عنادهم ، وكبرهم ، وعلى سلطانهم على المستضعفين من أتباعهم ـ بعد أن كسرتهم الحجة الظاهرة ، والأدلة الباهرة ـ ، إلا الانتقال بكل شراسة ، وضراوة ، إلى مواجهة داعي الحق ، بالأذى والعدوان ، والظلم والطغيان ، أملاً في التخلص منه ، وخروجاً من ذل الهزيمة ، أمام حجته الدامغة ، وبرهانه القاطع ، وإبقاء على نفوذهم ، وسلطانهم ، على المستضعفين من أتباعهم .
قال تعالى حكاية عن إبراهيم وقومه : {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ . قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ في الْجَحِيمِ}[الصافات:95ـ97] .
وقال تعالى عن موسى وقومه : {قَالَ لَهُمْ مّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى . فَتَنَازَعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى . قَالُوْا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيْدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مَنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى . فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[طه:61ـ64] .
وقال تعالى عن قوم نوح : {قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116] .
وقال تعالى عن قوم لوط : {قَالُواْ لَئِن لّمْ تَنتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[الشعراء:167] .(1/488)
وهكذا فإن جميع الأنبياء عليهم السلام ، قد تعرضوا من أقوامهم لأشد الكيد والمكر ، والأذى والعناد ، مع أنهم لم يأتوا أقوامهم محاربين ، ولا مخاصمين ، وإنما أتوهم داعين إلى عبادة الله وحده لاشريك له ، وترك ما لا ينفعهم ولا يضرهم من عبادة غير الله ، ومن اتباع الهوى ، وفعل الطغيان ، ناصحين لهم ، راغبين في هدايتهم ، وصلاح أحوالهم .
قال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مّحِيطٍ . وَيَقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرْضِ مُفْسِدِينَ . بَقِيّةُ الله خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . قَالُواْ يَشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنّكَ لأنتَ الْحَلِيمُ الرّشِيدُ . قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:84ـ88] .
فما كان منهم إلاّ أن لجأوا إلى العناد والتهديد والأذى : {قَالُواْ يَشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مّمّا تَقُولُ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:91] .(1/489)
وهكذا فإن هذه هي حال جميع الأنبياء مع أقوامهم ، ومن ثم جميع أتباع الأنبياء من الدعاة والمصلحين ، فما أن يبلغوا أقوامهم ، ويظهروا عليهم بالحجة والبرهان ، وبيان الحق لهم ، حتى ينبري لهم دعاة الفساد ، وحرّاس الباطل ، في مواجهة شرسة ، بكل وسائل الأذى وألوان السخرية والاستهزاء ، ثم السعي إلى قتلهم ، وإزالة الحق الذي معهم . وفي سورة إبراهيم [9ـ14] صورة كاملة لهذه المواجهة بين رسل الله عليهم السلام ، وأقوامهم ، يتمثل فيها عناد أهل الباطل ، وصدهم للحق ، بعد ما بلغتهم رسلهم الحق بالحجة ، وأوضحت لهم المحجة .
قال تعالى : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاّ الله جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدّوَاْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوَاْ إِنّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفي شَكّ مّمّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[إبراهيم:9] .
ورغم هذا الردّ القاسي العنيف ، إلاّ أن الأنبياء عليهم السلام ، يواصلون بيان الحق ، وإظهار الحجة :
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفي الله شَكّ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مّسَمّى قَالُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ}[إبراهيم:10] .(1/490)
ثم إنهم من بعد الصدّ والتكذيب ، ينتقلون إلى مطالبة الرسل بإبراز المعجزات والخوارق ، من باب التعجيز لا من باب التثبت والاطمئنان ، وإلاّ فالحجج العقلية والكونية شاهدة على صدق ما جاء به الأنبياء من ربهم سبحانه وتعالى . أما وقد انتقلوا إلى طلب المعجزات ، فإن هذه المعجزات ليست رهن طلبهم ، ولا بمقتضى أهوائهم ، وإنما هي بمشيئة الله وإرادته ، فإن شاء أظهرها ، وإن لم يشأ فلا يستطيع أحد أن يأتيهم بها . وليس بعدها إلاّ الإيمان أو العذاب : {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلََكِنّ الله يَمُنّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[إبراهيم:11] .
فالنتيجة التي ينتهي إليها حال هؤلاء المكذبين مع رسلهم هي التهديد والوعيد ، والاستفزاز من الأرض ، أو السعي إلى قتلهم وإزالة الحق الذي معهم : {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ في مِلّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:13،14] .
فالدائرة ولاشك هي على الظالمين ، والعاقبة ولاشك هي للمؤمنين المتقين ، والحمد لله رب العالمين .
ثانياً - الصبر والثبات :
لما كان دأب المعاندين المستكبرين بعد أن يظهر عليهم الدعاة إلى الله بالحجّة والبرهان ، وينالهم بسبب ذلك الذل والهوان ، أنّهم ينتقلون في مواجهتهم للدعوة إلى أساليب الإيذاء المعنوي والحسّي ، بالتهديد والوعيد ، والاستهزاء والسخرية ، والضرب والحبس وحتى القتل ، وكل ألوان الكيد والمكر والأذى .(1/491)
فإنَّ الدعاة إلى الله تعالى عليهم أن يتدرَّعوا في هذه المرحلة بالصبر والثبات ، فلا تزعزعهم الحوادث ، ولا تنال من عزائمهم المصائب والآلام ، حتى يأتي وعد الله لهم بالنصر والتمكين .
قال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214] .
وقال تعالى : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}[يوسف:110] .
وقد كان موقف الرسل عليهم السلام من هذا الأذى والعناد من أقوامهم الصبر الجميل ، والتوكل على الله العظيم الجليل ، حيث قالوا : {وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ}[إبراهيم:12] .
ورسولنا صلى الله عليه وسلم وهو إمام الصابرين ، وسيد أهل الثبات واليقين . فمع ما آتاه الله من الصبر ، واليقين ، والحلم ، والخلق العظيم ، فقد كانت آيات القرآن تتنزل عليه ، بالحث على الثبات والصبر ، مع الوعد بالنصر والظفر .
قال تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لّهُمْ}[الأحقاف:35] .
وقال تعالى : {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}[الأنعام:34] .
وقال تعالى : {وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[يونس:109] .(1/492)
وقال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ}[النحل:127] .
وقال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ الله حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}[الروم:60] .
وقال تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ . لّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ . فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ}[القلم:48ـ50] .
صور من صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وثباته :
ومن صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قومه ، ما أخرجه أحمد عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، وأُخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد ، إلاّ ما يواري إبط بلال ))(1) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/45 ، وقال : وأخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .(1/493)
ومن صبره وثباته صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير ، (( عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : جاءت قريش إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا ، وفي نادينا ، فيسمعنا ما يؤذينا به ، فإن رأيت تكفه عنا فافعل . فقال لي : يا عقيل ، التمس لي ابن عمك ، فأخرجته من كبس من أكباس أبي طالب (أي : بيت صغير) . فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه ، فلا يقدر عليه ، حتى انتهى إلى أبي طالب . فقال له أبوطالب : يا ابن أخي ، والله ما علمت أن كنت لي لمطاعاً ، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم ، تسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ ، فحلّق ببصره إلى السماء ، فقال : (( والله ما أنا بأقدر من أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار )) . فقال أبوطالب : والله ماكذب ابن أخي قط ، ارجعوا راشدين ))(1) .
ومن صبره وتحمّله أذى قومه صلى الله عليه وسلم ، ما رواه البيهقي ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : لما مات أبوطالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش ، فألقى عليه تراباً ، فرجع إلى بيته ، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي ، فجعل يقول : (( أي بنيّة لا تبكين فإن الله مانع أباك )) ، ويقول ما بين ذلك : (( ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبوطالب ثم شرعوا ))(2) .
__________
(1) الهيثمي ـ مجمع الزوائد ـ 6/14 ، وقال : رواه الطبراني وأبويعلى باختصار يسير من أوله ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/132 .(1/494)
وقد تقدّم في فصولٍ من هذا الكتاب نماذج عديدة ، ومواقف كثيرة ، تدل على صبره وتحمّله وثباته صلى الله عليه وسلم وهو يبلغ رسالة ربه جلّ وعلا فكم تلقى صلى الله عليه وسلم من التهديد والوعيد والسب والشتم وكم أصابه من الأذى ؛ فقد شُجّ ، وخُنق وحثي عليه التراب ، ووضع على ظهره سلا الجزور وهو ساجد ، وحوصر ، وطورد وأدميت قدماه ، وتكلّم في عرضه ، وجمعت له الجموع ، وحزبت عليه الأحزاب ، ولم يزده ذلك إلاّ قوّة وثباتاً وصبراً على دعوته وجهاده حتى أظهر الله به الحقّ وأعزّ به الدين وهدى به المسلمين والحمد لله ربِّ العالمين .
صور من صبر الصحابة رضي الله عنهم وثباتهم :
وفي صبرهم على أذى قريش ، وشدة تحملهم ، وقوة ثباتهم ، قال ابن إسحاق : (( ثم إنهم عدوا [أي : المشركون] على من أسلم ، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ، ويعذبونهم ، بالضرب ، والجوع ، والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ ، من استضعفوه منهم ، يفتنونهم عن دينهم . فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ، ومنهم من يصلب لهم ، ويعصمه الله منهم . فكان بلال مولى أبي بكر لبعض بني جمح ، مولداً من مولديهم ، وهو بلال بن رباح ، واسم أمه حمامة . وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب . وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة ، فتوضع على صدره ، فيقول ـ وهو في ذلك ـ : أحد أحد .
قال ابن إسحاق : (( وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر ، وبأبيه ، وأمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ـ فيما بلغني ـ : (( صبراً آل ياسر ، موعدكم الجنة )) .(1/495)
قال محمد بن إسحاق : وكان أبوجهل الفاسق ، الذي يغري بهم ، في رجال من قريش . إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة ، أنّبه ، وخزّاه ، وقال : تركت دين أبيك وهو خير منك . لنسفهّن حلمك ، ولنفلين رأيك ، ولنضعنّ شرفك ، وإن كان تاجراً قال : والله ، لنكسدن تجارتك ، ولنهلكن مالك ، وإن كان ضعيفاً ضربه ، وأغرى به ، لعنه الله ، وقبّحه .
قال ابن كثير : وقال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بنان وإسماعيل قالا : سمعنا قيساً يقول : سمعت خباباً يقول : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد ببردة ، وهو في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت ألا تدعو الله؟ ، فقعد ، وهو محمّر وجهه . فقال : (( قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مِفرق رأسه ، فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، ما يخاف إلاّ الله عز وجل )) ، زاد بنان : (( والذئب على غنمه )) ، وفي رواية : (( ولكنكم تستعجلون ))(1) .
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لأصحابه في الصبر والثبات ، وهكذا كان يواسيهم ، ويصبرهم ويعدهم الجنة ، ويقص عليهم من أخبار الأمم ، ما يهوّن عليهم مصابهم ، ويثبت الله به قلوبهم . بل كان صلى الله عليه وسلم يعودهم الصبر ـ أحياناً ـ فيما يأخذهم به من الصبر على طاعة الله وعبادته . روى مسلم والنسائي والبيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن وهب عن خباب ، قال : (( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّ الرمضاء ـ زاد البيهقي : في وجوهنا وأكفنا ـ فلم يشكنا )) ، وفي رواية : (( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا ))(2) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/56ـ58 .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/58 .(1/496)
وفي حديث سعيد بن هشام أنه سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قالت : ألست تقرأ هذه السورة : {يَا أَيُّهَا الْمُزّمّلُ ؟} ، قلت : بلى ، قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذا السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة )) (1) الحديث .
إن الصبر هو الأساس الثابت لقيام صروح المجد . وإن قيام الدين ، ونشره ، وإظهاره على الدين كله ، لا يقوم به إلاّ رجالٌ رسخت أقدامهم في ميدان الصبر ، وثبتت عزائمهم على طريق الشهادة والنصر . وإن الإيمان الراسخ بالله ، والثقة به ، والتوكل عليه ، تجعل من الرجال جبال صبر ، وبحار طهر ، وشموس فجر . وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مثلاً عليا ، وشموس هدى ، للصابرين والصادقين والمجاهدين المحتسبين .
مقومات الصبر وأسبابه :
يقول ابن القيم في كتابه (( طريق الهجرتين وباب السعادتين )) : (( والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عدة :
أحدها : شهود جزائها وثوابها ، [أي : الابتلاءات] .
الثاني : شهود تكفيرها للسيئات ، ومحوها لها .
الثالث : شهود القدر السابق ، الجاري بها . وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق فلا بد منها . فجزعه لا يزيده إلاّ بلاء .
الرابع : شهوده حق الله عليه في تلك البلوى ، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة ، أو الصبر والرضا على أحد القولين ، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى ، فلا بد له منه وإلاّ تضاعفت عليه .
__________
(1) مسند الإمام أحمد برقم (24150) 17/277 ، وإسناده صحيح ، رواه مسلم والنسائي وأبوداود وابن ماجة .(1/497)
الخامس : شهود ترتُّبها عليه بذنبه ، كما قال تعالى :
{وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى:30] .
فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة . فشغله شهود هذا السبب بالإستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة . قال علي بن أبي طالب : ما نزل بلاء إلاّ بذنب ، ولا رفع إلاّ بتوبة .
