بسم الله الرجمن الرحيم
الدعوة إلى الله حب
الجزء الأول
"خطاب من القلب يتوجه به إلى كل مسلم رجل عاش قضية الأخوة في الله"
عباس السيسي
مقدمة
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
لم تزل الأخوة الإيمانية مضرب المثل في الأثر والتأثير، والخدمة والتضحية والإيثار، ولقد كان الإخاء الذي أوجده الإسلام قمة القمم، وكان ذروة ما تمثل به هذا الإخاء ما رأيناه في الجيل الذي عايش رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربى على يديه، وفي كل جيل يقدم الإسلام نماذج.
وقد جعل الإسلام الإخاء على ضربين: الإخاء العام والإخاء الخاص، وجعل لكلٍّ من الضربين آدابه وحقوقه، فمن آداب الإخاء العام إخلاصُ النصيحة ورد السلام، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، والقيام بحقوق الحياة والوفاة ...
ومن آداب الإخاء الخاص زيادةً على ما قدمناه: الزيارة، والمحبة، والبذل، والإيثار، والمسارعة لقضاء الحاجات، وذكر الأخ بالجميل والذبُّ عن عرضه إذا غاب، وكتمانُ أسراره، وعدم مماراته، والعفو عن زلاّته، والدعاء له في حياته وبعد مماته، والوفاء له، والإخلاص لعهده، وترك التكلف والتكليف معه إلى غير ذلك من آداب وحقوق.
وإذا كان كل خير جماعي ينبثق عن عمق الإخاء الإسلامي فقد سمّى الأستاذ البنا الجماعة التي أقامها لإحياء الإسلام وتجديد حيوية أهله "الإخوان المسلمون" وكان ذلك إشارة إلى أن نقطة البداية في العمل الإسلامي: الإخاء على أساس الإسلام.
لقد حاول الأستاذ البنا إحياء كلا الضربين من الإخاء: الإخاء العام والإخاء الخاص.
فظهر كأثرٍ عن ذلك سلوك عطر، وعلاقات إسلامية حميمة، وود سابغ، ورحمة شاملة، وعبّر عن ذلك أصحاب ذلك بأدبيات اجتمع فيها برد اليقين وحرارة الإخلاص.(1/1)
والأخ عباس السيسي ممن عايش الأستاذ البنا، ونهل من معينه العذب، فتجسدت فيه معاني هذه الدعوة في صفاء ورواء، ومن أعلى ما تجسد فيه خلق الإخاء فهو صافي المودة، ثر العطاء حيثما توجه نشر من عبير روحه الحبّ، فلا يكاد يجتمع مع أخٍ حتى يشعل في قلبه نور الإخاء في الله حارّاً متوقداً منيراً لأنه هو كذلك، فتراه يغرف منه الصغير ويرتشف منه الكبير، وهو بطبيعته شفاف النفس حساس الوجدان مع تأمل عميق، وفراسة صادقة، وفطرة صافية، وقدرة كبيرة على أن يحيط الكبار والصغار بعطفه، وأن يتجاوز عن الأخطاء، ويغض الطرف عن الزلات، ويتحمل في الله المصيبات، مما جعل الكثيرين من شبابنا يتعلقون به بمجرد أن يعرفوه، لأنهم يجدون عنده حباً بلا مصلحة، وأبوةً بلا مطالب شخصية، وأخوة تتقارب في أجوائها فوارق السن والقدر بسبب من تواضع لا يعرف إلا الحدود الشرعية.
ولذلك فكثيراً ما يراسله إخوانه الشباب، وهو حريص أن يجيب على كل رسالة، ولو أن رسائله وإجاباته ورسائل المرسلين إليه جُمِعتْ في مجلدٍ لكان ذلك برهاناً على أن الإخاء في الله يعطي أهله سعادة لا تعدلها سعادة.
وقد رأى أن يستخرج من بعض رسائله عبارات تصلح لأن يخاطب بها كل مسلم ليحرك في قلبه عواطف الإخاء في الله لتؤدي ثمارها في هذه الأرض، فكانت هذه الرسالة التي يتوجه بها إلى كل قلب.
وقد أراد بذلك أن يبثّ عواطفه للمسلمين جميعاً تعويضاً عن واجبٍ يتمناه وهو أن يراسل كل مسلم على حدة، فكانت هذه الرسالة هي البديل وهي العوض.
كما أنها في الوقت نفسه تذكير للمسلمين جميعاً ان يحققوا الإخاء العام ولمن استجاب أن يحقق الإخاء الخاص.
وهي تذكير لمن فَتَرتْ عنده حيوية الإخاء أن يجددها، ولمن نسيها أن يتذكرها، فبدون إخاء عام وخاص لا تقوم حياة إسلامية راشدة أو رشيدة.
ولقد أعطاني الأخ الشيخ عباس شرف التقديم لهذه الرسالة، وإنه لمن أعظم الشرف الذي أُسرُّ به وأرتاح إليه فجزاه الله خيراً.(1/2)
رمضان المبارك 1403 هـ.
تموز (يوليو) 1983 م.
... ... ... ... ... ... ... ... ... سعيد حوّى.
الرسالة الأولى
أي أخي في الله:
سلام الله عليك ورحمته وبركاته، الناس يقولونها عادة، ونحن نقولها عبادة، نقولها ونحن نستشعر المعنى الجليل، سلام الله عليك أيها الحبيب، ورحمته ... وبركاته.
كأني أقف في محراب صلاة في دعاء رقيق صادق يحمل الحب والود، فأقول لك وأنا في قمة الإخلاص والوفاء لك، سلام الله عليك ورحمته وبركاته، ودعاء تام، أدعو لك بالسلام والرحمة والبركة، من الله سبحانه وتعالى، إنه دعاء من قلب أحبّكَ دون أن يراك، وأحبُّ الناس إلى نفسي من أراهم بقلبي، والقلب مستودعُ الرحمات والحب والحياة، وهو الذي يجعل الإنسان يتميز بالخير والحق والذوق والجمال والحياة، وهذه أول وصايايَ لك، أن تكون تجسيداً للخير والحق والذوق والحياء والجمال. الحياء له سلطانٌ ساحر على القلوب، والجمال له سلطان ساحر على العقول، والجمال الذي أعنيه هو وضوح بهاء الروح على نضارة الوجه "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" ، فإذا رأيت أصحاب ذلك هداك حبهم إلى معالم الحق والنور " نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم" ، "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" هذا هو الجمال الحق، أما الحياء فهو الجمال الحيّ المشرق الناطق الذي يجذب القلوب والنفوس بل يطوعها، وصدق رسول الله T "الحياء خير كله" و " لكلِّ دينٍ خُلُق وخلقُ هذا الدينِ الحياءُ ".
