الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة (تجربة ذاتية)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي جعل الدعوة إليه فرضا على كل من استطاع إليه سبيلا و أوعد باللعنة من كتم العلم و اشترى به ثمنا قليلا . أشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو و أتخذه وكيلا , و أشهد أن محمدا عبده و رسوله الذي فضله على خلقه تفضيلا .
…اللهم صل وسلم عليه وعلى آله و أصحابه الذين كانوا يدعون إلى الله و يسبحونه بكرة وأصيلا .
…أما بعد فيقول العبد الفقير إلى الكبير المتعالي , محمد بن تقي الدين بن عبد القادر الهلالي : سألني خلق كثير من الإخوان في المشرق والمغرب، أخص بالذكر منهم الأخ الداعي إلى الله على بصيرة الدكتور وجيها زين العابدين أن أؤلف كتابا يشتمل على سيرتي و ما لقيته في حياتي في الحل و الترحال ، و ما جرى علي و ما جرى علي في رحلاتي الكثيرة من حوادث و أخبار، و خاصة في الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة في المشرق و المغرب، و ما صادفته في ذلك من نجاح و ضده، و ما جرى بيني و بين علماء تلك الأقطار من مباحثات و محاورات .(1/1)
…و لما رأيت ذلك كله بالتفصيل ـ بل ذكر ما بقي في ذاكرتي و لم يعفه النسيان ـ يحتاج إلى وقت طويل، و نفقات كثيرة، في طبعه و نشره، اقتصرت على ما يتعلق بالدعوة إلى الله تعالى في أقطار مختلفة من سنة1340 إلى1391 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، على أمل أن أجد وقتا وتوفيقا من الله تعالى لتأليف كتاب في أخبار الشطر الأخير الذي لا يتعلق بالدعوة كالحوادث السياسية و الشدائد والمحن التي وقعت لي في أسفاري. و ستجد أيها القارئ في أثناء هذا الكتاب قصائد كثيرة هجوت بها بعض المعارضين للدعوة إلى توحيد الله واتباع نبيه الكريم، و ما أردت بذلك إلا الانتصار للحق ولم أسم أحدا. و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم لحسان بن ثابت:"أهجم و روح القدس معك".
…و لما أنشد عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم:
خلوا بني الكفار عن سبيله……اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله……و يذهل الخليل عن خليله ……قال له عمر: يا بن رواحة بين يدي رسول الله و في حرم الله تقول الشعر! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:…"خل عنه يا عمر فلهن أسرع فيهم من نضح النبل" أخرجه الترمذي و صححه…………… و قيل:إن الذي انشد ذلك الشعر هو كعب بن مالك"راجع فتح الباري في شرح أحاديث عمرة القضاء"
فأرجو أن أكون سالكا هذه السبيل في هجو أولئك القوم,و الأعمال بالنيات، و لا أدعي العصمة و أرجوا الله أن يغفر لي كل خطأ و خطل فالجواد قد يكبوا و السيف قد ينبوا و الكمال لله سبحانه.
فإن تجد عيبا فسد الخللا……فجل من لا عيب فيه و علا(1/2)
…و أرجوا أن ينفع الله بهذا الكتاب كل من قرأه أو أعان على نشره بقليل أو كثير من أنصار السنة المحمدية.و أما غيرهم من أعدائها فلا نبال بهم و هم بلا شك منهزمون و إلى الخسران في الدنيا و الآخرة صائرون و حسبنا الله و نعم الوكيل و هو نعم المولى و نعم النصير {فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم}[سورة البقرة:137] . ………
……
الدعوة إلى الله في الإسكندرية
…أيها الداعي قدم مراد الله يقدم مرادك. ما من داع يدعوا إلى أمر بجد و إخلاص إلا و يحصل على شيء ما سواء أكان محقا أم مبطلا لكن المبطل عاقبته خسران عاجل أو آجل, و المحق له العاقبة الحسنى في العاجل والآجل{فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}[سورة الرعد:17], كل من قرأ تاريخ الدعوات الباطلة من دعوات الخوارج و الشيعة والباطنية و ما تفرع منها يعلم يقينا صحة ما أشرت إليه أعلاه, و لا بد أن يكون الداعي مع إخلاصه عنده شيء من العلم بما يدعوا إليه و شيء من العلم بقواعد الدعوة.
…قد فصلت القول في سبب خروجي من الطريقة التيجانية و دخولي في السلفية الحنيفية ملة إبراهيم و خير أبنائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, و هي الإسلام الطاهر, شرحت ذلك في كتاب (الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية) و قد أمر صاحب السماحة الأستاذ الرئيس الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه بطبع عشرة آلاف نسخة من هذا الكتاب نسأل الله أن يجزيه خيرا و ينفع بهذا الكتاب نفعا عظيما.(1/3)
…و بعدما خرجت من الطريقة التيجانية و دخلت في الطريقة الحنفية توجهت إلى مصر و لقيت إمام الدعوة في ذلك الزمان السيد محمد رشيد رضا رحمة الله عليه و لقيه أكثر الدعاة إلى السلفية في مصر كالشيخ محمد الرمالي بالقاهرة و الشيخ حسن عبد الرحمن في مزرعته بين دمنهور و الإسكندرية و الشيخ عبد الظاهر أبي السمح و الشيخ محمد أبي زيد في دمنهور و الشيخ حامد الفقي بالقاهرة و الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة بكفر عامر و الشيخ الألمعي عبد العزيز الخولي بالقاهرة .
…و لما وصلت إلى الإسكندرية إلى رملها بشاطئ بحرها لقيت أهل بيت(لا أقول أسرة و لا عائلة) من بلادنا سجل ماسة بالمغرب الأقصى مستوطنين الإسكندرية ففرحوا بي فرحا عظيما لأنهم يعرفون والدي و كان من علماء بلادنا و يجلونه, فأكرموني لأجل ذلك, ووجدهم تجانيين (طوخ) يعني غارقين في الطريقة سكارى بنشوتها, و كلمة طوخ فارسية فيما أظن, تستعمل في العراق بالمعنى المتقدم, فقلت في نفسي: يجب علي أن أنقذهم من هذه الطريقة كما أنقذني الله منها, ولكن خيل لي و أنا في أوائل الشباب أنني إذا صرحت لهم بانتقاد الطريقة ينفرون ولا يقبلون الدعوة, فأردت أن أخادعهم فأظهرت لهم أني لا أزال تجانيا.(1/4)
…و لما أخذت أتلطف معهم في انتقاد بعض الأمور كالاجتماع لذكر الوظيفة جماعة بلسان واحد, فجاء رجل مصري من تجانيي الإسكندرية و قال لهم:(يا إخواننا أنا الراكل ده بعيني شفته يخش و يخرك في مسكد الوهابية بالرمل, و الوهابية ما بيخلوا حد يخش في مسكدهم إلا إذا كان منهم)معناه: بعيني رأيت هذا الرجل ـ يعني كاتب المقال ـ يدخل و يخرج في مسجد الوهابية برمل الإسكندرية و من عادة الوهابيين أنهم لا يتركون أحدا يدخل مسجدهم إلا إذا كان منهم و يعني بالمسجد مسجد أبي هشام المهندس رحمة الله عليه و كان قد خصص جزءا من أرضه و بنى فيه مسجدا صغيرا للشيخ عبد الظاهر أبي السمح و جماعة من السلفيين بالرمل وسبب إقامتي في هذا المسجد مدة شهرين ما يتلوا.
امتحان الدعاة إلى الله
…اعلم أن الدعاة إلى الله يمتحنون على قدر إيمانهم و صبرهم و تجلدهم و منهم الشيخ عبد الظاهر أبوا السمح رحمه الله فإنه كان يدعوا إلى الله برمل الإسكندرية و قد أنكر دعوته جميع من ينتسب إلى العلم في رمل الإسكنرية و في الإسكندرية نفسها, وكان معلما لبنات محمد باشا الديب ـ بالدال المهملة كما ينطق به في العامية المصرية ـ و يدعوا إلى الله بإلقاء الدروس في المسجد الذكور و صلاة الجمعة لوجه الله فمنع من ذلك فدعاني لأن أنوب عنه و عما قليل يأتيك سبب المنع, أي بعد أن أتم قصتي مع المغاربة .
…فلما سمع المغاربة من ذلك الرجل المصري التجاني ذلك الكلام غضبوا عليه غضبة مغربية فقالوا له: إنكم معشر المصريين عودتمونا أن نسمع ما نكره في كل عزيز لدينا فلا يطيب لكم عيش إلا إذا أسأتم إلينا نحن نعرف هذا الشاب و أباه وأمه و أهل بيته و هو لم يقدم من المغرب إلا منذ وقت قصير و نحن في المغرب ليس عندنا وهابيون فمن أين تعلم الوهابية, و صاحوا عليه صياحا منكرا.(1/5)
…و كان الرجل داهية فلم يغضب بل قابل غضبهم بحلم و سعة صدر و قال لهم:(يا إخواننا يا مغاربة ما تزعلوش المسألة بسيطة عندنا الشيخ محمد بن مبارك السوسي و لا تشكوا في علمه و فضله و أنه أكبر عالم تكاني في مصرنكتب له و نسأله عن الشاب ده إذا قال هو تكاني صحيح أنا أكي و أبوس على روسكم و ركليكم كمان و أطلب منكم المسامحة و إذا قال غير ذلك تعرفوا الحق عليكم)معناه: أن الشيخ حمد بن المبارك المغربي هو شيخنا في الطريقة التجانية و هو يعرف ضيفكم هذا فهلم نتحاكم إليه فإن حكم بأن محمد تقي الدين الهلالي ضيفكم العزيز هو تجاني حقا اعتذرنا إليكم و قبلنا رؤوسكم و أرجلكم.
…و كان المغاربة قد هددوا المصرين بأنهم يفترقون معهم و يتخذون زاوية خاصة لأنفسهم و أكون أنا مقدمهم,ففرحت أنا بهذاالسراب الذي خيل لي أنه شراب و لكن الرجل بدهائه أحبط عملي. و من ذلك الحين علمت يقينا أنني أخفقت في مسعاي لأن الشيخ السوسي المذكور يعلم يقينا أنني من المنتقدين للطريقة التجانية و السبب في ذلك هو أن أخص مريديه و هو محمد الدادسي كان يغسل رأسي في بيته بالقاهرة فقال لي: هنيئا لكم معشر أهل البيت فإن الجنة مضمونة لكم على أي حال كنتم, فقلت و من ضمنها لنا؟ قال ألم تطلع على ما ذكره الشيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي في تفسير قوله تعالى:{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهكم تطهيرا}[الأحزاب:33]فقلت: وماذا قال؟فقال: قال الشيخ الأكبر:(إن أبناء فاطمة خلقهم الله طاهرين طهارة عينية فلا تصدر منهم المعاصي البتة و كل ما نراه في الظاهر من صدور المعاصي منهم يجب أن نكذب أعيننا و نصدق الله تعالى). فقلت: وهل ابن عربي معصوم من الخطأ؟فقال لي: إن سيدنا الشيخ التجاني نقل عنه ذلك و صدقه.فقلت: وهل الشيخ التجاني معصوم من الخطأ؟ فأصابه حزن عظيم ظهر في وجهه و اختصر غسل رأسي و سكت على مضض, فعلمت يقينا أنه لا بد أن يوصل ذلك إلى شيخه.(1/6)
…و غبت عن الإسكندرية أياما ثم رجعت لأجس النبض و ليس لي إلا أمل ضئيل. فكظم المغاربة ما في أنفسهم و لم يظهروا لي شيئا و دعينا إلى العشاء عند بعض التجانيين عند بعض المغاربة الآخرين فجرى ذكر الملك الحسين بن علي ملك مكة فانتقدت أنا تحالفه مع الإنكليز و الفرنسيين و إدخال جيوشهم إلى قرب الحرم المكي, فانفجر أحد التجانيين غيظا و قال:صدق من قال: مثل العالم الذي لا يعمل بعلمه كجلد كلب ملئ عسلا, يعني أن الملك حسينا و هو من أهل البيت لا يصدر عنه إلا الطاعات فانتقادي له جهل و سفاهة لأن فيه إنكار على شيخ الطريقة. و سكت أصحابي و لم يدافعوا عني, فلما خرجنا جذبني أحد المغاربة من التجانيين المعتدلين و قال لي: ألم يبلغك ما أجاب به الشيخ السوسي؟ فقلت: لا. أفدني يرحمك الله, فقال: إنه أجاب التجانيين فقال في جوابه: إن محمدا تقي الدين الهلالي من آل البيت و قد أوصانا سيدنا رضي الله عنه يعني التجاني بإكرام أهل البيت فأكرموه و لا تأخذوا عنه شيئا من أمور الدين فعلمت أن القضية قد انتهت بالإخفاق كما كنت أتوقع و عقدت العزم على أن لا أداهن و لا أداجي في دين الله ما دمت حيا بل أقول الحق من أول وهلة, للربح أو للخسارة, و ما لقيت إلا الربح إلى حد الآن وسيأتيك الدليل فلا تعجل.
سبب منع أبي السمح من الصلاة و الوعظ
في مسجد أبي هاشم برمل الإسكندرية(1/7)
…تقدم أن المنتسبين إلى العلم في مدينة الإسكندرية و رملها أنكروا على الشيخ أبي السمح دعوته إلى السلفية و سموها وهابية و كادوا له كيدا عظيما و اتهموه بتهم هائلة في ذلك الزمان منها أنه يقول: إن العصا خير من النبي صلى الله عليه و سلم لأن العصا تنفع في الدنيا و النبي صلى الله عليه و سلم لا ينفع لا يشفي مريضا من مرضه و لا يغني فقيرا من فقره و لا ينقذ عانيا من سجنه و لا يغيث من استغاث به. و هذا عند عباد القبور طعن عظيم في مقام النبوة و منها: أنه صلى صلاة الجمعة في أحد المساجد و وجد العلمين منتصبين عن يمين المنبر و شماله فألقاهما على الأرض وقال:{ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون}[الأنبياء:52] و منها أنه يدعوا إلى مذهب خامس و لا يؤمن بالمذاهب الأربعة و منها أنه أحدث فتنة في رمل الإسكندرية ففرق بين الأخ و أخيه و الأب وابنه والقريب وقريبه و كتبوا بذلك إلى محافظ الإسكندرية كتابا يطلبون منه أن يمنعه من هذه الدعوة التي يعدونها من أعظم الفساد.(1/8)
…و في الوقت نفسه دبروا له مكيدة أخرى, فدعوه للمناظرة في أحد المساجد و أحضروا رجلا من العوام و قالوا له: أحضر معك عصا و إذا أشرنا إليك فاضربه, فلما حمي وطيس الجدل بينهم و بينه في مسألة الاستغاثة بالنبي عليه و سلم و ألجأوه أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه و لا لغيره نفعا و لا ضرا و إنما هو بشير ونذير أشاروا إلى الرجل فضربه في المسجد. و بعد قليل جاء أمر محافظ الإسكندرية بمنعه من الصلاة و الوعظ و سد المسجد، فأرسل إلي يدعوني دعوة عاجلة فحضرت في الليلة التي في غدها يسد السجد ففتحته و أخذت أصلي فيه و أعظ الإخوان السلفيين فجاءت الشرطة ليسدوا المسجد فوجدوني فقالوا من أنت, أنت أبوا السمح؟قلت:أنا تقي الدين محمد ابن عبد القادر الهلالي المغربي فتوقفوا ورجعوا إلى المحافظ و أخبروه, و اختفى أبوا السمح فصار لا يأتي المسجد أصلا فأمرهم المحافظ أن يتركوا المسجد و لا يسدوه.(1/9)
…فاشتد غيظ أعداء السلفية من المنتسبين إلى العلم و أعوانه, فكتبوا في هذه المرة إلى الملك فؤاد, و كان ذلك سنة: إحدى و أربعين و ثلاثمائة و ألف و قالوا للملك مثلما قالوا للمحافظ قبل و زادوا على ذلك أنه ثبت صدق اتهامهم لأبي السمح عند محافظ الإسكندرية فأمر بطرده و سد المسجد, فأتى بمغربي له حماية فرنسية فناب عنه في المسجد فلم ينفذ ما أمر به المحافظ, فبعث الملك بشكواهم إلى محافظ الإسكندرية نفسه, فلما قرأها غضب عليهم غضبا شديدا لأمرين:أحدهما: أنهم لم يكتفوا به فتخطوه و كتبوا إلى الملك, و الثاني: أن طعنهم في عمل هذا المغربي يفتح بابا على الحكومة المصرية من النزاع مع دولة تتمتع بالامتيازات الأجنبية, و المطلعون على تاريخ مصر يعرفون معنى هذه الكلمة، فإن مقتضى الامتيازات الأجنبية يقضي على الحكومة المصرية ـ وكل حكومة تنكب بمثل هذه النكبة ـ أن ترد كل نزاع يقع بينها و بين أي شخص من رعايا الدولة صاحبة الامتياز إلى سفارة هذه الدولة فتحكم السفارة بدون شك على المصري بأنه هو الظالم و تطلب من الحكومة المصرية أن تنزل به أشد العقاب, وعليه أن يتحمل و يصبر على ظلمين, الظلم الأول من الشخص التابع للسفارة الأجنبية, والظلم الثاني من السفارة نفسها, و لذلك لا يحب أي مصري كيف ما كانت منزلته أن يدخل في نزاع مع أي سارة, من أجل ذلك دعا المحافظ الموقعين على العريضة المرفوعة إلى الملك فأدخلوا عليه واحدا بعد واحد و أخذ يسألهم, فقال للأول: هذا توقيعك؟ فقال: نعم, قال: وقع مرة أخرى فوقع ثم أخرج إلى مكان لا يرى فيه أحدا من أصحابه, و هكذا فعل بالثاني و الثالث إلى آخرهم, ثم جمعهم و عبس وبسر عليهم و قال لهم: كتبتم إلي تزعمون أن الشيخ عبد الظاهر أبا السمح وهابي و أنه فعل كيت وكيت فصدقتكم و أمرت بمنعه من الصلاة و الوعظ ولم يكفكم ذلك حتى تخطيتموني و ارتقيتم مرتقا صعبا فكتبتم إلى الملك تعرضون مزاعمكم عليه و قلتم في(1/10)
عريضتكم: إنكم تخافون أن تحدث فتنة في رمل الإسكندرية تسفك فيها الدماء فلله دركم من حفظة ساهرين على الأمن فهل المحافظة على الأمن من اختصاصكم و من وكل إليكم ذلك؟ بعضكم إمام مسجد و بعضكم مأذون في المحكمة و بعضكم مدرس واعظ أو خطيب فكيف ارتقيتم حتى صرتم تحافظون على الأمن العام و هذا شغلي أنا و شغل أعواني من الشرط و الحرس أفأردتم أن تساعدوني, أنتم أصحاب الفتنة و دعاتها الموقدون لنارها و لم يبق عندي شك في أنكم مفسدون قلتم: إن المصري وهابي فهل المغربي أيضا و هابي؟ فقالوا: إي و الله يا سعادة المحافظ هذا وهابي (زيه تمام) فقال: اسمعوا ما أقوله لكم أنتم تستحقون العقاب و لكني أعفو عنكم في هذه المرة. و كل فتنة تقع في المستقبل في الإسكندرية أو رملها من هذا القبيل فأنتم المسئولون عنها, أغربوا عني لا نعم عوفكم و لا أمن خوفكم! فانطلقوا يتعثرون في أذيال الخيبة و{أقبل بعضهم على بعض يتلاومون}[القلم:30]{و كفى الله المؤمنين القتال}[الأحزاب:25], و لما سمع بذلك الشيخ أبوا السمح سار يحضر صلاة الجمعة ويصلي معنا مأموما و بعد انقضاء شهرين على هذه الحادثة أمن أبوا السمح و تجرأ فصلى بنا الجمعة إماما فاستأذنته أنا في إتمام السياحة في البلاد المصرية و رجعت إلى القاهرة و قد نفذ ما عندي من الدراهم, لأن التجانيين بعدما وصلت إلى القاهرة بعثوا إلي حوالة فقبضتها و قلت في نفسي: إنني قصرت في عدم إعلاني خروجي من الطريقة و أنا بين ظهرانيهم و لم أدع إلا أربعة أنفس سرا و قبلت مساعدتهم عند السفر و ها أنذا أقبل مساعدتهم بعد السفر فإن بقيت على هذه الحال فأي فرق بيني و بين شيخ الطريقة؟ فكتبت إليهم رسالة في أربع صفحات و جعلت منها أربعة نسخ بعثت كل نسخة منها إلى أحد رؤسائهم فحرقوا الأرم غيظا علي, ولم يجبني إلا أحدهم بيني وبينه مصاهرة فقال لي في جوابه: لقد قرأت ما كتبت و القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء و لئن كتبت إلي بعد هذا(1/11)
و لو حرفا من الطعن في الطريقة التجانية لن أجيبك أبدا و تتحمل أنت و حدك إثم قطع الرحم.
…و لما نفذ ما عندي من الدراهم جاءني الشيخ محمد الخرشي الشنقيطي ـرحمه الله سواء أكان حيا أو ميتا ـ فأعطاني ريالين مصريين و كان من المتخرجين في الجامع الأزهر و له راتب من أو قاف الطلبة المغاربة قدره جنيهان مشاهرة و عشرة أرغفة مياومة و هو من الستينيين. و كان الطلبة المغاربة في ذلك الزمان ثلاثة أقسام: ستينيين, و عشرينيين و منتظرين فالستينيون عددهم[ستون رجلا يأخذون راتبا قدره جنيهان مشاهرة و عشرة أرغفة مياومة, و العشرينيون عددهم] عشرون رجلا يأخذون راتبا قدره نصف جنيه مشاهرة و خمسة أرغفة مياومة, والمنتظرون يعدون بالمئات لا يأخذون إلا رغيفين في كل يوم. وكانت الحرب قائمة على الدوام بين الستينيين و المنتظرين و العشرينيون على الحياد. و ذات يوم هجم ثلاثة من المنتظرين على شيخ رواق الغاربة ـ بعد السلام من صلاة الجمعة ـ في الأزهر فطعنوه بالخناجر حتى مات, فهرب الناس من المسجد لا يلوون على شيء و ركب بعضهم بعضا حتى مات بعض الضعفاء من الزحام( و أظن أن الأخ القارئ يعرف طبعي في الاستطراد, فأنا لا أحول عنه ولا أزول، كما قال المتنبي:
…………(لكل امرئ من دهره ما تعودا)
…فقال لي الشيخ محمد الخرشي: لا تقعد هنا مقيما على معيشة ضنك كالوتد ألم تسمع قول الشاعر:
…و لا يقيم على خسف يراد به……إلا الأذلان عير الحي والوتد
…هذا على الخسف مربوط برمته………و ذا يشجوا فلا يرثي له أحد
معنى البيتين لا يرضى أحد أن يقيم على ذل إلا الأذلان الحمار الأهلي والوتد الذي تضرب ب الخيمة و تثبت, فالحمار الأهلي مربوط بحبل لا يستطيع الفرار مع أنه يضيق عليه في العلف و يحمل من الأحمال ما لا يطيقه و علاوة على ذلك يضرب بالعصا و ينخس بالمنخاس و هو حاد كالإبرة, و الوتد يضرب على رأسه ليدخل في الأرض كلما أريد نصب الخيمة و لا يستطيع أن ينجو بنفسه.(1/12)
…فقلت له مكره أخاك لا بطل. و ماذا عسيت أن أفعل و أنا هنا غريب؟! فمالي إلا الصبر الجميل. فقل لي: كل طلبة العلم الغرباء في مصر بدون استثناء و ما أكثرهم يخرجون إلى الفلاحين و يلقون دروس الوعظ في المساجد فلا يكاد الفلاحون يرونهم حتى يغمروهم بالإكرام بالدراهم و الثياب و الزاد دون أن يحوجوهم إلى تذلل ولا سؤال، فإن الفلاح المصري يضرب به المثل في الكرم و هذه عادتنا كلنا منذ حللنا هذه الديار فشكرته على هديته و نصيحته و عزمت على الخروج إلى الصعيد و هو الذي بقي لي لم أره, فإن الوجه البحري و هو ناحية الشمال في مصر قد رأيته من القاهرة إلى آخر الإسكندرية و بقي لي الوجه القبلي و هو ناحية الجنوب, فتوكلت على الله و سافرت بالقطار إلى مدينة (ملوي) فكنت أسمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني أنه من دعاة السلفية فسألت عنه فوجدته و نزلت عند مغربي يسمى الشيخ إبراهيم الدادسي و هو طبيب عيون يقدح العيون على طريقة الطب الإسلامي القديم بميل من حديد بدون تخدير فيخرج البياض من العين ثم يعالج الجرح بالأدوية إلى أن تشفى العين التي كانت عمياء لا تبصر شيئا و يعود إليها نورها بإذن خالقها, و هذه الطريقة لا تزال مستعملة إلى يومنا هذا في بعض القرى النائية عن المدن في بلاد المغرب وغيرها.(1/13)
…فوجدت الشيخ عبد الظاهر الريرموني و فرح بي و أظهر السرور و أكثر الترحيب و اعتذر لي عن دعوته إياي إلى قرية الريرمون, فقال: أيها الأخ العزيز إن ضيافتك واجبة علي و لكن قريتي تبعد عن هذه المدينة بقدر نصف ساعة للراكب على الحمار الفاره, و أنا لا أشتغل في الغيط يعني ـ في المزرعة ـ و كل أهل القرية يخرجون إلى غيطانهم صباحا و يرجعون مساءا و أنا أجيء كل يوم إلى هذه المدينة أمكث فيها من الصباح إلى المساء فإن دعوتك إلى القرية فإما أن تبقى وحدك أو تتكلف المجيء كل يوم معي صباحا و ترجع مساءا و في ذلك من المشقة عليك ما لا يخفى, فشكرته على ذلك و رأيت عذره قائما.(1/14)
…و أقمت عند الشيخ إبراهيم الدادسي بمدينة (ملوي) من مديرية أسيوط, من بلاد الصعيد أربعة أيام ثم عزمت على التوجه إلى قصبة المديرية و قاعدتها و هي مدينة أسيوط و كنت أجتمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني كل يوم و نتذاكر مسائل العلم. و في صباح يوم الخميس استعددت إلى السفر بالقطار إلى أسيوط فبينما أنا على ذلك إذا براكبين على حمارين قد أقبلا و نزلا و سلما على الشيخ إبراهيم الطبيب و قالا له: أين الأستاذ المغربي الذي بلغنا أنه عندك؟ فقال لهما و أشار إلي: هذا هو يريد أن يسافر إلى أسيوط الآن. فقال أحدهما و هو الشيخ عبد العليم رحمة الله عليه: أيها الأستاذ إن إخوانك السلفيين في الريرمون يقرؤونك السلام و يلتمسون أن تتفضل عليهم بالزيارة و لو ليوم واحد فإن أستاذنا الشيخ عبد الظاهر أخبرنا منذ أربعة أيام بقدومك فالتمسنا منه أن يدعوك إلى قريتنا فقال:إنك مستعجل تريد السفر إلى أسيوط و لا تستطيع أن تزورنا فقلنا له: و لا يوما واحدا فقال: و لا يوما واحدا و كررنا عليه الطلب في اليوم الثاني و الثالث حتى يئسنا منه, فأرسلنا إخوانك لندعوك إليهم لما علموا أنك عزمت السفر إلى أسيوط و قالوا لنا إن وجدتموه سافر فسافرا إلى أسيوط و بلغاه دعوتنا, و اعلم أيها الأستاذ المحترم أننا معشر السلفيين في قرية الريرمون لا يزيد عددنا على مئة بيت و قد اشتدت العداوة بيننا وبين قومنا المبتدعين عباد الأضرحة و شيوخ التصوف حتى انتقلت العداوة من أمور الدين إلى أمور الدنيا, و شيخ البلد منهم و العمدة معهم و نحن محاربون لأجل عقيدتنا فنرجو أن يهدي الله بك إخواننا و يجمع شملنا على كلمة التوحيد و اتباع سنة النبي صلى الله عليه و سلم فلا تخيب رجاءنا, فقلت لهما: أيها الأخوان العزيزان لستما في حاجة إلى كل هذا الإلحاح فإنني نذرت لله أن أدعو إلى توحيده و سنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيثما كنت و هذا أهم غرض لي في الحياة.(1/15)
الدعوة إلى الله في الصعيد
…فركبت أحد الحمارين و توجهت إلى الريرمون مع الشيخ عبد العليم فلما وصلت نزلت في مندرة ـ أي مضيف ـ الشيخ إسماعيل الصيفي رحمة الله عليه و اجتمع الإخوان السلفيون و احتفلوا بي كأني أحد الأمراء, و لم يكن عندي من الكتب إلا مجموعة الرسائل التي نشرها عيسى بن رميح رحمه الله و هي رسائل في التوحيد, فبدأت الدعوة بعد صلاة المغرب في المندرة المذكورة و اجتمع أهل القرية كلهم تقريبا فلم تسعهم المندرة فجلسوا في الشارع. و كان في مقدمتهم شيخ البلد الشيخ يوسف رحمة الله عليه فأخذ يلقي علي أسئلة في التوسل بالأولياء و شد الرحال إلى زيارة قبور الصلحين و الذبح و النذر و أوراد الطريقة و الا ستمداد من الشيوخ و الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه و سلم و ما إلى ذلك و أنا أجيبه بحلم و أناة و صبر و هبنيه الله لم أعهده في نفسي قبل ذلك.
……إذا اصطفاك لأمر هيأتك له……يد العناية حتى تبلغ الأملا(1/16)
…و حضر هذا الدرس أستاذ الجامعة الشيخ عبد الظاهر الريرموني فأخذ يبحث عن عثراتي في النحو و الصرف و اللغة و يلقي عي أسئلة بقصد الزراية و إظهار نقصي فقابلت ـ بتوفيق من الله ـ كل ذلك بأدب و حلم كما يفعل التلميذ المتأدب مع أستاذه, و صرت إذا أجبته عن سؤال فلم يقبل جوابي أسلم أسلم له و أقول له: تفضل يا حضرة الأستاذ و أفدنا في هذه المسألة بما علمك الله فصبر الجماعة لهذه المقاطعات على مضض ثم عيل صبرهم فقال الشيخ إسماعيل صاحب البيت: يا شيخ عبد الظاهر هذه المسألة اللغوية التي تقطع بها على الأستاذ المغربي كلامه لا فائدة لنا فيها دعها إلى الوقت المناسب لها, ثم أنطلق في الوعظ شوطا أو شوطين, و إذا بالشيخ عبد الظاهر يعود إلى أسئلته فأعود أنا إلى التسليم و الأدب فيزداد المستمعون غيظا و يعيدون عله قولهم, و استمر الأمر على ذلك ثلاث ليال و لم ينته عما نهوه عنه فخشنوا له القول و انتهروه فقال لهم: هذا ضيفي أصنع به ما أشاء و يحق لي و لو شئت أن أقول له: إن أيام الضيافة ثلاثة وقد أنقضت فتفضل فارحل لقلت له ذلك, فقال له أحدهم و أظنه الشيخ إسماعيل:(إيه ده يا خوي أنت ما تقدرش تقوله كده ده ما هو ضيفك ده ضيفنا حنا إحنا دعوناه واحنا كبناه بعدما ترجيناك أنت تدعوه و يإسنا منك) معناه: ما هذا يا أخي؟! إنه ليس ضيفك و إنما هو ضيفنا نحن و لا تستطيع أن تقول له: ارحل. فعند ذلك غضب الشيخ عبد الظاهر و لم يعد يحضر دروس الوعظ و الدعوة.
السر الخفي
…كأني بك أيها القارئ قد تلجلج في صدرك سؤال تريد الإجابة عنه و هو لماذا امتنع الشيخ عبد الظاهر من دعوتك و لماذا صار يعكر درسك و في النهاية يريد أن يطردك؟(1/17)
…الجواب: لإذا ظهر السبب زال العجب. اعلم يا أخي أن الشيخ عبد الظاهر كان قد خط لنفسه خطة في الدعوة و هي أنه كان يفرض على كل أحد من السلفيين في الريرمون أن يبايعه بيعة تشبه في بعض نواحيها بيعة المريد المتصوف لشيخ الطريقة, و كانت شروط هذه البيعة شديدة إلى حد أنه لو وقع من أحد الإخوان شئ طفيف مما يخالف ما يريده الشيخ عبد الظاهر, يغضب عليه و يقول له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله و با يعني من جديد فلا يسعه إلا أن يتوب و يبايعه من جديد و إلا طرده الشيخ و أخرجه من حضيرة الإخوان.
…و من أمثلة ذلك أن بعضهم كان عنده ضيف فصب القهوة و بدأ بالضيف قبل الشيخ فغضب عليه و أمره بتجديد البيعة.
…و من ذلك أن الشيخ عبد الظاهر كان قد بلغ من العمر خمسا و ثلاثين سنة و لم يتزوج فعتب عليه بعض الجماعة و قالوا له: أنت أستاذنا و إمامنا فلا ينبغي لك أن تبقى عزبا و أنت تعلم ما فرض الله على مستطيعي الباءة فقال لهم: أنا فقير لا يرضى أحد أن يزوجني ابنته فقال أحدهم: أنا أزوجك ابنتي فسكة الشيخ, و مضى على ذلك سنتان فجاء خاطب فخطب الفتاة فوعده أبوها خيرا, فلما سمع بذلك الشيخ غضب عليه غضبا شديدا و قال له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله و اعدل عن تزويج الفتاة بذلك الخاطب فقد وعدتني بها منذ سنتين فكيف تزوجها شخصا آخر؟! فقال: أيها الأستاذ حقا عرضت عليك ابنتي فلم تجبني ببنت شفة و مضى على ذلك سمتان فلم يبقى عندي شك أنه لا أرب لك فيها فقال الشيخ: كان الواجب يقضي عليك حين جاءك الخاطب أن تأتيني و تسألني عن رأيي في التزوج بها فإما أن أتزوج و إما أن أرخص لك في تزويجها فاختلف الإخوان السلفيون في هذه القضية فبعضهم صوب رأي الشيخ و بعضهم صوب رأي أبي الفتاة و اشتد نزاعهم.(1/18)
…و كان كثير من الإخوان يشكون في البيعة و يظنون أنها غير مشروعة و ليست من السنة في شيء لأنهم لم يرو أحدا من الدعاة إلى السلفية فرضها عليهم قبل هذا الشيخ فهاتان المسألتان معضلتان تحتاجان إلى أبي حسن يكشف عنهما ظلام الإشكال و يبين حكم الله فيهم, و لما رآني الشيخ عبد الظاهر في مدينة ملوي, خاف أن أتصل بإخواننا فيسألوني عن القضيتين فأجيب بخلاف رأيه فلذك فعل ما فعل ليحول بيني و بينهم, و لم يدري أنه لا حيلة تنفع في رد المقدور فوقع ما خافه و لذك أخذ يعاكسني في دروس الوعظ و حاول أن يطردني.
عودة إلى دروس الوعظ
…استمررت في إلقاء الدروس كل مساء في مندرة الشيخ إسماعيل الصيفي و نسيت أن أقول أن الشيخ عبد الظاهر الريرموني رحمه الله بلغ في المعارضة و المعاكسة إلى أن خالفني في أمر لم يزل يقرره و يدعوا إليه و هو منع شد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين, فقال له إخوانه: يا لله العجب أنت بنفسك لم تزل تقرر المنع, فقال: تغير رأيي و هل أنا معصوم! و من طباع المصريين المحمودة ـ و ما أكثرها ـ أن المرؤوس إذا ظهر له الحق لا يفكر في مذهب الرئيس و اعتقاده بل يتلقى الحق بالقبول و إن خاف رئيسه, و لذلك كان الناس في أثناء الوعظ يتوبون إلى الله و يعلنون توبتهم من الشرك والبدعة ففي كل ليلة يتوب اثنان أو ثلاثة.(1/19)
…و في الليلة السادسة أو السابعة قام شيخ البلد فأعلن توبته وقال: أيها الشيخ المغربي إنك لم تأتنا بشيء جديد فكل هذه المسائل التي دعوتنا إليها سبقك إليها الشيخ علي التونسي و الشيخ عبد الظاهر الريرموني و فلان و فلان و لكن الفرق بين دعوتك و دعوتهم أننا إذا جادلناك تصبر على جدالنا و تجيبنا بلطف و لين حتى نقتنع و ننتقل إلى مسألة أخرى ثم أخرى إلى أن يزول ما عندنا من الإشكال. و أما الدعاة الذين تصدوا للدعوة قبلك فقد كات لهم أسلوب آخر متى جادلناهم و عرضنا عليهم شبهاتنا قالوا لنا: كفرتم! فنقول لهم: و أنتم أكفر و نفترق على أقبح ما يكون, ثم التفت إلى الشيخ إسماعيل الصيفي صاحب البيت و قال له: يا شيخ إسماعيل جزاك الله خيرا على دعوة هذا الأستاذ المغربي الذي هدانا الله إلى الحق بسببه, و لك الفضل و الحق أن تكون الدروس في مندرتك و أن يكون الأستاذ المغربي ضيفك و لكني أطلب من فضلك أن تسمح لي بأن يكون الأستاذ أسبوعا عندك و أسبوعا عندي. هذا في الدروس الخاصة التي تلقى في المنادر و أنا أطلب من الأستاذ المغربي أن يلقي لنا درسا في المسجد الجامع يوميا و أن يصلي بنا الجمعة ما دام مقيما عندنا فقال الشيخ إسماعيل: إني أقبل هذا الاقتراح بكل سرور.(1/20)
…فناتقلت إلى مضيف شيخ البلد و استمررت على إلقاء الدروس و أضفت إليها درسا بعد العصر في المسجد الأعظم و اعتذرت إلى الشيخ يوسف عن قبول ما عرضه علي من صلاة الجمعة إماما و قلت له: إنني لا أحب الدعاء للملك فؤاد في كل خطبة و لا أريد أن أكون سببا في شر يصيبك فحسبي أن ألقي الدروس, فقال رحمه الله: أيهما صواب, الدعاء للملك في كل خطبة جمعة أم تركه على ما جاءت به سنة النبي صلى الله عليه و سلم؟ فقلت له: أنا أرى تركه هو الصواب فقال:(إيه ده يا خوي) نحن نعبد الله أو نعبد فؤاد؟ إذا رأيت الملك فؤادا أمامك في الصف الأول فلا تبال به أنا المسئول و صل كما أمرك الله و اخطب كما أمرك الله.
…و بعد توبة الشيخ يوسف تاب أهل البلد عن بكرة أبيهم إلا بيتين, أحدهما بيت شيخ الطريقة و الثاني بيت العمدة المرفوت, و المرفوت عندهم هو المعزول, وخدامهما, و بعدما كان السلفيون ممنوعين من جميع المساجد لأنهم وهابيون أهل مذهب خامس تصافح أهل القرية كلهم و زال كل ما كان بينهم من العداوة في الدين والدنيا و انتقلت العزلة التي كانت ملازمة لهم إلى شيخ الطريقة و العمدة المرفوت و خدامهما,فأخذوا يصلون منعزلين في زاوية فيوسطها قبر عليه تابوت كانوا يعبدونه,و بلغت العداوة بين الفريقين إلى أن صار يتهم بعضهم بعضا بإحراق الزروع في البيادر, واتهم المبتدعون السلفيين بإحراق تابوت ذلك الضريح الذي كانوا يعبدونه. والحقيقة أن امرأة أوقدت شمعة تتقرب بها إلى صاحب الضريح و جعلتها على التابوت فلما انقضة الشمعة وصلت النار إلى التابوت فأحرقت بعضه.(1/21)
…و كأني بعابد القبر يقول يا هذا لقد أسرفت في القول فهل يعبد مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله قبرا؟ فأقول في الجواب: يمكن أن تغالط بهذا الكلام غيري أما أنا فلا تستطيع أن تغالطني لأنني أنا بنفسي كنت أعبد القبور فهداني الله إلى توحيده و هدى بي خلقا كثيرا و لله الحمد و أزيدك على ذلك ما يخرصك و يلقمك حجرا أن الجهال في هذا الزمان من أهل البلاد الإسلامية و ما أكثرهم يعبدون القبور و الأنصاب بل و الأشجار و يعبدون كل شيء حتى الحمير و دونك البرهان القاطع:
…أما عبادة الأضرحة فأمر متواتر مشاهد بالعيان في أكثر البلدان المنتسب أهلها إلى الإسلام كما هو في بلاد النصارى و هؤلاء يزيدون التماثيل.
…و أما عبادة الأشجار فقد حدثت من عهد بعيد فقد ذكر بن أبي شامة في كتاب البدع له: أن شجرة كانت تعبد في دمشق في زمانه. و أما في هذا الزمان فحدث عن البحر و لا حرج فقد شاهدت شجرة عظيمة وافرة الأغصان تعبد في مصر, و اخبرني الشيخ عبد الرزاق حمزة أنه هم بقطعها و أخذ فأسا و اشتغل طول الليل إلى أن كاد الفجر يطلع فلم يستطع أن يقطع إلا جزءا يسيرا من أغصانها, فجاء عبادها في الصباح بالنذور فوجدوا بعضها مقطوعا فغضبوا غضب العابد لمعبوده, و اتهموا الشيخ المذكور و رفعوا شكوى إلى العمدة فطالبهم بالبينة فقالوا : لا يوجد أحد في هذه الناحية يشنع على المتبركين بها إلا هذا الرجل، فقال العدمة: إنني لا أستطيع أن أعاقبه بهذه الحجة التي لا تتجاوز الظنون. و أخبرني(محمد أجنا) ـ و هو رجل قضى عمره في البدع حتى بلغ السبعين ثم هداه الله إلى التوحيد بدعوتنا ـ أن له شجرتين يعبدهما الفلاحون إحداهما اسمها أبو بكر و الأخرى نسيت اسمها, و أن الفلاحين يضعون أدوات الحرث و غيرها مما يثقل عليهم حمله إلى إحدى الشجرتين فلم يتجرأ أحد أن يسرق شيئا من ذلك مع أنهم سرقوا حصر المسجد. و لو ذهبنا نعدد وقائع عبادة الأشجار لطال بنا الكلام.(1/22)
…و أما عبادة الأحجار فهي كثيرة أورد بعض وقائعها: فمن ذلك حجر كبير ناشز في جبل بالصعيد في مديرية أسيوط أخبرني أصحابنا أنه كان يسمى الشيخ داغار و أن جماعة منهم ّهبوا ذات ليلة بمعاولهم واشتغلوا طول اليل
فتركوا الشيخ داغارا أثرا بعد عين. و منها أن صخرة في مرسى مدينة طنجة داخل البحر تسمى سيدي ميمون يعبدها أهل تلك الناحية. و سبب اطلاعي على عبادتهاأني كنت راكبا في سيارة حافلة من طنجة إلى تطوان سنة ثلاث و أربعين و تسعمائة و ألف بتاريخ النصارى و أتباعهم, و كان إلى جانبي رجل معه امرأة فسلم علي و قال لي: أنا ممن يحضر دروسك في الجامع الكبير و قد هداني الله إلى التوحيد بسبب ذلك ولكن زوجتي هذه لا تزال متمسكة بالشرك فأرجوا من فضلك أن تعظها لعل الله أن يهديها بوعظك كما هداني أنا و ذكر لي قضية قد اشتد نزاعهما فيها تتعلق بعبادة الصخرة البحرية المسماة بسيدي ميمون و حاصلها أنهما لا يعيش لهما الأولاد إذا بلغ الصبي سنة يموت , فنذرت زوجته أن تذبح عن ولدها في كل سنة لسيدي ميمون, و قد حانت نهاية السنة الأولى من عمر الصبي قال: فامتنعت أنا من الوفاء بهذا النذر و قلت: إن عمر الصبي بيد الله و ميمون صخرة لا تضر و لا تنفع فلم تقبل. فوعظتها من طنجة إلى تطوان مدة ساعة و لا أدري هل انتفعت بوعظي و تابت أم بقيت على شركها. و أكتفي بهذا القدر من الشواهد على عبادة الأحجار.
…و من عبادة المياه أن بئرا بالقصر الكبير يعبدها السفهاء و يسمونها سيدي ميمونا و يزعمون أن ابن أمير الجن ِمهروش كثيرا ما يحضرها خبرني بذلك غير واحد في البلد المذكور و شاهدت حوادث أخرى من عبادة المياه فلا أطيل بذكرها.(1/23)
…و أما عبادة الحمير فأذكر فيها قصتين: إحداهما وقعت في طرابلس الغرب على ما حدثني به ثقة, و ذلك أنه كان في تلك الديار شيخ متصوف اسمه عبد السلام الأسمر كان يرقص مع أصحابه و يضرب بالدفوف حتى يخروا صرعى على الأرض و يعتقدون أن الدف الذي كان يضرب به الشيخ عبد السلام نزل من الجنة و كان يضرب به علي بن أبي طالب للنبي, و الشيخ عبد السلام و المريدون المنقطعون للعبادة معه لم يكونوا يكتسبون معيشتهم لأنهم كانوا بزعمهم متوكلين. و كان للشيخ المذكور حمار يطوف على بيوت البلد وحده كل صباح و مساء و عليه خرج فكلما وقف بباب بيت يضع أهله شيئا من الطعام في ذلك الخرج فيرجع إلى الشيخ و المريدين بطعام كثير غدوة و عشية, فلما مات الشيخ و تفرق المريدون بقي الحمار بلا عمل فصار الناس يقدمون له العلف و يتبركون به إلى أن مات فدفنوه و عكفوا على قبره يعبدونه.(1/24)
…و القصة الثانية في المغرب: قرأت في سنة ستين و تسعمائة و ألف بتاريخ النصارى في صحيفة العلم مقالا لمعلمة اسمها خديجة النعيمي من الدار البيضاء قالت خديجة: خرجت مع نسوة جاهلات نتجول خارج المدينة فمررنا بكوم من الحجارة فأخذت النسوة يقبلن تلك الحجارة و يتمسحن بها قائلات:(أنتاع الله لله يا للا حمارة) معناه نسألك متاع الله أي ما أعطاك الله من الكرامة يا سيدتنا الأتان, قالت: فأنكرت صنيعهن و قلت لهن: ويحكن تتخذ أولياء حتى من الحمير, فقلن لي: اسكتي فإنك لا تعرفين قدر هذه الولية فكم قضت من حاجات و نخاف عليك أن تضربك ضربة يكون فيها حتفك فسلمي للفارغ لكي تنجي من العامر (قلت: و هذا مثل يضربه المغاربة لمن اعترض على عبادة شخص و قال: إنه لا ينفع و لا يضر يقول له عباده:(سلم للخاوي تنجى من العامر) معناه هب أنه فارغ من الولاية فخير لك أن لا تعترض عليه و أن لا تنكر ولايته لأنك إن استمررت في الإنكار يخشى عليك أن تصادف وليا حقيقيا فيصيبك بشر). ثم وجهة الكاتبة المذكورة دعوة إلى العلماء و قالت: يا علماء الدين اتقوا الله و علموا الناس توحيد الله و شعائر دينه فإنكم ضيعتن الأمانة التي حملكم الله إياها حتى وصل الناس إلى عبادة الحمير دون الله. فكتبت ثلاث مقالات تلبية لدعوتها و نشرت في صحيفة العلم و لم يلب دعوتها أحد غيري من قراء صحيفة العلم و هم يعدون بالآلاف و أظن أن هذا القدر يكفيك إن كنت منصفا, و يقمعك إن كنت متعسفا.
عودة إلى الريرمون(1/25)
…أول جمعة صليتها إماما في الريرمون في المسجد الأعظم كانت يوم عيد عند أهل الريرمون و تمكن السلفيون لأول مرة من الصلاة في المسجد الأعظم و تعانق الناس و صاروا إخوانا متحابين. و كان للسلفيين مسجد بنوه باللبن و سقفوا نصفه بخشب النخل فصلى في ذلك اليوم الشيخ عبد الظاهر في ذلك المسجد إماما و قال في خطبة الجمعة يا إخواننا لا يخفى عليكم (أن المركب اللي فيها ريسين تغرك) يعني أن السفينة إذا كان لها ربانان فمآلها الغرق لأن الربانين يختلفان فيؤدي اختلافهما إلى اختلاف النوتيه و يفضي بهم ذلك إلى الغرق, و أن هذا المغربي قد فرق جماعتنا و والى أعداءنا و أحدث فتنة في البلد, فمن كان منكم ثابتا على بيعتي محافظا على عهدي فلا يكلمه و لا يجلس إليه و لا يستمع لحديثه, فلما فرغ من الصلاة و لم يصل معه إلا الشيوخ الضعفاء الذين شق عليهم المشي للجامع الأعظم غضبوا عليه و زجروه زجرا شديدا و قالوا له: ما نظن إلا أنك أصبت بالجنون و أن هذه الصلاة التي صلينا خلفك مشكوك في صحتها لأنك تكلمت باللغو الذي لا يناسب خطبة الجمعة, و هذا الرجل الذي تكلمت فيه بغير حق ما رأينا منه إلا خيرا و هو يجلك غاية الإجلال فقال لهم: هذا فراق بيني و بينكم.(1/26)
…وقبل ذلك بيوم دعاني أحد الإخوان للغداء و دعا الشيخ عبد الظاهر, فقال لي: يا شيخ محمد سمعت بأن المنافق يوسف شيخ البلد جاءك و أظهر لك أنه تاب من شركه و بدعته فقبلت توبته و أظنك لا تعلم أنه أكبر عدو للسلفيين و لي أنا بالخصوص و أنا شيخ هذه الطائفة و إمامها, فإن كان صادقا فيما يزعم فهلا جاء إلي و التمس مني العفو و بايعني بل أنت بنفسك يجب عليك أن تبايعني و أن لا تخرج عن رأيي!! فقلت له: يا شيخ عبد الظاهر و الله أني لأحب أن أرضي الله ثم أرضيك ما استطعت إلى ذلك سبيلا, فهب أن رجلا في الروضة ـ و هي بلدة قريبة من الريرمون ـ يدعوا إلى مثل ما ندعوا إليه من التوحيد و اتباع السنة و هذا الشيخ يوسف عدو لي ولك فجاءه هذا الداعي و دعاه فتاب إلى الله على يده من الشرك و البدعة و بقي مع ذلك مصرا على عداوتنا, ألا ينبغي لنا أن نفرح بتوبته لأنه أنقذ من شر عظيم يوجب له الخلود في نار جهنم, أما عداوتنا نحن فإنها معصية لا تخرجه من الإسلام و قد تزول فنصطلح معه و نعود إلى الوفاق فقال لي: هذا رأيك أنت, أما أنا فأقول: يجب على كل من أراد أن يتوب من الشرك و البدعة أن يرضيني و يبايعني فقلت له: أني أوثر رضى الله على رضاك فقال: هذا فراق بيني و بينك. و سمعت بأنه كان يتعاطى الأفيون و هو مخدر سام ـ الله أعلم بصحة هذا الخبر ـ و بقيت في الريرمون على تلك الحال نحو ثلاثة أشهر, ثم حان وقت الحج و كنت في أثنائها أظهر الغنى و لم أسمح لأحد أن يدفع عني أجرة البريد لرسالة أرسلها في البريد فضلا عن غير ذلك حتى صار الناس يعتقدون أنني غني, و لم يتجرأ أحد أن يقدم لي شيئا لا دراهم و لا ثيابا إلا شيئا من الخبز اليابس و شيئا من السمن في إناء من خزف انكسر حين ركبت العربة قبل أن أصل إلى مستقري في القاهرة و إلا كسوة كسانيها الشيخ يوسف رحمه الله بعد أن قدم لنا مقدمات من الإلحاح الكثير.
المناظرة(1/27)
…لما استجاب لي شيخ البلد و تبعه الناس كلهم إلا من ذكرت أعني المرفوت و شيخ الطريقة أصاب هذين الرجلين من الغم الحزن شيء كثير فبعثا إلى الجامع الأزهر و دعيا أحد كبار الأساتذة المعروفين بغزارة العلم و طلاقة اللسان لمناظرتي فجاء الأستاذ الأزهري و نزل في قصر العمدة المرفوت, فجاء أصحابنا و أخبروني بقدومه و قالوا لي: ناظره فستنتصر عليه يقينا فإن الأزهريين ضعفاء في علم السنة و التوحيد و نحن العوام نغلبهم, فقلت لهم: إني أرى في هذه القضية رأيا مخالفا لرأيكم و هو أنني لا أناظره فأنا حارث و زارع و قد دعوت أهل البلد فاستجابوا لي فليتقدم هو و يدعهم إلى الرجوع إلى الشرك و البدعة فإن رجع معه أحد فأبعده الله و من تبعه فهو له و من تبعني فهو لي, و المناظرة تعتريها المشاغبة ثم المضاربة فلا تحق حقا و لا تبطل باطلا فقالوا لي كلامك هذا يسبب لنا الهزيمة و يصدق قول أعدائنا إنك مغربي حاج ما درست في الأزهر و لا عندك الشهادة العالمية فقلت لهم: صدقوا أنا جاهل ما درست في الأزهر و لا عندي الشهادة العالمية, و لكن هذه المسائل التي أدعوا إليها لو جاء شيخ الأزهر و معه علماء الأزهر كلهم لم يستطيعوا أن ينقضوا منها شيئاغير أنني لا أحب المناظرة و دعوا الأعداء يقولون ما شاءوا, فلم يعجبهم كلامي.
…و بقي الأستاذ الأزهري في بيت العمدة خمسة عشر يوما حاول أثناءها أن يهجم علي في الدرس الذي ألقيه كل يوم بعد العصر بالمسجد الجامع فنهاه شيخ البلد و قال له: نحن نثق بهذا الرجل و لا نشك في صحة ما دعانا إليه و الله إن فتحت(بقك) أي فمك بكلمة واحدة لآمرن خفيرين يأخذانك إلى محطة السكة الحديدية لأنك تريد أن تحدث تشويشا و فتنة, فبقي شيخ الطريقة و صاحب العمدة حائرين و في النهاية عمدا إلى حيلة مكنتهما مما أراداه.(1/28)
…و ذلك أننا كنا في شهر رمضان و في ذات يوم دعاني العمدة الحقيقي و هو رجل ملحد إلى العشاء فأجبته و ألقيت كلمة أمامه فقال لي: أنا على الحياد لست معك و لا مع خصومك يعني شيخ الطريقة و العمدة المرفوت, و لكن عقيدتكم أنتم أقرب إلى العقل من عقيدتهم لأن عبادة القبور و شيوخ الطريقة إهانة للكرامة الإنسانية.
…و لما انصرفت من عنده كان طريقي يمر على باب قصر العمدة المرفوت فلما حاذيت بابه جاءني شيخ الطريقة و سلم علي و قال: إن سعادة العمدة يدعوك إلى فنجان قهوة فقلت عندي الآن درس, فقال لي لا يستحسن أن ترد دعوته و لا تزيد على خمس دقائق, فذهب بي حتى أدخلني إلى مقصورة و جدت فيها شيخا ذا عمامة و لحية فظهر لي أنه هو العالم الأزهري الذي دعي إلى مناظرتي و كان ظني صادقا فلم يكد المجلس يستقر بي حتى هجم علي الأستاذ الأزهري و قال لي: يا فلان بلغني أنك تقول كذا و كذا و كذا و عدد مسائل من التوحيد و اتباع السنة فقلت له: أما كذا و كذا فقلته حقا و ذكرت له دليله و أما كذا و كذا فلم أقله. و وقعت المناظرة فعلا, فحانت مني التفاتة فرأيت حديقة القصر كلها عمائم و قلانس لم يبقى أحد من أهل البلد إلا حضر و تركوا لذلك صلاة التراويح فلم تزد المناظرة على نصف ساعة و كان الأستاذ الأزهري نسيت اسمه الآن من خيرة علماء الأزهر فجعل يقول في أثناء المناظرة أشهدكم أني رجعت عن كل ما قلته في هذا الأستاذ المغربي فإن الناس نقلوا لي عنه مسائل مكذوبة عليه, و أشهد أنه من العلماء المحققين و إن كنت أخالفه في بعض المسائل. فعند ذلك علم العمدة المرفوت أنه أخفق في سعيه، فقال: أيها الأستاذ أرجوكم أن تقطعوا هذه المناظرة أنا ما دعوت الأستاذ المغربي إلى المناظرة على ما يحبه أصحابنا و يكرهه خصومنا, و من رأيي أني أبعد عن هذه المناظرة و أتجنبها فإذا اضطررت إليها استعنت بالله وخضت غمارها, قال النبي صلى الله عليه و سلم:"لا تتمنو لقاء العدو و اسألوا(1/29)
الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا".
الدعوة إلى الله في تندا
(وهي قرية تبعد عن الريرمون مسافة لا أحصيها و فيها سلفيون و اثنان من العلماء)
…جاءتني دعوة من السلفيين من أهل هذه القرية فلبيتها و توجهت إليهم و أقمت عندهم ثمانية أيام ألقي الدروس في المساجد فرجع عن البدعة و الشرك خلق كثير و قدر عددهم بنصف سكان القرية و عند إذن قال لي بعض أصحابنا: اتق الله و امكث هنا في مديرية أسيوط على الأقل سنة كاملة, و أقسم بالله أني لو أقمت سنة ليهدين الله بي أكثر سكان المديرية و قال لي: إن هذه الفرصة التي سنحت لك من إقبال الناس على مجالس دعوتك قل ما يسنح مثلها و لا يجوز لك أن تضيعها, فقلت له: يمنعني من ذلك أن الغرض الذي سافرت من أجله من المغرب هو طلب العلم و لقاء أصحاب الحديث أينما كانوا و أنا لم أؤد فريضة الحج حتى هذه الساعة, فقال لي: أما طلب العلم فهذه المجالس الحافلة بالدعوة إلى الله هي من صميم طلب العلم و أنت شاب يمكنك أن تستأنف رحلتك بعد ذلك, و جاءني اثنان من أغنياء أصحابنا فقال لي كل منهما: أمكث هنا و أنا مستعد أن أزوجك ابنتي و أكتب لك عند المأذون فدانين غلتهما تكفيك للمعيشة, فاعتذرت إليهما عن القبول و قلت لهما: إن الشيخ عبد الظاهر الريرموني عفا الله عنه يظن أنني أقصد الإقامة هنا طلبا للمعيشة لأقصيه و أحل محله, فقالا: معاذ الله أن يظن بك أحد مثل هذا الظن. و في أثناء إقامتي بالريرمون قرأ علي أخوان معلمان في المدرسة نسيت أسماءهما ختمة من القرآن بقراءة ورش و كانت نادرة في مصر في ذلك الزمان فلم تلبث أن انتشرت بعد ذلك و أولع بها القراء بقصد الإغراب على السامعين, و اكتساب المعيشة أي التأكل بالقرآن. و في صحيح البخاري باب من تأكل بالقرآن أو فخر به, ذكر البخاري رحمه الله في هذا الباب حديث علي في الخوارج, و استدل به على أنه لا يحل الأكل بالقرآن فراجعه إن شئت.
قدم مراد الله يقدم مرادك(1/30)
…تقدم أني تعففت أثناء إقامتي بالريرمون و أظهرت الغنى:
……تعفف و لا تبتئس…… فما يقض يأتيكا
…و إنما فعلت ذلك لعلمي أن الذي يأخذ من الناس لا يستطيع أن يعطيهم شيئا, و أن من كان له غرضان متضاضان لا يمكن الحصول عليهما جميعا. فلذك وحدت همي و وجهت همتي بعد فتح الله لي قلوب الناس إلى الدعوة وحدها كما قال الناصح:
……اجعل الهم واحدا……و ارض بالله صاحبا
…و كنت أظن قبل التوجه إلى الصعيد أن ييسر الله لي دراهم أحج بها حجة الفريضة. بعدما أقمت في مصر سنة و شهرا نفذ كل ما كان عندي و كنت أنفق على نفسي و أخي الأستاذ محمد العربي الهلالي الذي صحبته معي و كان صغيرا, لكن لما حصلت على تلك الغنيمة فوضت الأمر إلى الله و قلت:
……عسى فرج يأتي به الله إنه……له كل يوم في خليقته أمر
…و بعد وصولي إلى القاهرة ببضعة أيام جاءتني حوالة من الشيخ يوسف بثلاثة عشر دينارا فكانت كافية لأن أحج بها أنا و أخي و هذا ما أردت بقولي قدم مراد الله يقدم الله مرادك.
هل بقي أهل الريرمون ثابتين على الدعوة؟(1/31)
…الجواب نعم. بعدما سافرت إلى الحجاز ثم إلى الهند ثم إلى العراق رجعت إلى مصر سنة خمسة و أربعين و ثلاثمائة و ألف فزرت الريرمون و وجدت الإخوان ثابتين على الحق لم يضرهم من خالفهم. و أخبرني الشيخ يوسف رحمه الله أنه لما شاع في أنحاء الصعيد أن أهل الريرمون بدلوا الدين و أحدثوا دينا جديدا بعثت وزارة الأوقاف مفتشا ليعرف حقيقة ما وقع. قال: فجاءنا و قال: يا شيخ يوسف بلغنا أنكم تركتم الترقية و قراءة سورة الكهف و الأذان الثاني في يوم الجمعة و كذا و كذا قال فقلت له: أنت عالم و نحن جهال و سترى صلاتنا و عبادتنا فكلما رأيته مخالفا للسنة المحمدية فأخبرنا به نرجع عنه و كلما رأيته ناقصا من السنة فأخبرنا به نفعله, فقال لي: يا شيخ يوسف السنة على الرأس و العين و لكن لا يخفى عليك أنه قد حدثت أمور بعد زمان النبوة استحسنها الناس و دأبوا عليها و من الصعب إزالتها و قد قال العلماء: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة فقد تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة, قال: فقلت: أنا كما تعلم لست من العلماء و لكني سمعت غير واحد من العلماء الثقات الذين لا أشك في علمهم و لا في صدقهم يقولون أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:"كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار" و فسروا لنا هذا الحديث كما يدل عليه ظاهره و لم يقل أحد منهم: إن بعض البدع واجب و بعضها مستحب و بعضها مباح, فقال المفتش: ثم لا يخفى عليكم أن المساجد للأوقاف هي التي بنتها و هي التي تنفق عليها و هي تريد أن تسير على ما كانت عليه, قال الشيخ يوسف فقلت له:(إيه ده يا خوي بس كدا؟) أنا أستطيع أن أبني مسجدا في سبعة أيام و أترك المسجد الجامع فارغا لا يصلي فيه أحد إلا الإمام و المؤذن, قال: فقال المفتش: يا شيخ يوسف أو نعمل شيئا آخر.قال فقلت :هات ما عندك, فقال: أنا مبعوث إليكم من قبل الأوقاف لأقدم تقريرا فيما نسب إليكم من المخالفات, فأقترح عليك أن تأمر المؤذن و(1/32)
الإمام يوم الجمعة بإعادة تلك الأمور التي كنتم تصنعونها من قبل لأستطيع أن أكتب تقريرا أكذب فيه ما نسب إليكم و بعد أن أفارقكم و أعود بالتقرير إلى من أرسلني اصنعوا ما شئتم, قال: فقلت: أنا موافق فأمرت الإمام و المؤذن أن يفعلا تلك البدع المخالفة للسنة يوم الجمعة ففعلاها و صلينا الجمعة كما أراد المفتش ثم عدنا إلى ما كنا عليه.
…و هنا ينبغي أن أقتبس أبياتا من القصيدة التائية التي نظمتها بالهند و ذكرت فيها توبتي من الشرك والبدعة و رحلت يفي طلب العلم و أقتضر على ما يخص الدعوة في الريرمون لأني قد أدرجت القصيدة كلها في كتاب الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية. و الأبيات التي تخص الريرمون هي:
……أتيت إلى مصر لأخبر خبرها……و أنظر هل فيها شفاء من التي
……و كنا سمعنا قبل أن في ربوعها……رجلا لنصر الدين أصحاب شدة
……وصلت فلم ألف سوى أهل بدعة …و شرك و إلحاد و شك و ردة
……سمعت بها الإلحاد يعلن جهرة……بجامعة للشر مع كل فتنة
……رأيت بها الأوثان تعبد جهرة……قبورا عظاما ناخراة أجنت
……و يدعون دون الله من لا يجبهم……و هم عن دعاء القوم في عظم غفلة
……لهم جعلوا قسما بمال والدة……فلا عاش من قد عدهم أهل ملة
……حشى ثلة مستضعفين رأيتهم……تسومهم الأعداء سوء الأذية
……و هم صبر مستمسكون بدينهم……و يدعون ما استطاعوا لبيضاء نقية
……و ما صدهم إيذاؤهم عن جهادهم……لأنهم أهل النفوس الأبية
……أقمت بها عاما إلى الله داعيا ……فأرشد رب الناس قوما بدعوتي
……يغدون بالآلا ف في الريرمون كلهم أهل إخلاص و أهل فتوة
من مخارق شيوخ المتصوفة المبتدعين(1/33)
…حكى لي أصحابنا في الريرمون أنني بعدما سافرت من بلدهم زارهم شيخ طريقة اعتاد ممن قبل أن يزورهم الفينة بعد الفينة فاستقبلوه استقبال ضيف عادي و لم يقبلوا يديه و رجليه و لم يخضعوا له الخضوع المعتاد قبل توحيدهم لله, فأنكر ذلك و قال: ما خطبكم أراكم تبدلتم؟قالوا: ماذا تريد منا؟نحن مستعدون لضيافتك ما تشاء فقال لهم: ما هذه الوجوه هي الوجوه التي أعرفها و لا الاستقبال هو الاستقبال الذي عهدته فيكم, فقال له أحدهم: و ماذا تريد منا أتريد أن نعبدك من دون الله؟! لقد تاب الله علينا و هدانا إلى توحيده و اتباع رسوله فنحن لا نريد منك شيئا لا نسأل حاجاتنا إلا من الله و لا نتبع في الدين إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم. فقال له الشيخ و هو غضبان تغلي مراجله: يا عكروت(العكروت كلمة شتم في العامية المصرية تعني اللئيم) أنا قتلت نفسا من أجلك و تعاملني بهذه الوقاحة؟ فقال الرجل: و كيف كان ذلك؟ فقال الشيخ: جاء رجل يسرق من مزرعة البطيخ التي زرعتها على فرع شاطئ النيل فوجهت له همتي و قتلته, فضحك الرجل و قال له: يا سيدنا الشيخ قد أخطأت في حسابك إن المزرعة التي تعني جاءها فيضان النيل, فأتى عليها قبل أن تثمر, فغضب الشيخ و رحل و لم يقبل ضيافتهم و علم أن رزقه منهم قد انقطع فذهب يبحث عن غيرهم كما يبحث الذئب عن الحملان, و من عرف معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله و عمل بمقتضاها حفظه الله من شياطين الجن و الإنس.(1/34)
…و حدثوني عن هذا الشيخ نفسه أنه كان في ضيافتهم في مندرة فنظر فلم يرى أحدا و أوحى له شيطانه أن يأتي بمخرقة ليرهبهم بها و يستدر خدمتهم و أموالهم, فنزل من فوق المقعد الخشبي و اندس تحته و قد سدل عليه ستار كما هي العادة في ذلك الزمان في المنادر, فدخل أحدهم و لم يجده و هم يعلمون يقينا أنه لم يخرج, فقال: يا جماعة قد فقد سيدنا الشيخ فدخلوا كلهم ولم يشاهدوا شيئا ثم خرجوا فلما خلا له الجو خرج من مخبئه و قعد في مكانه و انطلقوا هم يفتشون عنه في البلد كله, فلم يجدوا له أثرا ثم رجع أحدهم فوجده في مكانه فأحاطوا به يتمسحون به و يقبلون يديه و هم في هلع عظيم و قالوا: يا سيدنا الشيخ(كرا إيه؟) يعنون ماذا جرى؟ عهدنا بك جالسا على المقعدثم دخلنا فلم نجدك و انطلقنا نبحث عنك ثم رجعنا فوجدناك, فقال: زرت إخوانكم المجاهدين في طرابلس الغرب(في هذا الزمان تسمى ليبيا) فوجدتهم في معركة عنيفة مع أعداء الإسلام الإيطاليين فأكبوا عليه مرة أخرى يقبلون يديه و يتمسحون بثياب هذا البطل المجاهد!! و ما هي من أفعال المبطلين بالشيء الغريب.
الدعوة إلى الله في تطوان
…في شهر آذار( مارس) من سنة اثنتين و أربعين و تسعمائة و ألف بتاريخ النصارى, اتفقت مع سماحة المفتي السيد أمين الحسيني على التوجه من برلين إلى مال المغرب, و حملني رسالة شفوية إلى الأستاذ المجاهد رئيس حزب الإصلاح الوطني الزعيم عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه تتعلق بإصلاح حال المسلمين في شمال المغرب. و كان في ذلك الزمان القسم الشمالي من المغرب يسمى المغرب الأسباني لأن المغرب كان مجزءا إلى ثلاثة أجزاء المغرب الفرنسي و هو القسم الأكبر من المغرب عدد سكانه زهاء أحد عشر مليونا, و المغرب الإسباني و عدد سكانه زهاء مليون واحد, و طنجة و نواحيها و هي دويلة, و كان الجرمانيون في أوج عزهم.(1/35)
…فلما وصلت إلى تطوان فزع المستعمرون الأسبانيون من قدومي و ساء ظنهم, لأنهم و إن كانوا مع الألمانيين في السياسة ظاهرا إلا أنهم ال يأمنون جانبهم فظنوا أنني جئت مبعوثا من الألمانيين لأتصل بزعماء المغاربة و أسعى في إخراج الإسبانيين ليحل الجرمانيون محلهم ـ و هو ظن كاذب ـ فمنعوني من الرجوع إلى البلاد الجرمانية, بتواطؤمع القنصلية الإنكليزية في تطوان فاضطررت إلى البقاء في تطوان و نوا حيها زهاء ست سنين, وجرت علي حوادث ذكرها هنا كلها يخرجني عن الموضوع و إنما أذكر منها ما يتعلق بالدعوة إلى الله, و كنت في ذلك الوقت عديم الجنسية لأن الإنكليز تواطؤو مع السفارة العراقية في روما أن لا تجدد جواز سفري, فقدمت إلى تطوان بجواز ملفق بعثه إلي الأستاذ عبد الخالق الطريس فسهل على الإسبانيين المستعمرين المستعبدين أن ينتزعوا مني ذلك الجواز و أن يجعلوني تحت المراقبة, ثم استطعت أن أقنعهم بكذب ظنهم بعدما اقترحوا علي كتابة مقال أصرح فيه بأن الجرمانيين لا حق لهم في استعمار المغرب, فكتبت مقالا قلت فيه: إن المغرب للمغاربة لا حق للفرنسيين و لا للإسبان و لا للجرمانيين في الأستيلاء عليه, فرضوا بذلك و لكن شرطوا علي أن لا أكتب مقالا و لا ألقي دروسا و لا خطبة إلا بعد إطلاعهم و استءذانهم و هددوني بأن يسلموني للفرنسيين الذين نفوني قبل من القسم الذي تحت أيديهم و لو ظفروا بي لانتقموا مني أشد انتقام, و بقيت هنالك عاطلا عن العمل.(1/36)
…فبعد مدة جاءني جماعة من محبي العلم و الإصلاح و التمسوا مني أن ألقي دروس وعظ في المسجد الجامع و يسمى باللغة المغربة الجامع الكبير, فقلت لهم: إن الإسبانيين شرطوا علي أن لا ألقي درسا بدون إذنهم, ثم جاءني جماعة من طلبة المعهد الإسلامي فالتمسوا مني مثل ذلك فأجبتهم بالجواب نفسهفقالوا لي كلهم: إنهم لم يمنعوك منعا باتا و إنما عقلوا ذلك على إذنهم فاستأذنهم. و كان الحاكم المدني قد عين أحد الضباط اسمه بردا واسطة بيني و بينهم, فأخبرت بردا بطلب الجماعتين فبلغ الأمر إلى سيده فقال له: لا مانع عندنا من ذلك و لكن مدير المعارف(و هو إسباني طبعا) متعصب جدا و معتد بنفسه فإذا رأى الدكتور الهلالي يلقي دوسا بدون استئذانه يخاف أن يكيد له كيدا فيستحسن أن يطلعه على ذلك لينجو من شره, فشاورت الأستاذ عبد الخالق الطريس رحمه الله و كان قد عينني أستاذا في المعهد الحر و هو مؤسسة و طنية خارجة عن نفوذ المستعمرين نوعا ما, فقال لي: اكتف بإلقاء الدروس في المعهد و دع عنك هؤلاء الأرذال, فصرفت النظر عن ذلك.(1/37)
…ثم عادت الجماعتان إلى الالتماس و قلت:عسى أن يكون في إجابة طلبهم خيرا, فقلت لبردا: أخبر مدير المعارف بأني أريد زيارته فأخبره, فرحب بذلك و اجتمعت به بحضور مدير المعارف المغربي و كان حضوره صوريا لا حول له و لا قوة و مع ذلك حاو لأن يستغل وجوده فأراد أن يشترط علي شرطا يتنافا مع الغرض المطلوب, فقال لي: إن الإسبانيين يشترطون عليك أن تكون دروس وعظ خالية من السياسة و خالية من الآراء الشاذة يريد بذلك إنكار الشرك و البدع, فقلت له: أنا لا أقبل هذا الشرط و سأتكلم مع المدير الإسبني فإن أسر عليه عدلت عن إلقاء الدروس, فتكلم المدير الإسباني و قال لي: لقد فرحت بزيارتك لأني أحب العلماء و خصوصا أمثالك الذين يجمعون بين الثقافتين الأوربية و الإسلامية و هم قليل بل و ما رأينا منهم أحدا قبلك, و لكني أكره للعلماء أن يشتغلوا بالسياسة لأنها تفسد عليهم علمهم و في رأيي أن العالم ينبغي أن ينقطع لخدمة العلم و يترك السياسة, فقلت له: يمكنك أنت أن تفعل ذلك أن تنقطع إلى العلم وتترك السياسة لأن لك دولة قائمة تغنيك عن ذلك, أما أنا فلا يمكنني ترك السياسة لأمرين: أولهما لأن القرآن و الحديث كلاهما مشحونان بالسياسة فلا يمكن أن أفسر القرآن و أشرح السنة إلا بالخوض في السياسة, و ثانيهما أن المغرب في هذا الزمان كالجسم المريض و نحن أبناؤه يجب علينا السعي في استرداد ما فقد من الصحة و المحافظة على ما لم يفقده منها, فقال: أنا أوافقك على أن المغرب مريض و لكن ينبغي أن نعطيه الدواء إذا أردنا شفءه بقدر محدود, فقلت له مغالطا: إذا نحن متفقون على السعي في علاجه و شفائه, و فهمت منه الموافقة على إلقاء الدروس.(1/38)
…و بدأت بإلقاء ثلاثة دروس في المسجد الجامع كل أسبوع، فأقبل الناس علماؤهم وعامتهم على هذه الدروس إقبالا عظيما مع أن علماءهم إلا واحدا و هو الأستاذ محمد الطنجي كانوا معادين ومحاربين للتوحيد و اتباع السنة أشد المحاربة و هددوا بأن يعينوا لجنتين إحداهما تناظرني في الأصول و الأخرى تناظرني في الفروع فلم أعبأ بهم و أخذت أحطم أصنامهم في دروسي. و لما بدأت دروسي في الجامع الكبير لم يكن أحد يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة, و وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة و قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة أعظم شعار للمتبعين للسنة فبدأ العوام يعملون بهذه السنة و غيرها. و كان الناس يتعجبون من العاملين بها و لكن باستمرار الدروس بضع سنين كثر المتبعون للسنة في هذا المسجد حتى صار الناس إذا رأوا رجلا سادلا يديه في الصلاة لا يرفع عند الركوع و لا عند الرفع منه و لا يجهر بالتأمين يتعجبون منه.