السادس : أن يعلم أن الله قد ارتضاها له ، واختارها ، وقسمها . وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه ، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه ، فلينزل إلى مقام الصبر عليها ، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق .
السابع : أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته ، الرحيم به . فليصبر على تجرعه ، ولايتقيأه بتسخطه وشكواه ، فيذهب نفعه باطلاً .
الثامن : أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ، ما لم تحصل بدونه . فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ، ومرارته ، فلينظر إلى عاقبته ، وحسن تأثيره .
قال الله تعالى : {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:216] .
وقال تعالى : {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}[النساء:19] .
وفي مثل هذا قال القائل :
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل(1/498)
التاسع : أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله ، إنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه ، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه ، وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ ، فإن ثبت اصطفاه واجتباه ، وخلع عليه خلع الإكرام ، وألبسه ملابس الفضل ، وجعل أولياءه وحزبه خدماً له ، وعوناً له . وإن انقلب على وجهه ، ونكص على عقبيه ، طرد ، وصفع قفاه ، وأقصي ، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها . ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب ، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعماً عديدة . وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلاّ صبر ساعة ، وتشجيع القلب في تلك الساعة . والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا . ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات ، وعن الآخر بالحرمان والخذلان ، لأن ذلك تقدير العزيز العليم ، وفضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
العاشر : أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء ، والنعمة والبلاء ، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال . وأما عبد السراء والعافية ، الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته .(1/499)
فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة . وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين ، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية . فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه ، فإما أن يخرج تبراً أحمر ، وإما أن يخرج زغلاً محضاً . وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية ، فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ، ويبقى ذهباً خالصاً . فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه (بذكره) . اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه ، وصيره تبراً خالصاً ، يصلح لمجاورته ، والنظر إليه في داره؟ ، فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء ، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر . فنسأل الله أن يسترنا بعافيته ، ولا يفضحنا بابتلائه بمنّه وكرمه(1) .
ثالثاً - الهجرة :
من الخطوات العملية على طريق (نصر الدين وإظهاره على الدين كله) الهجرة في سبيل الله . قال الحافظ بن حجر في الفتح : (( وقد وقعت في الإسلام على وجهين :
الأول : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن ، كما في هجرتي الحبشة ، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وذلك بعد أن استقرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين ))(2) .
الهجرة حفاظاً على الدين ، ودفع الأذى عن المؤمنين :
__________
(1) ابن القيم ـ طريق الهجرتين ـ ص276 .
(2) ابن حجر ـ فتح الباري ـ 1/16 .(1/500)
إن من أسباب الهجرة الإبقاء على الدين ظاهراً . فإذا خيف على المؤمنين أن يفتنوا في دينهم بسبب تسلط أعدائهم عليهم ، واشتداد أذاهم ، وخيف على الدين أن تطمس معالمه ، وتطفأ أنواره ، وجبت الهجرة لحفظ الدين ، والإبقاء عليه ، ولتحريز المؤمنين ، ودفع الأذى عنهم . كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ـ لما أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في هجرتي الحبشة الأولى والثانية ، وفي ابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .
قال ابن إسحاق : (( فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية ، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مماهم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه . فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة ، مخافة الفتنة ، وفراراً إلى الله بدينهم ، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام ))(1) .
وكان مجموع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم ، وولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلاً ، إن كان عمار بن ياسر فيهم ، وهو يشك فيه ، وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة(2) .
عزم أبي بكر على الهجرة مرتين :
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/321 .
(2) المصدر السابق 1/330 ، وانظر : المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ ص108 .(2/1)
وممن تعرض لأذى المشركين ، ونوى الهجرة فراراً بدينه ، وتحريزاً لنفسه من أذاهم ، أبوبكر الصديق رضي الله عنه ، وقد حاول ذلك مرتين ، قبل هجرته مصاحباً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . وفي الأولى قال ابن إسحاق : (( وقد كان أبوبكر الصديق رضي الله عنه كما حدثني محمد بن مسلم (ابن شهاب) الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، حين ضاقت عليه مكة ، وأصابه فيها الأذى ، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى ، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فأذن له ، فخرج أبوبكر مهاجراً ، حتى إذا سار من مكة يوماً أو يومين ، لقيه ابن الدغنّة ، أخو بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذٍ سيد الأحابيش ... قالت : فقال ابن الدغنة : أين يا أبابكر؟ ، قال : أخرجني قومي وآذوني ، وضيّقوا عليّ ، قال : ولم؟ ، فو الله إنك لتزين العشيرة ، وتعين على النوائب ، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم ، ارجع فأنت في جواري . فرجع معه ، حتى إذا دخل مكة ، قام ابن الدغنّة ، فقال : يا معشر قريش ، إني قد أجرت ابن أبي قحافة ، فلا يعرضنّ له أحدٌ إلاّ بخير . قالت : فكفّوا عنه . قالت : وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح ، فكان يصلي فيه ، وكان رجلاً رقيقاً ، إذا قرأ استبكى . قالت : فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء ، يعجبون لما يرون من هيئته . قالت : فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنّة ، فقالوا له : يا ابن الدغنّة ، إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا ، إنه رجل إذا صلى ، وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي ، وكانت له هيئة ونحو ، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم ، فأته فمره أن يدخل بيته ، فليصنع فيه ماشاء . قالت : فمشى ابن الدغنّة إليه ، فقال له : يا أبابكر ، إني لم أجرك لتؤذي قومك ، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت فيه ، وتأذوا بذلك منك ، فادخل بيتك ، فاصنع فيه ما أحببت ،(2/2)
قال : أو أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ ، قال : فاردد علي جواري ، قال : قد رددته عليك . قالت : فقام ابن الدغنّة ، فقال : يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد ردّ عليّ جواري فشأنكم بصاحبكم .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم بن محمد ، قال : لقيه سفيه من سفهاء قريش ، وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا على رأسه تراباً . قال : فمرّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة ، أوالعاص بن وائل ، قال : فقال أبوبكر : ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ ، قال : أنت فعلت ذلك بنفسك . قال : وهو يقول : (( أي رب ما أحلمك! أي رب ، ما أحلمك! أي رب ما أحلمك! ))(1) .
أما المرة الثانية التي عزم فيها أبوبكر رضي الله عنه على الهجرة ، فكانت قبيل هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقد عزم حينذاك على الهجرة إلى المدينة ، ولم يكن يعلم أو يؤمّل أن يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة .
فأما اختياره للمدينة ، فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إليها ، فعن صهيب رضي الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( رأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرّتين ، فإما أن تكون هجراً أو يثرب ))(2)[رواه الترمذي والحاكم والطبراني] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/372 .
(2) الصالحي ـ سبل الهدي والرشاد ـ 3/236 .(2/3)
وأما عزمه على الهجرة ، فقد روى موسى بن عقبة وابن إسحاق والإمام أحمد والبخاري وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها ، وابن إسحاق والطبراني عن أختها أسماء رضي الله عنها ، أن أبابكر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج قبل المدينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( على رسلك فإني ارجو أن يؤذن لي )) ، فقال : أبوبكر : وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ ، قال : (( نعم )) ، فحبس أبوبكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر ، وهو الخبط ، أربعة أشهر(1) .
الهجرة لنصرة الدين وتقوية شوكة المؤمنين :
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إظهاراً لدين الله الحق على الدين كله ، وإقامةً لدولة الإسلام ، التي يتمثل فيها المجتمع الإسلامي المنشود ، كما يتمثل فيها تطبيق الشريعة الغراء ، والمنهج الرباني الكامل للحياة الإنسانية .
قال تعالى : {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33] .
__________
(1) المصدر السابق 3/238 .(2/4)
ودليل ذلك من سيرته صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : (( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم ، عكاظ ومجنّة ، وفي المواسم ، يقول : (( من يؤويني؟ من ينصرني؟ ، حتى أبلّغ رسالة ربي وله الجنة )) ، فلا يجد أحداً يؤويه ولا ينصره . حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال فيه ـ فيأتيه قومه وذوو رحمه ، فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا إليه من يثرب ، فآويناه وصدقناه ، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ، ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رهط من المسلمين ، يظهرون الإسلام ، ثم ائتمروا جميعاً ، فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطول ، ويطرد في جبال مكة ، ويخاف؟ ، فرحل إليه منا سبعون رجلاً ، حتى قدموا عليه في الموسم ، فوعدناه شعب العقبة ، فاجتمعنا عندها من رجلٍ ورجلين ، حتى توافينا . فقلنا : يارسول الله ، علام نبايعك؟ ، قال : (( تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني ، فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم ، وأزواجكم ، وأبناءكم ، ولكم الجنة )) ، فقمنا إليه ، وأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ وفي رواية البيهقي ـ وهو أصغر السبعين ـ إلاّ أنا [يعني جابر] . فقال : رويداً يا أهل يثرب ، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلاّ ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة ، وقتل خياركم ، وتعضّكم السيوف . فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه . فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله .(2/5)
قالوا : أبط عنا يا أسعد ، فو الله لا ندع هذه البيعة ، ولا نسلبها أبداً . قال : فقمنا إليه ، فبايعناه ، وأخذ علينا وشرط ، ويعطينا على ذلك الجنة ))(1) . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ ، قالوا : نعم! ، قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة . قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يارسول الله إن نحن وفينا؟ ، قال : (( الجنة )) ، قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ))(2) .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/157 .
(2) المصدر السابق 3/160 .(2/6)
وفيما رواه ابن إسحاق عن كعب بن مالك رضي الله عنه ، قال : فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط ، يا أهل الجباجب ـ والجباجب المنازل ـ هل لكم في مذمم والصُبّاء معه قد اجتمعوا على حربكم . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزبب )) ، قال ابن هشام : ويقال ابن أزيب ، (( أتسمع أي عدو الله؟ ، أما والله لأتفرغن لك )) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ارفضوا إلى رحالكم )) ، قال : فقال العباس بن عبادة بن نضلة : يارسول الله ، والذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ))(1) .
هذه البيعة المباركة (بيعة العقبة الثانية) يتبيّن منها عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنصاره المؤمنين به المبايعين له ، من الأوس والخزرج ، على إظهار دين الله ، وإرغام أعدائه ، والتصدي لكل من واجه الدعوة ، أو أراد طمس أنوارها . وبهذه العزيمة الصادقة ، والنية الخالصة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين المضطهدين في مكة ، إلى أنصار الإسلام في دار الهجرة ، متخلصين بذلك من أذى المشركين وجورهم ، ساعين إلى نصرة دين الله وإظهاره على الدين كلّه ولوكره المشركون .
وقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل في حث المؤمنين على الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استقر بالمدينة ، نصرة للدين ، وتقوية لشوكة المؤمنين ، وفي التحذير من التخلف عنها .
__________
(1) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/162 .(2/7)
قال الله تعالى : {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلََئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً}[النساء:97] .
وقال تعالى : {وَمَن يُهَاجِرْ في سَبِيلِ الله يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُوراً رّحِيماً}[النساء:100] .
كما أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين في سبيله ، ووعدهم بأعظم الأجور وأرفع المنازل في الآخرة .
فقال تعالى : {فَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ في سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ الله وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ}[آل عمران:195] .
وقال تعالى : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَجَاهَدَ في سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ . الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ في سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ . يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ . خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة:19ـ22] .(2/8)
وقال تعالى : {وَالّذِينَ هَاجَرُواْ في الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنّهُمْ في الدّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}[النحل:41] .
كما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على الهجرة في سبيل الله نصرة للدين ، وإرضاء لرب العالمين . أخرج النسائي عن كثير بن مرّة رحمه الله أن أبا فاطمة حدثه أنه قال : يا رسول الله ، حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عليك بالهجرة ، فإنه لا مثل لها ))(1) .
وهل انقطعت الهجرة بعد فتح مكة ، قصدها ، وأجرها؟ لما روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة بعد الفتح )) الحديث؟؟ .
الجواب : إن المقصود بهذه الهجرة المذكورة في الحديث هي الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لنصرة الدين وإظهاره ، وهذه انقطعت بعد الفتح ، لأن فتح مكة كان ظهوراً للدين ، ونصراً عظيماً للمسلمين .
قال تعالى : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أَفْوَاجاً . فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا}[سورة النصر] .
أما الهجرة من دار الحرب ، ودار الاضطهاد والقهر ، فهي باقية ما بقي الصراع بين الحق والباطل ، وهو باقٍ إلى قيام الساعة .
__________
(1) ابن الأثير ـ جامع الأصول ـ 11/605 .(2/9)
نقل القرطبي في تفسيره عن ابن العربي : (( أن هذه الهجرة (أي : من دار الحرب إلى دار الإسلام) كانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح ، إنما هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن بقي في دار الحرب عصى ))(1) . وقال الدكتور البوطي في فقه السيرة : (( ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وآذان . وغير ذلك من أحكامه الظاهرة ))(2) .
ويؤيد هذا ، ما أخرجه النسائي عن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه ، قال : وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلنا يطلب حاجة ، وكنت آخرهم دخولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يارسول الله ، إني تركت من خلفي ، وهم يزعمون أن الهجرة انقطعت ، قال : (( لن تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار ))(3) .
وما أخرجه أبوداود من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لاتنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولاتنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ))(4) .