والإنسان الذي يُعطي هذا الخير يؤمل فيه ويرتقب منه. والذين يملكون تلك المواهب عليهم أن يكونوا شموعاً للناس ودعاة بما وهبهم الله تعالى من حسن الخلق يقفون على رأس طريق الرحمن منادين بكلمة الله " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".
أي أخي:(1/3)
هذا العالم يحتاج إلى قلب وعاطفة ومشاعر، فَكُن القلبَ لهذا العالم، وأحيه بعاطفتك ومشاعرك، إن الإنسان الذي يعيش بلا قلب ولا عاطفة ولا مشاعر قد تكون له فلسفةُ أو نظرة أو تجربة لكن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بمثل هذه المقومات النفسية والروحية، وإلا لكان الإنسان الآلي والكمبيوتر يغطيان مهمة الإنسان.
إنّ الإنسان قلب وروح وعاطفة، وإذا قلت العاطفة في معرض المدح فانها ليست عاطفة مطلقة بلا قيود ولا حدود، إنّ العاطفة ببض وحياة وهي مقيدة بأصول شرعية، والذين يتعاملون بالعواطف الجاهلية لا يقفون على قدم المساواة مع العواطف النظيفة العفيفة التي هي سر حياة المسلم وسر وجوده الروحي.
ولقد كان إمامنا رحمه الله يدرك هذه الحقيقة حين قال: (أيها الإخوان ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأضيئوا نظراتِ العقول بلهبِ العواطف).
إن عاطفة الأخ المسلم مقيدة بل متحصنة بتقوى الله عز وجل، وليس من المعقول أن نحاصرها أو نتجاهلها أو نقتلها لأنها فطرة. ولكن جاء الإسلام العظيم ليفتح لها منافذَ الطهرِ والعفاف والنقاء وكانت أعظمُ هذه النوافذ هذا الخطاب (إني أحبك في الله تعالى) عاطفة الأخوة والحب في الله أعظم زادٍ أمامَ هذا الطغيان المادي، وهي الغذاء لذلك الجوع العاطفي الذي ينزل بكثير من القلوب.
كنت كثيراً ما أقبِّلُ أطفالي الصغار في سن الرضاعة، وكنت أميل إلى أن أتشممهم وأجد في ذلك راحةً وسعادة لنفسي، ولكني كنت أظن أن هذا التصرف فيه شيء من الإفراط، وذات يوم كنت أقرأ في سيرة رسولنا العظيم T في غزوة مؤتة، حين ذهب إلى بيت جعفر بن أبي طالب ليتفقد أولاد جعفر بعد أن أعلَمَهُ الله تعالى بنبأ استشهاده، يقول الراوي فأخذَ رسول الله T يقبل أطفال جعفر رضي الله عنه " ويتشممهم" وحين قرأت تلك الكلمة لم أتمالك من البكاء.(1/4)
أيها المسلم العظيم: عَمِّرْ هذا العالَمَ بفيض حنانك، وأشعر كل القلوب بمزيد رحمتك وخُصّ إخوانك المسلمين بأعلى درجة من حرارة المحبة وأشعرهم بأنك تحبهم فذلك هو الاكسير لعلاج ألف مشكلة ومشكلة إن كثيراً من مشكلات العالم سببها خمود العاطفة أو انحرافها.
أي أخي:
إن الذين يحملون دعوة الله تعالى إلى الناس لا بد أن يكونوا قمة النظافة، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، ومن هنا فأنت لا تقرأ القرآن إلا وأنت طاهر، والدعوة التي آمُلك لها وأنشدك لمستقبلها في حاجة إلى نظافة قلبك، ليعطي ويأخذ، ليصبر ويصابر، ليصفح ويسامح، لينزل إلى مستوى الضعفاء، وليرتفع بهم إلى مستوى الأقوياء، يقترب ببطء حتى لا يُنفر، لا يتكلم في حق الآخرين إلا بخير لأنه ينشدهم للدعوة " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كإنه ولي حميم" كل ذلك مفتاحه نظافة القلب فهي سر النجاح، إننا عما قريب راحلون، ونحب أن نُودّعَ الحياة وقد أَوْدَعْنَا هذه الدعوة عند شباب نظيف القلب، ويعلم الله أننا إذا أحببنا هذه الدنيا فانما نحبها من أجل ذلك " كل نفس ذائقة الموت" ، " وما تدري نفس ماذا تكسب غذاً وما تدري نفس بأي أرض تموت".
فحقق الأمل فيك بأن يكون قلبك لا غلّ فيه ولا حقد، ولا حسد فيه ولا كبر، طاهر كطهارة ماء الغمام، نظيف كنظافة الثلج أول ما يستقر في الأرض.
أي أخي:
أرسلتَ تقول لي (والله يا أخي لو تعلمُ حالتي حين قرأتُ الرسالة لما كنت تتوقفُ عن الكتابة لي وتنصحني بهذه النصائح الجميلة التي جعلتني شعلة من شعل الإيمان، والتي غَيّرَتْ نظام حياتي وطريقتي، لو أنك تعرفُ ما أثرت بي لكنت بكيت من توفيق الله لك بكتابة هذه الرسالة لي)...(1/5)
أنا سعيد بهذه الكلمات من زاوية بعيدة عن المدح والثناء، أنا سعيد ومسرور لأنني عثرت على مثل هذا القلب أسأل الله تعالى أن يحفظك ويرعاك وأن يزيدك إيماناً وتقوى وثباتاً على الحق وأن يهديك بالنور الذي تمشي به في الناس داعياً إلى الله، بالحكمة والكلمة الطيبة، فان الحكمة إنْ خرجت من قلبٍ موصول بالله تعالى أوقدت فيه شموعَ الهدايةِ.
إنني سعيد... وسعادتي تنبع من عقيدتي ... إن هذه العقيدة التي اجتمعنا عليها هي التي تمدنا بالحياة وكلماتك هذه شاهدة على ذلك.
لقد أعطيتني وثيقةً صادقة على أننا مقصرون، في حق إسلامنا، فالقلوب مفتحة الأبواب لقبول دعوتنا وللإستماع بل وللإستمتاع بروح رسالتنا، وقديما سمعت (إن في هذه الأمة مناجم من قلوب، لا يحجبها عنكم إلا غبار الزمن). فامسحوا بأيديكم على القلوب تتفتح كالزهور، وتستخرجوا بذلك كنوز فطرتها، وها أنذا بمسحةٍ حانية فجرتُ بفضل الله ينابيع الخير في قلبك، فليكنْ ذلك درساً لي ولك، ألا نقصر في الخطاب، ولكنْ خطابنا للقلوب ونحن في أعلى درجات اليقين والإخلاص، فالله عز وجل لا يقبلُ عملاً دعوياً أشركتَ به غيرهْ، من نفس أو غير. "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً".