الحوادث التي وقعت أثناء إقامتي في شمال المغرب(1/39)
الأولى: كان في طنجة الشيخ أحمد بن الصديق شيخ الطريقة الشاذلية المسماة هناك بالدرقاوية, سمعت أن أبا محمد بن الصديق ورد طنجة منذ زمان غير بعيد من قبيلة غمارة فقيا لا يملك شيئا و دعا الناس إلى الدخول في طريقته فاستجاب له بعضهم و نمت دعوته إلى أن أسس زاوية. و الزاوية في الحقيقة كالضرة للمسجد فهي بناء قصد به إقامة الصلوات الخمس مع الأذان في كل وقت و قراءة القرآن و إلقاء دروس الوعظ, فهي إلى هذا الحد تشبه المسجد و تكاد تكون إياه, و لكن قد قصد بها بالدرجة الأولى اجتماع طائفة مخصوصة لها اسم يعينها كالدرقاوية و التجانية و القادرية و الزروقية و الناصرية و الكتانية و الكرزازية و الوزانية و هلم جرا,يجتمعون فيها لما يسمونه بالذكر و هذا الذكر يكون جماعة بلسان واحد كترانيم النصارى في كنائسهم,و بالنسبة للدرقاوية التي نحن بصدد الكلام فيها يكون معه غناء و رقص وآلات اللهو كالطبل و الدف و المزمار و سائر الآلات,و يجتمع فيها رجال و نساء على ذلك و بذلك تخالف المسجد.(1/40)
و بعدما استقر الشيخ محمد بن الصديق في طنجة و انتشرت طريقته بعض الانتشار نشأ أولاده و شبوا, فأخذوا يقصدون مصر لطلب العلم و كبيرهم في السن و العلم هو الشيخ أحمد المذكور آنفا أقام بمصر سنين جادا مجتهدا حتى حصل على نصيب وافر من علوم اللغة و العلوم الشرعية و فتح له في التأليف فألف كتبا كثيرة و رجع إلى طنجة,و كان أبوه و أصحاب طريقته إلى حين رجوعه مقلدين كغيرهم لا يعملون بالحديث و لو كان مثل الشمس, فدعاهم أحمد إلى ترك التقليد و العمل بالحديث في الفروع التي التمس الطريقة و عقائدها بشيء من التغيير فاستجاب له والده و أتباعه كلهم, و بذلك ضرب سورا على أتباعه يحرسهم من فتنة الفقهاء المقلدين فلا يمكن أن يسألوهم عن شيء و لا أن يأخذو منهم شيئا من العلم, أما عبادة القبور و الرقص و اعتقاد وحدة الوجود و تقديس زنادقة الصوفية كابن عربي الحاتمي, و تعاطي الأوراد المبتدعة و الاستمداد من الشيوخ و الاستاغثة بهم فقد ترك كل ذلك على حاله و لم يغير منه شيئا.(1/41)
…ولما استقررت أنا في تطوان و هي شرقي طنجه على مسافة أربعين ميلا و عرفت ذلك كله ظهر لي أن دعوة الشيخ الذكور توافق دعوتي في جانب و تخالفها في جوانب, فعزمت أن أدعو إلى توحيد الله و اتباع السنة دون أن أتعرض للشيخ أحمد بطعن أو بتزكية من الوجهة الشخصية فأنا أدعوا إلى توحيد الله و أعلم الناس معنى لا إله إلا الله محمد رسول اللهأي جميع مدلولات الكلمتين و أبين لهم أن من عبد غير الله بشيء من أنواع العبادة المذكورة أعلاه بعد أن يعرف أن هذا شرك و يصر على عمله فهومشرك, و من اعتقد وحدة الوجود فهو كافر, و من استمد أو استغاث بغير الله فهو كافر, و من ترك الكتاب و السنة و قلد الرجال قلادة سوء فهو ضال, وقد يفضي به إصراره على ذلك إلى الشرك كما قال تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}[النور: 63] قال الإمام أحمد لصاحبه الفضل بن زياد رحمهما الله:"أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله(يعني النبي صلى الله عليه و سلم) أن يقع في قلبه زيغ فيهلك", و هذا تفسير للآية في غاية التحقيق من وجهة الدلالة و من وجهة العلم و المعرفة الذوقية لا يرتاب فيه إلا جاهل غمر.(1/42)
…و انتظرت من الشيخ أحمد بن الصديق أن يسلك معي هذا المسلك نفسه فلا يدعوا إلى تلك الضلالات و يذم أهل التوحيد بل يتمسك بعقيدة السلف الصالح و ذلك لازم لدعوته على سبيل العموم دون أن يسميني و لكنه سلك طريقا آخر, فغره استيطانه في طنجة و ما له من أتباع, و علم أني غريب في تلك الناحية يحاربني الاستعمار ـ و لا يخفى ما كان له في ذلك الزمان من سلطان ـ و يحاربني جميع الناس تقريبا: فبعضهم يحاربني لأنه طرقي لأني أطعن في الطرائق كلها إلا طريقة النبي و الصحابة و التابعين و هي الحنيفية, و بعضهم يحاربني لأنه مقلد جامد يقلد خليل بن إسحاق مؤلف المختصر الفقهي و شروحه لا يخل أن يقول: نحن خليليون, إن دخل خليل النار دخلناها معه و إن دخل الجنة دخلناها معه!! هكذا يقول غلاة السفهاء الذين يسمون بالفقهاء.
…حدثني الشيخ الورع الصالح محمد بن أبي طالب الحسني الهاشمي أن الفقهاء اجتمعوا في مدينة فاس في الضريح الإدريسي الذي يكاد يكون كعبة عندهم, و كان الشيخ الإمام المحدث الداعي إلى الله على بصيرة شيخ شيوخنا عبد الله السنوسي نزيل طنجة رحمة الله عليه يطعن في أولئك الجامدين و يضللهم, فجاءه أحدهم بعد انفضاض الاجتماع في الضريح المذكور فقال له: يا سيدي لم لم تشرفنا بحضورك؟ فقال: أنت تعلم لماذا, فإنكم اجتمعتم للصلاة عند القبر و أنتم أسارى للتقليد الأعمى فقال له المقلد: نحن خليليون إن دخل خليل النار دخلناها معه و إن دخل الجنة دخلناها معه فقال الشيخ على البديهة {أف لكم و لما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}[الأنبياء:67] فبدأ الشيخ أحمد يطعن في علمي عندما أخذت أدعوا الناس إلى اتباع الكتاب و السنة يقول: هذا طفيلي <اء من أوروبا يتزيا بالزي الأوربي و هو زي الكفار فمن أين جاءه علم الكتاب و السنة و أين درسه أفي برلين أم في بون؟(1/43)
ثم بدى للإسبانيين المستعنرين أن يؤسسو صحيفة عربية يومية جامعة فطلب مني الحاكم الإسباني بواسطة بردا أن أنشر فيها مقالات في الدين و العلم و الأدب دون أن أتعرض للسياسة. و كان هذا امتحانا ثانيا أرادوا أن يمتحنوني به فقبلت و كتبت مقالات على شريطتهم منها مقال في حل حديث مشكل ذكره الإمام بن القيم في كتابه (الطرق الحكمية) و ذكر من خرجه مع أسانيدهم وقال: إنه على شرط مسلم, إلا أن بعضهم علله باضطراب متنه ثم أجاب بن القيم عن ذلك و أثبت صحة الحديث و سأسوق الحديث هنا ليطلع عليه القراء بلفظ النسائي.
…قال بن القيم ص62 ما نصه: قال النسائي حدثنا محمد بن يحيى بن كثير الحرامي, حدثنا عمر بن حماد بن طلحة, حدثنا أسباط بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه(أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح و هي تعمد إلى المسجد ـ بمكروه على نفسها فاستغاثت برجل مر عليها و فر صاحبها ثم مر عليها ذووا عدد فاستاغثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه و سبقهم الآخر فجاؤوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك و قد ذهب الآخر, فأتو به رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته أنه وقع عليها و أخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني, فقالت: كذب هو الذي وقع علي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا به فارجموه فقام رجل فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل و اعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي وقع عليها و الذي أغاثها و المرأة, فقال: أما أنت فقد غفر لك, و قال للذي أغاثها قولا حسنا, فقال عمر رضي الله عنه: أرجم الذي اعترف بالزنا فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا إنه قد تاب.(1/44)
…و كان بحثي في هذا المقال منصبا على الإشكال الواقع في الحديث و هو كيف أمر النبي صلى الله عليه و سلم برجم الرجل الأول الذي أغاثها دون أن تثبت عليه بينة الزنا و هي الاعتراف أو شهادة أربعة شهداء؟ فما كاد المقال يقع في أيدي الناس و يقرأ حتى اشتد غضب الشيخ أحمد بن الصديق و كأنني هجمت على بيته و نهبت أثمن ما عنده و قال: ما شأن هذا الرجل و الحديث؟! هذا رجل متفرنج و قام زمانا طويلا في أوربا متطفل على الكلام في حديث النبي صلى الله عليه و سلم, فكتب مقالات هو و أعوانه في الرد علي. و كان محرر صحيفة الأخبار شخصا اسمه عرفة الغماري بينه و بين الشيخ الذكور قرابة, فكان إذا جاءه مقال منه أو من أحد أعوانه الذين كانوا يحاربونني معه يبادر بنشره و يؤخر مقالي بعض التأخير, لكنه لا يستطيع أن يترك نشره لأن سادته المستعمرين لا يسمحون له بذلك و استمرت المعركة مدة من الزمان فيما بيني و بينهم, و كانوا كعادتهم يمزجون الشتم بالعلم فأدع الشتم لا أجيبهم عنه و أجيبهم عن المسائل العلمية فقط فاكتسبت بذلك و بالحجج القوية التي أدليت بها كثيرا من الأنصار من قراء صحيفة الأخبار.
…و كان مدار رد الشيخ أحمد على مقالي غريبا لا يتعلق بأصل الإشكال بل سلك سبيلا أخرى و هي قوله: إن الحديث ضعيف لا بالاضطراب في المتن كما قال بعض الحفاظ و لا بالانقطاع في بعض أسانيده كما قال غيرهم, و لكن بدعوى أن سماك بن حرب الذي عليه مدار الحديث ضعيف و إذا كان الحديث ضعيفا لا يثبت فلا حاجت إلى البحث في الإشكال الذي وقع فيه. فأثبت في محاجتي لهم أن أكثر النقاد و ثقوا سماكا و هو من رجال مسلم, ثم وجدت أن الشيخ أحمد بن الصديق نفسه يحتج بسماك هذا في أحد كتبه.(1/45)
و بينما المعركة جارية قد حمي وطيسها إذا برجل اسمه عبد القادر الجزائري كان من جماعتهم الطرقيين ثم صار من جماعتنا السلفيين يكلمني بالتلفون من طنجة و يقول: قد جاءني السيد محمد الزمزمي بن الصديق و أخبرني أن أخاه الشيخ أحمد بن الصديق يريد الاجتماع بك لإزالة ما حصل من الخلاف و إصلاح ذات البين و لما كانت إقامتك في طنجة لا تطول فهو يرجو أن تعرفه باليوم الذي تتوجه فيه إلى طنجة ليتم اجتماعكما, و قد اقترحت على السيد الزمزمي أن يكون اللقاء الأول في بيتي فقبل ذلك. و لا يخفى على من يعرف الأحوال هناك أن الشيخ الزمزمي لا يتنازل ليذهب إلى رجل ليس في مستواه, يضاف إلى ذلك أنه كان من مريديهم فخرج عن طريقتهم و إن تنزل إلى أن يكلمه و يوسطه فلا يتنزل إلى أن يأتي إلى بيته و لكنه فعل كل ذلك رغبة في إصلاح ما وقع بيننا, و هذا أمر يدل على عقل و فضل و إنصاف لأن هؤلاء الإخوة كان لهم مقام مرموق و أتباع و أعوان, أما أنا فقد كنت غريبا ليس لي أنصار و لا أعوان, و عبد القادر الجزائري تقدم ذكر حاله. فقلت له: لا حاجة إلى تعيين اليوم لأني سأقدم طنجة و أقيم فيها ثلاثة أيام و في أثنائها يمكن الاجتماع بالسيد محمد الزمزمي. و لما قدمت اجتمعت فعلا به في بيت الجزائري و تحدثنا ساعتين فقال لي: إنك قدمت هذه البلاد بزي إفرنجي و هيأة إفرنجية, و لم نعهد من أصحاب هذا الزي إلا الكفر و الإلحاد و لم نكن نعرفك من قبل فظننا أن تدخلك في أمور الدين كتدخل كثير من أعدائه المفسدين, ثم تبين لنا بيقين علمك و فضلك و صدقك, فأراد أخي الشيخ أحمد أن ندعوك إلى الصلح و التعاون على ما اتفقنا عليه من دعوة الناس إلى اتباع حديث الرسول و ترك التعصب للمذهب, و كلانا غريب في هذه البلاد في دعوتنا إلى اتباع الهدي النبوي ـ و كلاما طويلا في هذا المعنى ـ فقلت له: أنا منذ قدمت هذه البلاد و خبرت أحوالها عرفتكم و عرفت دعوتكم و عزمت على أن أتعاون معكم فيما(1/46)
اتفقنا عليه, و أما ما اختلفنا فيه, فكل منا يدعوا إلى ما يعتقد, دون أن يتعرض بعضنا للطعن في بعض, فقال لي: إن الأخ الشيخ أحمد يدعوك إلى الغداء في بيتنا غدا بعد الظهر فقبلت.
…و لما وصلت إلى الشيخ أحمد رحب بي و احتفل بي أعظم احتفال و وجدته قد دعى للغداء كثيرا من أعيان البلد, ووضع لنا ثلاثة عشر نوعا من الطعام باعتبار أنواع الحلوى و لم أر في عمري كله غداء بلغ ذلك العدد من الألوان, و لما فرغ الناس من الأكل دعاني إلى خزانة الكتب التي يشتغل فيها بتآليفه الكثيرة و ليس فيها إلا خزائن الكتب و حصير مفروش في أرضها يقعد عليه و يشتغل بالتأليف على الطريقة المغربية القديمة. و كان في إمكانه أن يؤثث مكتبا كمكاتب الوزراء و لكنه زهد في ذلك مع أنه كان يعيش معيشة الترف في قصر فخم, و لكنه أراد أن يترك خدمة العلم تسير في نهجها القديم, و بعد محادثة ودية طويلة افترقنا على أن لا يتكلم بعضنا في صاحبه و لكن كل منا يدعو إلى ما يعنقد أنه حق و يرد ما يعتقد أنه باطل.(1/47)
…و استمررنا على ذلك مدة إقامتي بتطوان و نواحيها و قد استمرت مع ربيع 1942 إلى صيف1947. و في أثناء هذه المدة ألفت كتابا سميته الصراط المستقيم في صفة صلاة النبي الكريم فقرظه الشيخ أحمد في صحيفة الأخبار, و بقي الأمر فيما بيننا كذلك إلى أن سافرت قافلا إلى العراق لم يحل و لم يتغير, و لما سمعت و أنا في تطوان أن الشيخ أحمد أفتا بزيادة (سيدنا) في الأذان و أن مؤذنه يقول: أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله أنكرت ذلك و لم أتعرض لشخصه بسوء, و لما وصلت إلى العراق كتب إلي أحد الإخوان أنه ألف جزءا سماه إحياء المقبور في استحباب البناء على القبور, فأنكرت ذلك و لم أتعرض لشخصه بسوء, و بذلك تعلم كما يعلم كثير مكن أهل طنجة و أهل تطوان, و منهم الأستاذ العالم الداعي إلى الله على بصيرة, فخر آل الصديق و رائدهمفي طريق الحق و فرطهم إلى الهدى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الزمزمي بارك الله في حياته و نفع بعلمه.(1/48)
…فتبين بما ذكرناه أن ما سطره هذا الناعق كله افتراء من بنات غيره. وهنا أذكر الألفاظ البذيئة التي وصمني بها كذبا و زورا ثم أنقضها بالتفصيل حتى يعلم من لا يعلم أنه مفتر يكذب على الحاضرين و يعرض نفسه لزيادة سخرية الساخرين, فقد ألف هذا المسكين كتيبا سماه(التيمم في الكتاب و السنة) خبط فيه خبط عشواء و ملأه بسب العلماء الأئمة المتقدمين و المتأخرين و هذا نص ما كتبه في صفحة57:(فقد جاء إلى طنجة رجل من هؤلاء الدعاة مدعيا محاربة البدع فأصبح ذات يوم حليقا فأرسل إليه شقيقي الحافظ أبو الفيض من يسأله كيف يتفق حلق اللحية مع أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإعفائها و زعمه العمل بالسنة و الدعوة إليها؟ فأجاب السائل بقوله: معنى الحديث أعفوا لحاكم إن شئتم, فقال شقيقي للسائل: ولم لم تقل له: أقيموا الصلاة إن شئتم, و لا تقربوا الزنا إن شئتم؟ فهذه هي السنة التي يدعوا إليها هذا الضال و أمثاله, وقد اتقل ذلك الضال إلى بعض مدن الجنوب عاملا على بذر بذور الشقاق و التفرقة بين المسلمين. و إني أعتقد أنه مستأجر من جمعية التبشير الإنكليزية أو الأمريكية لإيقاع التفرقة بين المسلمين لأن التفرقة بينهم هي الوسيلة التي ينال بها الإستعمار أغراضه).(1/49)
…في هذا الكلام أنواع من البهتان: الأول: قوله:(فأصبح ذات يوم حليقا يوهم أنني جئت إلى طنجة بلحية ثم حلقتها و هذا كذب محض يلعنه عليه خلق كثير لا يزالون أحياء يرزقون, و الحقيقة أنني جئت إلى طنجة من برلين عاصمة ألمانيا بعدما أقمت في تلك البلاد زهاء ست سنين لتحصيل العلوم العصرية و شهادة الدكتوراه الجامعية, و قد حصلتها و لله الحمد في مدة لا تزيد على أربع سنين, و سبب توجهي إلى طنجة أن سماحة المفتي السيد أمين الحسيني بارك الله في حياته بعثني إلى الأستاذ الزعيم المجاهد عبد الخالق الطريس لغرض سياسي فيه خير للمسلمين المغاربة كما تقدم, و كنت مدة إقامتي في ألمانيا أحلق لحيتي متأولا حديث الأمر بعفو اللحى على أن الأمر للندب. و قد خيل إلي في ذلك الزمان أن الأوامر الواردة في خصال الفطرة كإحفاء الشوارب و عفو اللحى و نتف الإبط و تقليم الأظافر ينبغي أن يسلك بها مسلك واحد, فإما أن تحمل على الوجوب كلها و إما أن تحمل على الندب كلها, و أن حمل الأمر الوارد في اللحية وحده على الوجوب و حمل سائرها على الندب تناقض.
…و كذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم في صبغ الشعر(خالفوا اليهود و النصارى فإنهم لا يصبغون), و استأنست بقول بعض العلماء الذين سلكوا هذا المسلك و قد ذكرهم أخوه عبد العزيز في تأليفه الذي رد فيه على أخيهما الأستاذ الزمزمي و هو لا شك يعرفه, ثم ظهر لي أن الداعي إلى الله لا ينبغي له أن يعتمد على التأويل و لا يكون له عليه تعويل, بل يجب عليه أن يكون قدوة حسنة في أقواله و أفعاله و سيرته فعفوتها ولله الحمد ة لا آخذ منها شيئا.(1/50)
…على أن حلق اللحية على ما ذهب إليه جمهور الأئمة من التحريم لا يتعدى أن يكون من الصغائر و لا يصل إلى حد الكبائر, و قد بسط القول في ذلك شارح العقيدة الطحاوية انظر كلامه في ص 356 فقد اختار في حد المعصية الكبيرة أنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب و هذا أمثل الأقوال اه. و الصغيرة ضدها و هي مالن يترتب عليها حد أو توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب ثم قال: و ترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو النأثور عن السلف كابن عباس و ابن عيينة و ابن حنبل(رضي الله عنهم) و غيرهم.
…و لا أقول ذلك تصويبا لحلق اللحية أو تهوينا لشأنه فإن الواجب على كل مسلم أن تكون له في رسول الله أسوة حسنة و أن يبدل جهده في موافقة قدوته و إمامه صلوات الله و سلامه عليه في الظاهر و الباطن, و لكني أعجب لهذا الإنسان الذي يأتي باطوام الكبرى التي لا تحلق الشعر بل هي الحالقة للدين و المروءة ثم لا يجد ما يطعن به في أحد الدعاة إلى الله على بصيرة إلا بالتشنيع عليه في معصية من الصغائر قد تاب منها و تركها و هذا من الإفلاس.
…الثاني: زعمه أن شقيقه ـ و هو عوض أبيه و ليس له و لا عشر معشار علمه و عقله ـ زعم أنه أرسل إلي رسولا و هو كاذب مفتر فإنه لم يرسل إلي قط إلا أخاه السيد الزمزي في طلب الصلح كما تقدم.(1/51)
…الثالث: قوله: إني قلت له: معنى الحديث أعفوها إن شئتم, أقول فيه: سبحانك إن هذا بهتان عظيم, لو أرسل إلي رسولا و أجبته بذلك فإن العادة تقضي عليه أن يحضر دروسي بالجامع الكبير بتطوان, و كان يحضرها فئام من الناس من الموافقين و المخالفين, فلو قلت ذلك لسمعه الحاضرون. و قد سئلت عن هذا الحكم في تلك الأيام مرارا و تكرارا فأجبت بما تقدم من التأويل و كل من كان يحضر دروسي يعلم ذلك و لا يشك في كذب هذا المفتري و سيزداد كذبه و ضوحا حتى يصير كشمس الضحى ليس دونها غمام { و من يهن الله فما له من مكرم }[الحج:18] و حين إذن يعلم أنه كان في ذلك كاباحث عن حتفه بظلفه, و كالجادع بكفه مارن أنفه فنعوذ بالله من الخذلان.
…الرابع: قوله: و قد انتقل ذلك الضال إلى بعض مدن الجنوب عاملا على بذر بذور الشقاق و التفرقة بين المسلمين, أقول: هذا مضرب المثال:(رمتني بدائها و انسلت), أتدري أيها المأفون الذي يهرف بما لا يعرف لماذا انتقلت إلى الجنوب؟ لأن الاستعمار الفرنسي كان قد نفاني من وطني الجنوب و من الجزائر و تونس أيضا, و لم نر أحدا من المنفيين نفاه الفرنسيون مثل هذا النفي المشدد و بذلك تعلم ما أدركت من الشقاء حين تجرأت على الاستعمار بوقاحة ليس لها نظير.
……ياليت لي من جلد وجهك رقعة……فأقد منها حافرا للأدهم
مثلك يتجرأ على ذم الاستعمار, و قد نشأت أنت و من معك إلا في حجر الاستعمار و هل جلب عليك و على إخوتك الشقاء إلا تقلص ظل الاستعمار؟!(1/52)
…الخامس: أن هذا المفتري لما رأى دعوتي إلى توحيد الله و التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مكناس و نواحيها قد أينعت و آتت أكلها شوا الحسد قلبه فسمى ذلك شقاقا و تفرقة بين المسلمين, و لو كان له من الحياء و التفكير فيما يقول مثقال ذرة لاستحى أن يذكر التفرقة بين المسلمين و يرمي بها بريئا حنيفا و يحتمل بهتانا و إثما مبينا, و هل كتابك هذا من أوله إلى آخره الذي شتمت فيه الأولين و الآخرين ـ لا شتم الأشراف بل شتم أرذال السوقة ـ إلا شقاق, و نفاق و تفرقة بين المسلمين؟! و إلا فمسألة التيمم واضحة و قد قتلها الناس بحتا من قبل أن تميز و الحق فيها واضح, أنا أدعوا الناس إلى أمرين في كل مكان دعوة فيه إلى الله في الشرق و الغرب و في أوروبا.
…أولهما: تحقيق معنا لا إله إلا الله بجعل جميع أنواع العبادة, من دعاء و استغاثة, و استعانة فيما يخرج عن الأسباب, و نذر, و حلف, و توكل, و استعاذة, و استمداد و عبودية, و خوف, و رجاء, و جعل شيء من الأحكام الخمسة, و صلاة, و صيام, و صدقة, و حج, و سفر يراد به التقرب إلى الله, و ما أشبه ذلك, لله وحده لا شريك له لا يجعل شيء منه و لا مثقال ذرة لملك مقرب و لا لنبي مرسل و لا غير مرسل و لا لصديق و لا لصالح و لا لأحد من الجن و الإنس فهذا مجمل الأمر الأول.(1/53)
…الأمر الثاني: تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم بامتثال ما أمر و اجتناب ما نهى عنه و زجر, و أن لا يحول دون اتباعه حب شيء من المحبوبات الثمانية المذكورة في قوله تعالى: { قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخونكم و أزوجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة 24. و يدخل في العشيرة المذهب و الطريقة و الحزب, و من يعد هذين الأصلين الذين قامت عليهما الحنيفية السمحة ملة إبراهيم و خير أبنائه بل خير خلق الله على الإطلاق محمد رسول الله صلى الله عيله و سلم, و من يعد ذلك شقاقا و تفريقا بين المسلمين إلا شيطان رجيم أفاك أثيم؟!
…السادس: قوله: و إني أعتقد أنه مستأجر من جمعية التبشير الانكليزية أو الأمريكية لإيقاع التفرقة بين المسلمين لأن التفرقة بينهم هي الوسيلة التي ينال بها الاستعمار أغراضه. أقول:
……و إذا استوت للنمل أجنحة……حتى يطير فقد دنى عطبه(1/54)
…بهذا الكلام أمكن هذا الغبي من نفسه و عرضها للهلاك ألا تعلم أيها البليد أن الناس لهم أعين يبصرون بها و آذان يسمعون بها و قلوب يفقهون بها, فأقرب الناس إليك من حيث السكنى أهل طنجة يكذبونك و لو استطاعوا لرجموك بالحجارة فاسألهم ماذا فعل السفير الفرنسي حين رجع الحلفاء الغربيون إلى طنجة حين دب الضعف إلى قوة ألمانيا الهترلية يخبرونك و يخرجون لك الجريدة الرسمية بالعربية و الفرنسية و فيها ما معناه: أن محمدا تقي الدين الهلالي من و كلاء ألمانيا و قد طلب السفير الفرنسي من الفسفير الانكليزي و السفير الأمريكي يعني سفير الولايات المتحدة الأمريكية أن يوافقوه على القبض عليه متى دخل حدود طنجة الدولية فوفقه السفيران على ذلك, و حينئذ انهالت علي المحاثات الهاتفية من طنجة تحذرني من دخولها فهلا سألت الناس يا مغرور قبل أن تسطر ذلك الخزي المبين؟.(1/55)
…و لما أردت السفر قافلا إلى العراق كتبت إلى السفارة المصرية من تطوان أطلب منها سمة الدخول إلى القطر المصري فبعث إلي قنصلها استمارة طلب مني أن أملأ مواضع البياض فيها و هي مكتوية بالانكليزية, و من جملت ذلك هل عندك سمة تمكنك من الخروج من مصر إلى لبنان؟ و لم أجد ما أملأ به هذا الموضع, فكتبت إلى أمير البيان المجاهد الأكبر حقا الأمير شكيب أرسلان و كان لا يزال منفيا في جنيف بسويسرا, فكتب إلي يقول: إن لي فضلا على رئيس الجمهورية اللبنانية (بشار الخوري) لإغني أنقذت أباه من الموت في زمان حكم الأتراك العثمانيين و لم أقتصر على ذلك حتى طلبت له راتبا من الدولة العثمانية, فاكتب إليه كتابا و ابعثه إلي و أنا أشفعه بكتاب آخر من عندي ليبعث إليك سمة الدخول إلى لبنان لتتمكن من الدخول إلى مصر, فكتبت إليه الكتاب و بعثه هو إلى رئيس الجمهورية اللبنانية, فجاءني كتاب من وزارة الخارجية اللبنانية, موجه إلى القنصل الفرنسي في تطوان يلتمس منه أن ينوب عن وزارة الخارجية اللبنانية في إعطاء الدكتور محمد تقي الدين الهلالي سمة الدخول إلى لبنان, و كان هذا القنصل قد طلب من المستعمرين الإسبانيين إنزال العقوبة بي ثلاث مرات للمقالات التي نشرتها في صحيفة الحرية في محاربة الفرنسيين, و الدفاع عن الملك المجاهد الراحل محمد الخامس قدس الله روحه على رغم أنف أصحاب الطرائق المبتدعة الذين كانوا يعادونه خدمة للاستعمار و خيانة للمسلمين.(1/56)
…فأخذت كتاب وزارة الخارجية و توجهت إلى السفارة الفرنسية في تطوان, و لم يكن لهم في ذلك الوقت سفير و إنما كان لهم قنصل, فلما رآني عبس و بسر و لم يأذن لي في الجلوس على الكرسي بل تركني واقفا انتقاما مني لجهادي الذي أقض مضجعه ـ و اسم هذا القنصل سوفوليس ـ و لما قرأ الكتاب قال لي بعنف و غضب: هؤلاء قد استقلوا و لم يبقى بيننا و بينهم علاقة, فقلت له: اكتب لي هذا الجواب فقال: أنا لا أستطيع أن أكتب حتى أكتب إلى المقيم العام في الرباط فهو الذي يستطيع أن يجيب في هذه القضية و سأكتب له فانتظر الجواب, فقلت: كم أنتظر؟ فقال: شهرين. فانتظرت شهرين ثم جئته, فلقيني بغير الوجه الأول و وضع لي كرسيا للجلوس عليه و قال: إن المقيم العام في الرباط قد وافق على إعطائك سمة الدخول و لكن بشرط أن لا تمر لا على الجزائر و لا على تونس أما فرنسا يمكنك المرور عليها, و لكن بشرط أن نتحقق أن عندك ما يكفي للنفقة على نفسك في مرسيلية لمدة شهر, لأن البواخر التي تسافر منها إلى بيروت بعد الحرب قليلة فقلت له: أعطني سمة الدخول إلى لبنان و دعني أفكر في طريق سفري فإن قررت السفر بطريق فرنسة رجعت إليك, ثم أراد أن يكفر عن ذنوبه السابقة فقال: إن أعداء فرنسة ينفقون الأموال الكثيرة لبث الفتنة و العداوة بين الفرنسيين و المغاربة و ينبغي للفرنسيين و المغاربة أن يتعاونوا على المصلحة العامة و لا يندفعوا مع الأعداء الذين لا يريدون بهذا الوطن إلا شرا, فقلت له: أما قولك إن أعداء فرنسة ينفقون الأموال إلى آخره فأنا لست ممن يشترى بالأموال و إنما أنا من المدافعين عن أوطانهم و قد اتفق العقلاء و النبلاء على أن هذا مقصد شريف, ثم قلت له: إن السفير الفرنسي في طنجة ذهب إلى السفير الانكليزي و سفير الولايات المتحدة و قال لهما: إن محمدا تقي الدين الهلالي وكيل لألمانيا و طلب منها الموافقة على نفيي من طنجة و أنا لست و كيلا لألمانية و إنما أنا و كيل(1/57)
للمغرب و هو وطني أدافع عنه, فقال لي: لست مسؤولا عما يقوله السفير الفرنسي في طنجة, و إنما أريد أن تعلم و تقول: أن مسيو سوفوليس القنصل الفرنسي بتطوان تلاقاني باستقبال حسن, فأردت امتحانه و قلت له: إنني عازم على السفر إلى العراق و أنت تعلم أني منفي من وطني في الجنوب منذ زمان طويل فإذا أردت أن أتوجه إلى الرباط لأودع أستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي و غيره من الأصدقاء أتأذن لي في ذلك؟ فقال: ذلك ليس إلي و لا هو بيدي و إنما هو بيد المقيم العام في الرباط فإن أردت أن أكتب إليه و تنتظر الجواب, فقلت لا تكتب إليه الآن حتى أعزم على ذلك فقال لي: اذهب إلى الكاتب يعطيك سمت الدخول إلى لبنان فذهبت إليه فطلب مني ثمانين بسيطة أي درهما إسبانيا فسلمتها له فأعطاني السمة.
…هذا ما كان من أنر الفرنسيين معي و معاملتهم لي في تطوان و طنجة. و نسيت أن أقول: إن صحيفة الحرية التي كانت لسان حزب الإصلاح الوطني عطلت بسبب مقالاتي التي أغضبت القنصل الفرنسي ثلاث مرات, كل مرة شهرا, و غرمت ألف بسيطة في كل مرة.
…أما عداوت الانكليز لمؤلف هذا الكتاب فهي كالشمس في رابعة النهار. و لولا أن مؤلف كتاب التيمم يعيش بين جدران الزاوية و في سطحها للا طلاع على العورات أو في المقاهي و المتنزهات ـ على خلاف ما يدعيه من التصوف الكاذب ـ و لا يعرف من أخبار الدنيا الماضية و الحاضرة شيئالعرف عداوة الاستعمار و محاربته لي التي بلغت في الوضوح عند أهل المغرب و المشرق أنها لا تخفى إلا على أعمى البصيرة, فمن أدلة عداوة الانكليز و محاربتهم لي أنهم سبوني مرارا و تكرارا في إذاعتهم العالمية من أول ابتداء الحرب إلى نهايتها و السامعون في مشارق الأرض و مغاربها لا يزالون أحياء يرزقون.(1/58)
…و هل علمت يا مسكين أنني أول ما لقيت المجاهد الكبير السيد أمين الحسيني في برلين نوه بجهادي و محاربتي للاستعمار بلساني و قلمي و خطبي المجلجلة في إذاعة برلين العربية التي كان يهتز لها طربا كل مجاهد مخلص في الشرق و الغرب, و كان يشرق بها كل مدجل من عبيد الاستعمار خائن غدار. و بلغ صاحب السماحة الأمين الحسيني ـ بارك الله في حياته ـ من تعظيمي إلى أن قال ذات يوم للزعيم عالي الكيلاني ـ كبير آل الشيخ عبد القادر الكيلاني و رئيس وزاراء العراق سابقا الذي قاد ثورة مروعة على الاستعمار البريطاني في العراق ـ قال له ما نصه:أسأل الله أن لا يحرمنا من وجود أمثال الشيخ محمد تقي الدين الهلالي, و قال كلاما أعظم من هذا تركته اقتصادا, و استمر على التنويه بجهادي إلى يومنا هذا. و آخر مرة نوه بجهادي كانت بقصره بظاهر بيروت في الصيف الماضي حين دعاني إلى مأدبة جمعت كثيرا من أهل الفضل و العلم و الأدب.(1/59)
…و أورد لك هنا أيها المسكين شهادة أخرى و زنها عند المجاهدين ثقيل ألا وهي شهادة المجاهد المغربي العظيم السيد محمد بن عبد الكريم قائد ثورة الريف المشهورة التي بهرت العالم, لأنه حارب دولتين أوربيتين هما فرنسة و إسبانية لمدة سنتين لما ذهبت لزيارته بالقاهرة في صيف سنة سبع و أربعين و تسعمائة و ألف بتاريخ النصارى كان مريضا في الطبفة الرابعة ملازما للفراشو و جاء خلق كثير إلى مقصورة الاستقبال من الصحفيين و رجال الدولة المبرزين فاستقبلهم أخوه و سميه المجاهد محمد بن عبد الكريم و اعتذر لهم عن حضور الأمير بأنه مريض, و لكن لما أخبر بوجودي مع الزائرين أمر في الحال بأن أحضر عنده فجلست على كرسي إلى جانب سريره, فتلقاني بغاية الشوق و المحبة و الترحيب و قال لي: لم يكن شيء يسلسني في منفاي و غربتي مثل خطبك البليغة الرائعة التي كنت تلقيها في إذاعة برلين العربية, فأثنيت على جهاده و فضله فقال لي: أنت مجاهد أكثر مني, و ما كنت لأغتر بهذه الكلمة التي صدرت من هذا الرجل العظيم لشدة إعجابه بتلك الخطب.
…فكيف مع ذلك تتجرأ أن تصمني بخدمة الاستعمار و أخذ الأجرة من دعاة النصرانية الأوربية أو الأمريكية؟! و من يصدقك في هذا؟ و متى رأيت أنت أو رأى أحد البشر غيرك جماعة من دعات النصرانية تبذل الأموال لدعوت الناس إلى توحيد الله و اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم؟! فقد انقلبت هذه الجماعة من دعوتها إلى النصرانية إلى الدعوة إلى الدين الحنيف ملة إبراهيم! و من كان يعطيني أجرة على الدعوة إلى الله في صعيد مصر حينكنت أنت لم تخرج إلى الدنيا سنة1341هـ؟ و من كان يعطيني أجرة على الدعوة إلى الله في تطوان؟! و من كان يعطيني أجرة في الدعوة إلى الله قي بغداد؟!. أنا لم أعش بالدين قط مع أني و لله الحمد على دين الحق.
……و ما أنا بالباغي على الحب رشوة……ضعيف هوى يبغي عليه ثوابا(1/60)
…و لكنك أنت و من يحلب في إنانئك تعيشون و تأكلون بدين الشركو تصدون الناس عن سبيل الله و تبغونها عوجا, و سنرى من يصدق الناس كلامه أأنت أم أنا, و لكن كما جاء في المثل بل هو من كلام النبوة القديمة(إذا لم تستحيي فاصنع ماشئت) و نظمه بعضهم فقال:
……فلا و الله ما في الدين خير……و لا الدنيا إذاذهب الحياء
……إذا لم تخش عاقبة اليالي……و لم تستحيي فاصنع ما تشاء …
…و قد سمعت بعدما رجعت من العراق إلى المغرب بعد الاستقلال أن أخاك لعلامة المحقق الشيخ أحمد بن الصديق ـ الذي تدعي الاقتداء به زورا و بهتانا و أنت سالك غير سبيله ـ حين رجع المجاهد الأكبر في المغرب العربي محمد الخامس رحمة الله عليه إلى عرش آبائه الأكرمين توجه إليه و طلب أن يدخل عليه للسلام و التهنئة, فرفض الملك أن يأذن له, ثم توجه إلى مصر و سمعت أن الحكومة المصرية اتهمته و أخاه بالتجسس فحكمت عليه بسجن طويلو على عبد الله بالسجن المؤبد كما يسمونه, و أسفت لذك لما أعرف فيه من العلم و الفضل و لما عاملني به من البر و الكرم, و إني لأرجوا أن يكون الله سبحانه و تعالى قد ختم له بالحسنى فتاب من الطريقة و من كل ما كان مخالفا لعقيدة السلف الصالح. و الله على كل شيء قدير.
…أما أنت فلا أعرفك و لا تعرفني و لكن غلبت عليك شقوتك فتعرضت لشتمي بدون مناسبة, أما قولك في الوهابية فسأفرد له كتابا علميا ليس فيه لغو و لا تهور و لا شتم و لا كذب و سأسميه) الدفع بالتي هي أحسن ) و قد جنيت على نفسك, و على أهلها براقش تجني و أقول لك غير مفتخر:
……و إن لساني شهدة يشتفي بها……و هو على من صبه الله علقم
…و أنشد أيضا:
……دعاني لشب الحرب بيني و بينه……فقلت له: لا لا هلم إلى السلم
……فلما أبى ألقيت فضل عنانه……إليه فلم يرجع بحزم و لا عزم
……فكان صريع الخيل أول وهلة……فبعدا له مختار جهل على علم(1/61)
…و قد تعرض لي لما كنت مقيما في الشمال زمان الاستعمار رجال لا تساوي أنت قلامة ظفر أحدهم, فانقلبوا خائبين, لأني بالله أستعين و إياه أستنصر و أستهديو أدعوا إلى سبيله على بصيرة, لا أريد بدعوتي إلا وجه الله و منه أرجوا القبول, فقل لي بالله: أي فائدة في الدعوة إلى رد التقليد و حده مع نصر الشرك الأكبر و عقيدة الاتحاد و تقديس إمامها ابن العربي الزنديقالذي أجمع الأئمة على كفره؟!
…و لا يتسع المقام هنا لذكر أسماء الأئمة الذين حكموا بكفره في عصور مختلفة و قد ألف الإمام إبراهيم بن عمر البقاعي الحافظ كتابين في إقامة البرهان على كفر ابن الفارض وابن عربي أحدهما سماه تنبيه الغبي إلى تكفير بن عربي, و الثاني سماه تحذير العبا من أهل العناد ببدعة الاتحاد, أقام البرهان فيه على كفر ابن الفارض و أمثاله من أصحاب وحدة الوجود و نقل في هذين الكتابين نقولا وافية شافية عن اثنين و ثلاثين إماما من بلدان مختلفة في عصور مختلفة نقتصر على ذكر اثني عشر إماما منهم لهم قدم صدق عند جميع المسلمين: الأول سلطان العلماء الإمام عز الدين ابن عبد السلام, الثاني الإمام ابن دقيق العيد, الثاث الإمام الحافظ زين الدين العراقي, الرابع شيخ الإسلام ابن تيمية, الخامس تلميذه الحافظ شمس الدين بن القيم, السادس الإمام أبواحيان الأندلسي, السابع الإمام تقي الدين السبكي, الثامن الإمام جمال الدين ابن هشام صاحب المغني, التاسع الحافظ محمد ابن أحمد بن عثمان الذهبي مؤلف تذكرة الحفاظ, العاشر الإمام الحافظ تقي الدين الفاسي مؤلف تاريخ مكة, الحادي عشر إمام الصوفية في عصره أبو القاسم القشيري, الثاني عشر الإمام السهروردي مؤلف عوارف المعارف, فأي امرئ عنده ذرة من الإيمان والنصيحة لنفسه و للمسلمين يخالف هؤلاء الأئمة و يقدس الشيخ الأكفر ابن عربي الحاتمي و شيعته؟!لا جرم أنه لا يفعل ذلك إلا زنديق مثلهم. و لا يجوز التوقف في الحكم عليهم، قال الإمام(1/62)
البقاعي في كتابه تحذير العباد المتقدم الذكر ما نصه: ( و لا يسع أحدا أن يقول: أنا واقف أو ساكت لا أثبت و لا أنفي لأن ذلك يقتضي الكفر, لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة و من شك في كفر مثل هذا كفر, و لهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: من شك في اليهود و النصارى و طائفة ابن عربي فهو كافر ).
الحدث الثاني في تطوان و نواحيها
…و ضعت حاشية على كتاب كشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب و طبعتها و نشرتها, و لكني استعملت في ذكر اسمه ما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ, و هو جائز بل مستحسن إذا أريد به الإصلاح, و ذلك أن الشيخ يكون له اسمان اشتهر بأحدهما و لم يشتهر بالآخر قيذكره الراوي عنه بالاسم الذي لم يشتهر به لمصلحة في ذلك, أما إذا فعل ذلك ليوهم الناس علو سنده و ترفعه عن الرواية عنه ليوهم الناس أنه لا يتنزل للرواية عن مثله لصغر سنه أو عدم شهرته و غير ذلك من حظوظ النفس الأمارةفهو مذموم, و قد سميت الشيخ محمد بن عبد الوهاب محمد بن سليمان الدرعي فنسبته إلى جده ثم نسبته إلى الدرعية و ذلك حق فهي بلدته و لكن لم يشتهر بذلك, و زاد الأمر غموضا أن في المغرب كورة تسمى (درعة) و النسبة إليها درعي, فنجحت فيما قصدته من ترويج الكتاب, فقد طبعت ألف نسخة فبيعت في وقت قصير, و لم يتفطن أحد لذلك حتى الشيخ أحمد بن الصديق مع سعة اطلاعه و علو همته في البحث و كثرة ما في خزائنه من الكتب بقي في حيرة لأنه بحث في تاريخ المنسوبين إلى درعة فلم يجد أحدا منهم بذلك و لا أثر عنه هذا الكتاب, فبعث إلي يسألني عن هذا المؤلف من هو فأخبرته بالحقيقة, و لما اطلع العالم الأجل مفتي المملكة العربية السعودية و شيخ شيوخها محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه على هذا العمل استحسنه كل الاستحسان. و إنما فعلت ذلك لأن المتأخرين من رجال الدولة العثمانية حرضوا شرار العلماء في جميع البلاد الإسلامية على تشويه سمعة الشيخ محمد بن(1/63)
عبد الوهاب و كذبوا عليه, و أوهموا أتباعهم أنه جاء بدين جديد, و أنه يتنقص جانب النبي الكريم و يكفر المسلمين, إلى غير ذلك من الأكاذيب. و قد تبين لأكثر الناس بطلان تلك الدعوى و علوا علم اليقين أن محمد بن عبد الوهاب من كبار المصلحين الذين فتح الله بدعوتهم عيونا عميا و آذانا صما, و أنه أحيا العمل بكتاب الله و سنة رسوله في ججزيرة العرب بعدما كاد يندثر. و إلى الآن لا يزال بعض الغربان ينعقون بسبه كالغراب الذي تقدم ذكره, و ذلك لا يضره: إن كانوا مسلمين فإن سبهم له يجعل حسناتهم في صحيفته و إن كانوا مشركين فإن الله يزيدهم عذابا.
…و لما طبع هذا الكتاب غضب عباد القبور و أصحاب الطرائق و خطب كثير من أئمة المساجد خطبة الجمعة و نبهوا المستمعين إلى ما في هذا الكتاب من لضلال بزعمهم, لأن توحيد الله عندهم أعظم الضلال و لكن لم يستمع لهم أحد, أما العلماء المحققون, كالأستاذ محمد الطنجي و الأستاذ المجاهد عبد السلام المرابط و الأستاذ العبقري عبد الله كنون فإنهم رحبوا بطبع هذا الكتاب و أثنو عليه و على مؤلفه و ناشره, و لا يضر السحاب نبح الكلاب.
…ما ضر بدر السما في الأفق تنبحه……سود الكلاب و قد مشى على مهل
…ثم طبعت رسالة زيارة القبور مع حواشي قليلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية و سميته أحمد بن عبد الحليم الحراني, و لم أذكر لفظ بن تيمية للعلة السابقة الذكر, فراح الكتاب و انتشر و نفع الله به المسلمين, و لما بعثت من كل من الكتابين نسخة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فرح بنشرهما و استحسن الطريقة التي سلكتها لبعد نظره و وفور عقله و حكمته.(1/64)
…و قد جربت في بلاد المغرب في الشمال و الجنوب أن نشر كتب التوحيد و اتباع السنة يتوقف على نجاح الدعوة إلى الله في المساجد فإذا درس الداعي كتابا من كتب التوحيد و بين للمستمعين ما فيه من كنوز العلم و الحكمة يرغب المستمعون في اقتناء ذلك الكتاب, و بقراءته تتسع معرفتهم للحق و يزدادون اطمئنانا و يقوى إيمانهم و تندفع عنهم الشبهات. فمن ذلك: أنني درست في الجامع الكبير كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب و ختمته في ذلك المسجد مرتين, فانتشر هذا الكتاب انتشارا عظيما حتى أني طلبت من جلالة الملك فيصل جزاه الله عنا و عن المسلمين أحسن الجزاء, بواسطة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بارك الله في حياته أن يمدني بنسخ من فتح المجيد, فأمر بإرسال ثلاثمائة و ثلاث و أربعين نسخة بالبريد الجوي, فبدا لي أن لا أوزعها مجانا لأمرين:أحدهما: أنني لا آمن أن تقع بعض النسخ في أيدي أعداء التوحيد فيحرقوها, و قد رأيناهم يفعلون ذلك في المشرق و المغرب فإذا فرضنا أن شخصا أو أشخاصا بلغ بهم التعصب إلى أن يشتروا الكتاب و يحرقوه فإن ذلك لا يضرنا, لأننا نجمع دراهمه و نطبعه مرة أخرى و لا شك أنه لا يفل ذلك منهم إلا قليل, لأن الناس مجبولون على حب المال و البخل به و لا يبدلونه إلا فيما هو أحب منه إليهم, الأمر الثاني: ما قاله المؤلف الإنكليزي الطائر الصيت( برناردشو) أن الكتاب الذي لا يدفع ثمنه لا يقرأ.(1/65)
…فبيعت تلك النسخ كلهاإلا قليلا منها منحته للمستحقين و لم آخذ منهم ثمنا لعلمي بفقرهم و صدقهم. بيعت في مدة قصيرة و صار الكتاب في حكم المفقود, و كنت أبيع النسخة بستة دراهم فقط, و لم يكن يروج إلا في البلدان التي تلقى فيها دروس التوحيد كمكناس و تطوان و أرفود, أما مكناس و أرفود فإنني ألقي فيهما دروسا في التوحيد و أما تطوان فقد تقدم أني دعوت إلى التوحيد فيها, و في هذا الزمان يوجد فيها داع و هو أخي الأستاذ محمد العربي الهلالي, و صار الناس في هذه النواحي يبحثون عن هذا الكتاب ليشتروه بضعف ثمنه فلم يجدوا منه شيئا, و لما ذكرت ذلك لصاحب السماحة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه و أخبرته أني جمعت من بيع تلك النسخ ألفا و ثمانمائة ريال سعوديا قال لي: و أنا أنبرع بستمائة ريالتضاف على ذلك ونشترك في طبعه من جديد, و الكتاب الآن تحت الطبع, و ذكرت ذلك أيضا للعام الجليل بقية السلف الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ أمتع الله المسلمين بطول بقائهفوعدني بتحصيل ألف نسخة, وهو كريم لا شك أن يفي بوعده, و هذا الكتاب مع وجود الداعي الناجح في دعوته يساعد على نشر الدعوة مساعدة عظيمة لا ينقضي منها العجب. أما البلد الذي ليس فيه داع فإنه لا يروج فيه أصلا, فقد بعثت خمس نسخ إلى مدينة مشهورة في المغرب فبيع منها في سنة ثلاث نسخ فقط.
الحدث الثالث
هم جماعة من الناس بقتلي
…و هذا الحدث فيه عبرة لمن اعتبر. فإني أصبت بداء الربو في تطوان و اشتد علي ففرح المشركون عباد القبور و أصحاب الطرائق و قالوا إن الولي الأكبر رئيس الأولياء في تطوان و اسمه السعيدي و له ضريح عليه قبة يعبده كثير من الناس, و إذا قحطوا يذهبون إليه و يسألونه المطر و يوافقهم سفهاؤهم الذين يسمونهم الفقهاء.(1/66)
…فبينما أنا مريض ملازم للفراش في بيت منفرد خارج تطوان و زجاج طاقته مكسور, فمن أراد أن يرميني برصاصة لا يحتاج إلا إلى حجر واحد يضعه إلى جانب الجدار فيطل علي و يرميني, بينما أنا كذلك جاءني أحد تلامذتي ـ و هو السيد محمد العبودي ـ فقال لي: إن فلانا جاءني و قال لي: إنه هو و أمير قبيلة عروس و جماعة معهم عدد الجميع خمسة و عشرون رجلا قد اجتمعوا في بيت أحدهم و تعاهدوا على قتلك و جمعوا الدية حتى إذا كان لك ورثة يدفعونها لهم, و قال لي: إن صاحبكم في حكم الأموات فعما قريب نقتله و نريح الناس من شره, لأن الوقاحة بلغت به إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش, قال لي ذلك و أنا مريض ملازم للفراش كما تقدم فقلت:{لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}التوبة:51,52.
…و لما أصبحت تكلفت المشي إلى الزعيم عبد الخالق الطريس رحمه الله و أخبرته الخبرفقل لي: إن هذا الرجل و من معه هم أتباع و أقرب خالد الريسوني أمير العرائش و قد أطلق المستعمرون يده يفعل ما يشاء ففوض أمرك إلى الله و توكل عليه, فقلت له: هذا هو الرأي الذي عزمت عليه و إنما قصدت إخبارك.(1/67)
…و مضت على ذلك سنتان و أنا أقاسي ألم الربو و أبيت الليلي الطوال جالسا أسعل و ألهث, و كلما اشتدت نوبة الربو تخور عزيمتي و أقرر في نفسي أنني متى أقلعت عني هذه النوبة أذهب إلى القنصل الفنسي و أستسلم و أطلب العفو, لأني أعلم بواسطة الأطباء أن دوائي هو الهواء الناشف, و الأراضي الشمالية التي بأيدي الإسبنيين كلها رطبة قريبة من البحر الأبيض بحر الروم, و يسمى الآن عند الأوروبيين و من تبعهم بما معناه البحر الأبيض المتوسط و هو الذي عليه مراسي شمال المغرب و الجزائر و تونس و طرابلس ـ التي تسمى اليوم ليبيا ـ و الإسكندرية و بيروت و مراسي أوروباو البلاد التركية, فأعرض مكان في هذا القسم من المغرب لا يزيد طوله على ثلاثين ميلا و هو مستطيل من الغرب إلى الشرق, و لكني حين تزول عني نوبة الربو تعود إلي شجاعتي و تجلدي, بقيت على ذلك ثلاث سنينو نصف إلى أن يسر الله لي الرجوع إلى العراق و لم أستسلم, و تقدمت محاورتي مع القنصل الفرنسي في تطوان, و قد فررت من الرطوبة إلى غرناطة من بلاد الأندلس و أقمت فيها أربعة أشهر, و لكنها هي أيضا ليست بعيدة من البحر.(1/68)
…ثم رجعت إلى تطوان و قيل لي أن مدينة شفشاون على جبل عال بعيدة من البحر نحو خمسة عشر ميلا فلو جربت الإقامة بها, فسافرت إليها يرافقني تلميذي الحاج أحمد هارون بارك الله فيه, فلما أردنا أن نأخذ غرفة في الفندق الجميل المخصص لسائحين امتنع صاحبه ـ و هو نصراني إسباني ـ أن يعطينا غرفة لما رآني أسعل و ألهث و أبصق في كل حين, و رأى أن ذلك يتقزز منه النازلون في الفندق و كلهم من المترفين, فبيقت في مكتب الفندق جالسا على كرسي أفكر أين أنزل, فجاءني رجل أبيض أشيب تدل هيئته على أنه من أعيان البلد, فقال لي: تعرفني؟قلت: لا. فقل لي: أنا أحمد الريسوني و أنا من المحبين لك و أنا مستعد لإنزالك في بيتي على الرحب و السعة سأكون سعيدا بإقامتك عندي ما شئت من الزمن, و لكن الحكومة سنت قانونا يمنعنا من إنزال الضيوف عندنا في الليلت الأولى, و يوجد هنا فندق حقير يمكن أن تمضي فيه هذه الليلة و في الغد تنزل في بيتي فقلت له: جزاك الله خيرا, فأمضيت تلك الليلة في ذلك الفندق الذي أخبرني به ثم نزلت عنده بضعة أشهر و أكرمني غاية الإكرام.(1/69)
…و حين استقررت في بيته حكى لي حكاية المؤامرة على قتلي بالتفصيل فقال لي: بلغنا أنك تطعن في كرامة الأولياء و تطعن بالخوص في جدنا عبد السلام بن مشيش, فغضبنا لذلك و عزمنا على قتلك و جمعنا ديتك أنا و فلان و أمير بني عروس و معنا اثنان و عشرون رجلا, و لم يبقى لنا إلا أن نشاور رئيسنا سيدي خالد الريسوني فذهبنا إليه ثلاثتنا و تكلم أمير بني عروس و هو يبكي و قال: يا ابن العم لا خير في الحياة بعد أن نسمع القدح و الطعون في شيخ الشيوخ و إمام العارفين جدنا عبد السلام بن مشيش و الذي يطعن فيه و ينتهك حرمته رجل غريب حقير و هو فلان ـ و سماني ـ و قد عزمنا على قتله و جمعنا ديته و ما بقي لنا إلا إذنك, فأيدت أنا و فلان كلامه و إذا بالأمير خالد يتكلم و يقول: إن محمدا تقي الدين الهلالي عالم من خيرة العلماء و أنتم لا تعرفونه و أنا أعرفه, و جدنا عبد السلام عالم فاتركوا العلماء إذا تكلموا بعضهم في بعض فليس للجهال أن يتعرضوا لهم. ثم قال لنا: أيكم سمع طعنه في جدنا؟ فقلنا هذا متواتر على ألسنة الناس, فقال: الناس يكذبون و يفسدون في الأرض و لا يصلحون. كل منكم ينصرف إلى شأنه و اتركوا هذا الأمر فهذا ليس من شأنكم.(1/70)
…قال: فأما أمير بني عروس فقد رضي بقوله و لم يبقى في قلبه شيء و قال: يا ابن عمي أنت عالم و نحن جهال إذا أخطأنا تردنا إلى الصواب قال: أما أنا و فلان ـ و لم أسمه لأنه حي يرزق و لم يبلغني ندمه على ذلك ـ فإننا لم نقتنع بما قاله لنا سيدي خالد و لكننا لا نستطيع أن نعمل شيئا بدون رضاه قال: فتفرقنا فانطلق فلان إلى أهله و توجهت أنا إلى تطوان لا ألوي على شيء حتى لقيت وزير الأوقاف محمد بن موسى فقلت: أيها الوزير أما تخاف الله تعطي من أوقاف المسلمين خمسمائة بسيطة لهذا الضال المضل الهلالي الذي ما ترك أحدا إلا طعن فيه؟! طعن في مذهب الإمام مالك و رجاله و طعن في الأولياء كلهم و أنكر كرامتهم و بلغت به الوقاحة إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش قال: فقل لي الوزير: أنت سمعت منه ما ذكرت؟ قلت: لا و لكنه خبر متواتر, قال: فقا لي: لا ينبغي لنا أن نحكم بقيل’ و قال: إنه يلقي ثلاثة دروس في كل أسبوع فماذا يضرك أن تحضر دروسه و تسمع كلامه, قال: فقلت: أفعل إن شاء الله.
…قال: و أقمت أسبوعا في تطوان حضرت دروسك فيه فما سمعت إلا خيرا و ندمت على ما كان مني. و قد مرت علي سنتان طالما هممت أن آتيك و أطلب منك العفو فلم أوفق إلى أن سنحت لي هذه الفرصة السعيدة, فحياك الله و أهلا و سهلا بك. 67
…و وجدت أن هواء شفشاون خصوصا في الصيف أقل ضررا من هواء تطوان فبقيت فيها خمسة أشهر إلى أن حدثت الحادثة الآتي ذكرها إن شاء الله.
معركة مع شيخ متصوف من أهل تطوان(1/71)
…كان هذا الشيخ ـ و لا أسميه ـ كأكثر متصوفة الوقت آلة بيد المستعمرين يمدحهم و يثني عليهم, و قد و لوه وزارة العدل في وقت من الأوقات و جعلوه رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى في و قت آخر, فضيفني أول ما قدمت تطوان و أملى علي الحديث المسلسل بالأولية إلى سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:{ الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}أخرجه جماعة منهم البخاري في الأدب لمفرد و أبو داود و الترمذي و صححه. و فعل ذلك طمعا أن أرويه عنه و أنا لا أروي شيئا عن طرقي و هذا الشيخ المفتون تيجاني فنسأل الله العافية. فلما رآني جردت السيف في الدعوة إلى التوحيد و محاربة البدع ذمني في دروس وعظه, فهجوته بثلاث قصائد ضاعت مني الأولى و هي التي أقضت مضجعه ـ و من عادتي إذا أردت أن أهجو أحدا أن أبحث عن عيوبه التي يؤلمه نشرها و سماعها فأنظمها في سلك القصيدة و لا أقتصر على الشتم المجرد, لأن ذلك لا يؤلم كثيرا و لا عبرة بقول من قال: أحسن الشعر أكذبه, بل أحسن الشعر أصدقه ـ و عدد أبيات هذه القصيدة ستة عشرون. و كان ساعدي الأيمن في نشر قصائد الهجو لمن يستحقه تلميذي البر الحاج أحمد هارون فكان يطبع القصائد في آلة المعهد الحر, و يخرج منها نسخا كثيرة يوزعها على الناس بإلقائها في دكاكينهم أو في جيوب ثيابهم المعلقة حين يتوضؤون, و قد قامت هذه القصائد الهجائية اللاذعة لي مقام العشيرة و العصبة و المناظرين, و قرض الشعر أمر محمود إذا كان صاحبه لا يظلم الناس و لا يكذب في مدحهم و ذمهم. قال ابن الوردي في لا ميته:
……أنظم الشعر و لا زم مذهبي……اطراح الرفد في الدنيا يجل
……فهو عنوان على الفضل و ما……أحسن الشعر إذا لم يبتذل(1/72)
…و قال بعض العلماء و أظنه محمدا الأمير الصنعاني رحمة الله عليه ما معناه: إن من أفضل ما يتحلى به العالم أم تكون عنده ملكة قرظ الشعر ينتصر به على خصومه و يبين به الحق.
…و المخازي التي ذكرتها في القصيدة المذكورة أهمها قصة وقعت له مع شخص محتال ـ لا أسميه لأنه لا يزال في قيد الحياة ـ و كان ذلك الرجل شابا يحسن الاحتيال فجاء إلى ذلك الشيخ المتصوف المفتون, و كان يعلم أنه يعتقد أن في كل زمان القطب الغوث الذي لا تتحرك ذرة في العالم إلا بإذنه و هو المتصرف في السماوات و الأرض و به تقوم السماوات و الأرض و هو محل نظر الحق في خلقه و هو خليفته في خلقه و لو غفل عن العالم طرفة عين لاندك العالم و صار عدما محضا ( انظر كتابي الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية ) فجاء ذلك الرجل إلى الشيخ المذكور و ادعى له أنه القطب فافتتن به و أخذ يخدمه بنفسه مع أن الخادم تجاوز السبعين و المخدوم في أوائل الشباب و كانت عند الشيخ ابنة استحسنها القطب الكاذب فأمره أن يزوجه إياها فأحضر الشهود في الحين و زوجه بها و صار أهل المدينة يسخرون منه و دنى وقت الحج.
السفر إلى مكة في لحظة(1/73)
…فقال الشيخ للقطب: يا سيدي سمعنا أن بعض الشيوخ يحج بطريقة الخطوة بحيث يسافر إلى مكة بخطوة واحدة فما رأيكم في ذلك؟ فقال: ذلك صحيح و أنا من الذين يحجون على هذه الطريقة فقال: يا سيدنا و هل يمكنك أن تصحب معك أحدا؟ فقال: كيف لا يمكن؟! كل شيء عند أولياء الله ممكن. قال: يا سيدي فهل لك أن تحج بنا في هذه السنة فقال: يكون ذلك قال: أريد أن ترافقنا زوجتي أيضا, فقال: لا بأس. و عند ذلك ازداد الشيخ تعظيما لهذا المحتال و بالغ في عبادته هو و أهل بيته, و لما جاء يوم عرفة اغتسل و زوجته و لبسا ثياب الإحرام, و بقيا ينتظران القطب يأخذ بأيديهما و يطير بهما إلى مكة إلى أن كادت الشمس تغرب, فعيل صبر الشيخ و قال: يا سيدي إن الفقهاء يقولون لا بد من الوقوف بعرفة قبل غروب الشمس و قد كادت الشمس تغرب. فقال: بسم الله قوما. فصعد بهما إلى السطح.
…و من عادة أهل تطوان أن يجعلوا في كل سطح جلاء, و هذا الجلاء يكون على قدر ما تدخل الشمس و النور و الهواء و يكون مربعا في كل ركن من أركانه تبنى سارية قصيرة و يوضع على السواري سقف فيدخل النور و الهواء إلى أسفل من أربع جهات و لا يدخل المطر, فذهب القطب يتقدمهما حتى وقف على الجلاء و قال: أنتما أعميان ألا تنظران هذه الكعبة؟! فهلم نطوف بها فطافوا بذلك الجلاء سبعة أشواط و لكن الشيخ لم ير كسوة الكعبة و لا الحجر و لا مقام إبراهيم و لا زمزم و لا أحد يطوف بتلك الكعبة و لكنه لم يستطع أن يتكلم تعظيما للقطب. و لما سمع أهل تطوان بهذا الحج المبرور ازدادوا سخرية و صار الناس لا يتحدثون و يتفكهون إلا بهذه الحكاية, فجاء أصدقاء الشيخ و أخبروه بأنه صار مضغة في الأفواه و أن هذا الشاب قد جعله أضحوكة و نصحوا له بطرده فطرده و أجبره على تطليق ابنته.(1/74)
…و لما شاعت القصيدة عند الناس بلغه خبرها, و كان في ذلك الوقت مشرفا على التعليم الديني و رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى, فبلغه أن نسخة من القصيدة في مكتب مدير المعارف فأمر بإحضارها فكذبوا عليه و قالوا: ما عندنا شيء, فبعث خادمه إلى فضيلة الأستاذ محمد الطنجي رئيس قسم الوعظ و الإرشاد في وزارة الأوقاف المغربية في الوقت الحاضر, و كان في ذلك الوقت تاجرا لأن الاستعمار حرمه من جميع المناصب العلمية, فقال له: يسلم عليك الشيخ و يطلب منك نسخة من القصيدة التي هجاه بها الهلالي, و هذه ست عشرة وسيطة مع أن القصيدة في صحيفة واحدة لا تساوي ربع بسيطة و فقال له الأستاذ المذكور: سلم عليه و قل له: ما عندي منها شيء. و القصيدة الثانية فيها إقذاع ضربت عنها صفحا, أما الثالثة فقد كانت بإذن الله الذي وعد رسله و أتباعهم بالفتح و النصر المبين, كانت مقرونة بالقضاء على هذا الشيخ.
عزل الشيخ المتصوف الذي حج على سطح بيته
من جميع المناصب العلمية و الدينية
…كنت قد سميت القصائد الثلاث بأسماء مطابقة لحوادث ذلك الزمان, ففي ذلك الزمان كان الجرمانيون في أوج عزتهم, و كانوا قد اخترعوا القنبلة الموسومة برقم(1) ثم القنبلة الموسومة برقم(2) ثم القنبلة الموسومة برقم(3) و كانت هذه القنبلة الأخيرة ترسل من البلاد الجرمانية إلى مبنى بعينه في لندن عاصمة بريطانيا فتصله في بضع دقائق و تدمره في أسرع من طرفة عين, و قد سمعت رجلا يتحدث في إذاعة لندن من الذين نجو من الموت بعدما أرسلت قنبلة رقم(3) على المبنى الذي كان يسكن فيه فدمرته في لحظة, قال الرجل: كنت نائما في غرفتي فما شعرت إلا و أنا في المستشفى لأن رجال الإسعاف أخرجوني من تحت الأنقاض مغما علي و أسعفوني بالعلاج, سمعت ذلك من إذاعة لندن باللغة الانكليزية.(1/75)
…و بإلهام من الله تعالى سميت القصائد الثلاث بالأسماء المذكورة, فكانت القنبلة ذات الرقم(3) كما أملت مقرونة بالكارثة التي أصابت هذا الشيخ قال تعالى:{ و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب }سورة الطلاق:2,3 و الحنفاء أهل لا إله إلا الله يتقون الله بتوحيده و ترك الشرك به و اتباع نبيه الكريم فيجعل الله لهم مخرجا من كل شدة و يرزقهم من حيث لا يحتسبون و ينصرهم على أعدائهم. فيا أيها المسلم الموفق حقق التوحيد و الاتباع ترى العجب العجاب قال تعالى في سورة غافر:{ إنا لننصر رسلنا و الذين ءامنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد }.غافر:51.
…كان هذا الشيخ أكبر مفت في شمال المغرب و تقد أنه كان قد تولى وزارة العدل مدة من الزمان, و كان ـ كأكثر المفتين ـ من المقلدة الأغمار إذا جاء أحدهم سائل عن حكم قضائي يقول له مثلا: تعطني الآن نقدا خمسمائة أجرة البحث في كتب الفقه فإن و جدت لك قولا يمكنك من الغلبة على خصمك تعطيني خمسة آلاف درهم, و إن لم أجد شيئا لم آخذ منك إلا ما تقدم, فإذا وجد له قولا من أقوال مجتهدي المذهب ينصر قضيته أخذ منه المقدار المشروط و أعطاه الفتوى, و إن لم يجد شيئا غنم خمسمائة درهم و صرفه. و كذلك خصمه يذهب إلى مفت آخر فيعامله بالمعاملة نفسها, فإذا اجتمعت الحجج و الفتاوى عند القاضي في مدة سنين طويلة و كان نزيها لا يأخذ رشوة ـ و ذلك نادرـ يرجح إحدى الفتويين و يحكم لصاحبها بغير ما أنزل الله, فيحل الفروج و يسفك الدماء في زمن الاستقلال, أما في زمان الاستعمار فإن أحكام القتل و الجروح جعلت لها محاكم عرفية و عزلت المحاكم الشرعية عنها, و كذلك ينقل الأموال من ملك زيد إلى ملك عمرو بآراء الرجال التي ما أنزل الله بها من سلطان .{ و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و الظالمون الفاسقون و هذا أمر معروف في بلاد المغرب لا يزال العمل جاريا به.
فتوى الشيخ المتصوف(1/76)
…أما هذا الشيخ العارف باللاهي لا بالله فقد أفتى فتيين متناقضين غريبتين عجيبتين:
…وقعت خصومة على مال بين تاجرين مغربيين أحدهما مغربي و الآخر مسلم, فانطلق اليهودي إلى الشيخ المفتي فعامله بالمعاملة التي تقدم ذكرها و أخذ منه آلافا من الدراهم و أصدر له فتوى تحتم على القاضي أن يحكم له, فقال القاضي للتاجر المسلم: هات ما ينفعك من الحجج, فذهبت زوجته و كانت إسبانية إلى المفتي نفسه الشيخ المتصوف العارف و سلمت له ستة آلاف درهم فأصدر لها فتوى تحتم على القاضي أن يحكم لزوجها على خصمه اليهودي.
…و كانت المحاكمة في زمان الاستعمار كلها تترجم إلى اللغة الإسبانية و يطلع عليها الحكام الإسبانيون قبل إصدار الحكم, فترجمت الفتويان المتناقضتان و رفعتا من حاكم إلى حاكم حتى بلغتا إلى المقيم العام و هو الحاكم الأعلى فغضب غضبا شديدا, و كتب إلى خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي يقول: نحن لم نرد أن نتدخل في شريعتكم فتركناكم أحرارا تحكمون في محاكمكم بشريعتكم, و أنتم تزعمون أن هذه الشريعة وضعها لكم محمد و هو أخذها من القرآن الذي هو كلام الله حسب اعتقادكم, فانظر إلى هاتين الفتويين المتناقضتين الصادرتين من مفت واحد يقول, إن الشريعة الإسلامية تجعل الحق لليهودي و لخصمه في قضية واحدة فإما أن تكون شريعتكم في أصلها فاسدة باطلة, و إما أن تكونوا قد كذبتم على الله و على محمد, هذا ما كتب به المقيم العام لخليفة السلطان في شمال المغرب.(1/77)
…فلما قرأ الخليفة كتاب المقيم العام أصابه من الغم و الحزن ما كاد يقتله, فدعا الوزراء و المستشارين و غضب عليهم غضبا شديدا و قال: ألا ترون إلى هذا المجرم كيف فضحنا عند الأجانب و ألصق بشريعتنا كذبا و زورا و طمعا هذا الخزي, فماذا يستحق من العقاب؟ فقالوا كلهم: الرأي لسيدنا. فقال: اتقوا الله و قولوا ما أوجب الله عليكم فأعادوا جوابهم. فقال: أنا أحكم عليه بالعزل من جميع المناصب الدينية و العلمية و الدنيوية, و لو قدرت على أكثر من هذا لحكمت عليه به, فعزل من الإمامة و الخطابة و الوعظ و الشهادة و لم يبق له شيء إلا منصبا واحدا و هو رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى, لأن هذه لم تكن بيد الخليفة بل كانت بيد المستعمرين الإسبانيين و لكن الإسبانيين لما رأوا الخليفة عزله من جميع المناصب التي في يده عزلوه هم أيضا من رئاسة المجلس الإسلامي فبقي لا يجد ما ينفق.
…و قد رأيت أن من المستحسن أن أذكر هنا نخبة من القصيدة الموسومة فاو(3) و هذا لفظ ألماني و ترجمته القنبلة الموسومة برقم(3) و فرق بين هذه القنبلة الحنيفية و القنبلة الهتلرية, فإن العدو الذي كان يحارب بالقنبلة الهتلرية استرجع قوته و انتصر على هتلر, أما عدو الحنيفية فكانت تلك القنبلة قاضية عليه و لم تقم له بعدها قائمة و هذه نخبة من القصيدة المشار إليها:
……
……أتشتمني يا ابن اللئام بلا سبب……و أنت يمين الله قرد بلا ذنب
……فلا أنت ذو علم و لا أنت ذو حجى……و لا أنت ذو تقوى و لا أنت ذو حسب
……و لا أنت ذو عرض مصون موفر……و لا أنت ذو حلم و لا أنت ذو نسب
……شوى الحسد الممقوت قلبك في لظى……فأصبح يبدوا اليوم من فمك اللهب
……رأيت صنيع الله بي و هباته……فنالك منها كالجنون و كالكلب
……تريد بقول الهجر تطفئ نوره……و من رام يطفئ نوره مسه العطب
……و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء……فمن ذا الذي يستطيع منعا لما و هب
……تحارب ربالناس في أوليائه……و من حارب الجبار أودى به الحرب(1/78)
……و قد وعد الرحمن بالنصر حزبه……بأن لهم دوما على المعتدي الغلب
……و من يقف سنات الرسول و هديه……و ينصره يصبح ظافرا عالي الرتب
……و من يخلص التوحيد لله وحده……يكن ممسكا في دينه أيما سبب
……فلا نزغات الشرك توهن عزمه……و لا نفثات البطل تثنيه إن وثب
……و لا هجر دجال مهين يضيره……متى كان نبح الكلب يستوقف الشهب؟!