وعلى هذا فإن الهجرة سبب من الأسباب التي تتخذ لنصرة الدين وإظهاره على الدين كله ، عندما تقوم الحاجة إليها ، ويرجى حفظ الدين ونصره ، وتحريز المؤمنين ، ودفع الضيم عنهم بها .
أقسام الهجرة والذهاب في الأرض :
ومن لطائف هذا الموضوع ما نقله الإمام القرطبي في تفسيره عن الإمام ابن العربي ، حيث قال : (( قسّم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين : هرباً وطلباً .
فالأول ينقسم إلى ستة أقسام :
__________
(1) الإمام القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ 5/350 .
(2) محمد سعيد البوطي ـ فقه السيرة ـ ص176 .
(3) ابن الأثير ـ جامع الأصول ـ 11/606 .
(4) المصدر السابق .(2/10)
الأول : الهجرة ، وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان ؛ فإن بقي في دار الحرب عصى ، ويختلف في حاله .
الثاني : الخروج من أرض البدعة ؛ قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف . قال ابن العربي : وهذا صحيح ؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيّره فَزُل عنه .
قال الله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}إلى قوله : {الظّالِمِينَ}[الأنعام:68] .
الثالث : الخروج من أرض غلب عليها الحرام ؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم .
الرابع : الفرار من الأذية في البدن ؛ وذلك فضل من الله أرخص فيه ، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه ، ليخلصها من ذلك المحذور . وأول من فعله إبراهيم عليه السلام ؛ فإنه لما خاف من قومه قال : {إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّي}[العنكبوت:26] .
وقال تعالى : {وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99] .
وقال مخبراً عن موسى : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقّبُ}[القصص:21] .
[قلت : ومن هذا النوع هجرتا الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة ، ومبدأ هجرتهم إلى المدينة النبوية] .(2/11)
الخامس : خوف المرض في البلاد الوخمة ، والخروج منها إلى الأرض النزهة . وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح ، فيكونوا فيه حتى يصحوا . وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون ؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم [قلت : وأشار إليه القرطبي في تفسيره لسورة البقرة فقال : (( فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدّث سعداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال : (( رجز أو عذاب عُذِّب به بعض الأمم ثم بقي منه بقيّة ، فيذهب المرّة ويأتي الآخرى ، فمن سمع به بأرض فلا يقدمنّ عليه ، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فراراً منه ))] . قال القرطبي : بيد أن علماءنا قالوا : هو مكروه .
السادس : الفرار خوف الأذية في المال ؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله وأوكد .
[قلت : ولا شك أن هذه الأنواع كلها تدخل في مسمى الهجرة بمعناها العام . ومنها ما هو واجب ، ومنها ما هو مندوب إليه] .
وأما قسم الطلب ، فينقسم إلى قسمين :
طلب دين وطلب دنيا . فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام :
الأول : سفر العبرة ، قال الله تعالى : {أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}[الروم:9] .
وهو كثير . ويقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها . وقيل : لينفذ الحق فيها .
الثاني : سفر الحج ، والأول وإن كان ندباً ، فهذا فرض .
الثالث : سفر الجهاد ، وله أحكامه .
الرابع : سفر المعاش ؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة ، فيخرج في طلبه لا يزيد عليه ، من صيد أو احتطاب ، أو احتشاش ، فهو فرض عليه .(2/12)
الخامس : سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى .قال الله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ}[البقرة:198] ، يعني التجارة ، وهي نعمة منّ الله بها في سفر الحج ، فكيف إذا انفردت .
السادس : في طلب العلم ، وهو مشهور .
السابع : قصد البقاع ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ))[متفق عليه] .
الثامن : الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها .
التاسع : زيارة الإخوان في الله تعالى ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( زار رجل أخاً له في قرية فأرصد الله له ملكاً على مدرجته ، فقال : أين تريد ، فقال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، قال : هل لك من نعمة تربها عليه ، قال : لا ، غير أني أحببته في الله عز وجل ، قال : فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ))(1)[رواه مسلم وغيره] .
[قلت : ويضاف إلى هذه التسعة ، نوع عاشر غاية في الأهمية ، وهو السفر بقصد الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير ، ومنه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة ليقرؤوا أقوماً القرآن ، ويعلموهم أحكام الدين ، ولكنهم غدروا بهم وقتلوهم جميعاً ، ولم ينج منهم غير عمرو بن أمية الضميري رضي الله عنه . ومنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ، ثم معاذاً ، وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم إلى اليمن . وقبل ذلك بعثه صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير رضي الله عنه بعد العقبة الأولى إلى أهل المدينة ، يدعوهم إلى الله تعالى ويقرؤهم القرآن] .
رابعاً - طلب النصرة والمنعة :
__________
(1) الإمام القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ 5/349 .(2/13)
من الأسباب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لنشر الدين وإظهاره على الدين كله طلب النصرة والمنعة ، وهو مطلب لا بد منه لإظهار الدين ، ونشره ، وإعلاء كلمة الله ، والتمكين لشرعه . قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام في طلبه للنصير والوزير : {وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي . كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً . وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً . إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً . قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[طه:29ـ36] .
وقال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام في تمنّيه للنصرة والمنعة : {قَالَ لَوْ أَنّ لِي بِكُمْ قُوّةً أَوْ آوِيَ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80] .
وقال تعالى عن ذي القرنين ، لما استنصره أصحاب السدّ : {قَالُواْ يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً . قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً}[الكهف:93ـ95] .
نصرة أبي طالب وبني هاشم لرسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/14)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله تعالى ، وهو متمنّع من أذى قومه وفتكهم بما هيأ الله له من نصرة عمه أبي طالب له ، ووقوفه دونه . قال ابن إسحاق : (( وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمُّه أبوطالب ، ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله ، مظهراً لأمره ، لا يرده عنه شيء . فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُعتبهم من شيء أنكروه عليه ، من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب )) إلى أن قال : (( فقال لهم أبوطالب قولاً رقيقاً ، وردهم ردّاً جميلاً ، فانصرفوا عنه ))(1) .
ثم إنهم عادوا إلى أبي طالب مرّة أخرى ، يطلبون منه أن يخلّي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولما رأى أنه لا يتزحزح عما هو فيه قال أبوطالب : (( اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشيء أبداً ))(2) .
ثم إنهم عادوا إلى أبي طالب كرّة ثالثة ، ومعهم عمارة بن الوليد ، قال ابن إسحاق : (( فقالوا له ـ فيما بلغني ـ يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أنهد فتىً في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا ، الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرّق جماعة قومك ، وسفّه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجلٌ برجل ، فقال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله لايكون أبداً ))(3) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/264 .
(2) المصدر السابق 1/266 .
(3) المصدر السابق 1/267 .(2/15)
ولما اشتد الأمر من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جمع أبوطالب جميع بني هاشم وبني عبد المطلب ، للوقوف دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه ، وكل ذلك كان حميّة وأنفة أن تنتهك حوزتهم ، وينال من أحدهم ، دون أن يقفوا دونه ، ويصدوا عدوه .
قال ابن إسحاق : (( ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمّه أبي طالب ، وقد قام أبوطالب ، حين رآى قريشاً يصنعون ما يصنعون ، في بني هاشم وبني المطلب ، فدعاهم إلى ما هو عليه ، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقيام دونه ، فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلاّ ما كان من أبي لهب ، عدو الله الملعون .
فلما رآى أبوطالب من قومه ما سرّه في جهدهم معه ، وحدبهم عليه ، جعل يمدحهم ، ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، ومكانه منهم ، ليشدّ لهم رأيهم ، وليحدبوا معه على أمره ، فقال(1) :
إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخرٍ
وإن حصلت أشراف عبد منافها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً
تداعت قريش غثها وسمينها
وكنا قديماً لا نقرّ ظلامة
ونحمي حماها كل يوم كريهة
بنا انتعش العود الذواء وإنما ... فعبد مناف سرها وصميمها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
هو المصطفى من سرها وكريمها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونضرب عن أحجارهامن يرومها
بأكنافنا تندى وتنمى أرومها
ومن قصيدة أخرى طويلة له يقول(2) :
كذبتم وبيت الله نترك مكة
كذبتم وبيت الله نُبزى محمداً
ونسلمه حتى نصرّ ع حوله ... ونظعن إلاّ أمركم في بلابل
ولمّا نطاعن دونه ونناضل
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
__________
(1) المصدر السابق 1/269 .
(2) المصدر السابق 1/275 .(2/16)
خروج الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف يطلب النصرة :
وهكذا فإن الداعي إلى الله تعالى لا بدله ـ وهو يواجه جموع الباطل ، وحشود الكفر ، وجيوش الظلم والطغيان ـ من مؤازرة ، ومساندة ، وقوة تدفع عنه حتى يبلغ دين الله ، وينير آفاق الدنيا بأنوار الهداية ، ويبث في أرجاء الكون عبق الوحدانية ، وألق العبودية الطاهرة الزكية لله وحده لا شريك له .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مات عمه أبوطالب ، وزوجه الوفية التقية خديجة ، قد افتقد المناصر والمؤازر ، وأصبح يواجه كيد قريش وطغيانهم وحده صباح مساء . فخرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى الله ، ويلتمس عندهم النصرة والمنعة .
قال ابن إسحاق : (( ولما هلك أبوطالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاء به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده ))(1) . وفي حديث جبير بن مطعم عند ابن سعد : (( أن زيدا بن حارثة كان معه ))(2) .
وقد صدّه زعماء ثقيف ، وقابلوه أسوأ المقابلة ، وهم ثلاثة إخوة : عبد يا ليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمرو ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف . وقد قال لهم : (( إذا فعلتم فاكتموا عليّ )) . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلَّغ قومه .
فأقام بالطائف عشرة أيام ، وقيل شهراً ، لايدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاء إليه وكلمه ، فلم يجيبوه ، وخافوا على أحداثهم منه ، فقالوا : يا محمد اخرج من بلدنا . وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، يسبّونه ، ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/419 .
(2) الإمام الصالحي ـ سبل الهدى والرشاد ـ 2/438 .(2/17)
قال ابن عقبة : وقفوا له صفّين على طريقه ، فلما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلاّ رضخوهما بالحجارة ، حتى أدموا رجليه .
زاد سليمان التيمي : (( أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته الحجارة يقعد إلى الأرض ، فيأخذون بعضديه ، ويقيمونه ، فإذا مشى رجموه بالحجارة ، وهم يضحكون . قال ابن سعد : وزيد بن حارثة ، يقيه بنفسه ، حتى لقد شجّ في رأسه شجاجاً . قال ابن عقبة : فخلص منهم ورجلاه تسيلان دماً ، فعمد إلى حائط من حوائطهم ، فاستظل في ظل حبلة منه ، وهو مكروب موجع ))(1) .
رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وطلبه الجوار والنصرة :
__________
(1) المصدر السابق 2/438 .(2/18)
قال الصالحي : (( وذكر الأموي وابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته ، أقام بنخلة أياماً ، وأراد الرجوع إلى مكة ، فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ ، فقال : (( يا زيد ، إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله مظهر دينه ، وناصر نبيه )) . ثم انتهى إلى حراء ، وبعث عبد الله بن أريقط إلى الأخنس بن شريق ـ وأسلم بعد ذلك فيما يقال ـ ليجيره ، فقال : (( أنا حليف ، والحليف لا يجير على الصريح )) . فبعث إلى سهيل بن عمرو ـ وأسلم بعد ذلك ـ فقال : (( إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب )) . فبعث إلى المطعم بن عدي ـ ومات كافراً ـ فأجابه إلى ذلك ، وقال : (( نعم ، قل له فليأت )) . فرجع إليه فأخبره ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبات عنده تلك الليلة . فلما أصبح ، خرج المطعم بن عدي ، وقد لبس سلاحه هو وبنوه ستة أو سبعة . فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طف . واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف ، فأقبل أبوسفيان إلى مطعم بن عدي ، فقال : أمجيرٌ أم تابع؟ ، قال : بل مجير . قال : إذن لاتخفر . قد أجرنا من أجرت . فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه . فلما انصرف إلى بيته انصرفوا معه . وذهب أبوسفيان إلى مجلسه ))(1) .
طلبه صلى الله عليه وسلم النصرة من القبائل في المواسم والأسواق :
__________
(1) الصالحي- سبل الهوى والرشاد - 2/440 ، وابن كثير - البداية والنهاية - 3/135 .(2/19)
قال ابن إسحاق : (( ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه ، إلاّ قليلاً مستضعفين ممن آمن به ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم ـ إذا كانت ـ على قبائل العرب ، يدعوهم إلى الله عز وجل ، ويخبرهم أنه نبي مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ، ويمنعوه ، حتى يبين عن الله ما بعثه به ))(1) .
قال موسى بن عقبة عن الزهري : (( فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم كل شريف قوم ، لا يسألهم مع ذلك إلاّ أن يؤوه ويمنعوه ويقول : (( لا أكره أحداً منكم على شيء ، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ، ومن كره لم أكرهه . وإنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي ، وحتى يقضي الله لي ، ولمن صحبني بما شاء )) . فلم يقبله أحد منهم ، وما يأت أحداً من تلك القبائل إلاّ قال : قوم الرجل أعلم به ، أترون أن رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟! ، وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار ، وأكرمهم به ))(2) .