أي أخي:
في تلك العواطف النقية التي نَدَبْتُكَ إليها حياةٌ .. وسعادةٌ .. ومددٌ .. وقوة، غذاء، ودواء، ورواء، واحات وحدائق وبساتين. عندي فرحة كبيرة، سعادة غامرة، سرور بالغ لا تتسع له الدنيا كلها. قلبي يخفق، ينبض بقوة يكاد يطير من الفرح. أمل كبير أرنو إليه على المدى البعيد. لأراك جندياً صادقاً من جنود هذه الدعوة. يا ربِّ بَقَدْرِ ما تعلم من صدق حبي لإخوتي أسعدنا بهم رجال دعوةٍ وجنود عقيدة تحمل الأمانة وتبلِّغُ الرسالة.(1/6)
إن شعوري الذي يلازمني: أنني أُوَدِّعُ إخواني الوداع الأخير. ولهذا فإنني أطمع في البقاء معهم أطولَ وقتٍ ممكن حيث يساورني شعور بالموت في كل لحظة. شعور يستبد بي دائما. لذلك أحب أن أعطي أسرار قلبي لقلوب جديدة، إن عاطفتي وحبي لإخواني فوق كل عاطفة.
هل يحظى أحد بمثل ما نحظى به من حب وعطف وحنان، ببركة هذا الإخاء في الله إنها من قبل ومن بعد روحُ الإسلام الذي بعث الله به محمداً رحمة للعالمين، ياليتَ تلك القلوب الضائعة والتائهة تذوق ما ذقنا فتؤوب.
يا إخوتاه: لقد كنتم في عالم الغيب وكانت الدعوة تترقبُ مطلعكم المبارك لتكونوا هذه الطليعة المؤمنة التي يعز الله بها هذا الدين ويحقق بها أمل المسلمين. لو رأيتم دموعي وهي تترقرق في انسيابٍ حزين وفرح بما حبانا الله تعالى به من استجابة مثل هذه القلوب الطاهرة .. مَنْ يُصَدِّقُ بعد كل هذه المحن القاسية المريرة أن يستجيب هذا الشبابُ لداعي الله، ولكن صدق الله العظيم "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" نعم أنتم ولا أُزكي على الله أحداً، الذين لبيتم نداء الله تعالى بكل قوة وشجاعة " الذين قال الله لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
أنتم بعيوننا وقلوبنا لأنكم رصيد دعوتنا واستمرار أيامنا واننا نأمل المزيد من هذا الجيل المنشود.
أي أخي:
كَتَبَ كُتَّابنا في العقليات، وكَتَبوا في فقه الدعوة وأنظمة الحياة فأقاموا الحجة على العقول فجزاهم الله خيراً، أما أنا فإنني أريد عاطفةً لها نشيجٌ ولها هدير، ولها تأملات وعبرات. فالجماعة التي تدرك هذه اللمسات وتلك الهمسات وتظللها بالحب والرعاية وتنميها بالثقة والإخاء جماعةٌ لا شك بالغة مدراج الكمال. والذين يفقدون هذه الروح بل لا يحسون بها. أو لا يعطونها حقها يفقدون أخصَّ خصائص القوة الروحية التي هي سرُّ الحركةِ المستمرة الراشدة.(1/7)
الإسلام ذوق، الإسلام لطائف، الإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية يتعامل مع القلوب يتعامل مع الأرواح، يتعامل مع الأنفاس، هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات ولا بخشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بدأ بالكلمة الطيبة والنظرة الحانية "وقولوا للناس حسنا" ، "اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى"، "وليتلطف". (أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون) هذا الدين رسالة إلى قلب الإنسان "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".
أي أخي:
لا تنس أن لك إخوة فاسْعَ إلى قلوبهم وتلطّفْ معهم واجمع القلوب على القلوب بالإيثار والرعاية والصبر والحب.
احمل هذا النور واخترق به ظلمات هذه الجاهلية برفق ولين واقرأ في سيرة الرسول T وأنت مفتوح القلب فانك ستجد يقيناً أنه T رسَّخَ هذه المعاني في كل حركة وكلمة وإشارة. "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
أي أخي:
كل ما أملكه أني أتوجه إلى الله تعالى وأنا في محراب الصلاة أن يزيدك من فضله إيماناً وفراسة وحياة قلبية ويقظة في روحك ومشاعرك.
ولقد تعلمنا في الدعوة أننا نرتقي بالحبِّ حتى نصل إلى أعلى درجات القُربْ: وَجَبَتْ محبتي للمتحابين فيَّ، وانظر إلى قول رسولنا T "يحشر المرء مع من أحب" تجد صدق ما ذكرت، لهذا كان حبنا نموذجاً فريداً. اللهم وثِّق رابطة قلوبنا واجمع بيننا على الحب فيك.
أي أخي:
سألتني عن كيفية دعوة الشباب والأسلوب الأمثل لذلك وقد عجبتُ وسررتُ، أما العجب فأن تنتقل من حالة المدعو إلى حالة الداعية، وأما السرور فلأن هذا هو الأمل الذي أنشده وأبحث عنه، فرحتي كانت غامرة بهذه النقلة المباركة.(1/8)
لو أني أعرفُ أنك في الإجازة لوضعت بين يديك مجموعة من الكتب الهامة تشرح لك ما تريد ولكن نحرص على أن تنجح بتفوق في دراستك لان في هذا نجاحاً للدعوة، فالأخُ المسلمُ يجب أن يتفوق في كل ميادين الحياة، لأن دعوتنا في حاجة إلى كل التخصصات العلمية كما أن دعوتنا تطلب ممن يتصدرُ للدعوة أن يتسم بعدة خصائص منها: النظافة في القلب والضمير والخلق الحسن، النظافة في المظهر والهندام "إن الله جميل يحب الجمال" والله تعالى لا ينظر إلى صورنا ولا أشكالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا.
فالصورة الجميلة بلا أخلاق ولا ذوق ولا أدب، لا قيمة لها في ميزان الإسلام، فليس الجمالُ في شكل الجميلِ، فشكل الجميل بسوء الفعالِ طينٌ بطين وحبُّ محال. وكمما أننا نطالب الأخ بالنظافة الحسيِّةِ والمعنوية نطالبهُ بالتفوق في أي ميدان دخل فيه، ولنعدْ إلى موضوع الدعوة وكيف تدعو؟.
أذكر لك منها شذرات: أقول: إن الدعوة تحتاج إلى استيعاب ثم إلى عرض مخلص يرافقه الإيناسُ للمدعو.
فالدعوة تقتضي فهماً دقيقاً لكل مراحلها وأهدافها وما تريدُ في المستقبل وماذا تقصد في النهاية وما هو طريقها لتحقيق أهدافها ويلزم لذلك قراءة رسائل الإمام حسن البنا ومذكراته والكتب التي تدور حول هذه المعاني، كما يجب مدارسة تاريخ هذه الدعوة منذ بدأت والمصاعب والمحن والشدائد التي مرَّتْ بها .. وأنسبُ وسيلة للاستيعاب هي الإستماع إلى الإخوة القدامى الذين عاصروا هذا الطريق الطويل الشاق.