……و ذلك ولي الله جل جلاله……يدافع عنه ربه حيثما انقلب
……ففي يونس فانظر كريم صفاته……و دع عنك قول المسرفين ذوي الشغب
……فإيماننا بالله ثم تقاته……ولايتنا بالله كل بها اقترب
……سلام على أهل الحديث فإنهم……هم الأولياء حقا و غيرهم كذب
……هم حكموا قول الرسول و قد قفوا……مناهجه في السر و الجهر بالأدب
……و كل نزاع يرجعون لقوله……و يرضون حكم المصطفى حيثما وجب
……فما اتخذو من دونه من وليجة……و لا مذهب زيد و عمرو له ذهب
……يدينون بالتوحيد في كل مسلك……نبي ورب ثم دين له انتسب
……فلا رب إلا الله ثم محمد……إمام و أهل العلم في قفوه سبب
……له دعوة الحق التي يستجيبها……و من يدعوا غير الله فقد خاب في الطلب
……و ما كان من أهل الحديث منافق……عليم لسان للفضائل ما انتدب
……و من يترك يوما حديثا مصححا……فما له من حديث العلم سوى النصب
……دعوا كل قول غير قول محمد……أتستبدل الأحشاف يا قوم بالرطب؟!
……و من يعدلن قول الرسول بغيره……فقد عدل الهندي و الند بالحطب
…انتهى المراد نقله منها.
عقيدة الأشعرية المخالفة لعقيدة السلف الصالح(1/79)
…بعدما استقررت في تطوان أنشأت هناك مجلة شهرية سميتها(لسان الدين) و نشرت فيها مقالات, بينت فيها بطلان العقيدة الأشعرية التي يدين بها أهل المغرب منذ عهد محمد بن تومرت و دولة الموحدين التي هي ثمرة دعوته إلى يومنا هذا, و كان أهل المغرب قبل ذلك على عقيدة السلف الصالح حتى أنهم لما وصل إلى المغرب كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي أجمعوا كلهم على إحراقه, و اتفق علماء العدوتين الأندلسية و المغربية على ذلك لما فيه من علم الكلام المذموم فمن ذلك قوله: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) يعني لا يمكن أن يخلق الله سبحانه عالما أفضل من هذا العالم. قال الغزالي: (إذ لو كان ذلك ممكنا و ادخره لكان ظلما ينافي العدل) هذا معنى كلامه نقلته بمعناه ليفهمه عامة القراء, فهرب من نسبة الظلم المتوهم إلى الله تعالى إلى نسبة العجز إلى قدرته تعالى الله عن ذلك.
…و آخر الدول المغربية التي كانت متمسكة بعقيدة السلف الصالح هي دولة المرابطين و يسمون أيضا الملثمين و اللمتونيين نسبة إلى لمتونة و هي قبيلة من قبائل البربر. و في ذلك قلت شعرا من بحر المواليا:
……يا قوم إن اعتقادي الدهر لمتوني……و إن زرتم على عقلي و لمتوني
……ون يو أر نت ستسفايد فجيئوني(أم دسكوتيرن) كنسوس لبروس أود رأوني
…و هذا البيت الثاني يشتمل على أربع لغات العربية و هي فجيئوني, و الانكليزية و هي الكلمات التي قبلها, و الجرمانية و هي التي بعد فجيئوني, ثم الإسبانية ثم الجرمانية مرة أخرى, و معناه: إن كنتم لا تسلمون ذلك فجيئوني للمناظرة بكتبكم أو بدونها.
…و نظم الشعر المؤلف من عدة لغات من المستملحات عند أهل الأدب, وقد نظم العالم الأديب المشهور الحسن اليوسي المغربي بيتا من هذا القبيل فقال عند وفاته:(1/80)
…(أتدرا تنومن) العلوم التي (ديكم) قد اندرست حقا و صارت إلى ( ير كي) و معنا هذا البيت: يا داري أين العلوم التي فيك؟ قد اندرست حقا و صارت إلى الله. و هذا البيت مؤلف من ثلاث لغات: البربرية, و العربية و الفلاتية من لغات السودان لأن(ير كي) هو اسم الله تعالى بهذه اللغة. يريد بذلك أن العلوم التي كات في داره قد اندرست بوفاته.
…و بينت في تلك المقالات أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله بريء من العقيدة المنسوبة إليه, لأنه رجع عنها و ألف كتاب مقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين, و بين فيه أنه على عقيدة أصحاب الحديث و السلف الصالح من الصحابة و التابعين و الأئمة المجتهدين و سمى منهم أحمد بن حنبل رحمة الله عليه, و ألف أيضا كتاب الإبانة عن أصول الديانة, و ألف الحافظ بن عساكر, كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري. و الطائفة التي تسمي نفسها أشعرية تركت كتبه التي رجع إليها و تمسكت بالعقيدة الكلابية و المعتزلة التي كان عليها و تاب منها.(1/81)
…فلما انتشرت تلك المقالات و أضفت إليها كتاب( مختصر هدي الخليل في العقائد و عبادة الجليل ), و هو كتاب مختصر ألفته لإخواني السلفيين بطلب منهم يشتمل على عقيدة أهل الحق و أحكام العبادات, مأخوذة من نصوص الأحاديث الصحيحة, فظن السفهاء الذين يزعمون أنهم فقهاء أنهم و جدوا فرصة تمكنهم من القضاء على دعوتي, فذهبوا إلى الخليفة مولاي الحسن بن المهدي و قالوا له: إن الهلالي قد طعن في عقيدة أسلافك الطاهرين و ضللهم. و هذا الأمير من أهل العقل الثاقب و الهمة العالية لذلك توقف في قبول دعواهم فدعا الأديب العبقري و المؤلف الموفق فخر المغرب في هذا الزمان الأستاذ عبد الله كنون عضو المجمع العلمي في القاهرة, و سأله عما نقله إليه أولئك السفهاء, فقال له: يا صاحب السمو لا تسمع لقولهم فإن العقيدة التي يدعوا إليها الهلالي هي عقيدة النبي صلى الله عليه و سلم و السلف و الخلف و منهم آباؤك الأكرمون, و قد بين ذلك الإمام محمد بن عبد الله العلوي عالم الملوك و ملك العلماء في كتبه, فبطل كيدهم.
التعيين في خزانة الكتب العامة(1/82)
…جاءني ذات يوم شخص مغربي فدعاني بقوله: إن الحاكم الإسباني فلانا يدعوك للحضور في مكتبه فانطلقت معه حتى وصلت إلى مكتب فخم يجلس فيه شاب إسباني فقام و صافحني, و أشار علي بالجلوس و قال لي: أبشرك بأن المقيم العام قد أسند إليك منصبا شريفا و هو إدارة خزانة معهد الباحثين, و هذا المنصب عندنا في إسبانيا لا نولي فيه إلا كبار العلماء الذين يعرفون أصناف العلوم و الكتب المؤلفة فيها, و يرشدون الباحثين و المؤلفين إلى الكتب التي تفيدهم في بحوثهم, و جعلنا لك راتبا قدره ثلاثمائة بسيطة فباشر عملك على بركة الله, فقلت له: كيف تسندون إلي هذا المنصب دون أن تستشيروني و تعرفوا رأيي في قبوله؟ فظهرت على وجهه أمارات الاستغراب و قال لي: لم نستشرك لأنه لم يخطر ببالنا أنك تتردد في قبوله, و لو عينا غيرك فيه من المغاربة لتلقاه بفرح عظيم و استبشر و بشر أصدقاءه و أقام مأدبة كوليمة العرس, و هذه عادتنا في إسناد المناصب, فقلت له: أنا لا أقبل هذا المنصب. فقال لي: كيف لا تقبله و قد عينك فيه المقيم العام؟! فقلت له: إن المقيم العام لا يعرفني و لا بد أن يكون قد استشار ذوي رأيه قبل أن يسنده إلي فأشاروا عليه دون أن يعرفوا رأيي فعليهم يقع اللوم, ثم أعاد الإلحاح فأعدت الرفض و انصرفت من عنده.
…و عند نهاية ذلك الشهر كنت في دكان السيد محمد العبودي الذي تقدم ذكره و إذا بموزع الرواتب يقبل علي متقلدا حقيبته الكبيرة و يفتحها و يخرج دفترا و يطلب مني التوقيع على قبض الراتب, فقلت له: أنا لا أقبض هذا الراتب لأنني رفضت المنصب و لم أشتغل فبأي وجه آخذ راتبا؟ فقال لي: من ذا الذي يأتيه راتب و يرده؟! فقلت له: أنا ذلك الرجل الذي لا يأخذ شيئا من المال إلا بوجه شرعي لا يخل بالمروءة فانصرف.(1/83)
…و في اليوم التالي جاءني خادم الموظف الإسباني يدعوني فانطلقت معه حتى وصلت إليه فقال لي: حتى الدراهم لا تقبلها, فقلت له: بأي وجه أقبلها أنا لم أعمل عملا فكيف آخذ أجرا؟ فقل لي: نحن لم نطالبك بعمل, فقلت له: إذا أنا لا آخذ أجرا على عمل لم أقم به و لم أقبله, و انصرفت.
…ثم بعد شهرين دعاني ذلك الموظف مرة ثالثة و قال لي: الآن نريد أن نتفق معك على إسناد المنصب المتقدم الذكر و نرجو أن تقبله و أن تشترط ما تريد فقلت له: إن إسناد هذا المنصب على الوجه المتقدم فيه إهانة عظيمة من وجهين:أحدهما: أنكم لم تستشيروني و لم تعرفوا رأيي, و الثاني: أنكم جعلتم لي راتب بواب فأنتم تعطون فلانا ألفا و مائتي بسيطة و هو شخص توجه إلى الأزهر فأقام فيه سنتين و رجع بلا شهادة, و أنا أحصل على شهادة دكتوراه من جامعة برلين تجعلون لي ثلاثمائة بسيطة فقال لي: أنا معترف بالخطأ و أنا ما كنت أعرف رتبتك العلمية و الآن نتفق على ما تحب فقبلت ذلك المنصب براتب مناسب.
خمسمائة بسيطة من وزارة الأوقاف(1/84)
…فإن قلت: إذا كنت عالي الهمة داعيا إلى الله تريد وجهه فلماذا كنت تأخذ من وزارة الأوقاف خمسمائة بسيطة على الوعظ و الإرشاد؟ أقول: إنني ـ كما قلت من قبل ـ شرعت في إلقاء دروس الوعظ و الإرشاد في الجامع الكبير بتطوان استجابة لطلب أولئك القوم و قياما بالواجب الحتم, و لم أطلب على ذلك أجرا إلا من الله و بقيت على ذلك سنة كاملة, وذات يوم قال لي الزعيم عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه: إنني قد سعيت في أمر يخصك دون أن أعرف رأيك فيه اجتهادا مني و أرجوا أن أكون مصيبا, و ذلك أني رأيت أن دراهم الأوقاف تنفق في أمور لا تجدي نفعا, فعزمت أن ألتمس لك شيئا منها تستعين به فكلمت أحمد بن البشير الكاتب العام للخليفة أن يكلم الخليفة ليأمر وزير الأوقاف أن يجعل مكافأة شهرية على دروسك في الجامع الكبير, و قلت في نفسي: إن نجحت في هذا السعي أخبرتك و إن لم أنجح تركت الأمر مكتوما عنك. و قد نجحت الآن فقد أمر الخليفة وزير الأوقاف محمد بن موسى أن يجعل لك خمسمائة بسيطة مشاهرة.
…فإن قلت: فهلا ترفعت عنها و لم تقبلها فالجواب أن النبي صلى الله علي و سلم قال:{ ما جاءك من هذا المال و أنت غير مشرف و لا سائل فخذه فتموله أو تصدق به و ما لم فلا تتبعه نفسك }.
غضب رئيس الوزراء أحمد الغنمية
…لما نشرت كتاب كشف الشبهات و رسالة زيارة القبور, و قررت ـ فيما لا يحصى من الدروس ـ أن شد الرحال إلى قبور الصالحين حرام شرعا, و أن إقامة المواسم و تقريب القرابين عند قبورهم و سؤالهم قضاء الحاجات كنزول المطر و إعطاء الأولاد للعقيم من الرجال و النساء, و غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله شرك يخرج صاحبه من الملة خصوصا إذا دعي إلى التوحيد و تبين له الحق و أصر على ذلك, غضب عباد القبور ـ كما تقدم ـ و كان من أشدهم غضبا رئيس الوزراء في ذلك الوقت أحمد الغنمية.(1/85)
…و كان متصرف تطوان ـ و المغاربة يسمونه الباشا ـ و كان متولي هذا المنصب في ذلك الزمان أحمد عشعاش قد أظهر لي المحبة و التعظيم بعدما عقدت الهدنة مع المستعمرين و كان يقول لي: لا تسمني باشا حسبك أن تقول لي: أخي أحمد عشعاش, فلما رأى رئيس الوزراء قد غضب و ذاق ذرعا بدعوتي إلى التوحيد قال له: لا يهمنك أمره فإنني سأزوده برغيفين مأدومين بزيت و سكر و أبعثه محروسا مع شرطيين إلى الحدود يسلمانه للفرنسيين فأرضاه بذلك الكلام, و هو يعلم أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا أمره سادته الإسبانيون, فلم أحفل بذلك و توكلت على الله.
معركة مع فقيه مقلد مشرك
…كان من جملة من عاداني و حاربني شخص من فقهاء تطوان و كان مستشارا للمستعمرين في كل أمر يتعلق بالإسلام و كان مشهورا بالخيانة عند الناس كلهم يسمونه بياعا, و البياع هو الذي يبيع قومه من المستعمرين و يتجسس على أبناء وطنه و يبلغ سادته المستعمرين أسرار شعبه تزلفا لهم, و كل ذنب عند المغاربة يمكن أن يغفر إلا هذا فإن مرتكبه قد أجمع الناس على مقته و لعنه و سقوطه إلى الحضيض الأسفل و لا ينفعه مع ذلك نسب و لا حسب و لا علم.(1/86)
…و لما أنشأت مجلة(لسان الدين) و أعلنت فيها الحرب على المشركين و المبتدعين شرق بها هذا الرجل فذهب إلى الحاكم الإسباني (بليدا) و قال له: إن الهلالي أنشأ مجلة و أخذ ينشر مقالات يفسد بها عقائد المسلمين و يطعن في عقائدنا و مقدساتنا, و أنا أطلب منك ـ باسم علماء الدين ـ أن تلزمه بعرض المقالات قبل نشرها على لجنة من العلماء فما أذنت له في نشره نشره و ما لم تأذن له في نشره يلغى, فدعاني(بليدا) و أخبرني بذلك على سبيل العرض و لم يأمرني بشيء فذهبت إلى من هو أعلى منه من الإسبانيين, و قلت لهم: إن(بليدا) قال: كيت و كيت و نحن مختلفون في العقيدة اختلافا شديدا فلا يمكن أن يتحكم بعضنا في بعض و ضربت له مثلا فقلت لهم: إن أهل النصرانية مختلفون في العقيدة بعضهم كاثوليكيون مثلكم و بعضهم بروستنتيون فهل يجوز عندكم أن يتدخل أحد الفريقين في عقيدة الآخر؟! فقالوا: لا, إذهب و انشر مجلتك و نحن نتكلم مع(بليدا) أن يترك هذا الأمر فإنه ليس من اختصاصه فحبط عمل هذا المبدع.(1/87)
…و لما اشتد علي مرض الربو استأذنت الحكام الإسبانيين في السفر إلى قبيلة تغزوت ببلاد الريف فأذنوا لي و أقمت هناك عند الشيخ محمد بن أحمد و هو من خيرة السلفيين كان يحضر دروسي في الجامع الكبير كلما ورد تطوان و طلب الشيخ محمد بن أحمد التغزوتي من الحاكم الإسباني أن يأذن لي في إلقاء دروس لتعليم الناس كيف يصومون رمضان لأن شهر رمضان كان قريبا فأذن لي, و كنت ألقي في كل يوم درسين في بيان توحيد الله و اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم و محاربة الاستعمار فتاب من الطرائق و البدع كثير من الناس, و تنورت أفكار أهل ذلك البلد و أفاقوا من سكرتهم إلا القاضي و شرذمة قليلة, فإن القاضي أكرمني إكراما عظيما و فرح بي أول ما قدمت و لما سمع دروسي انقبض منها و أعرض, أما نائبه فكان على عكس ذلك فإنه لم يسلم علي أول ما قدمت و لم يتصل بي و كان يقعد وراء سارية من سواري المسجد و يستمع حتى عرف ما أدعوا إليه و تبين له الحق, فجاءني و دعاني إلى بيته و أكرمني و لم يزل محافظا على العهد إلى يومنا هذا.(1/88)
…و أهل تغزوت كسائر أهل الريف يتكلمون بالبربرية و هي أخت قديمة للغة العربية, كما أن البربر إخوان قدماء للعرب لا يشك في ذلك من عنده أدنى علم باللغات السامية. و لذلك لم ينجح الاستعمار في التفرقة بين العرب و البربر و حدث يوما أني كنت جالسا في دكان عند أحد إخواننا الذين تابوا من البدع, و أخوه الأكبر كان حافظا للقرآن و حافظا لمختصر خليل, و كان تجانيا فتاب من التجانية و عمره سبعون سنة و اغتبط بالعقيدة السلفية, فجاء سائل عربي و قال لصاحب الدكان: أعطني صدقة لوجه غياث البر و البحر سلطان الأولياء مولاي عبد القادر الجيلاني فقلت له: أنا نحن عبيد الله و لسنا عبيدا لعبد القادر الجيلاني فاذهب إلى عبيده فنحن ليس لنا غياث إلا الله في البر و البحر و لا نتخذ من دون الله أولياء, فقال لي: أنت لا تساوي تراب نعل سيدي عبد القادر الجيلاني, فقلت له: أنا لا أساويه و لكني لا أعبده فقال صاحب الدكان للسائل: اذهب من هنا و أرنا قفاك فإن هذا الرجل عندنا أفضل من عبد القادر الجيلاني, فقلت: إنك أخطأت فقال: أمهلني حتى أشرح لك مرادي ثم احكم علي فقلت: قل. فقال: أنت مقيم بين ظهرانينا تعلمنا مما علمك الله و نسألك فتجيبنا و عبد القادر ليس كذلك فقلت له أنا: إن كان هذا مرادك فهو حق.
…و لما رجعت إلى تطوان علمت أن ذلك الفقيه البياع ذكرني بسوء في درس وعظه فقال لمستمعيه و هو يحثهم على الصلاة بسدل اليدين و ترك سنة و ضع اليمنى على اليسرى: فماذا تقولون في سيدي محمد السلاوي أكان عالما بالحديث و الفقه أم جاهلا بهما؟ فقالوا: كان من كبار العلماء فقال: و ماذا تقولون في سيدي أحمد الرهوني و سيدي فلان و فلان؟ فقالوا: علماء فقهاء. قال: فهل كان أحد منهم يضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة فقالوا: لا. قال: فكيف تخالفونهم لقول شخص مجهول لا نعرف من أين خرج؟! فأنشأت فيه قصيدة دالية أنقل نخبة منها هنا:(1/89)
……تجاهلت يا ابن القين فضلي و سأددي……و من شقوة أقبلت بالظلم تبتدي
……زعمت بأن لم تدر أصلي و منشئي……و لا عجب إذ أنت بالجهل مرتدي
……سجلماسة يا قين موطني……و جدي هلال بن الحسين بن أحمد
……و جدي هلال صالح و ابن صالح……و جدي حسين سيد نجل سيد
……و ريحانة المختار جدي يشمه……و جدك حداد بوجه مسود
……ضربنا على الإسلام أسلافك الألى……قريناهم بالمشرفي المهند
……فإما عققت اليوم ساداتك الألى……حبوك بإسلام و فضل ممدد
……فيا رب عبد مثلك اليوم آبق……و يا رب قين ممعن في التمرد
……غدا بعد سندان و كير و حفرة……و فحم و مطراق على الفقه يعتدي
……دع العلم إن العلم لست بأهله……و خذ من جديد في الحديد لتهتدي
……ففي الحرفة الأولى لقد كنت كاذبا……لدى بيع مفتاح و قفل و محصد
……و في الحرفة الأخرى على الله تفتري……و تلحد في دين النبي الممجد
……و مينك في دنياك أهون مأثما……من المين في أمر به الناس تقتدي
……و عيشك من صنع الحدائد طيب……و أن تأكلن من الدين تأكل من الردي
……فدونك يا ابن القين نصحا مسددا……و مثلك لا يرضى بنصح مسدد
……كذبت على شيخ كريم تحلما……برؤيا منام في حديث منضد
……على ابن مشيش قد كذبت بلا حيا……فأخزاك رب الناس في كل مشهد
……تزعم أن الشيخ جاءك قائلا……إلى القصر فاذهب دون تردد
……و قل لفلان يشتري بيتك الذي……بمرتيل إن رمت النجاح بمقصد
……فكذبك الشخص الذي قد قصدته……و بؤت بخزي الله شر مند
……تروم بزعم نصر مذهب مالك……و مذهبه قفو النبي المؤيد
……و معصية المختار ليست بمذهب……له أبدا فأقصر عن اللغو و الدد
……و فرقت بين البعل و الزج ظالما……بعنف و إكراه فهل أنت مهتد
……و أنكحتها في عصمة البعل دون أن……يصح طلاق فعل أرعن مفسد
……أهذا الذي تدعوا بمذهب مالك……كذبت لعمر الله يا قين فاقصد
……فهذا الذي من أجله نال مالكا……نكال و لم يذعن لأمر المهدد
……ففعلك ذا نقض لمذهب مالك……و فسق بدين الهاشمي محمد(1/90)
……تكلم في قبض و سدل مضللا……و أهملت أصل الدين إهمال ملحد
……حرمت وصولا للحقيقة عندما……أضعت أصولا من يضعها يلدد
……فكلمة توحيد بها ابأ محققا……فإن تدر معناها إلى الحق تهتدي
……فوحد إله الحق لا تدع غيره……لنفعك أو دفع المصائب ترشد
……فمن يدع غير الله يوما لحاجة……يدنس بإشراك و يردى مع الردي
……و ذلك توحيد العبادة فادره……فمن يجهلنه في الجحيم يخلد
……سواء أصلى قابضا في صلاته……أو اختار سدلا نقله لم يؤيد
……و من رد قول المصطفى بعد صحة……فذلك كفار أثيم و معتد
……سيحرم في يوم القيامة شفاعة……و إن يأت للحوض المبارك يطرد
……و يسود في يوم القيامة وجهه……و يثوي ثواء في الجحيم و يخلد
……و يبرأ منه ذلك اليوم مالك……و كل تقي للإله موحد
……و ذلك في أصل الشهادة واضح……لكل صحيح الفهم لم يتبلد
……فدونك يا شيخ القيون فوائد……من العلم إن ترجع لها اليوم تسعد
……فدع عنك تقليدا و شركا و بدعة……فذلك ما يرديك في اليوم و الغد
……صددت الورى عن قفو سنة أحمد……و لن يفلحوا إلا بسنة أحمد
……فبؤت بسخط الله ثم رسوله……و سخط شيوخ كابن جعفر زهد
……و كان اللوا جري يقليك كالعمى……متى جئته يا قين تصفع و تطرد
……و أسخطت كل الصالحين من الورى……من الجرم و البغي الذي لم يحدد
……و إنك و أيم الله أحمق من مشى……على الأرض طرا في تهوم و أنجد
……فخذها غذيت التبن مني قصيدة……تزدك جنونا مثلها لم يقصد
……فتخرج في الأسواق ناتف لحية……و لاطم خد عاريا غير مرتد
……و لم يك قصدي ذكر عيبك كله……فذلك لا يحصيه ألف مجلد
…و اتشرت هذه القصيدة عند أهل تطوان و أعجبوا بها أيما إعجاب لأنهم كانوا حاقدين على ذلك الرجل, و كانت هذه القصيدة مقرونة بسوط عذاب من الله تعالى صب على ذلك المشرك فحدثت له حوادث من الخزي أذكر هنا بعضها:(1/91)
…الأولى: أن شخصا من شيوخ الصوفية كان محترما عند أتباعه من أهل تطوان و هو الشيخ الفاسي جاءه ذلك البياع و مد يده لمصافحته فقبض الشيخ يده أمام جماعة من الناس و قال له: أنا لا أنجس يدي بمصافحتك, فكانت ضربة قاتلة له.
…الثانية: ماتت امرأة فخرج الناس بجنازتها إلى باب المقابر حيث يصلى على الجنائز لأن المغاربة لا يصلون على الجنازة في المسجد, و يزعمون أن ذلك مكروه و يعللونه بنجاسة الميت, و ذلك جهل و مخالفة للسنة الصحيحة, فإن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على ابن بيضاء في المسجد. و لما وضعت الجنازة نظر الحاضرون فرأوا هذا الفقيه بزعمه هو أولى أن يؤم الناس في الصلاة على الجنازة لسنه و ما اشتهر به من الفقه عند العامة, فقال له بعضهم: تقدم يا فقيه صلي بنا, و كانت فيه حماقة فقال رافعا صوته: أنا لا أصل بكم و أنتم تقولون أنا بياع و خائن فقدموا غيري, و كان يؤمل أنهم يتملقون له و يمدحونه و يقولون: حاشا لله أن نظن بك هذا, و لكن خاب أمله فإن الناس اختلفوا و كثر القيل و القال حتى بلغ النزاع إلى أولياء المرأة فقائل يقول: هو أولى بالصلاة, و قائل يقول: ليس الأمر كذلك لأنه بياع, فاتفق المتنازعون على أن يردوا نزاعهم إلى أولياء المرأة ففعلوا فقال أولياء المرأة: لا نرضاه إماما للصلاة على الجنازة فقدموا غيره. و لو أنه حين دعي للصلاة تقدم و صلى لم يقع شيء من ذلك و لكن الأمر كما قال الشاعر:
……لكل داء دواء يستطب به……إلا الحماقة أعيت من يداويها
…فهذه المخزية الثانية.
…الثالثة: اتفق أن هذا الفقيه كان في مسجد صغير فحانت صلاة العصر و كان إمام المسجد قد قرأ عليه شيئا من الفقه فاستحى أن يتقدم أمامه فقال له تقدم يا أستاذ صلي بنا فقال الحاضرون كلهم: لا نقبله لأنه بياع و الصلاة خلفه باطلة.(1/92)
…الرابعة: أنه دعا رئيس البلدية الإسباني(بليدا) إلى مأدبة أقامها له في مارتيل, و هي قرية معدة للاصطياف على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بينها و بين تطوان ستة أميال, أكثر أهل تطوان يملكون بيوتا فيها يهبطون إليها في وقت الصيف فقط فتكون عامرة و في شواطئها مسابح للرجال و النساء و في سائر الفصول تكون فارغة تقريبا.
ترف أهل تطوان
…كلمة تطوان محرفة عن( تطاون ) بكسر التاء و تشديد الطاء و كسر الواو و هي كلمة بربرية معناها العيون, و لا يزال جزء من تطوان إلى الآن يسمى بالعيون. و لم يكن لها شأن يذكر قبل هجرة أهل الأندلس إليها في أواخر القرن التاسع الهجري حين استولى النصارى على مابقي من الأندلس و أجبروا المسلمين على التنصر أو الهجرة. و لما جاء الأندلسيون إلى تطوان ـ و كان عندهم من الحضارة و المدنية ما لم يكن عند المغاربة ـ أسسوا مدينة تطوان على النحو الأندلسي و استنبطوا المياه و جلبوها من الجبال المجاورة إلى المدينة و غرسوا فيها الجنات الجميلة و أسسوا مدينة مرتيل للاصطياف, و كان لكل أهل بيت أربعة مساكن, كما أخبرني بذلك السيد محمد المؤذن الإدريسي رحمة الله عليه و هو من أعيان تطوان, فكان لكل أهل بيت بيت في تطوان و بيت في البستان و بيت في مرتيل و بيت في ناحية أخرى قد تركت, فكانوا يقضون فصل الشتاء في تطوان و فصل الربيع في البستان و فصل الصيف في مارتيل على شاطئ البحر و فصل الخريف في الناحية الأخرى التي تركت, و لا يزالون مستمرين على هذه العادة حتى الآن, إلا أنهم لا يقضون شهر رمضان و العيدين إلا في تطوان و لو كانوا ساكنين قبل ذلك في إحدى النواحي المذكورة ينتقلون إلى تطوان يمضون فيها تلك الأيام ثم يعودون إلى مسكنهم خارج تطوان.(1/93)
…قلنا: إن ذلك الفقيه أقام مأدبة في وضح النهار غي بيته في مرتيل على أعين الناس, و لما جاء الضيف الإسباني تلقاه أمام بيته و لم يكتف بمصافحته بل عانقه, فلما رأى ذلك أهل تطوان و هم أهل غيرة و شجاعة اشتد غمهم و حنقهم على الفقيه البياع ففكروا في عقاب ينزلونه بهدون أن يتعرضوا لانتقام(بليدا), فاتفقوا مقدارا كبيرا من العذرة الطرية و يلصقوه على باب بيته في جنح الليل ففعلوا ذلك فلما أصبح الناس اجتمع الذباب على باب بيته و جا الناس يتفرجون و قد كثر عددهم, و عادت أهل تطوان أنهم لا يقومون من النوم إلا في الصحى, فأخبر بعض الجيران الفقيه و أهله فقاموا فزعين و أخذوا ينظفون بابهم و الناس تنظر إليهم و بعضهم يضحك و بعضهم يتشفى و يقول: هذا جزاء البيع الذي يوالي أعداء وطنه و ينصرهم على قومه.
…الخامسة: ( وحقها أن تكون الأولى ): أن هذا الفقيه كان تلميذا للشيخ محمد بن جعفر الكتاني الفاسي المغربي الذي قضى شطرا كبيرا من عمره في دمشق و كان محترما عند المغاربة و أهل الشام, و لما استولى الإسبانيون على تطوان و قسم من شمال المغرب استشار الفقيه التلميذ أستاذه الكتاني في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام فاستحسن الشيخ ذلك و حثه عليه, فهاجر الفقيه إلى المدينة النبوية و أقام بها مدة, فلما خلع الفرنسيون السلطان عبد الحفيظ بن الحسن الأول سافر هذا السلطان إلى مصر ثم إلى الحجاز, فذهب إليه الفقيه المبتدع و شكا إليه حاله و أنه يريد أن يرجع إلى المغرب و يعود في هجرته, فأعانه على ذلك و رجع إلى تطوان, و لم يقتصر على هذا الذنب حتى صار بياعا فسخط عليه الشيخ الكتاني و هجره و استمر على ذلك حتى مات, و قد أشرت إلى ذلك في القصيدة حين قلت:
……فبؤت بسخط الله ثم رسوله……و سخط شيوخ كابن جعفر زهد(1/94)
…السادسة: كان في تطوان فقيه مشهور بالصلاح و العفة و الزهد و الاستقامة يقدسه أهل تطوان و هو الشيخ محمد اللواجري, و كان معتكفا في بيته لا يشهد جماعة و لا جمعة, و علل ذلك بأنه يرى المناكر و لا يستطيع أن يغيرها, و كنت أزوره الفينة فكان يفرح بزيارتي و يأنس لها و لم أر منه معارضة في التوحيد, و الذي يظهر لي أنه كان بريئا من الشرك, و كان هذا الفقيه من تلامذته و لما أراد الهجرة من تطوان استشاره فاستحسن ذلك فلما رجع من هجرته غضب عليه اللواجري غضبا شديدا و حذر الناس منه و لا سيما حين صار بياعا, و كان هذا الفقيه يجتهد بكل وسيلة أن يجد سبيلا لإرضاء الشيخ اللوجري فكان يضرب في حديد بارد, لأن اللواجري أصر على السخط عليه و بغضه لله فلما حضرت الوفاة الشيخ اللواجري اغتنم هذا الشيخ الفرصة و ظن أن شيخه و هو في غمرات الموت لا يعرفه إذا سلم عليه و ودعه و بذلك يخرج من سخطه ولو فيما يظهر للناس, فقصده, و حدثني أحد أعيان تطوان و أشرافها ـ و هو الحاج محمد الشرتي ـ أنه كان جالسا عند الشيخ اللواجري رحمه الله و قد حضرته الوفاة, فجاء هذا الفقيه و قبل رأسه و قال: سامحني أيها الشيخ الصالح. فما كان من الشيخ المحتضر إلا أن كان جالسا كأن لم يكن به مرض و رفع يده و لطم الفقيه لطمة شدديدة فمات في الحال و إلى ذلك أشرت في القصيدة بقولي:
……و كان اللواجري يقليك كالعمى……متى جئته يا قين تصفع و تطرد(1/95)
…فإن قيل: لماذا سميته قينا و هو فقيه؟ فالجواب أن القين في اللغة العربية هو الحدداد و كان أبو حدادا و كان هو يشتغل معه في صباه و لما تعلم الفقه أعني فروع المذهب المالكي ـ و ليس ذلك بفقه و لكنه اصطلاح و عرف, كتسمية اللديغ بالسليم ـ ترك تلك الحرفة, و كان دكان أبيه الذي كان يشتغل معه فيه بهذه الصنعة لا يزال تحت تصرفه يكريه. فلإن قيل: و هب أنه كان حدادا فأي نقص في ذلك و قد كان نبي الله داود يصنع الدروع من الحديد قال تعالى في سورة الأنبياء: { و علمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون }الأنبياء:80, فمعرفة هذه الصنعة نعمة فكيف يعير بها؟
…فالجواب: أنها في حق داود عليه السلام نعمة و فضيلة و في حق و في حق غيره أمر مباح لا يحمد فاعله و لا يذم, فلو كان هذا الفقيه مستقيما في دينه و لم يبدأني بالظلم ما عيرته بذلك لأن هذه الصنعة لا يضيره التعييير بها لو لم يكن موصوفا بتك الطوام, و إذا كان مشركا مبتدعا بياعا فإني لم أر حرجا في تذكيره بحرفته السابقة و حرفته اللاحقة, قال الشاعر:
……و من دعا الناس إلى ذمه……ذموه بالحق و بالباطل(1/96)
…و لما انتشرت القصيدة و صارت حديث الناس نظم نظما ركيكا هجاني به, و لم يجد ما يعيبني به إلا زعمه أن أبي كان حقيرا يكنس الشوارع و أن أمي كانت خادمة في البيوت, و أني مصاب بداء السل لا أزال أبصق و أسعل و المخاط يخرج من أنفي و أن الشباب الذين صحبوني اصفرت و جوههم, فلم يعبأ أحد بقصيدته لركاكتها و لأنها شتم و كذب و تناقض, فإنه قال في الجامع الكبير على رؤوس الأشها في حقي: إنني شخص مجهول لا يعرف من أين خرجت, و هذا كذب مفهوم, فإن كان يجهلني ففي تطوان من يعرفني و يعرف أبي و أمي و أن أبي كان عالما وجيها و أمي كانت شريفة عزيزة, و قد تقدم أن الهجو بالكذب لا يضر, فلما رأيت قصيدته و هي في مائة و خمسين بيتا و كلها هذيان و شتم كما تقدم هجوته بقصيدة أخرى نظمت أربعة أبيات منها في تطوان و سائرها بالأندلس, و ينبغي أن أثبتها هنا كلها أو بعضها:
……يا أهل تطوان إن الساعة اقتربت……شدوا حيازيمكم يا أهل تطوان
……شيخ الحديد غدا شيخ الحديث لدى……دار يراد بها تثقيف فتيان
……و هل سمعتم بقين سار ذا أثر……يروي الحديث بإحكام و اتقان
……عن فحمة بن دخان عن أبي شرر……كير عن الشيخ مطراق بن سندان
……يقول لا تثقوا فإن صاحبنا……حديث محض تدليس و بهتان
……و قيل: لا صانع إلا و يكذب في……قول و أكذبه حديث أقيان
……و من على ابن مشيش افترى كذبا……لم يحترم جده سليل عدنان
……و صح من جالس الحداد سوده……أو أحرق الثوب منه لفح نيران
……فيا تلاميذه أنا النصيح لكم……فإنه فاجر عديم إيمان
……و يا تلاميذه كونوا على حذر……من خبثه فهو شر الإنس و الجان
……فقبلوا يده و احنوا رؤوسكم……كي لا يصيبكم يوما بعدوان
……فإن تقبيل كف القين صار له……كالقوت للطاو أو كالما لظمآن
……لا تعجبوا من يد من كيرها انتقلت……للكتب يعجبها تقبيل فتيان
……فالكتب شاكية بالدمع باكية……تقول يا ذلتي في شر أزمان
……ما زلت في ضعة حتى و صلت إلى……قين يبهدلني من بين أقراني(1/97)
……ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن……فيه يدنسي قين بأدراني
……تالله لو كان للتدريس محتسبا……لظل منكمشا في قعر دكان
……يروي الحديد و يطويه وينشره………أولى به ذاك من علم و عرفان
……دقق دقق دقق دقق دقق دقق……دقق دقق فانفخوا بالكير صبيان
……لكن ذا زمن به البغاث غدا……مستنسرا صائلا في زي عقبان
……و الذئب أصبح مسك الظأن مرتديا……ليبتغي الصيد من أغرار فرخان
……و أصبح الدين للدنيا تعلمه……و قد تمول منه كل خوان
……لو كان يجدي البكا يوما بكيت على……علم الحديث و تفسير و قرآن
……لم يبق منها سوى الأسماء خالية……من كل معنا سوى تحريف كهان
……و كم أهبت بقومي صارخا أبدا……أوبوا لهدي نبيه إخواني
……دعوا دجاجلة يبغونها عوجا……فلن يقودوكم إلا لخسران
……أسلافنا ارتفعوا أسلافنا سعدوا……لقفوهم أحمد الهادي بإحسان
……قد اقتفو سنة المختار خالصة……من غير شوب بزيد أو بنقصان
……و منذ بدل قوم هديه سقطوا……إلى الحضيض و نالوا كل حرمان
……أوطانهم بهم و الله قد شقيت……و الأرض تسعد أو تشقى بسكان
……و الله لن تسعدوا إلا بما سعدوا……فلا يغرنكم وسواس شيطان
……و من يرد حديث المصصطفى سفها……يا رب فالعنه من إنس و من جان
……يا رب صل على المختار سيدنا……ما غنت الورق في دوح بألحان…
……و الآل و الصحب ثم التابعين له……و اجعل محبته روحي و ريحاني
……فرج بها كربي و اجمع بها شعثي……و أصلح الحال في سري و إعلاني
……و انصر بها حزبنا طول الحيات و في……يوم الجزا جد لنا طرا بغفران(1/98)
…السابعة: أن هذا الفقيه ـ المتحمس للمذهب المالكي بزعمه ـ كانت له ابنة زوجها بشاب كاتب في وزارة العدل التي كان يتولاها أفيلال, و كانت بينه و بين الفقيه عداوة لأن كليهما فقيه أحدهما محظوظ و الآخر محروم, فكان الفقيه يسأل صهره عن ما يجري في الوزارة ليتوسل به إلى الطعن في الوزير فلا يكاد يسعفه بشيء مما يريد, و لما ألح عليه قال له: أيها الفقيه لا تسألني عن شيء من أسرار الوزارة فإني أقسمت يمينا على الإخلاص في عملي, و إفشاء الأسرار يعد خيانة و عواقبه و خيمة, فغضب عليه و قال له: هذا قدري عندك يا ناكر الإحسان زوجتك ابنتي و فضلتك على غيرك ثم أنت تتألب علي مع عدوي فسترى كيف يكون عقابي لك, فأمر ابنته أن تنشز فنشزت ثم أجبره على تطليقها فطلقها كارها و هو يستغيث بالناس فلم يغثه أحد, و لما تزوج شرط على أولياء الزوجة الجديدة أنه متى يسر الله له أن يرجع زوته ابنة الفقيه فإنه سيطلق ابنته!! و إلى ذلك أشرت بقولي في القصيدة الدالية:
……و فرقت بين البعل و الزوج ظالما……بعنف و إكراه فهل أنت مهتد
…الأبيات إلى أن قلت:
……أهذا الذي تدعوا بمذهب مالك……كذبت لعمر الله يا قين فاقصد
…و من أشهر ما وقع لمالك رحمه الله في حياته أنه كان يفتي بأن طلاق المكره غير لازم و على ذلك ضرب بالسياط, فالعجب ممن يريد أن ينصر المذهب المكذوب على مالك ثم يخالف مذهبه الصحيح المتواتر:{ و الله لا يهدي القوم الفاسقين } سورة التوبة:24.
…الثامنة: أنه كان يريد ـ و لو بجدع الأنف ـ أن يكون مدرسا في المعهد الديني الأعلى و سعى للوصول إلى ذلك سعيا حثيثا و استعان بسادته المستعمرين فلم يصل إلى مرامه إلا بعد اللتيا و التي, و لما صار مدرسا في المعهد صار يفرض على الطلبة كلما رأوه من بعيد أن يهرعوا إليه و قبلوا يده و يهددهم بأن من لم يفعل ذلك يسقطه في الامتحان و إلى ذلك أشرت بقولي في النونية:
……فيا تلاميذه أنا النصيح لكم……فإنه فاجر عديم إيمان(1/99)
……فقبلوا يده و احنوا رؤوسكم……كي لا يصيبكم يوما بعدوان
…التاسعة: أنه كان له بيت في مارتيل و كان يريد بيعه فلم يجد من يشتريه منه, فسافر من تطوان إلى القصر الكبير و قصد الثري المشهور الحاج عبد السلام حسيسن, و قال له: إن سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه جاءني في المنام فشكوت له تعسر بيع داري التي في مارتيل, فقال لي: إذهب إلى خادمنا الشيخ عبد السلام الحسيسن و بلغه سلامي و أخبره أني آمره أن يشتري منك تلك الدار و سيشتريها منك. قال الحاج عبد السلام: فلما جاءني و قص علي الرؤيا قلت له: إن أمر سيدي عبد السلام على رأسي و عيني و لكني أنا بنفسي عندي بيت في مارتيل لا أحتاج إليهلأني أسكن في طنجة و في القصر الكبير و أنا محتاج إلى بيعه فكيف أزيد عليه بيتا آخر؟! فرجع خائبا و إلى ذلك أشرت بقولي في الدالية:
……على ابن مشيش قد كذبت بلا حيا……خزاك رب الناس في كل مشهد
…العاشرة: زيارة الفقيه البياع لأستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي, سافر هذا الفقيه من تطوان إلى الرباط و زار شيخ الإسلام محمد بن العربي رحمه الله فلما أخبره أنه من تطوان سأله عني فقل له: تعرف الدكتور محمد تقي الدين الهلالي؟ قال له: نعم أعرفه و قد هجاني بقصيدتين, و لما تقلص ظل الاستعمار الذي كان حائلا بيني و بين رؤية أستاذي المذكور و اجتمعت به أخبرني بذلك و قال لي: لما أخبرني أنك هجوته علمت أنه خبيث.
الأمير الملالي و الاستسقاء(1/100)
…يسمي المغاربة أمير كل بلد قائدا. و القائد (الملالي) حاكم القصر الكبير كان من أقوى الأمراء الذين لهم وزن ثقيل عند المستعمرين الاسبانيين و عند رعيته, و لكنه لم يكن يقارب منزلة أمير العرائش السيد خالد الريسوني رحمه الله كما تقدمت الإشارة إلى ذلك, لما سمع الأمير الملالي بقدومي تطوان و دروسي فيها أراد أن يدعوني إلى إمارته ليكرمني, و تكلم مع الزعيم عبد الخالق الطريس في ذلك, و سألت عنه فعلمت أنه تجاني متعصب فنشرت في صحيفة الحرية ثلاث مقالات تحت هذه الترجمة(كيف خرجت من الطريقة التجانية) و ذكرت فيها قصة خروجي و توبتي من هذه الطريقة و أقمت البراهين على بطلانها فغضب غضبا شديدا و رجع عما كان عازما عليه, و لما أصبت بداء الربو و قد تقدم أن المشركين في تطوان زعموا أن الشيخ السعيدي هو الذي أصابني بذلك المرض لأني أنكرت عليهم عبادته بالذبح و النذر و الاستغاثة.
…فقلت على كرسي الوعظ في الجامع الكبير: إن هؤلاء الذين يزعمون أن الشيخ السعيدي هو الذي أصابني بمرض الربو ليس لهم عقل و لا دين, أما العقل فدليل نفيه عنهم أن خلقا كثيرا من سكان تطوان رجالا و نساءا مصابون بهذا الداء, و هم يعبدون الشيخ السعيدي فمن ذا الذي أصابهم بهذا المرض؟! و أما دليل نفي الدين فإن الشيخ السعيدي إما أن يكون مؤمنا بكتاب الله و برسول الله صلى الله عليه وسلم و حينئذ لا بد أن يكون مغتبطا و سرورا بدعوتي إلى توحيد الله و اتباع رسوله صلى الله عليه و سلم و ساخطا على كل من يعبده بالذبح و النذر و الاستغاثة متبرئا إلى الله من عملهم, و إما أن يكون مشركا يرضى بعبادتهم له إذا فأبعده الله إن كان ذلك, و الذي نظنه به هو الخير{ ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } الحشر:100.(1/101)
…لما اشتد علي مرص الربو قيل لي: لو توجهت إلى القصر الكبير فإن بينه و بين البحر عشرين ميلا و هواؤه ناشف بعض الشيء يمكن أن يخف عنك بعض ما تعانيه, فذهبت إلى القصر و نزلت في فندق و أنا في حالت يرثى لها فجاءني رجل يظهر عليه أثر النعمة و الغنى و معه شاب فسلم علي ببشاشة فقلت له: من أنت؟ فقال لي: أنا الحاج عبد السلام الحسيسن و هذا ابني محمد فرحبت بزيارته فقال لي: أما تعرفني؟ قلت: لا. فقل لي: إنني حضرت مجالسك في طنجة و كنت عازما في ذلك اليوم أن أدخل في الطريقة التجانية فسمعتك تشرح ما فيها من الضلالات, فعدلت عن الدخول فيها و حمدت الله الذي أنقذني من الوقوع في حبائلها فلك علي فضل لا ينسى, و أنا أدعوك أن تنزل في بيتي فقلت له: إني اخترت هذه المقصورة لأنها محكمة النوافذ لا يهب علي فيها الهواؤ البارد فقال لي: عندي غرفة أحسن منها و معها حمامها و بيت الخلاء و أنا أقوم بخدمتك على أحسن و جه, فأقمت عنده خمسة عشر يوما, ثم سافرت إلى طنجة و جئت بأهلي و أقمنا في ضيافته خمسة عشر يوما, فأردنا أن نسكن في بيت وحدنا فأسكننا في بيت له خارج المدينة و بقيت هناك أربعة أشهر.
صلاة الاستسقاء(1/102)
…و في تلك السنة قل المطر و عم الجدب. و عادة المغاربة في مثل هذه الحال أن يفزعوا إلى أضرحة الأولياء و يذبحوا لهم الذبائح و يستغيثوا بهم ليأتيهم المطر و يزول عنهم الجدب فأمر القائد الملالي مناديا ينادي قائلا بأعلى صوته: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا تسمعون إلا خيرا إن شاء الله إن الأمير يأمركم أن تتبرعوا بالدراهم لشراء الثيران و الكباش و تتهيئوا في اليوم الفلاني للاستسقاء عند أضرحة الأولياء, فلما جاء اليوم المعين خرج الأمير و القاضي و جميع أهل البلدة حفاة حاسري الرؤوس و طافوا على أضرحة الأولياء قائلين بصوت واحد:(جئناكم قاصدين, لا تردونا خائبين, يا أولياء الله الصالحين) و توجهوا أولا إلى قطب البلد علي أبي غالب و الثور الأسود أمامهم و هو أكبر الثيران و أسمنها فوصلوا إلى ضريحه خاشعين و ذبحوا ذلك الثور و ذابحه يقول: الذبيحة على الله و عليك يا سيدي علي أبا غالبو ثم طافوا على أضرحة الأولياء الكبار فذبحوا على ضريح كل واحد منهم ثورا. و أما الأولياء الصغار فذبحوا على ضريح كل واحد منهم كبشا و رجعوا, فنشأ غمام في السماء فسألت الله تعالى أن لا يسقيهم و لا قطرة واحدة فاستجاب الله دعائي و انقشع ذلك الغمام و جاء بعده غمام مرارا ثم انقشع و لم يسقوا قطرة واحدة.(1/103)
…و عدد جماعتنا الموحدين, و منهم السيد أحمد الجباري رحمة الله عليه و الحاج عبد السلام حسيسن فبعضهم اختفى في يوم الاستسقاء خوفا من الأمير و بعضهم أعلن معارضته كالحاج عبد السلام حسيسن, عددهم لا يزيد على أربعين إلا أن أحدهم معلم صبيان و عنده خمسون صبيا يعلمهم القرآن. جاء بعض أصحابنا إلي و قالوا لي: إن الأمير و القاضي و من تبعهما ارتكبوا أمرا شنيعا مخزيا فنريد أن نغسل هذا العار بصلاة الاستسقاء في مصلى العيد خارج المدينة و نريد أن تكون إمامنا في صلاة الاستسقاء فإن المغاربة يعتقدون أنه متى صليت صلاة الاستسقاء يموت إمامها و يمت السلطان و لم يشأ أحد من الفقهاء الموحدين أن يصلي إماما لأن أزواجهم و أولادهم إذا سمعوا أن أحدهم يريد أن يصلي صلاة الاستسقاء إماما يفزعون و يبكون خوفا عيه و يمنعونه فقلت لهم: إن المرض علي شديد و لكني أرجوا من الله أن يقويني حتى أصلي بكم صلاة الاستسقاء و أنا لا أخاف الموت, فاتفق الجماعة على يوم معين فجاءوني بسيارة و توجهنا إلى مصلى العيد و رأيت الزرع بدأ ييبس, فرقيت المنبر و خطبت خطبة غلبني فيها البكاء و صليت بهم ركعتين و في اليوم التالي أذن الله للسماء أن تمطر فأمطرت مطرا غزيرا غدقا أحيا الله به الأرض بعد موتها و استبشر الناس و فرح أصحابنا بنصر الله لنا على القوم المشركين.
الاجتماع بالأمير الملالي(1/104)
…بعد ذلك المطر كان الأمير الملالي يتحدث مع جلسائه فقال أحدهم أيها الأمير: على هذا الغيث ينبغي أن نعمل مأدبة كبيرة شكرا لله تعالى فقال: إي و الله فقال أحدهم: أنا أصنع لكم مأدبة ثم قال آخر: ينبغي أن يدعى إلى هذه المأدبة الدكتور تقي الدين الهلالي لأنه هو الذي صلى صلاة الاستسقاء التي على أثرها جاء المطر, فقال الأمير: لا بأس ندعوه ثم قال لأحد جلسائه ـ من سوء حظي أنني نسيت اسمه و سأصفه بما لا يلتبس به مع غيره فهو رجل من أعيان القصر الكبير و قد كان قبل الاستعمار سفيرا للجزائر في المغرب حسبما سمعت و هو من جماعتنا الموحدين ـ فقال له الأمير: أنت من أصحابه فاذهب إليه وادعه فجاءني رحمة الله عليه و قال لي: إن القائد الملالي يدعوك لحضور المأدبة التي ستقام شكرا لله على المطر. و كنت في أشد ما يكون من الضعف و كان مرض الربو علي شديدا, فسألت الله أن لا يشمت بي أعدائي و أن يمنحني خفة و قوة لكي أستطيع أن أتحدث و أشرح حقيقة دعوتي أمام هذا الرجل وجلسائه و هم أعيان البلد.(1/105)
…فاستجاب الله دعوتي, و خف المرض قليلا فركبت السيارة و توجهت إلى المكان المعد, فسلمت عليه و أجلسني إلى جانبه و كان فقيه القصر الكبير ابن عبد القادر الطود حاضرا, فبقيت ساكتا أنتظر أن تسنح لي فرصة للكلام فجرى ذكر اللحوم و ما يستحسن أكله منها و اختلاف أذواق الناس في ذلك فقال الأمير: يا عجبا لأهل سجلماسة يأكلون الجراد و هو درب من الخنافس و يشمئزون كل الاشمئزاز من أكل الحلزون, (ويسمى باللغة المغربية ببوش) ثم قال: و لي أصدقاء من شرفاء سجلماسة إذا زاروني و أردت أن أغضبهم على سبيل المداعبة أقول لهم: غداؤنا اليوم بابوش فيتقززون و يغضبون, فقلت: أيها الأمير كيف تعيب أكل الجراد على أهل بلادنا و قد أكله النبي صلى الله عليه و سلم و تمدح أكل الحلزون و هو دود مائع و لم يأكله النبي صلى الله عليه و سلم فالنبي معنا و به ننتصر عليكم, فقال الملالي: إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم معكم و جب علينا أن نكون نحن أيضا معكم.(1/106)
…و استمر الحديث في ذكر ما يأكل من الحيوان حتى ذكر أكل سباع الوحش كالذئب و النمر و الأسد, فاندفع الفقيه الطود يسرد ما قاله خليل في مختصره ـ و مختصر خليل عند المغاربة هو كل شيء, هو القرآن و الحديث و العلم متى جرى ذكر مسألة فقهية فالسعيد منهم هو الذي يورد عليها نص مختصر خليل و حين يسمع نصه فهو القول الفصل عندهم ـ فقال الطود: قال صاحب المختصر:( و كره هر و ذئب و نمر و أسد ) و انطلق بسرعة السهم يسرد مختصر خليل, فسنحت حينئذ فرصة أخرى للكلام فقلت له: اتقوا الله و لا تكذبوا على مالك! فإنكم أبحتم أكل لحوم السباع مع الكراهة التنزيهية و نسبتم ذلك إلى مالك, و مالك بريء من ذلك فقد روى في موطئه بسنده إلى أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع, ثم روى بسنده المتصل إلى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال:{ أكل كل ذي ناب من السباع حرام } قال محمد بن الحسن في موطئه عقب هذا الحديث: بهذا نأخذ, يكره أكل ذي ناب من السباع و كل ذي مخلب من الطير و هو قول أبي حنيفة و العامة من فقهائنا و إبراهيم النخعي,اهـ, أبعدما يصرح مالك في روايته عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:{ أكل كل ذي ناب من السباع حرام } تنبون إليه القول بالإباحة مع الكراهة التنزيهية و تزعمون أنه مشهور مذهبه؟! و قد جلبتم بذلك سبة على مذهبكم حتى نسب إليكم خصومكم أنكم تبيحون أكل لحم الكلاب, و هم في ذلك صادقون لأن شراح المختصر ذكروا أن الكلاب من جملة السباع, ثم خرجت من الكلام في هذه المسألة إلى الكلام في وجوب اتباع النبي صلى الله عليه و سلم و ترك تحكيم الرجال و آرائهم المخالفة لما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم, و ذكرت حديث عدي بن حاتم حين جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم و في عنقه صليب فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: { ألق عنك هذا الوثن } و كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ(1/107)
آية براءة حتى انتهى إلى قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } التوبة:31, فقال عدي: يا رسول الله إنا لم نكن نعبدهم. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: { أليس يحلون لكم ما حرم الله و يحرمون عليكم ما أحل الله فتتبعونهم } قال: بلى, قال النبي صلى الله عليه و سلم: { فتلك عبادتهم } أو كما قال.ثم خرجت من ذلك إلى الدعوة إلى توحيد الله تعالى و ترك البدع في الدين, و تحدثت زهاء ساعة و الأمير يسمع و كان يحب الخوض في النوادر و الضحكات, ومع ذلك صبر إلى أن أنهيت كلامي و كان رجل عاقلا من أهل المروءة, و من الأمثال: ( عدو عاقل خير من صديق جاهل ) و لما انتهيت من كلامي قال لي الفقيه عبد القادر الطود: أيها الأستاذ إنني أكن لك الحب و الإجلال فكيف هجمت علي بهذا الهجوم الشديد؟! لعلك لا تعلم أنك لما رقيت المنبر لخطبة الاستسقاء بحذائك أنكر ذلك كثير من الناس فدفعت عنك و قلت لهم: إن فقهاءنا قالوا: لو انتقض وضوء الخطيب و هو في خطبة الجمعة ثم دعا بماء فتوضأ و استأنف خطبته جاز ذلك, فأيهما انتقاض الوضوء أو الخطبة في النعلين؟! فقلت له: أنا ماقصدت اٌساءة إليك و لكني كنت أنتظر فرصة للكلام فهيأتها لي بسردك كلام خليل في أكل لحوم السباع و جزاك الله خيرا على دفاعك عني. أما الذين انتقدوا علي خطبة و أنا منتعل فهم أجهل من حميرهملأن الصلاة في النعل سنة النبي صلى الله عليه و سلم فكيف بالخطبة؟!
الاستسقاء بذبح الخيل(1/108)
…و في تلك الأيام المجدبة بلغنا استسقاء آخر عجيب و غريب و ذلك أن أهل سريف و هي قرية في شمال المغرب أشار عليهم أحد الدجاجلة بما زعم أنه قرأه في كتيب من كتب الخرافات و الأساطير يسمى خزينة الأسرلر, و ذلك أنه إذا وقع الجدب و انقطع المطر و أراد الناس الغيث يعمدون إلى مهر من الخيل فيكتبون على جبهته قوله تعالى من سورة الشورى:{ و هو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا و ينشر رحمته وهو الولي الحميد}الشورى:58 ثم يذبحون المهر و يعلقون رأسه في فرع شجرة عالية فإنهم يمطرون, فعل ذلك أهل سريف فخيبهم الله و في ذلك قلت القصيدة التالية:
……بكى قوم على جاه و مال……و أعول آخرون من الهزال
……و وعظهم بكى في أثر خل……بعيد الأنس آذن بارتحال
……و بعضهم ينوح على شباب……تولى ثم بدل باعتدال
……و دين الله أصبح في ضياع……و لا باك عليه و لا مبال
……بدهر صار فيه العرف نكرا……و نور الحق غطي بالظلام
……و سنة خير خلق الله أضحت……تنادي أين أنتم يا رجالي
……طغى و بغى عليها ثم ابتداع… خبيث سالك سبل الخبال
……متى شاهد الغرباء هبوا……لنصرتها توعدا بالقتال
……و غرته جموع غافرات……حواليه توالي من يوالي
……و ساعده عموم الجهل حتى……لقد شمل الأسافل و الأعالي
……و حزب الله يغلب كل حزب……و ينصره المهيمن ذو الجلال
……فيصلت من كتاب الله بيضا……مهندة تضيء دجى الياي
……و من سنن الرسول له سهام……و من حجج الأصول له عوالي
……و أهل الرأي كلهم بغاث……يتامى في الحديث ذووا اختبال
……و من يعرض عن السنن العوالي……يذق مر الهزيمة في النزال
……و يكسى الخزي في دنياه دوما……و في أخراه يقرى بالنكال
……و من سنن الرسول و تابعيه……سؤال الغيث من مولى الموالي
……من الرحمن لا يدعون شيئا……سواه مخلصين في الابتهال
……إلى أن جاء بعدهم خلوف……دعوا أهل المقابر باهتبال
……و قد ذبحووا لهم بقرا و شاء……و قدنحروا السمان من الجمال
……و من يذبح لغير الله يلعن……مقال المصطفى خير المقال(1/109)
……و أعجب بدعة فيما سمعنا……و أعرق في الجهالة و الخبال
……أمور عن سريف قد أتتنا……تواتر نقلها بين الرجال
……فقد عمدوا إلى مهر كبير……من الخيل المطهمة الغوالي
……فحزوا رأسه بالسيف ظلما……و لم يذنب إلى أحد بحال
……و قد كتبوا بجبهته سطورا……من القرآن يالك من ضلال
……تلك إهانة للذكر جلت……صفات الله من هذي الخلال
……و لو تبعوا الكتاب و عظموه……مع السنن المطهرة العوالي
……لأسقاهم إله الناس غيثا……بلاذبح لخيل أو بغال
……و من يعرض عن القرآن يسلك……عذابا قول ربك ذي التعالي
……و الاستسقاء بذبح الخيل بدع……غريب لم نر له من مثال
……أأهل سريف اتئدوا و توبوا……إلى الرحمن من هذا المحال
……فرب الناس صدقا و حدوه……و قفوا لنبي بحر الكمال
الاستسقاء بالحصى
…و وقع في تلك السنة استسقاء آخر لا يقل غرابة عما تقدمه و ذلك أن دجالا من الدجاجلة أشار على أهل بلده أن يجمعوا سبعين ألف حصاة و يوزعون الحصى على سبعين شخصا من القراء فينال كل واحد ألف حصاة, فيدني كل حصاة من ذلك الحصى من فمه و يقرأ عليها مرة الآية التي تقدم ذكرها:{ و هو الذي ينزل الغيث} ثم يضعون ذلك الحصى في أكياس و يشدون كل كيس بحبل طويل ثم يدلونها في نهر إلى أن يصل كل كيس إلى قرار النهر و يربطون رأس كل حبل بشجرة, قال لهم ذلك الدجال: حين تستقر الأكياس في أسفل النهر يبتدئ الغيث ينزل و يستمر أبدا ما دامت الأكياس في مكانها و لو بقيت سنين, حتى إذا رأى الناس أن الأرض قد أصابها من المطر ما فيه كفايتها ينزعون تلك الأكياس, لأنهم لو تركوها لاستمر المطر بدون انقطاع حتى يعم الطوفان و يهلك الناس بالغرق, ففعلوا ذلك فلم ينالوا قطرة,(1/110)
…ألا ترى أيها المحد الموفق لاتباع كتاب الله و سنة رسوله المتجنب للبدع كلها أن الله سبحانه إذ خيب سعيهم و حرمهم المطر و حبسه, حتى توجه إليه حزبه المفلحون و هم فئة قليلة لا يبلغ عددهم مائة و عملوا بسنة نبيهم و وجهوا وجوههم إلى الله وحده فسقاهم ذلك المطر الغزير أراد أن يجعلها كرامة ظاهرة لأهل الحق نصر بها أولياءه و كبت بها أعداءه, و بين لهم أن الذين يعبدون من دون الله لا يملكون لهم رزقا, و أن الرزق بيد الله لا حيلة لمحتال في جلبه و إنما ينال بتقوى الله التي رأسا و سنامها توحيده و اتباع سنة رسوله.
هجو فقيه مبتدع مر علينا و لم يسلم
…كان هذا الفقيه ـ و لا أسميه إبقاء عليه ـ من أنصار البدعة و الشرك فمر علي و معي جماعة من الموحدين فلم يسلم, فأصلت عليه سيف الهجو جهادا في سبيل الله ليذوق وبال أمره, و هجو المشركين من أعظم القربات, و كان هذا الفقيه السفيه قد بلغ به الجهل إلى أنه كان في سفر من تطوان إلى القصر الكبير فصلى بمن كان معه المغرب ركعتين ظانا أنها تقصر كالرباعية فهجوته بهذه القصيدة و ذكرت تلك الحادثة العجيبة.
……أبا مرة ماذا التعاظم و الكبر……و أنت حقير مائق أرعن غمر
……أبا العلم إن العلم عنك بمعزل……كما لا يكون الدهر في المغرب القصر
……و لم نر في أرض المغارب قاصرا……كقاصر فرض للنهار هو الوتر
……متى رمت أن تضحي فقيها محققا……فقد رمت أمرا دونه الأنجم الزهر
……و لا فضل إن الفضل لست بأهله...………و لا حسب يلفى لديك و لا قدر
……و حظك في التدريس حظ موقر……فباقل إن ينسب إليك هو الحبر
……و لو كنت من أهل السلام عرفته……و أديت حقا واجبا تركه وزر
……و لو ذقت للإيمان أدنى حلاوة………لأخرج منك الغش و أشرح الصدر
……و ما يستقيم الظل و العود أعوج……و لا يثمرن الشهدة الحنظل المر
……جهلت لحاك الله ما في ابن عاشر……أمن بعد هذا الخزي ينفخك الكبر
……قضاؤك يا شيخ التيوس جناية……على الدين إن الدين قد مسه الضر(1/111)
……إذا كان رب الجهل ميتا فإنما……ثيابك أكفان و مكتبك القبر
انتقام المستعمرين مني
…تقد أني سافرت إلى شفشاون للبعد من شاطئ البحر طلبا لخفة مرض الربو, و بها لقيت الحسيب النسيب الكريم السيد أحمد الريسوني و ضيفني و اعترف لي بأنه كان مع تلك الجماعة عازما على قتلي حتى نهاهم عن ذلك الأمير العبقري السيد خالد الريسوني رحمة الله عليه, بقيت في شفشاون خمسة أشهر أكثرها في بيت السيد أحمد الريسوني, ثم تزوجت بفتاة من أقارب أحد إخواننا, و كنت ألقي دروسا منتظمة في الجامع الكبير دون أن أطلب إذنا من المستعمرين كما اتفقت عليه معهم في أول الأمر, و كانوا قد شرطوا علي أن لا أسافر إلى المدن الصغيرة و القرى إلا بإذنهم فسافرت إلى شفشاون بإذنهم و لكني شرعت في إلقاء الدروس بغير إذن, يضاف إلى ذلك ما يأتي :
الاتصال بالوطنيين المقاومين للاستعمار
…كان من أشد الناس إقبالا على دروسي و مرافقتي رجال حزب الصلاح الوطني أذكر منهم الحسيبين النسيبين السيد عبد الله قريش و السيد العياشي العلمي.
تأليف مختصر هدي الخليل(1/112)
…قال لي أولئك الإخوان: إن الله قد هدانا بدعوتك إلى توحيده و اتباع رسوله صلى الله عليه و سلم, و نحن ضعفاء في العلم لا نستطيع أن نغوص في بحور كتب السنة على دلائل المسائل و معرفة ما يوافق السنة لنتجنب مخالفتها, و لا نأمن أن تفارقنا بالموت أو بحادث آخر, فنرجو من فضلك أن تؤلف لنا كتابا يحتوي على مسائل العقائد و العبادات مجردا عن الأدلة مطابقا للسنة المحمدية, فأجبتهم إلى ذلك و صرنا نجتمع في بيتي كل ليلة إلى منتصف الليل أحدهم يكتب و أنا أملي و الباقون يطالعون, كل واحد في يده كتاب من كتب الحديث حتى أتممنا في مدة قصيرة كتاب ( مختصر هدي الخليل في العقائد و عبادة الجليل) و تبرعنا جميعا بالدراهم اللازمة لطبعه حتى تبرعت النساء المحتجبات في بيوتهن دون أن تذكر أسماؤهن, و هكذا تكون الدعوة الكاملة الصافية الخالية من الأغراض الدنيوية فتخالط بسببها بشاشة الإيمان قلوب المستجيبين لها, و كان الحاكم الإسباني يبعث عيونه يتجسسون علينا فيرجعون إليه و يخبرون بأننا نجتمع كل ليلة إلى ما بعد منتصف الليل, فيعد ذلك من الائتمار بالحكم الإسباني و السعي في القضاء عليه و يبلغ ذلك إلى إخوانه المستعمرين في تطوان.
التعاون مع الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله عليه(1/113)
…و بينما المستعمرون الإسبانيون مغتاظون علي لأني نقضت العهد الذي بيني و بينهم لأمرين أحدهما الاتصال بالوطنيين و التعاون معهم و الثاني إلقاء الدروس بدون إذنهم, و هناك ثالث و هو نشر المقالات في صحيفة الحرية لسان حزب الإصلاح الوطني إذا بهم يكتشفون أمرا عظيما له بال هو أشد خطرا من كل ما تقدم, و ذلك أن الإمام حسن البناء رحمه الله و رضي عنه كتب إلي يقول: إن صحيفتنا (الإخوان المسلمين) بلغت من الرواج و الانتشار و لله الحمد إلى أن صارت في مقدمة الصحف اليومية التي تصدر في القاهرة, و لنا مكاتبون في جميع أنحاء العالم إلا في المغرب فليس لنا مكاتب يبعث لنا بأخبار إخواننا المسلمين في هذا القطر المهم, فأرجو من فضلك أن ترشدنا إلى مكاتب تختاره لنا و تخبرنا بما يطلب من المكافأة و أن تسمح لك صحتك بأن تكون أنت بنفسك ذلك المكاتب فهو أحب إلينا فأجبته:
……لبيك يا لبيك يا لبيك……ها أنذا منطلق إليك
…أنا الذي أتشرف أن أكون مكاتبا لصحيفة الإخوان المسلمين و لا أريد على ذلك أجرا إلا من الله تعالى:
……و ما أنا بالباغي على الحب رشوة……ضعيف هوى يبغي عليه ثوابا
…فشرعت في كتابة المقالات و كتبت إلى الصحيفة المذكورة عدة مقالات باسم مستعار و ظننت أن هذا العمل يبقى سرا مكتوما, و كان ذلك غفلة مني ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
…فقد كانت الإمتيازات التي اشترطها البريطانيون على المستعمرين الإسبانيين و الفرنسيين في المغرب تقضي على الفريقين بأمور منها: أنهم لا يتعرضون لمن له حماية إنكليزية من المغاربة, و منها: أن يكون للبريطانيين في كل مدينة من كبريات مدن المغرب بريد لا يدخل تحت مراقبة المستعمرين.(1/114)
…و غاب عني أن القنصل الإنكليزي من أشد أعدائي و قد ائتمر مع الإسبانيين علي فمنعوني من الرجوع إلى البلاد الجرمانية, و قد احتج على مقالاتي في صحيفة الحرية عند الإسبانيين و عاقبوا الصحيفة مرات بالغرامة و الوقف المؤقت كما فعل القنصل الفرنسي, و سيأتي مزيد بيان لهذه العداوة إنشاء الله عند ذكر زيارتي للسفارة الإنكليزية قبل سفري إلى الشرق.
…فقد كانت الامتيازات التي اشترطها البريطانيون على المستعمرين الاسبانيين و الفرنسيين في المغرب تقضي على الفريقين بأمور منها: أنهم لا يتعرضون لمن له حماية إنكليزية من المغاربة, و منها: أن يكون للبريطانيين في كل مدينة من كبريات مدن المغرب بريد لا يدخل تحت مراقبة المستعمرين.
…وغاب عني أن القنصل الانكليزي من أشد أعدائي و قد إئتمر مع الاسبانيين علي فمنعوني من الرجوع إلى البلاد الجرمانية, و قد احتج على مقالاتي في صحيفة الحرية عند الاسبانيين و عاقبوا الصحيفة مرات بالغرامة و الوقف المؤقت كما فعل القنصل الفرنسي, و سيأتي مزيد بيان لهذه العداوة إن شاء الله عند ذكر زيارتي للسفارة الانكليزية قبل سفري إلى الشرق.
…أضف إلى ذلك أن الموظفين في البريد البريطلني في تطوان كلهم مغاربة و هم رعايا للإسبانيين بحكم الاستعمار, و قد أكد عليهم الاسبانيون بالرهبة و الرغبة أن لا يرو رسالة فيها مساس بالإسبانيين إلا أطلعوهم عليها, فكاونوا يطلعونهم على تلك المقالات قبل إرسالها و أنا غافل عن ذلك, فأجمع المستعمرون على أن ينزلوا بي عقابا صارما فأوعزوا إلى جنودهم من عبيد الاستعمار ـ و منهم وزير العدل في ذلك الزمان و أمير شفشاون و نائب قاضيها الحسن العمرتي ـ أن يدبروا لي مكيدة يوقعوني بها في شرك العقاب دون أن ينكشف أن الدافع لها هم الإسبانيون, ففكروا و دبروا و قدروا فظنوا أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في أمر إسلامي لإصلاحي.(1/115)
…و ذلك أنهم علموا أني حين أقمت بشفشاون وعظة قراء القرآن جماعة بلسان واحد أن يتركوا ذلك العمل لأنه مخالف للسنة و ذكرت لهم حديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف صلى الله عليه و سلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة, فكشف الستر و قال: { ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا و لا يرفع بعضكم على بعض في القراءة } و روى مالك في الموطأ عن فروة بن بياضة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج على الناس و هم يصلون و قد علت أصواتهم بالقراءة فقال: { إن المصلي يناجي ربه لينظر بما يناجيه به و لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن } قال ابن عبد البر: حديث البياضي و أبي سعيد ثابتان صحيحان. فاستمعوا لنصحي و تركوا القراءة على تلك الصورة ثم تبعهم أهل المساجد الأخرى.
…فوجد أمير شفشاون و نائب قاضيها باتفاق مع الوزير الوازر أنهم يدخلون علي من هذا الباب, فأعد الوزير و أعوانه فتوى في صحيفة طولها نحو ذراعين ـ أراني إياها الوزير فيما بعد ـ وزعموا أن الراجح في مذهب مالك أن القراءة برفع الصوت جماعة في المسجد ـ و إن كان الناس في كل لحظة يدخلون و يصلون تحية المسجد ـ جائزة بل مستحبة, و كل من درس مذهب المالكية في هذه المسألة يعرف أنهم كاذبون, و قد نص خليل على ذلك بقوله: ( و جهر بها في مسجد كجماعة و أقيم القارئ في المسجد يوم الخميس أو غيره ) و بسط في ذلك شراحه خصوصا المواق. فضربوا بذلك عرض الحائط و اتبعوا بنيات الطريق.(1/116)
…و لما أعدوا الفتوى و أطلعوا على ذلك سادتهم المستعمرين رضوا عنهم و قالوا لهم: لله دركم من عبيد ناصحين مخلصين, فإن هذه المكيدة لم تخطر لنا على بال و بها يبقى أمرنا سرا مكتوما, فاتفقوا مع أمير شفشاون أن يأمر القراء بالعود إلى تلك المخالفة لأنهاهم أنا فيتخذ ذلك وسيلة للقبض علي و إيداعي السجن بدعوى التشويش في أمور الدين, فجاءني النذير من أصحابنا و أخبرني بأن الأمير و نائب القاضي و أعوانهما سينصبون هذا الفخ الشيطاني في الجامع الكبير يوم الجمعة و سيأتي الأمير بالشرطة ليقبضوني.(1/117)
…و كنت في ذلك الوقت أقاسي من شدة الربو و الضعف الشيء الكثير فقال لي: وازع النفس الأمارة بالسوء:اترك صلاة هذه الجمعة و أنت مريض عذرك نعك و لا تجعل لهم سبيلا عليك فما بك قدرة على السجن و التعديب!! فقال لي وازع الله في قلبي: أنت خضت هذه المعركة منذ زمان طويل و لم تبال بما يصيبك في سبيل الله فكيف تجبن البوم؟! فغلبت النفس اللوامة على النفس الأملرةو و ذهبت و أنا أظن أنني لا أتم صلاة ركعتين تحية المسجد حتى يصعد الخطيب على المنبر و لا يبقى مجال لتغيير المنكر, و لكن ماكتب على المرء لا بد من وقوعه, فتوجهت إلى الجامع الكبير و وجدت جماعة القراء قد عادت إلى القراءة جماعة رافعين أصواتهم بأقوى ما يستطيعون, فصليت ركعتين ثم ذهبت إليهم و وقفت على حلقتهم و رفعت صوتي و قلت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: { كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن و لا يؤذ بعضكم بعضا } فما كدت أنتهي من هذا الحديث حتلا سمعت صوتا و هو صوت الأمير يقول:اشت اسكت, فقلت: اسكت أنت يا جاهل يا ظالم أما تستحيي من الله أن تقبل حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل هذا من سوء الأدب؟! فما شعرت إلا و خمسة من الشرطة يدفعونني إلى باب المسجد, فمروا بي على نائب القاضي الحسن العمرتي فقام واقفا و قال بأعلى صوته: اضربوا الكلب الكافر. هذا أمر من الخليفة ففضح سرا دون أن يشعر, و لم يمهلوني أن أبحث عن حذائي فقلت لهم: أنا لا أمشي حافيا فذهب بعضهم و جاءني بأحذية متعددة حتى وجدت من بينها حذائي فاحتذيته, فصار أحدهم يدفعني في كتفي و يقول (زيد زيد) و معنى ذلك بالغة المغربية امش امش, فقلت: يا هذا هون عليك فإنك لا تستطيع أن ترعبني و لست بنادم على ما صنعت و لا خائف مما تبيتونه لي و الله غالب على أمره و لكنكم قوم تجهلون. قلت معنى ذلك باللغة المغربية, حتى أوصلوني إلى غرفة التوقيف التابعة لمكتب الأمير و أدخلوني و أغلقوا علي الباب, و كان(1/118)
معي مصلاي فبسطته و صليت الظهر أربع ركعات, و كانت رائحة كريهة تنبعث من أركان تلك الغرفة و إن كنت لم أر نجاسة فيها.