قال الزهري : (( وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم ، وعرض نفسه عليهم ؛ بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن خصفة ، وفزارة ، وغسان ، ومرّة ، وحنيفة ، وسليم ، وعبس ، وبنو نصر ، وبنو البكاء ، وكندة ، وكلب ، والحارث بن كعب ، وعذرة ، والحضارمة ، فلم يستجب منهم أحد ))(3) .
فوز الأنصار رضي الله عنهم بالنصرة المظفرّة :
__________
(1) ابن هشام - السيرة النبوية - 1/422 ، ابن كثير - البداية والنهاية - 3/136.
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/138 .
(3) المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ ص147 .(2/20)
قال ابن إسحاق : (( فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم . فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : (( من أنتم؟ )) ، قالوا : نفر من الخزرج ، قال : (( أمِنْ موالي يهود؟ )) ، قالوا : نعم ، قال : أفلا تجلسون أكلمكم؟ )) ، قالوا : بلى . فجلسوا معه . فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله بهم في الإسلام ، أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إن نبياً مبعوثاً الآن ، قد أظل زمانه ، نتّبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه ، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدّقوا ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/428 .(2/21)
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في مجنّة وعكاظ ، وفي المواسم بمنى ، يقول : (( من يؤويني؟ ومن ينصرني؟ حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة )) ، فلا يجد أبداً أحداً يؤويه ولا ينصره ، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن ، فيأتيه قومه وذوو رحمه ، فيقولون : احذر فتى قريش لا يفتنك . يمضي بين رحالهم ، وهم يشيرون إليه بأصابعهم ، حتى بعثنا الله إليه من يثرب ، فيأتيه الرجل منّا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم تبق دار من دور يثرب إلاّ وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام . ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا ، واجتمعنا ، فقلنا : يا رسول الله ، علام نبايعك؟ ، قال : (( تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب ، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وابناءكم ولكم الجنة ))(1) الحديث .. [رواه الأمام أحمد والبيهقي] .
وما كان جوابهم إلاّ أن قالوا : (( نعم ، والذي بعثك بالحق نبياً ، لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا(2) )) .
قال الله تعالى : {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً}[الأحزاب:23] .
خامساً - الجهاد في سبيل الله :
__________
(1) الصالحي ـ سبل الهدى والرشاد ـ 3/201 .
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 3/242 .(2/22)
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ، وهو ذروة سنام الدعوة إلى الله تعالى ، والسبب الأعظم لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ، وإظهار دينه على الدين كله ولوكره المشركون . كما أنه سبب لتمحيص المؤمنين ، وابتلاء صبرهم وإيمانهم ، وهو كذلك سبب لبلوغهم الدرجات العلى ، والمنازل المنيفة في جنات النعيم . وهو قبل ذلك وبعده سبب من أبلغ الأسباب لإرضاء الله تعالى ، ونيل محبته .
قال الله تعالى : {إِنّ الله يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنّهُم بُنْيَانٌ مّرْصُوصٌ}[الصف:4] .
والجهاد (( من أهم مبادئ الإسلام العظمى ، لأنه سبيل العزة والكرامة والسيادة ، لهذا كان فريضة محكمة ، وأمراً ما ضياً إلى يوم القيامة ، وما ترك قوم الجهاد إلاّ ذلّوا ، وغزوا في عقر دارهم ، وخذلهم الله ، وسلط عليهم شرار الناس وأراذلهم ))(1) .
من فضائل الجهاد في سبيل الله :
قال الله تعالى : {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِيْنَ}[التوبة:36] .
وقال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:216] .
وقال تعالى : {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[التوبة:41] .
__________
(1) د.وهبة الزحيلي ـ الفقه الإسلامي وأدلته ـ 6/414 .(2/23)
وقال تعالى : {إِنّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً في التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111] .
وقال تعالى : {لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيما . دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رّحِيماً}[النساء:95،96] .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَرَسُوْلِهِ وَتُجَاهِدُوْنَ في سَبِيْلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَأُخْرَى تُحِبّونَهَا نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:10ـ13] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل؟ ، قال : (( إيمان بالله ورسوله )) ، قيل : ثم ماذا؟ ، قال : (( الجهاد في سبيل الله )) ، قيل : ثم ماذا؟ ، قال : (( حج مبرور ))[متفق عليه] .(2/24)
وعن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي العمل أفضل؟ ، قال : ((الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ))[متفق عليه] .
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ))[متفق عليه] .
وعن سلمان رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان ))[رواه مسلم] .
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كل ميّت يختم على عمله إلاّ المرابط في سبيل الله ، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمّن من فتنة القبر ))[رواه أبوداود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تضمّن الله لمن خرج في سبيله ، لايخرجه إلاّ جهاد في سبيلي ، وإيمان بي ، وتصديق برسلي ؛ فهو ضامن عليّ أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ، ما من كلمٍ يُكلم في سبيل الله ، إلاّ جاء يوم القيامة كهيئة يوم كلم ؛ لونه لون دم ، وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبداً ، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة ، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده ، لوددت أني أغزو في سبيل الله ، فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ))[رواه مسلم] .(2/25)
وعن أبي هريرة – أيضاً - رضي الله عنه ، قال : قيل : يارسول الله ، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ ، قال : (( لا تستطيعونه )) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول : (( لا تستطيعونه )) ، ثم قال : (( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام ، ولا صلاة ، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ))[متفق عليه] . وهذا لفظ مسلم ، وفي رواية البخاري ، أن رجلاً قال : يارسول الله ، دلني على عمل يعدل الجهاد . قال : (( لا أجده )) ، ثم قال : (( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولا تفطر؟ )) فقال : ومن يستطيع ذلك؟! )) }متفق عليه{
وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، قال : (( سمعت أبي ، رضي الله عنه ، وهو بحضرة العدوّ ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف )) ، فقام رجلّ رثّ الهيئة ، فقال : يا أبا موسى ، أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ ، قال : نعم ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه ، فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدّو فضرب به حتى قتل ))[رواه مسلم] .
تعريف الجهاد في سبيل الله :
الجهاد لغة : بذل الجُهد ـ بالضم ـ وهو الوسع والطاقة . أو الجهد ـ بالفتح ـ وهو المبالغة في العمل . وبذل أقصى ما يستطيعه الإنسان من طاقة لنيل محبوب أو لدفع مكروه . وقيل : هما لغتان في الوسع والطاقة . فأما المشقة والغاية فالفتح لا غير(1) .
والجهاد شرعاً واصطلاحاً : اتفق الفقهاء الأربعة أن الجهاد هو القتال في سبيل الله والعون فيه .
وإليك تعريفات الفقهاء الأربعة(2) :
1- الأحناف :
__________
(1) انظر : ابن منظور ـ لسان العرب ـ 3/133 .
(2) منقول عن الدكتور عبد الله عزام ـ عبر وبصائر للجهاد في العصر الحاضر(بتصرف) ـ ص6.(2/26)
الجهاد : دعوة الكفار إلى الدين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا .[فتح القدير ، لابن الهمام5/187] .
بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان وغير ذلك .[الكاساني ـ البدائع 9/4299] .
2- المالكية :
الجهاد : قتال المسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله ، أو حضوره له ، أو دخوله أرضه .[حاشية العدوي للصعيدي2/2 ، والشرح الصغير ، وأقرب المسالك للدردير2/267] .
3- الشافعية :
الجهاد : أي القتال في سبيل الله .[الباجوري ، ابن القاسم2/261] .
بذل الجهد في قتال الكفار .[ابن حجر ، الفتح6/3] .
4- الحنابلة :
الجهاد : قتال الكفار .[انظر مطالب أولي النهي2/497] .
الجهاد القتال وبذل الوسع فيه لإعلاء كلمة الله تعالى .[عمدة الفقه ص166 ، ومنتى الإرادات1/302] .
فأما حكم الجهاد(1) :
إن لم يكن النفير عاماً : فالجهاد فرض كفاية ، ومعناه أنه يفترض على جميع من هو أهل للجهاد ، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، لقوله عز وجل :
{فَضّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى}[النساء:95] ، فالله سبحانه وعد الحسنى كلاً من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد ، ولو كان الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى ؛ لأن القعود يكون حراماً .
وقوله سبحانه : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ في الدّينِ}الآية[التوبة:122] .
ولأن المقصود من الجهاد ـ وهو الدعوة إلى الإسلام ، وإعلاء الدين الحق ، ودفع شر الكفرة وقهرهم ـ يحصل بقيام البعض به ، فإذا قاموا به يسقط عن الباقين .
__________
(1) مختصر من الدكتور وهبة الزحيلي ـ الفقه الإسلامي وأدلته ـ باب الجهاد وتوابعه ـ فصل الجهاد وقواعده6/416 .(2/27)
وإن ضعفوا عن مقاومة الكفرة ، فعلى من يجاورهم من المسلمين ـ الأقرب فالأقرب ـ أن يجاهدوا معهم وأن يمدوهم بالسلاح والمال .
ولا يجوز للمرأة الاشتراك في الجهاد إلاّ بإذن زوجها ؛ لأن القيام بحقوق الزوجية فرض عين ، كما لا يجوز الجهاد للولد بدون إذن أبويه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتاً ؛ لأن برّ الوالدين فرض عين ، فيكون مقدماً على فرض الكفاية .
فإن كان النفير عاماً : كأن هجم العدو على بلد إسلامي ، فالجهاد فرض عين على كل قادر من المسلمين ، لقوله سبحانه وتعالى :
{انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً}. قيل : نزلت في النفير . وقوله عز وجل :
{مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ}[التوبة:120] . فإذا عمّ النفير خرجت المرأة بغير إذن زوجها ، وجاز للولد أن يخرج بدون إذن والديه .
ويتعيّن الجهاد في ثلاثة مواضع :
الأول : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان ، حرم على من حضر الانصراف ، وتعين عليه المقام ، لقوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ الله كَثِيراً}[الأنفال:45] .
الثاني : إذا نزل الكفار ببلد ، تعين على أهله قتالهم ودفعهم .
الثالث : إذا استنفر الإمام قوماً ، لزمهم النفير معه ، لقوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ في سَبِيلِ الله اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ}[التوبة:38] ، وللحديث المتفق عليه : (( إذا استنفرتم فانفروا )) .
وهذا الحكم المذكور في فرضية الجهاد باتفاق الفقهاء(1) .
__________
(1) المصدر السابق ص417 .(2/28)
المكلفون بالجهاد : يفترض الجهاد على القادر عليه ، فمن لا قدرة له لا جهاد عليه . فلا يطالب بالجهاد : الأعمى ، والأعرج ، والمريض مرضاً مزمناً أو غير مزمن ، والمقعد ، والشيخ الهرم ، والضعيف ، والأقطع ، والذي لا يجد ما ينفق ، والصبي غير المكلف ، والمرأة ، والعبد ؛ لأن الأخيرين مشغولان بخدمة الزوج والسيد ؛ ولأن الصبي غير مكلف ، وليس أهلاً للقتال ، بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال : (( عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فلم يجزني في المقاتلة )) الحديث . وأما كون الباقين لا قتال عليهم ، فلعجزهم ، وقد نزل فيهم قوله تعالى : {لّيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}الآية[النور:61] . نزلت في أصحاب الأعذار حين همّوا بالخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية التخلف عن الجهاد . وقال سبحانه :
{لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة:91] .
ولا تقاتل المرأة إلاّ بإذن زوجها إلاّ أن يهجم العدو على بلاد المسلمين ، لصيرورة القتال حينئذٍ فرض عين .
وقد اختلف الفقهاء في حكم إبلاغ الدعوة (قبل القتال) على ثلاثة آراء :
الأول : يجب قبل القتال تقديم الدعوة الإسلامية مطلقاً ، أي سواءً بلغت الدعوة العدو أم لا ، وبه قال مالك رحمه الله . لقوله تعالى :
{ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}[الفتح:16] .
الثاني : لا يجب ذلك مطلقاً ، وهو رأي قوم كالحنابلة(1) .
__________
(1) جاء في المغني لابن قدامة : "قال أحمد إن الدعوة قد بلغت وانتشرت ، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة" . 10/385 .(2/29)
الثالث : تجب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام ، فإن انتشر الإسلام ، وظهر كل الظهور ، وعرف الناس لماذا يدعون ، وعلى ما ذا يقاتلون ، فالدعوة مستحبة تأكيداً ، للإعلام والإنذار ، وليست بواجبة . وهذا رأي جمهور الفقهاء . قال ابن المنذري : هو قول جمهور أهل العلم ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث .
فمن الأحاديث التي توجب الإبلاغ : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : (( ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط إلاّ دعاهم ))[رواه أحمد والبيهقي وأبويعلى والطبراني والحاكم وعبد الرزاق ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد5/304 رجاله رجال الصحيح] . وما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصيته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيراً .. ثم قال : (( وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتهن أجابوك ، فاقبل منه ، وكف عنهم ؛ ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم .. فإن أبوا فسلهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، وإن أبو فاستعن بالله عليهم وقاتلهم )) .. الحديث .[رواه الجماعة إلاّ البخاري] .
ومن الأحاديث التي لا توجب الإبلاغ أو الدعوة إلى الإسلام ؛ ماروي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق ، وهم غارّون (أي غافلون) ، وأنعامهم تسقى على الماء ، فقتل مقاتلتهم ، وسبى سبيهم .[رواه أحمد والشيخان] . ومنها ما رواه أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال : (( أغر على أُبنى(1) صباحاً ، وحرّق ))[رواه أبوداود وابن ماجة] ، والغارة لا تكون مع الدعوة .