وعليك بعد ذلك أن تَتَحَصَّنَ بالفهم الجيد لشمول هذا الدين فتقرأُ الكتب المفيدة التي تُعِينُكَ على الإحاطة بقدر الإمكان.
ومع هذا وذاك فلا عليك إلا أنْ تصحح نيَّتَكَ وتتكلم والذكرى تنفع المؤمنين.(1/9)
وأضعُ بين يديك مسألة هامة، تلك هي عدم التسرع مع الأفراد في الأحاديث المستفيضة قبل أن يأنسوا لك ويحبوك ويثقوا فيك، ولا يكون ذلك إلا بالصبر الجميل والأناةِ وحسن الدخول إلى القلوب بالابتسامة الحلوة والنظرة المخلصة والسؤال عن الغائب وزيارة المريض وغير ذلك.
فبعض الشباب يتسرع وقد يصدم في أول الطريق حين لا يُوَفَّقُ. وربما دعاه ذلك إلى أن ينطوي. إن الدعوة إلى الله والصبر عليها جهاد. الوسيلة الناجحة في الدعوة أن تدخل إلى القلب برفق، تتقدم نحوه خطوةً ثم خطوة أخرى ولو طال الزمن فالمهم هو الوصول في النهاية إلى الهدف، فاذا وصلنا إلى هذا القلب استجاب العقلُ وصحَّ الفكر واستقامَ الطريق، أما إذا كنت قد بلغت درجة الوصول إلى القلب في الجلسة الأولى وأن تصهر محدثكَ بدعوتك فلا تقصر.
الأسلوب الأول يحتاج إلى وقت وصبر ومعاناة لكنه مأمونٌ ولا سيما إذا كان دعاة الباطل ينازعونك على المدعو لكن النهاية سوف تكون لصاحب الحق ثم لصاحب القلب ما كانَ في المدعوِّ خير وصَدَقَ منْ قال (بين الهزيمة والنصر صبر ساعة) وأبشرك أنك سوف تجدُ من القلوب من يستجيب، وسوف تجد أن الذين يقتنعون كثيرين وتلك عاجل بشرى المؤمن، والمهم في النهاية أن تكون في حالة حركة دعوية مستمرة، والمتحركُ في كل خطوةٍ بركةٌ وعمل ونماء.
والإنسان الذي يعيش بلا حركة دعوية هو حيّ كميت، موجود كمفقود لا أثرَ له، هو في الواقع لا يُعطي ولا يثمر، كشجر السرو له طول وليس لهُ ثمرٌ، وليس هذا هو الوضع الأصيل للمسلم، فلا إله إلا الله في قلب المؤمن لها ثَمَرُها "تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها" فالمسلم في ذاته مثمر منتجٌ حين يستقيم مع الحق فهو كذلك في أسلوبه وفي أخلاقه وفي معاملاته وفي إشراقة وجهه وفي ابتسامته وفي لطف معاملاته مع إخوانه وفي الحرص على الوفاء بوعده وعهده وفي حسن تعامله.. وهذا وحده حياة وسعادة ودعوة.
أي أخي:(1/10)
هناك ما يُبكيني ويُحزنني.. فهناك جفافٌ في قلوب بعض الإخوة وهم لا يشعرون لأنهم لم يسبق أن عاشوا في رحاب الوجد، فهم يتصرفون بلا إدراكٍ للحقائق النفسية العميقة، ومع حزني عليهم فإنني أتحملهم لأننا تعلمنا أن نعفوَ ونصفح بل أن نخفض جناح الذل من الرحمة لكل إخواننا.
أي أخي:
كثيراً ما أجد نفسي وكأن ريحاً عاتية تهب على قلبي فتحدث قلقاً فماذا أفعل؟
عندما أجد مثل هذه الحالة أذهب إلى أخٍ صالح مؤتمنٍ أجلسُ معه أفضى له بكل ما في نفسي من عذابٍ وآلامٍ ومشاعرَ وعواطف مما يجوز لي شرعاً أن أقوله، وكثيراً ما أعود وكأن شيئاً لم يكنْ، مَنْ لنا غير هذه القلوب الحانية التي تغمرنا بالحب والحنان؟ لقد طلقنا النوادي والمقاهي ومجالات العبث واللهو، وارتضينا الكينونةَ مع القلوب والأرواح والعواطف الطاهرة الزكية التي تسعنا وتفيض علينا وتعطينا وتمسح دموعنا "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
فلا تنسَ ولا أنسى أن هذا هو سرُّ العلاقةِ الأخوية التي لا يجوز التفريط فيه.
أخي المسلم:
يا ابن الإسلام .. يا ابن القدس .. يا ابن فلسطين .. يا هذا الأمل المأمول، يا من نتطلع إلى أمثالك ليزيلوا هذا الركام وليرفعوا رايةَ الإسلام، يا من ننشده للمجدِ التليد، يا من نتطلع إليه أن يكون منبعاً للخير والمجد والحياة .. أين أنت؟ هيّا للرجاء المنشود كن عبداً لله ساجداً وراكعاً وذاكراً وتالياً. تَجَرَّدْ وتعلَّمْ واعزم عزماً أكيداً أن تكونَ جندياً خالصاً، أدعوكَ بكل حبي لكَ أنْ تكون لك غاية تسعى إلى تحقيقها وتعمل من أجلها، وليس أعظم من الإسلام غاية ولا أشرف منه بداية ونهاية.
الرسالة الثانية
أي أخي:(1/11)
لقد كنتُ أظن أن الإنسان حين يقارب الستين من عمره تخف مسؤولياته وعليه أن يستريح ولكني مع ضعف صحتي وقلة حيلتي تتضاعف أمامي المشاكل والمتاعب، ومن ناحية أخرى تشتد عواطفي وتزداد مشاعري رهافةً نحو إخواني، وأحسٌّ بحرارة هذه الأحاسيس والمشاعر، وأحياناً أقول لنفسي لعلّكِ بهذه العواطف تهربينَ من المتاعب المتلاحقة فتقولُ: ليس هروباً ولكنه زاد الطريق الذي يعين المسلم على الوفاء بالتزاماته، فان الهروبَ من القدر لا يُنجي من القدر، ولكن عواطف الرحمة والوفاء والحب في الله محطات راحةٍ على الطريق الشاق، فراحتي يا إخوتي في أُخوتِكمْ فلا تبخلوا عليَّ بها.
أي عباس:
كم أنت سعيد بهذا الخير الذي غمرك الله به فكانت لك هذه القلوب الكريمة التي أَحْبَبْتها وأَحَبَّتْكَ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما وُفِّقْتَ لها، فالحمد لله الذي هداك لهذا الخير وأكرمكَ بأخوة هذه النخبة الفاضلة، ولقد سعدتَ بالإخوان الذين وهبهم الله تعالى نعمةَ العلم فأخلصوه لخدمة الإسلام، فكانوا نبراساً ونوراً يستضاء به، كم أسسوا في قلوبنا من عواطف خيرة ومشاعر نيرة.