…و بعد نصف ساعة أي بعدما رجع الأمبر من الصلاة و علم أن أعوانه حبسوني في غرفة الموقوفين و هو يعلم خبثها تحركت فيه عاطفة الرفق, فأمر أحد الكتاب أن ينضم إلى موظف آخر و يترك غرفته حسبما سمعت و أمرني أن ينقلوني إلى غرفته, فسمعت صلصلة المفتاح في القفل ففتح الباب و دخل شرطي و قال لي: قم و اتبعني فانطلق بي إلى غرفة نظيفة فيها مقعد خشبي فجلست عليه و أغلق علي الباب بالمفتاح, فبعد قليل فتح الباب و دخل أحد الموظفين و هو من أقارب الأمير و هو المسمى ابن اليماني فجاءني بطعام فأكلت منه قليلا, و قال لي: إن الأمير نادم على عمله و لكنك أهنته أشد الإهانة على رؤوس الأشهاد فصار مضطرا إلى أن يعاملك بمثل هذه المعاملة فقلت له { اعملوا على مكانتكم إنا عاملون و انتظروا إنا منتظرون }هود:121,122.
…ثم علمت زوجتي بما وقع فبعثت لي فراشا و طعاما مع أخيها فلم أستطع أن آكل سيئا فقلت له: رده و آتني بالمصحف, لأن أحب أن أقرأ فيه لأكون أقوى على التدبر مني لو قرأت من حفظي فجاءني به.
…و في تلك الأيام كان المجاهد العظيم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان قد توفي إلى رحمة الله فأدت أن أنظم قصيدة في رثائه فطلبت أداة كتابة فلم يأذن بذلك الأمير فأخذت أنظم القصيدة دون كتابة بيتا فبيتا حتى أكملتها ستة و عشرين بيتا لأنشرها يوم تأبينه أو أبعثها لتنشد في ذلك اليوم إن بقيت في السجن, فقضى الله سبحانه أن أخرج من السجن و أحضر يوم التأبين و أنشدها فيه و لم أر مناسبة لذكرها هنا لأنها لا تتعلق بالدعوةو و قد نقلها المجاهد الكبير محمد علي الطاهر في كتابه ذكرى الأمير شكيب أرسلان فليرجع إليه من شاء الاطلاع عليها.(1/119)
…و عند منتصف ليلة السبت و هي الليلة الأولى التي قضيتها في السجن أو التوقيف كما يسمونه سمعت صلصلة المفتاح في القفل, ففتح الباب و جاءني ذلك الشرطي الذي كان يدفعني أمس و يقول: امش امشفأخذ يقبل يدي و رجلي و يقول: سامحني يا سيدي و لا تؤاخذني بما فعلت فإن هذا الأمير الظالم أمرني بذلك, و إن شيئت أن تخرج إلى صحن الدار لتستنشق الهواء النقي فأنا غي خدمتك و إن أردت طعاما أو شرابا أو فراشا فأمرني به, فدعوت له بخير و عفوت عنه و قلت: لا أحتاج إلى شيء.
الاجتماع بالحاكم الإسباني
…و في ضحى يوم السبت فتح الباب و أمرت بالخروج فلقيت شرطيا عند باب المبنى ينتظرني فقال لي: أنا رسول المراقب المدني إليك لتأتي إلى مكتبه و لأجل أن لا يراك الناس في هذه الحال سأخرج بك خارج المدينة و نسير في طريق البساتين إلى أن نصل إلى مكتب المراقب, فقلت له: أنت مخطئ في ظنك أتظن أني أستحيي أن يراني الناس و يعلموا أني مسجون على يد المستعمرين؟ إني أرى ذلك شرفا و أحب إعلانه فقال لي: على كل حال الأفضل أن لا نمر بالسوق فقلت له: إن أمرك المراقب بذلك فلا بأس, فانطلقت معه إلى المراقب فأجلسني أولا في مفسلم علي الفقيه سلام إجلال و تكريم و قال لي: جزاك الله خيرا لقد شرفت أهل العلم بصبرك و جهادك و شجاعتك. إن الناس كانوا يقولون: إن العلماء جبناء, فأقمت أنت البرهان على كذبهم, و أهل هذه المدينة اصبحوا يجلونك و يحبونك حتى الذين كانوا يعادونك من قبل, و في هذا اليوم ظهر لك مقال في صحيفة الحرية فتخطف الناس أجزاءها و قرأوا مقالك بشوق.(1/120)
…فجاء الشرطي و دعاني إلى مكتب الحاكم الإسباني, و كان من فضل الله علي أنني ما هبت أحدا منهم و لا ناظرت أحدا منهم إلا ظهرت عليه, فدخلت المكتب و جلست على كرسي مواجه له فافتتح الحديث بقوله: إننا متأسفون على ما وقع بينك و بين الأمير و نائب القاضي, و لما كانت هذه المسألة دينية لم يكن لنا أن نتدخل فيها, و نحن نكرم أهل العلم و رجال الدين و نرى أنه ينبغي لهم أن يكونوا حلماء و يصفحوا عن المسيئين إليهم, و لذك أقترح عليك أن تجتمع مع الأمير و تتصالح معه ليتمكن من إطلاق سراحك.( و كلاما من هذا القبيل ) فقلت له بوسطة الترجمان ـ مع أني كنت أفهم ما يقول لأني كنت في برلين قد دفعت أجرة مائة ساعة لتعلم اللغة الإسبانية فحضرت منها ستين ساعة, أضف إلى ذلك أني أقمت في غرناطة أربعة أشهر كما تقدم ـقلت له: هذا الاقتراح الذي اقترحت علي يتفق عندكم مع تعظيم الدين و العلم و حرمات المساجد! أرأيت لو أن قسيسا كان يعظ الناس في الكنيسة فقام رجل من الحاضرين و أساء الأدب مع الدين و معه و أسكته فقال له القسيس الواعظ: أنت أحق بالسكوت يا جاهل يا ظالم, و كنت أنت حاكم تلك المدينة ثم رفع الأمر إليك فبأي حكم تحكم؟ أتحكم بحبس القسيس و إلزامه بطلب العفو من ذلك الظالم الذي امر بحبسه و أساء الأدب مع الدين و انتهك حرمة الكنيسة أم تأمر بحبس ذلك الجاني و إطلاق سراح القسيس و الاعتذر له و إرضائه؟! فقال لي حائدا عن الجواب: مقصودي أن العلماء من شأنهم أن يكونوا حلماء فقلت له: أرني حقي ثم اطلب مني الحلم, أما قولك: إنها مسألة دينية, فليس بصحيح فإني اقمت هنا أكثر من خمسة اشهر و الأمير و نائب القاضي يعاديانني و لم يتجرآن على الإساءة إلي حتى حرضتموهم على ذلك و هما عبدان خاضعان لكم لا يتجرآن أن يحبسا نملة إلا بأمركم, و أنا لست من الغفلة بالمكان الذي يروج علي فيه اعتذارك هذا فهو مردود عليك فقل لي: أنا متأسف و ما أردت لك إلا الخير و أنت(1/121)
حر في تصرفك.
…و كان مما قاله لي و نسيت ذكره في موضعه: إن الأمير كان مكرها على حبسك لأنك شتمته أمام رعيته, فلو لم يحبسك لم يبق له حرمة عندهم فلا يستطيع أن يحكم على أحد بعد ذلك. فقلت له: أهكذا تكون العدالة عندكم في إسبانيا؟! يتجرأ أمير قرية على إسكاة واعظ في الكنيسة و الأمر بحبسه و لا يعد ذلك ظلما و لا إهانة للدين و العلم ثم يعتذر للظالم بهذا العذر البارد, فهب أنه لم تبق له حرمة عند رعيته و لا يستطيع أن يحكم عليهم فهناك حكم آخر أحسن و أعدل و هو أن يعزل ذلك الحاكم و هو أن يعزل ذلك الحاكم و يعاقب على عمله و يستبدل بغيره.
…فانصرفت من عنده و الترجمان يرافقني و هو متأسف علي فقال لي: ماذا صنعت بنفسك يا أخي؟ أنت مريض و لا قوة لك على البقاء في السجن و لا تظن أن هذا الذي أنت فيه هو السجن إنما هو توقيف و تمهيد و سيحكم عليك بالسجن و المكث فيه صعب, و لا تغتر بما يظهره لك الناس من المحبة فإنه يمكن أن تبقى في السجن حتى تموت فقلت له كما قلت للإسبني من قبله: أتريد مني ان أذهب إلى الأمير و أتذلل له و أكذب على نفسي و أقول: إني كنت مخطئا في جوابي لك فأسألك العفو؟ فقال: هذا الذي يحتمه الحال التي أنت فيها فقلت: لن أفعل ذلك أبدا إن شاء الله و ليكن ما عسى أن يكون. فقال لي: أرجوا أن توافقني على لقاء الأمير فقط فقلت: أنا موافق عليه فقال: انتظرني هنا فرجع إلى الحاكم فقال: إنه قبل أن يجتمع بالأمير فأذن لي أن أرافقه. و كان هذا الرجل ناصحا لي, و لم يكن يدري أن الأمر ليس بيد الأمير و لا بيد حاكم شفشاون و إنما جاء من الدائرة العليا في تطوان, و هو أمر بيت بليل, فلم يأذن له الحاكم بل قال له: الشرطي الذي جاء به يرده فقال الترجمان للشرطي: اذهب به إلى الأمير.(1/122)
…فذهبت إلى الأمير في مكتبه و قلت له: السلام عليكم فقالك و عليكم السلام اجلس, و أشار إلى كرسي فجلست و بقينا ساكتين ثم قال: أيها الأستاذ أنت قلت في المسجد أمام الناس: إني جاهل و أنت صادق و لكن لو قلت ذلك و صفحت عنك لسقطت في أعين الناس و لم يبقى لي عندهم احترام فقلت له: ماذا تريد بهذا الكلام. لعلك تريد إظهار الندم و فتح باب الصلح؟ فقال: نعم فقلت له: لي شرط واحد إن أنت قبلته سامحتك في الدنيا و الآخرة و إن لم تقبله فردني إلى السجن. و قبل ذلك قلت له: لماذا كنت قبل أن أجيء إلى بلدك كلما رأيتني في تطوان أسرعت إلى السلام علي ببشاشة و تودد و لما جئت إلى بلدك لم تسلم علي و لا مرة واحدة و لا ضيفتني؟ فقال لي: لم أستطع ذلك معناه أنه يخاف من الإسبانيين ثم قلت له: و هذا هو الشرط أن تقف في المسجد الجامع قبيل أن يرقى الخطيب على المنبر و تقول: أيها الناس اشهدوا علي أني كنت ظالما حين أسكت الدكتور محمد تقي الدين الهلالي يوم الجمعة الماضي, و إني أشهدكم أني تبت إلى الله و إنني ألتزم نصرة سنة النبي قولا و عملا حتى ألقى الله,فقال لي: دعني أفكر في هذا الأمر فقلت: إذا أرجع إلى السجن حتى تفكرز و كان الشرطي عند الباب فذهبت معه إلى السجن.(1/123)
…أما أهل شفشاون فإنهم استنكروا هذا العمل كل الاستنكار و لم يخافوا سطوة الأمير و لا سطوة الإسبانيين و اجتمع خلق كثير منهم, فتوجهوا إلى مكتب الأمير ليبدوا لهم استنكارهم و يطلبوا منه إخراجي, فأمر الشرطة أن يصرفوهم فصرفوهم و من شدة إعجابهم بموقفي و ثباتي أشاعوا أن الأمير عرض علي أن يطلق صراحي فامتنعت, و لعلهم فسروا اشتراطي ذلك الشرط عليه بالامتناع و وجدت بخط يدي ما نصه أن سكان شفشاون قد قاموا و قعدوا لهذه الحادثة و أقاموا القيامة, و بلغ بهم الأمر إلى أنهم هجروا الجامع الأعظم في الجمعة التالية فلم يصل فيه أحد إلا الغرباء الذين يأتون إلى السوق, و ذهب جماعة من المواطنين إلى طنجة و احتجوا على هذه الحادثة عند السفير الإسباني, و أذاعت إذاعة لندن[الخبر], و قاطعوا الأمير بقدر جهدهم فقد كانت لهم عادة في أوائل ربيع الأول أن ينادي المنادي في الناس بأمر من الأمير أن يجمعوا النقود لشراء ثور يذبحونه في اليوم الثاني عشر من هذا الشهر على القبة المدعوة سيدي علي بن راشد, و يبيتون ليلة الثاني عشر مع أمير المدينة ينشدون القصائد في المدح النبوي في تلك القبة إلى أواخر الليل و بعد هذه الحادثة دخل ربيع الأول و نادى المنادي و كان شابا فذهب الناس إلى أبيه و قالوا له: كيف تترك ابنك يعين هذا الظالم الذي قبض على الدكتور يوم الجمعة بالمسجد الأعظم؟! فلام الرجل ابنه فقال: إني فعلت ذلك خوفا منه فقط و أنا أقول لناس بصوة منخفض: لا تفعلوا لا تفعلوا, و لم يتبرع أحد بفلس واحد لشراء الثور, فاضطر الأمير أن يشتريه من ماله الحرام و ما ذبح لغير الله فهو جددير أن يشترى بمال حرام, و لم يشاركه أحد من أعيان البلد فيما يسمى عندهم بإحياء الليلة و هو في الحقيقة إماتة لها. و هذا في عهد الاسعمار عمل عظيم و لا يستغرب مثله من سكان الشمال فإن لهم مواقف مشرفة في محاربة الاستعمار و لا يتجرأ عليها سكان الجنوب و لولا خوف الإطالة لذكرت(1/124)
أمثلة من ذلك.
…و في عصر ذلك اليوم و هو السبت24 صفر1366هـ الموفق 17 يناير 1947م جاءني السيد عبد السلام بن محمد المؤذن, و السيد محمد العبودي و هما من خاصة تلامذتي من الشبان فدخلا علي في معتقلي و قال لي السيد عبد السلام: إنا جئنا ظهرا و كنا عند الأمير و بلغته أن والدي السيد محمد المؤذن ساخط كل السخط على معاملته لك, و قال: و قلت له أنا: أين الصداقة و الأخوة التي بيننا كيف تقبض على أستاذنا و تخرجه من المسجد و تحبسه بصورة مخزية لك و تبقى بيننا و بينك مودة؟! فقال لي: يا سيدي عبد السلام هذا سر لا أستطيع أن أخفيه عنك و لا أستطيع أن أبوح به إلى غيرك, إن المراقب الإسباني هو الذي أمرني بالقبض عليه و قد جاءه أمر من تطوان بذلك, و أرجوا أن تكتم على هذا الأمر و لا تخبره به فإن في ذلك خطرا على منصبي, و غدا يوم الأحد ما فيه شغل و في يوم الإثنين يكون عندكم في تطوان, فإن قلت: لماذا يخاف الأمير من السيد عبد السلام و والده كل هذا الخوف؟ فالجواب, أنه كان له عيال كثير و كان مفلسا على الدوام فإذا أراد المستعمرون توزيع سلفة من الحبوب على الأهالي يطلبون منه ثمنها نقدا فلا ينقذه إلا السيد محمد المؤذن فهو يقرضه المال الذي يدفعه للمستعمرين ثم يأكل هو أكثر تلك الحبوب و يوزع شيئا قليلا على أصدقائه و هذا أمر مألوف بين حكام الشعوب المستعمرة.
الانتقال إلى تطوان(1/125)
…مر يوم واحد و هو يوم تعطيل عند النصارى, يمنع حكامهم رعاياهم و رعايا البلدان الواقعة تحت حكمهم من العمل بعد ظهر يوم السبت إلى صباح يوم الإثنين, حتى المستشفيات يعطل فيها الشغل و لا يفعل إلا ما هو ضروري لإنقاذ الحياة و كذلك المدارس و المحاكم و دور التجارة و المصانع إلا أن سكك الحديد و الطائرات المطاعم لا تعطل. و من خالف هذا القانون يعاقب عقابا صارما و ليس العجب من النصارى إذا عطلوا يوم عيدهم المكذوب على المسيح فذلك دينهم, و لكن العجب كل العجب من سكان المستعمرات التي كان يحكمها النصارى كباكستان و المغرب و الجزائر ثم استقلت منذ زمان طويل و مع ذلك لا تزال محافظة على سنة النصارى في تعطيل يوم الأحد و تعطيل أيام عيد الميلاد, و كذلك لم يزل هؤلاء و غيرهم محافظين على سنة النصارى في استعمال تاريخ النصارى و هجر تاريخ الإسلام حتى أن علماء الدين أنفسهم يكتبون إلى إخوانهم المسلمين يؤرخون لهم الكتب بتاريخ النصارى و للكلام على هذا موضع آخر و إنما هي نفثة مصور.
…و إنما قلت: إن جعل يوم الأحد عيدا للنصارى مكذوب على المسيح في جملة ما كذبوا عليه كأكل لحم الخنزير و قولهم: إن الله ثلاثة أقانيم الأب, و الإبن, وروح القدس, لأن المسيح كان يعطل يوم السبت كسائر بني إسرائيل و الأناجيل الأربعة طافحة بذلك, فلما تنصر الملك قسطنطين كره موافقة اليهود فنقل العيد من يوم السبت إلى يوم الأحد.(1/126)
…أقول: مضى يوم الأحد علي في السجن لأنه لا عمل فيه و قبل فجر يوم الإثنين سمعت صوت المفتاح في القفل ثم فتح الباب و قال لي الحارس: خذ ما تحتاج إليه من أمتعتك لأنك ستبارح هذا المكان, فأخذت اللبدة التي أصلي عيها و لم آخذ شيئا غيرها و خرجت من مبنى مكتب الأمير فوجدت حارسا آخر على الباب ينتظرني, فسلم علي بلطف و أدب غير معهود من حراس مكتب الأمير و قال لي: اتبعني فانطلقت معه إلى مكان قريب من شركة (بالين سيانا) للسيارات فقال: انتظرني هاهنا, فتيممت و صليت الصبح لأن فرضي في تلك الأيام كان تيمما للمرض الذي كنت مصابا به, ثم رجع إلي الحارس و أخذني إلى السيارة و ركب إلى جانبي فتوجهت بنا السيارة إلى تطوان.
…و لما نزلنا رافقني الحارس إلى مكتب(كاساس) و هو المراقب الإسباني الذي كان يتصرف في جميع شؤون الحكم في تلك الأيام و كان شديدا على المغاربة و كنت أقول فيه باللغة الإسبانية:(كاساس كيقا أدستروير سوس كاساس) و هذا سجع لأن الكلمة الأولى و الأخيرة لفظهما واحد و معناها مختلف فالأولى علم على ذلك الحاكم الإسباني و الأخيرة معناها بيوت أو ديار. و معنا الجملة كاساس هو الذي سيخرب بيوتهم أي بيوت قومه الإسبانيين, و كذلك وقع فإنه بقي يحكم بأمره و أمر رؤسائه حتى فاجأه الاستقلال و خرج من تطوان خاسئا ذليلا. {فقطع دابر الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين}الأنعام45.(1/127)
…و لما جلست أمام كاساس قال لي: نحن متأسفون لهذا الحادث و قد اشترط عليك الحكام الذين كانوا قبلي أن لا تسكن في المدن الصغيرة لأن حكامها يتصرفون حسبما يظهر لهم. و لما كان هذا الحادث من شؤون الدين الإسلامي فنحن لا نحب أن نتدخل فيه و إنما ننفذ ما يحكم به القاضي و الأمير فقلت له: إنني لم أبلغ من الغفلة و الجهل إلى الحد الذي تظن فهذا الحادث بحذافيره منكم و إليكم, و تستركم بدين الإسلام و بالمسجد و بالقاضي و الأمير لا يجديكم نفعا, و برهان ذلك: أن هذه المسألة ـ و هي وعظ قراء القرآن أن لا يرفعوا أصواتهم و لا يقرأوا جماعة ـ و قع منذ أكثر من خمسة أشهر و استمع القراء و قبلوا النصح و تركوا القراءة طول هذه المدة, و الأمير و القاضي يسمعان و يريان و لم يحركا ساكنا و لا نبسا ببنت شفة حتى أوعزتم إليهما بنصب هذا الشرك و لم تقتصروا عليهما بل أوعزتم إلى وزير العدل أن يجضر فتوى بذلك.
…فقال لي: أنا آسف على تصورك هذا الذي هو ما تخيلته و لا نصيب له من الصحة فقلت له: أنت حاكم تستطيع أن تجعل الصحيح باطلا و الباطل صحيحا بالقول و لا يستطيع أحدا أن يعارضك و لكن الحقائق في نفسها ثابتة لا تتبدل قال لي: نحن لا نمنعك أن تسكن في شفشاون و لكننا لا نستطيع أن نضمن لك أن لا يتكرر مثل هذا الحدث, لأننا لا نستطيع أن نقيد أيدي الحكام المغاربة و الإسبانيين عن التصرف طبق ما يرونه صالحا للبلد الذي يدبرون شؤونه ثم قال لي: أنت حر طليق يمكنك أن تنصرف.
…فكانت مدة إقامتي في السجن إلى أن أطلق سراحي ثلاثة أيام, ثم رجعت إلى الاستقرار في تطوان و بعثت أحد تلامذتي إلى شفشاون و أرسلت معه رسالة إلى إخوة الزوجة أن يأتوا بها و بالأمتعة إلى تطوان.
لماذا خذلني خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي(1/128)
…كان من أسباب انتباه الإسبانيين إلي و إساءتهم معاملتي أن هذا الخليفة بعث إلي سيارته في الأسبوع الأول الذي قدمت فيه تطوان و كنت في نادي الطالب المغربي مع أن المسافة بين النادي و القصر الخليفي لا تحتاج إلى سيرة و لكنه أراد إكرامي فركبت السيارة و وصلت إليه فرحب بي و قال لي: لي أمنية لم تزل تختلج في صدري و هي إنشاء معهد للقرآن و الحديث و لكني لم أجد لهذا المعهد رجلا كفؤا أطمئن إليه في تدبر شؤونه حتى قدمت أنت و علمت ما لك من الفضل و العلم و الدين فأرجوا أن تقيم عندنا في تجلة و إكرام و لا ترجع إلى ألمانيا لأن بلادك في حاجة إليك فدعوت له و شكرته على حسن ظنه و اعتذرت بأنني جئت لزيارة تطوان بقصد الرجوع إلى برلين لأن لي علائق لا بد من إنهائها فعاد إلى الإلحاح فقلت: أفكر في هذا الأمر, أما جواسيس الاستعمار فقد أسرعوا إلى الإسبانيين و بلغوهم بهذا الاجتماع فحسبوا له حسابا و فكروا و قدروا.
و كان ذلك سببا لأن دعاني مدير الشرطة العام إلى مكتبه و استنطقني لمدة ثلاث ساعات كلها سين و جيم كما يقولون و على أثر ذلك انتزع مني جواز السفر, و قال لي: سأنقل ما فيه و أرده لك فكان ذلك آخر العهد به, ثم تلى ذلك ماتقدم ذكره من اتهام الإسبانيين لي بأنني مبعوث من الحكومة الألمانية للسعي في إخراج الإسبانيين من المغرب.
و لما رأى الخليفة الإسبانيين عاملوني بتلك المعاملة صرف النظر عما دعني إليه. و تولى الإسبانيون أنفسهم تأسيس المعهد الإسلامي الأعلى.(1/129)
و هذا الخليفة و إن كان مقيدا بسلاسل الاستعمار فإنه كان متصفا بالشهامة و الغيرة على الإسلام كما ستعرفه فيما بعد إلا أن الوشات من أعداء التوحيد و السنة بلغوه أني صرت من أتباع أمير العرائش السيد خالد الريسوني و كانت بينهما عداوة شديدة, و إن كان الخليفة في الظاهر هو نائب السلطان و هو الرئيس على جميع الأمراء إلا أن الاستعمار كان يسير على خططه المعوجة و مصالحه المنشودة و هو يعلم أن السيد خالد إدريسي النسب و كان أبوه قد ثار على الدولة العلوية و الخليفة علوي, و للاستعمار مصلحة كبيرة في إثارة الحزازات و المنافسة بين الأدارسة و العلويين جريا على قاعدة (فرق تسد) فلما بلغ الخليفة هذا الخبر قبله على علاته و لم يمحصه فلذلك خذلني عندما حبسني الإسبانيون.
و لما سمع خبر هذا الحادث الأمير خالد الريسوني رحمه الله كتب إلي بخط يده كتابا يقول فيه: إنه قد بلغني ما جرى عليك مما صنعته أيدي المغاربة و الإسبانيين فأسفت لذلك كثيرا فهلم إلي فإني مستعد لحمايتك و إكرامك ما دمت مقيما في المغرب لا تصل إليك يد مغربي و لا لإسباني و إن أردت السفر إلى الشرق أوصلتك إلى أي مكان تريد, و للم يكن لي أحد أستشيره إلا عالم المغرب و أديبه العبقري في هذا العصر الأستاذ عبد الله كنون لثقتي بحصافة رأيه و إخلاصه النصيحة فاستشرته, فقال لي: لا تفعل إن لك عند أبناء قومك المغاربة من علو المكانة و القدر أكثر مما للأمير خالد الريسوني فاقنع بحماية الله, فأخذت برأيه و كتبت إلى الأمير خالد و شكرته و اعتذرت عن قبول ما دعاني إليه, و لعم ـ بعد ذلك ـ الخليفة أن الوشاة خدعوه و أنني لم أكن من أتباع أمير العرائش و لا غيره و إنما كنت و لا أزال إنشاء الله من المتبعين للنبي صلى الله عليه و سلم.
طلب أمير شفشاون للصلح مرة أخرى(1/130)
جاء أمير شفشاون إلى السيد محمد المؤذن رحمه الله و اعتذر له بأن الإسبانيين أمروه بأن يقبض علي و أنه لم يزد على تنفيذ ما أمروه به, و أن ناسا من المشركين و المبتدعين و منهم الحسن العمرتي طلبوا منه أن يضربني ثلاثمائة سوط لأني أنكرت كرامات الأولياء و طعنت ةفي عقيدة الأشاعرة و أفسدت المذهب المالكي, فأبى أن يسمع قولهم إحتراما لعمي و فضلي الذي يعتقده, و هو يطلب من السيد محمد المؤذن: أن يصلح بيننا فقلت للسيد محمد المؤذن: أنا لا أمتنع أبدا من الصلح و لكن بالشرط الذي اشترطته عليه في مكتبه بشفشاون فبلغه ذلك, فلم يستطع و لكنه بقي مع ذلك مصرا على طلب العفو مني يتحين الفرص لذلك.
و في يوم من الأيام ذهبت لزيارة الخليفة مولاي الحسن بن مهدي بارك الله في حياته فسجلت اسمي و أمرت بالانتظار في مقصورة تسمى البنيقة, و كان هناك أناس غيري ينتظرون لقاء الخليفة فما شعرت إلا و قد هجم علي شخص و قبل رأسي و قال لي: أيها الأستاذ أطلب منك المسامحة فإذا به أمير شفشاون اليزيد بن صالح, فلم أجبه بشيء و لا شك أن هذا الرجل لم يكن خاليا من الخير بالمرة, و كان صادقا في قوله: إن الإسبانيين أمروه بالقبض علي و قد طلب العفو مني ثلاث مرات إلا أن شرطي كان شاقا عليه.
و بعد عشر سنيين من ذلك فقط جاء الاستقلال و ذهب الاستعمار و ذل من كان معتزا به و وصل إلى الحضيض الأسفل بل قبل ثمان سنيين فقط و في سنة1957 سافرت إلى المغرب و وجدت أمير شفشاون و أحد إخواننا و هو السيد العياشي العلمي فأكرمني غاية الإكرام, و وجدت الحسن العمرتي قد جلله الخزي و لزم بيته فلا يخرج منه, فألقيت درسا في المسجد الأعظم الذي قبض علي فيه افتتحته بقول الله تعالى من سورة القصص:{و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين*و نمكن لهم في الأرض و نري فرعون و هامان و جنودهما منهم ماكانوا يحذرون}القصص:5’6.(1/131)
ثم قلت: أين المراقب الإسباني أين اليزيد بن صالح و أعوانه أين الحسن العمرتي؟! أخنى عليهم الذي أخنى على لبد فلما{فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون*فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين}الأنعام44’45 قال تعالى في سورة النمل:{ و مكروا مكرا و مكرنا مكرا و هم لا يشعرون*فانظركيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم و قومهم أجمعين*فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون*و أنجينا الذين آمنوا و كانوا يتقون}النمل: 50’53 و امتلأ المسجد الجامع كما يمتلئ يوم الجمعة و أنجز الله سبحانه و تعالى ما كنت أوعدت به الأمير السابق في القصيدة التي ستأتي في هذا الكتاب. قال تعالى في سورة غافر:{إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد} 51, اللهم اجعلنا من الذين آمنوا و اتبعوا رسلك فنصرتهم على أعدائهم.
عاقبة أمير شفشاون اليزيد بن صالح
نقل الإسبانيون هذا الأمير لإخلاصه في خدمتهم إلى إمارة مدينة تطوان و هي عاصمة الشمال مكافأة له على إخلاصه لهم فلما جاء الاستقلال زار الملك المظفر محمد الخامس مدينة تطوان, فجاء اليزيد و أخذ يطوف على المستقبلين و يقول: أين اللبن أين التمر؟ و من عادة المغاربة أن يستقبلوا كل ضيف عزيز باللبن و التمر. فجا جماعة من الوطنيين المجاهدين وقالوا له: أيها الخائن بلغت بك الوقاحة إلى أن تأتي إلى هنا! بأي و جه تستقبل الملك أبالوجه الذي خدمت به الاستعمار؟! و حملوه في الهواء و ألقوه بعيدا فأصابته رضوض و دخل بيته و لم يخرج منه إلى أن مات.
و ينبغي أن أثبت هنا القصيدة التي أنشأتها في هجوه, لا حقدا عليه لأن طلبط المتكرر بالعفو يلين القلب القاسي هذا مع أنه كان أميرا و أنا رجل غريب لا ناصر لي إلا الله, و لكن لما فيها من العبر فقد أنطقني الله فيها بأمور وقعت كلها في المستقبل القريب كأني كنت أنظر إليها:(1/132)
…أخب لئيم الطبع خب منافق……على صورة الإنسان و هو مريد
…من النكر يدنوا حيث صارت ركابه……و أما من المعروف فهو بعيد
…و ما كان يوما زائدا في فضيلة……و لكن يزيد في الفجور يزيد
…ضعيف متى يدعى إلى فعل صالح……و لكنه في السيئات شديد
…فإن كان حقا ما دعوه ابن صالح……فما رأيه في الصالحات سديد
…يحارب دين الحق من أجل شقوة……و يبدئ في إجرامه و يعيد
…كلام رسول الله أعدى عدوه……متى يسمعنه فهو عنه يحيد
…و إن قلت: قال الله زاد نفوره……و أدبر ـ يدعوا ـ و يله و يميد
…و لا غرو فالجعلان يجلب حتفها……شذا المسك مما نالها فتبيد
…يضل بذكر الله من حان حينه……و يهدى به للصالحات رشيد
…و من رام يطفي بالجهالة نوره……فذلك غمر للمحال يريد
…و أهل حديث المصطفى من يعادهم……ينله عذاب واصب و وعيد
…فهم أولياء الله و الله مؤذن……معاديهم بالحرب و هو شهيد
…و كم جاهل أمسى يحاول حربهم……فباء بخزي ما عليه مزيد
…فقل لشقي بالوعيد مكذب……أتاك و بال ليس عنه محيد
…و كم صالح ولى و خلف خلفه……غويا صروح الموبقات يشيد
…أتغتر بالإمهال تحسب أنه……ـ لك الويل ـ إهمال فأنت بليد
…سيأتيك يوم عن قريب حسابه……عسير و أخذ المجرمين شديد
…فأبشر بخزي ما حييت و إن تمت……تلاقي الذي لاقى أخاك يزيد
…و لو كان ذا فضل لهانت مصيبة……و لكن جهول فاجر و عنيد
…و لولا الشقى ما غره ظل منصب……و لا عدد من خادميه عديد
…فلا منصب إلا سراب بقيعة……و إن كان ملكا حمته جنود
…تفرعنت يا مغرور في حكم قرية……غدوت بها للصالحين تكيد
…لصيد ضعاف قد نصبت حبائلا……و كم صائد قد عاد و هو مصيد
…و منذ رآك الناس فيها تشاءموا……بشر و نحس لا يزال يزيد
…و لو كنت برا لم تطل لك مدة……و لكن عهد المجرمين مديد
بين اليزيد و الملالي(1/133)
بعد حادثة السجن اجتمع اليزيد بن صالح أمير شفشاون بالملالي أمير القصر الكبير زار الأول الأخير في قصره فقال أحد جلساء الأمير الملالي يخاطب اليزيد: جزاك الله خيرا على ما فعلت بعدونا الهلالي, إن عملك معه يعد جهادا في سبيل الله فإنه ينكر على سيدي أحمد التجاني و أهل طريقته فيحكم عليهم بالضلال, فسكت اليزيد و قال له الملالي: لا تظن أن هذا ـ و إن كان من جلسائي ـ يعبر عن رأيي فإني أعتقد أنك قد فعلت أمرا قبيحا شنيعا لا يرضى به أحد له دين أو مروؤة و لا ينبغي للأمير أن يضعف أمام الإسبانيين إلى أن يصير آلة في يدهم يطيعهم في كل ما يأمرون, فلا بارك الله في الإمارة التي توصل إلى مثل ذلك, لا تظن أني أقول هذا محبة له فإني أعاديه كما يعاديه كل تجاني قرأ مقاله في صحيفة الحرية الذي ترجم له بقوله(كيف خرجة من الطريقة) و قد أقام في القصر الكبير أربعة أشهر فلم أستطع أن أتعرض له بسوء و هو في قبضتي و تحت يدي, لأن الذي يقول: قال الله قال رسول الله يغلبني, كيف سمحت لك نفسك أن تقبض على رجل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت من بيوت الله؟! إنني لن أفعل ذلك و لو أفضى بي الأمر إلى أن أتنازل عن الإمارة.
شكر أهل شفشاون في قصيدة من بحر الطويل
…جزى الله شفشاون بخير و نعمة……و نجاهم من كل شر و نقمة
…و صانهم من كيد كل منافق……لئيم خؤون هاتك كل حرمة
…مطاعين في الهيجا ميامين في الندى……أكارم شجعان مصابيح ظلمة
…هم نصروا الدين الحنيف و عظموا……حديث رسول الله خير البرية
…و قالوا لداعي الحق لبيك إذ دعا……و قالوا لداعي الشر أبشر بخيبة
…و لم يرهبوا في الله لومة لائم……و لا بطش خصم موعد بالأذية
…إذا سمعوا قول الرسول تفتحت……قلوبهم للحق في كل لحظة
…أناس تولى الله شرح صدورهم……و طهرها من كل رجس و بدعة
…و من شرح الرحمن للحق صدره……فلن يظفر الشيطان منه بنزغة
…و من ينصر القرآن و السنة التي……أتت عن رسول الله يحظى بنصرة(1/134)
…و لا بد أن يلقى شدائد جمة……كما لقي المختار في بطن مكة
…و أصحابه الغر الكرام و من قفا……سبيلهم المثلى بعزم و قوة
…و عقباهم فتح و نصر مؤزر……و من شك في هذا اقتفى أهل ردة
…و قد مست البأساء خير صحابه……و قالوا متى يا رب يحظى بنجدة
…أجابهم الله الكريم أن اصبروا……تنالوا قريبا جل نصر و عزة
…و ذي سنتي في الأصفياء جميعهم……و من ذا الذي يسطيع تبديل سنتي
…و يا أهل شفشاون سلام عليكم…ستبلغكم طول الحياة تحيتي
…و أذكركم بالخير في كل مجلس……و إن كنت في بغداد أو أرض بصرة
…و إن كان فيهم من يخالف نهجهم……فكل أناس مبتلون بسفلة
…و لو كان في الدنيا أناس جميعهم……خيارا لما كانوا سوى أهل طيبة
…و لا سيما و المصطفى في ديارهم……سراج محت أنواره كل دجنة
…لعمري نعم القوم جر عليهم……بما لا يؤاتيهم تيوس مضلة
…أراذل عبادون للمال و الهوى……و ما وردوا إلا موارد حمأة
…و قد عجل الله العزيز عقابهم………فصب عليهم قومهم كل لعنة
…بهم تضرب الأمثال في كل مجلس……فصاروا كبعران أصبن بحكة
…و هم يدعون العلم و العلم منهم……مناط الثريا من كسير بحفرة
…و هم يسترون الجهل و الجهل فيهم……مبين و هل تخفى ذكاء بخرقة
…فيا معشر الإسلام طرا تمسكوا……بهدي رسول الله أفضل عدة
…فداكم سلاح لا يفل غراره……به تهزم الأعداء في كل وقعة
…و لن تسعدوا و الله إلا بقفوه……بصدق و إخلاص و عزم و قوة
…فلو قام كل الناس مثل قيامهم……لصرنا كأسلاف لنا خير أمة
…و نلنا الذي نبغي من المجد و العلا……و ألبسنا الرحمن أثواب عزة
…و رد لنا ذو الفضل غابر فخرنا……و طهرنا من كل رجس و وصمة
…ألا فابذلوا الأرواح و المال دونه……و أحيوه تحيو في هناء و غبطة
…و والوا عليه من يعظم أمره……و إن كان منكم ذا بعاد و شقة
…و عادوا معاديه جميعا و إن أتوا……و أدلوا بقربى أو بعظم مودة
…فإن شئتم ذا فالمجادلة اقرأوا……و في توبة تحضوا بأعظم حجة
…و ما نحن إلا خادمون لسيد……حباه إله الناس أفضل رتبة(1/135)
…و ما قيمة الأرواح إن لم تكن له……فداءا و تفدي بعده خير سنة
…و ما قيمة الأموال إن لم ننل بها……رضى راحم للخلق في يوم كربة
…فكن عابدا لله لا تدع غيره……بوقت رخاء أو بأوقات شدة
…و سر في ركاب المصطفى بتواضع……و صدق تفز منه بقرب و خدمة
…فخادمه بالصدق لا شك مفلح……و تاركه لا شك هاو بهوة
…عليه صلاة الله ثم سلامه……و أصحابه من بعد آل و عترة
…صلاة تدوم الدهر ما قال قائل……حديث رسول الله ذخري و حجتي
كيف كانت عاقبة وزير العدل
لما أحس بالاستقلال ضاقت عليه الأرض بما رحبت كما قال المتنبي:
…و ضاقت الأرض حتى كان هاربهم……إذا رأى غير شيء ظنه رجل
فدخل بيته و دخل فيه إلى أن مات و قد قلت في هجوه قصيدة و لكني لم أنشرها إلا بعد أن تولى الاستعمار و هي هذه:
……دعوك وزير العدل بل أنت وازر……و يبرأ منك العدل إذ أنت فاجر
……نعم أنت ذو عدل عن الحق و الهوى……إلى الزور و البهتان إذ أنت خاسر
……و أنت للاستعمار خير مطية……بخدمته في كل حي تجاهر
……و ما لك من دين متين و لا حيا……و لا شرف يثنيك عما تباشر
……ترأست في فتوى القراءة عصبة……دعاكم إلى البهتان و الزور ماكر
……على الله و المختار و الشيخ مالك……كذبتم و عقبى الكاذبين فواقر
……فضحتكم في الرد شر فضيحة……فسوآتكم بانت و لم يبق ساتر
……ألا يا وزير العدل قد أصبحت عادلا……بربك في الفتوى التي أنت ساطر
……رددت حديث المصطفى أكرم الورى……و خالفته عمدا كأنك كافر
……فقد قال لا يجهر على غيره امرؤ……إذا ما تلا القرآن فالكل ذاكر
……رواه أبوا داود في السنن التي……عن المصطفى قدما روتها الأكابر
……و مثله في المعنى روى الحبر مالك……بإسناده سمطا زهته الجواهر
……و خالفت ما قد قاله قبل مالك……و أصحابه في كتبهم ذاك ظاهر
……و أقبح من هذا و ذاك أنه……دعاك إلى ذاك العدو المشاجر
……فبدلت دين الحق من أجل منصب……تخاف عليه إن جدك عاثر
……ظننت للاستعمار خلدا مؤبدا……فلا فجر يبدوا بعدما جن كافر(1/136)
……فما هي إلا جولة ثمت انجلى……و أشرق و ضاح من الفجر ظاهر
……فأسقيت كأس العزل و هي مريرة……و كم بكؤوس العزل شقت مرائر
……و أصبحت من خزي ببيتك قابع……كأنك في قبر و ما ثم قابر
تبديل الدراهم في البنك
…لما عزمت على السفر إلى العراق كنت قد ادخرت عشرة آلاف بسيطة أتزود بها في سفري قافلا إلى أهلي في العراق فعرضت لي مشكلة و هي تبديل الدراهم الإسبانية بالجنيه المصري فقد كان سعر الجنيه الرسمي حسب النقد الأجنبي الذي بيد الحكومة أربعين بسيطة لكل جنيه أما في السوق السوداء فالجنيه الواحد يساوي مائة و عشرين بسيطة.
في مكتب كاساس مرة ثانية
كتبت عريضة و أخذتها إلى كاساس ضمنتها طلب تبديل عشرة آلاف بسيطة في البنك بالسعر الرسمي و لم أطلب منه إحسانا و لا معروفا لأن هذا حق لكل مستوطن من المغاربة, فلما قرأ العريضة عبس و بسر و قال لي: نحن لسنا مغفلين نساعد الناس على السفر إلى الشرق ليكتبوا مقالات في صحف مصر كلها طعن و تشنيع علينا فقلت له: أنا ما ذهبت إلى الشرق بعد و لا كتبت مقالات طعنا فيكم, و لكنه كان يعرف ما يقول و كان صادقا فإنه كان يشير إلى المقالات التي نشرتها في صحيفة الإخوان المسلمين ثم قال لي: إن لم تفعل ذلك فعله غيرك و لست بخير منه.
…فانصرفت من عنده و ذكرت ذلك للأخوين الصديقين المخلصين السيد محمد المؤذن رحمه الله و الحاج عبد السلام الحسيسن أطال الله حياته, فقال لي الحاج عبد السلام: لماذا لا تذهب إلى الخليفة و تلتمس منه أن يأمر الإسبانيين أن يبدلوا لك هذه البسيطة بالسعر الرسمي؟ فقال له السيد محمد المؤذن: إن الخليفة لن يصنع شيئا فدعه يبدلها في السوق السوداء و يفوض أمره إلى الله فقال الحاج عبد السلام الحسيسن: أما أنا فأنصح له أن يتوجه إلى قصر الخليفة و يلتمس منه ذلك فإن استجاب فبها و نعمت و إن لم يستجب فلا ضير عليه في زيارته.(1/137)
…فتوجهت إلى قصر الخليفة فاستأذنت عليه فأذن لي قبل جميع الحاضرين الذين جاؤوا لزيارته و سجلوا أسماءهم فاستأذنت في السفر و التمست منه أن يكتب إلى الإسبانيين و يأمرهم بتبديل ما عندي من الدراهم بالسعر الرسمي و قلت له: هذا الطلب مقيد بشرط و هو أن لا يتعرض مقامكم الرفيع لتنقص عند الإسبانيين فقال لي بانفعال: لعنة الله على الإسبانيين, أنا لا أبالي بتنقص مقامي عندهم و إنما أريد أن يكون مقامي عليا عند الله و عند المؤمنيين, ثم ضغط على زر الجرس فجاء حارس فقال: أين أبا سيدي يعني أخاه الكبير السيد محمد فقال له: يا مولاي إنه ركب منذ ساعة سيارته و خرج فقال: أدع لي الكاتب العام أحمد بن البشير فدعاه فقال له: أكتب إلى المقيم العام إن الدكتور محمد تقي الدين الهلالي غاب عن أهله في العراق مدة طويلة و هو يريد الرجوع إلى أهله و عنده عشرة آلاف بسيطة فأبدلها بالجنيه المصري حسب السعر الرسمي, و وكان قد قال لي أول ما سلمت عليه و استأذنته في السفر: لن آذن لك حتى تعدني أنك ترجع إلينا فإنني لا أحب أن تكون بلادي خالية من رجل مثلك فشكرته على هذه المجاملة و انتظرت قليلا في مكان آخر حتى جاءني الكتاب فأخذته إلى المقيم العام الإسبني, فاستأذنت و دخلت على نائبه فقال لي: ليس عندنا نقد أجنبي في هذه الساعة فإن كنت تقدر أن تنتظر نبدله لك و قلت له: أنا لا أنتظر إما أن تبدله لي الآن أو أبدله في السوق السوداء فقال لي: ارجع إلي بعد ثلاثة أيام فرجعت إليه فكتب لي كتابا إلى كاساس الحاكم الإسباني الذي تقدم ذكره.
في مكتب كاساس مرة ثالثة
…فلما أخذت الكتاب من نائب المقيم العام و توجهت إلى كاساس قلت في نفسي: هل يصر على جوابه الأول و يعصي أمر رؤسائه أو يخضع لهم و يتناقض؟ فلما و صلت إليه قدمت له الكتاب فقرأه و كتب لي كتابا إلى البنك يأمر بتبديل الدراهم و لم ينبس ببنت شفة.
في السفارة الإنكليزية(1/138)
…لما حصلت على سمة الدخول إلى لبنان بعثتها إلى السفارة المصرية في مدريد عاصمة إسبانيا فبعثت إلي إذنا بالدخول إلى مصر و إقامة خمسة عشر يوما و يسمى هذا إذن مرور, ثم فكرت في السفر بطريق البحر لأن أجور السفر أقل فذهبت إلى السفارة الإنكليزية و طلبت لقاء السفير, فأعطيت و رقة طلب مني أن أكتب فيها اسمي و الغرض الذي جئت من أجله فلم يأذن لي السفير الإنكليزي, و لكني دعيت إلى مكتب نائبه و كان يهوديا يونانيا فقال لي و كان الكلام بالانكليزية: أنت كنت في إذاعة برلين و قد أذعت أحاديث كثيرة في محاربة بريطانيا و كنت تأخذ من الجرمانيين أجرا على ذلك, فقلت: أما قولك: إني أذعت أحاديث كثيرة في محاربة الاستعمار البريطاني على منبر إذاعة برلين العربية فهو حق و لست نادما عليه و لا معتذرا منه, لأني كنت أدافع عن و طني كما كان البريطانيون يدافعون عن وطنهم فإن بريطانيا كانت حليفة لعدوتنا فرنسا و حليف العدو عدو فإن كان دفاع البريطانيين عن وطنهم مما يلامون عليه و جب عليكم أن تلوموا أنفسكم قبل أن تلوموني و إن كان الدفاع على الأوطان من الواجبات المحمودة فكيف تلوموني عليه, و أما قولك أني كنت آخذ أجرا على تلك الأحاديث فهو وهم باطل, بل كنت أدفع أجورا على تلك الأحاديث و أرتكب أخطارا في إذاعتها.
…فقال لي: كيف تدفع أجورا عليها و من كان يأخذ هذه الأجور؟(1/139)
…فقلت: كان مدير الإذاعة قد اشترط علي أن لا أذيع حديثا إلا بعد أن أترجمه إلى اللغة الألمانية و أعد أربعة نسخ من الترجمة تقدم إلى أربعة مكاتب فإذا وافق رؤساء تلك المكاتب على إذاعة ذلك الحديث أعطيت إذنا بإذاعته. و هذه الترجمة و كتابتها على الآلة تحتاج إلى كاتبة جرمانية و هذه الكاتبة لا بد لها من أجر. و أما ارتكاب الأخطار فإني كنت أركب قطار النفق أعني القطار الذي يجري تحت الأرض مسافة نصف ساعة أحيانا في الليل و الثلج ينزل و أتعرض للقنابل التي كنتم تلقونها على برليين حينا بعد حين.
…فقال ليك و ما غرضك؟ فقلت: أريد أن تعطيني سمة المرور على جبل طارق لأركب منه في البحر إلى الإسكندرية فقال لي: إن حكومة جبل طارق هي التي لها الحق أن تسمح لك بالمرور فاكتب إلى الشركة التي تريد السفر في بواخرها و ائتنا بالجواب, فكتبت إلى شركة انكليزية فجاءني الجواب فذهبت به إليه و أطلعته عليه فقال لي: عين لنا موعد سفر الباخرة من جبل طارق فكتبت إلى الشركة, فجاءني الجواب بأنها لا تستطيع أن تعين لي يوما بعينه على سبيل التحديد و لكن إذا و صلت إلى جبل طارق يمكن أن تسافر في مدة لا تزيد على أسبوع, فامتنع نائب الرئيس من إعطائي سمة الدخول إلى جبل طارق إلا إذا عينت له اليوم الذي أسافر فيه, و قد ظهر أنه أراد المنع و لكنه أبى أن يصرح به و أراد أن يعذبني بالمماطلة و التردد عليه, فعدلت عن السفر بطريق البحر و كان ذلك خيرا, فإني سافرت بالقطار إلى مدريد و بالطائرة من مدريد إلى القاهرة بعد أن أخرت سفري شهرين.(1/140)
…و لما كنت أتحدث مع نائب السفير كان جالسا إلى جانبه رجل مغربي لا يدل زيه و هيئته على أنه يعرف الانكليزية فسألت عنه فقيل لي: هذا السيد أحمد الرزيني, و كنت أعرف أخاه السيد عبد القادر الرزيني و بيتهما من أشرف بيوتات تطوان و أهل هذا البيت من أصحاب الحمايات الانكليزية التي وقعت في زمن ضعف الدولة المغربية, فإن التجار كانوا يخافون على أنفسهم من ظلم الحكام المغاربة فيحتمون بحماية أجنبية, فتكلم السيد أحمد الرزيني أمام الحاضرين و قال لي: جزاك الله خيرا على ذلك التوبيخ الذي وبخت ذلك المجرم اليهودي, ما أحد شفى قلبي منه إلا أنت ثم أطنب في مدحي عند الحاضرين و قال لهم: هذا الأستاذ بقي نصف ساعة يوبخ ذلك الخبيث بلغة انكليزية فصيحة, فأنتم تعرفونني أنا لا أخالط الفقهاء و لم أحترم فقيها مثلما احترمت هذا الفقيه فهكذا يكون الفقهاء و إلا فلا و قال لي: إذا عزمت على السفر و لم يبقى لسفرك إلا ثلاثة أيام أرجوا أن تلقاني, فظننت أنه يريد أن يبعث معي شيئا لابن أخيه الذي يدرس في مصر.
…فلما حان وقت سفري لقيته بالمسجد الأعظم و معي كاتبي السيد محمد بن فريحة فقلت له: أخبر السيد أحمد الرزيني أنني بعد يومين مسافر إن شاء الله فأخبره, فجلس و أدخل يديه كلتيهما تحت جلابته و سمعت خشخشة و استمر على ذلك نحو خمسة دقائق ثم أخرج يده و فيها ألف بسيطة فناولني إياها و قال لي: هذه هدية للعلم الشريف أرجوا أن تقبلها, فلما أخبرت الناس بذلك لم ينقض عجبهم منه و قالوا كلهم: إن هذا الرجل ما رأيناه يتبرع بشيء لأي مقصد من مقاصد البر و لو سأله السائلون و ألحوا عليه, هكذا قالوا و العهدة عليهم و لا شك أنه تأثر كثيرا بالجدال الحاد الذي و قع بيني و بين نائب السفير الانكليزي.
حادثة أصيلا(1/141)
…كان من عادتي أن أسافر إلى أصيلا يوم الأربعاء بعد الظهر و أمكث فيها إلى صباح يوم السبت للقاء إخواني الموحدين و تجديد العهد بهم و كانت مجالسنا في بيوت الإخوان و لم ألق درسا في أي مسجد من مساجد تلك المدينة خوفا من الدخول في مشاكل مع المستعمرين يستعصى حلها, لأني أعلم يقينا أن صدور حكام تطوان مملوءة حقدا علي و أنهم يتربصون بي الدوائر فإذا أصابني شر من حاكم صغير كالمراقب المدني في أصيلا يتخذونه سببا للتنكيل بي, و لما دنى و قت سفري إلى مصر توجهت يوم الأربعاء على عادتي إلى مدينة أصيلا و في يوم الخميس قال أحد إخواننا: لماذا لا تلقي درسا في المسجد الأعظم ليعم النفع؟ فاختلف الإخوان بين مستحسن لذلك و متخوف منه ثم توكلت على الله و رجحت إلقاء الدرس, فلما شرعت في إلقئه امتلأ المسجد الأعظم حتى لم يبقى فيه مجلس لأحد و لم ينقطع سيل القاصدين إلى المسجد الأعظم فامتلأ صحن المسجد فبلغ الجواسيس حاكم تلك المدينة الخبر.
…و في صباح يوم الجمعة عزمت على السفر قافلا إلى تطوان في الصباح مبكرا فبينما أنا واقف أنتظر السيارة إذا بشرطي يهمس إلي قائلا: إن الحاكم الإسباني بعثني لآخذ منك جواز السفر ليطلع عليه و كان معي أربعة من الإخوان جاؤوا لتوديعي فأنفوا لذلك و قالوا له: هذا رجل مغربي و المغاربة لا يحملون جواز السفر في وطنهم و طردوه, فحضرت السيارة و سافرت.(1/142)
…و بعد ذلك علم إخواننا بواسطة شرطي مؤمن أن الحاكم الإسباني عزم أن يقبض علي حين أجيء في يوم الأربعاء التالي فانطلق إلى الإخوان و أخبرهم, فبعثوا إلي كتابا يحذروني من المجيء إلى أصيلا و يخبروني بما عزم عليه الحاكم الإسباني و لم يصل ذلك الكتاب إلا في صباح يوم الأربعاء, و كنت أبعث الكاتب كل يوم إلى صندوق البريد فيجيئني بما يجده فيه إلا في صباح يوم الأربعاء فإنني لم أبعثه و سافرت إلى أصيلا و أنا جاهل ما يراد بي, لكن الإخوان من شدة حزمهم خافوا أن لا يصلني الكتاب و أتوجه إلى أصيلا كعادتي فبعثوا سيارة تنتظر في إحدى محطات الطريق على مسافة خمسة و عشرين ميلا فلما و صل الأتوبوس إلى تلك المحطة رأوني فأشاروا إلي بالنزول و أخذوا أمتعتي و وضعوها في السيارة الصغيرة, و كنا في شهر رمضان فسارت بنا السيارة في طريق غير الطريق المعهود حتى و صلنا إلى بيت أحد اإخوان في مدينة أصيلا.
…أما الحاكم الإسباني فقد بعث إلى محطة الأتوبوس بأصيلا ستة من الشرطة و معهم عريف و أمرهم أن يقبضوا علي و يأتوا بي إليه و كان الشرطي المؤمن أحد الستة, فلما جاء الأتوبوس أحاطوا به و راقبوا المسافرين فلم يجدوني معهم فرجعوا إلى الحاكم الإسباني و أخبروه أنني لم أجئ.
…أما الشرطي المؤمن فإنه جاءني في البيت الذي كنت أفطر فيه و أخبر الجماعة, فضحكوا كثيرا و حمدوا الله على سلامتي, و لما فرغنا من العشاء و صلينا العشاء أحضروا السيارة فركبتها إلى محطة القطار و منها سافرت إلى القصر الكبير فنجوت من تلك المكيدة بفضل الله ثم بحزم الإخوان و شجاعتهم.
السفر إلى مجريط ثم إلى القاهرة(1/143)
مجريط هو اللفظ الذي كان يطلقه المسلمون على مدينة مدريد حين كانوا يحكمون تلك البلاد مئات السنين. سافرت بالقطار إلى مدينة مجريط ونزلت عند صديقي عبد الرحمان ياسين و اشتد علي مرض الربو فنقلني إلى المستشفى و زارني فيه إخواني من المغاربة, و زارني أيضا داعية القاديانية فناظرته و أنا على فراش المرض, و بعثت جواز سفري إلى السفارة المصرية لتنظر فيه هل يحتاج إلى تجديد إذن فقال الموظف المختص إنه صالح للسفر إلى مصر و إقامتي خمسة عشر يوما.
…ثم سافرت بالطائرة إلى القاهرة و نزلت في مطار ألماظة قبيل وقت العشاء فعرض المسافرون أجوزتهم على الكاتب المختص فختم عليها و ردها إليهم, فلما رأى جوازي قال لي: اجلس فجلست حتى فرغ من أجوزة المسافرين فالتفت إلي و قال: إن مدة السمة التي أعطيتها و هي خمسة عشر يوما قد انقضت فيجب أن ترد إلى مجريط, فقلت له: إنني بعثت جواز السفر أمس فقط إلى السفارة المصرية في مجريط, فقال قائلها: إنه صالح و المدة ينبغي أن تعتبر من يوم وصولي لا من يوم تاريخ السمة لأني بعثته من تطوان إلى مجريط ثم بعث إلي و هذا و حده يستغرق عشرة أيام, فقال لي: لا تطل الحديث فإنما أحكم برأيي لا برأيك فقلت له: أريد أن أصلي المغرب و العشاء فأمر شرطيا أن يرافقني و يدلني على مكان الوضوء و الصلاة.(1/144)
…و توضأت و صليت المغرب و العشاء و دعوت الله في سجودي أن ينقذني من هذه المحنة الجديدة, لأنني إذا رددت إلى مجريط لا أجد ما أسافر به من الدراهم و لما فرغت من صلاتي رجعت إلى الكاتب فقال لي: عندك دراهم قلت عندي حوالة ب147جنيها قال: أرنيها فأرته إياها فأخذ يفتح الهاتف على رؤسائه ليستشيرهم في أمره فلم يجد أحدا منهم لأن ذلك اليوم كان التاسع و العشرين من رمضان و قد انصرف كبار الموظفين إلى إجازة العيد ثم فتح التلفون على موظف كبير حسبما فهمت من محادثته معه فقال له يا سيدي: أرجوا المعذرة إذا أزعجتكم لأني لم أجد أحدا من الموظفين في مكتبي عندي راكب مغربي معه جواز سفر و فيه تأشيرة مرور منتهية و يدعي أنه عرضها على الكاتب المختص أمس في السفارة المصرية بمدريد فقيل له: إنها كافية و أنا أعتقد أنه من الصالحين, فقال له: افتح الهاتف على العروسي فإن لم تجده فأعطه أنت فيزة مرور.
…فلما سمعته يقول: إنه يعتقد أنني من الصالحين استبشرت و أملت خيرا و حسن ظني به, و زاد حسن ظني حين رأيت شرطيا جاءه بالسحور فعلمت أنه يصوم رمضان و الصائمون حتى في ذلك الزمان قليلون.
…فتح الهاتف على العروسي فلم يجده فأخذ يكتب لي سمة الدخول و قال لي: أريد منك عشرة قروش فقلت: ما عندي نقود مصرية فدعى شخصا موظفا يبيع الطوابع فقال: أعطني عشرة قروش طوابع مجانا فأبى فقال له: هل تريد أن نرد رجلا من هنا إلى مدريد لأجل عشرة قروش؟ فقام هو و غاب قليلا و وجاء بالطوابع فلا أدري أدفع ثمنها من عنده أو وجدها بطريق آخر ثم ناولني الجواز و قال لي: أطلب لك سيارة تدفع أجرتها لأن سيارة المطار ذهبت من زمان فقلت جزاك الله خيرا و ركبت السيارة. فلما و صلت إلى الفندق قلت لصاحب السيارة ما عندي نقود مصرية سألتمس من صاحب الفندق أن يقرضني ما أعطيك إياه فقال لي: تنازلت عن الأجرة. فانفرجت الأزمة ببركة المحافظة على الصلاة في وقتها.
الإقامة بالقاهرة(1/145)
…أقمت بالقاهرة اثني عشر يوما لقيت في أثنائها كثيرا من الأصدقاء منهم أخونا الداعية السلفي الشيخ حامد الفقي رحمة الله عليه فأكرمني كعادته و لقيت المجاهد العظيم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي و قد تقدم ذكر ذلك. و من أجل من لقيته في تلك الأيام المجاهد العظيم سماحة الأستاذ السيد الحاج الأمين الحسيني, و كان آخر عهدي به في ربيع سنة 1942 حين بعثني إلى المغرب لغرض سياسي فيه مصلحة للمسلمين على أن أرجع إليه فمنعت من الرجوع كما تقدم, و كانت المراسلة مستمرة بيني و بينه إلى أن انهزمت ألمانيا و فر إلى سويسرا ثم إلى مصر و أنجاه الله من كيد أعدائه, كما أنجاه من قبل حين فر من بغداد إلى طهران , و من طهران إلى اليابان, و كان الانكليز و مطاياهم في العراق قد جعلوا لكل من يأتيهم به حيا أو ميتا عشرة آلاف دينار فنجى بأعجوبة بمساعدة السفارة اليابانية حتى و صل إلى برلين.
…و مع أني كنت في تطوان أحصل على القدر الذي أعيش به من المال من الأسباب التي ذكرتها من قبل فإنه كان يبعث لي النقود الكثيرة مرة بعد مرة, فلما زرته فرح بي فرحا عظيما و أقام مأدبة دعا إليها خمسين من رجال العلم و السياسة و لما أردت أن أودعه دفع إلي غلافا و قال: اقرأه في منزلك فلما و صلت إلى الفندق و جد فيه مائة جنيه. و كان قد عرض علي و نحن في برلين أن يجعل لي كاتبا على نفقته فشكرته و قلت له: إن عندي كاتبا و أنا في سعة من المال فقد كان مجموع الرواتب التي كنت آخذها بكدي و عملي ألفا و أربعمائة مارك(1400) و ذلك يعادل ألفا و سبعمائة و خمسين ريالا في ذلك الزمان أي قبل ثلاثين سنة.(1/146)
…و الحاج أمين الحسيني رجل عظيم مهما بالغ أعداؤه في القدح و خلق العيوب له فلن يستطيعوا أن ينقصوا شيئا من عظمته و حسبك دليلا على ذلك أن هتلر كان يجله, و قد التجأ إلى ألمانيا رجل عربي عظيم و مجاهد كبير و عالم متضلع ألا و هو رشيد عالي الكيلاني و أجله الألمانيون و أكرموا مثواه و لكن منزلت الحاج أمين لم يبلغها أحد.
الصدق منجاة و الكذب مهلكة
…وقعت لي في أسفاري الكثيرة حوادث و وقعت في أزمات لولا خوف الإطالة و كراهية الخروج عن الموضوع لذكرت بعضها و فيه العجب العجاب لكني أقتصر على هذه الحادثة و ليست من أغربها.
…لم يسمح لي القانون المصري أن أخرج من مصر أكثر من عشرين جنيها فتركت ما عندي من الدراهم عند الدكتور الحبيب ثامر و السيد حسين التريكي و هما مجاهدان تونسيان و قع بيني و بينهما قصة في التعاون على محاربة الاستعمار ليس هذا محل ذكرها, على أن يبعثا لي تلك الدراهم حين تسنح لهما الفرصة, لكني عندما توجهت إلى مطار ألماظا أخذت معي خمسين جنيها فناولني المفتش صحيفة و قال لي: أكتب لي القدر الذي عندك من النقود فكتبت خمسين جنيها فقال لي: إن القانون لا يسمح لك إلا بعشرين فقلت له: قبل اثني عشر يوما دخلت مصر و معي147جنيها و لم أنفق في هذه المدة إلا قليلا لأني كنت ضيفا عند أصدقائي و هم كثر فهل يعقل أني أنفقت في هذه المدة القصيرة 127و لم يبق لي إلا عشرون؟ فنظر إلى جواز السفر فوجد مدة الإقامة اثني عشر يوما كما ذكرت له فقال لي: تستطيع أن تثبت أنك دخلت مصر بالقدر المذكور من المال قلت: نعم هذه شهادة البنك في تطوان فلما قرأها سمح لي بإخراج خمسين جنيها.(1/147)
…فقلت له: إنني ألتزم الصدق و ذلك يوقعني في مشاكل فقال لي: إن الصدق لا يوقع في المشاكل و إذا وقعت لصاحبه مشاكل فعقباها خير و إنما الذي أتعبنا هو الكذب ـ و وقع لي مثل ذلك في دمشق ـ فانحلت المشكلة بأن كتب المفتش نفسه على الصحيفة أن عندي عشرين جنيها. أبيت أن أكذب فكذب هو.
الدعوة إلى الله في العراق
…و صلت إلى العراق عائدا من سفري الطويل في صيف سنة 1947م من تاريخ النصارى, و لما امتنع صالح جبر من الإذن لي بأخذ نسخة من شهادة التجنس بالجنسية العراقية و بقيت بلا عمل اخترت أن أسكن بالموصل لأن لي إخوانا صادقين في تلك المدينة, فسكنت فيها سبعة أشهر و بدأت الدعوة إلى الله فحصل إقبال عظيم من الناس و فرح بذلك إخواننا السلفيون.
…و كانت السلفثية موجودة قبل ذلك في الموصل و كان إمامها الشيخ عبد الله النعمة ـ رحمة الله عليه ـ و كان يلقي دروس القرآن في بيته مدة طويلة من الزمان يختمه ثم يبدأه من جديد, و يحضره كثير من الناس إلا أن توفي ـ رحمه الله ـ أما الشيخ صديق الملاح فكانت مدرسته هي المقهى في الموصل. و المقاهي في الموصل تختلف عنها في سائر البلدان ففي كل مقهى من مقاهي المسلمين مسجد و له مؤذن و إمام لصلاة المغرب و العشاء, إذا حضر وقت المغرب أذن المؤذن و أم الناس المسجد كلهم لا يبقى إلا يهودي أو نصراني, و أهل هذا البلد لهم فضائل و مزايا من أخصها الشجاعة و الكرم, و كان فيها أعداء للسنة و لكن لم يستطيعوا أن يمسونا بسوء.(1/148)
…و بعد الوثبة التي تقدم ذكرها انتقلت إلى بغداد و بدأت الدعوة فيها و كانت السلفية قد ماتت في بغداد, مع أنها بلد الإمام أحمد بن حنبل و الإمام أبي حنيفة رحمهما الله و كذلك الإمام محمد بن جرير الطبري, و قد كانت من قواعد الدعوة السلفية إلى زمان السيد محمد شكري الألوسي رحمة الله عليه أما أنا فلم أجد من السلفيين إلا الشيخ عبد الكريم الصاعقة و كان إمام مسجد صغير و قد حاربه المتعصبون من المقلدين فلم يكن يصلي في مسجده إلا بضعة أشخاص, و لكنه كانت له خزانة عظيمة من كتب السنة و كان متمسكا بالعقيدة السلفية راسخ القدم لا يتزحزح عنها.(1/149)
…و كان ابتداء دعوتي في مسجد بمحلة الشيوخ بالأعظمية و هو مسجد له و قف خاص كان المتولي عليه الحاج محسوب ـ رحمه الله ـ و قد جرت العادة بإلقاء الوعظ في كل مسجد كل يوم من أيام رمضان على الأخص, فلما أقبل رمضان ذهب الحاج محسوب يبحث عن عالم من العلماء ليستأجره للوعظ في مسجده مدة شهر رمضان فاتفق مع أحدهم ـ و لا أسميه إبقاء عليه ـ ثم وجد ذلك الشيخ أجرا أعلى مما اتفق عليه مع الحاج محسوب فأخبره بفسخ الإجازة, و ذهب إلى عالم آخر ـ لا اسميه أيضا إبقاء عليه ـ فاتفق معه أن يعطيه عشرة دنانير, فلما أقبل رمضان و لم يبقى إلا يوم واحد من شعبان جاءه ذلك العالم و أخبره بفسخ الإجازة لأنه و جد من يعطيه أكثر من ذلك فأصاب الحاج محسوبا من الحزن و الغم و الغيظ على جميع المعممين و هكذا يسمى علماء الدين عندهم, لأنهم يلتزمون لبس العمامة و الجبة و ذلك زي العلماء عندهم فكل من لبس العمامة فكل من لبس عمامة و جبة يحسبه الناس عالما و إن كان أجهل من حمار أهله. فما شعرت إلا و الحاج محسوب يطرق الباب فرحبت به و جلسنا نتحدث فاشتكى إلي مما أصابه من المعممين و ذمهم ذما شديدا, و قال لي: يا ليت الواحد منهم حين استولى عليه الطمع و أراد الزيادة جاءني فاستشارني قبل أن ينقض العهد و يتفق مع غيره, كان ينبغي أن يقول لي قد و جدت من يعطيني أجرا أكثر مما اتفقت عليه معك فإما أن أزيده و إما أن أفسخ العقد معه. قال: و اليوم جاءني أحد الأصدقاء و قال لي: عليك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي يعظ في مسجدك ثلاث مرات في الأسبوع فإنه يعظ لله و لا يطلب أجرا قال: فجئتك و أنا مستعد أن أقدم لك ما تطلب, فقلت له: يا حاج محسوب أنا لا آخذ شيئا على الوعظ لأنه فرض فرضه الله علي لأنه من الجهاد و الجهاد واجب بالنفس و المال.(1/150)
…فوعظت في مسجده كل يوم و أقبل الناس شبابا و شيوخا فاغتبط الحاج محسوب و اطمأنت نفسه, و بعد رمضان استمررت على دروسي في ذلك المسجد و كان يحضرها الشباب من تلامذة المدارس و الشيوخ من أهل تلك المحلة, فغاظ ذلك أعداء السنة, و زعموا أنني أردت أن أهدم مذهب أبي حنيفة.
…فقلت مرارا في دروسي: إنكم تكذبون على أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ و أنا أتبعه حقا و صدقا فإن أبا حنيفة كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة و التابعين كان يصف الله تعالى بما و صف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم و يثبت العلو لله تعالى و يكفر من يتأول الاستواء بالاستيلاء كما في الفقه الأكبر و في الطحاوية و شرحها, و أنتم تعتقدون عقائد المتأخرين من الأشعرية نفاة الصفات و أبو حنيفة يكفر النفاة ثم تتعصبون في إلزام الناس بفروع الحنفية و هذا خلاف ما كان عليه أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ فقد صح أنه قال: لا يجوز لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه, أي حتى يعرف دليله, و أنتم تقولون على الله بلا علم بل بالتقليد الأعمى, و لعمر الله ليس هذا مذهب أبي حنيفة.
…و مما يدل على مخافتكم لمذهبه أن صاحبيه محمدا و أبو يوسف خالفاه في ثلث المذهب و قال بعضهم في ثلثي المذهب, و لو كان أبو حنيفة يعلم أصحابه أن يكونوا مقلدين لما خالفه أقرب الناس إليه و أفضل تلامذته الذين نشروا مذهبه. و هذه القبة التي بنيتم على قبره هل أباح لكم أبو حنيفة أن تبنوها؟! و هذا المسجد الذي بنيتم إلى جانبها هل أباح لكم أبو حنيفة أن تبنوا المساجد على القبور و تصلوا فيها؟! و هذه البدع التي ترتكبونها هل رويتموها عن أبي حنيفة؟!(1/151)
…فذاق المتعصبون ذرعا بدروسي فأوعزا إلى أربعة من تلامذتهم من المعممين الشباب أن يحضروا درسي و يجادلوني, فإذا عارضتم تلامذتي يقتتلون معهم حتى يجيء رجال الأمن إلى المسجد و يقبضوا على المقتتلين فيتوصلوا بذلك إلى وقف دروسي بادعاء أنها تثير الفتنة. و لكن خاب سعيهم لأن تلامذتي تفطنوا لذلك فالتزمو الصمت و الهدوء, فلما رآهم الشيوخ خرجوا عن حدود السؤال بأدب إلى إساءة الأدب غضبوا عليهم و أسكتوهم و أرادوا أن يضربوهم و في مقدمتهم الحاج محسوب رحمه الله فخافوا و ذلوا و طلبوا مني العفو فبطلت هذه المكيدة.
…و كنت أسكن بقرب المسجد المنسوب إلى أبي حنيفة و يسمى عندهم جامع الإمام الأعظم ـ و هذا اللفظ أطلقه الأتراك في زمان حكمهم على أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ و لا شك في إمامته و لا في عظمته, و لكن هذا اللفظ مبتدع يشبه ملك الملوك و (شاه شاه) و قاضي القضاة. و جاء في الحديث الصحيح:{ أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك } و كره الأئمة كل ما كان قريبا من هذا المعنى ـ فكنت لا أصلي في ذلك المسجد لا جماعة و لا جمعة أما الجماعة فكنت أصليها في مسجد الحاج محسوب, و أما الجمعة فكنت أركب السيارة من الأعظمية إلى بغداد و أصلي في أحد المساجد الخالية من القبور فاشتد انتقادهم لهذه الخطة, و لا سيما حين كانوا يرون تلامذتي من الشباب يقتدون بي و لا يصلون في المسجد المبني على القبر, بقيت على ذلك مدة سنتين.
جامع الدهان
…كان جماعة من أهل الخير قد اشتركوا في بناء مسجد يبعد عن جامع أبي حنيفة بنحو ميل واحد إلى ناحية بغداد و عجزوا عن إتمامه فجاء الحاج عبد الحميد الدهان و هو من أهل الثراء و الإحسان و من وجهاء التجار في بغداد فأكمل بناء ذلك المسجد و فتحه للصلاة.(1/152)
…و في يوم من الأيام جاءني الحاج عبد الحميد و سلم علي و قال لي: إني بنيت هذا المسجد بين بغداد و الأعظمية و أهل الأعظمية يصلون في مسجد الإمام الأعظم و أهل البيوت القريبة من مسجدي أكثرهم شيعة, و أنا خائف أن لا يجتمع لي العدد الذي تصح به صلاة الجمعة. و قد استنصحت الحاج طه الفياض صاحب صحيفة السجل فقال: إن أردت أم يمتلأ مسجدك بالمصلين فعليك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي فالتمس منه أن يكون إماما و خطيبا لصلاة الجمعة فأرجوا أن تقبل مني هذا العرض. فقلت له: أنا لا ألبس زي العلماء كما ترى فقال لي: أنا أقبلك على أي حال كنت فقلت له: خيرا.