__________
(1) أبنى ـ كحلى : موضع بفلسطين بين عسقلان والرملة .(2/30)
فالحديثان الأولان وغيرهما يعتبران الدعوة إلى الإسلام شرطاً في جواز القتال . والحديثان الآخران يجيزان الإغارة على العدو بدون دعوة جديدة ، نظراً لأنه سبق له بلوغ الدعوة ، وإزاء هذا التعارض في الظاهر قال أرباب الرأي الأول والثاني : إن بعض الأحاديث ينسخ بعضها ، أو بخصوص الفعل بزمن النبوة .
وقال الجمهور : يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين الأحاديث ؛ لأنه لا يلجأ إلى النسخ إلاّ إذا تعذر الجمع بين الأدلة ، وأما ادعاء التخصيص فلا دليل عليه .
فمن لم تبلغه الدعوة يجب دعاؤه إلى الإسلام ، فإذا بلغته استحب ذلك .
وعلى هذا فيجوز أن نبدأ العدو بالقتال ، والإغارة ، والبيات عليهم ؛ لأنه قد وصلتهم أنباء الدعوة الإسلامية(1) .
من يُقتل ومن لا يُقتل من الأعداء : يجوز قتل المقاتلة الذين يشتركون في الحرب برأي أو تدبير أو قتال ، ولا يجوز قتل غير المقاتلة من امرأة ، أو صبي ، أو مجنون ، أو شيخ هرم ، أو مريض مقعد ، أو أشل ، أو أعمى ، أو مقطوع اليد والرجل من خلاف ، أو مقطوع اليد اليمنى ، أو معتوه ، أو راهب في صومعته ، أو قوم في دار ، أو كنيسة ترهبوا ، والعجزة عن القتال ، والفلاحين في حرثهم ، إلاّ إذا قاتلوا بقول ، أو فعل ، أو رأي ، أو إمداد بمال . بدليل أن ربيعة بن رفيع السلمي أدرك دريد بن الصمة يوم حنين ، فقتله ، وهو شيخ كبير جاوز المائة ، لا ينتفع إلاّ برأيه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه .[أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي موسى] .
ويجوز قتل المرأة إذا كانت ملكة الأعداء ؛ لأن قتلها تفريق لجمعهم ، وكذلك إذا كان ملكهم صبياً صغيراً ، وأحضروه معهم في المعركة ، لا بأس بقتله إذا كان في قتله تفريق جمعهم .
__________
(1) المصدر السابق ص421 .(2/31)
وأما أدلة عدم جواز قتلهم إذا لم يقاتلوا : فمنها قوله صلى الله عليه وسلم : (( لاتقتلوا امرأة ولا وليداً ))[رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس] . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نهى عن قتل النساء والصبيان ))[رواه الجماعة إلاّ النسائي عن ابن عمر] . وقال لأحد صحابته : الحق خالداً فقل له : (( لاتقتلوا ذرية ولا عسيفاً )) [رواه أحمد وأصحاب السنن إلاّ الترمذي ، عن ابن رباح بن ربيع] ، والعسيف : الأجير . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال : (( لاتقتلوا أصحاب الصوامع ))[أخرجه أحمد عن ابن عباس] . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( انطلقوا باسم الله وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، لا تقتلو شيخاً فانياً ، ولا طفلاً ، ولا صغيراً ، ولا امرأة ، ولا تغلّوا ، وضمّوا غنائمكم ، وأصلحوا ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ))(1)[أخرجه أبوداود عن أنس] .
يقول ابن القيم في كتابه القيم (( زاد المعاد )) : (( مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين . فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السعلة ، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون ، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد ، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس ، فتأخر البطالون ، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن ، فدارت السلعة بينهم ، ووقعت في يد : { أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ))[المائدة:54] .
__________
(1) المصدر السابق ص422 .(2/32)
لما كثر المدعون للمحبة ، طولبوا بإقامة البينة على صدق الدعوى ، فلو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الخليّ حرقة الشجيّ ، فتنوع المدعون في الشهود ، فقيل : لا تثبت هذه الدعوى إلاّ ببيّنة : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ الله فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران:31] . فتأخر الخلق كلهم ، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه ، فطولبوا بعدالة البينة ، وقيل : لاتقبل العدالة إلاّ بتزكية : {يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}[المائدة:54] . فتأخر أكثر المدعين للمحبة ، وقام المجاهدون ، فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم ، فسلموا ما وقع عليه العقد ، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين ، فلما رأى التجار عظمة المشتري ، وقدر الثمن ، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد ، عرفوا أن للسلعة قدراً أو شأناً ليس لغيرها من السلع ، فرأوا من الخسران البيّن ، والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة ، تذهب لذتها وشهوتها ، وتبقى تبعتها وحسرتها ، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء ، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان ، رضىً واختياراً من غير ثبوت خيار ، وقالوا : والله لانقيلك ولا نستقيلك . فلما تم العقد ، وسلموا المبيع ، قيل لهم : قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا ، والآن قد رددناها عليكم أوفر ماكانت ، وأضعاف أموالكم معها : {وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:69] .(2/33)
فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق ، فقد أعطى السلعة ، وأعطى الثمن ، ووفق لتكميل العقد ، وقبل المبيع على عيبه ، وأعاض عليه أجلّ الأثمان ، واشترى عبده من نفسه بماله ، وجمع له بين الثمن والمثمّن ، وأثنى عليه ، ومدحه بهذا العقد ، وهو سبحانه الذي وفقه له ، وشاءه منه .
فحيهلا إن كنت ذاهمة فقد
وقل لمنادي حبهم ورضاهم
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعدٍ
فما هي إلاّ ساعة ثم تنقضي ... حدابك حادي الشوق فاطو المراحلا
إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا
نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا(1)
سادساً - إقامة الدين وتطبيق شرائعه :
إن الغاية العليا ، والمطلب الأسنى ، وسدرة المنتهى ، للدعوة إلى الله تعالى ، هي إقامة دين الله تعالى ، وتطبيق شرائعه ، وإظهار شعائره ، والانتظام في منهجه ، والتنعم بالعيش في ظلاله الوارفة ، وحياته الطيبة ، وعدالته السمحة ، ومنهجه الشامل الكامل .
قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة:3] .
ولقد تم ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما أقام دولة الإسلام في المدينة النبوية ، بعد هجرته المباركة .
__________
(1) ابن القيم ـ زاد المعاد ـ 3/73 ، ومدراج السالكين 3/8 .(2/34)
فقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم التدابير اللازمة لإظهار الدين ، وإقامة دولة الإسلام ، وتأسيس مجتمعها المسلم ، منذ أول يوم وصل فيه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية ، فما أن أناخت به ناقته القصواء بدار بني مالك بن النجار ، وبركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم ، وهو يومئذٍ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ، واحتمل أبوأيوب خالد بن زيد رضي الله عنه ، رحله ، فوضعه في بيته ، حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ التدابير اللازمة لتأسيس دولة الإسلام .
التدابير التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة الإسلام :
1- بناء المسجد :
كان أول ما فعله صلى الله عليه وسلم (( أن سأل عن المربد لمن هو؟ ، فقال له معاذ بن عفراء : هو يارسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو ، وهما يتيمان لي ، وسأرضيهما منه ، فاتخذه مسجداً ، قال : فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني مسجداً ))(1) .
2- مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار :
حتى أصبح ذلك المجتمع القبلي مجتمعاً أخوياً إسلامياً منظماً ، تحكمه شرائع الإسلام ، وتؤلف بين قلوب أفراده محبة الله ومحبة رسوله ، وتلتقي هذه القلوب المؤمنة على هدف واحد هو إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض وإعزاز دينه ، طلباً لمرضاته ، وسعياً إلى بلوغ دار كرامته ، جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
قال الله تعالى : {وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنّ الله أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:63] .
وقال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}[آل عمران:103] .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/496 .(2/35)
قال ابن إسحاق : (( وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال ـ فيما بلغني ، ونعوذ بالله أن نقول عليه مالم يقل ـ : (( تآخوا في الله أخوين أخوين ))(1) .
فلما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، كان من آثار هذه المؤاخاة أن تفجرت ينابيع الإيثار في قلوب أنصار الله وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أخلاقهم . فقاموا يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين . أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قالت الأنصار : أقسم بيننا وبين أخواننا النخيل ، قال : (( لا )) ، قالوا : أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار : (( إن أخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم )) ، فقالوا : أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أو غير ذلك؟ )) ، قالوا : وما ذاك يارسول الله؟ ، قال : (( هم قوم لايعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر )) ، قالوا : نعم(2) .
وروى البخاري في أوائل كتاب البيوع بسند وعلّقه في باب : كيف آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، والإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ، فعرض سعد على عبد الرحمن أن يناصفه أهله وماله . قال سعد : أنا أكثر أهل المدينة مالاً ، فأقسم لك نصف مالي ، وانظر أي زوجتي هويت ، نزلت لك عنها ، فإذا حلّت تزوجتها . فقال عبد الرحمن : بارك الله عز وجل لك في أهلك ومالك ، دلوني على السوق ، فاشترى وباع ))[متفق عليه] .
__________
(1) المصدر السابق 1/504 .
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/227 .(2/36)
وقد أثنى الله تعالى على الأنصار رضي الله عنهم فيما أظهروه من حبّ إخوانهم وإيثارهم على أنفسهم ، فقال تعالى :
{وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9] .
ومن التدابير التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأسيس دولة الإسلام :
3- اتخاذ التدابير الأمنية :
عقد المعاهدة بين المجتمع المسلم من المهاجرين والأنصار من جهة ، وبينهم وبين من جاورهم من اليهود من جهة ثانية ، فهي معاهدة أمنية ، اجتماعية ، تنظيمية ، لفئات وطوائف المجتمع الجديد لدولة الإسلام . وهاك نصها كما وردت في كتاب السيرة لابن هشام عن محمد بن إسحاق .
قال ابن إسحاق : (( وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه اليهود وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم . إنهم أمة واحدة من دون الناس .
المهاجرون من قريش على ربعتهم ، يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو ساعدة على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو حارث على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .(2/37)
وبنو جُشَم على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو النجار على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو النبيت على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو الأوس على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها ، بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً (أي : المثقل بالدين والكثير العيال) بينهم ، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه . وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين . وإن أيديهم عليه جميعاً ، ولو كان ولد أحدهم .
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولاينصر كافراً على مؤمن . وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم . وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس .
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم . وإن سلم المؤمنين واحدة ، لايسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله ، إلاّ على سواء وعدل بينهم . وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً . وإن المؤمنين يجيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله . وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه . وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن . وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة ، فإنه قوَدٌ به ، إلا أن يرضى وليّ المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلاّ قيام عليه .(2/38)
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه ، وإنه من نصره أو آواه ، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولايؤخذ منه صرف ولا عدل . وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء ، فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين . وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلاّ نفسه ، وأهل بيته . وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف . وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف . وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف . وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف . وإن ليهود بني الأوس مثل ماليهود بني عوف . وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلاّ من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلاّ نفسه ، وأهل بيته . وإن حفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم . وإن لبني الشُّطيبة مثل ما ليهود بني عوف . وإن البرّ دون الإثم . وإن موالي ثعلبة كأنفسهم . وإن بطانة يهود كأنفسهم . وإنه لا يخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمد صلى الله عليه وسلم . وإنه لاينحجز ، على ثار جرح . وإنه من فتك فبنفسه فتك ، وأهل بيته ، إلاّ من ظلم . وإن الله على أبرّ هذا . وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم . وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة . وإن بينهم النصح والنصيحة ، والبرّ دون الإثم . وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه . وإن النصر للمظلوم . وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .(2/39)
وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة . وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم . وإنه لا تجار حرمة إلاّ بإذن أهلها . وإنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مردّه إلى الله عز وجل ، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره .
وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها . وإن بينهم النصر على من دهم يثرب . وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين ، إلاّ من حارب في الدين . على كل حصتهم من جانبهم الذي قبلهم . وإن يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم ، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة ، مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة . وإن البر دون الأثم ، لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه . وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه .
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم . وإنه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة ، إلاّ من ظلم أو أثم . وإن الله جار لمن برّ واتقى ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(1) .
هذه المعاهدة المحكمة ، جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أساساً لدولة الإسلام الجديدة ، ولمجتمع جديد ، قوي متماسك ، منظم ، منضبط بضوابط شرعية ، أمنية ، اجتماعية ، محكمة . لإقامة الدين على أساس قوي ، وفي مجتمع متميز ، متلاحم .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 1/501 .(2/40)
ولا يخفى ما في هذه المعاهدة من عبارات تدل على سمات هذا المجتمع الجديد الموصوف بالمؤمنين ، والمسلمين . كما في قوله : (( إنهم أمة واحدة من دون الناس )) ، وقوله : (( ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن ، وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس )) . كما لايخفى أن القيادة النبوية أخذت تمهد لإقامة الحدود الشرعية في هذا المجتمع الجديد ، كما في قوله : (( وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة ، فإنه قودٌ به ، إلاّ أن يرضى وليّ المقتول )) . كما أن القيادة النبوية أصبحت ظاهرة النفوذ والحكم ، كما في قوله : (( وإنه لايخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمد صلى الله عليه وسلم )) ، وقوله : (( وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مردّه إلى الله عز وجل ، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )) . وقوله : (( وإن الله جار لمن برّ واتقى ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )) . هذا فضلاً عن إحكام الجوانب الحربية ، والأمنية ، وكذلك العلاقات مع من هم خارج دائرة هذه المعاهدة .