يا شباب الإسلام:
هذه رسالةُ جيلنا نستودعها جيلَكُمْ فاحرصوا على ود القلوب وطاردوا الوسواسَ الخناس ولا تدعوا فرصةً للغيبة والنميمة فانها تقتلُ الحبَّ وتُفشي البغضاءَ، قاربوا وسددوا ولِينُوا في أيدي إخوانكم وتطاوعوا ولا تختلفوا، والله معكم يحفظكم ويرعاكم لهذا الإسلام العظيم.
يا رب – سبحانك اعطيتَ لنا شباباً حياً تقياً قوياًو هُوَ لنا في هذه الدنيا زاداً ودواء ورواء نحبه حباً لا يعرفُ قدره إلا القلوب المشتاقة التواقة.
يا رب – نشكركَ أنْ جعلتنا نرى آخر أيامنا شباباً وحياة وحيوية في دعوتك ولدعوتك.
إنه يا رب – منك خير العزاء وأرجو في الآخرة أن تمنَّ علينا معهم باللقاء.
يا رب – دموعي حائرة تشتاق إلى قلوب زاهرة أشتاق إليهم على البعد البعيد.(1/12)
يا رب - هؤلاء عبادكَ وهبوا لك أنفسهم وأموالهم، ربنا فاغفر لنا ولهم.
أي أخي:
الحب في الله تعالى أذواقٌ وأرزاق، وليس الرزق هو المال فقط، فان التقوى رزق والإيمان رزق، أليس من ثمرات الإخاء الغنى والرضى والأمان والاطمئنان، فأيُّ رزقٍ أعظم من هذا. ألا تحس في اجتماعاتنا سعادةً تفوق حلاوة المادة وسلطانها، ألا تحس في صفاء قلوبنا وصدق مودتنا ما هو أغنى من الحياة نفسها. إنه نورٌ يضئ جوانب الحياة فنقبل عليها في ثقة وحب وحماس.
الحياة يا أخي ليست المال والجاه فقط، ربَّ كلمةٍ عميقة مؤثرة ممزوجة بالصدق تعطي القلب حياة وسعادة وانتعاشاً أكثر من كل ما يفرح له أهل الدنيا.
أخي يا نموذج الإخاء: الله يعلم أنني أحملُ لك أعمقَ معاني الحب لأدبك الجم وحيائك اللطيف وشعورك النبيل، وهَلْ لنا غير تلك القلوب الطاهرة في هذا الظلام وهذا الركام، بين جموع البشر التائه في غابات الوحوش الآدمية.
إن العثور على قلب مؤمن مشرق يحبُّ الله ورسوله ويعمل لإعادة مجد الإسلام بمثابة العثور على كنز بعد فقرٍ وهوان، وأي كنز مهما بلغ قدرهُ يساوي قلبَ مؤمن، كل ما سوى الدين هباء، كل ما سوى هذه الرابطة المقدسة لا يساوي شيئاً. خجلتُ من نفسي كم تقصرُ في حقكَ.
أي أخي:(1/13)
لعلك لا تدري أنني اخصُّ الإخوة في سوريا بالكثير من الحبِّ ولي معهم علاقاتٌ روحية عيمقة ورسائل متبادلة، أما الإخوة الفلسطينيون فإنهم مِلء قلبي، ولكن هناك هل هناك أخٌ لا أحبه؟ تذكر جيداً هذه الوصية: إنّ عليك أن تبعث روحَ الحبِّ بين الإخوة جميعاً، هذا أصلٌ من أصول دعوتنا ولولا هذا الحب ما قامتْ لنا قائمة وما بقيت لنا جماعة فلقد عرفنا وتعلمنا أن: (الدعوة حب – والحب دعوة – ولا دعوة بغير حب) ولا يمكن أن يشيع هذه المعاني الكبيرة إلا أصحاب القلوب الكبيرة التي تحس بهذه المعاني حقيقة تعيش في وجدانهم وأعماق قلوبهم، ونحن اليوم أمام الظروف التي لا تخفى عليك أشد ما نكون حاجة ملحة إلى دعوة الروح، والحب هو روح هذه الدعوة، فإذا كان القلبُ هو روح الجسد فان الحب هو روح هذه الدعوة.
دموعي هي سبيلي إلى الراحة النفسية، وأحياناً أشواقي تخفف أحزاني، وأحياناً آلامي تنير طريقي، وتطلعي إلى لقاء الآخرة يمنحني الأمل الذي يغذيني أو يعزيني.
أي أخي:
الجمال مُحَصِّلَةُ مواهبِ الروح والعاطفةِ والذوقِ والأدب والحياء وحسن الإستماع ورقة الشعور والمشاعر، والانسانُ الموهوب هو الذي تزينه اللطائف الروحية فيضيء كالمصباح، تتلألأ على وجهه أنوارُ التقوى والهداية لمن رآه، كان رسول الله T مَنْ رآه بديهةً هَابَهُ، ومن خالطه معرفةً أحبَّهُ، ومن وهبه الله تلك النعم عليه أن يقوم بحقِّها، يجمع بها القلوب ويشعل الأرواح، يدفع من ذَوْبِ قلبه في قلوب إخوانه ليربط على الحق قلوباً تجاهد في سبيل الله.
الرسالة الثالثة
أى بُنَيَّ:
أرسلتَ تقول: "والدي الحبيب" كم أنا سعيد، كم أنا فخورٌ أن تكون هذه منزلتي عندكَ، إنه والله لشرفٌ كبير أعتز به، سيبقى يدفعني لأستتحقه وأكون أهلاً له.(1/14)
أقول: هذا فضل الدعوة أولاً فلولاها كمنا في عالم لا يعلم سرهُ إلا الله تعالى، فالدعوة يا أخي هي روحُُ وجودنا وسر شعورنا النبيل الذي يفيض بالأدب والحياء، وإنْ تعجب فعجبٌ ما تكنه الصدور مما استقرَّ في الأعماق من آثارٍ هي أكبر وأعمق وسوف تفيض على العالم بِرَّاً ومرحمةً في يوم من الأيام.
أى بني:
تقول: (والدي قد ربطتني بقوةٍ خفية)
اسمع: حين سعيتُ إلى قلبك بكل عواطفي ومشاعري وحبي، كنت أقصدك، أنت تقول: لقد ربطتني بقوة خفية، وأنا أقول لقد شَدَدْتَني إليكَ وجذبتني بنفس القوة، فاستعدادك للخير كان قوياً انظر إلى قولك: (إن هذه الرابطة جعلت قلبي يفتح دون إرادتي لكلامك وأصبحت كل كلمة تحمل معنى عظيماً) تدري لماذا حدث هذا؟ لأنني وأنا أتكلم معك أكون في حالة من الحضور القلبي والروحي مع ربي لأنني أخاطبك من أجله.