…و شرعت أصلي الجمعة في جامع الدهان فما مرت ثلاث جمعات إلا و قد ضاق المسجد عن المصلين و صار الناس يقصدونه من جميع أرجاء بغداد و حتى أهل الأعظمية كان كثير منهم يمرون على مسجد أبي حنيفة و يتركونه و يؤمون جامع الدهان و من الذين كانوا يواضبون على الصلاة فيه السفير المغربي في ذلك الوقت الحاج الفاطمي بن سليمان, و بلغ الإقبال على جامع الدهان إلى أن من لم يتقدم قبل الزوال بساعة أو أكثر لا يجد مكانا.
تطهير الجامع من البدع
…كان في هذا الجامع كغيره من المساجد بدع:
…الأولى: قراءة القرآن بالتناوب في مكان مرتفع مخصص للقارئين و كانوا يشوشون على المصلين بقراءتهم.(1/153)
…الثانية: صلاة ركعتين بعد الأذان الأول, يقوم المؤذن فينادي بأعلى صوته متغنيا فيقول:{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله وخاتم النبيين و كان الله بكل شيء عليما} الأحزاب:40 ثم يقول: صلاة سنة الجمعة يرحمكم الله فيقوم الناس كلهم و يصلون ركعتين, و من لم يصلهما يعد تاركا للسنة, و كان المؤذن يرفع صوته بالتسميع خلف الإمام مع وجود مكبرة الصوة و عدم الحاجة إلى التسميع, كما يفعل اليوم بالمسجد النبوي نسأل الله أن يطهره من المحدثات حتى يعاد إلى الحال التي كان عليها في عهد النبي صلى الله عليه و سلم و خلفائه الراشدين.
…الثالثة: الأذن الأول و هو محدث لم يكن على عهد النبي صلى اغلله عليه و سلم و لا على عهد الخليفتين بعده و هم أولى بالتباع, و لما كان زمان عثمان و كثر الناس في المدينة أمر عثمان مناديا ينبه أهل السوق بقرب صلاة الجمعة ليستعدوا لذلك و يؤموا المسجد و لم يكن ذلك أذانا حقيقيا و لا كان في المسجد فلما كان زمان عبد الملك بن مروان جعله أذانا لازما و جعله في جوف المسجد(انظر كتاب المدخل لابن الحاج و فتح الباري), و كيفما كان الأمر فسنة النبي صلى الله عليه و سلم و صاحبيه الذين قال فيهما(اقتدوا بالذين من بعدي) أولى بالإتباع.
…>الرابعة: كان المؤذن بعد السلام يرفعصوته بأذكار مخصوصة.(1/154)
…استعنت بالله و حده أنا و تلامذتي و أخذنا نزيل تلك البدع واحدة بعد واحدة حتى قضينا عليها و لله الحمد, و كان الحاج عبد الحميد لا يتأخر عن مساعدتنا في ذلك. فبدأنا بإزالة القراءة ثم إزالة ما كان يترنم به فألفت كتابا سميته(الأنوار المتبعة في سنة الجمعة) و أقمت فيه البرهان على أن صلاة الجمعة ليست لها سنة قبلية و إنما سنة بعدية و نقلت كلاما لأبي شامة في كتاب البدع له و كلام غيره, فلما عرف الناس ذلك بقراءة ذلك الكتاب و بخطب الجمعة المتوالية و كانت كلها من صميم السنة خطبا تعليمية إرشادية اتفقت مع تلامذتي و مع الحاج عبد الحميد الدهان على إزالة الأذان الأول و بإزالته تزول الركعتان, فأنذرت الحاضرين في المسجد في خطبة الجمعة الأخيرة و قلت لهم: لقد علمتم فيما مضى من خطب الجمعة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن له إلا مؤذن واحد يؤذن أذانا واحدا عند جلوسه على المنبر حتى إذا فرغ المؤذن منم أذانه قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا و لم يقم أحد لصلاة ركعتين, إلا من تأخر حتى شرع الخطيب في الخطبة فهذا يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد كما بينته لكم مرارا و تكرارا بالأحاديث الصحيحة, و قد عزمنا على ترك الأذان الأول و بطبيعة الحال تترك الركعتان المترتبتان عليه فمن شرح الله صدره لقبول الحق فأهلا و سهلا به و هنيئا له و من أبى فالمساجد كثيرة, فلما كانت الجمعة التالية دخلت المسجد و ذهبت رأسا فصعدت المنبر و جلست عليه فقام أحد تلامذتي و أذن ثم قمت أنا و خطبت فجعلناهم أمام الأمر الواقع و انقطع بذلك ما بقي من المخالفات و لله الحمد.(1/155)
…و الحاج عبد الحميد الدهان كان موافقا لي على إزالة تلك البدع حرصا منه على عمارة المسجد و ازدهاره و لم يكن يدرك أهمية التمسك بالسنة و ترك المحدثات, لأنه تاجر لا يعرف الأدلة الشرعية و يجيئه المخالفون للسنة فيزينون له البدع فيبقى متحيرا و يحل المشكلة بإرضائنا في المسجد و إرضاء خصومنا خارج المسجد بأن يقيم لهم مآدب و يعطيهم الحرية في ارتكاب بدعهم من عمل الموالد و غيرها و لذلك لم يثبت على العهد, فبعدما برحت أنا بغداد طمع فيه المبتدعون فأقنعوه برد تلك البدع بعدما طهر منها المسجد لمدة نحو عشر سنين و لله الأمر من قبل و من بعد.
هجوم مدير الأوقاف علينا
…لما رأى الفقهاء المتعصبون و أصحاب الطرائق المبتدعون نجاح هذا المسجد و ازدهاره و قيام دولة التوحيد و اتباع السنة شرقوا بذلك و دبروا مكيدة عظيمة فذهبوا إلى مدير الأوقاف, و(الأوقاف في العراق لا يكون لها وزير لأنها كلها من وقف أهل السنة و لو كانت لها وزارة مستقلة لأمكن أن يكون الوزير شيعيا و ذلك يخالف شرط الواقف فكانت مديرية الأوقاف تابعة لمجلس الوزراء) فذهب المبتدعون إلى مدير الأوقاف و معهم مفتي بغداد في ذلك الوقت و قالوا له: لماذا لا ستعمل حقك في تعيين الإمام و الخطيب في جامع الدهان و كيف تترك الهلالي ينشر المذهب الوهابي علانية في ذلك المسجد؟! فاستصدر مدير الأوقاف أمرا ملكيا بتعين شخص إماما و خطيبا في جامع الدهان فنال مراده.(1/156)
…فلما صدر الأمر الملكي كتب صحيفة إلي يقول فيها بعد السلام: إنه صدرت إرادة ملكية لفلان فلان أن يكون إماما و خطيبا بجامع الدهان و قد أخبرنا الإمام أنك لا تمكنه من أداء واجبه فنرجو أن تتخلى عن الإمامة في ذلك المسجد ليتمكن الإمام من أداء واجبه و بعث الصحيفة مكشوفة بلا غلاف إلى الكلية, فسلمها إلى البواب و لم تزل تنتقل من يد إلى أخرى و الناس يقرؤونها حتى وصلت إلى يدي فلما فرغت من دروسي و رجعت إلى بيتي كلمني الحاج عبد الحميد الدهان بالهاتف و قال لي: إن مدير الأوقاف دعاني إلى نكتبه فلما حضرت عنده تكلم بكلام قبيح لا أريد أن أذكره لك, فقلت له: و أنا أيضا كتب إلي يأمرني بالتخلي عن عملي في المسجد فقال لي: استمر على عملك و اترك الأمر لي فقلت له: و على هذا أنا عازم أيضا.
وقوف الأستاذ منير القاضي إلى جانب الحق
…ذهب الحاج عبد الحميد الدهان إلى مدير مجلس الوزراء و أخبره بما قال و فعل مدير الأوقاف فأخذ التلفون و تكلم مع مدير الأوقاف و وبخه توبيخا شديدا فاعتذر له بأن الدكتور الهلالي يبث المذهب الوهابي و له معارضون من أهل السنة و نخشى أن تحدث فتنة في المسجد, فقال له فضيلة الأستاذ منير القاضي: أأنت مدير أوقاف أو مدير الأمن العام؟! و زبره زبرا شديدا فحبط عمله و بطلت هذه المكيدة. و الأستاذ منير القاضي يعفني حق المعرفة فإننا كنا نجتمع في الاحتفالات التي تقيمها وزارة المعارف فما كان أحد يقوم لصلاة المغرب إلا أنا و هو فكان يقدمني فأصلي به إماما. و في رمضان لم يكن أحد من الحاضرين يصوم إلا أنا و هو فكنا نفطر جميعا و فيما عدا ذلك لم تكن بيني و بينه علاقة.
مكيدة أخرى(1/157)
…ذهب أعداؤنا إلى القصر الملكي و بلغوا خبرا كاذبا على سبيل الوشاية قالوا: إن الهلالي منذ زمان عين إماما و خطيبا في جامع الدهان بدون إرادة ملكية و طرد الإمام الشرعي و أعانه على ذلك صاحب المسجد, و هو يبث المذهب الوهابي و لا يدعوا للملك في خطبة الجمعة لأنه عدو للبيت الهاشمي فجاءني أحد إخواننا و أخبرني بذلك فقلت له: إن الله الذي خيبهم في الأولى سيخيبهم في الثانية, فبعث الوصي من حضر صلاة الجمعة فوجد الخبر غير صحيح و خاب سعيهم و كنت دائما أختم الخطبة الثانية بالألفاظ التالية على عادة المقتصدين غير عالمتزلفين من الخطباء في بغداد فأقول: اللهم و فق و سدد ملك العراق فيصل الثاني و ولي عهده عبد الإله و سائر ملوك المسلمين و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
…فإن قلت: هذه بدعة كنت ترتكبها مع زعمك أنك تحارب البدع أقول: إنني اجتهدت فرأيت أنني لو لم أفعل ذلك لم أستطع أن أكون إماما في صلاة الجمعة و لا مدرسا و واعظا في ذلك المسجد, و أن ما يحصل من الخير بنشر التوحيد و اتباع السنة يربوا على تلك البدعة أضعافا مضاعفة على أن الدعاء لشخص معين في خطبة الجمعة لا بأس به و لكن المداومة عليه فيها ما فيها.
أخذ الأجرة على صلاة الجمعة
…في الجمعة الثانية التي صليتها إماما و خطيبا في جامع الدهان دعاني الحاج عبد الحميد الدهان إلى الطعام بعد صلاة الجمعة و قال لي: أنا مسرور جدا بما وقع من الإقبال على الصلاة في مسجدي بسبب خطبتك و نريد أن نتفق الآن على الراتب, فقلت له: إن أردت أن يطرد نجاح المسجد فلا تفكر في الراتب فأنا لا آخذ أجرا على الصلاة أبدا فألح, فثبت على الامتناع عن قبول أي شيء فقال: نجعله هدية فقلت: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء }آل عمران:5.
…فبعث إلي بعد ذلك جماعة يشفعون عندي في قبول الراتب فرفضت و لم آخذ شيئا طول تلك المدة إلا أنني اقترضت منه دنانير مرتين فرددتها له.(1/158)
ملاحقة الاستعمار الانكليزي لمؤلف هذا الكتاب
…كان السفير الانكليزي في تطوان قد تعاون مع الإسبانيين في منعي من الرجوع إلى برلين و كان قد احتج على الإسبانيين بسبب المقالات التي كنت أنشرها في صحيفة الحرية لسان حزب الإصلاح الوطني و تقدم ذكر ما جرى بيني و بين نائبه في تطوان و كنت أظن أن محاربته لي لا تعدوا حدود تطوان, و إذا به يلاحقني إلى بغداد فقد كتب إلى السفارة الانكايزية في بغداد و أخبرها بحالي و حذرها مني فأوعزت إلى مطاياهها من العراقيين أن يحاربوني.
…و مما دل على ذلك أن السفارة التونسية في بغداد أقامت احتفالا فدعتني إليه فالتقيت هناك بصديقي الدكتور عبد الكريم كنون و هو رفيق لي في الدراسة في جامعة بون بألمانيا فأقبل عليه السفير الانكليزي في بغداد فقال له: أعرفك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي و أخذ يثني علي فلم يهش و لم يبش و لم يرحب بل قال له بالنكليزية ما معناه: أنا أعرفه جدا مع أني ما رأيته قبل ذلك اليوم.
…و لما ذهبت إلى التحقيقات الجنائية ـ و هو اسم دائرة الشرطة السرية ـ و طلبت إعطائي جواز سفر منعت من ذلك بدون بيان السبب, و استمررت على ذلك ثلاث سنين في كل صيف أتردد على تلك الدائرة مرارا و تكرارا ثم أرجع بخفي حنين, حتى رق قلب الموظف المختص و رحمني و قال لي: أيها الأستاذ إن منع إعطائك جواز السفر ليس بأيدينا بل هو في يد من فوقنا فلا تتعب نفسك بكثرة التردد, و اتفق أنني أطلعت أحد الإخوان على هذه القضية فقال لي: حل هذه المشكلة يسير بالنسبة إليك و لكنك لا تعرف طريق حلها فقلت: أفدني يرحمك الله فقال: إن مدير الشرطة العام هو ابن عم صديقك الحاج محسوب, و الحاج محسوب هو كبير هذه العشيرة و مدير الشرطة العام لا يعصي له أمرا فعليك به.(1/159)
…فذهبت إلى الحاج محسوب و أخبرته فقال لي: غدا صباحا نلتقي عند باب جامع الإمام الأعظم فالتقينا و ركبنا سيارة فلما و صلنا إلى باب مديرية الشرطة العامة إذا بالمدير خارج فكلمه الحاج محسوب و قال له: إليك جئنا فقال يا حاجي أمهلني ساعة فإن عندي أمرا مهما لا يمكن تأخيره و بعد ساعة أكون في المكتب, و بعد مضي الساعة دخل عليه الحاج محسوب فلبث عنده نحو نصف ساعة و خرج بكتاب معنون إلى مدير التحقيقات الجنائية و مختوم على غلافه و مكتوب عليه(سري).
…فأخبرني الحاج محسوب أنه عاتبه في منعي من جواز السفر ثلاث سنين فقال له: إن صاحبك هذا اشتراكي.(و في ذلك الزمان كانت بدعة الاشتراكية لا وجود لها في البلاد العربية و لا يفكر فيها أحد, و إنما تكلم بشيء لا يعرفه). قال الحاج محسوب: فقلت له: أقسم لك بكل عزيز على أن هذا كذب و افتراء فإن هذا الرجل يعظ في مسجدي ثلاث سنين و ما عنده إلا قال الله قال رسوله, و إن شئت أتيتك بأربعين من سكان الأعظمية يشهدون بما ذكرت قال: فكتب لي هذا الكتاب إلى مدير التحقيقات الجنائية يأمره أن يعطيك جواز السفر في الحال و أراد أن يبعثه مع شرطي قال: فقلت له: و الله ما يأخذه أحد غيري فقال لي: يا حاج هذا سري فقلت له: ليكن سريا أو علانيا لا يأخذه غيري, فسلمني الكتاب و قال: اذهب به إلى مدير التحقيقات. فذهبت إليه و استأذنت عليه شرطيا كان واقفا ببابه فقال له: قل له: إن قضيته لم تنته بعد فقلت للشرطي: قل له جئت بكتاب من مدير الشرطة العام و لا أسلمه إلا يدا بيد فأذن لي, فسلمته الكتاب فلما رآه مختوما بختم سيده و رأى عليه كلمة سري قام و قرأه قائما و أبدى لي بشاشة و ترحيبا لم أره من قبل ذلك, و دعا بشرطي و قال له: رافق الدكتور إلى المكاتب المختصة و مرهم أن يهيئوا أوراقه في الحين. فانحلت هذه المشكلة!!…
الانقلاب(1/160)
في أوائل سنة(1958) قام عبد السلام عارف و عبد الكريم قاسم بالانقلاب المشهور و الذي قتل فيه الملك فيصل الثاني و الوصي عبد الإله و سائر أهل بيتهما إلا امرأة واحدة و قتل فيه نوري السعيد.
…و ظن أهل العراق كلهم أن هذا الانقلاب سيأتيهم بخير عميم و يقضي على النفوذ الاستعماري و حينئذ تفتح لهم أبواب البركات من السماء و الأرض, إلا أنه بمضي الأيام ظهر لهم خطأ ظنهم لأن العهد الملكي كان عهد استقرار و رخاء و كان خيره أكثر من شره بالنسبة إلى الخاصة و العامة.
…و الرئيس عبد السلام عارف هو من أخص إخواننا السلفيين و هو و فرقته قاموا بالانقلاب و لم يشاركهم عبد الكريم قاسم إلا بموافقته و قد أخطأ رحمه الله في ذلك الانقلاب, و كان أول من صلي بناره فقد حكم عليه بالقتل و سجن سنين و عذب, ثم أسعده الحظ حتى تمكن من قتل عدوه في أواخر الأمر و شريكه في أوله و استولى على الحكم, فكتب إلي بخط يده و أنا في المغرب يقول: نحن تلامذتك و نحن سائرون على الخطة التي اقتبسناها من دروسك و أبواب العراق مفتحة في وجهك فأقبل إلينا فشكرته على ذلك و لم أقبل دعوته, و ما أدري كيف شعر بذلك أخونا السلفي الأستاذ محمود مهدي الإستنبولي فكتب إلي يقول: علمت أن عبد السلام عارف من تلامذتك و هذه فرصة لا تضاع فهلم نسعى في عمل شيء ينفع الإسلام و المسلمين, فاعتذرت له و لم ينشرح صدري لذلك لأني لم أتوقع نجاحا.
…و لما استولى عبد الكريم قاسم و أبعد عبد السلام عارف أولا ثم سجنه ثانيا أطلق العنان للشيوعيين يقتلون من شاءوا و يسجنون من شاءوا و يسحلون من شاءوا(و السحل هو وضع حبل في عنق الرجل و جره به على وجهه إلى أن يموت), و عاث الشيوعيون في بلاد العراق فسادا فعم الخوف و الفزع و لم يبق أحد مطمئنا على نفسه.(1/161)
…و وقعت حوادث فظيعة معلومة لا نطيل بذكرها و لكن على سبيل المثال أذكر حادثا أو حادثين: أخبرني أخونا السلفي الصالح الدكتور وجيه زين العابدين أنه كان نائما في فراشه و بعد منتصف الليل بساعة و نصف سمع طرقا شديدا على الباب قال: ففتحت الباب و إذا ثلاثة من الشيوعيين دخلوا علي بدون استئذان و فتشوا البيت, ثم قبضوا علي و تركوا والدي و زوجتي و أولادي يبكون و حملوني في سيارة إلى غرفة من غرف التوقيف كما يسمونه فأدخلوني فيها و أغلقوا الباب و في أثناء الطريق قالوا لي: صدق من قال: إنك تبغض الزعيم عبد الكريم قاسم فقد فتشنا بيتك كله و ما وجدنا فيه صورة للزعيم قال: فقلت لهم: هل بعثتم من فوقكم لتحاكموني أو لتقبضوا علي و تقدموني إلى غيكم ليحكم علي؟ قال: فوجدت في تلك الغرفة ثمانين رجلا كل واحد منهم ملتف بكساء يقيه البرد و هم قعود و لا مجال للاضطجاع, قال: فقعدت معهم فلما أصبح الصباح و جاء وقت الضحى جاءني شرطي فدعاني إلى مكتب المعاون قال: فسلمت عليه فلم يرد علي بل قال لي: أنت بعثي قال: فقلت: أنا مسلم. فقال لي: لماذا تكونون شجعانا حتى إذا وقعتم في يد العدالة تجبنون؟ قال: فقلت له: أنا لا أجبن و لا أبالي بك و لا برئيسك عبد الكريم قاسم! أتعرف من هو رئيس حزب البعث قال: لا قلت: هو مشيل عفلق فكيف أكون مسلما و رئيسي مشيل عفلق و هو نصراني؟! فلو كنت تعرف ما هو الإسلام لم تتهمني بالبعثية بعدما قلت لك أنا مسلم قال: و كان ذلك المعاون من خيار المعاونين فناولني مقالا مكتوبا بخط يدي عنوانه مدار الخمر و قال لي: أنت كتبت هذا المقال؟ قال: قلت: نعم فقال لي: اقرأه فقلت له: أنا كتبته بيدي و أعرفه فاقرأه أنت لتعرفه قال: فقرأه فلم ينكر منه شيئا قال: فقال لي: أنت مظلوم, صدر الأمر بالقبض على صاحب الصحيفة التي كتبت لها هذا المقال فوجدوا بين أوراقه هذا المقال موقعا باسمك فقبضوا عليك قال: و كتب أمامي كتابا إلى من فوقه و قال(1/162)
فيه إنني أجريت تحقيقا دقيقا مع الدكتور فلان فوجدته بريئا و هو يحب الزعيم فأرجوا الأمر بإطلاق سراحه, قال: فبقيت أربعة أيام ثم أطلق سراحي و لا نطيل ذكر الحوادث المؤلمة فإن ذكرا أيضا يؤلم, و في ذات يوم بعدما صليت الجمعة إماما في جامع الدهان جاءني أحد المصلين فأسر إلي أن ابنه سمع معلما شيوعيا في ثانوية الأعظمية يقول: يزعمون أن حكومتنا ليست ديمقراطية و ما عندنا حرية و هذا باطل فأي حرية أعظم من أن تترك محمدا تقي الدين الهلالي يسبها في كل جمعة على المنبر و لم تتعرض له بسوء؟! فقلت له: و هل سمعتني أسب الحكومة في خطبة من الخطب؟ فقال لي: إنما أردت أن أبلغك الخبر لتكون على حذر.
…و كان خطباء الجمعة في ذلك الزمان أصنافا منهم من يمدح حكومة عبد الكريم قاسم في خطبه و يطريها غاية الإطراء كما كانوا يفعلون مع الحكومة الملكية و منهم من يقتصد في ذلك و منهم من يقتصر على الدعاء لها, و أنا لم أكن أذكرها أصلا لا بخير و لا بشر, لكن كان بعض المتهوسين من تلامذتي يحاولون أن يلقوا كلمات بعد خطبة الجمعة في انتقاد الحكومة فكنت أمنعهم خوفا من العواقب الوخيمة على المسجد و أهله. و كان عشرات من الشيوعيين يقفون أمام المسجد وقت الخطبة و يكتبون ما تضمنته خطبة الجمعة و يبلغونه الرؤساء, و كان رجال المباحث في كل جمعة يدعون بعض المصلين و يسألونهم عن الخطبة و عن صاحبها. و في ذات جمعة دعوت الناس إلى أن يجمعوا تبرعات للمجاهدين في الجزائر و قلت لهم: كل متبرع يعد ما يتبرع به و سيأتي في الجمعة التالية ممثل الجزائر السيد محمد الروابحية و يتسلم التبرعات فاهتم بذلك رجال المباحث و لكنهم اقتصروا على استنطاق المصلين و لم يتعرضوا لنا بسوء.(1/163)
…و تعطلت دروس الوعظ في المسجد لأن تلامذتي صاروا يخافون الشيوعيين أن يفتكوا بهم, و ذهبت أنا إلى الأستاذ الحاج حمدي الأعظمي و هو أكبر عالم حنفي في ذلك الزمان ببغداد و كان إماما و خطيبا في مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني المبني على قبره فقلت له: ما تقول في خطبتك بالنسبة إلى رجال الحكومة؟ فقال: أدعوا لهم بالتوفيق و التسديد و أن يعينهم الله على ما فيه الخير لهذا الوطن فمنذ ذلك أخذت أدعوا أنا أيضا لهم بمثل ذلك في الخطبة الثانية خوفا من شرهم.
…و عزمت على السعي في الخروج من العراق و لكن ذلك لم يكن أمرا هينا فكتبت إلى رئيس مستشفى العيون الأستاذ(مولر) أن ]امرني بالسفر إلى ألمانيا ليفحص عيني ففعل, و قدمت طلبا لرئاسة الصحة و أطلعتها علىة كتاب الطبيب الألماني فعينت ثلاثة من الأطباء للتحقيق في القضية فناقشوني الحساب و لم يأذنوا لي إلا بعد اللتيا و التي. و كان العراقيون ممنوعين من السفر إلا لغرض فيه خدمة للحكومة أو لعلاج مرض يعجز عنه أطباء العراق ثم لا يمكن السماح بالسفر إلا لمن كانت صحيفته بيضاء بالنسبة إلى رجال الثورة, فقدمت الطلب للحصول على الإذن بالسفر و معه موفقة رئاسة الصحة و بقيت أنتظر الجواب خمسين يوما حتى درسوا كل ما تحتويه محفظة أوراقي التي كتب فيها كل ما ينسب إلي, و في نهاية المطاف أعطيت جواز السفر و لم أصدق أنني تخلصت من أظافرهم إلا بعد وصولي إلى مطار بيروت.(1/164)
…و كان جواز سفري محصورا في(بون) فلما وصلتها دخلت المستشفى و أنفقت فيه ثلث ما عندي لأري السفارة العراقية أنني صادق في دعواي, و كان ذلك خطأ لأنني لما توجهت إلى السفارة العراقية في(بون) وجدت القائم بالأعمال شابا طيبا أبوه من أعز أصدقائي و قال لي: أنا مستعد أن أضيف إلى جوازك إذنا بالسفر إلى أي بلد تريده و لو إلى مصر و كان السفر إلى مصر في ذلك الزمان من أعظم الجرائم و في أول الثورة كانت صورة جمال عبد الناصر أحسن حلية لكل مكان, تراها في الأمكنة الخاصة و العامة أينما سرت في بغداد ثم مزقت كل ممزق و صار كل من توجد عنده يستحق العقاب الشديد ـ و بعد ذلك سافرت إلى المغرب.
الدعوة إلى الله في الدورة
…أول حجة حججتها كانت سنة1341 على عهد الملك حسين بن علي و رافقني إلى الحج بعض إخواننا السلفيين من أهل الريرمون, و كان السفر من مكة إلى المدينة فيه مخاطرة عظيمة بالنفس و المال فكانت قبائل البدو تتحكم في الحجيج و تنهب و تسرق و تقتل.
…و قد أخبرنا بعض الحجاج أن كل قبيلة تمر بها قافلة الحجاج يفرض رجالها على الحجاج أن يمكثوا في بلدهم أياما عديدة إلى أن يبيع أهل القبيلة كل ما يريدون بيعه, و قد يشتري الحجاج منهم أشياء لا حاجة لهم بها و إنما يفعلون ذلك اتقاءا لشرهم و طلبا لإطلاق سراحهم, و كل من ابتعد من الحجاج عن القافلة و لو لقضاء الحاجة يكون عرضة للقتل و السلب فلا يصل إلى المدينة و لا يرجع منها إلا طويل العمر. هذا مع أن الملك حسين كان يأخذ من كل قبيلة شابا يكون رهنا عنده إلى انقضاء موسم الحج حتى لا تتعدى تلك القبيلة على الحجاج و لم يجد ذلك نفعا.(1/165)
…و مما يدلك على أن الشرك كان مسيطرا على البدو و الحضر في ذلك الزمان أن الشيخ أحمد الشمس الشنقيطي نزيل المدينة النبوية و هو أحد تلامذة الشيخ ماء العينين و كلاهما شيخ طريقة يسمونها قادرية نسبة إلى عبد القادر الجيلاني رحمه الله, و أهل هذه الطريقة عندهم غلو عظيم في شيوخهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم غي الشدائد و يزعمون أنهم يغيثونهم و إذا جالست أحدا منهم تراه كالمجنون ممسكا سبحة بيده يعد حباتها و يسرد لا إله ألا الله بنغمة الغناء و اللحن ثم ينشد أبياتا ثم يعود إلى سرد لا إله ألا الله, و في أثناء ذلك يصرخ صرخات عظيمة يا شيخنا, فهؤلاء ما لهم عقل و لا دين.
…قال ابن الجوزي في كتابه (تلبيس ابليس):"قال الشافعي: رحمه الله لو أن رجلا صحب الصوفبة من الصبح إلى الظهر لم يبق له عقل".
…قال محمد تقي الدين: و أنا أصدقه و أزيد عليه: و لا دين. و نحن إنما نذم الصوفية المبتدعين و المشركين و الملاحدة كابن عربي الحاتمي و ابن الفارض, و إذا كان الصوفية في زمان الشافعي رحمه الله موصوفين بأن من صاحبهم يفقد عقله فما بالك بصوفية الأزمنة المتأخرة؟! و إذا أردت أن تعرف طريقة ماء العينين و تلامذته فعليك بكتابه المسمى "نعمت البدايات" فإنك ترى فيه عجب العجاب من الضلال و الغلو. و من جملة ما قاله بعض الغلاة في قصيدة له يطرى فيها شيخه ماء العينين:
……من فاته المصطفى المختار من مضر……و فاته الشيخ ما العينين محروم
…و قد رددت عليه بقصيدة أنقلها هنا:
……من فاته المصطفى المختار من مضر……و قد قفى نهجه ما ذاك محروم
……إن رد كل نزاع للإله إلى……كتابه فله يحق تحكيم
……و للرسول إلى حديثه فبذا……أمر الإله أتانا و هو محتوم
……لا للشيوخ و لا للرأي من شيع……لديهم حبل ذكر الله مصروم
……و كم حديث به عرض الجدار رموا……إسناده مثل شمس الصحو معلوم
……إذ خالف الرأي و هو الأصل عندهم……كأن صاحب ذاك الرأي معصوم(1/166)
……ما للرسول لديهم غير الاسم فقط……و صاحب الرأي متبوع و مأموم
……و آية من كتاب الله محكمة……تفسيرها عن نبي الله مفهوم
……تعمدوا سلب معناها المراد بها……و حملوها مفاهيما بها ليموا
……مضى الصحابة لم تخطر ببالهم……و التابعون و عقد الدين منظوم
……كذا الأئمة مثل الشافعي و ما……لك و أحمد لم يلمز لهم خيم
……و جاء من بعهم خلف أتوا بدعا……قد اقتفوا أثر يونان مشائيم
……و حكموا عقلهم في الله جل و هم……جهال أنفسهم و ذاك مذموم
……فوصفوه بما أوحت وساوسهم……و عندهم وصفه بالذكر تجسيم
……إن قصر الله و المختار في صفة……و صحبه كيف يرجى بعد تفهيم
……أو أنزل الله آيات مكفرة……فالكفر يحمد و الإسلام مذموم
……تالله إن أولاء القوم في عمه……بنوا على غير أس فهو مهدوم
……قد أعرضوا عن دين الله و انتبذوا……بيداء سالكها لاشك مقصوم
……من رام تكذيب قول الله أو سنن……يقول ذا لازم و ذاك ملزوم
……و الحق أوضح من أن يستدل له……لكن طرف أخي التقليد مخروم
……الله أعطاه طرفا يستدل به……فسده و اقتفى من هو مشؤوم
……و قال إنا وجدنا الأقدمين كذا……و الأقدمون لهم يحق تقديم
……و الحق أقدم و المختار سابقهم……لقوله حق تبجيل و تعظيم
……و ليس رب الورى بسائل أحدا……عن غيره فعليه دام تسليم خاص……
……يا ويل من لم يكن له بمتبع……شرابه يوم يظمى الناس يحموم
……و كيف يتبع ذو التقليد سنته……و أنفه بحبال الجهل مخزوم
……إذا عصيتم رسول الله فاتبعوا……من شئتم جمعكم لا شك مهزوم
……إن قلت قال رسول الله ينتفشوا……و ينفضون رؤوسهم و هم بوم
……و ينبزونك بالألقاب من سفه……فعندهم قول خير الرسل مسؤوم
……كونوا حجارة أو حديدا أو خشبا……و أنفكم أبدا بالترب مرغوم
……من كان قول رسول الله يغضبه……فذاك في الناس مدحور و مذؤوم
……و إن تستر بالتحريف يخدعنا فليس يخفى على العلام مكتوم
……أمر النبي و أمر من إمامهم……ذا حاكم عندهم و ذا محكوم
……لو وفقوا حكموا قول النبي على……قول الإمام و ذا في الذكر مرقوم(1/167)
……فأين الإيمان منهم أين آيته……و أين المحبة أين أين تعظيم
……و هم يقولون نحن الوامقون له……و خالفوا أمره فالحب مزعوم
……إن كنت وامقه فالتقف سنته……و الحب منك إذا خلفت معدوم
……و كل ما كان من نقص فمصدره……مشايخ دينهم و العرض مثلوم
……هم زينوا للعوام كل فاحشة……و منهم نتن أكل السحت مشموم
……راموا التأكل بالفتوى فصار لديهم……بالدراهم تحريم و تحليل
……لا كسب عندهم إلا العمائم كالـ……يقطين و الكم مثل الخرج مرسوم
……يرخون للناس أيديهم تقبلها……و من أبى فهو منحي و مشتوم
……إن كان حال هدات الناس يا أسفا……كما رأيت استوى جهل و تعليم
……أم ذووا الطرق من للصوف قد نسبوا……فلا تسل عنهم فهم مشائيم
……لم ترضهم شرعة المختار فانتحلوا……شرائعا كلها افك و تأثيم
……و اتعبدوا الناس باستعبادهم سفها……فالحر مستخدم و العبد مخدوم
……قالوا عن الله أخذنا الشرائع بل……من الشياطين شرع القوم مفهوم
……هل في شريعة خير الخلق عربدة……مثل السكارى و رقص ثم هينوم
……هل في شريعة خير الخلق تصدية……مع المكا و تجنن و تهويم
……هل للخلائق أرباب تقسمها……كل له جزء في الناس مقسوم
……أم للخلائق رب واحد صمد……و غير ما له في الخلق برعوم
……هل في الشريعة أقوال تكذبها……يقول أصحابها ذا السر مكتوم
……هل في الشريعة أوثان مقدسة……و حولها دم ذبح القوم مسجوم
……لا يخشعون لرنا خشوعهم……لها لأوجههم ويل و تسخيم
……لو آمنوا بإله الناس ما قصدوا……من دونه بكل الفقر موسوم
……ما قدروا الله حق قدره أبدا……إذ كان منهم على القبر تحويم
……إذا كان حي بكل الفقر متصف……فكيف و هو بترب اللحد مغموم
……قد أخبر المصطفى بكل ما فعلوا…… صلاة ربي عليه ثم تسليم
……و الله أسأل أن الحفظ يصحبني……و العمر بالعمل المرضي مختوم(1/168)
…كان الشيخ أحمد الشمس يخرج من المدينة و معه قافلة كبيرة فيتوجه بهم إلى مكة و لا يمسهم أحد بسوء. و كلما مر على قبيلة جاءه أهلها و قبلوا يده و تبركوا به و قدموا الهدايا فكان ملكا بلا جنود بسبب غلبة الجهل و الشرك و البدعة و الخرافات على أهل هذه البلاد في ذلك الزمان, فإن قبائل البدو كانت ترهب سطوة شيخ صوفي يزعم أنه يقتل من يشاء و يصيب بالأمراض و الكوارث من لم يخضع إلى مخرقته أكثر مما يرهبون ملك البلاد و أمرائه.
…فقلت لمن كان معي من الإخوان: إننا قد أدينا فريضة الحج نرجوا الله القبول, و الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم فضيلة مستحبة و لو كانت فريضة ما ساغ لنا أن نخاطر بأرواحنا لأجلها فإن المحصر يحل من حجه, فأي واحد منكم يتوجه إلى المدينة و يركب هذه الأخطار فتوحيده غير صحيح, و كل واحد منكم يترك صلاة الجماعة في المسجد أحيانا بلا عذر و هي فريضة فكيف يعقل أن يخاطر بروحه لفعل المستحب؟! إن أحيانا الله إلى أن تأمن هذه البلاد فإننا سنعود بإذن الله و نصلي في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم و إلا فقد أدينا فريضتنا فاستمعوا كلهم لقولي و أطاعوني و قد أحيانا الله سبحانه بفضله و رحمته إلى أن صلينا في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ما لا يحصى من الصلوات و هذا ببركة تحقيق التوحيد نسأل الله حسن الختام.
كيف كان حال السلفيين
…كان السلفيون في الحجاز في ذلك الزمان أضيع من الأيتام أما أهل نجد منهم فإنهم كانوا ممنوعين من الحج, و في تلك الأيام جاء جماعة من حجاج أندونوسيا و كانوا سلفيين فأعلنوا الدعوة إلى التوحيد و اتباع السنة فبلغ خبرهم بعض من كانوا يسمون بالعلماء, فرفعوا أمرهم إلى الملك حسين و أخبروه أنهم يدعون إلى مذهب الوهابية فأمر الملك باستتابتهم فاجتمع عليهم العلماء و استتابوهم فتابوا.
مناظرة مؤلف هذا الكتاب لحبيب الله بن مايابا الشنقيطي(1/169)
…كان الشيخ حبيب الله بن مايابا الجكني من العلماء النقربين عند الملك حسين و كانت له مدرسة تشرف على المسجد الحرام و كان المسجد الحرام في ذلك الزمان محاطا بالمدارس, و هذه المدارس كان يستغلها المقربون من العلماء و الجهال إذا جاؤوا إلى المسجد الحرام يجلسون فيها و يتوضؤون و ينامون و يصلون فيها أيضا, لأن كل واحدة منها كان لها طاقة واسعة مواجهة للكعبة فقصدت زيارة الشيخ المذكور في مدرسته و أخذت أتحدث معه حديثا يشبه المناظرة في التوحيد و الاتباع و كان عنده رجل أشيب فلما سمع كلامي ظهرت عليه علامات الحزن و قال لي: هذا الذي تقوله تعلمته في الشرق أم في الغرب , فقلت له: بل في المغرب فقال: لا حول و لا قوة إلا بالله و صل هذا البلاء إلا النغرب يعني بالبلاء توحيد الله تعالى و اتباع سنة رسوله صلى الله عليه و سلم, و أخبرني الشيخ حبيب الله أن ذلك الشيخ كان شنقيطيا كنتيا نسبة إلى كنتة و هي قبيلة معروفة في شنقيط. فقال الشيخ حبيب الله: و أنت وهابي و أنتم معشر الوهابية عندي ثلاثة أصناف وهابية نجد و وهابية مصر و الشام و أنت منهم و وهابية الهند, فأما وهابية نجد فإنهم كفار بيننا و بينهم ما بين اليهود و النصارى و المسلمين, هم اليهزد و النصارى و نحن المسلمون. و أما وهابية مصر و الشام فهم ضلال. و أما وهابية الهند فهم مخطئون فقلت له: اشرح لي ما ذكرته و بين لي سبب هذه التفرقة فقال لي: أما وهابية نجد فهم عندي كفار لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء, و أما وهابية مصر و الشام فهم ضلال لأنهم يدعون الاجتهاد, و ادعاء الاجتهاد ضلال و لا يبلغ إلى حد الكفر, و أنا بنفسي لا أقول بالتقليد المحض بل أقول بمنزلة بين منزلتين ثم سرد علي أبياتا من أرجوزة له لا أحفظ منها إلا شطرا واحد و هو قوله: ( و أنا أقول بالتبصر )(1/170)
…فقلت له: هذا التفصيل فيه نظر لأن جميع السلفيين في نجد و في مصر و الشام و المغرب و في الهند يقولون و يعتقدون أن الله في السماء مستو على عرشه بدون تشبيه و لا تمثيل و لا تأويل و لا تعطيل و أدلة هذا لا تخفى عليك و أما ما سميته بالاجتهاد فنحن نسميه الاتباع. و الأصناف الثلاثة أيضا متفقة عليه إلا أن أهل نجد ينتسبون إلى المذهب الحنبلي في الفروع و نحن لا ننتسب إليه إلا في الأصول, ثم قلت له: و لماذا خففت الحكم على أهل الهند فلم تجعلهم كفارا و لا ضلالا بل جعلتهم مخطئين؟ فقال لي: لأنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه و سلم فليس عندهم ما ينتقد إلا مسألة الاجتهاد و قلت له: فعلام ضللتنا نحن بالاجتهاد و غفرته لهم فقال: قلت لك إنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له: ماذا تعني بزيارة القبر أتقصد شد الرحال؟ فقال أقصد ذلك كله فقلت له: إن السلفيين في الهند
لا يقولون بجواز شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة فظهر تناقضه, و لم أكن أعلم سبب ذلك التناقض حينئذ غير أني عرفته فيما بعد و ذلك أن الشيخ ععبد الوهاب الدهلوي التاجر العالم كان بمكة و كان تلميذا له يدرس عليه بعض فروع العلم و كان يحسن إليه فلذلك خفف الحكم على السلفيين من أهل الهند, و كان يتبع هواه و الهوى يعمي و يصم فقد كان يحرم حلق اللحية و يغلظ فيه القول و يفسق مرتكبه, فلما انتقل إلى مصر هاربا ممن يسميهم بالوهابية كما سيأتي غير رأيه فأفتى بأن حلق اللحية مكروه كراهية تنزيه فقيل له: قد أفتيت زممانا طويلا بالتحريم و التفسيق فما عدا مما بدا فقال: إن أكثر العلماء في مصر يحلقون لحاهم فكيف يسوغ لي أن أفسقهم؟!.(1/171)
…و لما استتيب الأندونوسيون و كان هذا الرجل من الذين استتابوهم, اختفيت أنا ثمانية أيام في مكة عند بعض المغاربة و كنت أبعثه كل يوم إلى المسجد الحرام ليتحسس هل هناك أحد يبحث فلم يجد لذلك أثرا فخرجت من مختبئي. و هذه حسنة أعدها له إذ لم يسع في استتابتي, و سوف يرتكب سيئة تمحوا هذه الحسنة.
مداهنته لمن يسميهم بالوهابية
…لما استولى الملك عبد العزيز على الحجاز بعد هذا التاريخ بقليل أخذ يداهن الملك عبد العزيز و أهل نجد, الذين كان بالأمس يكفرهم. و في يوم من الأيام جاء الملك عبد العزيز رحمة الله عليه إلى المسجد الحرام فوجد الشيخ حبيب الله و السيد أحمد السنوسي يملآن الأثر المسمى بموضع قدم إبراهيم بماء زمزم و يكرعان فيه بأفوههما كالبهائم فوبخهما و قال لهما: إذا كنتما تفعلان هذا و أنتما بزعمكما من العلماء فماذا تركتما للجهال؟!
…و حدث أنه كان ذات ليلة في مجلس الملك عبد العزيز آل سعود و كان الملك يتكلم في التوحيد فعارضه فغضب عليه الملك عبد العزيز غضبا شديدا, فظن أن حتفه قد دنى فتقدم إلى الملك و ألقى نفسه بين يديه و أظهر التوبة و الرجوع عما قاله و إنما فعل ذلك خوفا أن يبطش به, و لم يكن الملك عبد العزيز رحمه الله سريعا إلى البطش بل كان إذا غضب يقتصر على الكلام و لا يتجاوزه.(1/172)
…و على أثر ذلك أخذ زوجته إلى المدينة و تركها في بيت أخيه الشيخ محمد الخضر و هرب إلى مصر. و كانت العلاقات بين مصر و المملكة السعودية في ذلك الزمان سيئة جدا بسبب المحمل الذي كانت تبعثه الحكومة المصرية إلى مكة في كل سنة و هو شيء كالهودج يطاف به في القاهرة ثلاثة أيام يتمسح الناس به و يتبركون به ثم يبعث مع الوفد المصري إلى مكة فيتمسح به الجهال أيضا في جدة و في الطريق إلى مكة, فأمر الملك عبد العزيز رحمه الله بالمنع من التمسح به و الإتيان به إلى مكة و أمر أن يترك في جدة و بعد الحج يرجع به الوفد إلى مصر, فرأى الوفد المصري أن ذلك إهانة له و كانت كسوة الكعبة المشرفة يؤتى بها من مصر يحملها الوفد المصري كل سنة إلى مكة فلما ساءت العلاقة بين المملكتين استغنى الملك عبد العزيز عن كسوة الكعبة التي كان يؤتى بها من مصر, و طلب الصناع من الهند و أسس دارا بمكة لصنع الكسوة, فاغتنم الشيخ حبيب الله هذا الخلاف و التجأ إلى حكام مصر و شكى لهم ما أصابه من السعوديين و الحقيقة أنه لم يصبه منهم شيء فرحبوا به و جعلوه مدرسا في الأزهر.
…و في سنة1345هـ توجهت من العراق إلى الحج بصحبة الشيخ مصطفى آل إبراهيم, و مررنا بالقاهرة و كان الشيخ حبيب الله مستقرا بها, فعلمت أن شخصا قال له: هل تعرف الهلالي؟ فقال: نعم أعرفه فقال له: أهو من أهل العلم فقال له: لا يصلح أن يكون جليسا لأهل العلم فكيف يكون من أهل العلم؟ فكتبت كتابا إليه قلت له فيه: فبلغني أنك قلت كيت و كيت, و قد ناظرتك في مدرستك سنة1341هـ من الظهر إلى العصر كنت تناضل عن عقيدة أسلافك الأرذلين كالجهم بن صفوان و الجعد بن درهم و كنت أناضل عن عقيدة السلف الصالح من الصحابة و التابعين و الأئمة المجتهدين, فما وجدت في بحمد الله من ضعف و لا ونى و أنشدته في ذلك الكتاب أبياتا أذكر منها قول الشاعر:
……لقد زادني حبا لنفسي أنني……بغيض إلى كل امرئ غير طائل(1/173)
……و أني شقي باللئام و لا ترى……شقيا بهم إلا كريم الشمائل
…و قول المتنبي أيضا:
……و يظهر الجهل بي و أعرفه……و الدر در برغم من جهله
…و أبياتا أخرى نسيتها و كتبت عليه عنوانه و هممت أن ألقيه في صندوق البريد ليصل إلي و يشويه, و لكن أخانا السافي إبراهيم الوادنوني تلطف و تحيل و قال لي: ناولني هذا الكتاب و أنا أبلغه إليه فناولته إياه و كان مقصوده أن يمنع وصوله إليه حتى لا يسوءه لأنه كانت بينه و بينه صداقة مع اختلافهما في العقيدة فإن إبراهيم سلفي العقيدة و حبيبا قد علمت معتقده فيما مضى.
…و بعد ذلك سافرت إلى الحجاز و كتب السيد رشيد رضا رحمه الله إلى الملك عبد العزيز رحمه الله يرغبه في إبقائي في المملكة و يقول له عن محمدا تقي الدين الهلالي من أفضل من أم بلادكم من أهل العلم. و بعد انقضاء الحج تهيأ الشيخ مصطفى آل إبراهيم ليرجع إلى العراق فالتمست من إخواني الشيخ عبد الظاهر أبي السمح و الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة و غيرهما أن يشفعوا لي عنده ببقائي, و أكدت له انني ما فارقته إلا بقصد البقاء في هذه البلاد المقدسة للتعاون مع إخواني على نشر العقيدة الصحيحة.(1/174)
…و كان الشيخ عبد الظاهر أبو السمح قد كتب غلي مرارا يرغبني في التوجه إلى الحرمين و البقاء فيهما بعدما أصلح الله أحوالهما على يد الملك عبد العزيز آل سعود, و كنت في العراق أعيش أحسن معيشة فقد كان الشيخ مصطفى آل إبراهيم قد أنشأ لي مدرسة و جعل لي راتبا طيبا و تزوجت, فجاهدت نفسي إلى أن أرغمتها على البقاء في مكة و ترك ذلك كله مع أني حتى ذلك الحين لم أوعد بشيء و كان معي أخي محمد العربي الهلالي, و لما فارقني الشيخ مصطفى آل إبراهيم سلم لي مقدارا كبيرا من الدراهم و قال لي: وزعه على العلماء و طلبة العلم السلفيين فقلت في نفسي: أنا و أخي من طلبة العلم السلفيين أفلا يجوز لي أن آخذ لي و لأخي نصيبا من هذا المال؟ ثم قلت لنفسي: إن المتبرع بهذا المال يعرفك و يعرف أخاك و يعلم أنكما محتاجتن فلو أراد أن يجعل لكما نصيبا منه لصرح بذلك فالاحتياط و الأخذ بالعزيمة يقتضي بتوزيع المال كله و أن لا تأخذ لنفسك و لا لأخيك منه شيئا فوزعته كله و لم آخذ شيئا.
…و كنت مع الشيخ مصطفى آل إبراهيم في ضيافة الملك عبد العزيز رحمه الله فلما سافر أقمت في الطبقة العليا من البيت الذي كان يسكنه الشيخ عبد الظاهر أبو السمح و تلك الطبقة مهجورة شديدة الحر فجاهدت نفسي على الصبر على تلك الحال, و كان مأمور الضيافة يسكن في الطبقة الأرضية فكنت أمر عليه فأسلم فلا يرد علي السلام إلا في بعض الأحيان.(1/175)
…و في يوم جمعة أردت أن أغتسل للجمعة فذهبت إلى المستسقى ـ و يسمونه البازان ـ و طلبت من سقاء ان يأتيني بصفيحتين من الماء بعدما كنست الحوض و أخرجت ترابه فلما جاء إلى البيت و علم أنني أسكن في الطبقة الخامسة امتنع حتى زدته في الأجرة و صارت نفسي توسوس و تقول: كيف تترك راتبا طيبا و بيتا حسنا و تترك أهلك و تصبر على هذه الحال؟ فأدفعى هذا الوسواس بمثل قوله تعالى:{ و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب} الطلاق:2,3. فلما اغتسلت و تهيأت للذهاب إلى المسجد الحرام إذا بخادم مأمور الضيافة يطرق الباب و يقول: إن مأمور الضيافة يسلم عليك و يرجوا أن تمر على مكتبه فنزلت إليه, فتلقاني بغاية البشاشة و الحفاوة و قال لي: جاءني أمر هاتفي من القصر الملكي بأن أنزلك في الضيافة و أعتذر إليك في التأخير إلى ما بعد العصر, كما أرجوا أن تتناول طعام الغداء بعد صلاة الجمعة معي و بعد صلاة العصر يكون كل شيء جاهز.
…فجاءني بعد صلاة العصر و ذهبنا إلى دار الضيافة و هي دار السقاف في محلة جياد فوجدت مسكنا طيبا مؤثثا أحسن الأثاث و نزلت في الضيافة و انفرجت الأزمة.(1/176)
…و بقيت أربعة أشهر في الضيافة ثم قال لي الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه ما رأيك في أن تكون إماما و خطيبا في المسجد النبوي؟ فقلت له: أقبل بشرط أن لا أنقص عن عشر تسبيحات في السجود و الركوع فقال لي: هذا كثير على الناس لا يتحملونه فقلت: و أنا لا أقبل إلا بهذا الشرط, فقال لي: إذا نعطيك عملا آخر و هو مراقبة المدرسين في المسجد النبوي فقلت: قبلت,هذا مع أن الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه حين سافرنا إلى المدينة كان يقدمني دائما إماما في الصلاة فهو رحمة الله عليه كان يستحسن ما اخترته من إمام الركوع و السجود و الاعتدال إلا أنه رأى أن عامة المصلين يشق عليهم ذلك فالله يجزل ثوابه و يرحمه رحمة واسعة. سافرت إلى المدينة بصحبة الشيخ عبد الله بن حسن و كان معنا الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة و قد عين إماما و خطيبا في المسجد النبوي بعد أن اعتذرت أنا عن قبول ذلك فأقمنا بالمدينة أياما.
إزالة بستان فاطمة(1/177)
…كان في صحن المسجد النبوي بئر و نخلة و شجيرات و كان الجهال يسمون ذلك بستان فاطمة و يتبركون بالنخلة و تمرها و بالشجيرات و البئر و يعتقدون أن بئر زمزم تجري تحت الأرض حتى تتصل بذلك البئر يوم عاشوراء من كل سنة, فيقبل الناس في يوم عاشوراء على تلك البئر و يأخذون منها ماء كثيرا للتبرك به فاستشارنا الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه في طمس البئر و إزالة البستان فلم نتردد في الموافقة على ذلك, لأن المسجد كله و قف للصلاة و لا يجوز أن يشغل بغيرها, و لأن الجهال يفتتنون بماء البئر و النخلة و الشجيرات فكتب رحمه الله إلى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله يخبره بما رأينا و يستأذنه في تنفيذه, فجاء الإذن فأمر الشيخ بطم البئر و قلع تلك الأشجار و تسوية الأرض فكانت من حسناته رحمة الله عليه, و لما قلعة النخلة و الأشجار و قطعت و حملت على خارج المدينة انتظر المفتونون بها مجيء الليل بظلامه فأخذوها كلها و لم يبقوا شيئا, و لابد أن يكونوا قد اقتتلوا عليها لينال كل واحد منهم قطعة صغيرة من الأشجار و أوراقها.(1/178)
…و هنا نذكر شجرة ذات أنواط التي كانت للمشركين في الجاهلية ينوطون بها أسلحتهم و يتبركون بها, قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجر أو حجر و نحوهما و مضى إلى أن قال: و عن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين و نحن حدثاء عهد بكفر و للمشركين سدرة يعكفون عندها و ينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"الله أكبر إنها السنن قلتم و الذي نفسي بيده كما قالت بنوا غ7سرائيل لموسى{اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم"رواه الترمذي و صححه قال شارحه الشيخ سليما بن عبد الله رحمة الله عليه في شرح هذا الحديث ص150 ما نصه" فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة و العكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها و لا يسألونها فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الموات و الاستغاثة بهم و الذبح و النذر لهم و الطواف بقبورهم و تقبيلها و تقبيل أعتابها و جدرانها و التمسح بها و العكوف عندها و جعل السدنة و الحجاب بها؟! و أي نسبة بين هذا و بين تعليق الأسلحة على شجرة تبركا؟! قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية:(فانظروا رحمكم الله أينما و جدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس و يعظمونها و يضربون بها المسامير و الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها).(1/179)
…و قال الحافظ أبو محمد غبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي في كتاب البدع و الحوادث:(و من هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشياطين للعامة تخليق الحيطان و العمد و سرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح و الولاية فيفعلون ذلك و يحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى و سننه و يظنون أنهم متقربون بذلك, ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها و يرجون الشفاء لمرضاهم و قضاء حوائجهم بالنذر لهم و هي من بين عين و شجر و حائط و حجر. و في مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحما خارج باب توما و العمو المخلق خارج باب الصغير و الشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق, سهل الله قطعها و اجتثاثها من اصلها فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث)اهـ.
…فماذا يقول أعداء التوحيد الذي يبغضون الوحدين و يسمونهم بالوهابية فهل كان أبو بكر الطرطوشي و عبد الرحمن أبو شامة و هابيين؟!(1/180)
…و بعدما استتقررت في المدينة بعث حبيب الله الشنقيطي من مصر إلى المدينة رجلين ليأتياه بزوجته أحدهما الشيخ إبراهيم المراكشي و الثاني شنقيطي لا أعرف اسمه, و الشيخ إبراهيم المراكشي مغربي استوطن القاهرة منذ زمان طويل و هو رجل كريم ضيفني مرارا في بيته فلما رأيته دعوته للغداء, فلما رجع إلى القاهرة كان من أعجب المصادفات أن العلاقة بين الشيخ إبراهيم الودنوني و بين حبيب الله الشنقيطي قد ساءت و وقعت بينها و حشة فألقى الكتاب الذي أخذه مني في البريد, فوصل الكتاب مع وصول الرجلين الذين بعثهما إلى المدينة فظن حبيب الله أن إبراهيم المراكشي هو الذي جاء بالكتاب و ألقاه في البريد فأخذ يلومه و يقولك يا شيخ إبراهيم هذا قدري عندك تأتي بكتاب يتضمن تكفيري من ذلك الجهول! فحلف إبراهيم المراكشي أيمانا مغلظة أنه لم يأخذ مني كتابا و لا سمع مني كلاما في حقه فلم يصدقه و حصل الغرض المطلوب و هو جزاؤه على إساءته بإساءة مثلها.
العشاء في قصر الملك حسين
…لما حججت الحجة الأولى سنة1341هـ و جدت شيخا من بلدنا بوبا في قصر الملك حسين ففرح بي كثيرا و دعاني للعشاء و كان من جملة حديثه لي أن قال: يا بني إن هذه البلاد الشرقية فيها عجائب و غرائب فكن على حذر من أهلها فإنها ليست كبلادنا أهلها كلهم سنيون على مذهب إمامنا مالك ففي هذه البلاد طائفة يقال لهم الوهابية يبغضون النبي صلى الله عليه و سلم و لا يذكرون اسمه أبدا فيقولون: لا إله إلا الله مالك يوم الدين بدل أن يقولوا: محمد رسول الله فأظهرت له التعجب.(1/181)
…و في سنة 1345هـ لما كنت في الضيافة الملكية بحثت عنه حتى وجدته و ضيفته و عرف حينئذ أنني من الطائفة التي حذرني منها فسكت و لم يقل شيئا, و في يوم من الأيام كان معي فقصدنا المسجد الحرام فوجدنا الشيخ عبد الظاهر أبا السمح رحمه الله جالسا على الحصى فجلست معه و جلس رفيقي فقال عند جلوسه: يا رسول الله فقال له أبو السمح: قل يا الله فقال: ما أقول إلا يا رسول الله يا رسول الله يا رسول الله فاضرب عنقي إن قدرت ثم قال لي: هذا فراق بيني و بينك, فإن صحبتك تجرني إلى لقاء هؤلاء القوم و هرب و لم أره بعد ذلك.
…فانظر إلى الجهلاء الذين يسمون بالعلماء كيف يضللون العوام الجهال{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}النحل:25.
ملك الحجاز غير المتوج
…هكذا كان يسمي السيد رشيد رحمه الله عميد السلفيين في الحجاز الشيخ محمد نصيف بارك الله في حياته و قد كان في تلك الأيام المظلمة سراجا يضيء لمن ألهمه الله رشده طريق التوحيد و اتباع السنة, و كان بيته لا يخلو من الضيوف الواردين من جميع أنحاء الدنيا من أمراء البيت الهاشمي و بعد ذلك أمراء البيت السعودي إلى فقراء الحجاج من أهل الهند هكذا و جدته سنة1341هـ و لا يزال كذلك إلى يومنا هذا, و مناقبه لا يفي بها إلا مؤلف خاص و هو أشهر من أن يعرف, و مع أنه كان متهما بالوهابية كان موضع احترام و إجلال من جميع الناس من الملك حسين و أبنائه إلى الطبقة السفلى من العامة لأنه من أشرف بيوتات الحجاز و لما آتاه الله من علو القدر و الوجاهة و المهابة و للسخاء العظيم الذي هو من أخص صفاته و في الحديث:[السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة, و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة](ضعيف الجامع 3341" الناشر") و ما أحسن قول الشاعر:
……تغطى بالسخاء عن كل عيب……فكم عيب يغطيه السخاء
…و قال آخر:(1/182)
……أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم……فطالما استعبد الإنسان إحسان
…و مع شدة عداوة الملك حسين لمن يسميهم بالوهابيين كان يحجم عن الإساءة إلى هذا الرجل الكريم إلى أواخر أيام ملكه فقبض عليه و نفاه من الحجاز إلى قبرص فسجن هناك و عزم على قتله, فانهالت عليه البرقيات من جميع أنحاء العالم تحذره من هذه الجريمة و من جملة من حذره ابنه فيصل الأول و سائر أبنائه, و بعد سجن دام أربعين يوما أطلق الله سراحه ليعود إلى خدمة العلم و الدين و أعمال البر و بناء المكرمات.
…و قد طفت كثيرا من أنحاء العالم من المغرب الأقصى غربا إلى كلكتا شرقا و وصلت من جهة الشمال إلى ألراضي القطبية التي لا تغيب فيها الشمس مدة ثلاثة أشهر فما رأيت أحدا من العلماء و الوجهاء منحه الله من خدمة العلم و العلماء و كرم الضيافة و البر و الإحسان مثل ما لهذا الرجل, فهو بدون منازع عميد السلفيين في الحجاز بل و في سائر أنحاء الدنيا فكم طبع من كتب السنة و التوحيد و وزع منها الأعداد الوافرة في جميع أنحاء العالم و كم له من أياد بيض على أهل العلم و الفضل الذين يريدون منهله العذب من جميع أقطار العالم في هذه المدة الطويلة, فنسأل الله أن يبارك في حياته و يزيده من فضله.
عبد الرؤوف الصبان(1/183)
…من أفضل من لقيتهم من السلفيين الذين يوحدون الله و يتبعون رسوله صلى الله عليه و سلم السيد عبد الرؤوف الصبان رحمه الله و كان مديرا لشركة دبغ الجلود في مكة فقد أكرمني و أنزلني في بيته, و كنت مريضا فأخذني إلى الطبيب و لم يزل يرعاني ببره و إحسانه إلى أن انتقلت و أنا مريض إلى جدة, فنزلت عند عميد السلفيين أطال الله بقاءه و كان يخدمني بنفسه و يجبرني على شرب الحليب إلى أن شفيت, ثم سعى لي في الحصول على الركوب في الباخرة مجانا إلى بومباي في الهند, و في تلك الأيام التي كنت عند الشيخ عبد الرؤوف الصبان عرض عليه الأمير علي بن الحسين أن يتخذه كاتبا له فاستشارني فنهيته فلم يقبل نصيحتي و صار كاتبا عند الملك المذكور, و بعد مدة قصيرة وقعت الحرب بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود و بين الملك علي بن الحسين بعد فرار أبيه إلى قبرص, فانهزم الملك علي بن الحسين و خرج من مكة و رافقه كاتبه الشيخ عبد الرؤوف الصبان و بقي منفيا معه سنين طويلة في أثنائها لقيته في بغداد فوجدته نادما على عدم قبول نصيحتي له.
السفر إلى الهند
…بعدما شفيت من مرضي عرضت على أبي مثواي السيد محمد نصيف رغبتي في السفر إلى الهند للقاء علماء أهل الحديث, فسعى لي بواسطة القائم مقام في جدة السيد زينل في الحصول على تذكرة سفر في الباخرة مجانا من جدة إلى بومباي و سافرت منها إلى دهلي.(1/184)
…و كان الشيخ عبد الوهاب الدهلوي قد كتب لي كتاب توصية إلى عمه الحاج عبد الغفار في دهلي فضيفني و أكرمني و لقيت النواب صدر الدين المدبر لشؤون مدرسة(علي جان) و مسجده و كان عالما بالعربية و علوم الدين فصيح اللسان بالتحدث بلغة الضاد و كان المتحدثون بفصاحة باللغة العربية في ذلك الزمان في بلاد الهند في غاية القلة, فرحب بي و استحسن مقصدي و قال لي: إن تجولك في بلاد الهند للقاء العلماء و الاطلاع على الكتب يحتاج إلى أمرين: أحدهما الدراهم و الثاني اللغة, و بدون هذين تتعب كثيرا و لا تحصل على طائل, فأنا أقترح عليك أن تمكث عندنا هنا سنة تتعلم فيها شيئا من اللغة الهندية و تحصل على شيء من المال, و في أثنائها يستفيد من عملك تلامذة مدرستنا فإن الطلبة عندنا يدرسون كتب التفسير و الحديث و الأدب العربي نظما و نثرا بالترجمة الهندية بلغة أردو من البداية إلى النهاية و يتخرجون في المدرسة( و لا تقل من المدرسة ) و لم يقرع آذانهم كلام باللغة العربية فيعيشون بكما صما يعتمدون على ترجمة الكتب لا على الكتب نفسها.
…فقبلت هذا الاقتراح و أقمت في مدرسة(علي جان) فأمر النواب صدر الدين المتقدمين في العلم من الطلبة أن يحضروا دروسي فحضر عندي خمسة عشر طالبا لا يزال أحدهم بقيد الحياة معروف مكانه و هو الشيخ عبد الودود بن عبد التواب الملتاني و قد حج في السنة الماضية عام 1390هـ و لقيته هنا بالمدينة.
حادثة عجيبة
…قلت لأولئك الطلبة: ماذا تريدون أن أدرسكم من كتب الأدب؟ فقالوا: نريد أن تدرسنا ديوان المتنبي فبدأت أدرسهم و وجدت صعوبة في إفهامهم لأنهم كما قال النواب صدر الدين: لم يقرع آذانهم كلام عربي قط, و بعد أربعة أيام و صلنا إلى بيت من قصيدة للمتنبي يمدح بها سيف الدولة و كانت النسخة التي كنا نقرأ فيها مطبوعة في دهلي و فيها أخطاء فوجدنا فيها البيت هكذا:
……أنا له الشرف الأعلى تقدمه……فما الذي يتوقى ما أتى نال(1/185)
…ففكرت في معنا الشطر الثاني من هذا البيت فلم أكد أفهمه فلما حضر الطلبة قلت لهم: هذا الشطر لم افهمه و أظن أنه محرف, فأنكروا ذلك و قالوا:(توبة, أستغفر الله) و هاتان الكلمتان تستعملان في لغتهم عند الغضب و الإنكار الشديد و قالوا لي: إن هذه النسخة التي في يدك درسنا بها مولانا عبد الرحمن النكرامي مرارا فلم يجد فيها خطأ, فيا لله العجب أنت عربي و أديب و تعجز عن فهم كلام المتنبي مع أن أقل الأدباء علما عندنا يدرس ديوان المتنبي بدون مطالعة, و الآن ظهر لنا صدق ما قال أستاذ الأدب مولانا عبد الرحمن النكرامي فقلت لهم: و ماذا قال؟ قالوا قال لنا: اذهبوا إلى النواب صدر الدين و قولوا له إننا لا نفهم كلام هذا المدرس العربي و لا حاجة لنا بتدريسه, فقلنا له: نحن نستحي من النواب أن نقول له ذلك فقال لنا: اعلموا أن العرب في هذا الزمان كلهم جهال لم يبق عندهم من العلم شيء و إنما كان عندهم العلم في زمان النبي صلى الله عليه و سلم و في زمان السلف الصالح, أما اليوم فلا علم عندهم أما ترونهم كل سنة يأتون من مكة و المدينة و يتكففون الناس فهل رأيتم منهم أحدا من أهل العلم؟ يضاف إلى ذلك أن هذا العربي ـ يعنيني ـ شاب مجهول في الهند لا يعرفه أحد و شهادته لا تنفعكم, و أنا لا أعطيكم شهادة إذا تركتموني و درستم عنده فقلت لهم: إن شئتم أن تحضروا درسي فاحضروا و إن رأيتم أن درسي لا فائدة فيه فانصرفوا إلى مولانا عبد الرحمن فانصرف أحد عشر منهم و بقي أربعة لا لأنهم يعتقدون صحة ما قلت من أن شطر البيت يمكن أن يكون محرفا بل فضلوا سماع الكلام العربي و لو من مدرس قليل العلم و كان أحدهم عبد الودود المذكور.(1/186)
…فذهبت على النواب صدر الدين رحمه الله و ذكرت له ما وقع فقال لي: أنا أعرف علمك و أعرف علم الشيخ عبد الرحمن النكرامي و قد أردت لهم الخير فإن أبوا فذرهم في ضلالتهم و أرجوا أن تبقى في مكانك و لو لم يحضر عندك أحد منهم, بقيت أربعة أيام أفكر في معنا ذلك الشطر فلم أفهمه و قال لي أحد الأربعة الباقين: إن الشيخ عبد الرحمن قال للطلبة: إن هذا الشطر واضح يفهمه كل أحد حتى الحمار و قد رأيتم صدق ما قلته لكم.
…و في اليوم الخامس ذهبت إلى الشيخ عبد الرحمن النكرامي رحمه الله و أمامه حلقة كبيرة من الطلبة فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت: يا شيخ عبد الرحمن لم أفهم هذا الشطر و قد أخبرني الطلبة أنك تفهمه فأفهمي إياه فقل لي كلام لا معنا له فقلت له: أعربه من فضلك فبالإعراب يتبين المعنى فقال: ما موصولة, و الذي توكيد لها, و يتوقى فعل مضارع فاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الأعداء في البيت قبله, و ما مفعول به, و أتى فعل ماض و فاعله ضمير مستتر يعود على الممدوح, و نال خطأ و الصواب نالوا فقلت له: إذا كانت ما موصولة يكون تقدير الكلام الذي الذي فقال: و أي شيء في ذلك؟ فقلت له: و فاعل يتوقى إذا كان يعود على الأعداء لم يصح ذلك لأن قياس النحو يقتضي أن يكون واوا فيقال: يتوقون, و ليس عندنا ضمير مستتر تقديره هم إلا في نحو قولنا: الرجال قائمون, ففي قائمون ضمير مستتر تقديره هم, أما الفعل فلا يقدر فيه من ضمائر الغيبة إلا هو و هي.
…قال لي: تريد أن تعتزر (يعني تعترض) على المتنبي؟ إنك لا تستطيع ذلك فقد عكف أبو علي الفارسي على ديوان المتنبي يبحث عن خطأ فلم يجده قلت له: أنا لا أريد أن أعترض و لكن أريد أن أفهم, و مع ذلك فالمتنبي غير معصوم من الخطأ فقد عيب عليه أبيات منها قوله:
……جفخت و هم لا يجفخون بها بهم……شيم على الحسب الأغر دلائل
…فيه التعقيد, و من ذلك قوله:
……إن كان مثلك كان أو هو كائن……فبرئت حينئذ من الإسلام(1/187)
…فيه الركاكة و قبح البراءة من الإسلام لأمر مكذوب يريد به التملق و من ذلك قوله:
……فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا……فلا قل هم كلهن قلائل
…فيه من الركاكة و الثقل على اللسان بتكرار حرف القاف ما لا يخفى فأعرض عني و قال للطاب الذي كان يقرأ عليه:(تشالو) يعني استأنف القراءة فأصابني من الغم ما الله به عليم, و لم أكن قبضت شيئا من المدرسة و ما كان عندي إلا أربع و عشرون روبية أي درهما هنديا, فعزمت على شراء شرح ديوان المتنبي للعكبري لأعرف أين يكمن سر عدم فهمي لذلك الشطر أهو في جهلي أم في الخطأ الواقع في الطبعة الهندية؟ فسألت أحد الطلبة عن لفظ السؤال عن المطبع المجتبائي بلغة أردو فلقنني إياه, فذهبت أسأل إلى أن وصلت فسألت صاحبه عن شرح العكبري لديوان المتنبي, فقال لي: النسخة الأخيرة اشتراها مني طالب من مدرسة كذا و كذا فذهبت إلى تلك المدرسة و وجدت الطالب الذي اشترى النسخة فوجدت البيت هكذا:
……أنا له الشرف الأعلى تقدمه……فما الذي بتوقي ما أتى نالوا؟
…فظهر أنني كنت مصيبا و أن الشطر كان محرفا, و الطامة الكبرى كانت في زيادة نقطة بلفظ( بتوقي) الذي هو جار و مجرور فصار(يتوقى)فعلا مضارعا و ظهر أن الشيخ عبد الرحمن لم يفهم منه شيئا فإن(ما) التي زعم أنها موصولة ليست موصولة بل هي استفهامية, و(يتوقى) الذي اخترع له فاعلا و جعله ضميرا مستترا تقديره هو ليس فعلا و إنما هو جار و مجرور.(1/188)
…فنقلت البيت على الوجه الصواب و ما قاله العكبري في شرحه. و معنى البيت:(تقدم سيف الدولة في الحروب و هزيمته لأعدائه أكسبه الشرف الأعلى فما الذي ناله أعداؤه بتوقيهم و إحجامهم عن فعل ما أتاه من ذلك؟! الجواب نالوا الخزي و العار) فانطلقت إلى الشيخ عبد الرحمن النكرامي و هو يدرس و كان لا يفتر عن التدريس طول النهار فسلمت عليه فرد علي السلام و قلت له: أيها الشيخ إنك قلت للطلبة: إن هذا الشطر يفهمه كل أحد حتى الحمار و قد ظهر أنك لم تفهمه و ناولته الصحيفة و قلت له: اقرأ ما قاله العكبري في شرحه فقرأه ثم ناولني الصحيفة و قال للطالب الذي كان يقرأ عليه (تشالو) فهجرته ثلاثة أيام و هجوته بقصيدة لا أريد أن أذكر منها هنا شيئا فكان خيرا مني لأنه بعد ثلاثة أيام بدأني بالسلام.