ومن التدابير التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأسيس دولة الإسلام ، وإظهار تميّزها ، بإظهار شعائرها :
4- الأذان للصلاة :
حيث بدأ التفكير في وسيلة للإعلان عن فرائض الصلاة في أوقاتها ، إظهاراً لهذه الشعيرة العظيمة ، وتيسيراً على المسلمين أمر اجتماعهم إلى الصلاة في أوقاتها .(2/41)
قال ابن إسحاق : (( فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين ، واجتمع أمر الأنصار ، استحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة ، وفرضت الزكاة ، والصيام ، وقامت الحدود ، وفرض الحلال والحرام ، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم . وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها ، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها ، بغير دعوة . فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقاً كبوق يهود ، الذين يدعون به لصلاتهم ، ثم كرهه . ثم أمر بالناقوس ، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة .(2/42)
فبينما هم على ذلك ، إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه ، أخو بلحارث بن الخزرج ، النداء . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، إنه طاف بي هذه الليلة طائف ، مرّ بي رجلٌ عليه ثوبان أخضران ، يحمل ناقوساً في يده ، فقلت له : يا عبد الله ، أتبيع هذا الناقوس؟ ، قال : وما تصنع به؟ ، قال : قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على خير من ذلك؟ ، قال : قلت : وما هو؟ ، قال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد الله لا إله إلاّ الله ، أشهد الله لا إله إلاّ الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله . فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إنها لرؤيا حق ، إن شاء الله . فقم مع بلال ، فألقها عليه ، فليؤذّن بها ، فإنه أندى صوتاً منك )) ، فلما أذن بها بلال ، سمعها عمر بن الخطاب ، وهو في بيته ، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يجرّ رداءه ، وهو يقول : يا نبي الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد رأيت مثل الذي رأى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فلله الحمد على ذلك )) .
قال ابن إسحاق : (( وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن امرأة من بني النجار ، قالت : كان بيتي من أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن عليه الفجر ، كل غداة ، فيأتي بسحر ، فيجلس على البيت ، ينتظر الفجر ، فإذا رآه تمطى ، ثم قال : اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا على دينك . قالت : والله ما علمته كان يتركها ليلة واحدة ))(1) .
ومن تدابيره صلى الله عليه وسلم لإرساء قواعد دولة الإسلام ، وتزكية المجتمع الإسلامي الجديد ، وتفقيهه بدينه :
5- اتخاذ المسجد مركزاً للدعوة والدولة :
__________
(1) المصدر السابق 1/508 .(2/43)
جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مسجده مركزاً لدعوته ودولته ؛ تشع منه أنوار دعوته ، وتتلقى فيه أحكام شريعته ، وتعقد فيه ألوية الجهاد ، وتقام فيه شعائر الدين ، ويلتقي فيه أفراد الأمة ، وتُستقبل فيه الوفود ، وتخفق في ساحته البنود ، ويُعلن منه الأذان ، وتسير منه الكتائب ، وتُجمع فيه الغنائم . فياله من قلب نابض ، وروح لذلك المجتمع متجدد ، يعجّ بالحركة ، ويشع بالنور ، وتتردد في جنباته أصداء التسبيح والذكر ، فالمسلمون فيه بين قائم يتلو آيات الله ، وساجد خاشع بين يدي الله ، وقاعد في حلقة العلم بين يدي رسول الله ، ومنطلق لتنفيذ أمر الله وأمر رسول الله .
حركة دائبة ، وصلاة دائمة ، وعلم وعمل ، وهجرة وجهاد ، ونصرة ووداد .
لقد أصبح المجتمع الإسلامي الجديد ، بمافيه من روح الحياة والحركة ، قابلاً للنماء ، مهيأ ليغمر ما حوله من المجتمعات ، ويبدد ما حوله من الظلمات ، ويقهر كل ما يوضع في طريقه من العقبات .
6- تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة :
وبعدما تميّز هذا المجتمع المسلم عن غيره من مجتمعات الجاهلية ، كاليهود ، ومشركي العرب ، والنصارى ، وغيرهم ، زاده الله تميّزاً واستقلالاً بأن نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرفهم عن القبلة التي كان يشركهم فيها اليهود وهي بيت المقدس إلى قبلة الإسلام خاصة وهي الكعبة المشرفة ، وكان هذا الحدث العظيم ذا أثر بالغ على الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين ، وهو الرضى والطمأنينة ، كما كان له أثر بالغ على اليهود والمنافقين والمشركين وهو الدهشة والاستغراب والشعور بالخذلان وخاصة اليهود عليهم لعنة الله .
قال الصالحي في سبل الهدى : (( وكان اليهود قد أعجبهم إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك .(2/44)
وقال المنافقون : خرّ محمد إلى أرضه . وقال المشركون : أراد محمد أن يجعلنا قبلة له ووسيلة ، وعرف أن ديننا أهدى من دينه ، ويوشك أن يكون على ديننا . وقال اليهود للمؤمنين : ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الأنبياء؟ ، والله إن أنتم إلاّ قوم تفتنون . وقال المؤمنون : لقد ذهب منا قوم ما توا ، وما ندري أكنا نحن وهم على قبلة أولا .
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وكردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ورافع بن أبي رافع ، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، والربيع وكنانة ابنا الربيع بن أبي الحُقيق ، فقالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون بذلك فتنتة عن دينه . فأنزل الله عز وجل :
{سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ الله بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ}[البقرة:142ـ143] .
وكان ذلك بعد ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي خلالها إلى بيت المقدس تألفاً لليهود(1) .
__________
(1) الصالحي ـ سبل الهدى والرشاد ـ 3/371 .(2/45)
ومن التدابير التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد أن وطّد أركان دولة الإسلام ، وشدّ بنيان المجتمع المسلم بالمدينة النبوية :
7- الخروج إلى الجهاد في سبيل الله :
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالكتائب يلوّح للكفار بإظهار القوة والمنعة لأمة الإسلام الوليدة ، ويشعرهم بأن الصراع بين الحق والباطل لايزال متواصلاً ، حتى يزهق الله الباطل بسيف الحق . قال تعالى : {وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[الإسراء:81] .
قال ابن إسحاق : (( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ابن ثلاث وخمسين سنة ، وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشرة سنة . فأقام بها بقية شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجباً ، وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوالاً ، وذا القعدة ، وذا الحجة ـ وولي تلك الحجة المشركون ـ والمحرم ، ثم خرج غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة حتى بلغ ودّان ، وهي غزوة الأبواء ، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخشيّ بن عمرو الضمري ، وكان سيدهم في زمانه ذلك . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيداً ، فأقام بقية صفر ، وصدراً من شهر ربيع الأول(1) .
ثم ذكر بعثة لعبيدة بن الحارث على رأس سرية إلى ثنية المرة ، فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلاّ أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذٍ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية 1/590 وما بعدها .(2/46)
ثم ذكر بعثه صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب على رأس سرية إلى سيف البحر من ناحية العيص ، في ثلاثين راكباً من المهاجرين (لتلقي تجارة قريش) ، فلقي أباجهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة ، فحجز بينهم مجديّ بن عمرو الجهني ، وكان موادعاً للفريقين جميعاً ، فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال(1) .
وهكذا توالت الغزوات النبوية ، والسرايا المحمدية ، كتيبة تزحف إثر كتيبة ، وراية تخفق إثر راية ، وجناب الإسلام يعظم يوماً عن يوم ، ودولته تمتد ، ودعوته تنتشر ، وأنوار النبوة تشع من وراء كل ثنية ، وتشرق في سماء الجهاد على كل بريّة ، حتى أظهر الله أمره ، وأكمل دينه ، وأتم على أمة الإسلام نعمته . فقال تعالى :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة:3] .
وقال تعالى : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أَفْوَاجاً . فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا}[سورة النصر] .
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك النصر المبين ، والفتح العظيم ، والهداية الشاملة للعرب كافة .
إحكام أمر الخلافة والدعوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
ثم إن الله تعالى جمع أمر المسلمين ، ولمّ شعثهم ، ووحد كلمتهم ، وأقام سلطانهم ، بعد رسوله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم على مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة .
__________
(1) المصدر السابق 1/590 وما بعدها .(2/47)
قال ابن إسحاق : (( ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عظمت به مصيبة المسلمين ، فكانت عائشة ـ فيما بلغني ـ تقول لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، واشرأبت اليهودية والنصرانية ، ونجم النفاق (أي : ظهر) ، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، حتى جمعهم الله على أبي بكر ))(1) .
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة أنه آتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوارييه الفهم والحكمة ، وأنزل على قلوبهم السكينة والرحمة ، فمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى يوم الاثنين ضحى ، إلاّ أنهم في هذه الساعة العصيبة ، لم يشتغلوا بتجهيز الرسول صلى الله عليه وسلم ودفنه ، بل التفتوا إلى أمر الأمة بعده ، فوجدوا أن جمع الأمة ولمّ شعثها ، بإحكام أمر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاجتماع على خليفة واحد يقود المسيرة بعده صلى الله عليه وسلم ، هو أحوج ما تكون الأمة إليه بعده صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يتفرق أمرها ، ويذهب بها أعداؤها .
فقام الخيّران الملهمان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما ، في هذا الأمر خير قيام ، فلم ينظرا إلى أمر الخلافة على أنه أمر دنيا يفرّان منه زهداً ، ويعتزلان عنه ورعاً ، وقد أوتيا من الزهد في الدنيا ، والورع عنها ، ما لم يؤت أحد بعد الأنبياء مثله . ولكنهما نظرا إلى دولة الإسلام ، على أنها حصن الإسلام الحصينة ، ودرعه المتينة ، ونظرا إلى الخلافة على أنها زمام الأمة المسلمة ، وخطامها عن كل رزية وبلية ، وهاديها ، وحاديها ، إلى كل نصر ، وعز ، وتمكين في الدنيا ، ونجاح وفلاح ونجاة في الآخرة .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/665 .(2/48)
قام العمران ، بل قل قام القمران ، بل قل قام الملهمان المسددان ، في أمر الخلافة ، وقيادة الأمة ، منذ ظهر للناس الخبر ، وحلت الفاجعة ، وأطبقت المصيبة المدلهمة ، بوفاة نبي الأمة ، وحبيبها ، وقائدها ، وهاديها إلى صراط العزيز الحميد ، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
الاجتماع بالأنصار في سقيفة بني ساعدة :
قال ابن إسحاق : (( ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير ، في بني عبد الأشهل . فأتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر ، فقال : إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم يُفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهلُه . قال عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، حتى ننظر ما هم عليه .. قال : فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ ، قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم . قال : قلت : والله لنأتينّهم . فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل ، فقلت : من هذا؟ ، فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ماله؟ ، فقالوا : وجع .(2/49)
فلما جلسنا ، تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد : فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا ، وقد دفّت دافة من قومكم ، قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر . فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد زوّرت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحدّ . فقال أبوبكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم ، وهو كان أعلم مني وأوقر ، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلاّ قالها في بديهته ، أو مثلها ، أو أفضل ، حتى سكت ، قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش ، وهم أوسط العرب نسباً ، وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي ، وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئاً مما قاله غيرها . كان والله أن أقدم ، فتضرب عنقي ، لا يقرّبني ذلك إلى إثم ، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبوبكر .
قال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجّب . منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . قال : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى تخوفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبابكر ، فبسط يده ، فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة .(2/50)
قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، قال : حدثني أنس بن مالك ، قال : لما بويع أبوبكر في السقيفة وكان الغد ، جلس أبوبكر على المنبر ، فقام عمر ، فتكلم قبل أبي بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس ، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ، ماكانت مما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهداً عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنني قد كنت أرى أن رسول صلى الله عليه وسلم سيدبّر أمرنا ، يقول : يكون آخرنا . وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له . وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثاني اثنين إذهما في الغار ، فقوموا فبايعوه . فبايع الناس أبابكر بيعة العامة ، بعد بيعة السقيفة .
فتكلم أبوبكر ، فحمد الله ، وأثنى عليه بالذي هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني . الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ، إن شاء الله . لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلاّ ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلاّ عمهم الله بالبلاء . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم . قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
قال ابن إسحاق : (( فلما بويع أبوبكر رضي الله عنه ، أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء .. قال : ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء ))(1) .
__________
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 2/656 .(2/51)
لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن بقاء دولة الإسلام قوية وطيدة الأركان ، شامخة عالية البنيان ، هو بقاء لدين الله في الأرض محفوظ الجانب ، لذلك كان أعبدهم لله ، وأتقاهم له ـ كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ـ أشدهم اهتماماً بأمر المسلمين ، وحرصاً على تماسك بنيانهم ، وقوة سلطانهم ، وبقاء دولتهم . فكانت الخلافة محراب عبادة ، وكانت الجندية ميدان تبتل ورهبانية ، وكان الحكم بما أنزل الله منهج حياة ، ونظام مجتمع ، وكان السمع والطاعة لأمير المؤمنين ، وولي أمر المسلمين ، استجابة لله ولرسوله .