أي أخي:
ليست الدعوة جانباً واحداً، فمن يعجزه العمل في ميدان، فهناك ميادين كثيرة في حاجة إليه. يقول الإمام البنا رحمه الله: الفلاح الذي يزرع القطن يعرف أن الثمار تحتاج إلى ستة شهور فهل ينتظر ستة شهور بلا عمل؟ لا. انه يزرع حول القطن خياراً، طماطم، ذرة، فجلاً جرجيراً، حتى يأتي وقت حصاد القطن، نحن في حاجة إلى أن نؤدي حق الدعوة الفردية وهو أنفع شيء للدعوة في هذه الظروف. إن دعوتنا عالمية لن تقف عند مشكلةٍ ولا تتعطل عند أية معضلة ولا بد أن نتحرك، باستعمال البدائل والأولويات.
أي أخي:
أخاف أن أمتدحكَ فتضيعَ وتضيعني معك، أخافُ عليكَ من أن تنسى فضل الله عليك.. أنت مُدَّخَرٌ لغايةٍ كبيرة فافطم نفسك عن شهواتها، وأخرجْ حظَّ نفسك من نفسك، تجرد من حب الظهور، وحاذر مِنْ (أنا) وتقرب إلى الله بحسن العبادة وصدق التوكل، تَعَلّم أن تحاسب نفسك كلّ يوم حتى تخلصها لرسالتها التي تترقب مطلعك.
أي أخي:(1/15)
تعرفتُ على الدعوة الخالدة في السابعة عشرة من عمري، فأنقذني الله من الدمار، قضيتُ هذه السنين في رحاب الدعوة، حُلوها ومُرَّها، أما حلوها فقد كان في صحبة إمام هذه الجماعة وأبنائها، فهذه هي السعادة ولا منازع، وأما مرها فما أشده ولكنه لا يقاسُ بنعمة الأخوة وحلاوة الحب في الله تعالى، لقد كنا نعيش في محنٍ قاتلة، لا يسهّل علينا الحياة في أتُونِها إلا رحيق الحب، وحلاوة اللقاء، وعذوبة الابتسامة، ورقة المعاملة، ومن ههنا أقولُ لكَ: الإخاء الإخاء. ليت قومي يعلمون، فينهضون ويعملون، فالنفوس سخية وفية عامرة بالإيمان.
أي أخي:
أوصيكَ بالأدبِ والتجرد والإيثار فإنها نادرة في هذا العصر، إنها تقاليد راسخة موروثة في دعوتنا، ورثناها ورضعناها من الجيل الأول، جيل أصحاب رسول الله T، عند غيرنا تحدث (الغيرة) وتحدث (الأنانية) ولكن عندنا (ويؤثرون على أنفسهم) ويفرحون لفرحِ من يحبون ويبذلون في سبيل ذلك من عواطفهم ومشاعرهم ما يفوقُ الوصفَ والحساب (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا). تلك يا أخي أمةٌ جديدة وأمة فريدة.
التقيت بإخوة أتعبوني كثيراً حتى أني لم أجدْ سوى الدموع تشفع لي عندهم، لفرط حبي لهم قلتُ لهم كلماتٍ لم تكن تخطر ببالي من قبل. ألهمتها أمام هذه المشاعر المتدفقة، لم أستطع التماسك، لقد كانت لحظات من النور نادرة المثال.. ليت تلك الصورة وهذه المشاهد يمكن تصويرها أو إيضاحها، من الصعب جدا أن يحدث ذلك، اللهم إلا إذا انقلبت الدنيا إلى الآخرة.
أخي: إنَّ الخير يأتي بالخير "ومثل كلمةٍ طيبةٍ كشجرة طيبة".
لقد تفتحت الأزاهير وأينعت الثمار وأصبح لنا لغة جديدة أمتع وأروع وأحلى وأعذب، لقد أدرك الإخوة هذه النعمة الخطيرة في التفاهم والتلاحك والحب فأنتجتْ يقظةً في القلب وحياةً في الوجدان والمشاعر.(1/16)
لقد أدرك الإخوة قيمة إنسانيتهم وحقيقة وجودهم وسر خلق الله لهم، فارتفعت في ميزان تفكيرهم قيمة الحياة، وقيمة الوقت، وقيمة هذه الدعوة، فاكتشفوا أنفسهم وسط هذا الزحام وهذا الركام، فكانت الإنتفاضة الروحية "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وهذا هو البعث الجديد لحياة إسلامية راقية على وعي وفهم وثقة بنصر الله تعالى.
كنتَ يا أخي بالنسبة لي مفاجأةً سارةً عبر وحشة هذه الجاهلية التي نعيش فيها، فالذين يملكون الأحاسيس العالية ندرةٌ نادرة في عالمنا، لأنهم دائماً يتأثرون بما حولهم من قبحٍ وجمالٍ وشر وخير، يتألمون للشر ويفرحون للخير، لا يعيشون لأنفسهم لأنهم أصحاب رسالة تشغلهم وتؤرق مضاجعهم، وتلك في الإنسانية أسمى ما تميز به الإنسان.. إن الحقيقة التي جمع الله تعالى بها قلوبنا فوق تصور الناس الذين يعيشون أحياء كأموات لهم قلوبٌُ لا يفقهون بها فحياة القلوب سعادة: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فالقلب الحي هو ذلك المستودع الكبير لأسرار الله تعالى في هذا الكون وهو مهبط النور والهداية (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
وحين تستيقظ القلوب تتغير هذه الأوضاع جميعاً بفضل الله ونعمته، ولهذا كانت مهمتنا أن نقترب من تلك النفوس التائهة بكل ما نحمل لها من عواطف الحب والخير، نقترب منها بإشفاق وعطف لأنهم لا يعلمون ما نعلم ولم يتذوقوا ما نتذوق، ومن هنا قال رسولنا T "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" كما قال إمامنا رضي الله عنه "كونوا كالشجرِ يرميه الناسُ بالحجر فيلقي إليهم بالثمر" نحن نسعى بكل ما نملك من صدق الحب للناس أن تتفتحَ قلوبهم وتستيقظ مشاعرهم وتفهم بعد ذلك عقولهم.(1/17)
إنني شديد الإيمان والإعتقاد من واقع التجربة الطويلة أن العيب ليس في كل الناس، ولكن أكثر ما يكون من تقصير الداعية المسلم نحو إخوانه من المسلمين. أعتقد أن كل شاب مسلم في حاجة ملحة إلى قلب وحنان ورحمة ومرحمة. ذلك لأنه يفتقد ذلك من المجتمع الذي يعيش فيه، لهذا فهو يكره الناس لأنهم قد تخلوا عن قلبه، ويوم يأنسُ ويجد هذا النورَ سوف يكون أول من يسارع إلى القافلة.