التجول في الهند(1/189)
…بعدما مضت على وصولي إلى دهلي ستة أشهر جاء شهر رمضان و هو وقت تعطيل في مدارس أهل الحديث بالهند, و كنت قد جمعت شيئا من المال و كانت عندي نسخة من عون المعبود شرح سنن أبي داود تأليف جماعة من علماء أهل الحديث منهم شيخنا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري كما أخبرني هو رحمه الله بذلك, و لا تصح نسبته إلى شخص واحد و إن كان الشيخ شمس الحق العظيم آبادي هو الذي كان ينفق على أولئك الجماعة زمان تأليفه و يشاركهم في العمل, بعته بسبع عشرة روبية فتوجهت من دهلي إلى لكناو و فيها لقيت الشيخ محمد بن محسن اليمني الأنصاري, فقرأت عليه أطرافا من الكتب الستة, و أخذت عنه الإجازة في جميع مروياته عن أبيه عن آل الأهدل. ثم توجهت إلى بنارس و لقيت فيها الأديب الشيخ عبد المجيد الحريري الحاصل على شهادة ماجستير من جامعة (علي كره) ففرح بي فرحا عظيما و التمس مني أن أبقى عنده ليستفيد من علمي و عرض علي راتبا أكثر مما كنت آخذه في مدرسة( علي جان ) و تكفل بجميع ما يلزمني من السكنى و المعيشة فوعدته خيرا. و توجهت إلى مدينة (مو) و لقيت العالم الجليل الشيخ محمد أحمد و منها توجهت إلى مبارك فور بقصد لقاء العالم الجليل الورع النبيل خاتمة المحققين في تلك النواحي الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري فأقمت عنده مدة يسيرة قرأت عليه فيها أطرافا من الكتب الستة و ثلاثيات البخاري و عارضت معه مواضع من كتابه القيم(تحفة الأحوذي) في شرح جامع الترمذي و التمس مني أن أنظم قصيدة في تقريظه فنظمتها و تركتها عنده فأدرجها في آخر المجلد الرابعو و كنت قد طبعت أربع قصائد في دهلي سميتها الهاديات تقدمت إحداها و هي الميمية التي مطلعها: من فاته المصطفى المختار من مضر إلخ.(1/190)
…و سأدرج هنا قصيدة أخرى منها. فنقل شيخنا المذكر في مقدمة تحفة الأحوذي إحدى القصائد الأربع و هي تخميس قصيدة حميد القرطبي التي أنشدها القسطلاني في مقدمة شرحه للبخاري و مطلعها:
……نور الحديث مبين فادن و اقتبس……و احد الركاب له نحو الردي الندس
…إلا أنه لم يسمني بل قال: و قال بعض الأعلام مخمسا هذه القصيدة, و لقيت منه من الإكرام ما أعجز عن وصفه بل أسأل الله أن يكافئه على ذلك في جناة عدن مع الذين أنعم الله عليهم مع أني أدعوا له في كل صلاة و رأيت من زهده في الدنيا و تواضعه و حسن خلقه ما يفوق الوصف فقد كان يقضي أوقاته كلها في خدمة العلم تدريسا و تأليفا و إفتاء, و دعاه الدهلويون حين عزموا على تأسيس دار الحديث في مكة شرفها الله إلى أن يكون رئيسا فيها فأبى, و دعاه غيرهم من أصحاب المدارس فأبى, و كان لا يعيش إلا مما يكتسبه من العلاج لأنه كان طبيبا حاذقا, و كان لا يشتغل بالطب إلا من بعد صلاة العصر إلى المغرب.(1/191)
…و ذكر مناقبه يفضي إلى التطويل الذي يجعل طبع الكتاب صعبا, و لكن لا بد أن أذكر مكرمة له لا أستطيع تركها و ذلك أنه حتم علي في تلك المدة أن لا آكل إلا عنده, و لما عزمت على السفر قال لي: لا تسافر فس السكة الحديدية إلى مدينة أعظم كرفان ذلك يشق عليك فهنا اثنان من أصحابنا يسافران على عربة تجرها الخيل في وسط الليل, فأردت أن أودعه فقال لي: لا بد أن أخرج لوداعك و أصر على ذلك فقام في نصف الليل و ذهب معي إلى المكان الذي فيه العربة, فوضع في كفي قرطاسا و ضم يدي عليه و قال لي: أستودع الله دينك و أمانتك و خواتيم عملك, زودك الله التقوى و يسر لك الخير حينما توجهت, و ظننت أن القرطاس ورقة مالية فوضعتها في يدي و ضممتها و قلت له: لست في حاجة فأخذ بيدي إلى أن بعدنا عن الرجلين و بكى بكاء شديدا و هو يقول: اقبل مني اقبل مني فاقشعر جلدي و ندمت على ما فعلت و قبلت تلك الورقة و تأثرت بما رأيته من بكاءه حتى أني حين طلع الفجر صليت الصبح إماما بالرفيقين فبكيت كثيرا في أثناء القراءة فالله يرحمه رحمة واسعة. و هذه القصيدة التائية في صفة رحلتي من المغرب إلى الهند:
……خليلي عوجا بي إلى كل ندوة……بها قول خير الرسل يروى بقوة
……و لا تقربا بي مجلس الرأي إنه……ضلال يحط لتابعيه بهوة
……على مجمع فيه كتاب غلهنا……يفسر تفسيرا بعلم و حكمة
……لدى ثلة قد نور الله قلبهم……و خصهم بالهدى أفضل نعمة
……فصانوا كتاب الله جل جلاله……عن اللغو و التحريف أسوأ بدعة
……و ردوا افتراء الخلف من ضل سعيهم……و قد فرقوا في شؤمهم خير شرعة
……و أصلوهم حرب الفرنج بهمة……كسيف صقيل في مضاء و لمعة
……إليهم أجوب البر و البحر آويا……لأنظر من فازوا بنور و نضرة
……و أقبس من أنوارهم علم سنة……و ذلك قصدي في اغترابي و هجرتي
……و أبعد عن أهل البدائع و الخنا……و أدرك روحا من عنائي و غربتي
……و ليس مرادي غربة البعد و النوى……و لكنها في الدين أعظم كربة(1/192)
……و لما ابان الله لي نور دينه……و أنقذني من طرق أصحاب خرقة
……أولئك قوم بدلوا الدين بالردى……و قد مرقوا من هديه شر مرقة
……و أبغضني الأقوام حين نبذتهم……و ملت إلى قفو الكتاب و سنة
……و قد قلبوا ظهر المجن و خشنت……صدورهم لي و استعدوا لمحنتي
……و قد زعموا هجري و شتمي قربة……و كل جليس لي سيردى بسرعة
……و قد جزموا أني أموت على الردى……و أخلد في النيران من أجل رجعتي
……أماني حمق تضحك الثاكل التي……بواحدها سارت ركاب المنية
……نبذتهم نبذ النوى و ترتهم……و هاجرت كي أحضى بسؤلي و منيتي
……و ما لي ولي أو رفيق مصاحب……و لا ناصر إلا إله البرية
……عليه اعتمادي لا على أحد سواه……فهو قدير أن يجود ببغيتي
……و ما أطلب المال الذي هو زائل……سوى بلغة لا بد منها لخلتي
……سفرت إلى مصر لأخبر خبرها……و أنر هل فيها شفاء لغلتي
……و من قبل قد أخبرت أن في ربوعها……رجالا لنصر الدين أصحاب شدة
……و صلت فلم ألف سوى أهل بدعة……و شرك و إلحاد و شك و ردة
……سمعت بها الإلحاد يدرس جهرة……قبورا عظاما ناخرات أجنة
……و يدعون دون الله من لا يجيبهم……و هم عن دعاء القوم في عظم غفلة
……لها جعلوا قسما بمال والدة……فلا عاش من قد ظنهم أنهم أهل ملة
……حشا ثلة مستضعفين رأيتهم……تسومهم الأعداء سوء الأدية
……و هم صبر مستمسكون بدينهم……و يدعون ما اسطاعوا لبيض نقية
……و ما صدهم إيذاؤهم عن جهادهم ……لأنهم أهل النفوس الأبية
……أقمت بها عاما إلى الله داعيا……فأرشد رب الناس قوما بدعوتي
……يعدون بالآلاف بالريرمون كلهم……أهل إخلاص و أهل فتوة
……و من بعد ذا سافرت للحج راجيا……قبولا من الله الكريم لحجتي
……فأتممته و الحمد لله سائلا……من الله يهديني سواء المحجة
……و كنا سمعنا أن بالهند فرقة……على السنة الغراء بصدق و حجة
……فقلت عسى منشودتي عندهم ترى……و هزتني الأشواق أية هزة
……بلغت فألفية المخبر صادقا……و شاهدت سنات تجلت بعزة
……قد اخترت دهلي للإقامة إنها ……بلاد علوم الدين فيها تسنة(1/193)
……و قد شفيت نفسي و زال سقامها……غداة رأت عيني مساجد سنة
……فلا تسمعن فيها سوى قال ربنا……و قال رسول الله خير البرية
……لقد مثلوا خير القرون لناظر……بقول و فعل و اجتهاد و نية
……إمامهم خير الأئمة كلهم……عليه من الرحمن أزكى تحية.
السيد سليمان الندوي
…السيد سليمان من أكابر علماء الهند و رؤسائهم في ذلك الزمان و كان يدبر شؤون مؤسستين عظيمتين: إحداهما دار المصنفين التي أسسها هو بنفسه و اختار نخبة من ذوي الكفاءة و المقدرة على تصنيف الكتب و طبعها و من أهمها التاريخ الذي بدأ تأليفه أستاذه الشيخ شبلي النعماني و استمر هو في تكميله و هو من أحسن كتب التاريخ حسبما شهر بذلك عند علماء الهند و أنا لم أقرأه لأنه بلغة أردو و معرفتي بها ضعيفة.
…و المؤسسة الثانية كلية ندوة العلماء التي تخرج فيها هو وغيره من الأدباء و العلماء و قد أسسها قبل ذلك بزمان طويل ثلاثون رجلا من كبار علماء الهند و وضعوا لها مناهج الدراسة ليتخرج فيها رجال قادرون على الدعوة إلى دين الحق الإسلام, و لا تزال هذه المؤسسة سائرة في طريقها إلى الآن و علماؤها حنفيون كأكثر علماء الهند, و كان ساعد السيد سليمان الأيمن في تدبير شؤونها الدكتور عبد العلي رحمة الله عليه و الذي يتولى تدبير شؤونها في الوقت الحاضر هو تلميذي الأستاذ أبو الحسن علي الندوي أخو الدكتور عبد العلي و هو مشهور في البلاد العربية بتآليفه و خطبه التي ألقاها في أمهات البلدان العربية.
…أقمت عند السيد سليمان الندوي أياما كنت ضيفه فيها و أكرمني غاية الإكرام, ثم توجهت إلى(بهريا) للقاء العالم الأديب الشاعر البليغ الشيخ عبد الحميد الفراهي و كانت له مدرسة كبيرة يعلن فيها علوم الإسلام و اللغة العربية ففرح بي و أكرمني و التمس مني أن أكون مدرسا في مدرسته و عرض علي راتبا طيبا مع السكنى و المعيشة, فاعتذرت له بأني و عدت الشيخ عبد المجيد الحريري في بنارس أن أقيم عنده.(1/194)
…ثم سافرت إلى كلكتا و هي قاعدة بلا بنكال و لقيت بها نابغة الهند في العلم و الأدب و السياسة أبا الكلام آزاد, فرحب بي و بقيت في ضيافته بإلحاح منه خمسة عشر يوما و كان له كاتب إسمه عبد الرزاق المليح آبادي هو الذي يحرر صحيفة عربية كان ينشرها أبو الكلام, فالتمس مني أبو الكلام أن أنشر فيها ما تيسر من المقالات فنشرت فيها ثلاث مقالات في أخبار البربر و أحوالهم و لغتهم, و كان أبو الكلام لا يفرق بين البربر الذين هم أمة عظيمة في المغرب تمتد الأراضي التي يسكنونها من حدود مصر شرقا إلى حدود سنغال غربا, و تشتمل على ليبيا و تونس و الجزائر و المغرب و موريتانيا كما تسمى هذه البلدان في هذا الزمان, لا يفرق بين هذه الأمة و بين سكان(بربرة) في السودان فأخبرته بالفروق الكثيرة التي بين الفريقين و اهتم بذلك كثيرا. فإن قيل: إن الناس في المشرق العربي يعتقدون أن هذه البلدان عربية فكيف جعلتها بربرية؟ فالجواب: إن سكان هذه البلدان الأصليين هم البربر, و قد نزح إليها العرب في أول الفتح الإسلامي و في القرن السادس الهجري كما في مقدمة ابن خلدون عند ذكر بني هلال و بني عامر و هؤلاء العرب النازحون عددهم قليل جدا بالنسبة إلى السكان الأصليين و لكن الإسلام وحد بينهم و جعلهم أمة واحدة لا فضل لأحد الفريقين على غيره إلا بتقوى الله, و بطول الزمان انتشرت اللغة العربية في هذه البلدان فسارت أكثر الحواضر تتكلم بها و على هذا يصح أن نسميهم عربا مستعربة و لكن إلى هذه الساعة لا يزال نحو نصف سكان هذه البلدان يتكلمون بالبربرية, و الخطب في ذلك سهل فإن البربر من الشعوب التي خرجت من جزيرة العرب قبل زمان سحيق في القدم, و نحن معشر طلبة علم اللغات لا نشك في ذلك كما أن الواحد نصف الإثنين و لذكر الأدلة عل ذلك مقام آخر و كان عبد الرزاق المليح آبادي زنديقا و كان يعظم جمال الدين الأفغاني و يزعم أنه كان ملحدا و لا يعظم رفيقه محمد عبده و لا(1/195)
صاحبه السيد رشيد رضا, لأنهما بزعمه لم يفهما فلسفته لأنها أعلى من مستواهما و قد جادلته في ذلك و كثير من الناس في هذا الزمان يرون هذا الرأي و لكن أقرب الناس إليه محمد عبده و رشيد رضا يشهدان بأنه مؤمن و كتبه التي ألفها و خصوصا رسالته في الرد على الدهرية لا تبقي شكا في أنه كان من المؤمنين.
…و من أعجب ما سمعته من عبد الرزاق المليح آبادي أننا كنا نتجادل في تارك الصلاة أهو مسلم أم كافر و استعرضنا أدلة العلماء و خلافهم في ذلك, فقال لي: عندي دليل قاطع لا يعرفه العلماء الذين ذكرت على أن تارك الصلاة مؤمن فقلت: و ما هو؟ قال لي: هو أنا, لأنني لا أصلي و مع ذلك فإنني أشك في أنني مسلم. ثم رجعت إلى بنارس و أقمت عند الشيخ عبد المجيد الحريري ضيفا مكرما و أستاذا محترما مدة ثلاثة أشهر, ثم سافرت إلى (عظيم أباد) و لقيت الشيخ إدريس بن شمس الحق فأطلعني على خزانة كتب والده و أكرمني و زرت خزانة كتب (خدا بخش) بتلك المدينة فرأيت في الخزانتين كتبا نفيسة منها كتاب الاستذكار شرح الموطأ لابن عبد البر و منها كتاب الأحكام الكبرى لعبد الحق الإشبيلي.
…ثم سافرت إلى لكناو و نزلت عند الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري و اليمني ففرح بي و أكرمني و أخبرته بأني أريد لقاء والده الشيخ محمد حسين في بهوبال فكتب إلى والده بذلك فأجابه أنه يستحسن أن أنزل في ضيافة ملكة بهوبال, و قصد بذلك إكرمي, فقال لي الشيخ خليل: ابعث برقية إلى الكولونيل عبد القيوم أمير الضيافة فبعثتها إليه, و ركبت القطار في الدرجة الثالثة التي كنت دائما أسافر فيها لأن أجرة الركوب فيها رخيصة و لو ركبت الدرجة الثانية لما أمكنني أن أرى إلا قليلا من البلدان و أنا شاب لا يهمني تحمل المشقة.(1/196)
…فلما وصل القطار إلى محطة بهوبال كانت سيارة ملكية تنتظرني أمام عربات الدرجة الثانية فلم يجدني فيها الكولونيل عبد القيوم فبحث عني فوجدني من ركاب الدرجة الثالثة فرحب بي و ركبت السيارة الملكية, و وصلت إلى دار الضيافة و وجدت أثاثها في غاية الفخامة و الزينة, ثم توجهت إلى شيخنا محمد بن حسين بن محسن في بيته ففرح بي كثيرا و بدأت أذاكره في علم الحديث, و كنت ألازمه في كل وقت إلا في أوقات الطعام فإني كنت أذهب إلى دار الضيافة و أقمت على ذلك خمسة أيام و عينة الملكة يوما لزيارتها, و قبل ذلك اليوم بيوم واحد جاءني الكولونيل عبد القيوم قال لي: إن الملكة تسلم عليك و تعتذر عما وعدت به من اللقاء, و قد أمرتني أن أنقلك من دار الضيافة إلى بيتي و أكون في خدمتك مدة إقامتك في بهوبال.
…فقلت له: أمهلني حتى أخبر بهذا شيخنا محمد بن حسين فركبت معه السيارة فوجدته قد عرف الخبر و قال لي: إني حين طلبت من الملكة أن تكون ضيفها لم أفعل ذلك بخلا و لاعجزا, و إنما أردت إكرامك, و إكرام العلم الذي أنت طالبه و لكن أعداؤنا من متعصبة الحنفية ذهبوا إلى الملكة و قالوا لها:إن هذا الرجل العربي الذي في ضيافتك ليس من سكان جزيرة العرب بل هو مغربي, و من الشروط التي شرطها عليك الانكليز أن لا تجتمعي بأي شخص ينتمي إلى دولة أجنبية و لا يخفى عليك أن المغرب تابع للدولة الفرنسية ففي لقائه خطر عليك, و قال الشيخ للكولونيل عبد القيوم: جزاك الله خيرا على استعدادك لضيافة محمد تقي الدين الهلالي و جزى الله الملكة خيرا على قصدها الحسن و إكرامها لأهل العلم و جزا الله الوشاة شرا فهذا الرجل محمد تقي الدين الهلالي طالب علم لاعلاقة له بأي دولة إلا أن بلده المغرب تسلطت عليه دولة أجنبية ففرضت عليه حمايتها كما فرضت بريطانيا حمايتها على بهوبال.(1/197)
…و بقيت عنده خمسة عشر يوما, ثم سافرت قافلا إلى لكناو فزرت خزانة كتب الشيخ عبد الحي اللكناوي العلم الحنفي المشهور ذو التآليف الكثيرة في الحديث و الفقه باللغة العربية, فوجدت فيها كنزين ثمينين أحدهما خمسة أسفار من مصنف بن أبي شيبة و أول ما وقع بصري فيه عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا, و الكنز الثاني هو كتاب التقاسيم المعروف بصحيح بن حبان, و كلا الكتابين لم يطبع إلى الآن فيما علمت و من لكناو سافرت إلى دهلي ثم إلى بومباي بقصد الرجوع إلى المغرب مارا بالعراق فالشام فمصر, و وصلت إلى مدينة بومباي فنزلت عند العالم الصالح الشيخ شرف الدين الكتبي رحمة الله عليه, و أقمت في بومباي شهرين دخلت في أثنائها المستشفى و أجري لي عمل جراحي غير ناجح في عيني اليسرى و كان الشيخ شرف الدين رحمه الله في تلك المدة يغمرني ببره و إحسانه.
لقاء الشيخ مصطفى آل إبراهيم(1/198)
…بينما أنا جالس في مكتب الشيخ شرف الدين رحمه الله إذا بشاب أقبل في سيارة فخمة و كانت السيارة في ذلك الزمان قليلة و دخل المكتب و عليه بزة فاخرة من الثياب و روائح العطرتفوح منه و هو شاب في الثانية و العشرين من عمره فقام له الحاضرون كلهم و عظموه و تنافسوا في التقرب إليه و إطلاعه على ما طبع جديثا من الكتب, أما أنا فبقيت جالسا على كرسي أطالع في كتاب و لم أعبأ بمجيئه فلما جلس و اطلع على ما وجد من الكتب سأل الشيخ شرف الدين و كان يعلمه الأدب العربي عن قوله تعالى:{و امرأته حمالة الحطب} على أي شيء نصبت {حمالة} مع أن الظاهر يقتضي أن تكون مرفوعة لأنها صفة لامرأته, فقال الشيخ شرف الدين: أنا لا أجيبك بحضور الشيخ محمد تقي الدين الهلالي لأنه أعلم مني بالجواب فحينئ سلم علي الشيخ مصطفى و سألني عن حالي و بلدي فأخبرته أني من المغرب فقال لي: ما تقول في جواب السؤال الذي سمعت؟ فقلت له: هذه الكلمة ترفع و تنصب و رفعها و نصبها قراءتان سبعيتان, أما الرفع فواضح و أما النصب فبفعل محذوف و جوبا تقديره أذم, فطلب تفسير البيضاوي فوجد الأمر كما ذكرت له فأعجبه ذلك و استمر يسألني عن مسائل مختلفة مدة ساعة ثم قال للشيخ شرف الدين: أتريد أن تركب معي لأوصلك إلى بيتك؟ قال: نعم. و في صباح الغد قال لي الشيخ شرف الدين: إن ذلك الشاب الذي كان هنا أمس سألني عنك فأخبرته أنك تريد السفر إلى العراق ثم إلى الشام ثم إلى مصر و لكن السفارة الإنكليزية رفضت إعطاءك سمة الدخول إلى العراق, لأن بريطانيا كانت في ذلك الوقت في نزاع مع الحكومة التركية على لواء الموصل فكانت لا تأذن لأحد في زيارة العراق إلا إذا كان معروفا عندها بولائه لها فقال له الشيخ مصطفى: قل له أنا أستطيع أن آخذه إلى العراق بدون جواز فإن شاء أن يقيم عندنا بالبصرة لنستفيد من علمه فذلك ما نبغي, و إن أراد السفر إلى الشام أو مصر سهلت له طريقه إلى أن يصل إلى مقصوده, فقلت(1/199)
للشيخ شرف الدين: أنا موافق كل الموافقة.
…و بعد ذلك ببضعة أيام كنت سائرا في أحد شوارع بومباي يرافقني عبد الله بن قاضي شقراء و هي بلدة مشهورة في نجد, فمر بنا الشيخ مصطفى آل إبراهيم في سيارته فوقف و نزل من السيارة و أقبل علي و صافحني و سأل عن الحال ببشاشة و قال لي: هل أخبرك الشيخ شرف الدين بما اقترحت عليك؟ فقلت: نعم و أنا موافق على ذلك فعين لي يوم السفر و قال لي في صباح اليوم الفلاني أجدك في مكتب الشيخ شرف الدين ثم رجع إلى سيارته و ركبها, فقال لي عبد الله: يا عجبا كيف عظم الشيخ مصطفى آل إبراهيم كل هذا التعظيم و عندنا هنا الشيخ عبد الرحمن القصيبي و هو مثله في الغنى و الجاه لو رأى و هو في سيارة عالما من علماء نجد ثم دعاه ليكلمه و هو جالس في سيارته لأقبل ذلك العالم يسعى إليه فرحا مسرورا؟ فحكيت له قصة لقائي للشيخ مصطفى و أنني حين جاء لم أقم له و لم أهتم به فلذلك عظمني, و قلت له إن من عادتي أن لا أعظم غنيا إلا إذا كنت أستفيد من غناه بخلاف ما عليه أكثر الناس الذين يعظمون الأغنياء و إن كانوا يعلمون أنهم لا ينفعونهم بشيء كما قال ابن دريد في المقصورة:
……عبيد ذي المال إن لم يطمعوا……من ماله في شربة تروي الصدى
…و قال غيره:
……إن الغني إذا تكلم بالخطأ……قالوا أصبت و صدقوا ما قالا
……و إذا الفقير أصاب قالوا كلهم……أخطأت يا هذا و قلت ضلالا
……إن الدراهم في الأماكن كلها……تكسوا الرجال مهابة و جمالا
……فهي اللسان لمن أراد فصاحة……و هي السلاح لمن أراد قتالا
…و قال غيره:
……يمشي الفقير و كل شيء ضده……و الناس تغلق دونه أبوابها
……و تراه ممقوتا و ليس بمذنب……يرى العداوة لا يرى أسبابها
……حتى الكلاب إذا رأت ذا غنية……أصغت إليه و حركت أذنابها
……و إذا رأت يوما فقيرا ماشيا ……نبحت عليه و كشرت أنيابها
…و أقوال الشعراء في هذا المعنى كثيرة أكتفي بهذا القدر.
السفر إلى العراق في الباخرة(1/200)
…لما حان و قت السفر جاءني الشيخ مصطفى فتوجهنا إلى المرسى لنركب الباخرة إلى البصرة فقال لي: إن عندي سبعة من الخدام و قد بعثت أحدهم مع السفن الشراعية التي لا يحتاج راكبها إلى جواز, فإذ صعدت سلم الباخرة و سألك الإنكلزي ما اسمك فقل: اسمي حسن الحنيان فقلت له: عفوا أنا لا أكذب, فضحك كثيرا و قال لي: أنت عربي تريد السفر على بلد عربي و قد منعك الإنكليز من حقك فأي حرج عليك إذا كذبت عليهم لتتوصل إلى حقك؟ فقلت له: لم ينشرح صدري لذلك فقال لي: هل تستطيع أن تسكت إذا سألك الإنكليزي؟ فقلت: نعم, فقال: إذا سألك الإنكليزي فاسكت و أنا أجيب عنك, فلما صعدنا السلم تقدم هو و أنا خلفه فسألني الإنكليزي: إيش اسمك؟ فسكت فقال الشيخ مصطفى: اسمه حسن الحنيان فدخلت الباخرة, و في مساء ذلك اليوم قال لي: هل قلت شعرا؟ فقلت: نعم, فقال لي: هل تستطيع أن تشطر هذه القصيدة و هي لشوقي مطلعها:
……خدعوها بقولهم حسناء……و الغواني يغرهن الثناء
…فأعطاني القصيدة مكتوبة فانصرفت إلى منزلي و شطرتها في تلك الليلة و سأدرجها مع التشطير هنا لأني أشعر أن بعض قراء هذا الكتاب إن لم نقل كلهم, يحبون الاطلاع عليها, و الشطور المزيدة بين قوسين و نصها:
……خدعوها بقولهم حسناء……(و امتداح الكواعب استهاء)
……(فرنت للوصال بعد نفور)……و الغواني يغرهن الثناء
……ما ترها تناست اسمي لما……( أن تفانت في حبها العظماء )
……(و التناسي شأن الخريدة إذ ما)……كثرت في غرامها الأسماء
……أن رأتني تصد عني كأن لم……(يلف لي في فؤادها استيلاء)
……(لا شفاني وصالها إن لم)……يكن بيني و بينها أشياء
……نظرة فابتسامة فسلام……(لفؤادي العليل هو الشفاء)
……( ثم رد فبث شكوى بعاد)……فكلام فموعد فلقاء
……يوم كنا و لا تسل كيف كنا……(لا وشاة تخشى و لا رقباء)
……(فخلعنا العذارا ثم جعلنا)……نتهادى من الهوى ما نشاء
……و علينا من العفاف رقيب……(أن تدنس و صلنا فحشاء)(1/201)
……(يقظ ليس يعتريه منام)……تعبت في مراسه الأهواء
……جاذبتني ثوب العصا و قالت……(و على وجهها بدا استحياء)
……(لكم ذلت الصعاب جميعا)……أنتم الناس أيها الشعراء
……فاتقوا الله في خداع العذارى……(فلك في اصطيادهن دهاء)
……(لا تصيدوا الأبكار بالشعر ختلا)……فالعذارى قلوبهن هواء.
…فإن هذا البيت تضمن أمورا ستة لا يمكن الفصل بينها لأن بعضها في الواقع مترتب على بعض. و لم أكن أفهم ذلك حتى سافرت إلى أوروبا و أقمت فيها مدة فرأيت ذلك واقعا كل يوم في المنتزهات و المطاعم و المقاهي و الشوارع و المركبات العامة و قطر سكك الحديد لأن العفاف عندهم معدوم, فأول ما يتقبل رجل و امرأة فيحدق بعضهما في بعض, إن كانت المرأة لا رغبة لها في الرجل تصرف بصرها و إن كانت لها فيه رغبة تبتسم له فيتجرأ هو حينئذ على أن يحييها فترد عليه, فيبدأ الكلام حتى ينتهي إلى الموعد بإعطاء كل واحد منهما رقم تلفون صاحبه فيعقب ذلك اللقاء, و لا يكون اللقاء كما قال شوقي في قصيدته لأن المتحابين هناك لا رقيب عليهم من عفاف و لا من غيره, و من المعلوم أن شوقي درس في فرنسا و شاهد ذلك بعينه فعبر عنه بذلك البيت. و من المزايا التي يختص بها شعر شوقي أنه جمع بين الأفكار الأوربية و الأفكار العربية و نسق هذه الأفكار كلها و وحدها حتى امتزجت إلى حد أنه لا يستطيع التمييز بينها إلا من خالط العالم العربي و الأوروبي, هذا مع المحافظة التامة على الأسلوب العربي البليغ الذي لا تشوبه شائبة من ركاكة المقتبسات الأعجمية و إذا قارنت بين شعر أحمد شوقي و بين شعر معروف الرصافي و هو لا يقل عن شوقي في بلاغة شعره تجد الفرق بينهما واضحا فإن شعر الرصافي ليس فيه إلا أفكار عربية شرقية بخلاف شعر معاصره أحمد شوقي.
الوصول إلى الدورة(1/202)
…لما وصلت الباخرة في النهر المسمى شط العرب و هو مؤلف دجلى و الفرات إلى مكان بإزاء ممتلكات الشيخ مصطفى آل إبراهيم و هي كثيرة ممتدة على الجانب الأيمن من شط العرب أميالا كثيرة طلب من ربان الباخرة أن يوقف له الباخرة لينزل هو و أصحابه و يركب قاربا يوصله إلى قصره في الدورة فقبل الربان الإنكليزي احتراما له لأنه كان يعامل معاملة الأمراء لأنه كان من كبار الملاكين, فنزلنا في قوارب و سارت بنا إلى الدورة فلما وصلت القوارب إلى فرع شط العرب الذي يوصل إلى الدورة و جدنا أهل القرية كلهم في استقبال الشيخ مصطفى.
…و كان الطريق ضيقا بين البساتين و النهر فقدمني أمامه فأردت أن الامتناع فأشار إلي إشارة فقبلت و سار هو خلفي و أهل القرية كلهم خلفه و تعجبت من ذلك كثيرا لأني شاهدت هذا المنظر لأول مرة فإن العادة عندنا في المغرب قلما تجري بذلك, فلما وصلنا إلى القرية قدمني أيضا في التوجه إلى المقصورة التي وضعت فيها الأطعمة فلما صلينا العصر سألته عن ذلك فقال لي: أنا لا أبقى هنا دائما فإني تارة أكون هنا و تارة أسافر إلى بومباي لأكون نعد عمي قاسمي آل إبراهيم و هو من تجار الؤلؤ المشهورين, و إنما قدمتك ليرى ذلك أهل القرية فيعظموك في غيبتي و حضوري و يعلموا أنك أستاذي فشكرته على ذلك و عرض علي الإقامة عنده فقبلت و جعل لي راتبا طيبا مع السكنى و المعيشة على أحسن وجه.(1/203)
…و أخذت ألقي دروسا في علن الأدب عليه و على جماعة من الطلبة و أعلم الشبابا في مدرسة أنشأها و ألقي دروس وعظ في المسجد و لما توجهنا إلى المسجد للصلاة قال للإمام و المؤذن: كل ما أمركما به الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي فامتثلاه, فمنعتهم من جميع البدع و أمرت الناس باتباع السنة و منها إلصاق القدم بالقدم عند القيام للصلاة, فامتثل الناس الأمر إلا رجلا شيخا من أقاربه كان فيما مضى و كيلا لوالده الشيخ يوسف آل إبراهيم على تلك القرية يدبر أمر الحواصل من الغلات فيعطي الفلاحين حقوقهم و الباقي يكون بيده يأخذ منه نفقة السركار(و هي كلمة هندية, معناها رأس العمل), و المقصود بها هنا النفقات العامة لمن في القصر من العيال و الخدم و الضيوف و ما فضل عن ذلك يبقى بيده. فهذا الرجل لم يقبل ما أمرتهم به من اتباع السنة و بدأ يحاربني, فمن ذلك أنني أمرتهم بأن يجعل المؤذن بين أذانه و إقامته وقتا كافيا لمجيء المصلين و استعدادهم للصلاة و كانت العادة جارية عندهم بأن المؤذن إذا نزل من أذان المغرب يقيم الصلاة في الحين, فلما رأى ذلك الشيخ المؤذن أذن لصلاة المغرب و جلس ينتظر أن آمره بالإقامة ـ لأني إذا حضرت كنت أتقدم للصلاة بهم ـ غضب غضبا شديدا و قال لي: يا شيخ المغرب غريب وقته ضيق, فقلت له: ليس الأمر كما توهمت و الوقت هو واسع.(1/204)
…و في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الظهر و العصر في أول وقت العصر ثماني ركعات جمع تأخير, هذا معنى الحديث فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته, على أننا نحن لا نؤخر الصلاة إلا بضع دقائق, و أخرج الترمذي و الحاكم عن جابر و له شواهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لبلال:(إذا أذنت فترسل و إذا أقمت فاحدر و اجعل بين أذانك و إقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله) و هذا الحديث و إن كانت طرقه ضعيفة فإنها بتعددها تنهض حجة. قال شارح بلوغ المرام:[و يقويها المعنى الذي شرع له الأذان فإنه نداء لغير الحاضرين ليحضروا الصلاة فلا بد من تقدير وقت يتسع للتأهب للصلاة], فقال لي: لا حول و لا قوة إلا بالله (و هو يتكلم بلغة عانة أهل الكويت يبدلون القاف غينا) هذه صلاة سعودية لا فرض و لا نية إلا الخوف من الخيزرانية, فقلت له: بل هي صلاة محمدية ذات قصد و نية و المتبعون للرسول صلى الله عليه و سلم لا يحتاجون إلى خيزرانية و غيرهم لا نبالي بهم. فقال لي: يا غريب كن أديب فقلت له: أنا لست غريبا لأنني عربي في بلاد العرب و إن كان أسلافي قد نزحوا إلى المغرب فإن حقي لا يزال ثابتا في بلادي الأصلية فقال لي: روح إلى المغاربة و اهدهم, فقلت له: هذه دعوى جاهلية فإن الله تعالى لم يقل ذلك بل قال لنبيه صلى الله عليه و سلم:{قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني} يوسف:108.(1/205)
…و لما أمرتهم بإلصاق القدم بالقدم كما في حديث أنس (كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمرنا بتسوية الصفوف فكان أحدنا يلزق قدمه بقدم من يليه و يحاذيه بركبتيه و منكبيه و لو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس) فكان الناس يمتثلون و يلصقون القدم بالقدم. و كان ذلك الشيخ إذا أراد أحد أن يلصق قدمه بقدمه رفسه بقدمه و سبه, و قال لي مرة: إن النبي صلى الله عليه و سلم لا يمكن أن يأمر بهذا لأن الرجل إذا ألصق قدميه بقدم من يليه يفحش و يدش الشيطان في دبره فقلت له هذا خيال باطل فكيف ترد به سنة النبي صلى الله عليه و سلم؟! و قوله: يفحش يعني يتسع ما بين قدميه, و يدش بمعنى يدخل, و قلت له:إن الشيطان{ ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه و الذين هم به مشركون} كما قال الله تعالى في سورة النحل الآيتان:99,100, و كنت أصلي بهم الجمعة فأزلت البدع التي كانوا يعملونها في يوم الجمعة فغضب الشيخ غضبا شديدا و قال: هذا تبديل للدين, من يوم خلقنا الله لم نزل نرى العلماء ما رأينا أحدا منهم أنكر هذه الأمور فقلت له: إن العلماء يخطئون و يصيبون و يمنعهم الجبن في بعض الأحيان و الضعف و العجز أحيانا أخرىمن إنكار البدع, و لما جاءت صلاة العصر و ذهبت أتقدم للصلاة إماما أخذ بطرف عباءتي و قال لي: (ما حد يبيك) معناه لا يريد أحد أن تصلي إماما فوضع الشيخ مصطفى يده برفق على يد الشيخ و قال له: يا سيدي الوالد أرجوك أن تتركه يصلي فقال: كذا يامصطفى تفضل المغربي على وابدك أو قال على أبيك فقال الشيخ مصطفى: لا يا سيدي أنا ما فضلته و لكن الله فضله لأنه عالم و نحن جهال فقال الشيخ:(زين على شان خاطرك أخليه يصلي) معناه سأتركه يصلي إرضاءا لك.(1/206)
…و لم يكن عند أولئك القوم شرك ظاهر أعني أهل السنة منهم ـ و هم قليل ـ و أكثر سكان القرية من الشيعة, و لكن كان فيهم جمود على التقليد و التعصب للمذهب مع جهلهم فالمتعصبون للمالكية غضبوا بسبب تركي للقنوت في صلاة الصبح, و المؤذن كان شافعيا فلما رآني قررت في الدرس أن بول ما يؤكل لحمه طاهر غضب و قال في غيبتب: إذا كان بول البقرة عنده طاهر فليشربه, فقلت له في أثناء الدرس: يا ملا أحمد, و الملا كلمة فارسية يوصف بها أهل العلم كالفقيه عند العرب و الشيخ, فقلت له: ما حكم المخاط في مذهبك أهو طاهر أم نجس؟ فقال: طاهر. ثم قلت له: ما حكم الأوساخ طاهرة أم نجسة؟ قال: طاهرة فقلت له: فاشرب المخاط و كل الأوساخ فقال لي: يا شيخ لا يليق بمثلك أن يخاطب أحدا بمثل هذا الكلام, فقلت له: أنت بدأت بما هو أقبح من هذا و البادئ أظلم{و جزاء سيئة سيئة مثلها} الشورى:الآية:40 و أنا تكلمت بالعلم و أنت تكلمت بالجهل, و ذكرت الأدلة على طهارة ما يؤكل لحمه.
مناظرة بين المؤلف و بين مجتهد الشيعة في المحمرة
…لما اسقررت في الدورة أردت أن أجتمع مع بعض علماء الشيعة بعدما قرأت شيئا من كتبهم و وجدت فيها عجائب و غرائب فاتفقت مع أحد الفلاحين و هو الحاج غلا حسين, و معنى غلام حسين أي عبد الحسين و الشيعة يسمون عبد علي و كلب علي و عبد الزهراء و عبد الأمير و أمثال ذلك من الأسماء الشركية.
…و من أغرب ما وقع لي في ذلك أنني سافرت من جدة إلى بومباي ـ كما تقدم ـ و رأيت الحجاج يقتتلون على الماء فاستأجرت شابا فارسيا يأتيني بالماء من مستقي الباخرة منت جدة إلى بومباي بربيتين أي درهمين هنديين, اسم ذلك الشاب عبد علي فكنت أتجاهل اسمه و أناديه يا عبد العلي فيغضب و يقول: (عبد العلي نا) و نا بالفارسية هي حرف النفي ترادف لا بالعربية ثم يكرر عبد علي عبد علي, فإذا نسبته إلى الله العلي يغضب و يريد أن ينسب إلى العبد و هو علي!(1/207)
…سافر معي غلام حسين إلى المحمرة و هي على الجانب الشرقي من شط العرب, و قد انتزعتها الدولة الفارسية التي تسمى في هذا الزمان إيران من الأمير الشيخ خزعل الذي كان يحكم تلك الناحية و سكانها عرب من بني تميم و ألحقتها بمملكتها فقلت لغلام حسين: اختر لي عالما من علماءكم أزوره لا يكون متعصبا فقال لي: أفضل علماءنا في هذا البلد هو الشيخ عبد المحسن الكاظمي فقصدناه في الحسينية, و الحسينية مبنى لشيعة يجتمعون فيه لقراءة قصة مقتل الحسين رضي الله عنه و قصة حرب علي مع عائشة و طلحة و الزبير في وقعة الجمل, و كان ذلك اليوم يوم جمعة و هذا الشيخ من الإثنا عشرية الأخباريين فإن الإثنا عشرية فرقتان فرقة أخبارية و فرقة أصولية, فالأخبارية يعتمدون على ما روي من الأخبار و إن كان مخالفا للقياس و الأصول, و الأخباريون يصلون الجمعة و الجماعة خلاف الأصوليين فإنهم لا يصلون جمعة و لا جماعة, فلما دخلت على الشيخ عبد المحسن قام لي و صافحني و أجلسني بقربه و كان الحاضرون كثيرا يقدر عددهم بثلاث مائة فقال أحدهم للروضخون ـ و هم ينطقون بالضاد زايا ـ و الروضخون هو الذي يقرأ لهم قصة الحسين و قصة عائشة مع علي, قال له: عجل بقراءة القصتين نريد أن نسمع كلام العالمين لأنهم من عادتهم أن يقرأوا القصتين في ضحى يوم الجمعة و حثه على أن لا يطول و سيتبين لك مقصوده بذلك فصعد الروضخون المنبر و بدأ يقرأ في قصة الحسين فلما بلغ مقتله و ما صنع به أعداءه و ضعوا طياليسهم على وجوههم و أخذوا يبكون و يتباكون رافعين أصواتهم: وا حسيناه و أبا عبد الله. و الظاهر أن بكاءهم كان كاذبا و إنما هو تصنع لأن هذه القصة يسمعونها في كل أسبوع مرارا فقلما تؤثر فيهم و لما فرغ من قصة الحسين شرع في قصة عائشة و ذكر أنها بعثت رسولها إلى البصرة إلى علي و قالت له: إنه سيعرض عليك طعامه و شرابه فإياك أن تأكل من طعامه أو تشرب من شرابه فإن فيه السم فلما سمع ذلك الحاضرون(1/208)
قالوا بصوة عال و نغمة تدل على الحقد(لا يا ملعونة) و أخذوا يكررونها في كل فقرة يسمعونها, فاستعجل بعض الحاضرين الروضخون و قال له: اختتم نريد أن نسمع كلام العالمين فغضب الروضخون و قال: قد اختصرت القصتين و ما ذكرت إلا ربعهما.
…و لما فرغ القاص أخذت أتحدث مع الشيخ بالحديث التالي حسبما بقي في ذاكرتي فقد مر على هذه القصة زهاء 48 سنة فإنها كانت سنة 1343هـ سألت الشيخ: ما أهم كتب الحديث عندكم؟ فذكر لي أربعة كتب لا أذكر الآن منها إلا كتاب الكليني و أثنى عليه و قال: كل أحاديثه صحيحة فهو عندنا بمنزلة... ثم سكت و أخذ يفكر فقلت: لعلك قصد البخاري عندنا فقال: نعم هو عندنا بمنزلة البخاري عندكم و البحث في صحة الحديث و ضعفه في هذا الزمان عبث, لأن الأحاديث الصحيحة معلومة يقينا فقلت له: و كيف تعرف صحتها يقينا؟ فقال لي: تعرف بنص الأئمة المعصومين على صحتها ثم قال: دونك حديثا متواترا عندنا و عندكم فقلت له: قل, فقال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:(أنا مدينة العلم و علي بابها) فقلت له: أما عندنا فليس هذا الحديث صحيحا و لا حسنا عند المحققين فضلا عن أن يكون متواترا و إنما هو حيث ضعيف, هكذا قلت له من حفظي و الآن أثبت ما قاله الأئمة في هذا الحديث قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص97 ما نصه باختصار: (أنا مدينة العلم و علي بابها). رواه الحاكم في المناقب من مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و أبو الشيخ في السنة و غيرهم كلهم من حديث أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا به بزيادة (فمن أتى العلم فليأت الباب), و رواه الترمذي في (المناقب) من جامعه, و أبو نعيم في الحلية و غيرهما من حديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:(أنا دار الحكمة و علي بابها), قال الدارقطني في العلل عقب ثانيهما (يعني حيث الترمذي):إنه حديث مضطرب غير ثابت. و قال الترمذي: إنه منكر. و كذا قال شيخه البخاري و قال: إنه ليس(1/209)
له وجه صحيح و قال ابن معين فيما حكاه الخطيب في تاريخ بغداد إنه كذب لا أصل له, و قال الحاكم عقب أولهما: إنه صحيح الإسناد و أورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في الموضوعات و وافقه الذهبي و غيره على ذلك و أشار إلى هذا ابن دقيق العيد بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه, و قيل: إنه باطل.
…ثم قلت له: و على فرض ثبوته فإن أريد أن هذه المدينة لها أبواب كثيرة و علي من أفضل أبوابها فهذا صحيح, و إن أريد أن هذه المدينة ليس لها إلا باب واحد و هو علي فهذا باطل يكذبه القرآن و الواقع و لا يختلف فيه العقلاء, لأن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث كان علي صغيرا دون البلوغ فلو كان هو الباب الوحيد لهذه المدينة ما استطاع النبي صلى الله عليه و سلم أن يبلغ شيئا و لا أن يؤدي رسالة و كان يقول لكل من سأله عن مسألة: اذهب إلى علي و خذ منه الجواب و هذا لا يقوله أحد يحترم نفسه و قد قال الله تعالى:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته} المائدة:67 حذف المعمول هنا يدل على العموم أي بلغه جميع الناس كما قال تعالى في سورة الأعراف الآية158{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}.(1/210)
…و لما وصلت إلى هذه المسألة اشترك مع الشيخ في المناظرة نحو عشرة أشخاص فقال لي أحدهم قوله تعالى:{بلغ ما أنزل إليك من ربك} معناه بلغه عليا, فقلت له: هذه زيادة في القرآن فلو قلت لك أنا: معناه بلغه أبا بكر لكان القولان متساويين فبأي دليل ترجح أحدهما على الآخر و كلاهما دعوى بلا دليل؟ فغضب الشيخ و قال: أبو بكر(يأكل خراه) ـ و هذا شتم قبيح مستعمل في تلك البلاد و العراق و نجد, و معناه يأكل العذرة التي تخرج منه ـ كيف تقارن بينه و بين أمير المؤمنين عليه السلام و هو جاهل لا يعرف(الأب) المذكور في سورة عبس, و العرب كلها تعرف الأب و هو العشب؟!. فقلت له: أيها الشيخ: إن علماء المناظرات يقولون: إن الشتم سلاح العاجز لأن القادر على المناظرة بالدليل و البرهان لا يلجأ إلى الشتم, أبو بكر لم يكن يجهل الأب لأنه كان من شيوخ العرب و حكمائهم إنما قال ذلك تورعا و خوفا من الله تعالى و تعظيما لكتابه و عملا بقول النبي صلى الله عليه و سلم:(من قال في القرآن برأيه فقد كفر)[قال الناشر: الحديث لم أجده بهذا اللفظ, لكنه عند الترمذي(2951) و غيره بلفظ: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. و هو ضعيف, انظر ضعيف الترمذي(570)] و قد خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يراد بالأب معنى خاص يجيء فيه تفسير عن النبي صلى الله عليه و سلم فتوقف و هذه من فضائله و مناقبه, ثم قلت له: إذا أراد الله أن تبليغ النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو لعلي فلماذا لم يسمه كما سما زيدا في سورة الأحزاب؟ فقال لي: إن قريشا حذفت كثيرا من القرآن فقلت له: قال تعالى في سورة الحجر آية9:{إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون} و لاشك أن الله تعالى لا يخلف الميعاد و قد حفظ هذا القرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية و قد أجمع المسلمون و غير المسلمين إلا من شذ من أعداء الإسلام على هذا, فأنت تجد القرآن في جميع أنحاء العالم على اختلاف أديان أهل تلك(1/211)
البلدان لا يستطيع أحد أن يزيد حرفا و لا نقطة و لا أن يغير منه حركة, و حتى صفات الحروف كالتفخيم و الترقيق مثلا محفوظة.
…و إذا سلمنا أن القرآن قد حذفت منه قريش كثيرا فلا بد أن تكون قد زادت فيه أيضا. فقال لي: أما الزيادة فلم تقع فقلت: و كيف عرفت ذلك؟ قال: عرفناه من أقوال الأئمة المعصومين فإنهم أخبروا بأن الزيادة لم تقع و إنما و قع الحذف, فقلت: هذا مخالف لنص القرآن الذي ذكرته آنفا و مخالف للعقل و الله المستعان. ثم قلت له: فهل عندكم قرآن سالم من التغنقص؟ فقال لي: لما رأى أمير المؤمنين علي عليه السلام قريشا تحذف أشياء من القرآن و تكتبه على غير الوجه المتفق مع تاريخ النزول دخل بيته و عكف فيه أربعين يوما فكتب القرآن من أوله إلى آخره على ترتيب نزوله من أول آية إلى آخر آية, فقلت: و أين هذا المصحف, فقال: بقي عند الأئمة يتوارثونه آخرهم عن أولهم حتى وصل إلى الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري عجل الله بخروجه فلما غاب في سرداب سامراء أخذه معه فقلت له: و لماذا لم يكتب علي رضي الله عنه إلا مصحفا واحدا ثم لم ينسخ أحد منه في تلك الأزمنة المتطاولة و لا نسخة واحدة و قد كان لعلي كما تعلمون من الأنصار و آل البيت الحريصين على الخير و حفظ العلم و لا سيما كتاب الله و خصوصا قبل خلافته كثير, أما بعد خلافته فكان ينبغي أن يكون أول شيء يبدأ به هو إظهار هذا القرآن الصحيح و إحراق ما سواه من المصاحف فإن لم يفعل ذلك على سبيل التسليم الجدلي فلا بد أن يفعله شيعته و أنصاره و قد جمع أبو بكر الناس على هذا المصحف ثم جمعه عثمان طبقا لمصحف أبي بكر و أحرق جميع المصاحف المشتملة علة القراءة الشاذة, و علي رضي الله عنه ليس دونهما في العلم و القدرة على إحقاق الحق فكيف أهمل هذا الواجب العظيم؟ فقال لي: تأدب فإن الأئمة لا يفعلون شيئا إلا بأمر الله و قد كان أمير المؤمنين عليه السلام مشغولا بأمور أخرى من حروب المرتدين و(1/212)
تدبير شؤون المسلمين فقلت له: هذا الاعتذار لم يقنعني و لم أراه يقنع أحدا من خصومكم, ثم لماذا أخذ الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري المصحف الوحيد السالم من التغيير معه حينما أدخل في السرداب و أنتم تعتقدون أنه معصوم و أنه يحفظ القرآن و لا يحتاج إلى مصحف فكيف يترك شيعته على مصحف ناقص غير مرتب و يأخذ النسخة الوحيدة المشتملة على القرآن الصحيح معه إلى عالم الغيب؟ فقال لي: قلت لك: تأدب فإن الأئمة معصومون و لا يفعلون إلا ما أمرهم الله به, ثم قال لي أحدهم: سأورد عليك آية من القرآن تحجك و تسكتك فقلت: هات, فقال: قال الله تعالى:{و كل شيء أحصيناه في إمام مبين}يس:12من هو الإمام المبين؟ أليس علي بن أبي طالب عيه السلام؟! فقلت: ذلك قولك أما أنا فأقول: إن الإمام المبين هو اللوح المحفوظ المكتوب عند الله تعالى و هذا القرآن الذي بأيدينا مطابق له فقال لي: كيف يكون الكتاب إماما و كيف يكون مبينا فقلت له: قال الله تعالى في سورة الأحقاف الآيتان11,12:{و إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين} فوقف حماره في العقبة و لم يستطع جوابا. فقال لي شيخهم: أليس علي نفس النبي بنص القرآن؟! فقلت: وضح لي ما تقول كيف يكون غلي نفس النبي؟ فأخذ يتعتع و يكرر أنفسنا و أنفسكم, و لم يعرف أحد منهم آية المباهلة لا الشيخ و لا غيره فعلمت أنه لا يحفظ القرآن أحد منهم فقلت لهم: أنا أذكر لكم الآية التي تريدون قال الله تعالى في سورة آل عمران:{ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فقالوا جميعا: هذه الآية التي نريد و هي حجة عليكم فإن قوله تعالى{و أنفسنا} المراد به علي بن أبي طالب فقلت لهم: إن نفس النبي صلى الله عليه و سلم هي النبي و(1/213)
لا تتحمل الدلالة اللغوية غير ذلك فما هو دليلكم من جهة النقل أو اللغة على أن عليا هو نفس النبي صلى الله عليه و سلم؟ فقالوا: هذا ثابت في التفاسير فقلت: أنا لا أسلمه إلا إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم بسند صحيح.
…هكذا قلت لهم مع أني أعلم أنه روي بسند ضعيف أن معنى أنفسنا هو النبي صلى الله عليه و سلم و علي, و معنى نساءنا فاطمة, و معنى أبناءنا الحسن و الحسين, ثم راجعت الآن و أنا أكتب هذا تفسير ابن كثير فوجدت الخبر قد رواه بن مردويه و الحاكم في المستدرك و قال: صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه قال ابن كثير: (هكذا قال الحاكم و قد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا و هذا أصح)اهـ.
…قال محمد تقي الدين: و من المعلوم أن المرسل من قسم الضعيف و لو كان القوم أهل إنصاف لذكرت لهم هذا الخبر و اعترفت به و بينت ضعفه و أنه لا حجة لهم في ذلك, لأن فضل علي و قربه من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينكره إلا ضال و ذلك لا يدل على أنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه و سلم و لا يدل البتة على بطلان خلافة الخلفاء الثلاثة قبله و لا يحط من قدرهم شيئا فإن الأئمة الثقات رووا أحاديث كثيرة صحيحة كالشمس تدل على صحة خلافتهم و فضلهم و لكن لكل مقام مقال.(1/214)
…ثم قال الشيخ: ما تقول في أحاديث صحيح البخاري أصحيحة عندكم أم لا؟ فقلت: هي صحيحة لا نتوقف في قبول شيء منها فقال: الآن أورد لك حديثا من صحيح البخاري يثبت صحة اعتقادنا و فساد اعتقادكم فقلت: ما هو؟ فقال: روى البخاري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:(فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها) و أبو بكر آذاها فقد آذى النبي صلى الله عليه و سلم و من آذى النبي صلى الله عليه و سلم فهو كافر فكيف يكون الكافر خليفة؟! فقلت له: هذا الحديث صحيح و لكن لمعرفة معناه على التحقيق يجب أن تذكره كاملا حتى لا تكون مثل ذلك النصراني الذي احتج على المسلمين بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة}النساء43 فقال: هذا كتابكم ينهاكم عن الصلاة.(1/215)
…قال: فاذكر أنت الحديث كاملا فقلت له: إن علي بن أبي طالب أراد أن يتزوج بابنة أبي جهل على فاطمة فقام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا في الناس فقال: {إن ابن أبي طالب يريد أن يتزوج بابنة أبي جهل فليطلق ابنتي فإن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها} هذا معنى الحديث. فلما سمع القوم هذا الحديث ثاروا ثورة عظيمة و كثر ضجيجهم فقال لي شيخهم رافعا صوته:(كفرتم كفرتم كفرتم, أنتم كفرتم كل واحد حتى محمد بن عبد الله) و سمعت من كان بقربي من الحاضرين يقولون بصوت ملؤه الحنق:(لا يا ملاعين الوالدين اشلون يكذبون على أمير المؤمنين) و معنى ذلك: اخسؤوا يا ملاعين الوالدين كيف يكذبون على أمير المؤمنين يعنون عليا. فقلت له: كيف تكفروننا و نحن نشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و نؤمن بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم؟! و علي رضي الله عنه لسعة علمه و فضله لم يكفر الخوارج الذين كفروه و قاتلوه فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى علي أنه سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: لا. من الكفر فروا. فإن لم تقبلوا على عادتكم في رد أحاديث أهل السنة ـ فدونكم برهانا نظريا لا تستطيعون رده أبدا قالوا: ما هو؟ فقلت: إن عليا رضي الله عنه قاتل الخوارج و لم يغنم أموالهم و لا سبى ذريتهم كما فعل هو و سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتال المرتدين من أبي حنيفة, و أم ولده محمد سبية من بني حنيفة و اسمها خولة و أنتم تعلمون ذلك.(1/216)
…فقال: أنا لا أكفرك أنت, فقلت: لو كفرتني أنا و تركت البخاري و رجاله لكان ذلك أهون علي لأن كل ما نعتقده و نعلمه من أمور الدين فهو إما من القرآن أو من رواية هؤلاء الرواة فقال لي: و أنا لا أكفر البخاري أيضا فقد كان رجلا صالحا و لكن معاوية كان يبذل الأموال للوضاعين فيضعون الأحاديث في تنقص علي و يكذبون عليه و قد توهم البخاري فأدخل في كتابه هذا الحديث فقلت له: إن رجا هذا الحديث كلهم أئمة ثقاة و قد رواه البخاري و مسلم و الترمذي و ابن ماجه.
هذا ما قلته له و الآن أسوق هذا الحديث بألفاظه ليعرفه القارئ على وجهه. أخرج البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة ـ في باب الخمس ـ أن علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس على ذلك في منبره ـ هذا و أنا يومئذ محتلم ـ فقال:(إن فاطمة مني و أنا أتخوف أن تفتن في دينها) ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه قال)حدثني فصدقني و وعدني فوفى لي و إني لست أحرم حلالا و لا أحل حراما و لكن و الله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و بنت عدو الله أبدا).
…و رواه البخاري في كتاب النكاح في باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة(إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي ابن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد بن أبي طالب أن يطلق ابنتي و ينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يربني ما أرابها و يؤذيني ما آذاها).
و في إحدى الروايات إن فاطمة عليها السلام ذهبت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت له: إن الناس يقولون: إنك لا تغضب لبناتك و أخبرته الخبر فخرج إلى المسجد و خطب الناس.(1/217)
…ثم قلت: و أبو بكر الصديق لم يؤذ فاطمة و إنما نفذ ما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم في قوله:(نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) و فاطمة غير معصومة من الخطأ. فإن كان هذا هو سبب تكفيركم لأبي بكر الصديق فإنه سبب واه, و قد تبين بطلانه فلماذا كفرتم عمر مع أنه حين جاءه علي و العباس بعد وفاة فاطمة يطالبان بأرض فدك التي طالبت بها فاطمة أحضر عشرة من الصحابة فشهدوا كلهم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:(نحن معاشر الأنبياء لا نورث) ثم قال لعلي و العباس: إن التزمتما أن تعملا في هذه الأرض بما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه و سلم سلمتها لكما فالتزما بذلك فسلمها لهما. ثم اختلف علي و العباس فجاء العباس عمر يشتكي عليا فأبى عمر أن يغير ما حكم به.
…و مما ذكرته لهم في تلك المناظرة ـ و إنما أمليها من حفظي ـإن مما يدل على أن أهل بيت علي رضي الله عنه لم يكونوا يعتقدون عصمته أن عبد الله بن عباس أنكر عليه إحراق الغلاة الذين اعتقدوا ألوهية علي فأحرقهم بالنار فخطأه بن عباس وقال:(لا يعذب بالنار إلا رب النار) فقال الشيخ: هذا من وقاحته و قلة حيائه كيف يعترض على إمامه.
…و لما اخذوا يناظروني ـ و هم جماعة كما ذكرت ـ أراد رفيقي أن يظهر دفاعه عني و قال: أيها القومإن كانت هذه مناظرة بين عالمين فدعوهما يتناظران و أنصتوا, و إن كانت حمية و عصبية فأنا أيضا أدافع عن صاحبي. و لما رجعنا إلى الدورة قال لأهل السنة: أشهد بالله أن عالمكم غلب عالمنا.
مناظرة بين المؤلف و بين شيعي آخر
اجتمعت في البصرة بمجتهد الشيعة الشيخ مهدي القزويني فأخبرته بأن عبد المحسن الكاظمي يقول: إن قريشا حذفت كثيرا من القرآن فهل هذا صحيح؟ فقال: أما نحن فلا نقول بذلك و نؤمن بأن القرآن هو الذي ما بين دفتي المصحف لم ينقص منه شيء و لم يزد فيه شيء. و أظن أن الشيخ القزويني من الفرقة الأصولية.(1/218)
…ثم بعد ذلك قرأت مقلا في مجلة المنار الشهيرة التي كان يصدرها الشيخ رشيد رحمه الله, كاتبه عالم من بلاد فارس أثبت فيه بالأدلة و البراهين المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم من طرق الشيعة الإثنا عشرية كل ما بينه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية و شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من توحيد العبادة و توحيد الربوبية. فمن ذلك تحريم البناء على القبور روى فيه أحاديث عن أئمة الشيعة مرفوعة و غير مرفوعة إلى التبي صلى الله عليه و سلم تثبت النهي عن البناء على القبر و تجصيصه حتى ذكر عن جعفر الصادق رحمه الله أنه قال:(كل ما وضع على القبر من غير تراب فهو ثقل على الميت), و منها تحريم الذبح و النذر و دعاء الأموات و الاستغاثة بهم.
…فكتبت كتابا إلى الشيخ مهدي المذكور و قلت له: نرجو أن تبين لنا هل هذه الأحاديث التي ذكرها صاحب المقال صحيحة عندكم أو غير صحيحة, فإن كانت صحيحة فما الذي يمنعكم من العمل بها؟ و كيف سكتم على القباب المشيدة المزخرفة في النجف و كربلاء و الكاظم و هي مخالفة لما رواه أئمة أهل البيت الذين تدعون الناس إلى اتباعهم؟ فكتب إلي رسالة طويلة مدحني فيها و لم ينكر شيئا من تلك الأحاديث و لكنه عمد إلى تحريفها ففسر البناء على القبر بأن يبني على القبر نفسه, أما بناء قبة حوله لتقي زائريه من الحر و القر فلا بأس به. و مضى في تحريف تلك الأحاديث كلها حتى أتى عليها ثم قال لي: و نحن نتخذك حكما تحكم بيننا و بين صاحب المنار. هذا بعدما ذم صاحب المنار و كاتب المقال و غمرهما بالشتم و القدح و الطعن.(1/219)
…فألفت في ذلك جزءا سميته(القاضي العدل في حكم البناء على القبر) و بعثته إلى الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليه فجزأه سبعة أجزاء و نشره في مجلة المنار و كان ذلك في أغلب الظن سنة1344هـ و لما استقررت في المملكة السعودية أعدت تأليف الكتاب بأسلوب أخشن و قدمته للملك عبد العزيز رحمة الله عليه هدية و أنشدته في ذلك القصيدة التالية جالسا إلى جنبه, فلم يعب علي ذلك لا هو و لا أحد من جلسائه, و ذلك برهان قاطع على تواضعه و اختياره سلوك أمراء السلف فلا غرابة أن رفع الله قدره و مكن له في الأرض حتى أنشأ دولة عظيمة عصرية عصرية على أنقاض الدولة السعودية التي قضى عليها آل رشيد كما شهدت بذلك إذاعة لندن و هذه القصيدة من بحر الكامل.
……يا أيها الملك الذي سعدت به……أرجاء مكة و الحطيم و زمزم
……و كسى الإله به بلاد الربثو……ب أمانه فغدت به تنعيم
……و أشاع نور العلم و الإيمان في……أرجاءها و الجهل فيها مظلم
……و غدت بحكمته أهاليها و هم……بعد العداوة في إخا لا يصرم……
………كان التقاطع بينهم من قبله……حتى القريب قريبه لا يرحم
………و البغي و العدوان شيمتهم وهم……شتى العقائد شركهم مستحكم
… ……ما عندهم من حرمة للشرع بل……طاغوتهم بالجهل فيهم يحكم
………قطع الطريق و سالكه لهم……خيم و خيم عندهم لا يحرم
………شن الإغارة دأبهم و طعامهم……و شرابهم منه ويئس المطعم
………فغدوا تقاة صالحين و خوفهم……لله ليس يزال دوما يعظم
………بسياسة الملك الإمام المرتضى……عبد العزيز الفارس المستلئم
………هذي الكرامات العظام حقيقة……لا ما يقول مشعوذ يتوهم
………هذا هو القطب الكبير ديانة……و شجاعة و عدالة إذ يحكم
………قطب السياسة و المكارم و العلا……حامي الحقيقة في الوغى لا يحجم
………يلقى العداة إذا الجيوش تلاطمت……أموجها مستبشرا يتبسم
………يلقى الوفود و وجهه متهلل……رائيه مغتبط به متنعم
………ذا الجزء أرفعه إليك هدية……و لأنت أفضل من إليه يقدم(1/220)
………ألفته ردا على شيخ الروا……فض بالأدلة مبطلا ما يزعم
………زعم البناء على القبور و قصدها……من كل أفق للدعا لا يحرم
………هذا و دم شمسا للدين في……أوج السعادة بالمكارم تنعم
…فتقبله بأحسن قبول و أمر بطبعه فأخذه رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله و سلمه إلى الشيخ ماجد الكردي مدير المعارف فطبع منه ألف نسخة و وزعت. و لابد أن يكون الشيخ مهدي القزويني قد اطلع على ها الكتاب. و قد بلغني أنه ألف كتابا في الرد علي و لكني لم أره و هذا هو سبب ما ذكرته من قبل أنه يوجد في المحفظة الخاصة بي التي يسمونها بالعجمية (دوسيا) أنني عدو لأبناء الشيعة. هكذا سجلوا علي ذلك لجهلهم و ضلالهم و إلا فهل كان أئمة آل البيت الذين نقل عنهم ذلك الكاتب أحاديث النهي عن البناء على القبور كحديث الصحيحين ( لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) و نحوه هل كان أولئك الأئمة رضوان الله عليهم أعداء لأبناء الشيعة و منهم جعفر الصادق الذي ينتسبون إليه؟! إذا فمن هو وليهم؟!.
شيخ متملق
…كان رجل ينسب إلى العلم ـ و العلم منه بعيد ـ يسكن في بلدة فاو الواقعة عند مصب شط العرب في خليج البصرة و يسميه الأوروبيون الخليج الفارسي و كان من المتملقين لذلك الشيخ المذكور الذي هو من أقارب الشيخ مصطفى آل إبراهيم, فشكى الشيخ الغني إلى ذلك المتأكل بالدين ما أبطلته من البدع في مسجد الدورة فقال الشيخ الفاوي: هذا الرجل مناع للخير, يعنيني بذلك فهجوته بقصيدة نسيت أكثرها و أثبت هنا ما بقي من حفظي منها و قد حذفت منها بيتا لأن فيه إقذاعا كثيرا. فإن قلت إذا كان ذلك الإقذاع لا يجوز شرعا فلماذا قلته حتى احتجت إلى حذفه؟ فالجواب أنه يجوز شرعا و لكن تركه أيضا جائز و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم:(من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا) و هذا ما بقي من القصيدة:(1/221)
……أتاني فحش القول من جاهل فدم……و قدما كلاب الجهل تنبح ذا العلم
……و لست بملا في القرى متأكلا……بدين و لا دين الأرذل الوخم…
……يظل عدو العلم يكذب جاهدا……على ربه كي يأكل السحت بالرجم
……فدع عنك دعوى العلم و لتبغ قاربا……تصيد به الحيتان في لجة اليم
……و در به في كل البلاد مناديا……صبورا صبورا و اترك العيش باللؤم
……فذلك أجدى من سؤال و كدية……و إفساد دين الله بالخرص و الوهم
……فلا تحسبن العلم أكل ثريدة……و جمع زكاة من غريب و من عجم
……و مثلك إن يسأل يجيء يوم حشرنا……و ما وجهه إلا عظام بلا لحم
……و إن كان كالعصفور عقلك خفة……و طيشا فمثل البغل قد صرت في الجسم
……علام استطبت الأكل في صدقاتهم……أأعرج أم أعمى أم أنت أخوا سقم
……نعم فيك سقم لم ير الناس مثله……و ذلك سقم العقل و الدين و الفهم
……و فيك عمى لا تبصر العين مثله……عمى الجهل إن الجهل للعين قد يعمي
……و دعواك في العلم العزيز مكانه……كدعوى بني حرب زيادا على زعم
……لقد هزلت حتى بدا من هزالها……كلا و حتى سامها كل ذي عدم
…قولي: (صبورا صبورا) الصبور نوع من السمك يصاد من البحر كبير الحجم كثير العظام و لكن لحمه لذيذ يدور الباعة بزوارقهم في أنهار جنوب البصرة منادين (صبور صبور).
العوة إلى الله في النخيل
…لما نزلنا بالمدينة المنورة ـ على من شرفها الله به أفضل الصلاة و أزكى التحية ـ و جدت بها من مشايخ الشيوخ (ألفا هاشم) و هو من السودان المغربي و أظنه سنغاليا و كان مقدما للطريقة التجانية, فكتبت صحيفة ضمنتها ثلاثة عشرة مسألة من ضلالات التجانيين و ناولتها الشيخ عبد الله بن حسن فلما قرأها اقشعر جلده منها و قال: أعوذ بالله أعوذ بالله يوجد في الدنيا من يعتقد مثل هذا؟! فقلت: نعم و هو معك هنا في المدينة أحد كبار المدرسين في المسجد النبوي فقال لي: من هو؟ قلت(ألفا هاشم) و معنى ألفا بلغة السودان: الفقيه, فكأنها مختصرة من كلمة الفقيه.(1/222)
…فدعا به فلما جلس ناوله الصحيفة فقال: اقرأ هذه الصحيفة فقرأها فقال له الشيخ: هل تعتقدون ما في هذه الصحيفة؟ فقال: يوجد في كتب طريقتنا كل ما ذكر في هذه الصحيفة و لكن أنا لا أعتقد هذا فقلت له: قل هذا حق أو باطل فقال لي: إن الشيخ ليس محتاجا إلى أن تعينه فقال الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله: و الله بل أنا محتاج إلى أن يعنني لأنه يعرف ضلالكم و أنا لا أعرفه, فاضطر(ألفا هاشم) إلى أن يقول: إن ذلك باطل فقال له الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله: قد اعترفت الآن بأنك رئيس طريقة تشتمل على ضلالات فتب إلى الله منها فقال: أنا تائب إلى الله من كل ضلالة فقال له الشيخ عبد الله بن حسن: أكتب رسالة و بين فيها ضلال هذه الطريقة و أنك تبت إلى الله لنوزعها على أتباعك و غيرهم ليحذرها الناس فقال: نعم. فقال له: إذا كتبت الرسالة فسلمها إلى محمد تقي الدين الهلالي لينظر هل هي وافية بالمطلوب فإن وجدها كذلك يبعثها إلي و أنا آمر بطبعها.
…و قبل أن يسافر الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه دعا أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم فجاءه إلى منزله فقال له هذان الشيخان محمد الهلالي و محمد بن عبد الرزاق نثق بعلمهما و دينهما فعليك أن تشاورهما و تأخذ بنصيحتهما فقال الأمير:(حبا و كرامة. يقال: إذا رأيت العلماء عند أبواب الأمراء فبئس العلماء و بئس الأمراء و إذا رأيت الأمراء عند أبواب العلماء فنعم العلماء و نعم الأمراء. فحقهما أن آتي إلى زيارتهما لأستشيرهما و أستفيد من علمهما و لكن أرجوا من فضلهما أن يسامحاني في هذا الحق لكثرة أشغالي و يتفضلا بزيارتي).(1/223)
…و بعد خمسة عشر يوما لقيت ألفا هاشم فقلت له: هل أتممت الرسالة التي أمرك الشيخ بتأليفها؟ فقال: ما أكملتها بعد فأمهلني, فانتظرت خمسة عشر يوما أخرى و لقيته فسألته فقال لي: الآن ما أتممتها, فحثثته على اتمامها برفق. فذهب إلى الأمير و قال له: نحن نعتقد أنك أمير هذه البلد و أنت الحاكم فيه و قد آذاني محمد تقي الدين الهلالي و صار يتحكم في و يأمرني و ينهاني, فدعاني الأمير و قال لي: ما سبب الخلاف بينك و بين ألفا هاشم؟ فقلت له: ليس بيني و بينه خلاف و حكيت له القصة من أولها إلى آخرها فقال: أنا آخذ الكتاب منه و أبعثه إلى الشيخ فقلت له: أنت لا تعرف ما يتضمنه الكتاب و هل هو واف بالمطلوب أو غير واف و إنما كلفني الشيخ عبد الله بن حسن بقراءته قبل إرساله إليه لأني أعرف هذه الطريقة و أعرف ما يجب على التائب منها أن يقول لأني متمسكا بها تسع سنين, و انصرفت من عنده و لم أطالب ألفا هاشم بعد ذلك بشيء و لم يؤلف شيئا.(1/224)
…و هذا أول خلاف وقع بيني و بين الأمير ثم تلاه اختلاف كثير شاركني فيه رفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق فكنا إذا سمعنا بمنكر و قع و كان الجنود المكلفون بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يخبروننا بما وقع من الحوادث فإذا رأينا تقصيرا نذهب إليه و ننصحه فكان يتحمل ذلك على مضض و اشمئزاز و يقول في غيبتنا: هذان رجلان من المطاوعة(جمع مطوع كلمة تطلق على الفقيه و العالم في نجد) يشتغلان بالدروس في المسجد فلماذا يتدخلان في شؤون الأمير و في شؤون جماعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟!(و التعبير المعتاد هيئة الأمر بالمعروف, و قد تركت هذا التعبير لأنه فاسد لأن الهيئة هي الشكل كما قال تعالى:{أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}آل عمران:49 و زاد في طينه بلة و في طنبوره نغمة أن المكاتبة بيننا و بين الملك عبد العزيز قدس الله روحه كانت متواصلة. و من عادته رحمة الله عليه أنه إذا كتب لنا جوابا يأمر الكاتب فيكتبه بآلة الكتابة ثم يأخذ صحيفة فيكتب فيها بضعة أسطر بخط يده يسمي فيها المرسل إليه و يسلم عليه يدعوا له و هذه مزية لا نعلم أحدا من الملوك كان يفعلها فنسأل الله أن يثيبه في جنات النعيم. و كانت الأجوبة التي تأتينا من الملك عبد العزيز تصل إلينا بواسطة الأمير المذكور فكان كلما جاءنا كتاب من الملك يصيبه المقيم المقعد و يغضب و يقول: ما شأن هذين الرجلين و مكاتبة الملك أهما من الأمراء؟ فيلتفت الأمير إلى الشيخ محمد شويل و يقول: يا محمود ألا يمكنك أن تمون عليهما و تفتح الرسالتين؟! (و معنى تمون تتجرأ و تنوب) فيقول الشيخ صالح محمود: أصلح الله الأمير إذا كنت أنت لا تستطيع أن تمون عليهما و أنت الأمير فكيف أستطيع أنا و أفتح رسالة الملك إلى شخص بعينه؟! فيجيئنا الشيخ محمود شويل و يقول: إن الأمير مهتم بهتين الرسالتين فإن لم يكن فيهما شيء تخفيانه عنه فأرجوا أن تفرجا عنه بتمكينه من قراءتهما فنعطيه الرسالتين فإن لم(1/225)
يكن فيهما شيء فأرجوا أن تفرجا عنه بتمكينه من فراءتهما فنعطيه الرسالتين فيقرأ كل رسالة, يقرأ صحيفتيها المكتوبة بخط اليد و المكتوبة بالآلة و توسوس له نفسه بأنه يمكن أن تكون هناك صحيفة ثالثة لم ندفعها إليه.
الاختلاف مع الشيخ عبد الله بن بلهيد
…ندع الآن خلافنا مع الأمير لنستأنفه فيما بعد و نذكر قصة طريفة وقعت بيننا و بين الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمة الله عليه فإنه قصد المدينة ليصوم فيها رمضان سنة1347هـ و لما كنت أنا أقوم بمراقبة المدرسين في المسجد النبوي و يعينني على ذلك رفيق الشيخ محمد بن عبد الرزاق كان بعض المدرسين يجتمعون عندنا في مكتب المراقبة و كان في غرفة فوق باب المجيدي فنتذاكر في مسائل العلم, فجرى ذكر مسالة الأرض هل هي كرة أو سطح؟ فبينا لهم أنها كرة يقينا و ذكرنا العلماء الذين نصوا على ذلك و منهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية و تلميذه ابن القيم, فأسروها في أنفسهم فلما جاء الشيخ عبد الله بن بلهيد سألوه: هل الأرض كرة أو سطح؟ فقال: لا يقول أحد بأنها كرة إلا المعطلة الذين ينفون استواء الله على عرشه فقالوا إن مراقبة التدريس محمد تقي الدسن الهلالي و رفيقه محمد بن عبد الرزاق يقولان بذلك, فغضب غضبا شديدا.(1/226)
…فلما جئنا لزيارته رحب بنا ثم قال: محمد و محمد هؤلاء المدعون للعلم من أهل الأمصار يزعمون أن الأرض كرة و لا بد أن تكون لهم شبهة و أنتما تعلمان فأخبراني بها فقلنا له: سلمك الله إن أقوى ما يستدلون به على كروية الأرض اختلاف الليل و النهار فإن الشمس حتى في القطر الواحد تختلف في الشروق و الغروب و يبلغ اختلافها في القطر الكبير إلى ساعة بين مشرق ذلك القطر و مغربه, و مثال ذلك: أن الشمس تشرق في الرياض قبل المدينة بنحو نصف ساعة و تغرب في الرياض قبل المدينة بمثل ذلك و قلنا له: و استدلوا على ذلك أيضا بأن المسافر في البحر أول ما يرى من سفينة مقبلة رؤوس أعمدتها المعروفة بالصواري ثم كلما دنت انكشف له الجزء الأسفل من العمود حتى تنكشف له السفينة كلها, و إذا كان في البر مقبلا على بلد فيه نخل فأول ما يرى رؤوس النخيل ثم كلما تقدم انكشفت له الأجزاء السفلى إلى أن ينكشف النخيل كله و كان عندنا دليل آخر هو أوضح من هذا كله, و لكن خفنا أن نذكره له و هو أن المسافر إذا سافر إلى الشرق على خط مستقيم أو شبه مستقيم و استمر في و جهته لا يغيرها يرجع إلى البلد الذي سافر منه. فلما سمع كلامنا غضب غضبا شديدا و قال: هذا كلام المعطلة فتوبا إلى الله منه و لم يقصدوا بهذا الكلام إلا أن يقولوا: لا إله فوق العرش و تشفى فينا المدرسون و كثر لهطهم و أخذوا يضحكون علينا فقال بعضهم يعنينا و من يقول بقولنا: هؤلاء القوم ليس لهم عقول لو كانت الأرض كرة سابحة في الفضاء فلماذا لم تنصب هذه البحار و مياه الآبار و لماذا لم تسقط الصخور و الأحجار و كل ما على الأرض من حيوان و إنسان؟! و على قول هؤلاء يمشي الناس على وجه الأرض و رؤوسهم إلى أسفل. و كان المدرسون يبغضوننا لأنهم كانوا يمرون بآيات التوحيد و أحاديث التوحيد مرور الكرام باللغو فلا يبينون للناس توحيد الربوبية و توحيد العبادة و توحيد الأسماء و الصفات فكنت أدعوهم إلى المراقبة و أعظهم(1/227)
و أحذرهم من وعيد من كتم علما و لكنهم كانوا مصرين على حيدتهم إلا من سأذكره فيما بعد.