إن دولة الإسلام التي تقيم دين الله في الأرض ، وتطبق شرائعه ، وتظهر شعائره ، إنما هي ثمرة الدعوة إلى الله تعالى اليانعة ، وثمرة الجهاد في سبيل الله الزاكية ، ومنتهى آمال المؤمنين ، وغاية إرضاء رب العالمين .
إنها ثمرة البلاغ المبين ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحلم والأناة ، والصبر والثبات ، ثم إنها ثمرة تربية إيمانية صافية ، وعلم بدين الله صحيح ، كما إنها ثمرة لعزائم صادقة ، وقلوب في الإيمان راسخة ، تهم بالجبال أن تنفسها ، وبالأرض أن تشقها ، وبالسماء أن تبلغها ، عزائم رجال عاهدوا الله فصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وبايعوا رسوله فثبتوا على ما بايعوه عليه وقد وصفهم الله تعالى بقوله :
{ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54] .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
- - -
المصادر والمراجع
أسباب نزول القرآن ، لأبي الحسن علي بن الواحدي . تحقيق : السيد أحمد صقر . الطبعة الثانية 1404هـ ـ دار القبلة للثقافة الإسلامية ـ جدة ـ المملكة العربية السعودية .(2/52)
أسد الغابة في معرفة الصحابة ، لعز الدين علي بن محمد الجزري . الطبعة 1409هـ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأبي بكر الخلال . تحقيق : عبد القادر عطا . الطبعة الأولى 1406هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لشيخ الإسلام ابن تيمية . تحقيق : د/ صلاح الدين المنجد . الطبعة الثالثة 1404هـ ـ دار الكتاب الجديد ـ بيروت ـ لبنان .
أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة فيه ، د/ علي بن نفيع العلياني . الطبعة الأولى 1405هـ ـ دار طيبة ـ الرياض .
الإتقان في علوم القرآن ، لشيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي . الطبعة الرابعة 1398هـ ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان .
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبل ، لمحمد ناصر الدين الألباني . إشراف : زهير شاويش . الطبعة الثانية 1405هـ ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ دمشق .
الاستعياب في أسماء الأصحاب ، لابن عبد البر القرطبي المالكي . دار الكتاب العربي ـ بيروت .
الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر العسقلاني . دار الكتاب العربي ـ بيروت .
البداية والنهاية ، لأبي الفداء الحافظ بن كثير . تدقيق وتحقيق : د/ أحمد أبوملحم وآخرون . الطبعة الرابعة 1408هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
البرهان في علوم القرآن ، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي . تحقيق : محمد أبوالفضل إبراهيم . الطبعة الثالثة 1400هـ ـ دار الفكر .
التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح ، للإمام الزبيدي . تحقيق : إبراهيم بركة ، مراجعة : أحمد راتب . الطبعة الثالثة 1409هـ ـ دار النفائس ـ بيروت ـ لبنان .
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للإمام الحافظ محمد بن عبد الرحمن المباركفوري . الطبعة الأولى 1410هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .(2/53)
تحفة الذاكرين بعدّة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين ، للحافظ محمد بن علي الشوكاني . دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ـ الطبعة الأولى 1408هـ .
الترغيب والترهيب من الحديث الشريف ، للإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري . تعليق : مصطفى محمد عمارة . الطبعة الأولى 1406هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
تفسير ابن كثير ، الإمام الحافظ أبي الفداء ابن كثير . الطبعة الثانية ـ دار القلم ـ بيروت ـ لبنان .
جامع الأصول في أحاديث الرسول ، للإمام المبارك ابن الأثير الجزري . تحقيق : عبد القادر الأرنؤوط . الطبعة الثانية 1403هـ ـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ لبنان ـ بيروت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 1405هـ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان .
جامع بيان العلم وفضله ، لأبي عمر يوسف بن عبد البر . تحقيق : أبي الأشبال الزهري . الطبعة الأولى 1414هـ ـ دار ابن الجوزي ـ المملكة العربية السعودية .
الجامع لأحكام القرآن ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي . الطبعة الثانية ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان .
الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة ، للإمام أبي القاسم ابن الفضل التيمي الأصبهاني . تحقيق : محمد بن ربيع المدخلي . الطبعة الأولى 1411هـ ـ دار الراية ـ الرياض .
الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ، سعيد بن علي بن وهف القحطاني . الطبعة الثانية 1413هـ ـ توزيع مؤسسة الجريسي .
حياة الصحابة ، للشيخ محمد بن يوسف الكاندهلوي . تحقيق وتعليق : الشيخ نايف العباس ومحمد علي دولة . الطبعة الرابعة 1406هـ ـ دار القلم ـ دمشق .
الدرر في اختصار المغازي والسير ، لابن عبد البر . تعليق : د/ مصطفى ديب البغا . الطبعة الثانية 1404هـ ـ مؤسسة علوم القرآن ـ دمشق ـ بيروت .(2/54)
الرحيق المختوم ، لصفي الرحمن المباركفوري . الطبعة الرابعة 1408هـ ـ دار القبلة للثقافة الإسلامية ـ المملكة العربية السعودية ـ مؤسسة علوم القرآن ـ بيروت .
الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام ، للإمام عبد الرحمن السهيلي . الطبعة الأولى 1410هـ ـ مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة .
رياض الصالحين ، للإمام يحيى بن شرف النووي . تحقيق : عبد العزيز رباح وأحمد الدقاق ، مراجعة : الشيخ شعيب الأرنؤوط . الطبعة الأولى 1411هـ ـ دار الثقافة العربية ـ بيروت ـ لبنان .
الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرين بالجنة ، المحب الطبري ـ الطبعة الأولى 1408هـ ـ دار الندوة الجديدة ـ بيروت ـ لبنان .
زاد المعاد في هدي خير العباد ، لابن قيم الجوزية . تحقيق وتعليق : شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط . الطبعة الخامسة عشرة 1407هـ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ مكتبة المنار الإسلامية ـ الكويت .
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ، للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي . تحقيق وتعليق : الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض . الطبعة الأولى 1414هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها ، محمد ناصر الدين الألباني . الطبعة الأولى 1412هـ ـ مكتبة المعارف ـ الرياض .
سير أعلام النبلاء ، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي . تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخر . مؤسسة الرسالة ـ بيروت .
السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون إنسان العيون ، علي برهان الدين الحلبي . دار المعرفة .
السيرة النبوية الصحيحة ، د/ إكرام ضياء العمري ـ 1412هـ ـ مكتبة العلوم والحكم ـ المدينة المنورة .
السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، د/ مهدي رزق الله أحمد ـ الطبعة الأولى 1412هـ ـ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ـ الرياض .(2/55)
السيرة النبوية ، لابن هشام . تحقيق : مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي . مؤسسة علوم القرآن .
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ، لابن قيم الجوزية . الطبعة الثانية 1413هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية ، للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي . تحقيق وتعليق : سيد بن عباس الجليمي . الطبعة الثانية 1415هـ ـ المكتبة التجارية ـ مكة المكرمة .
الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات ، الشيخ محمد بن صالح العثيمين . إعداد : أبوأنس علي أبولوز . الطبعة الأولى 1414هـ ـ دار المجد ـ الرياض .
صحيح الجامع الصغير وزيادته (( الفتح الكبير )) ، لمحمد ناصر الدين الألباني . أشرف على طبعه : زهير الشاويش ـ الطبعة الثالثة 1408هـ ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ دمشق .
صحيح مسلم بشرح النووي . دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، محمد ناصر الدين الألباني . الطبعة السادسة 1390هـ ـ المكتب الإسلامي .
الطبقات الكبرى ، لابن سعد . دار الفكر ـ دار صادر ـ بيروت .
طريق الهجرتين وباب السعادتين ، لابن قيم الجوزية ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
عبر وبصائر للجهاد في العصر الحاضر ، د/ عبد الله عزام . الطبعة الأولى 1408هـ ـ دار المجتمع للنشر والتوزيع ـ المملكة العربية السعودية .
عون المعبود شرح سنن أبي داود ، للعلامة محمد شمس الحق العظيم أبادي . مع شرح : ابن قيم الجوزية . الطبعة الأولى 1410هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ، لابن سيد الناس . تحقيق : لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة . الطبعة الثالثة 1402هـ ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت .
فتح الباري شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني . دار الفكر .(2/56)
الفقه الإسلامي وأدلته ، د/ وهبة الزحيلي . الطبعة الثالثة 1409هـ ـ دار الفكر .
فقه السيرة النبوية ، منير محمد غضبان . الطبعة الأولى 1410هـ ـ مؤسسة مكة للطباعة والإعلام .
فقه السيرة ، د/ محمد سعيد رمضان البوطي . الطبعة الثامنة 1400هـ ـ دار الفكر .
فقه السيرة ، محمد الغزالي . خرَّج أحاديثه : محمد ناصر الدين الألباني . الطبعة السابعة 1976م ـ دار الكتب الحديثة .
في ظلال القرآن ، سيد قطب . دار المشروق ـ الطبعة التاسعة 1400هـ .
كتاب السنة ، لابن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني . الطبعة الثالثة 1413هـ ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ دمشق .
كتاب العظمة ، لأبي الشيخ الأصبهاني أبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان . دراسة وتحقيق : ضياء الدين المباركفوري . الطبعة الأولى 1408هـ ـ دار العاصمة ـ الرياض .
الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، للإمام عبد الرحمن ابن أبي بكر بن داود . تحقيق : أ.د/ مصطفى عثمان صميدة . الطبعة الأولى 1417هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
لسان العرب ، لجمال الدين محمد بن منظور ـ المكتبة الفيصلية .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، للحافظ أبي بكر الهيثمي . تحرير الحافظين العراقي وابن حجر 1408 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب : عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم العاصمي النجدي ـ مكتبة ابن تيمية .
مختصر صحيح مسلم ، للحافظ زكي الدين المنذري . تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني . الطبعة الثانية 1412هـ ـ المكتبة الإسلامية ـ عمان ـ مكتبة المعارف ـ الرياض .
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، ابن قيم الجوزية . تحقيق : محمد حامد الفقي 1392هـ . دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ لبنان .(2/57)
المستدرك على الصحيحين ، للحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري . دراسة وتحقيق : مصطفى عبد القادر عطا . الطبعة الأولى 1411هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
المسند ، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل . تحقيق : أحمد محمد شاكر وحمزة أحمد الزين ـ دار المعارف ـ مصر 1377هـ .
مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام ، لابن النحاس . تحقيق : إدريس محمد علي ومحمد خالد إسطنبولي . الطبعة الأولى 1410هـ ـ دار البشائر الإسلامية ـ بيروت ـ لبنان .
مشكاة المصابيح ، لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي . تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني . الطبعة الثالثة 1405هـ ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ دمشق .
المعجم الوسيط ، إخراج : إبراهيم مصطفى وآخرون ـ المكتبة العلمية ـ طهران .
المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ، للعلامة أحمد بن محمد القسطلاني . تحقيق : صالح أحمد الشامي . الطبعة الأولى 1412هـ ـ المكتب الإسلامي .
النكت والعيون تفسير الماوردي ، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي البصري . تعليق : السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم . الطبعة الأولى 1412هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان .
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ، نور الدين علي بن أحمد السمهودي . تحقيق وتعليق : محمد بن محي الدين عبد الحميد . دار الباز ـ مكة المكرمة .
الولاء والبراء في الإسلام ، محمد بن سعيد بن سالم القحطاني . الطبعة الثانية 1407هـ - دار الصفوة .