يعلم الله تعالى أني ما دخل اليأس في نفسي تجاه أي إنسان، نعم قد يصعب انقياد بعض الناس للحق ولكن مع الصبر والحلم ودعاء القلوب سوف يكون له شأن.
أي أخي:
إنني لا أنظر إلى الوراء بل أعمل في كل لحظة عملاً جديداً للدعوة. أفكر أحترقُ من العذاب لما يعيش فيه المسلمون من غفلة. أحبُّ الإخوان وأعتبر حبهم هذا إكسير حياة وسعادة تعطيني الزاد والوقود، أقرأ أتدبر، أتعرفُ على أخ جديد، أكتب ما وسعني الجهد رسائل للإخوة، أرد على رسائلهم أخاطبهم بالهاتف، أربط هذا الأخ بمثيله من الشباب، أذكر هذا لهذا بالخير حتى يحبه، أسعدُ جداً حين أرى أخاً يحبّ أخاه والإثنين يحبون الثالثَ والثلاثة يحبون الرابع، أكرهُ أن يخاصمَ الأخ أخاه أو ينساه، أتمنى أن ينهض كل أخ بواجب الدعوة فيعيش في سعادة.
أي أخي:
دعني أقول لك إنه لا حياة لنا بِلا عقيدة، ولا عقيدة إلا الإسلام، ولا وجود لنا على وجه الأرض إلا بوجود كيان، ولا كيان لنا إلا بدولة الإسلام، ولا قيام للدولة الإسلامية إلا بقاعدة قوية صُلْبَةٍ تعرف غايتها في هذا الوجود وتحقق أهدافها بوعي وصدق وفهم وصبر. فإن الأمة التي تصمم على الحياة لا يمكن أن تموت، وما دمنا نسير على هدى الله وكتابه وسنة رسوله فلن نضل الطريق أبداً، فالإخلاص وجهتنا والصواب طريقنا "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".
أخي في الله:(1/18)
هناك في هذه الدنيا مصادر للسعادة الفانية الزائفة، ولكنها لا ولن تصلَ إلى أعماق قلوبنا ومنابعَ أحاسيسنا، حيث أن سعادتنا تحقيق آمال من فوقها آمال، آمال أمة مسحوقة وشعوب تُذاقُ مُرَّ العذاب، سعادتنا ترمي إلى غاية بعيدة لا تتحقق إلا بتلك القيم الرفيعة والهمم الكبيرة والنفوس العظيمة، سعادتنا بالحب الذي يجمع تلك القلوب على أسمى غاية وأنبل رسالة في هذا الوجود، فحبنا نابعٌ من روح العقيدة التي نسموا بها وترقى بأخلاقنا ومشاعرنا، لهذا كان الحب بيننا روحاًً لا تشوبه ماديةُ هذه الحياة.
أخي:
لن يُطفئ الشوقَ إلا لقاءٌ واحد "إخواناً على سرر متقابلين" هذا هو الأمل المأمول الذي ننشده بكل الأشواق، كم أتمنى أن يجمعنا الله مع كل من أحب من الإخوة في صفٍ واحد كالبنيان المرصوص، فنلقى الله تعالى شهداء، ننعم بهذا الحب الذي ضاقَ بنا التعبيرُ عن جوهره "إخواناً على سررٍ متقابلين" يا له من تعبير يشفي القلوب ويُحَلِّق في رحابِ الخلود.
الرسالة الرابعة
أي أخي:
أنا كما ترى رجلٌ يهيم حباً بإخوانه ولا يجد له في هذه الدنيا مرفأ سوى تلك القلوب والأرواح، إنها لأشواقٌ كبيرة وعواطف جمة جعلها الله عند المتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتجالسين فيه.
أي أخي:
لستُ مدرساً في فصل ولا واعظاً في مسجد، وإنما الأمر أبعد من ذلك، أنا أبحث عن قلب كبير، عن روح عظيمة.
لقد تعلَّمنا من الإمام الشهيد حسن البنا البحث عن مثل هذا، حيث كان يجلس بعد الحديث أو المحاضرة ليبحث عن ذلك عند الذين تأثَّرُوا بحديثه، ثم يتعرف عليهم ثم يتابعُ التربيةَ نحو الحقيقة التي هي أكبر من منظور الناس خارج محيطنا، فالعقيدة الإسلامية ومشاعر الحب في الله تعالى تمحو كلَّ الفوارق على اختلاف أنواعها. وبين يدي قصص وحكايات فوق طاقة العقول التي تعيش في الجاهلية.(1/19)
كل الإخوة على اختلاف أسنانهم ومراكزهم الاجتماعية حين يعشقون هذا الإسلام تَصُبُ قلوبهم خيراً وشأنهم في المساواة والحب في الله مثل (الأواني المستطرقة) كلّ يصبُ في الآخر ويأخذ ويعطي.
أي أخي:
أنا لم أعرفكَ من فراغ، لقد تعارفتْ أرواحنا في عالم الذر، والأرواح جنودٌ مجندة، فلستَ جديداً أو وليداً فشوقي لك وحبي لروحك يعودان إلى الجذور. أليس المفروض أن نسعى إلى قلوب الناس لنحقق التعارف، هل هذه الدعوة مقصورة على فئة من تعيش لنفسها فقط؟ فأين فضل الرسالة والأمانة التي كلفنا الله بها؟ أصارحك بكل صدقٍ وإخلاص أنك إنْ لم تبذلْ جهداً لتعرفني لسعيتُ أنا بكل ما أعطاني الله تعالى من أحاسيس لتكون ذلك الإنسان الذي أنشده لهذه الأمانة.
إسمع يا أخي:
إن مهمتي نابعة من ذوب قلبي ومن عاطفتي ومن دموعي وشجوني وآلامي وأحلامي وعذابي وإشفاقي، ومن شدة الهمّ وكثرة الغم وثقل التَّبِعَةِ وضخامة الأمانة، والخوف والرهبة من يومٍ يُسأل فيه المرء عن عمره فيما أفناه.. هذه هي الحقيقة أو بعض الحقيقة تلك التي جعلتني أصر على معرفتك لتكون ساعداً ومساعد تُعطي وتفيد وتبعث الحياة والأمل والنور، نحن نريد روحاً جديدة تنبعث وتشيع في هذا الجيل وتأخذ بيديه، هذا سر حرصي عليكَ وإصراري على مخاطبتك لأني آمل فيك أن تضفي على أجواء مجتمعنا روحاً من الحيوية والإيجابية والأخوة الإسلامية التي كدنا نفقدها، تلك هي الحقيقة والله أعلم.