…فانصرفت من عند الشيخ عبد الله بن بلهيد نادما على زيارته و مع أنه التمس مني أن أتعشى معه مدة رمضان لم أزره بعد ذلك. فجلت جولة في الكتب و كانت كثيرة عندي لأن خزانتي كانت قد وصلت إلي من العراق و هي حافلة بأصناف الكتب, و أصل هذه الخزانة خزانة الشيخ علي بن سليمان القصيمي الذي كان ساكنا بالدورة إلى أن توفي رحمة الله عليه فوصلت أنا الدورة بعد وفاته فوهبنيها ورثته بإشارة من كبيرهم الشيخ حسن بن علي قالوا: لأنه ليس فينا لسوء الحظ من يستطيع الانتفاع بهذه الكتب و نحن نريد أن نهبك إياها رجاء أن ينفع الله بثواب هذه الهبة والدنا و لاتزال عندي بقايا من هذه الخزانة, و بعضها تلف بالنقل من بلد إلى بلد و بعضها تلف بالبلى و القدم.(1/228)
…فوجدت أن شيخ الإسلام أبى العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ذكر هذه المسألة في الرسالة العشرية و وضحها كل التوضيح فبعدما بين أن الأجرام السماوية كروية الشكل ذكر الأرض و أخبر أن كل جهاتها فوق و التحت إنما هو وسط جوفها قال رحمه الله: فلو وضعت حجرا في المشرق و حجرا في المغرب و لم يجدا مانعا من النزول هذا من المشرق و هذا من المغرب حتى يجتمعا في مركز الأرض, و لو جعلت بدل الحجرين إنسانين أحدهما يخترق لأرض من المشرق و الآخر يخرقها من المغرب لالتقت أقدامهما في المركز, فخططت بالقلم الأحمر على هذا الكلام و بعثته إلى الشيخ عبد الله بن بلهيد فبلغني أنه ازداد غضبا و قال: يا عجبا للهلالي يريد أن يعرفني بما في كتب الشيخين إن كلام الشيخين لا يفهمه كل الناس لأن فيه إطلاقا و تقييدا و خصوصا و عموما و إجمالا و تفصيلا, و أنا أشتغل بدراسة كتب الشيخين منذ كنت مثل هذا الورع و أشار إلى صبي صغير (و أهل نجد يسمون الغلام ورعا). ثم أخذت أبحث في كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله فوجدته نص على أن الأرض كرة نصا لا يحتمل تأويلا و علل اختلاف الليل و النهار في البلدان المختلفة بكروية الأرض فبعثته إليه مع الشيخ محمد بن عبد الرزاق فلما أعطاه الكتاب قرأ كلام ابن القيم مرارا ثم قال له: إن كانت الأرض كرة في الجهة الأخرى التي لسنا فيها فذلك ممكن أما الجهة التي نحن فيها فنحن نشاهدها سطحا و سكن غضبه علي و لكن لم يعترف, ثم لقيت بعد ذلك الشيخ الجليل مقدم آل الشيخ و كبيرهم و عالمهم في عصره أعني الشيخ عبد اللطيف رحمة الله عليه فقال لي: بلغني ما وقع بينك و بين ابن بلهيد و هو مخطئ و إياك أن تعتقد أن علماء أهل نجد كلهم على رأيه فإن عندي ثلاثة كتب للشيخين في كل واحد منهما ما يكفي و يشفي للدلالة على أن الأرض كرة.
الشيخ الطيب التنبكتي(1/229)
…تقدم أن المدرسين كانوا يحيدون عن بيان الحق في مسائل التوحيد و كانوا يتعصبون لمذهبهم كل التعصب, و كان الشيخ الطيب رحمة الله عليه حين جئنا إلى المدينة أنا و رفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق المصري مولدا و نشأة, السعودي مستوطنا و دارا نسأل الله له الشفاء, كان الشيخ الطيب متمسكا بالطريقة القادرية و بعقيدة المتأخرين من الأشعرية و متعصبا للمذهب المالكي و كان لا يطيل الجلوس معنا, و لكنه كان يبعث إلينا تلميذه الشيخ عبد الله بن محمود و كان في ذلك الوقت شابا لم تستدر لحيته و كان يأتينا كل يوم بمسائل يلقيها علينا فنجبه عنها فيحمل الجواب إلى أستاذه و مضى على ذلك مدة تقارب ستة أشهر, و عند ذلك جاءنا الشيخ الطيب و قال لنا: إنني فكرت في أجوبتكما فوجدت ما تدعوان إليه هو الحق و أشهدكما أني تركت كلما كنت عليه من طريقة و عقيدة أشعرية و تعصب للمذهب, ففرحنا بذلك فرحا عظيما.
…و كان المدرسون من أهل المدينة يأخذون ستة دنانير ذهبا أو ما يعادلها بسعر الوقت أريلة فضية, و كنا نحن نأخذ عشرة دنانير, لكل واحد منا فكتبنا إلى ولاة الأمر رحمهم الله و قلنا لهم: إن الشيخ الطيب الأنصاري التنبكي ترك ما كان عليه و رجع إلى عقيدة السلف فنرجوا أن يعطى راتبا كرواتبنا فجاء الجواب بالموافقة ـ و قد نسيت الآن هل كتبنا إلى الملك عبد العزيز نفسه أو لمن دونه ـ و صار يأخذ عشرة دنانير ذهبا و كانت المعيشة في المدينة رخيصة تكفي أهل البيت بعيالهم و ضيوفهم ثلاثة دنانير في الشهر يعيشون بها عيشة راضية و ثبت الشيخ الطيب على العقيدة السلفية إلى أن جاءه الأجل فرحمه الله رحمة واسعة, و قد أخبرني بعض الإخوان أنه اختصر تفسير ابن جرير و أن اختصاره هذا موجود فنسأل الله أن يوفق أهل الفضل و الإحسان و في مقدمتهم إمامهم جلالة الملك فيصل لطبع هذا الكتاب.
الشيخ محمود شويل(1/230)
…لما وصلنا إلى المدينة كان الشيخ محمود شويل خرافيا و متعصبا للمذهب المالكي أشد التعصب, كنا نفطر صباحا في بيتي فأخذ يذكر فضائل الإمام مالك رحمه الله و يدعي أنه لا نظير له في الأئمة و لا أحد يكاد يبلغ منزلته في العلم و الفضل فقلت له أنا: البخاري أعلم منه لأن كل حديث صحيح رواه مالك يعرفه البخاري و يزيد على ذلك بآلاف الأحاديث, فغضب غضبا شديدا و ترك الأكل و قال في البخاري كلاما قبيحا لا يحسن ذكره, و استمر على مجالستنا إلى أن تخلص من عقيدته و خرافاته و تعصبه للمذهب, و أخبرت بوجود شيخ سلفي من كبار العلماء له تآليف و هو الشيخ حسن بن عبد الرحمن من أغنياء مصر له مزارع كبيرة بين دمنهور و الإسكندرية لا أذكر اسم بلدته الآن, فكتب إليه الشيخ محمود شويل يلتمس منه شيئا من كتبه التي ألفها في الدعوة إلى السلفية و قال له في كتابه إليه: الشيخ محمد بن عبد الرزاق و الشيخ محمد تقي الدين الهلالي و ثالثهم كلبهم محمد شويل. فبعث إليه الشيخ حسن بن عبد الرحمن رحمة الله عليه ما طلب من الكتب, و قال له في جواب كتابه ما نصه: يظهر أنك داخل في المقدر من جديد لأن المؤمن لا ينزل بنفسه إلى أن يصير كلبا, و بالغ الشيخ محمود شويل في التمسك بالتوحيد و السنة و كانت فيه حدة شديدة فأخذ في كل يوم يتخاصم مع الناس إذا سمعهم يشركون بالله أو يبتدعون في الدين, فكثرت به الشكايات إلى الأمير فاتخذه مستشارا علميا ليشغله عن الخصومات و لكن ذلك لم يمنعه مما كان عليه من الشدة حتى نفي إلى نجد أكثر من مرة.
الخروج إلى البادية(1/231)
…كنت قد طلبت من الشيخ عبد الله بن حسن رئيس القضاة تغمده الله برحمته أن أخرج إلى القرى و البوادي للدعوة إلى الله تعالى في بعض الأحيان فاستحسن ذلك كل الاستحسان و أمر الأمير عبد العزيز بن إبراهيم أن يهيئ لي راحلتين و رجلا يرافقني فأجاب إلى ذلك و وعد به, فلما طالبته بالوفاء اقترح علي أن أذهب إلى الجرف و العوالي و لم يكن غرضي ذلك لأن أهل هذه القرى شيعة لا يكادون يقبلون شيئا من واعظ سني و إنما كان مرادي التوجه إلى البوادي السنية في ناحية الحناكية و غيرها من قبائل حرب و كان بعضهم متدينا و بعضهم لا يزال على الجاهلية الأخرى, فأخبرت بذلك الأمير فقال: ابدأ بالأقربين و بعد ذلك أهيئ لك السفر إلى غيرهم, و اخترت الشيخ الحميدي بن رديعان أحد الأئمة في المسجد النبوي و كان شيخا صالحا من أهل حائل ليرافقني, فذهبنا إل القرى المحيطة بالمدينة فلم نجد أحدا منهم تأثر بدعوتنا إلا رجلا في الجرف و أظنه كان سنيا أما الباقون فإنهم كانوا يضيفوننا و لا يظهر عليهم أثر لقبول و عظنا.
…و كررت الطلب على الأمير أن يهيئ لي أسباب السفر إلى الحناكية و نواحيها فكان يماطل, فاتفقت مع الأمير ماجد بن موقد أمير عوف القاطن في قرية النخيل و سافرت معه إلى النخيل بدون استئذان الأمير و بقيت هناك زهاء شهر. و أشهد بالله أنني ما مرت علي في حياتي كلها أيام صفا فيها قلبي و ازداد إيماني و إقبالي على ذكر الله تعالى مثل تلك الأيام. و كانت معيشتهم في غالب الأوقات بل في كلها اللبن المخيض فقط إلا إذا جاءهم ضيف فإنهم يذبحون له ذبيحة و يبحثون عن شيء من الرز من أردأ أصنافه فيطبخونه نصف طبخ فلا أستسيغه, و مع ذلك كانت عندي تلك المعيشة أحسن من موائد الأمراء و المترفين و سأشير إلى ذلك في القصيدة الآتية إن شاء الله.(1/232)
…و لما سمع الأمير بسفري غضب غضبا شديدا و لعنني و لعن قبيلة بن هلال كلها ـ توهما منه أنني أنتسب إليها و أنا إنما أنتسب إلى هلال و هو الجد الحادي عشر من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ـ و قال للشيخ محمود شويل: يا محمود قل له إذا رجع لا يمسك ورقة و لا يجلس في المسجد و قل لمحمد بن عبد الرزاق لا يجعله نائبا عنه في الصلاة أبدا, فلما رجعت زرته و معي الأمير ماجد بن موقد و أخبرته أن رحلتي إلى النخيل كانت بإذن و حث و ترغيب من رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن و هو يعلم ذلك فلم يقل شيئا.
…و استمر الأمر على تلك الحال مدة سنتين فضاق الأمير بنا ذرعا و نفد صبره, فدعانا ذات يوم إلى قصره بعد صلاة الظهر و كانت العادة أن تكون الضيافة في الطبقة الأولى و لكنه صعد بنا إلى الطبقة الرابعة التي يسكن فيها عياله و وضع لنا تمرا و جحا و هو الحبحب بلغة أهل الحجاز و لبنا و قال لنا: هذا طعامنا معشر أهل نجد في النهار ثم قال: أنا ما دعوتكما للطعام و لكن دعوتكما لأخبركما بأني لا أشك في صحة عقيدتكما و أنكما تريدان الخير و لكنكما تجاوزتما الحد في الشدة, و أنتما تسمعان كلام الملك في مجالسه العامة و تفهمان منه شيئا و نحن نسمع كلامه في المجالس الخاصة و في الرسائل الخاصة و نفهم منه شيئا آخر فعلى أي شيء نعمل على فهمنا أم على فهمكما؟! فقلنا له: إن كان الأمر كذلك ينبغي أن تعملوا على فهمكم فقال: إذا فتلطفا ة اتركا الشدة و كلاما طويلا من هذا القبيل ثم انصرفنا من عنده.
…و كان يعني بالكلام الذي يقوله الملك في المجالس العامة ما كان يلهج به رحمة الله عليه إذا اجتمع عند مشايخ العلم و هو قوله: أيها العلماء مروا بالمعروف و انهوا عن المنكر فقد أخذت هذه الأمانة من عنقي و وضعتها في أعناقكم و أول من تبدأون به في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أنا ثم أهل بيتي ثم عامة الناس.(1/233)
…فلم نصدقه في قوله و اعتقدنا أنه أراد أن يخدر أعصابنا بذلك الكلام الباطل و استمررنا على طتنا, فتهيأ هو للانتقام و عرف ذلك أخوه العالم الصالح الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فدعانا و قال لنا: أشهد الله على محبتكما و كأنه يتنصل و يتبرأ بذلك مما يبيته أخوه, و كذلك العالم الورع الشيخ عمر بن سليم رحمة الله عليه حذرنا من مكايد الأمير.
…فأما الشيخ محمد بن عبد الرزاق فكاد له كيدا عظيما و كان ـ و الحق يقال ـ أشد و أعنف عليه مني و ذلك أنه كتب إلى الملك عبد العزيز رحمه الله يقول: إن محمد بن عبد الرزاق لا يطاق بقاؤه فقد كرهه سكان المدينة لغلظته و شدته و بلغ به التهور إلى أن وقف على المنبر و قال: لعنة الله عليكم يا أهل المدينة كلكم كفار, و هذا بهتان عظيم فإني كنت جالسا عند المنبر أستمع الخطبة التي زعم أنه قال ذلك فيها و كانت من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بدون زيادة إلى ما جرت به العادة من الدعاء في آخر الخطبة الثانية فجاءت برقية من الملك تأمر الشيخ عبد الرزاق بالتوجه إلى مكة ليكون واعظا في المسجد الحرام كما كان من قبل.
…أما أنا فكتب في شأني إلى الملك عبد العزيز و أخبره أني مشوش منفر قال: و لم يكفه إطلاع الإخوان الذين يزورونه في المدينة, على أنه ما يزعم من تقصير الحكومة حتى سافر إليهم في النخيل و جرأهم على انتقاد و لاة الأمر. و كان سبب غضبه علي أنه لم يكن يريد أن أتصل بقبائل حرب لأنهم كانوا يشتكون غلظته و شدته و ظلمه في أخذ الزكاة و غيرها من الأحكام فظن أنني ذهبت لأعرف ما ينتقد عليه و أكشفه, و يعلم الله أني كنت في واد و هو في واد و أن الوقت الذي قضيته عندهم كان كله في ذكر الله و مجالس العلم و الوعظ و الإرشاد و لم أر مدة إقامتي عندهم منكرا حتى تمنيت أنني أبقى عندهم في ذلك الجو الرباني الصافي من كل الأكدار و لم أفكر قط في التدخل في شؤون الأمير.(1/234)
…و لما كتب بذلك إلى الملك عبد العزيز رحمه الله انتظر أن تأتيني برقية تدعوني إلى مكة كما وقع لرفيقي فلم يأتني شيء, فأمر و كيل المالية الشيخ عبد العزيز الخريجي أن لا يدفع لي راتبا, و حان وقت الحج فمر بنا الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمة الله عليه فسافرت معه إلى مكة, و طلبت النقل للتدريس في المسجد الحرام فأجابني إلى ذلك الشيخ عبد الله بن حسن و طيب خاطري بكلام حسن أسأل الله أن يجزيه عني خيرا في دار القرار, و كان ذلك آخر العهد بالمدينة إلى أن ردني الله إليها بدعوة من صاحب السماحة العالم الصالح الورع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قبل ثلاث سنين زاده الله من فضله و أعلى درجته و جعله من الصديقين.
ذكر ما قلته من الشعر أيام إقامتي الأولى في المدينة
اللامية
……أصبح قول الحق في طيبة……مثل يتيم ماله كافل
……أنصاره مستضعفون على……قلتهم و ضدهم صائل
……من يأمرن بالمعروف أو ينهى عن……نكر يغله منهم غائل
……يكيده زعيمهم مثل ما……يكيده السوقة و السافل
……و ذنبه عندهم جل و أن……يشمله من عفوهم شامل …………
……إذ كل ذنب عندهم دون ذنب……من يغار إن بدا باطل
……و يرمقونه بأبصارهم……شزرا و فيها حقدهم جائل
…… و إن رأى شركا و أنكره……بالقول فهو الظالم العائل
……قد عكسوا حكم إله الورى……في الشرك بئس الفعل و الفاعل
……الله يغفر الذنوب معا……و هو لكل تائب قابل
……إلا الذي قد جاء بالشرك فهو……آيس من عفوه عاطل
……لأنه أكبر ذنب و أد……هى منكر يعمله العامل
……إنكاره التوحيد حتما فمن……أقره فدينه باطل
……و ينصر الشرك على علمه……بسوء عقبى من له عامل
……إن جاءه مستنصرا صالح……شاك له لنصره آمل
……قد غره بزعمه أنه……محقق دين الهدى كامل
……يكن كمن قد استجار بعمـ……ــرو فأتاه حتفه العاجل
……يأمر بالرفق و باللين في……حق إلا له صفح شامل
……و من يرم من حقه ذرة……فهو عليه ضيفم صائل
……لا سامع عدل و لا راحم……ضعفا و لا شكاته قابل(1/235)
……يسلب من يأمر بالمعروف حقا……قد حباه المالك العادل
……و يستبد بالأمور معا……حتى القضا فهو به داخل
……إن وافق الحكم هواه مضى……أو لا يحل من دونه حائل
قصة ابن منصور
……و يح ابن منصور غداة أتاه……و هو لانتصاره آمل
……الرافضي خصمه طالب……تعزيره بكيده عامل
……الرافضي قال يا سيدي……إنك أنت الحاكم الفاضل
……كنت أسير في طريق قبا……و شرب تتن شغلي الشاغل
……فجاءني هذا بظلم فقال……ألق هذا التتن يا جاهل
……قلت له دع الفضول ورح……مثلك ما أنا به حافل
……تناول التتن و ألقاه من……يدي فبي من فعله خابل
……و هذه يا سيدي قصتي……فاحكم فإن حكمك الفاصل
……قال الأمير لابن منصور هل……و قع ما قال ذا القائل
……قال نعم سلمك الله ما……ذكره فكل حاصل
……و قادني لك فقلت له……تسعى إلى حتفك يا سافل
……و اليوم ظني فيك أن تعلي الحـ……ــقو أن ينخفض الباطل
……ما كان من أمر الأمير سوى……ركوب عار ماله غاسل
……إلا بتوبة نصوح و حب الـ……ــجاه سد دونه حائل
……تناول العصا و أمعن في……ضرب فتى عن الأذى غافل
……و هو إمام مسجد طالب……لعلم حق و به عامل
ضيم الحق
……خدش وجه الحق في ذلك النهار……حتى دمه سائل
……ضرب الموحد لإرضاء ذي الرفض……بلاء غمه طائل
……نهاه عن ذلك نصحا له……يومئذ شقيقه الفاضل
……قال له خف الإله فذا……أمر عظيم شره هائل
……ضربك من يأمر بالمعروف في……طيبة لا يرضى به عاقل
فرح الفساق و حزم أهل الحق
……يا فرحة الفساق يومئذ……طرا بما ارتكبه العامل
……و حزن أهل الحق إنهم……من ذا المصاب كلهم ذاهل
……و ذا نموذج لأفعاله……و جلها عن الهدى مائل
……تلون الحرباء في قوله……و فعله لا حبذا الفاعل
……فأين رفقه بلى إنه……للمجرمين وحدهم شامل
……لكن أهل الأمر بالمعروف لا……ينالهم من رفقه نائل
……رفق بذي شرك و ذي بدعة……و ذو الرشاد ليس يستاهل
……و حسبه من رفقه أنه……بسوطه لرأسه صامل
……كأن المغرور يحسب أن……الله عن أعماله غافل
……باع الهدى بعرض عاجل……و عن قريب كله زائل(1/236)
……من باع بالعاجل آجله……يفوته العاجل و الآجل
……لم يعتبر ما قال خير الورى……يا حبذا المقول و القائل
……من يحدث الحدث في طيبة……عليه لعن ربه نازل
……و لعنة الأملاك و الناس أجمعين……قد صححه الناقل
……مهما أتى بمنكر موبق……يقل كذا أمرني العاهل
……و إن أتاه الأمر منه بإصلاح……فما هو به عامل
……معتذر بأنه قد يرى الشاهد……ما يجهله الراحل
تبرئة الإمام
……حاشا إمام المسلمين فلا……يرضى بما يفعل ذا الخاتل
……قوام ليل خائف ربه……فوق الذي يأمله الآمل
……ذو ذلة على الألى الذين آمنوا……و عزة إذا اعتدى الجاهل
……نور الهدى بوجهه لائح……ما هو مخسوف و لا آفل
……من يره بديهة حبه……بدر علاه مشرق كامل
……سبحان من ألبسه حلة……من فضله فهو بها رافل
……من معجزات المصطفى……أمره لأنه يهديه عامل
……يا أوحد الأملاك يا أول السبـ………ــعة يا من بره هاطل
……عبد العزيز العلم الفرد من………عز به دين الهدى الكامل
……ابن سعود سعد الناس منذ………بدا لهم فغمهم زائل
……تشكو إليك طيبة أمرها………فالدين فيها ماله كافل
……أزكى سلام طيب كامل………إليكم من ربنا واصل
……يروي الرياض عن زهرها………إلى الرياض طيبه حامل…
التائية
……يحركني للشعر من بعد تركه……سنون هموم أكثرت زفراتي
……أرى كل يوم منكرات كثيرة……يقطع نفسي رأيها حسرات
……فناديت في كل النوادي مؤذنا………بنصح و كم رهبتهم بعظات
……أيا قومنا هبوا من النوم أنكروا……و غاروا على هتك لذي الحرمات
……ألا غاضب لله يحمي حدوده………ألا قائم بالحق حلف ثبات
……ألا باذل لله نفسا كريمة………و عرضا مصونا أصدق البذلات
……يصيح يا أهل الشرك و الفسق صائلا……كزأرة ضرغام على حمرات
……و يدعو إلى التوحيد بالصدق دعوة……معززة محمية بظبات
……يسل على أهل العقول لسانهم……كسيف صقيل صادق اللهجات
……يشن على أهل ابدائع غارة……فيحصد ما أبدو من الشبهات
……و يخطب في التوحيد يبدي محاسنا……تفيض لديها العين بالعبرات
……يجيبه أهل العقل لبك داعيا……يخفون و حدانا له و ثبات(1/237)
……و من قد أبى إلا ضلالا فؤاده……مصرا على الإشراك و البدعات
……و يزري على التوحيد إما مصرحا……و إما بتعريض بمشتبهات
……مكبا على نشر الضلالة موضعا……إلى الشرك يهوى الخبط في الظلمات
……فذلك حد السيف أشفى لدائه……و إلا فسوط مؤلم الضربات
……و إلا فحبس في السجون مخلدا……و إلا فنفي مؤذن بشتات
……و إلا فرفع الإمام بسرعة……يرى فيه رأيا صادق العزمات
……و إلا فقد خنتم أمانة ربكم……و خنتم لخير الخلق كل وصات
……و خنتم إمام المسلمين بغشكم……و قد أوجب الرحمن نصح ولاة
……و خنتم عباد الله سرا و جهرة……و كنتم لما ترعون شر رعاة
……فلا تحسبن الله يغفل عنكم……تعالى عن الإهمال و الغفلات
……ألم تسمعوا إيعاده في كتابه……لمن لا يزل النكر باللعنات
……بلى قد سمعتم وعده و وعيده……و لكنكم ساهون في الغمرات
……أغركم إمهاله فطغيتم……و صارت قلوب منكم صخرات
……أفيقوا أفيقوا و يحكم قد هلكتم……و إن الذي قد توعدون لآت
……و لا ياتكم عما قريب ترونها……سرابا و لا يبقى سوى الحسرات
……أفيقوا أفيقوا و يحكم قد بليتم……و لا يفتننكم زخرف الشهوات
……فتوبوا إلى الرب الغفور و أصلحوا……و أوبوا لنهج الرشد قبل فوات
……لعمري لقد نبهت من كان نائما……و أيقظت من يصغي إلى كلماتي
……فيا عجبا من ناصر لضلالة……و خاذل دين الحق فعل غواة…
……و من بائع رشد غيا سفاهة……و لم يك ذا جهل بما هو آت
……مخادع دين الله ساع لهضمه……بكيد عظيم محكم الشبهلت
……ألم يدر أن الله يعلم جهره……و يعلم ما يخفيه في الفلوات
……ألم يدر أن الله ناصر دينه……و قاذف أهل البغي في الهلكات
……و يلبس مسك الكبش سيد عملس……لتأمين أغنام و خدع رعاة
……فكم خدع الراعي و عاث بضأنه……فيا ضيعة الخرفان و النعجات
……و يا ضيعة الدين الذي صار لعبة……بأدي طغام في الشرور سعاة
……و إن هم دعوا للعرف أو نفي منكر……تولوا و حاصروا حية الحمرات
……و صدوا عن الداعي و عدوه أحمقا……ثقيلا بليد الطبع غير مؤات(1/238)
……يخوض بأمر ليس يعنيه ساعيا……إلى حتفه جهلا بغير حصاة
……و قالوا له ذا ليس شأنك فانته……و إلا تلاقي عاجل النكبات
……فما أنت و الأمر الذي لست أهله……هذا ذيك يا مسكين فز بنجاة
……فنحن ولاة الأمر فوقك حكمنا……و نحن اصطفينا لاعتلا الرتبات
……و أنت لحمق فيك أبقيت مهملا……و لم تك أهل لارتقا الدرجات
……فدم في خمول و استعد لمحنة……معجلة من أعظم المحنات…
……و قالوا تعالوا دبروا في مكيدة……لنوقع ذا المجنون في الهلكات
……تعالوا فشوا عند الإمام و نمقوا……له فرية من زخرف الكذبات
……و قولوا له هذا شديد منفر……عديم سياسات عديم أناة
……فكم فتنة قد شب في الناس نارها……و كم ذا له من طائش الحركات
……نخاف اتساع الخرق إن دام أمره……فأنزل عليه أعظم النقمات
……ليزدجر الحمقا من الناس مثله……و تنتظم الأحكام منضبطات…
……لقد غفلوا عن قول أصدق قائل ……لدى النمل تحذيرا لنا و عظات
……فأخبر أن القوم جاؤوا بمكرهم……فقد جاءهم أمر من الله آت
……ففي آل عمران و الأعراف و النسا……كذلك آي غير مشتبهات
……و هل تنفع الآيات إلا أولي تقى……و أفئدة صينت من الكدرات
……و أما القلوب المغفلات عن الهدى……فليست ـ و إن تحرص ـ بمنتفعات
……و ما يستوي الأعمى و ذو البصر الذي……يميز به البيضا من الحفرات
……و ما يستوي النور المبين و الدجى……و ما يستوي الأحيا و أهل ممات
……فيا أيها القوم الذين تواطئوا……على نصر ضلال و كيد هداة
……ألم تسمعوا لعن الرسول لمحدث……بطيبة يرويه أجل رواة
……و أخبر أن الله يلعنه كذا الملائك……طرا أعظم اللعنات
……و يلعنه الإنسان مع كل لاعن……مدى الدهر في الآصال و البكرات
……و يشمل ذا اللعن من كان راضيا……بما قد أتى من سيء الفغلات
……تحمل هذا اللعن من ضل سعيه……ليستمتع المغبون بالشهوات
……فيا ويله ماذا تحمل من بلا……لحظ قليل معقب بفوات
……و لو عاش فيها عمر نوح و ضغفه……لما عد شيئا إذ يرى الهلكات
……فعما قريب يقرع السن نادما……إذا ما صحا في سكرة الغفلات(1/239)
……إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني……أرى الدين في نقص و فقد حماة
……و يزداد في الدنيا بمقدار نقصه……فيا لك رزءا محكم الحلقات
……و ليس لنا إلا إلى الله ملجأ……لما مسنا من فادح النكبات
……و ليس لنا إلا إلى الله مفزع……يفاجئ أهل الزيغ بالنكبات
……فيا رب يا الله يا سامع الدعا……و يا كاشف الضراء و الكربات
……أغثنا بنصر من لنك ناكب ……لدين الهدى مخز لمن هو عات
……فيخسر حزب المبطلين إذا بدا……و يفرح حزب الله ساعة ياتي
……و بصر إمام المسلمين بمكر من……غدا لابسا للحق بالشبهات
……و وفقه للخيرات و انصر جنوده……على جند إشراك و كل بغاة
……و يا رب متعنا بطول حياته……و حفظا له من كيد كل عداة …
……و صل على خير الأنام و من مشى……على نهجه بالصدق خير صلاة
……و ذي نفثه المصدور في وجه من بغى……ثمانون بيتا مثل بيت رماة
اليائية
……خرجة بحمد الله للبدو داعيا……إلى الله حسبي ناصرا و كفانيا
……على جمل صعب بطيء مسيره……و قر شديد في الشتاء عرانيا
……بأرض قفار لا أنيس بها سوى……أبي جعدة يعوي على الحزن عاليا
……و إلا قليل من أعيرابها و هم……كمثل وحوش في الفلاة رواعيا
……تحملت في ذاك المسير شدائدا……أريد به وجه الذي قد برانيا
……تركت وثير الفرش مع لذة الغذا……و راحة جسم في المقام بداريا
……فوالله لا مالا أريد به و لا……لرفعة جاه كنت إذ ذاك ساعيا
……و لكن مقصودي هداية معشر……غدوا في قفار ما رأوا قط هاديا
……تنقلت في أحيائهم سبعة عشرة……أذكر في أيامها و الليالي
……و ما منهم إلا مطيع و مقبل……سوى بعض أعراب فما كان صاغيا
……فلله أوقات مضت في ديارهم……لقد كان فيها الدهر صفوا مؤاتيا
……معمرة بالذكر و الفكر في الهدى……فلم يك فيها القلب كالآن لاهيا
……بقول إله الحق طابت و بعده……بقول رسول الله يذكر قافيا
……منزهة عن فهش قول و لهوه……لقد كان فيها القلب أبيض صافيا
……و يزعن ذز البهت المبين أنني……خرجت لإفساد و ما زال فاريا(1/240)
……و يزعم أني قد ركنت لمن بغوا……فقبح ربي أينا كان باغيا
……فيا ليته يأتي إلي مباهلا……لدى باب بيت الله له داعيا
……فنجعل لعنات الإله جميعها……على أينا قد كان في الشر ساعيا
……و لا بد يوم أن يهشم باطل……و يظهر حق كان من قبل خافيا
……على الملك النقاد يطمع ذا الغبا……يروج مكذوبا من القول واهيا
……و يأبى له العقل الرجيح و دينه……قبولا لبهتان الذي جاء واشيا
……و إنصافه عم النواحي و حلمه……و بذل الندى من أم نحوه جائيا
……لعبد العزيز الملك من آل فيصل……ثبات به فاق الجبال الرواسي
……و لكنه خف إلى المجد و الندى……و تلقاه يوم الروع غضبا يمانيا
……لئن كنت قد بلغت عني خيانة……لمبلغك الواشي أتى المين غاويا
……فما الباطل المأفوم إلا ضبابة……تزول و يبدوا الحق أبلج صافيا
……لتبحث إمام المسلمين بعزمة……سعودية تجلي الأمرو كما هي
……و عندي من البرهان ما يهدم الذي……بناه العدا من زخرف القول واهيا
……أصخ لي إمام الخير و اسمع أدلتي……فلا زلت للمظلوم ملجأ و صاغيا
……بعدل و إنصاف أقامك ربنا……مليكا على هذ البلاد و راعيا
……أوائله بالشام تلفي و حده……يمد إلى أرض العراقين ضافيا
……فلا زلت شمسا في اعتلاء و رفعة……تضيء على المولى و تفني الأعاديا
……و لا زلت ذا شكر على النعم التي……حباك إليه الناس للخير هاديا
……و صل إلهي كل حين و ساعة……على المصطفى المبعوث للخير داعيا
بيان قصة ابن منصور الواردة في القصيدة اللامية(1/241)
…هو محمد بن منصور إمام قرية من القرى التابعة لإمارة المدينة نسيت اسمها كان صالحا حريصا على الخير يحب في الله و يبغض في الله و يرضى لله و هو شاب من أهل نجد وقعت له مع الأمير قضيتان الأولى هي التي ذكرت في القصيدة, كان ماشيا إلى قبا فلقي رجلا من شيعة المدينة يشرب الدخان فأمره بإلقائه فأبى فأخذه من يده و ألقاه على الأرض, فأمسك به الشيعي و قال أخاصمك عند الأمير فتعجب ابن منصور و قال: أنت تخاصمني إلى الأمير أو أنا أخاصمك إليه فأينا المذنب؟! فقال الشيعي: أنت المذنب الظالم, فانطلق إلى الأمير و تبعه محمد بن منصور فلما وصلا إلى الأمير ذكر الشيعي ما وقع بينه و بين ابن منصور فقال: إنما قاله واقع و أنا اقتصرت في تغيير المنكر على أدنى ما يجب و هو أخذ لفافة الدخان من يده و إلقاؤها على الأرض و هو يستحق عقابا أكثر من هذا, فضرب الأمير بن منصور و وبخه و قال له: مالك و له كان يشرب الدخان في الفضاء خارج البلد و من جعلك رقيبا عليه هل أنت من جماعة الأمر بالمعروف؟ فقال ابن منصور: إن الأمر بالمعروف واجب على كل مسلم عموما و خصوصا على الأمراء فغضب عليه و ضربه.
القصة الثانية و هي أفظع(1/242)
…كان ابن منصور يدق الأبواب على أهل القرية قبل الفجر يوقظهم للصلاة فنهاه أهل القرية عن ذلك فلم ينته فضربوه, و علم أنه إذا اشتكى إلى الأمير لا يأخذ له حقا و لا يدفع عنه ضيما فانتظر حتى جاء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله من الرياض مارا بالمدينة إلى مكة فكتب شكوى و سلمها إلي راجيا أن أبلغها إلى الملك فأخذتها حتى وضعتها في يد الملك فقرأها و سلمها إلى الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله ليحكم فيها, فدعا الشيخ الأمير و سلمها له و قال له: كيف يقع هذا في إمارتك؟ فقال: ما جاءني و لا أخبرني و أظهر تحمسا لنصره و قال للشيخ: كن مطمئنا فإني سأعاقب أولئك الأنذال عقابا يردعهم, فلما توجه الملك عبد العزيز ومعه الشيخ عبد الله بن حسن إلى مكة دعا الأمير الذين ضربوه و أحضر ابن منصور و أوصى حاشيته أن يطلبوا منه العفو عنهم و يلحوا عليه في ذلك فوبخهم الأمير و سبهم و هم بضربهم فقام أصحابه و قالوا: أيها الأمير أصلحك الله مهلا لعله يصفح عنهم فطلبوا منه الصفح و ألحوا عليه, و أظهر أهل القرية التوبة فعرف أنه مخذول و أن الأمر بيت بليل فصفح عنهم و لم يحصل على طائل, و لم أدرج هذه القصة في القصيدة لأنها وقعت بعد نظمها و فيما ذكرته في القصائد الثلاث كفاية.
التدريس ف المسجد الحرام(1/243)
…تقدم أني نقلت أنا و رفيقي إلى التدريس في المسجد الحرام, و التدريس في المسجد الحرام امتحان عظيم للمدرس فبينما ترى مدرسا مشهورا بالعلم و الفضل قد جلس للتدريس في المسجد الحرام فلم يحضر درسه إلا قليل من الناس لا يكادون يتجاوزون عشرة ترى مدرسا آخر ربما يكون دونه في الشهرة أو في العلم قد حضر درسه مئات من المستمعين, و هذه الأمور تسير طبقا لقسمة الله تعالى كما ترى أصحاب الدكاكين هذا يزدحم المشترون عليه و يتدافعون و إلى جانبه دكان يحتوي على مثل ما في ذلك من البضائع أو أحسن و صاحبه عاطل لا يأتيه أحد, و كنت و لله الحمد من القسم المحظوظ فكان يحضر درسي أمام باب إبراهيم مئات من الناس و لم أعرف لذك سببا إلا أنني كنت أتكلم بلغة يفهمها أهل الأقطار المختلفة من البلاد العربية و أولئك المدرسون الذين كانوا في أزمة من قلة المستمعين كانوا يتكلمون بعاميتهم الخاصة.
التدريس في المعهد السعودي(1/244)
…كانت مدارس الفلاح التي أسسها الشيخ عبد الله حمدوه منتشرة في أنحاء مكة و التلاميذ يقبلون عليها كل الإقبال لأن الشيخ عبد الله حموده كان مربيا عظيما ناجحا في عمله و كان يدعوني كل سنة للاشتراك في للامتحان مع أساتذة المدرسة العليا له, و كان المعهد السعودي قد أسس قبل ذلك بمدة و لم يحصل عليه إقبال للدعاية السيئة الراسخة في أذهان العامة أنه معهد وهابي يعلم تلامذته المذهب الوهابي حسبما يزعمه أعدا التوحيد و لم يكن ذلك هو السبب وحده بل كان هنالك سبب آخر و هو عدم كفاية المدرسين, فاجتمع رجال الشورى للنظر في رفع مستوى المعهدالسعودي و اتفق رأيهم برئاسة سمو الأمير فيصل نائب النلك على أن يختاروا للمعهد معلمين أكفاء فوقع اختيارهم على مؤلف هذا الكتاب و رفيقه الشيخ محمد بن عبد الرزاق و أخيهم العالم الشيخ بهجت البيطار, فانتعش بذلك المعهد و كثر طلابه و صارت له مكانة عند الناس و كان مدير المعهد أخانا و رفيقنا الشيخ إبراهيم الشورى و كان يبذل جهده في رفع مستوى المعهد.
السفر إلى الهند(1/245)
…أقمت في الحجاز أكثر من ثلاث سنين و أنا لا أزل في عنفوان الشباب و رأيت حتى في ذلك الزمان أن العالم بلا شهادة كالمسافر بدون جواز سفر ليس له مكان في المدارس العليا, و إذا ألف كتابا أو أنشأ مقالا فأول سؤال يسأله الناس: هل عنده شهادة عالمية؟ فيجيء الجوابب لا. هل يعرف لغة أجنبية؟ فيكون الجواب: لا. هل درس في أوروبا؟ فيكون الجواب: لا. فيقال حينئذ: (سيبك منه) يعني دعه و لا تلتفت إليه, و تاقت نفسي إلى الحصول على شهادية عالمية و كنت متصلا بالمكاتبة مع عالمين جليلين أحدهما تقدم ذكره و هو السيد سليمان الندوي, و الآخر لم يتقدم ذكره و هو الشيخ أحمد السركتي في أندنيسيا, فلما علما بغرضي دعاني كل واحد منهما أن أكون مدرسا في مدرسته و أملت أني أستطيع أن أدرس دراسة عالية في الهند أو في أندونيسيا و أحصل على شهادة أستطيع بها أن أروج علمي و آخذ حقي و أغزو المدارس العليا بدعوتي, فرجحت بقضاء و قدر من الله تعالى التوجه إلى الهند كان ذلك في أول سنة1349 فعينت رئيسا لأساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء, و بقيت فيها ثلاث سنين و نيفا ابذل كل جهد في تعليم أدب اللغة العربية من أول درس إلى آخر درس بدون استعمال لغة أخرى.
…و قد كتب المربي الجرماني(برلتس) في مقدمة كتبه في تعليم اللغات الحية كلاما موزونا مفيدا جدا أقتبس منه قليلا قال:( يجب على كل معلم للغة أن يعلم تلك اللغة بنفسها من أول درس إلى آخر درس و يمتنع من الترجمة امتناعا كليا, فإن تعلم لغة بلغة أخرى عقيم و فيه مفاسد:
…أولها: أن أكثر الوقت يمضي في استعمال لغة غير مقصودة بالذات فيشتغل اللسان و الفكر بشيء غير مقصود لذاته و ذلك تضييع للوقت.(1/246)
…و ثانيها: أن المتعلم بتوسط لغة أخرى يضطر إذا أراد أن يكتب أو يتكلم إلى التفكير باللغة المتوسطة ثم ينتقل منها إلى اللغة المقصودة و لنضرب لذلك مثلا: طالب عربي يريد أن يتعلم اللغة الانكليزية إذا علمناه اللغة الانكليزية بواسطة اللغة العربية و أراد أن يتكلم الانكليزية أو يكتب مقالا لا بد أن يفكر أولا بالعربية ثم ينتقل منها إلى اللغة الانكليزية فيجيء كلامه و إنشاؤه ركيكين خاليين من الفصاحة و حسن البيان.
…ثالثها: أن مدة تعليمه تطول لأن اللغة المقصودة بالذات لا تنال من وقته إلا القليل كما تقدم. و ضرب لذلك مثلا الأطفال الصغار كل طفل يتعلم لغة أمه بدون ترجمة مع ضعف إدراكه في مدة قصيرة فينطق بها بغاية الفصاحة و لا يشعر بأدنى تكلف. وهذا هو الأسلوب الصحيح لتعلم اللغات و هو تكرر السماع على أذني المتعلم يعقبه النطق الصحيح, و الكبير أحوج إلى هذا الأسلوب و أكثر انتفاعا به لكمل إدراكه و كم رأينا من رجل غريب حل بأرض قوم و هو لا يعرف من لغتهم شيئا و في بضع سنين صار فصيحا في لغتهم دون استعمال ترجمة.(1/247)
…و من نصائح العالم الجرماني برلتس لمن يريد أن يعلم الناس لغة أن يبدأ بالمرئيات فيأخذ الكتاب مثلا و يشير إليه و ينطق بلفظ (كتاب) فيسمعه المتعلم فينطق مثله و يكرر ذلك حتى يرسخ اسم الكتاب في ذهنه, ثم ينتقل إلى القلم و القرطاس و المسطرة و هكذا دواليك. أما في الأفعال فيقوم المعلم و ينطق بلفظ أقوم, و يجلس و ينطق بلفظ (أجلس) و يمشي و ينطق بلفظ (أمشي), و هكذا إلى أن يتعلم الطالب ما يكفي السؤال و الجواب فينتقل معه إلى طريقة السؤال و الجواب, و هي أحسن الطرق في تعليم اللغات و قد شاع هذا الأسلوب في هذا الزمان. استعملت هذا الأسلوب و لقيت صعوبة في أول الأمر لأني كنت أدرس كتب النهايات و بعد شهرين زالت الصعوبة و صار الطلبة يفهمون. وو كنت أعلم الإنشاء و الخطابة مرتين في الأسبوع في مقصورة واسعة معدة لإلقاء الخطب ففي ثلاث سنين و بضعة أشهر تخرج في الأدب العربي جماعة من الشباب أذكر منهم: مسعود عالم الندوي و أبا الحسن علي الندوي ـ و قد ذكرته من قبل ـ و محمد ناظم الندوي و أبا الليث شير محمد الندوي و هو رئيس الجماعة الإسلامية في الهند في الوقت الحاضر و صار هؤلاء و غيرهم كتابا و مؤلفين و خطباء و لم يعهد مثل ذلك في الهند, و قد بين ذلك تلميذي الأستاذ أبوا الحسن علي الندوي في مقالات نشرها. و لم يكن راتبي يزيد على مائتي روبية و لكنني كنت أحتسب عند الله من الأجر و الثواب في العاجل و الآجل ما يفوق القناطير من الذهب و الفضة. و اغتبط بذلك رئيس الندوة السيد سليمان الندوي و نائبه و ساعده الأيمن الطبيب الماهر الدكتور عبد العلي, و اقترح علي السيد سليمان أن أنشئ مجلة باللغة العربية ليتدرب فيها المتقدمون في العلم من الطلبة بكتابة المقالات فأنشأت مجلة (الضياء) و كان لها شأن عظيم لمدة من الزمن و الآن تصدر في الندوة حفيدتها (البعث الإسلامي) و هي أشهر عند قراء اللغة العربية من نار على علم.
(محنة)(1/248)
…كل قاصد لأمر عظيم لا بد له من امتحان فإذا صبر ظفر و انتصر و إذا زجع و مل خاب و انكسر, كان للندوة رجال من مشاهير العلماء و الأغنياء يدبرون شؤونها تحت رئاسة السيد سليمان الندوي, و اتفق أن أحد كبارهم و يسمى الشيخ الشرواني لقيني و كان يريد أن أخضع له كما يفعل معه غيري من الشباب فلم أخضع له بل سلمت عليه سلاما عاديا فاغتاظ و قال لي: لماذا تقص لحيتك؟ مع أني كنت أترك منها قبضة اليد كما جاء عن عبد الله بن عمر فقلت له: أقصها لأنها لحيتي و ليست لحيتك!! فقال: لا تأخذ منها شيئا لأن الطلبة يقتدون بك, فقلت له: أنا أستاذ الأدب العربي و هناك أستاذ الفقه و أستاذ الحديث و لهما لحيتان طويلتان فكيف يتركون الاقتداء بهما و يقتدون بي؟! فغضب و انصرف و كان ذلك من نزوات الشباب فعنل على إخراجي من الندوة, فانتظر إلى أن انعقد مجلس رجال الندوة( و لا أقول أعضاؤها لأنه محدث مقتبس من اللغات الأجنبية) فخطب فيهم الشيخ الشرواني و قال لهم: هذا الأستاذ العربي لا يعرف لغة أردو و لا يمكن أن يتمكن من تفهيم الطلبة مسائل العلم دون أن يشرحها لهم بلغتهم التي يفهمونها, فرد عليه السيد سليمان الندوي و الدكتور عبد العلي و بينا له شدة حاجة الطلبة إلى سماع علوم الأدب العربي باللغة العربية, فوقع خلاف بين شيوخ الندوة و أخذت الآراء فانتصر الشرواني.(1/249)
…فجاءني السيد سليمان الندوي و الدكتور عبد العلي متأسفين و معتذرين و قالا لي: لا شك عندنا أنك تريد بعملك في هذه المدرسة وجه الله تعالى بتعليم لغة القرآن, و قد قدر الشيخ الشرواني أن يقنع أكثر الشيوخ برأيه الباطل لجهلهم بشؤون التعليم فنرجوا من فضلك أن تمهلنا أربعة أشهر نجعل لك فيها سبعين روبية بنقص ثلاثين من الراتب و بعد أربعة أشهر نرجوا أن نفهم شيوخ الندوة مقدار الفائدة التي يجنيها الطلبة من علمك, فقبلت اقتراحهما و أسست مدرسة صغيرة في بيتي لتعليم التلاميذ الصغار اللغة العربية لأبين خطأ الشرواني الذي يزعم أن تعليم اللغة العربية بدون ترجمة لا يمكن, فاتفقت مع الدكتور عبد العلي و رجل من أشراف البلد كنا ندعوه منشى صاحب نسيت اسمه, فاخترنا عشرة من التلاميذ من صبيان المحلة لا يزيد عمر أحد منهم على أربع عشرة سنة و أخذت أعلمهم اللغة العربية بدون ترجمة طبعا, و بعد أربعة أشهر دعونا الأساتذة ليمتحنوهم فامتحنوهم في الإنشاء و الإملاء و التحدث بالعربية و القراءة فوجدوهم قد تعلموا في أربعة أشهر ما لم يتعلمه غيرهم من الطلبة الكبار في خمس عشرة سنة بالترجمة, فتعجب الحاضرون وازدادوا يقينا بصحة ما قلته لهم. ثم انعقد مجلس الندوة و كان الرئيسان المذكوران قد عملا في تلك المدة على تفهيم شيوخ الندوة و إقناعهم بأن اللغة العربية لا يمكن تعلمها تعلما ناجحا إلا باستعماله نفسها فأخذت الآراء فانهزم الشرواني و رجعت إلى الندوة.
مكرمة عربية(1/250)
…لما علم السري النبيل الشيخ مصطفى آل إبراهيم بهذه الحادثة بعث إلي بألف و مائتي روبية و قال لي: إني سمعت أن أهل الندوة عزلوك بعثت إليك بهذه الدراهم و أنا مستعد لتلبيتك في طلبك, و هذا المقدار الذي أهداه إلي هذا الرجل الكريم يساوي راتبي في الندوة لمدة سنة و كم له من مكارم. و هذه مكرمة أخرى نسيت أن أذكرها في موضعها, لما قضيت سنة في الدورة اجتمع عندي من المال ما يكفي للتزوج و المعيشة اسشرت العالم السلفي المحقق المتفنن في علوم كثيرة الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي نزيل الزبير بلدة قرب البصرة, استشرته و طلبته أن يساعدني على اختيار زوجة و لم أكن أعلم أن له بنتا بلغت سن الزواج, فلما أخبرت بذلك خطبت إليه ابنته فقال لي رحمه الله: أنا لا أجد لها أحدا أفضل منك و لكن أمرها يبدأ منها فأنا أكون واسطة بينكما, فقلت: إني مستعد لإرضائها فلتطلب من المهر ما شاءت فطلبت مهرا عاليا فأجبتها إلى طلبها.(1/251)
…و كان الشيخ مصطفى آل إبراهيم إذ ذاك في الهند فلما سمع بعزمي على الزواج بعث كتابا إلى وكيله الشيخ أحمد المشاري آل إبراهيم بارك الله في حياته يقول له: اجعل نفقات زواج الهلالي من السركار قال لي الشيخ أحمد: إن الشيخ مصطفى كتب إلي بكذا و كذا فكم تحتاج من النفقة؟ فقلت: لا أحتاج إلى سيء فقال: لا بد من تنفيذ ما طلب مني فأصررت على أني لا أريد شيئا فكتب لي متابا إلى الحاج أحمد الذكير بالبصرة يقول فيه: أي مقدار طلبه منك صاحب الكتاب فلان فأعطه إياه, و رافقني أحد عبيدهم و هو أبو مقبل فقال لي: إن الشيخ أحمد كتب إلى الذكير بكذا و كذا فكيف تمتنع من قبول هديتهم و أنت أستاذهم و نحن عبيدهم و خدامهم يزوجوننا من السركار؟! و أخذ يخاصمني طول الطريق من الدورة إلى البصرة و يقترح علي أن أطلب من الحاج حمد على الأقل ألفي روبية, و كان سعر الروبية في ذلك الزمان ثلاث عشرة روبية بجنيه انكليزي, فلما و صلنا إلى الحاج حمد الذكير قال لي: كم تريد فقلت: ألفا و خمسمئة, فلما علم ذلك الشيخ مصطفى بعث إلي من الهند حوالة قدرها سبعمائة روبية فصار المجموع ألفين و مائتي روبية فأسأل الله سبحانه أن يكرمه في الدنيا و الآخرة, و السبب في ذلك كله حركة إعراب و هي الفتحة في قوله تعالى:{ حمالة الحطب } لأنها كانت سبب التعارف ثم صارت بيننا رابطة توحيد الله و اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم.
رحلة إلى أفغانستان(1/252)
…و قعت في أفغانستان في ذلك الزمان حركة أمان الله خان, و أشيع أنه أراد تغيير أحكام الإسلام من جنس ما فعله مصطفى كمال في البلاد التركية فثار عليه الملك ناذر شاه و قضى على حركته و استولى على الملك, فتاقت نفسي إلى معفة أحوال المسلمين في تلك البلاد فتوجهت إلى سملة و هي عاصمة بلاد الهند الصيفية و حصلت على سمة دخول إلى أفغانستان من السفارة الأفغانية. و مدينة سملة مبان متفرقة في سفح أحد جبال هملايا و التجول فيها لا يمكن إلا بركوب الركش و هي عربة فيها مقعد واحد يجرها رجلان من أمام و يدفعها رجلان من خلف لأن الطريق جبلية ضيقة و لا يوجد في ذلك الجبل عدا ذلك إلا سكة الحديد و طريق واحد يمتد في وسط المدينة يمكن أن تسير فيه السيارة.(1/253)
…و كان الشيخ إسماعيل الغزنوي رحمه الله كتب لي توصية إلى إمام المسجد, و بعد مشقة و صلت إلى المسجد فأعطاني قيم المسجد غرفة مفروشة حين أخبرته أنني جئت إلى الإمام بوصية, و كان الوقت بعد صلاة الظهر و كنت جائعا فخرجت من المسجد فرأيت بيتا كالدكان فيه رجل يطالع كتابا له لحية طويلة سوداء, فتوسمت أن يكون مسلما فسلمت عليه فرد علي أحسن رد و قلت له: إني جائع أريد طعاما فدلني على مطعم قريب فطوى كتابه و قام و سد الدكان و قال: اتبعني فصعد في الجبل في طريق للجبال ملتو يسمى في جبال نمسا بالطريق الحنشي لأنه يشبه الحنش, حتى وصلنا إلى بيت فدخل و أذن لي في الدخول ثم فتح مقصورة و أمرني بالجلوس فجلست و غاب عني قليلا و أنا أتعجب لأن هذا المكان ليس بمطعم قطعا فجاءني بطعام كثير فأكلت ثم جاء بالحلوى ثم قال لي: هذا بيتي أرجو أن يكون هذا الطعام قد وافقك و كان كلامه كله بالعربية, ثم سألني من أنت؟ فقلت له: أنا محمد تقي الدسن الهلالي أستاذ اللغة العربية بندوة العلماء فعانقني و قبل رأسي و قال لي: هذا يوم مبارك سعيد, فنادى ابنه و هو شاب في سن العشرين و قال له: إن الله أكرمنا في هذا اليوم بكرامة عظيمة هذا الأستاذ تقي الدين الهلالي مؤسس مجلة الضياء الذي نقرأ مقالاته و نحن في شوق إلى لقائه قد جاءنا و شرف بيتنا فعانقني ابنه و بالغا كلاهما في الترحيب, منة سوء الحظ نسيت اسم هذا الرجل و كنت أذكر اسمه إلى وقت قريب ثم ذهبنا إلى المسجد و التقينا بالإمام الذي جئت بتوصية إليه فقرأها و تنافس الرجلان في ضيافتي و إكرامي. فبقيت في ضيافتهما ثلاثة أيام قضيت في أثنائها الوطر الذي سافرت إلى سلمة من أجله و هو طلب سمة الدخول إلى أفغانستان من السفارة الأفغانية, إلا أن رجال السفارة مع إكرمهم لي اعتذروا لي بأن النظام المتبع يقتضي أن تبعث رسالة برقية إلى وزارة الخارجية في كابل فإذا جاء الإذن منها يمكن إعطاء سمة الدخول. قال لي أحد(1/254)
رجال السفارة: أيمكنك أن تدفع ثمن البرقية؟ فقلت: نعم. فقال لي: سأحاول أن أجعلها رخيصة الثمن لأن العادة تقضي أن نكتبها باللغة الفارسية لكن بحروف انكليزية و القانون يقضي على مكتب البريد أن يعد كل خمسة عشر حرفا كلمة واحدة و لذلك سأجمع لهم في كل كلمة عدة كلمات فشكرته على ذلك. فلم يبطئ الجواب و جاء بالقبول فتوجهة من سملة إلى لاهور و منها إلى بشاور. و بقي علي أمران أحدهما طلب الإذن بالدخول إلى أفغانستان من السفارة الفرنسية و أقرب سفارة فرنسية إلى بشاور هي بومباي و المسافة بين بشاور و بومباي خمس و ثلاثون ساعة في القطار ذهابا و مثلها إيابا و في ذلك من النفقة و التعب ما لا يخفى, و كان عندي جواز مغربي فرنسي آخر بلد مذكور فيه (فارس) و تسمى بالفرنسية(لابرس) و قواعد اللغة الأوروبية كالفرنسية و النكليزية و الجرمانية و الاسبانية تقضي في المتعاطفات أن لا يذكر حرف العطف إلا في آخرها فإذا أرادوا مثلا أن يقولوا جاء زيد و عمرو و بكر و خالد يقولون: جاء زيد عمرو بكر وخالد, و من تفطن إلى لغة القردة من كتاب العرب و مذيعيهم يجدهم يستعملون هذه القاعدة في اللغة العربية ففكرت للمرة الأولى و الأخيرة في التصرف في جواز السفربزيادة لفظة أفغانستان فجربت ألوانا من الحبر حتى وجدت حبرا مشابها للحبر الذي كتبت به أسماء البلدان المأذون في دخولها في جواز سفري و كان جواز سفري قد بلغ بكثرة الإضافات خمسين صفحة يتحير فيه كل من رآه حتى أرشده أنا إلى ما يريده فلما وجدت الحبر المناسب عمدت إلى حرف العطف الذي قبل فارس فكشطته بسكين حادة ثم كتبت مثله و بعده كلمة أفغانستان, و هذه مخاطرة عظيمة و لا سيما في مدينة بشاور لأنها آخر مدينة في حدود المستعمرة البريطانية العظمى التي كانت تسمى الهند الانكليزية و فيها من الشرطة السرية و العلنية و مراقبة المسافرين ما يوجد عادة في البلاد التي على الحدود فلا بد أن أدخل امتحانا عظيما حين(1/255)
أقدم جوازي لرجال الأمن لأنهم يفحصونه فحصا دقيقا و إذا اطلعوا على التزوير يبالغون في عقابي. و كنت قد نزلت ضيفا مكرما عند الشيخ عبد العزيز الندوي البشاوري و كان من كبار التجار من العلماء. فبيقت عنده أسبوعا, و من خصائص هذه المدينة أن أهلها لهم صهاريج كبيرة يملأونها ثلجا في وقت الشتاء و في وقت الصيف يأخذون منه كل يوم ما يبردون به مشروباتهم, و أظن أني رأيت مثل ذلك في مدينة كركوك و أربل في شمال العراق, و كتب لي توصية لابن عمه في كابل و هو تاجر كبير اسمه إلهي بخش.
…ثم دخلت الامتحان و هو تقدديم جواز سفري لرجال الأمن ليرخصوا لي في الخروج من الهند إلى أفغانستان و كنت خائفا جدا أن يكتشفوا التزوير فأعماهم الله عنه و رخصوا لي في الخروج من الهند. وقبل أن أخرج من بشاور أخبر القارئ أن سكانها افغانيون يتكلمون بأرع لغات لغتهم الخاصة و لغة أردو و لغة بشتو و هي الأفغانية و اللغة الفارسية و هي لغة حكومة أفغانستان الرسمية و العلمية, و لغة بشاور قريبة من لغات بنجاب!(1/256)
…و يختلف الأفغانيون عن أهل الهند ببياض ألوانهم و قوة أجسامهم و كثرة أكلهم بالنسبة إلى أهل الهند. ركبت سيارة البريد و توجهت إلى كابل و لما وصلتها أخذة عربية إلى بيت إلهي بخش فوصلت إلى بيته و ناولته الكتاب فقال لي بلغة أردو: بأي لغة تتكلم؟ فقلت له: بالعربية فقال لي: بالعربية فقط؟ فقلت: نعم ثم قلت له: إن العربية لغة القرىن و لغة الرسول صلى الله عليه و سلم ف6يجب على كل مسلم أن يتعمها فقال: (مشكل) و هذه الكلمة تستعمل في لغة أردو بمعناها العربي, ثم قال لي: أدخل فدخلت و صعدت معه الدرج إلى الططبقة الأولى بناء على اصطلاح الأوربيين فإنهم لا يعدون الطبقة الأرضية, فوجدت فيها مكتبه التجاري و غرفا أخرى فجاءني بالشاي الأخضر, لأن أهل أفغانستان يشربون الشاي الأخضر كالمغاربة و جاء بالخبز فملأ كأسي و حلاها بالسكر و أكلت معها شيئا من الخبز ثم صب لي الكأس الثاني إلى نصفها و لم يملأها و لا وضع فيها سكرا! فقلت له: ضع فيها السكر فقال لي: إنها الكأس الثانية فقلت له: و هل الكأس الثانية تشرب مرة؟ فقال: نعم هذه عادتنا نحن لا نحلي إلا الكأس الأولى و ما زاد عليها نجعله إلى النصف مرا فقلت:{وقل رب زدني علما}. ثم صعد بي إلى الطبقة الثانية و أدخلني غرفة مفتوحة للسطح و فيها فراش فقال لي: اجلس هنا و أنا أرجع إلى أشغالي التجارية و سأعود إليك بعد صلاة الظهر, فأخرجت القرطاس و القلم و كتبت إلى الشيخ عبد العزيز الندوي كتابا قلت له فيه: إن ابن عمك إلهي بخش لم يكرمني و لم يتلقني ببشاشة فبدل أن يرحب بي قال لي (مشكل) و سأنتقب من بيته إلى (مسافر خان) أي بيت المسافر و هو بمنزلة الفندق في أقرب فرصة و وضعت الكتاب في غلاف و كتبت عليه العنوان باللغة الانكليزية فلما جاء بعد صلاة الظهر رأى ذلك الكتاب موضوعا إلى جانبي فقال لي: من كتب هذا؟ فقلت: أنا. فقال: تعرف اللغة الانكليزية؟ فقلت: نعم فتهلل وجهه و ظهرت عليه علامات الفرح و(1/257)
أخذ يتكلم معي بالانكليزية قال لي: لما سألتك ماذا تعرف من اللغات قلت: لا أعرف إلا العربية فلماذا لم تخبرني بأنك تعرف اللغة الانكليزية؟ فقلت لم يخطر ببالي أنك تعرفها لأن هيئتك بهذه اللحية الطويلة و الثياب الأفغانية لا تدل على ذلك فقال لي: بلى أنا سافرت إلى البلاد البريطانية مرارا لجلب البضائع و استمر على تلك البشاشة مدة إقامتي في كابل و هي خمسون يوما, و بلغ به الحرص على إكرامي إلى أننا حين زرنا وزير الخارجية فضل محمد لنأخذ منه الإقامة, دعاني الوزير إلى أن أكون ضيفا على الحكومة فجزع إلهي بخش و قال له: أنا خادم الحكومة, و أنا أنوب عنها فأرجو أن تسمحوا ببقائه عندي فقال: لا بأس.(1/258)
…ثم زرت العلماء و هم الشيخ سيف الرحمن الأفغاني و الشيخ منصور الهندي و شيخ الطريقة الشيخ المجددي, و الطريقة المجددية في البلاد الأفغانية هي أعظم الطرائق انتشارا و تليها الطرقة القادرية. و أهل افغانستان كلهم إلا المتفرنجين متمسكون بطرائق المتصوفة و شيوخ الطرائق كثير عددهم. كنت جالسا في مكتب إلهي بخش فجاء رجل يتبعه ستة نفر و يعظمونه غاية التعظيم فجلس و شرب الشاي ثم أعطاه إلهي بخش شيئا من الدراهم و انصرف و تبعه عبيده فقال لي الشيخ إلهي بخش: أتدري من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا شيخ طريقة. و من هم أولئك النفر الذين يتبعونه؟ فقال لي: هم كل ما عنده من المريدين و قد فرض عليهم أن يخصصوا يوما في الأسبوع لخدمته من الصبح إلى المساء يطوفون معه على التجار لجمع الصدقات فتعجبت من ذلك فقال لي: لا تعجب فإن هذا شيخ محظوظ لأنه حصل على ستة مريدين و هناك شيوخ ليس لهم و لو مريد واحد و هم يبحثون عمن يكون مريدا لهم فلا يجدون, فيأتي أحدهم مثلا إلى الرجل فيقول له: أريد أن تجعل لي بعض أولادك يكون مريدا لي فيقول: كل أولادي يتبعون شيوخا آخرين فيقول: أعطني من سيولد لك!! فيقول: قد وعدت بهم شيخا آخر, فإذا ظفر برجل يعده بأنه إذا ولد له ولد يكون مريدا له ينتظره إلى أن يولد و يكبر فيتخذه مريدا.(1/259)
…أما الطريقتان المجددية و القادرية فهما غنيتان عن مثل هذا العمل. و رأيت الشيخ المجددي و أنا عنده يأتيه الشخص و سذكر له أن عنده مريضا فيأخذ عودة من وعاء مملوءبالعوذ و يناولها إياه و يأخذ منه دريهمات. و هذا الشيخ المجددي يعظمه جميع الناس و يقبلون يده حتى الملك ناذر شاهو و قد عرض عليه أن يكون وزيرا للعدل فامتنع من ذلك لأنه يحط من قدره إذ يحتاج إلى أن يقف مع الوزراء في المحافل الرسمية, ثم قبله على أن ينيب عن صهره في الاشتراك في المحافل و لا يباشر هو بنفسه عنل الوزارة. و قد رحب بي هؤلاء الشيوخ و فرحوا بمقدمي و أجمعوا على أنه لا بد أن أنزل في ضيافة الحكومة, فكلموا وزير الخارجية فقال لهم: لقد دعوته إلى ذلك من قبل فلم يقبل أبو مثواه, فحتموا علي أن أنزل في دار الضيافة فنزلت فيها و هي في الفدق الفخم المسمى هوتيل ذي كابل خارج المدينة, و نزال هذا الفندق بين أوربي و أمريكي أو متفرنج يتزيا بزيهم, و بين الفندق و وسط المدينة نصف ساعة لراكب العربة فشق علي أن أقيم في ذلك الفندق للأسباب التي ذكرتها, أضف إلى ذلك أن أجرة اليوم الواحد في ذلك الفندق سة عشرة روبية أفغانية و أنا أستطيع أن أعيش بروبية واحدة في كل يوم فإن الأطعمة و الفواكه كثيرة ورخيصة فلماذا أتحمل تلك المنة؟!
…فبقيت ثلاثة أيام ثم قلت لأولئك العلماء: أنا جئت من الهند لزيارتكم و التحدث معكم و قد أبعدتموني عنكم بهذه الضيافة التي حتمتم علي فقال لي: نحن أردنا إكرامك فإن كان الأمر كذلك فاذهب إلى وزير الخارجية و اعتذر له بمثل ما ذكرت لنا, و كان الوزير قد عين لي شهرا كاملا في الضيافة فذهبت إليه فأعفاني من ذلك و رجعت إلى بيت إلهي بخش.
الشيخ عمر أوزبك(1/260)
…من فوائد هذه الرحلة أني لقية العالم الأمير المجاهد عمر أوزبك و هو عالم من خيرة علماء أوزبكستان من الأتراك المسلمين القاطنين بالاتحاد السوفييتي, حارب الاستعمار الروسي اثنتي عشرة سنة كما أخبرني هو بنفسه بذلك رحمة الله عليه و قص لي قصته, و هي باختصار لما وصل الزحف الشيوعي إلى بلاده نادى في الناس بالجهاد فتبعه تلاميذه و كثير من المؤمنين و خرجوا إلى الجبال و أخذوا يغيرون على العدو المغير على بلادهم ليسلبهم أثمن شيء عندهم و هو الدين, فما زالوا يحاربون مدة اثنتي عشرة سنة حتى قتل أكثرهم و ضاقت عليهم المعيشة ففروا إلى الحدود الأفغانية فقبض عليهم الأفغانيون, و كان مع الشيخ أهله و ثلاثمائة من خير أنصاره ثم عرفت الدولة الأفغانية فضل هذا الشيخ و علمه و صلاحه فأطلقت سراحه و أعطته مبنى كبيرا سكن فيه و جعل بعضه مدرسة و مسجدا ففرحت كثيرا بلقاء هذا الشيخ لأن نور الإيمان كان يشرق على وجهه كما قال تعالى:{سيماهم على وجوههم}الفتح:29.
الكلام بالعربية
…كنت أزور هذا الشيخ مرة بعد أخرى فجاءني يوما رجل و قال لي: إن زوجة الشيخ تسلم عليك و تقول: إنها علمت أن الشيخ فرح بقدومك و أجلك في ترجوا أن تشفع لها و لأولادها عنده أن يتكم معهم بلغتهم و لو ساعة في كل يوم, فقلت في نفسي: هذه معضلة! ثم ذهبت إليه و شفعت عنده فقال لي: إن الروسيين أجبرونا على تعلم لغتهم فتعلمناها, و أتقناها, و لو لا أنهم علموا أن تعلم لغة القوم يقرب المتعلم منهم لما أجبرونا على تعلم لغتهم فأنا لا أتكلم مع المسلمين الأقربين و الأبعدين إلا بلغة القرآن و الرسول صلى الله عليه و سلم فإن شاءت هي و أولادها أن أتحدث معهم فليتعلموا لغة القرآن و الرسول و أنا مستعد لتعليمهم إياها. و كان هذا الشيخ الجليل يتقن ثلاث لغات التركية و هي لغته و الفارسية و الروسية, كتابة و قراءة و تحدثا و تأليفا و كان رحمه الله صادقا فيما ذكر.
زيارة الملك(1/261)
…في تلك الأيام جيء بجنازة محمد عزيز خان أخي الملك ناذر شاه قتل في جرمانية و كان سفيرا لأخيه في برلين, فوجهت أم الملك السابق أماني الله خان طالبا أفغانيا انتقاما لابنها فقتله, و كان وزير الخارجية فضل محمد قد عرض علي مرتين زيارة الملك فدعوت للملك بخير و قلت لا حاجة لي عند الملك و إنما جئت للقاء العلماء فإن كان واجب الضيفاة يقضي علي بزيارته فأنا مستعد لها, فلما جاءت جنازت أخيه رأى العالمان الجليلان سيف الرحمن و الشيخ منصور أنه لا بد من زيارته و تعزيته فذهبت معهما و عزيناه فتلقانا بما ينبغي للعلماء من الإجلال و جلسنا في مكان غير بعيد من مجلسه. و كان المجلس يضم جميع الوزراء و الأعيان و سفرا الدول كلهم فكانت الوفود من القبائل و المدن تأتي لتعزيته فلا يكاد الوفد الواحد يحصل على أكثر من خمس دقائق لكثرة الوفود و ضيق الوقت المحدد, و كان كل وفد يقدم أمامه قارئ القرآن فيقرأ آية واحدة ثم يعزونه بالفارسية و ينصرفون ليتقدم وفد آخر, و لما تكلم الملك بالفارسية فهمت تقريبا كل ما قال و في السوق إذا سمعت كلام أصحاب الدكاكين لا أفهم ما يقولون إلا قليلا, و سبب ذلك أن المتكلمين باللغة الفارسية في تلك البلاد مختلفون فكلما ازداد أحدهم علوا في الثقافة و الأدب الفارسي يكثر من إدراج المفردات و الجمل العربية في كلامه فلا يبقى إلا الضمائر و بعض الأفعال التي تختم بها الجمل, و بينما نحن كذلك جاء الشيخ عمر أوزبك و لم يصحبه أحد مع أن تلامذته يعدون بالمئات كما تقدم و أظن أنه فعل ذلك تواضعا و وقف أمام الملك فتعوذ و بسمل بصوت عال و بدأ بسورة طه حتى وصل إلى قوله تعالى{إن في ذلك لآيات لأولي النها}طه:54. و ذلك ربع هذه السورة و كانت قراءته في غاية الترتيل و لم يجرأ أحد أن يقول له: قد أطلت و أخذت أكثر من حقك من الوقت فاختم, ثم عزاه بالعربية الفصحى و انصرف.