- - -
الفهرس
المقدمة ... 5
تمهيد ... 15
الفصل الأول ... 39
الفصل الأول ... 41
ميدان البيان والتبليغ ... 41
المبحث الأول : أهمية الدعوة إلى الله وفضائلها . ... 41
أولاً : أهمية الدعوة إلى الله : ... 41
ثانياً : فضائل الدعوة إلى الله : ... 45
ثالثاً : مقاصد الدعوة إلى الله وغايتها : ... 47
المقصد الأول : إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة طاعةً لله وطلباً لرضوانه : ... 47(2/58)
المقصد الثاني : السعي إلى هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور : ... 50
المقصد الثالث : إظهار الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض : ... 52
ملحظ مهم وتنبيه على مقاصد الدعوة إلى الله : ... 53
رابعاً : وجوب الاتباع في أصول الدعوة ووسائلها : ... 56
المبحث الثاني : مهمة حامل الرسالة ومضمون البلاغ المبين ... 69
أولاً : مهمة حامل الرسالة : ... 69
ثانياً : مضمون البلاغ المبين عن رب العالمين : ... 71
المبحث الثالث : الحكمة في البلاغ والدعوة إلى الله : ... 81
معنى الحكمة ... 81
في اللغة : ... 81
وفي الاصطلاح : ... 81
أركان الحكمة : ... 84
فأما العلم فإنه ركن الحكمة الأول : ... 84
أولاً : أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه : ... 86
ثانياً : أن يكون على بصيرة بحال المدعو : ... 86
ثالثاً : أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة : ... 86
وأما ركن الحكمة الثاني فهو الحلم : ... 87
وأما الركن الثالث للحكمة فهو حسن التدبير : ... 87
أهمية الحكمة للداعية : ... 88
كيف يكون الداعية حكيماً ؟ ... 89
ما يعين الداعية على التخلق بالحكمة ... 90
المبحث الرابع : سبل البلاغ المبين ... 93
السبيل الأول : الدعوة الفردية : ... 93
صور الدعوة الفردية : ... 97
أ - الزيارة : ... 98
ب - الرسائل والمكاتبات : ... 101
ومن هذه الكتب : ... 104
1- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي : ... 104
2- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى : ... 104
3- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر : ... 105
جـ - اغتنام اللقاءات العارضة : ... 105
السبيل الثاني : الدعوة العامة ... 110
صور الدعوة العامة ... 116
أ – الخطابة: ... 116
ب- المواعظ والدروس : ... 121
جـ - الكتابة والتدوين : ... 127
المبحث الخامس : صور البلاغ المبين : ... 134
أولاً: العرض والبيان ... 134
ثانياً : الصدع بالحق ... 145(2/59)
ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 153
رابعاً: البشارة والنذارة ... 159
أولاً : البشارة : ... 162
أ - البشارة بخير الدنيا : ... 162
1 - الحياة الطيبة : ... 162
2 - زيادة النعم والبركات في النفس والمال والولد : ... 162
3 - الأمن : ... 163
4 - كشف الضر والكرب : ... 163
5 - النصر : ... 163
6 - التثبيت في القول والعمل : ... 164
7 - الاستخلاف في الأرض والتمكين : ... 164
8 - حسن الخاتمة عند الممات : ... 164
ب - البشارة بخير الآخرة : ... 165
ا - نعيم القبر : ... 165
2- الأمن : ... 165
3 - لقاء الأخلاء : ... 166
4 - أخذ الكتاب باليمين : ... 166
5 - الظل : ... 166
6 - ثقل الموازين : ... 167
7 - اجتياز الصراط : ... 167
8 - بشارة الملائكة وسلامهم على المؤمنين : ... 167
9 - نضارة الوجوه وبشرها : ... 168
10 - الجنة ونعيمها : ... 168
ثانياً : النذارة : ... 169
أ- النذارة بعقاب الدنيا : ... 169
1 - الغرق : ... 169
2 - الصاعقة والصيحة : ... 170
3 - الخسف : ... 170
4- الحصب وإسقاط الكسف من المساء : ... 170
5 - المسخ : ... 171
6 - السنين : ... 171
7 - الآفات من الحشرات والمستقذرات (والأمراض) : ... 172
8 - لباس الجوع والخوف : ... 172
9 - إتيان الساعة بغتة : ... 172
10 - ضيق الصدر والضنك : ... 173
11 - الضلال والتخبط والحيرة : ... 173
12 - سوء الخاتمة : ... 173
ب - النذارة بعقاب الآخرة : ... 174
أولاً: في القبر : ... 174
ثانياً: في المحشر : ... 174
1 - هول الخروج من الأجداث : ... 174
2 - اسوداد الوجوه وكآبتها : ... 175
3 - هلع القلوب وشخوص الأبصار : ... 175
4 - مشيهم على الوجوه في المحشر : ... 176
5 - حجبهم عن الله تعالى : ... 176
6 - خزيهم عند العرض على الله : ... 176
7 - الحسرة والندامة : ... 177
8 - خزيهم عند وضع الكتاب وأخذ الصحف : ... 177(2/60)
9 - خزيهم بشهادة أعضائهم عليهم : ... 178
10 - خزيهم بعداوة الأخلاء وفرار الأقرباء : ... 178
11 - البَكَم والصمم والعمى : ... 179
ج - في نار جهنم : ... 179
1 - وهم يساقون إليها : ... 179
2 - وهم فيها : ... 180
3 - جدالهم العقيم : ... 181
4 - وماهم بخارجين منها : ... 182
خامساً : تعليم العقائد والأحكام على وجه التفصيل ... 183
سادساً : الموعظة الحسنة ... 185
سابعاً : المجادلة بالتي هي أحسن ... 191
ثامناً : سرد القصص للعبرة والعظة ... 196
مزايا البلاغ بالقصص ... 208
تاسعاً : ضرب الأمثال ... 210
فمما يصور الحال : ... 213
ومما يدل على الصفة : ... 214
ومما يكون قصة فريدة ، جامعة للمواعظ والعبر : ... 214
ومن الأمثال في الحديث النبوي الشريف : ... 215
عاشراً : الدعوة إلى التفكر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية : ... 217
المبحث السادس : مايترتب على البلاغ المبين من أمور : ... 224
أولاً : بالنسبة للداعية المبلّغ : ... 224
فيترتب على البلاغ المبين بالنسبة للداعية المبلّغ أمور ، من أهمها ما يلي : ... 225
1- الحرج : ... 225
2- التعرض للأذى : ... 229
3- الحزن على المخالفين الغافلين ، والضيق من مكر الماكرين: ... 231
4- خطر الوقوع في العجب والزهو : ... 233
5 - المجاهدة : ... 236
ثانياً : ما يترتب على البلاغ المبين بالنسبة للمدعوين : ... 240
1- اختلاف أحوالهم وحاجاتهم للدعوة : ... 240
2- اختلاف مواقفهم تجاه الدعوة والبلاغ : ... 249
أ - طائفة من الناس تستجيب للدعوة ، وتنضوي تحت لوائها : ... 250
ب - طائفة ترفض الدعوة ، وتناصبها العداء : ... 254
وهؤلاء هم : (المستكبرون المعاندون) . ... 254
ب - وإما أن يكونوا من ذوي الحسد والطغيان : ... 257
ج - وإما أن يكونوا أتباعاً مسخّرين للمستكبرين مستجيبين لأمرهم : ... 259(2/61)
ويدفع هذه الطائفة (المستكبرين والمعاندين) لمواجهة الدعوة أمور ، منها : ... 259
1 - الكبر والغرور : ... 259
2 - الحسد والمنافسة : ... 260
3 - الخوف على ما عندهم من الجاه ، أو المعتقد : ... 260
ولهم في مواجهة الدعوة ، وصدها ، طرق وأساليب ، منها : ... 260
1 - إظهار البغض ، واستعراض القوة : ... 260
2- الدعاية المضللة : ... 261
3- السخرية والاستهزاء : ... 262
4- التحقير والإهانة : ... 263
5 - التهديد والوعيد : ... 263
6 - الإيذاء بالقتل ، أو الضرب ، أو الحبس ، أو الإخراج : ... 264
7 - الحصار والمقاطعة : ... 267
8 - تأليب الآخرين ، واستعداؤهم على المؤمنين : ... 268
ج - طائفة ثالثة لاتقاوم الدعوة ولاتستجيب لها : ... 270
مواقف هذه الطائفة من الدعوة والدعاة : ... 277
ثالثاً : مواقف الدعاة بحسب حال المدعوين : ... 281
أ- مواقف الدعاة إلى الله من المستجيبين للدعوة المصدقين بها : ... 281
1- إظهار الفرح والبشر باستجابتهم ، وإظهار حبهم ، وموالاتهم . ... 281
2 - العناية بهم والاهتمام بتعليمهم وتربيتهم : ... 283
3- تخولهم بالمواعظ ، لترقيق القلوب ، وتمكين الإيمان ، وشحذ الهمم . ... 284
4- اتخاذ زمانٍ ومكانٍ للقاء بعضهم ببعض ، واجتماعهم ، للتفقه في الدين ، والتشاور ، والتواصي بالحق ، والتعاون على البر والتقوى . ... 285
ب - مواقف الدعاة إلى الله من المحادين لله ورسوله ، المعاندين للدعوة : ... 286
ج - مواقف الدعاة إلى الله من المسالمين للدعوة المحجمين عن قبولها: ... 298
الفصل الثاني ... 306
المبحث الأول : الحاجة إلى تكوين الوسط الاجتماعي للدعوة : ... 312
أولاً - المكان : ... 314
ثانياً - الروابط الإيمانية في الوسط الاجتماعي للدعوة المحمدية : ... 320
1- التآخي : ... 322
2- التحاب : ... 325
3- الإيثار : ... 326
4- التعاطف : ... 329
5- التعاون : ... 333
6- التناصر : ... 335(2/62)
7- حب الله ورسوله : ... 337
8- لزوم الجماعة : ... 345
المبحث الثاني : وسائل التزكية والتعليم في الوسط الاجتماعي للدعوة : ... 354
أولاً - القدوة الطيبة والأسوة الحسنة : ... 354
ثانياً - مخالطة المدعوين والتواضع لهم : ... 362
ثالثاً - حثهم على الصبر والتحمل ومواساتهم في ذلك : ... 364
رابعاً - الإكرام وتأليف القلوب : ... 368
أ - لين الكلام وعذوبة المنطق : ... 370
ب - التبسم وطلاقة الوجه : ... 371
ج - العفو والإحسان : ... 374
د - الثناء وذكر الفضل لأهله في غير مبالغة : ... 376
هـ - إنزال الناس منازلهم : ... 383
و - البذل والعطاء : ... 387
ز - الرفق بالناس والتواضع لهم : ... 391
ح - الضيافة وحسن الاستقبال : ... 394
ط - المكافأة والجائزة : ... 398
ي - البشرى : ... 403
خامساً - الشورى : ... 410
وللشورى صور ثلاث ، نوضحها فيما يلي : ... 413
الصورة الأولى : ... 413
الصورة الثانية : ... 415
الصورة الثالثة : ... 417
سادساً - إسناد المهمات إلى الأكفاء بحسب الطاقات : ... 426
سابعاً - تمكين المخلصين الصادقين من الصدع بالحق ، وعدم مؤاخذتهم على نتائجه : ... 440
ثامناً - المواعظ والقصص : ... 449
تاسعاً - التعليم والتعلّم : ... 451
عاشراً - الجمع بين العلم والعمل : ... 454
حادي عشر - الوصايا : ... 459
الفصل الثالث ... 466
وهذه الشروط : ... 470
المبحث الأول : مرحلة الإعداد الإيماني العقدي لإظهار الدين ونشره : ... 472
1- التربية والتزكية : ... 474
2- غرس العقيدة الصحيحة وتمكينها في النفوس : ... 474
3- التعبد والتبتل : ... 483
4- تعميق مبدأ الولاء والبراء في النفوس المؤمنة : ... 493
5- الاستعداد للتضحية والفداء : ... 512
المبحث الثاني : مرحلة العمل الدعوي الحركي لإظهار الدين ونشره ... 520
أولاً - إظهار الحق بالحجة الدامغة والبرهان القاطع : ... 522(2/63)
محاجة الأنبياء لأقوامهم ومجادلتهم : ... 527
حجة إبراهيم على قومه : ... 527
حجة موسى على قومه : ... 532
حجة نبينا صلى الله عليه وسلم على قومه : ... 537
1- الرد على مجادلتهم عن شركهم ، وادعائهم الألوهية لأصنامهم : ... 538
ردّ القرآن عليهم : ... 538
أ - بالأدلة العقلية : ... 538
ب - بالأدلة الكونية : ... 539
2- الرد على إنكارهم للبعث والنشور : ... 540
أ - ادعاؤهم : ... 540
ب - الردّ عليهم : ... 541
3- بيان قضية الخلق والحكمة منه والمصير الذي يؤول إليه : ... 544
مجادلات أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ... 556
نتائج المجادلة بالحجة والبرهان : ... 561
الأولى ، تتعلق بالمدعوين ، وتـتمثل في أمرين : ... 562
أما النتيجة الثانية : فتتعلق بالداعين ، وما يلحقهم من أذى المدعوين : ... 562
ثانياً - الصبر والثبات : ... 566
صور من صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وثباته : ... 568
صور من صبر الصحابة رضي الله عنهم وثباتهم : ... 571
مقومات الصبر وأسبابه : ... 574
ثالثاً - الهجرة : ... 577
الهجرة حفاظاً على الدين ، ودفع الأذى عن المؤمنين : ... 578
عزم أبي بكر على الهجرة مرتين : ... 579
الهجرة لنصرة الدين وتقوية شوكة المؤمنين : ... 582
أقسام الهجرة والذهاب في الأرض : ... 589
فالأول ينقسم إلى ستة أقسام : ... 589
وأما قسم الطلب ، فينقسم إلى قسمين : ... 591
رابعاً - طلب النصرة والمنعة : ... 593
نصرة أبي طالب وبني هاشم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ... 594
خروج الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف يطلب النصرة : ... 597
رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وطلبه الجوار والنصرة : ... 599
طلبه صلى الله عليه وسلم النصرة من القبائل في المواسم والأسواق : ... 600
فوز الأنصار رضي الله عنهم بالنصرة المظفرّة : ... 601
خامساً - الجهاد في سبيل الله : ... 604(2/64)
من فضائل الجهاد في سبيل الله : ... 604
تعريف الجهاد في سبيل الله : ... 608
وإليك تعريفات الفقهاء الأربعة : ... 609
1- الأحناف : ... 609
2- المالكية : ... 609
3- الشافعية : ... 609
4- الحنابلة : ... 609
فأما حكم الجهاد : ... 610
ويتعيّن الجهاد في ثلاثة مواضع : ... 611
سادساً - إقامة الدين وتطبيق شرائعه : ... 619
التدابير التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة الإسلام : ... 620
1- بناء المسجد : ... 620
2- مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار : ... 620
3- اتخاذ التدابير الأمنية : ... 623
4- الأذان للصلاة : ... 628
5- اتخاذ المسجد مركزاً للدعوة والدولة : ... 630
6- تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة : ... 631
7- الخروج إلى الجهاد في سبيل الله : ... 633
إحكام أمر الخلافة والدعوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ... 635
الاجتماع بالأنصار في سقيفة بني ساعدة : ... 636
المصادر والمراجع ... 642(2/65)