لماذا لم أحرص على زيارة الملك(1/262)
…لم أحرص عليها لأن القوم اعتادوا أن لا ييئهم أحد من العرب إلا طالبا في رفدهم فتوكلت على الله, و قلت في نفسي: لأقيمن لهم البرهان على أن العرب ليوا كلهم مستججدين لا سيما و قد علمت من أستاذ اللغة العربية و هو مصري ـ نسيت اسمه لسوء الحظ ـ أنه في تلك السنة زار أفغانستان رجلان ممن ينتمون إلى العلم و الأدب أحدهما عراقي و الآخر شامي (و لا أقول سوري لأنه معرب سرياني كما أن سوريا معناه بلاد السريانيين و العرب لا تعرف بين العراق و مصر إلا الشام كما قال شاعرها:
……أزمان سلمى لا يرى مثلها……الراؤون في شام و لا في عراق(1/263)
…أما العراقي فحكى لي عنه أمورا قبيحة منها أن عندما أراد التوجه إلى أفغانستان ذهب إلى سفيرها الأستاذ المجدديفي جدة فسأله توصية إلى الحكومة لتضيفه و تكرمه فكتب له ما أراد, فلما وصل لم يستقبله وزير الخارجية و لا رجال الضيافة بما كان يؤمل من الحفاوة و زاد في الطين بلة و في الطنبور نغمة أنه طلب لقاء الملك فلم يروه أهلا لذلك إلا أنهم أنزلوه في دار الضيافة و لما أراد السفر سألوه: ما هي وجهتك؟ فقال: بغداد فقالوا: بأي طريقين فقال: إيران. فقدموا له من المال ما يكفي نفقات سفره في الدرجة الأولى و ظن أن ذلك المال جائزة فاستصغرها و أطلق لسانه في الفندق بسب الحكومة و الطعن فيها, فبلغ ذلك وزير الخارجية فدعاه و قال له: بلغنا أنك تسبنا على رؤوس الأشهاد فما ذنبنا؟ فقال: أنا صحفي كبير مرتبط مع صحيفة واسعة الانتشار و لم تسهلوا لي لقاء الملك ثم أعطيتموني جائزة حقيرة, فقال له الوزير: لولا أن الناس رأوك في ضيافتنا لأمرت بسجنك ثم إخراجك من البلاد على حالة لا تسرك, و لو علمنا أنك هكذا ما استقبلناك و لا أنزلنك في دار الضيافة و النقود التي أعطيناك ليست جائزة كما توهمت و لا ثمنا لدعاية تعملها لنا في الصحيفة التي تذكر أنك مراسلها فلا حاجة لن بدعايتك, و لكن من عادتنا أن كل ضيف ننزله في دار ضيافتنا إذا أراد الرحيل قدمنا له زادا يوصله في الدرجة الأولى إلى البلد الذي جاء منه و قد سألتك عن وجهتك و طريق سفرك و إلى أين تسافر فأخبرتني فقدمنا إليك مقدار ما يكفي لسفرك في الدرجة الأولى, فقال: عدلت عن السفر بطريق إيران و أريد أن أسافر بطريق البحر و هذا لا يكفيني فقال له الوزير: فهلا جئتني و أخبرتني بذلك فأزيدك في مقدار الدراهم دون أن تطلق لسانالسوء في فندق مشحون بالأجانب من أجناس مختلفة.(1/264)
…و خبرني الأستاذ المصري بأمر هو أخبث من ذلك فقال: قال لي ذلك العراقي: هل تريد أن تسافر إلى مصر بطريق العراق؟ قال: قلت: نعم, قال: فقال لي: إذا وصلت إلى بغداد فزرني فإن لي أختا جميلة أقدمها لك لترافقك,(قال مؤلف هذا الكتاب: و وجود هذا الرجل في العراق لا يضير العراقيين و لا ينقص من قدرهم فهم أهل الشجاعة و الكرم و الإيباء و شرف النفس و لا يوجد في الدنيا شعب كلهم خيار, فهذا من شذاذ و قد سجنه العراقيون سنين و نبذوه فها على وجهه), أما العالم الشامي فلم يفعل شيئا من مثل ذلك إلا أنه جاءهم بقصد الاستجداء و قبل ماقدموه له من المال و لم يتعفف عنه و لذلك صممت أن لا أقبل منهم شيئا.
المرض بالحمى النافض
…كانت مدينة كابل في ذلك الزمان و هو سنة 1352هـ غير نظيفة و لا مبلطة الشوارع و كانت المياه القدرة تجري في وسط المدينة في قنوات مكشوفة و تنبعث منها رائحة كريهة, فبعد إقامتي فيها نحو شهر أصابتني الحمى النافض التي تسمى في هذا الزمان ملاريا, و كنت في دار إلهي بخش و لا أستطيع أن أتفاهم مع خدامه و أخذني إلى طبيب متخرج في لندن فأعطاني دواء فلم ينفعني, و كان يتردد علي لطلب علم الأدب العربي الشيخ محمد عمر الأفغاني و كان قد درس في بلاد الشام و تزوج بامرأة شامية و له منها ولد عمره اثنتا عشرة سنة و كان قد اقترح علي أن أنتقل إلى منزله ليخدمني هو و أهل فأبى إلهي بخش, فلما مرضت و عجزت حتى عن تناول الماء للشرب استأذنت أبا مثواي في الانتقال إلى بيت محمد عمر فأذن لي فأقمت في بيته مدة تقارب عشرين يوما و كان إلهي بخش لا ينقطع عن زيارتي, و مما قاله لي ذات يوم: نحن ما رأينا في العرب من عفيف النفس يحافظ على شرفه مثلك فقلت له: إن في العرب من أهل الفضل و الشرف و العفاف الجم الغفير و لو أنك ذهبت إلى بلادهم لرأيت إباءهم و كرمهم و علو همتهم, و لا يأتيكم هنا منهم إلا قليل جدا من ذوي الحاجات.(1/265)
…و كانت الحمى تأتيني يوما وتتركني يوما, و في اليوم الذي تأتيني فيه تبدأ قبل الزوال بساعة فلا يأتي وقت العصر إلا وقد فقدت إدراكي و بدأت أهذي هذيانا, و كان محمد عمر و أهل بيته يعتنون بي اشد العناية بحيث لو كنت في بيتي لما لقيت أكثر من ذلك فجزاهم الله خيرا و أكرمهم في الدنيا و الآخرة, و كانت لغتهم هي العربية فلا أحتاج إلى كلفة فيما أريد و لم تكن تفارقني الحمى إلا بعد منتصف الليل, و كنت في ذلك الزمان أعتقد أن جمع التقديم للمسافر لا يجوز و إنما يجوز جمع التأخير فكنت أوخر صلاة الظهر إلى أول وقت صلاة العصر فلا يكون عندي من الإدراك ما أضبط به الصلاة, فكنت أشرع في الصلاة مضطجعا بالفكر وحده فتأخذني غمرة من الإغماء ثم أفيق ثم أشرع في الصلاة مرة أخرى ثم يأخذني الإغماء ثم أشرع فيها مرة ثالثة فلا أكاد أتمها إلا في الثالثة أو الرابعة, و لو كنت في ذلك الوقت آخذ بالرخصة كما آخذ بها الآن لصليت الظهر و العصر جمعا في أول وقت الظهر قبل أن يختل عقلي و كانت تلك الحمى تبلغ من الشدة إلى حد أنني حين أبول أصيح من شدة حر البول, فلم يمل محمد عمر و لم يكل.
علاج غريب(1/266)
…كنت في زمان الجهل أكتب للمحموم في قشرة لوز ( فرعو) و في أخرى (قارون) و في أخرى (هامان) كلهم في النار, فآمر المحموم أن يتبخر بالقشرات الثلاث في كل يوم حين تجيئه الحمى فقلت في نفسي و قد ضعف عقلي و جسمي: دعني أجرب هذا العلاج, ثم قلت: ليس عندي دليل شرعي على أن هذا يجوز و لكن غلبني الضعف و قلت لمحمد عمر: ائتني بشيء من اللوز لأكتب على قشوره فلم يجد شيئا فقلت له: أكتب على قطع من القرطاس بدلا من قشور اللوز ما تقدم ذكره فكتب ذلك, و لما جاءتني الحمى و بدأ غليانها يشتد تبخرت بتلك القطع فخفت عني الحمى إلى حد أني لم أفقد عقلي في ذلك, و صليت الظهر و العصر و قلت لمحمد عمر: ينبغي أن أرجع إلى الهند. فقال لي: أنت ضعيف جدا لا تستطيع السفر فقلت له: اطلب من مدير المدرسة رخصة ثلاثة أيام لتصحبني إلى حدود الهند فإن مت في الطريق فغسلني و صل علي و ادفني و إن وصلت إلى الحدود فارجع راشدا, فطلب الإجازة و حصل عليها.(1/267)
…و في ذلك اليوم جاءني إلهي بخش فقلت له: سلم لي على وزير الخارجية فضل محمد و قل له: إني أشكره و أشكر جلالة الملك ورئيس الوزارة على إكرامهم و استأذن في السفر, فرجع إلي في اليوم الثاني الذي لا تجيئني فيه الحمى و وجد رجلين من المدينة النبوية عند محمد عمر فسألني عن الحال و بلغني سلام وزير الخارجية و قال لي: أكتب عليها بالانكليزية أنك تسلمت خمسمائة روبية أمر لك بها رئيس الوزارة على ما جرت به العادة من تقديم الزاد لكل ضيف ينزل في ضيافة الحكومة بقد ما يوصله إلى البلد الذي يقصده, و قد أخبرته أنك تريد الرجوع إلى لكناو و هذا المقدار هو أجرة السفر إلى لكناو و في الدرجة الأولى, فكتبت على تلك الصحيفة بالانكليزية إني أشكر جلالة الملك و ماعلي رئيس الوزراء, و معالي وزير الخارجية, و أعتذر عن قبول هذه الهدية لأني كما أخبرت معالي الوزير في البرقية قبل دخول أفغانستان و أخبرته مرارا مشافهة أن غرضي من زيارة أفغانستان زيارةالعلماء والاطلاع على أحوال المسلمين و لا حاجة لي بذلك المال, فقرأه إلهي بخش و قال: الحمد لله هذا الذي كتبت كنت أتوقعه و أخبرت الوزير به و أنا خائف أن أكون مخطئا فإني قلت له: غالب ظني أن محمدا تقي الدين الهلالي لا يقبل هذه الدراهم و قد صدق ظني.
…ففهم الرجلان المدنيان أن رفضت قبول ذلك المال, فلما انصرف إلهي بخش أظهرا غضبهما و قالا لي: يا شيخ إيش سويت؟ ما تخاف الله نحن جئنا من المدينة إلى هنا و قطعنا بحورا و برا و نحن محتاجتن إلى روبية واحدة و هذا مال حكومة فإن كنت مستغنيا عنه فهلا قبلته و قدمته لنا و يكون لك عند الله أجر عظيم, و أغلظا علي في القول حتى اتهماني بالنفاق فأنكر ذلك عليهما محمد عمر فقلت له: دعهما فإن الحاجة أنطقتهما بذلك و شرحت لهما قصة العراقي و الشامي فأصروا على أن عملي كان خطأ فقلت لهما: هذا هو اجتهادي.
حال المسلمين في أفغانستان في ذلك الزمان(1/268)
…كان أمان خان الملك السابق قد أجبر النساء على السفور و لبس الثياب التي لا تستر عورة المرأة إلا الوجه و الكفين, و أجبر الرجال حتى قاضي كابل و عمره ثمانون سنة أن يلبسوا الثياب الأووربية الضيقة و كان يشجع الفتيات على حضور الحفلات شبه عاريات, فلما انتصر عليه الملك ناذر شاه رجعت النساء إلى حجابهن و منعن من الخروج إلا لحاجة مع التستر التام, و لكن كانوا غالين في التمسك بفروع المذهب الحنفي فكانوا يؤخرون العصر إلى قرب الاصفرار و لا يقبلون من مسلم أن يكون له مذهب غبر حنفي, حتى أني لما كنت مسافرا من بشاور إلى كابل و صار وقت الظهر و وقفت السيارة فنزلت و توضأت و توضأ بعض المسافرين و جاؤوا ليصلوا معي فلما رأوني رفعت يدي عند الركوع قطعوا صلاتهم و صلى كل واحد وحده.
…و مرة سافرت في سيارة من لاهور إلى بشاور فلما جاء وقت الصلاة توضأت و صليت معهم مأموما, فلما رأوني أرفع يدي عند الركوع و عند الرفع منه و عند القيام من التشهد الأول أخذوا يتكلمون مع الإمام غضابا باللغة الأفغانية و طال خصامهم معه حتى بعد ما ركبنا في السيارة, فلما انتهت الخصومة التفت إلي و قال بالعربية: أتعرف لماذا كان هؤلاء يخاصمونني؟ قلت: لا. قال: لأنك رفعت يديك في الصلاة ظنوا أنك من الفرق الضالة فبينت لهم أن الحق ليس منحصرا في المذهب الحنفي و حده و أن أئمة أهل السنة كل واحد منهم روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أحاديث صحت عنده فعمل بها و عمل بها أتباعه.(1/269)
…و كان ذلك الإمام من جماعة مولاي إلياس و هي جماعة مشهورة في الهند عندها شيء من التصوف يطوف رجال هذه الجماعة في جميع أرجاء الهند و في أوروبا و أمريكا و في أفريقية و كانوا يزورون المغرب في كل سنة يدعون الناس إلى قول لا إله إلا الله و المحافظة على الصلاة و هم موجودون هنا في المدينة أيضا, و من عادتهم أنهم لا يقبلون من أحد من أهل البلدان شيئا لا مالا و لا طعاما إلا إذا تحققوا أن من قدم لهم ذلك الطعام من أهل العلم و الصلاح و إخلاص النية لله و كان يخرج معهم بعض أصحابنا السلفيين إلى القرى و البوادي للدعوة, و الذي أخذت عليهم هو الالتزام الشديد لفروع الحنفية فلا يكادون يعملون بالأحاديث الصحيحة إذا خالفت فروع الحنفية, و هناك شيء آخر أقبح من ذلك و ذلك أنهم يصلون في المساجد المبنية على القبورالتي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله و لا ينكرون على عبادها, و حضرت مجالسهم في بشاور يجتمعون كل يوم جمعة بعد العصر في بيت أحدهم, و ما عندهم لا رقص و لا غناء و لا ذكر مشتمل على بدعة, يقرأ كل واحد منهم ما تيسر من القرآن في المصحف ثم يترجمها إلى لغة يفهمها الحاضرون إما لغة أردو أو الفارسية أو الانكليزية, و أنا لا أمنع أصحابنا من مرافقتهم إلا أنني أحذرهم من الصلاة في المساجد المبنية على القبور و آمرهم بإنكار الشرك و البدعة كلما رأو شيئا من ذلك بقدر جهدهم.
…و لم أر في أفغانستان منكرات ظاهرة كتبرج النساء و شرب الخمور, و نسيت أن أقول: إنني لما قطع أولئك الأفغانيون صلاتهم خلفي لمتهم على ذلك فقال لي رجل من الذين لم يصلوا: لا تعبأ بهؤلاء فإنهم لا صلاة لهم لأنهم (سود خور) يعني أكلة الربا.
بوزدوجخ(1/270)
…ذكرت فيما مضى أني لم أر في أفغاستان منكرات ظاهرة و ذلك يدل على أنهم كانوا متمسكين بالدين على قدر مبلغهم من العلم و لكن كان هناك متفرنجون قليل عددهم عظيم كفرهم و كانوا مستائين من انتصار الملك ناذر شاه و قضائه على دعوة أمان الله خان التي تشبه الدعوة الكمالية و من هؤلاء نائب وزير التعليم و كان الأفغانيون يسمونه بوزدوزخ, و معناه بالفارسية تيس جهنم, أخبرني الشيخ إسماعيل الغزنوي رحمة الله عليه أنه زاره في مكتبه فرأى صورة لينين معلقة فوق رأسه فقال له: كيف تعلق هذه الصورة و أنت تعرف أن صاحبها عدو للدين؟ فأجابه بقوله: إني أعبد هذا الرجل.
عودة إلى السفر(1/271)
align:justify;text-justify:kashida; text-kashida:0%'>…خرجت مسافرا من كابل يصاحبني الصديق المخلص محمد عمر في اليوم الذي لا تأتيني فيه الحمى على أنها بعد ذلك العلاج الغريب صارت لا تأتيني إلا خفيفة جدا. ركبنا في سيارة البريد فسلرت بنا ساعة واحدة, فأحسست بالجوع و لم أحس به منذ أن أصابتني الحمى إلا في تلك اساعة فقلت: يا محمد عمر أنا جائع فقال: هذه علامة خير أنا ماجئت بطعام لعلمي أنك لا تأكل و ما عندي إلا شيء من الخبز و المشمش, و المشمش في كابل مطعم بالخوخ كبير الحجم لذيذ الطعم, (و التطعيم هو أن ي}خذ غصن من شجرة فيحفر له في ساق شجرة أخرى غار و يدخل بعض الغصن في ذلك الغار ثم يسد فتتغير ثمرة الشجرة و تصير ممتزجة مع ثمرة الشجرة التي أخذ منها الغصن فيتألف منها حجم جديد و طعم جديد). فأخرج لي ما عنده من الخبز و المشمش فأكلته كله و لم أشبع و مررت على مطعم فيه قدور كبيرة مملوءة باللحم و المرق و خبز أفغاني كبير يكاد الرغيف منه يكون كخمرة المصلي أي الحصير الذي يصلى عليه, فقلت لصاحب السيارة: قف فإني جائع جدا فقال لي: أمامك مطاعم أفضل من هذا. ثم تعطلت السيارة فلم نصل إلى أول مطعم إلا بعد مضي هزيع من الليل, و كنت خائفا أن لا أجد طعاما و لكني وجدته فأكلت شيئا كثيرا من اللحم و المرق و البطيخ و لم أجد خبزا ولم يضرني شيء من ذلك و لا أصابتني الحمى بعد ذلك, فتعجبت من تأثير ذلك العلاج العجيب و لم استطع تعليله إلى الآن و خطر ببالي أنه ربما كان حر الجمر و الدخان الذي كنت أتبخر به سبا في زوال الحمى, و قد خبرني بعض الأطباء الأوروبيين الذين هم معجبون بطب العرب أن العرب كانوا يداوون الشيء بجنسه لا بضده, كما يفعل اليونانيون فيداوون الحرارة بحرارة من نوع آخر و البرودة ببرودة من نوع آخر و هكذا, فإن صح ما قاله هذا الطبيب فلعل حرارة النار أذهبت حرارة الحمى بإذن الله و الله أعلم.(1/272)
…و لما وصلنا إلى حاكم بلاد الحدود بين أفغانستان و حدود الهند الانكليزية و يسمى هذا الحاكم سرحد دار (و معنى سرحد بالفارسية رأس الحد, و دار تختم جزء كلمة تختم بها أسماء المحترفين فيقال للخازن خزنه دار) أكرمنا حاكم الحدود و قدم لنا نوعا من الطبيخ لينا يؤكل بالملعقة تقطع البطيخة نصفين و تغرز ملعقة في وسط كل نصف و يقدم للضيف في صحن فيأكل اللباب بالملعقة و يبقى القشر كأنه إناء مستدير, و جاءت امرأة أوروبية و قدمت له جوازها فسألها بالفارسية فلم تفهم شيئا فتكلمت باللغة الفرنسية فلم يفهم أحد من الحاضرين ما قالت ثم تكلمت بالانكليزية فلم يفهم أحد ماقالت, فاستأذنت الحاكم في أن أترجم له كلامها ففرح بذلك, فقلت له: أنها فرنسية و أنها مسافرة إلى كابل لزيارة زوجة السفير الفرنسي في كابل, فقدم لها نصف بطيخة و فيها ملعقة مغروزة و كنا نحن قد فرغنا من أكل البطيخ فتحيرت و قالت لي: كيف يمكن أكل البطيخ بالملعقة؟ فقلت لها: هذا النوع لين جدا يمكن أن تدخلي فيها الملعقة و تأخذي ملئها ثم تملئيها مرة أخرى حتى يبقى القشر كأنه إناء فارغ.
…استدراك:(1/273)
…ذكرت شيئا وقع لي في كابل نسيت أن أذكره في محله. جاءني صاحب صحيفة إصلاح و سألني أسئلة كثيرة تتعلق بحال المسلمين في المغرب فأخبرته بجميع ما يرتكبه المستعبدون الفرنسيون في المغرب من الفظائع من قتل و من سجن و نفي وتعذيب و اغتصاب أملاك, و كا جواز سفري قارب الانتهاء فعزمت على أن أرجع إلى الهند قبل انتهاء مدته لأنني كنت لا أشك بأن السفارة الفرنسية في كابل قد اطلعت على ذلك المقال و على مقال آخر نشرته في مجلة أخرى نسيت اسمها, فمنعني الشيخان سيف الرحمن و منصور فقلت لهما: إن السفير الفرنسي لا بد أن يكون قد اطلع على المقالين فإذا أقمت هنا إلى أن تنتهي مدة الجواز و ذهبت إليه ينتزع مني الجواز و يطردني فقالا: توكل على الله و لا تعجل بالرحيل و ربما نأخذ لك جوازا أفغانيا. و هذا من المستحيل و لكنهما شيخان من شيوخ علم الدين لا علم لهما بقوانين جواز السفر. فبقيت إلى أن انتهت مدة الجواز و توجهت إلى السفارة الفرنسية و أنا خائف أشد الخوف فلما قدمت جوازي للكاتب أخذ يسألني عن المغرب و عن رحلتي إلى هذه البلاد و قبل ذلك قال لي: بأي لغة تتكلم؟ فقلت بالعربية و الانكليزية فقال لي: و لا تعرف الفرنسية؟ فقلت: لا, فدعى ترجمان يسمع كلامي بالعربية, ثم يترجمه بالفارسية. ثم يترجم بالفرنسية, ثم قال لي: تكلم باعلربية فتكلمت فقال لي: أنا أفهم كل ما تقول و لاحاجة إلا الترجمة و قد أقمت بالمغرب سنين و بالجزائر سنين فما رأيت أحدا يتكلم بالعربية بفصاحة مثلك و أخذ الجواز و جدده و قال لي: إن ثمن التجديد خمسة عشر روبية و قد أعفيتك من دفعها إكراما لعلمك باللغة العربية ثم قال لي: أين تعلمت الانكليزية؟ فقلت: في الهند فقال لي: كم سنة قضيت في تعلمها؟ فقلت سنتين فقال: سنتين فقط و تقدر أن تتكلم بها!! فقلت: نعم.
عودة إلى حدود الهند(1/274)
…لما وصلنا إلى حدود الهند ودعني الشيخ محمد عمر راجعا إلى كابل لأنه وجد سيارة متوجهة إليها و لما رأى مفتش الأوزة قال لي: أنت ليست عندك سمة الدخول إلى الهند, فأريته أن نائب القنصلية الفرنسية في البصرة كتب ما نصه(يجوز لحامله أن يدخل الهند كم شاء من المرات ما لم تنقص سنة من تاريخه) فأخرج لي كراسا مكتوبا بالآلة و قال لي: اقرأ هنا قرأت بالانكليزية ما معناه(كل قادم من أفغانستان يجب أن تكون عنده سمة دخول إلى الهند إما من كابل و إما من جلال آباد) و جلال آباد مدينة صغيرة على نحو الثلث من طريق كابل ثم قلت له: راجع رؤساءك في بشاور بالتيلفون فقال لي: إن القانون صريح فمراجعتي لهم تكون غباوة مني و إياك أن تظن أنني أريد بك شرا, هذا سرير للنوم و أنا مستعد لضيافتك إلى أن تمر بنا سيارة متوجهة إلى أفغانستان, ففوضت أمري إلى الله و ذهبت حقيبتي مع سيارة البريد التي كنت مسافرا فيها إلى بشاور و قال لي: تريد شيا أخضر أو أسود؟ فقلت: لا أريد شيئا, فلم يمض إلا وقت قليل حتى جاءت سيارة إلى الهند متوجهة إلى أفغانستان فأمر سائقها أن يوصلني إلى سرجد.
…فلما رجعت إلى حاكم الحدود و أخبرته بما جرى تأسف و قال لي: مرحبا بك بت هذه الليلة هنا و في الصباح تسافر إلى جلال آباد فإن قضي غرضك فيها فذاك و إلا تتوجه إلى كابل, و أخبرني أن تلك المرأة الفرنسية لما ذهبت أنا إلى حدود الهند سألتهم بالإشارة عني فأخبروها أني مغربي فطلبت لقائي فلما بحثوا عني وجدوا السيارة قد سارت, و كان الفرنسيون في ذلك الوقت يحكمون المغرب الكبير أي معظمه من حدود تونس إلى حدود سينيغال و يعطفون على المغاربة إذا رأوهم خارج المغرب كأنهم منهم, أما في داخل المغرب فيذيقونهم العذاب الأليم.(1/275)
…فبت تلك الليلة عند الحاكمو و في الصباح توجهت إلى جلال آباد فلقيت الكاتب المختص فلم يأذن لي بالدخول إلا بعد مضي ساعتين و لما أذن لي و أخبرته بمرادي أخذ يقرأ جوازي و يسألني عن كل شيء خفي عليه منه إلى أن أتى عليه ثم قال لي: لا بد أن تسافر إلى كابل و استغرق بحثه في الجواز ساعة و كان من أخبث الكتاب و كان هنديا ثم توجهت إلى كابل و أقمت بها أربعة ايام حتى حصلت على سمة الدخول إلى الهند من السفارة الانكليزية و رجعت إلى بشاور و نزلت عند الشيخ عبد العزيز الندوي ثم عدت إلى لكناو.
ركوب الفيل
…ترددت قليلا في إثبات قصة ركوب الفيل لأنها من الاستطراد الذي لا علاقة له بالدعوة و لا بطلب العلم فتخيلت أن بعض القراء الذين يحبون الاطلاع على كل شيء يقول لي: أثبتها كما أثبت غيرها مما لا علاقة له بالموضوع, و نهمة القارء كنهمة الطعام فكما أن الطاعم لا يصبر على طعام واحدفكذلك القارئ.(1/276)
…كان في الهند رجل من أهل العلم يتردد علي حين كنت في لكناو و قد أخبرني أن أصله من العرب و أبوه (راجا) أي من رؤساء الإقطاع و دعاني مرارا لزيارة والده فأجبته إلى ذلك, و أخذت معي أخي محمد العربي و محمد مظهر و كلاهما كان طالبا في المعهد السعودي بمكة ثم انضم محمد مظهر إلى تلامذة ندوة العلماء و هو مولود بمكة و أصله من الهند, فبعث لنا ابن الراجا فيلا قد جعل على ظهره متكأ من الزرابي و الوسائد و ركبنا القطار من لكناو حتى وصلنا إلى المحطة التي كان الفيل ينتظرنا فيها فأناخ الفيال الفيل, و لم أكن أعلم قبل ذلك أن الفيل يناخ كما يناخ البعير و بعدما أناخه لم ينقص من علوه إلا قليلا لقصر قوائمه و ضخامة بطنه فأعاننا الفيال حتى ارتقينا إلى ظهره و جلسنا نتحدث و نطالع الكتب, فركب الفيال على قفا الفيل و بيده عصى كعصى القدوم في رأسها حديدة يضرب بها الفيل على رأسه عند الحاجة فسار بنا الفيل سيرا سريعا, و كان الفيال قاسيا على من يصادفه في الطريق من الفلاحين الذين كانوا يسافرون من مكان إلى مكان في عربات تجرها الثيران فإذا أحس الثور بصوة الفيل ينفر و يخرج من الطريق و هو مرتفع فيقع في المزرعة و يسقط الفلاحون من عرباتهم المفتزحة و تسقط أمتعتهم فيضحك الفيال فرحمناهم و نهيناه عن ذلك. و لما حان وقت صلاة الظهر قلنا له: نريد أن نصلي فأناخ الفيل حتى نزلنا و صلينا ثم عدنا للركوب. و للفيالين لغة تعرفها الأفيال و لا يعرفها أحد غيرهم, فوصلنا إلى الرجا و وجدنا له قصرا تحيط به أراض واسعة يملكها كلها و يملك من فيها من الفلاحين فأقمنا عنده بضعة أيام و أكرمنا غاية الإكرام و أخبرنا أن جده جاء من عمان منذ ززمان و أن أسلافه تركوا له هذه الثروة و هو يحن إلى وطنه الأصلي إلى بلاد العرب.(1/277)
…و على ذكر الفيلة أقول إن أمثال هذا الراجا في الهند كثير و كلهم رؤساؤ إقطاع الواحد منهم يملك بضعة و عشرين فيلا, علف الفيل الواحد منها يكفي للنفقة على إطعام خلق كثير من الناس و ليس لهم غرض بهذه الفيلة إلا التفاخر و التكاثر, و كنت أشهد مواكب الفيلة في مدينة لكناو إذا كان عند أحد الرؤساء الملقبين بهذا اللقب فرح كعرس أو خطبة يؤلف رعاياه موكبا من الفيلة و على ظهرها قباب من الحرير المذهب يجلس فيها أقارب الراجا من رجال و نساء و يطوف الموكب المدينة كلها و تكون القباب التي على ظهور الفيلة مساوية في الارتفاع تقريبا لمن يجلس في الطبقة الأولى من البيوت.
…أقمنا عند الراجا العربي بضعة أيام كما تقدم ثم استأذناه في السفر فهيأ لنا الفيل و كان أخي محمد العربي مولعا بركوب الإبل فسأله أن يعطيه ناقة يركبها بدل الفيل فأعطاه إياها, و لما أخذ الفيل يسير بنا في الطريق إلى محطة سكة الحديد و بيننا و بينها ثلاث ساعات بسير الفيل أخذ يسير ببطء شديد فقلنا له: أسرع كما كنت تسرع في المجيء حتى لا يفوتنا القطار فقال لنا: إنني سأسرع بكما كما أسرع بسيدي الراجا لكن لا أضمنا لكما أن تصلا إلى المحطة قبل وصول القطار إليها و إذا وصلنا متأخرين و ةجدنا القطار قد فات يلزمكم أن تبيتوا في القرية المرتبطة بالمحطة و لا تجدون فيها طعاما و لا مأوى و تمضون فيها يوما و ليلة إلى أن يجيء القطار من الغد, ففهمنا مقصوده و هو أنه يريد البخشيش فأخذني العناد و قلت في نفسي: سيده يدعونا ليكرمنا و هو عبد يتحكم في رقابنا و يغرمنا فلت له: إما أن تسرع كما فعلت في المجيء و إلا كتبت إلى سيدك لينزل بك أشد العقاب يا غدر يا لكع فأخذ يتكلم مع الفيل بلغة الفيالين و يضربه على رأسه بالحديد و يقول له: مجم مجم (بفتح الميم و الجيم و تشديد الميم) أي أبطء فلا يزيد الفيل إلا إبطاء و تثاقلا, فتعجبنا من ذلك.(1/278)
…و كنا قد سبقنا أخي محمد العربي بمسافة طويلة فلما تباطأ الفيل لحقنا فسمع الفيل رغاء الناقة فنفر و هرب بنا فأخذ الفيال يضربه بالحديدة و يقول: مجم مجم فلم يطعه فقلنا: الحمد لله انحلت المشكلة و أمرت أخي محمد العربي أن يبقى دائما خلفنا بناقته و يضربها لترغي فبطل كيد الفيال و ضحكنا عليه كثيرا, فوصلنا امحطة قبل مجيء القطار بساعة و كان الفيال وثنيا فلما نزلنا و أراد أن يرجع جمع كفيه و ألصق يديه بصدره إشارة لتحية الوداع و هي تحية معروفة عند الوثنيين و طلب البخشيش و هو ما يعطى على الإكرام من للخدم فقلت له: مجم مجم هذا هو البخشيش الذي نعطيك الذي أعطيتنا و هو مجم مجم فانصرف خائبا و هذه القرية التي فيها محطة سكة الحديد هي أحد أملاك الراجا.
الحمى النافض
…اشتد علي مرض الحمى النافض حتى أصابتني في تسعة أشهر سبع مرات في كل مرة أبقى محموما من أسبوع إلى أسبوعين. و من أجل من عرفته من الأطباء النطاسيين في مدينة لكناو الدكتور محمد نعيم الأنصاري و قد نزلت عليه ضيفا مكرما مرارا قبل أن أستوطن لكناو في إحاها أقمت عند خمسة عشر يوما ليس لنا طعام إلا العدس لأن الحرب شبت نارها بين المسلمين و الهنادك فتعطلت الأسواق, و جعل الأغنياء من الهنادك لكل من يأتيهم من سفلتهم برأس برأس شخص مسلم سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا قويا أو عاجزا مبصرا أو أعمى عشر روبيات.(1/279)
…و كان كاندي الزعيم الهندي طليقا غير مسجون و كان في إمكانه أن يخمد تلك الحرب بكلمة واحدة فلم يفعل لأنه كان من أكبر أعداء الإسلام, و الجاهلون بأحواله من العرب يقدسونه كما يقدسه الوثنيون في الهند و يسمونه المهاتما جهلا منهم و المهاتما معناه المقدس عند الوثنيين, و كان عالي الثقافة شديد التعصب عظيم المكر و الدهاء يتظاهر للمسلمين بالمحبة و المسالمة كالحية الرقطاء, و قد زعم في صحيفته هريجان أن الله أوحى إليه أن طهر المنبوذين و ألحقهم بإخوانهم من الطبقات العليا. قال في صحيفته: فإن سألتموني دليلا حسيا على أن الله أوحى إلي بذلك أقول لكم: ما عندي دليل و لكني لا أشك في هذا الوحي.
…و هذا العمل منه يدل على أنه لم يكن مؤمنا بدين أسلافه البراهمة لأن محو الطبقات و توحيدها يهدم الدين البرهمي من أساسه لأنه مبني على عقيدة تناسخ الأرواح, و ذلك أن الأرواح تأتي إلى الدنيا في أجسام الأطفال عند ولادتهم فإذا كبر الطفل و عمل أعمالا مطابقة لما تريده الآلهة و كان في طبقة سافلة كالمنبوذين تنتقل روحه بعد موته و ترجع إلى الدنيا في مولود من طبقة أعلى منها فإذا عمل بما تريده الآلهة في عذع الطبقة الثانية يرجع إلى الدنيا بعد موته في جسم مولود من الطبقة الثالثة, ثم إذا عمل بمل تريده الآلهة في الدور يرجع بعد موته إلي الدنيا في جسم مولود من الطبقة العليا و هي طبقة البراهمة.(1/280)
…أما إذا عمل بخلاف ذلك و كان في طبقة عالية غير طبقة البراهمة فإنه يعود إلى الدنيا في طبقة أسفل منها, و إن استمر على فعل السيئات في نظرهم لا يزال يسفل إلى أن ترجع روحه في أجسام الحيوان ثم لا تزال تسفل حتى ترجع في أجسام الحشرات طبقا لقانون الجزاء و هو الثواب و العقاب, و لذلك قتله المتعصبون من أبناء جنسه غيرة منهم على دينهم, و كنت مجاورا لأحد أتباعه من خاصته و كان طلبة العلم يأتون إلي في بيتي فتجتمع على ذكر الله فآذاني ذلك الجار حتى اضطرنبي إلى الانتقال من شدة بغضه للمسلمين.
…و الآن بعد هذه الجولة أرجع إلى علاج الحمى كان الدكتور محمد نعيم الأنصاري إذا لم يكن مسافرا يفحصني و يكتب لي العلاج و يحدد لي يوما و يليلة لزوال الحمى, و إذا كان مسافرا لا ينفعني علاج غيره. و هذا سبب عزمي على الرجوع إلى العراق و ترك السكنى في الهند و كان ذلك في شعبان سنة 1352هـ و لم أبق في العراق إلا مدة يسيرة حتى سافرت إلى أوروبا كما تقدم.
الدعوة إلى الله في مكناس
…سافرت من العراق إلى البلاد الجرملنية كما تقدم في سنة 1959 بتاريخ النصارى ثم توجهت إلى المغرب و جلت فيه جولة ثم نزلت عند عميد الدعوة السلفية في المغرب أستاذي و مرشدي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي في بيته بمدينة فاس رحمة الله عليه و بقيت عنده إلى أن تم نقل عملي من جامعة بغداد إلى جامعة الرباط, و الفضل في ذلك لله وحده ثم لنابغة المغرب العالم الأديب المتفنن ذي التآليف المفيدة و الفضائل العديدة السيد عبد الله كنون أطال الله بقاءه و أدام في المعالي ارتقاءه.(1/281)
…و لما استقررت في مدينة فاس عزمت علىاستئناف العمل في الدوة إلى اتباع الوحي عملا بقوله تعالى في سورة الزخرف:{فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون} الآيتان:43,44 ما أعظم هذه الآية! و ما أشد موت من لا تحركه و لا ت}ثر فيه! فشاورت شيخنا المذكور في ذلك فوجدته قد استولى عليه اليأس فقال لي: دع هؤلاء الأموات فقد طبع الله على قلوبهم فقد تعبت في دعوتهم, و تعب قبلي رائد الدعوة السلفية العالم الكبير الشيخ شعيب الدكالي و كان بحرا زاخرا في علم الكتاب و السنة و علوم كثيرة فقلت له: يا أستاذي إني دعوة إلى الله في أقطار مختلفة فنجحت دعوتي و بلغت فوق ما أملت و هؤلاء القوم بشر كأولئك الذين دعوت فدعني أجرب فقال لي: توكل على الله.
…فبدأت دروس الدعوة في مسجد المدرسة العنانية في فاس فما مضى إلا أسبوع واحد حتى غص المسجد بالمستمعين, و بعد مدة حضر درسي رجل يرتدي بسة أوروبية فاخرة فلما فرغنا من الدرس و صلينا العشاء عرفني بنفسه و أخبرني أنه وزير الأوقاف و أثنا على درسي و قال لي: أين تريد أن تذهب؟ فقلت: أنا نازل في بيت أستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي فقال لي: أنا آخذك بالسيارة إلى هناك و ذهبنا إلى هناك, فرحب به شيخنا وزاده تعريفا بي فقال لي: إذا أتيت الرباط فأرجو أن تزورني في وزارة الأوقاف فزرته لما ذهبت إلى الرباط لألقي دروسي في الجامعة, و بين فاس و الرباط مئتان من الأميال المعروفة بكيلومتر. و إنما سكنت في فاس مع بعده من الجامعة خوفا من مرض الربو الذي يشتد علي و يخف أو يزول إذا ابتعدت منه, و قد علمتني التجارب أن كل من أصيب بهذا المرض في بلاد رطبة الهواء كشواطئ البحار فداوؤه أن يفر إلى الأراضي الجافة الهواء كالصحاري, أما من أصيب به في بلد يابس الهواء فدواؤه شواطئ البحر.(1/282)
…فزرت الأستاذ السيد مكي بادو فرحب بي و دعاني للطعام و أكرمني غاية الإكرام و لما خرجت من عنده جاءني أحد الموظفين و قال لي: إن السيد المكي يعلم أنك تلقي دروس الوعظ و الإرشاد لوجه الله لا تريد عليها مكافأة و لكنه يحب أن تكون واعظا رسميا معينا من قبل وزارة الأوقاف و قد جعل لك مائتي درهم في كل شهر و هذا شيء حقير جدا بالنسبة إلى مقامك و دروسك القيمة و لكن نظام الوزارة لا يسمح بأكثر من هذا فإن رواتب الوعاظ لا تزيد على مائتي درهم, فقبلت ذلك و استمررت على دروسي ثمانية أشهر.
…ثم انتقلت إلى مكناس بإشارة من أستاذي لأنها أقرب إلى الرباط فبينهما مائة و أربعون ميلا بنقص ستين ميلا هذا بعدما جربت هواءها و وجدته مناسبا, و شرعت ألقي دروسي في الجامع الكبير فأقبل الناس كذلك على درسي في مكناس إقبالا عظيما, و لكن الجامدين من الفقهاء و أصحاب الطرائق شرقوا بتلك الدروس و كذلك المتأكلون بالنسب و رأوأ أنها بدأت تهدم ما بنوه من قصور الخرافات على الرمال, و تظهر للعامة جهلهم و انحرافهم عن الجادة فأجمعوا على أن يكيدوا لي كيدا يقضي علي, و كان الذي تولى كبر ذلك رجل له نفوذ و دالة عند أمير مكناس و نواحيها و كان هذا الأمير من أبناء عمومة محمد الخامس رحمة الله عليه و بينهما مصاهرة فكان يفعل في إمارته ما يشاء و لعلو مكانته عند الملك لا يستطيع وزير و لا رئيس أن يعارضه, فكتب ذلك الشخص و معه أولئك الأعداء كتابا إلى وزارة الأوقاف يطلبون منعي من التدريس لأمور: مناه: أنني بزعمهم أنكر كرامات الأولياء و أنقض المذهب المالكي و عدوا أمورا سمعوها في درسي من إنكار الشرك و البدعو و وقع على هذا الكتاب خمسمائة شخص.(1/283)
…و كان وزير الأوقاف في ذلك الوقت كما هو الان معالي الأستاذ الحاج أحمد بركاش و مدير شؤون الوعظ و الإرشاد هو العالم السلفي صاحب الفضيلة السيد محمد الطنجي و هما يعلمان أن الساعي في ذلك له نفوذ عظيم عند الأمير لا يرد له طلبا و مع ذلك و فقهما الله سبحانه إلى جواب حاسم كان شجا في حلوق المبتدعين و مضمنه: إنكم طلبتم عزل محمد تقي الدين الهلالي من دروس الوعظ و نقمتم عليه مسائل نسبتموها له فنحن نأمركم أن تكتبوا أدلتكم على صحة ما ذهبتم إليه فيها ثم تؤلف لجنة برئاسة الأستاذ عبد الله كنون و تنظر في تلك المسائل و تحكم بالحق, فسقط في أيديهم و لم يكتبوا شيئا.
…و ذهبت إلى شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي رحمه الله و أخبرته بذلك, قال لي: إذهب إلى الأمير و قل له إن أستاذي محمد ابن العربي العلوي حثني على زيارتك و أخبرني أنك من أعز أصدقائه و لا تزده على ذلك شيئاو و قبل ان أقوم بزيارة الأمير اجتمعت بذلك الشخص الذي أثار تلك الفتنة فقال لي: إن المخبرين بلغوني أنك تخوض في مسائل السياسة في دروس وعظك و الخوض في السياسة لا يجوز لأي واعظ, فقلت له: أنا لا أذكر في دروسي إلا ما دل عليه الكتاب و السنة و قد دأبت على غلقاء الدروس بهذه الطريقة في أقطار مختلفة منذ أربعين سنة و تصدى لمحاربتي رجا أقوى منك فلم يستطيعوا أن يصدوني عن هذه السبيل و ليس بيني و بينك إلا هذه الدريهمات, و سأذهب إلى الرباط و أتكلم مع معالي وزير الأوقاف فإن كان ما نسبت إليه صحيحا و استمررت على الدعوة إلى الله إلى أن تمنعوني بالعنف و القوة التي تدعون, فدعى شخصا من الموظفين و قال: يا فلان تعالى اسمع ما يقول, فقلت له: أنا لا أنكر كلامي فلا حاجة بك إلى الاستشهادو و انصرفت من عنده.(1/284)
…ثم زرت الأمير و أخبرته بما أمرني به أستاذي أن أقول له فرحب بي و قال لي: إن شؤون الأوقاف ليست بيدي هي بيد وزير الشؤون الإسلامية علال الفاسي أما ما سواها من الأمور المدنية فكل ما تريده من الحاجات فأنا مستعد لقضائه, فقلت لهك أطل الله بقاءك أنا ما جئت لحاجة تتعلق بالأوقاف ولا بغيرها و إنما جئت لامتثال ما أمرني به أستاذي من زيارتكم ثم انصرفت من عنده.
…و بقيت في مكناس تسع سنين في أثنائها هجم علي أولئك المحاربون برئاسة الشخص المشار إليه مرارا و في كل مرة يجمعون أمرهم و يجتهدون في كيدهم حتى يظنوا أنني لا أفلت فينجيني الله تعالى و يبطل كيدهم.
المكيدة الثانية
…بني في المدينة الجديدة من مكناس مسجد بأمر من الملك محمد الخامس رحمة الله عليه و هذا المسجد قريب من بيتي و عين فيه إماما و خطيبا أحد إخواننا السلفيين مولاي هاشم العلوي ففرحنا بذلك و جعلنا نصلي فيه الجمعة, و كنت أصلي فيه صلاة الصبح إماما و يحضر الصلاة بعض إخواننا و يحضر كذلك المبتدعون و كان المسجد بعيدا من بيت الإمام فلم يكن يستطيع أن يحضر لصلاة الصبح, و كنت كذلك ألقي فيه درسا أسبوعيا بين العشاءين فكنت أصلي المغرب و العشاء إماما بإذن منه و لو كان حاضرا و استمررنا على ذلك مدة سنة, فاتفق ذلك الشخص الذي تسبب في المكيدة الأولى مع فقيه منحرف للكيد على الإمام السلفي و لجماعتنا السلفيين.(1/285)
…و من عادة سكان المدن المغربية أن يصلوا الصبح على حساب المنجمين و لا يكلف أحدا منه نفسه أن ينظر إلى الفجر أطلع أم لم يطلع فكانوا يصلون الصبح قبل طلوع الفجر الذي يرى بالبصر بنحو نصف ساعة, فنهيت جماعتنا عن مشاركتهم في هذه الصلاة الباطلة فكنا نؤخر الصلاة إلى ان يتحقق طلوع الفجر, و كان المبتدعون يمتعضون لذلك و لكنهم لم يتجرأوا على الكلام حتى وقع الاتفاق بين الرئيس و الفقيه فأوعز الفقيه إلى اثنين من الجهال المتحمسين إلى البدعة أن يوقعا فتنة في المسجد, فجاءا ذات يوم بل ذات ليلة و لما وصل الوقت المعين لصلاة الصبح بحساب المنجمين قالا لشخص كان ينوب عن الإمام في حال غيبته: قم صل قد وصل الوقت فلماذا ننتظر الهلالي و هو نائم في بيته؟ فامتنع إخواننا من الصلاة لأول وهلة ثم خافوا أن تقع مشاجرة في المسجد فصلوا معهم, فلما وصلت أنا وجدتهم قد فرغوا من الصلاة فأمرت إخواننا أن يعيدوا صلاتهم و صليت بهم و بمن حضر من غيرهم.
…و كنت ألقي درسا بعد صلاة الصبح كل يوم فلمتهم على موافقتهم للمبتدعين و بينت بالأدلة القاطعة أن من صلى أي صلاة قبل أن يتحقق من دخول وقتها بالرؤية لطلوع الشمس و لغروب الشمس إن لم يحجب طلوعها حاجب فإن كان هناك حاجب من سحاب و ضباب و جب الانتظار إلى أن ينتشر الضوء, و إلى أن يأتي ظلام الليل مساء, أما صلاة الظهر و العصرو العشاء في أوقات الغيم فيقدر لها بالتأخير إلى أن يتحقق دخول الوقت.
… و في الغد حضر ذانك الشخصان الساعيان في الفتة فأرادا من نائب الإمام و الحاضرين تعجيل الصلاة فمنعهما أصحابنا, فدعا ذلك الرئيس الإمام السلفي و قال له: لماذا تركت الصلاة في مسجدك الذي أنت معين فيه و أذنت لمحمد تقي الدين الهلالي أن يصلي عوضا عنك؟ فقال: لأن المسجد بعيد من بيتي و ليس لي سيارة فاتخذ الرئيس ذلك سببا لعزله و هو المقصود بإثارة تلك الفتنة فعزله و ولى ذلك الفقيه المنحرف.(1/286)
…و اتفق أن إمام المسجد الكبير توفي في تلك الأيام و كان مسالما لنا لا يظهر شيئا من الشرك بل نحن نظن أنه كان موحدا حقا و صدقا فولي شخص مبتدع معلن للشرك و لاه ذلك الرئيس الإمامة في المسجد الكبير, فلما شرع الإمامان إمام المسجد الكبير و إمام المسجد الجديد يؤمان الناس قام نفر لا يزيدون على خمسة من الشباب السلفيين في وجه إمام الجامع الكبير و قالوا له: أنت مشرك لا تصح الصلاة خلفك و صلوا وحدهم جماعة ثانية و هو يأم المصلين في وقت واحد و فعلوا مثل ذلك في المسجد الجديد, فظن الرئيس أن هذه فرصة عظيمة للقضاء على دعوتنا و حرك رؤوس الفتنة من الفقهاء و الطرقيين, و من غريب المصادفات أن عامل الإقليم كان قد ولي العمالة جديدا و لم يكن يعرف أحوال المدينة فذهب إليه خلق كثير بتحريض من ذلك الرئيس يؤمهم الفقهاء المنحرفون الطرقيون و قالوا له: إن جماعة الهلالي أثاروا فتنة عظيمة في المساجد و صار الناس يصلون جماعتين في وقت واحد و وقع نزاع و مشاجرة في كل مسجد بسبب هؤلاء مع أنهم وهابيون خارجون عن مذاهب أهل السنة.(1/287)
…فأخذ العامل التيليفون و كلم معالي وزير الأوقاف الأستاذ الحاج أحمد برقاش بارك الله فيه و أدام توفيقه للخيرات فأخبره بشكوى المبتدعين فقال له: نحن نعرف محمدا تقي الدين الهلالي فدع عنك هذه المسألة فسأتولى التحقيق فيها أنا بنفسي, و كنت مسافرا في فاس فلما رجعت علمت أن معالي الوزير فتح التيليفون ليكلمني فلم يجدني فقال لمن كان ممسكا للتيليفون: قل له: يتوجه إلى الرباط للاجتماع بي, فتوجهت إليه و كان عنده شيء من الشك في صحة ما نسب أولئك المبتدعون لجماعتنا, فأوعز إلى نائبه في الشؤون الدينية الأستاذ الفاضل الدكالي في فاتحة الحديث: سافرت إلى الهند فما زرت جامعة و لا محفلا علميا إلا وجدت الناس هناك يلهجون بالثناء عليك و كثير منهم أخبروني أنهم تلامذتك ففرحت بذلك كثيرا, و لما رجعت أخبرت سيدنا المنصور بالله يعني جلالة الملك الحسن الثاني و أخبرت معالي الوزير و نحن نفتخر بك. يضاف إلى ذلك أن والدي العلامة الكبير الشيخ شعيبا الدكالي هو أول من دعا إلى السلفية في المغرب فأنا مكن المؤيدين لدعوتك المعجبين بها, و لكن ينبغي الاعتدال و ترك التشدد الذي يثير الفتن فقلت له: ماذا تعني بهذا؟ فأخبرني بمكالمة العامل مع الوزير و إخباره بما زعمه المبتدعون فقلت له: إن ما ذكروه غير صحيحو خمسة من تلامذة المدارس من الشباب عارضوا الإمامين مرة واحدة و لما جاء اليوم الذي ألقي فيه الدرس في الجامع الأعظم تكلمت في درسي و بينت أن ما فعله أولئك النفر من الشباب خطأ عظيم و استنكرته أشد الاستنكار, و صرحت بأن تولية الأئمة هي لصاحب الجلالة لا ينازعه فيها أحد و قد أناب صاحب الجلالة الملك المعظم صاحب المعالي الأستاذ الحاج أحمد برقاش وزير عموم الأوقاف فالواجب على الناس جميعا أن لا يتعرضوا لإمام من أئمة المساجد الرسميين و لا ينازعوه لأن ذلك عصيان لأمر صاحب الجلالة و تدخل في الشؤون المنوطة بمعالي وزير الأوقاف, و ليست تولية الأئمة(1/288)
راجعة إلى شهوة المصلين و لو كان الأمر كذلك ما صحت تولية إمام قط لأن المصليين لا يكادون يتفقون على إمام واحد. و حين كنت أبين هذا كان الإمام نفسه يسمع و مئات من الناس كانوا حاضرين و هؤلاء المبتدعون إنما ظنوها فرصة مواتية فاغتنموها.
…و أخبرني رفيقي أن سعادة الكولونيل عبد الرحمن الدكالي لما سمع هذا البيان تهلل وجهه فذهب إلى معالي الوزير و أنبأه بما قلت له فدعاني الوزير و عانقني و قال لي: معاذ الله إن نظن بك ما نسبوا إليك, و تحدثنا مليا في طبع كتابب التمهيد الذي أمر به صاحب الجلالة الملك المعظم الحسن الثاني أجزل الله مثوبته و خلد في الصالحين ذكره و أطال عمره ليضيف إلى هذه الحسنة حسنات أخرى.
…و بعدما رجعت إلى مكناس علمت أن معالي الوزير الأستاذ الحاج أحمد برقاش كلم العامل في التيليفون و أخبره بأنه أجرى تحقيقا دقيقا في القضية فوجد ما قاله أولئك الوشات كذبا و بهتانا و قال له: أرجو من فضلك أن لا تتسرع مرة أخرى في مثل هذه الأمور فباء أعداء التوحيد و السنة بخيبة و خسران مبين.
المكيدة الثالثة(1/289)
…قبيل توجهي إلى المدينة للانخراط في سلك المدرسين في الجامعة الإسلامية أراد رؤساء الشرك و البدعة أن يجعلوا خاتمة وعظي في الجامع الكبير سيئة ليبنوا عليها ما تسول لهم أنفسهم من الفرى, و كنت أدرس كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه و لم أترك تدريسه قط منذ حللت مكناس إلى أن توجهت إلى المدينة أختمه ثم أبدؤه من جديد و بينما أنا أقرر تفسير قوله تعالى في سورة الشعراء:{ و أزلفة الجنة للمتقين و برزت الجحيم للغاوين و قيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم و الغاوون و جنود إبليس أجمعون قالوا و هم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين و ما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المومنين }الآياتك90,102 فبينت في معنا قوله تعالى: {و ما أضلنا إلا المجرمون } أن كل من دعا إلى عبادة القبور و تعظيمها ببناء القباب عليها و الذبح و النذر لها و الططواف بها وسؤال قضاء الحاجات و تفريج الكربات من المقبورين فيها و أقام لها المواسم و الأعياد فهو من هؤلاء المجرمين الذين ذكرهم الله تعالى فقام رجل من دعات الشرك والبدعة فرفع صوته و قال: حتى صاحب الجلالة من المجرمين فبادرت بالجواب و قلت له: أنت المجرم وصاحب الجلالة بريء مما تريد أن تلصقه به من عبادة القبور فقد كذبت عليه وو جاوزت الحد في الوقاحة إذ تنسب هذا الإمام العظيم ملك العلماء و أعلم الملوك إلى عبادة القبور التي لا يرضى بها إلا شرار الجهال أمثالك. فارتفعت أصوات من الجالسين و كان عددهم نحو سبعمائة: أنت المجرم أنت المجرم و أرادوا أن يضربوه,فقام العالم المصلح السلفي الحكيم الحاج محمد بن عبود و نصح لهم أن لا يضربوه لأنهم إذا ضربوه يمكنونه من مراده في إثارة الفتنة و ادعاء أن درس التوحيد يفضي إلى المشاجرة و التقاتل(1/290)
فيجب منعه, و أصاب هذا الناعق رعب شديد فأراد أن يخرج من المسجد فخاف أن يضرب خارجه و لم يستطع البقاء بين الجالسين لكثرة إنكارهم عليه فما وجد سبيلا إلا أن التجأ إلى الصعود إلى المنارة.
…و مع هذه الهزيمة التي وقعت للمشركين طمعوا أن يتخذوها ذريعة لمنع دروس التوحيد, و اتفق أن الرؤساء من الحكام كانوا غائبين عن مدينة مكناس لأنهم ذهبوا ليستقبلوا جلالة الملك الحسن الثاني عند رجوعه إلى عاصمة ملكه من زيارة الجزائر و لم يوجد إلا نائب من نواب المتصرف فالتجأوا إليه و طلبوا منه أن يمنع دروس التوحيد, فانتظر إلى قرب أذان المغرب الذي بعده يكون الدرس فبعث إلي شيخين من شيوخ الحارات راكبين على سيارة العمالة فدخلا علي و قالا لي: إن سعادة العامل ـ يعنون الأمير ـ يقول لك: اترك التدريس في الجامع الكبير إلى أن ينظر في القضية التي حصلت البارحة و قال لنا: قولوا له يجيبكم بنعم أو لا, فقلت لهم: أنا لا أعارض أمر العامل و امتنعت من التدريس في المساء ففرح المشركون فرحا عظيما و ظنوا أنهم أدركوا وطرهم و قضوا على الموحدين المتبعين للرسول قضاء مبرما و لكن الله العلي العظيم الذي نصرنا في المرة الأولى و الثانية نصرنا في هذه أيضا نصرا مؤزرا من فضله و رحمته لا باستحقاق لأننا مقصرون في طاعته.(1/291)
…بعد يوم واحد رجع العامل و رجع النائب الأول للمتصرف, و متصرف مكناس هو الحسيب النسيب صاحب السعادة مولاي سلامة بن زيدان العلوي و ما رأينا منه إلا البر و الإكرام حاشا له أن ينضم إلى من يحارب سنة جده المصطفى, و عند ذلك ذهبت يصحبني جماعة من إخواننا إلى العامل فقلت له بعد التحية: إن أحد نواب المتصرف بعث إلي شيخين من شيوخ الحارات في سيارة من سيارات العمالة يقول: إن العامل يأمرك من الامتناع عن إلقاء دروس التوحيد في الجامع الكبير فقال لي: أنا كنت مسافرا و لم يصدر مني أي شيء مما زعم, و قد قدر هؤلاء المحاربون للسنة أن يكذبوا علي و يوهموني صدق مفترياتهم فيما مضى و لن يستطيعوا أن يروجوا علي مكرهم مرة أخرى فأنا لا أتعرض لدروسك أبدا فاستمر فيها على بركة الله, و قال النائب الأول لسعادة متصرف المدينة مثل ذلك.
…و قد قام العالم السلفي السيد محمد ابن عبد الله العلوي القاضي بجهود مشكورة في ذلك اليوم أيضا, فسقط في أيدي أولئك المفسدين و انهزموا شر هزيمة, فاستمررت في الدرس كل مساء إلى أن سافرت إلى المدينة و قرت بذلك أعين أهل التوحيد و الاتباع و خسر هنالك أهل الشرك و الابتداع {وقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين} الأنعام:45.
المدرسة الحسنية
…لم يزل أولئك المفسدون ينقلون الوشايات إلى جلالة الملك المعظم الحسن الثاني أيده الله و أدام توفيقه و تسديده فلم يستطيعوا أن يؤثروا فيه لحكمته و تثبته, و بلغني و العهدة على الراوي أنه حين أكثروا عليه حضر الدرس بنفسه متنكرا فعلم أن دروسي إنما هي دعوة للاتباع الكتاب و السنة و تحذير من الشرك و البدعة الذين هما سبب كل شقاء أصاب المسلمين فلم أر من هذا الملك الرشيد إلا الخير.(1/292)
…و قبل بضع سنين ألهم الله جلالة الحسن الثاني أن يبني مكرمة طالما غفل عنها الملوك السابقون و هي من المزايا التي خصه الله بها و الله يختص بفضله من يشاء, ألا و هي تأسيس دار الحديث الحسنية و لما نشر خبر هذه الفكرة امتلأت قلوبنا سرورا لأن علم الحديث أهمل منذ عصور طويلة إلى أن اندرس و لم يبق له وجود لا من الوجهة العلمية, و لا من الوجهة العملية و صار الوعاظ و خطباء الجمعات يملؤون حديثهم بالموضوعات و لا يميزون خبرا صحيحا من خبر ضعيف أو موضوع, و من المعلوم أن علم الحديث هو مفتاح علوم الدين كلها لأنه لا تعرف معاني القرآن الذي هو حجة الله على خلقه إلا بأقوال النبي صلى الله عليه و سلم و أفعاله كما قال تعالى في سورة النحل:{و أنزلنا غليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون}الآية:44 و خفنا أن لا تخرج هذه الفكرة إلى حيز العمل و لكن أبا محمد الحسن الثاني أيده الله من أهل اعلزم الذين إذا قالوا فعلوا و إذا فعلوا أجادوا فخرجت هذه الفكرة إلى حيز العمل, أنشئت دار الحديث الحسنية, و لم أدع إلى التدريس فيها إلا بعد مضي شهرين من إنشائها بسبب وشاية أولئك الوشاة ثم دعاني وزير الأوقاف الأستاذ أحمد برقاش إلى مكتبه بالوزارة و تلقاني بغاية الحفاوة و قال لي: إن سيدنا المنصور بالله أسس هذه المدرسة و إننا نرجوا أن يكون لها مستقبل عظيم فينبغي أن تشارك في هذا العمل المبرور فقلت له: منذ ظهرت فكرة إنشاء هذه الدار و قبل أن تحقق و تخرج إلى حيز الوجود كنت أول المرحبين بها المستبشرين بظهورها و نشرت في ذلك مقالا طويلا في مجلة (دعوة الحق) التي تصدرها وزارتكم نظما و نثرا فقا لي: لم أطلع عليه فقال له الأستاذ الحاج عبد الرحمن الدكالي: بلى يا صاحب المعالي نشر هذا المقال في المجلة منذ زمان, فأعطاني معالي الوزير أهم الدروس التي تلقى في دار الحديث و هو تفسير القرآن و كتاب الموطأ في الحديث للإمام مالك رحمه الله.(1/293)
…فبدأت في إلقاء الدروس أحضر دروس القرىن و الحديث ثم ألقيها على الطلبة و كان عددهم في أول الأمر ثلاثيت طالبا, ففرح الطلبة بتلك الدروس و أقبلوا عليها إلا أربعة كانوا طرقيين تجانيين فإنهم كرهوا دروسي و أخذوا يشاغبون و يكثرون من الأسئلة التعنتية و أنا أدفعهم بالتي هي أحسن.
…و كان عندي أربعة دروس في كل أسبوع فكنت أتوجه إلى الرباط لإلقاء دروسي في جامعة محمد الخامس رحمه الله و أنتهي منها قبل الزوال و كان الوقت المحدد للدرسين الذين كنت ألقيهما في دار الحديث الحسنية أحدهما قبل صلاة العصر و الثاني بعدها و كنا في رمضان, فكنت أرجع إلى مكناس بعد الدرس الثاني فيدركني المغرب في الطريق فأفطر على التمر و الماء و كنت أتلقى تلك المشقة بصدر رحيب بل بفرح و سرور لما كنت أرجوا من أجرها و ثوابها و انتفاع الطلبة بها, و لكن مشاغبة أولئك المفسدين كانت تسوؤني خصوصا في رمضان الذي يجب فيه على كل مسلم أن لا ينطق إلا بالكلم الطيب فقلت في نفسي: لعل شر هذه الدروس أكثر من خيرها.
…و في ذات يوم كنت أفسر قوله تعالى:{إياك نعبد و إياك نستعين} فبينت أن كل من دعا غير الله أو استغاث به لجلب نفع أو دفع ضر فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر, فضج التجانيون و قالوا: كفرت أسلافنا!! فقلت: إن كل أسلافكم يدعون إلى الشرك بالله فأبعدهم اللله و أخرجت أحدهم من الدروس.
…و لم يكن معالي الوزير موجودا في الرباط بل كان مسافرا و عميد الكلية كان منصوفا خرافيا يزعم أن الأولياء إذا وصلوا درجة الفناء تسقط عنهم التكاليف و يباح لهم ارتكاب اللكبائر كلها, فصممت على ترك التدريس و كتبت استقالتي إلى معالي الوزير, و أعترف أن ذلك كان تسرعا مني و كان ينبغي لي أن أنتظر أوبته و لكن المقدر كائن و عذري في ذلك أني أردت أن أصون صيامي من اللغو عملا بقول من قال:
……إذا لم في السمع مني تصونا……و في بصري غض و في منطقي صمت(1/294)
……فحظي إذا من صومي الجوع و الظما……و إن قلت إني صمت يوما فما صمت
…و قال آخر:
……و أعلم بأنك لا تكون تصومه……حتى تكون تصومه و تصونه
…فلما رجع معالي الوزير تأسف على ذلك و قبل استقالتي و كانت مدة تدريسي في دار الحديث الحسنية شهرين و نصفا.
…و هذه القصيدة التي قلتها في الترحيب بفكرة دا الحديث الحسنية:
……بدار حديث المصطفى حقت البشرى……فأشرقت الآفاق و امتلأت بشرا
……في الفكرة الحسنى بها الحسن ارتقى……إلى ذروة الإحسان و هو بها أحرى
……فلا شك أن الله ألهم عبده……لذا العمل المحمود و النعمة الكبرى…
……و صية خير الخلق طرا و عهده……إلى أمة القرآن يا سعد من برا
……على حين عم الجهل في النس كلهم……و لا سيما بالذكر و السنة الغرا
……و شاع ابتداع فاتك في ربوعه……فأظلمت الأرجاء و امتلأت نكرا
……و ساد رؤوس الجهل و اشتد كيدهم……و قد أضمروا للأمة المكر و الغدرا
……مضوا يسلبون المال و العقل و الهدى……و يستعبدون الناس بالحيل الحقرا
……فأطلعها نورا يضيء حنادسا……من الجهل ذاق الناس من طعمها المرا
……و أحيا من الآمال ما كان ميتا……فأصبح ثغر العلم و الدين مفترا
……و من يحيي سنات الرسول و هديه……يهيء له الرحمن من أمره يسرا
……و يعظم له أجرا و يرفع ذكره……و يبلغه آمالا و يشرح له صدرا
……و من رام من أعدائه أن يكيده……ببغي فإن الله يمنحه النصر
……و من ينصر الرحم ينصره عاجلا……و ينصره يوم الحشر في النشأة الأخرى
……و من يقرأ القرآن من غير سنة……يضل و يلقى في عواقبه خسرا
……فتفسير قول الله هدي رسوله……و ذلك في القرآن متضح يقرا
……فيا أيها الملك الهمام الذي سرت……بأخباره الركبان تنشرها نشرا
……و ما زال بالأفعال يشفع قوله……فتبني له بين الورى المجد و الفخرى
……جزاك إله الناس خير جزائه……على دار علم شدتها للهدى فجرا
……إليك أسوق اليوم نظما ملفقا……و كان بودي أن أنظمه درا
……و لكن هجرت الشعر دهرا فأوصدت……علي قوافيه و كافأني هجرا(1/295)
……فقابله بالصفح الذي أنت أهله……و أسدل عليه من جميل الرضى سترا
الرجوع إلى المدينة المنورة
…قد عرف القراء سبب خروجي من هذه المدينة المباركة فيما مضى, و لما أراد الله بفضله و رحمته أن يردني إليها ألهم صاحب السماحة العالم السلفي ناصر السنة و قامع البدعة الورع الزاهد الأواب الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية أن يدعوني إلى التدريس في الجامعة الإسلامية و عندما لقيته بمنى سنة 1388هـ قال لي: إن الجامعة الإسلامية في حاجة إليك فقلت له: و أنا في حاجة إليها أيضا فقال لي بأي طريق ندعوك إلى التدريس فيها؟ فأخبرته فدعاني دعوة رسمية بطريق وزارة الخارجية السعودية فالسفارة السعودية بالمغرب فوزارة التعليم العالي بالرباط, و أتيت إلى هذا البلد المبارك و أنا أسأل الله متوسلا إليه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا أن يجعل إقامتي فيه طبق ما يجب على كل ساكن فيه من مراعات حرمته و البعد عن ارتكاب أي حدث يتنافى مع قدسيته.
…و هذه القصيدة المكناسية
تعبر عما تقدم بالأسلوب الشعري و قد حذفت عشرة من أبياتها إبقاء على بعض الناس على أنني لم أصرح فيها باسم أحد لا في المحذوف و لا في المثبت و بالله التوفيق:
……لقد طال ليلي و الجوى مالئ صدري……و برح بي الشوق إلى ربة الخدر
……و أقضي نهاري دائم الفكر و الأسى……و ليلي تسهاد إلى مطلع الفجر
……و أكتم أسراري حذار من العدا……و مهمى أبح فالحب أفقدني صبري
……تذكرت أيام الوصال فكاد من……تذكرها قلبي يطير من الصدر
……فيا ويح قلبي ما يلاقي من الهوى……و من فرط آلام الصبابة و الهجر
……و عاذلة جاءت بلوم كأنه……نعاب غراب للفؤاد غدا يبري
……و لست بسال لو أطلت ملامتي……فكفي عن الإسفاف و المنطق الهجر
……و كيف سلوي بعدما شاب مفرقي……و أنفقت في حبي لها زهرة العمر
……ألم تعلمي أن الملام و إن غدا……عديما من الجدوى فبالحب قد يغري(1/296)
……و طفت بلاد الله شرقا و مغربا……على قدمي طورا و طورا على مهر
……و أنضيت بعرانا و حلقت في السما……على جائبات الجو كالنجم إذ يسري
……و طورا على فلك عظيم كأنه……ثبير يروع الحوت في لجة البحر
……حليف اغتراب في ثواء و رحلة……و إن كنت في أهل كثير ذوي وفر
……(و ما غربة الإنسان في شقة النوى……و لكنها) في الدين و الخلق و البر
……إلى الله أشكوا غربة الدين و الهدى……و طغيان أهل الكفر و الفسق و الغدر
……و من يقل سنات الرسو فإنه……يعذب في الدنيا و في فتنة القبر
……و يسأله فيه نكير و منكر……و ما من جواب عنده غير لا أدري ……
……و ذي سنة الجبار في كل من غدا……يحارب دين الله في السر و الجهر
……ألم تدر أن الله ناصر دينه……و موقع أهل البغي في دارة الخسر
……و كم سعى ساع لإطفاء نوره……بكيد غرد الله كيده في النحر
……و تنصر إشراكا و فسقا و بدعة……و ناصر هذا خاسر أبد الدهر
……دعا المصطفى قدما عليه بلعنة……و من يلعن المختار فهو إلى شر
……و تلعنه الأملاك من فوق سبعة……كذلك أهل الأرض في السهل و الوعر
……فيا ناطح الطود المتين بهامة……مدورة جوفا حذار من الكسر
……و ليس يحيق المكر إلا بأهله……و حافر بئر الغدر يسقط في البئر
……و كم حافر لحدا ليدفن غيره……على نفسه قد جر في ذلك الحفر
……و كم مشرك طاغ تردى بشركه……و سادن قبر باء بالخزي و الخسر
……و كم رائش سهما ليصطاد غيره……أصيب بذلك السهم في ثغرة النحر
……و قبرة أضحى لها الجو خاليا……من النسر و العقبان و الباز و الصقر
……فلا تفرحي يوما سيأتيك صائد……و يسقيك كأس الحتف كالصاب و الصبر
……(فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة……و إن كنت تدري) زدت وزرا على وزر
……و إنك لم يفخر عليك كفاخر……ضعيف و لم يغلبك كالساقط القدر
……فيا عجبا حتى كليب تسبني……كأن أباها من لؤي و من فهر…
……أتغتر بالإمهال تحسب أنه……عدمتك إهمال و ذا ديدن الغمر
……و ما نحن إلا خادمون لسنة……أتت عن نبي الله ذي الفتح و النصر(1/297)
……و خادم سنات الرسول حياته……كخادمها من بعد ما صار في القبر
……و ما غاب إلا شخصه عن عيوننا……و أنواره تبقى إلى الحشر و النشر
……فيا مبغضي هدي النبي ألا ابشروا……بخزي على خزي و قهر على قهر
……سلكتم سبيلا قد قفاها إمامكم……أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
……و عاقبه المتبوع حتم لتابع……كما لزم الإحراق للقابض الجمر
……فإن أنتم كذبتم بوعيده……فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر
……فصب عليهم ربهم سوط نقمة……فصاروا أحاديث المقيمين و السفر
……(فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى……عليهم) إليك الأمر في العسرو اليسر
……قلوا سنة المختار يبغون محوها……و كادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفري
……هم استضعقونا اليوم من أجل أننا……قليل و قد يعلوا القليل على الكثر
……و لا سيما إن كان لله قائما……و أعداؤه للبغي من جهلها تجري
……و إدراك إحدى الحسنيين محقق……لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
……و من ظن أن الله مخلف وعده……و خاذل أنصار النبي بذا العصر
……فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل……عريض القفى بين الورى مظلم الفكر
……تكفل بالنصر العلي لحزبه……حياتهم هذي و في موقف الحشر
……ففي غافر قد جاء ذلك واضحا……و لكنه يخفى على الفدم و الغمر
……سلام على أنصار سنة أحمد……فهم أولياء الله في كلما دهر
……إليهم أجوب البر و البحر قاصدا……فرؤيتهم تشفي السقيم من الضر
……هم حفظوا الدين الحنيف و ناضلوا……عن الحق بالبرهان و البيض وز السمر
……هم خلفوا المختار في نشر سنة……بفعل و أقوال تلألأ كالدر
……هم جردا التوحيد من كل نزغة……من الشرك و الإلحاد و الزيغ و النكر
……فلا قبة تبنى على قبر مية……و لم يعبدوا قبرا بذبح و لا نذر
……و لا بطواف و لا بتقبيل تربة……فذلك فعل المشركين ذوي الكفر
……و لا رحلوا يوما لغير ثلاثة ……مساجد خصت بالفضائل و الأجر
……و لم يستغيثوا في الشدائد كلها ……بغير إله الناس ذي الخلق و الأمر
……و لم يصطفوا الرحمن إلا بما أتى……بنص كتاب الله و السنن الزهر(1/298)
……يقرون آيات الصفات جميعها……كما فعل المختار مع صحبه الغر
……فلو كان في التأويل خير لبادروا……به فهم الفرسان في النظم و النثر
……(أولئك آبائي فجئني بمثلهم……إذا ما) اجتمعنا في المجالس للفخر
……و قد أكمل الرحمن من قبل دينه……فلم يبق من زيد لزيد و لا عمرو
……بمائدة قد جاء بالنص ختمه……و إتمام إنعام يجل عن الحصر
……و كم زائد في الدين أصبح ناقصا……يبدل دين الله بالحدس و الحزر
……و من ظن أن تقليد الأئمة منجيا ……فأفتى بتقليد فيا له من غر
……كمنتحر عذرا ليغفر ذنبه……أضاف له جرما تجدد بالعذر
……ألا إنما التقليد جهل و ظلمة……و طالبه خلو من العلم و الخبر
……كطالب ورد بعدما شفه الظمى……جرى خلف آل لاح في مهمه قفر
……فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضيا……فإياك و التقليد فهو الذي يزري
……و جرد سيوفا من براهين قد سمت……عن الحدس و التخمين و السخف و الهتر
……و طرفك سرح في الكتاب فإنه……رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
……و من بعده فاعلق بسنة أحمد……فأنوارها تسمو على الشمس و البدر
……و لا تحكمن بالرأي إلا ضرورة……كما حلة الميتات أكلا لمضطر
……و مهما بدا أن القضاء على خطأ……أقيم فبادر للرجوع على الفور
……و من يقض بالتقليد فهو على شفا……كعشوا غدت في كافر حالك تسري
……و من يفتي بالتقليد فهو قد فرى……و في النحل نص جاء في غاية الزجر
……لعمرك ما التقليد للجهل شافيا……و أما نصوص الوحي فهي التي تبري
……و صل و سلم يا إلهي على النبي……صلاة تدوم الدهر طيبة الدهر
……فدونكما بكرا عروبا خريدة……مهفهفة غيدا عروسا من الشعر
……يضيء ظلام الليل نور جمالها……و ليس لها إلا القراءة على مهر
……قصدت بها نصرا لسنة أحمد……و ناصرها لا شك يظفر بالنصر
……و عدتها تسعون من بعد خمسة……و أختمها بالحمد لله و الشكر(1/299)
…هذا ما حضرني من الحوادث المتعلقة بالدعوة إلى الله و الاشتغال بالعلم أمليته مما بقي عالقا بذاكرتي بعد مضي عشرات السنين و تركت كثيرا من الحوادث التي لا تمت إلى الغرض المقصود بصلة و أسأله الله حسن الخاتمة إنه جواد كريم, و صل اللهم على محمد سيد المرسلين و على آله و أصحابه أجمعين و على التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين و علينا معهم بمنك يا أكرم الأكرمين. و كان الفراغ من إملائه مساء يوم السبت بمنزلي بالمدينة النبوية لاثنتي عشرة خلون من ربيع الثاني سنة1391هـ من هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم و الحمد لله رب العالمين.
و الله أسال أن ينفعني بنسخه و نشره و قد كان غرضي من كتابته نشره في الإنترنت لتعم الفائدة به و يستفيد منه الناس لكنني خلال نسخه وجدت فيه بعض المسائل كثناء الشيخ رحمة الله عليه على حسن البنا و غيره فقررت عرضه على من تيسر لي من أهل العلم بغية أن يعلقوا عليه و يبينوا ما فيه من أخطاء كي يعرض على الإخوة صافيا نقيا لا تشوبه شائبة.(1/300)