أي أخي:
تعبتُ من الإنفعال العاطفي والتفاعل القلبي، كلٌّ من الإخوة يحتاجُ إلى جلسة روحية مستقلة مع نفسي وقلبي، إنها مهمة صعبة أن تجمع كل القدرات والمشاعر والأحاسيس لتخاطب قلب الإنسان لهذا فقد تعبت، ومع ذلك فاني لا يمكن أن أقطع هذا التيار فإنه هو الحياة، وهو النور، وهو السعادة، وفي كل يوم يزداد التعب ولا مناص من الوفاء.(1/20)
صدقني أنني أستصغر نفسي أمام تَفَتُّحِ قلوب الشباب وعظم أدبهم ووعيهم، آهِ لو تقرأ رسائلهم أو تستمع إلى آمالهم أو تعيش في رحابهم، والله لقد احترقت نفسي أمام تلك النفوس، فهل نستيقظ، فهل نسرع الخطى قبل أن يحاسبنا الله تعالى على ما فات من تقصير.
أرجو أن تشجع الشباب على الكتابة، فالكتابة قد كشفت عن معادن وأفكار وتفوق غير عادي، لقد اكتشفتُ أننا في حاجة إلى أن نعامل هذا الشباب من منطلقٍ جديد، فالواقع أن وعيهم فوق سنهم، ولن يمكننا أن نعرف ذلك إلا من خلال كتاباتهم لنا، فأفسحوا الطريق أمامهم حتى يكشفوا عن هذه المعادن الغالية، وحتى يمكننا أن ننطلق إلى مراحل أوسع للنهوض بهم وإعطائهم حقهم.
أي أخي:
على عاتقك مسؤولية خطيرة للغاية.
"الدنيا كلها تحارب الإسلام".
ترى ما هو الواجب علينا أقول لك أقل ما يجب علينا هو أن ننقذ شباب المسلمين من الضياع، فهؤلاء إنْ لم ننقذهم كانوا مع أعداء الإسلام ضد الإسلام وضدنا، ولو حاربنا أعداء الإسلام بغير أبنائنا لهانَ الخطبُ ولكنْ أنُ يحاربنا أبناء الإسلام، فهذه هي الكارثة الكبرى.
نحن نعرف أن شباب المسلمين يعيشون في جهالة بهذا الدين. والدليل على ذلك هو أنتم قبل توفيق الله لكم "كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم" إذن أنتَ وإخوانكَ الذين مَنَّ الله عليكم بهذا النور، أليس من واجبكم أن تبذلوا جهداً من خلال بذل الحبِّ، بهذا الفهم الواعي الصابر الوقور نصل إلى قلوب الشباب، ولو كانوا كما قلتَ لي (نحن نحبهم كما علّمْتَنَا وقلتَ لنا: أن ننزعَ البغضَ من قلوبنا ولكنهم يبغضوننا وينظرون إلينا نظرات الحقد..).(1/21)
الأمة الإسلامية بحاجة إليك معلماً وداعية تحملُ في قلبك هموم هذا العالم وتضيء لأبنائه الطريقَ بالحبِّ الصادق العميق، فاخلعْ عنكَ الأوهام واعلمْ أن الطريق لا يسلمُ من مخادعٍ ومنافق ولكن هذا لا يمنعُ من العمل المتواصل بلا تراجع ولا تردد، وكم أصابنا من مصائب ومحن. ولكن القافلة تسير.
إسمع يا أخي:
لا بد من الصبر، أعتقد لو أنك تقربت من أحدهم رويداً رويداً مع حسن الخلق (أن تصل من قطعك وتعفو عَمَّنْ ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك) فلا بد من نتيجة، وهذه هي مهمة الداعية الحاذق، فانهضْ وإخوانُك الأحباب بهذا الواجب المقدس وإيماني لا يتزعزع أن هناك قلوباً بكراً نقية طاهرة تترقب مطلعكم وتنتظر أن تتقدموا إليها بعاطفة الحب في الله تعالى، وغاية الإنقاذ العودة إلى سبيل الله تعالى "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمْ من يمشي سوياً على صراطٍ مستقيمٍ"، "سيجعلُ الله بعدَ عٌُسرٍ يُسراً".
أي أخي:
إن الأمر يحتاج إلى عمل جاد متواصل في بساتين هذه القلوب، أعترفُ بأننا تأخرنا كثيراً، يجب أن نفتش بل نكتشف هذه المعادن المهجورة، تلك المعادن الغالية النادرة، كما يجب علينا أن نعيش في قلوبهم، وأن نعمل على يقظة مشاعرهم حتى يشعروا بوجودهم، سوف تجد أن هناك عناصرَ كثيرة أفضل منا بكثير، كما قال البنا (كم مِنَّا وليس فينا وكم فينا وليس منا)، أقسم لك بالله تعالى لقد رأيت شاباً صغيراً دون الخامسة عشرة أو يزيد، أذهلوني بل أتعبوني. إني أومن إيماناً لا شك فيه (أن المستقبل لهذا الدين) ولكن ليس المستقبل للغافلين.
أيها الإخوة:
لا تحقروا أحداً فالله تعالى يجتبي من يشاءُ من عباده. سوف يتأكد لكم أن هناك من يترقب أيدينا لنأخذ بيده، وهناك من يتمنى أن يتعرَّف على دعوتنا ويترقب من يناديه، ويبعث الأمل فيه.
الرسالة الخامسة
إذا حققتَ مِنْ خِلٍّ وداداً
... ... ... ... فَزُرْهُ ولا تخف منه مِلالا
وكُنْ كالشمس تطلعُ كل يومٍ(1/22)
... ... ... ... ولا تكن في زيارتهِ هِلالا
إني أحب أن أزور إخواني كلّ يوم لو كان ذلك في الإمكان، لكنني لا أستطيع، على أن مما يدفعني لزيارتكَ أن تقدم لي بعض القلوب من الحصاد الجديد، من هذا الشباب التائه في ظلام هذه الأحداث، من الشباب الذي يرنو إلى الأيدي الحانية المتوضئة، الشباب الذي لا بد من أن نعيش معه بكل قلوبنا وكياننا، ليس من الوفاء لدعوتنا أن نسعد بها وحْدَنا وأن نفرح بها دون غيرنا (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسهِ)، إن دعوتنا ليست دعوة إقليمية وليس فيها عصبية، دعوتنا للناس جميعاً فهي دعوة عالمية، لا يصح أن تتوقف عند حدود فإذا فعلنا ذلك فما زدنا عن أننا أصدقاء فقط، ولكن الحقيقة أكبر من هذا، نحن دعوةٌ وحركة ورسالة.
لقد كان الإمام البنا يقول: وددتُ لو أستطيعُ أن أُبَلِّغَ هذه الدعوةَ لكل طفلٍ يُولد.
إسمع: ترى كم تحب من الإخوان؟ تصور أنك حين تقوم بواجب الدعوة فسوف تحبُّ الكثيرَ ويحبكَ الكثيرُ، سوف تسعد بهذه القلوب وسوف تسعد بك هذه القلوب. الحق أقول لك: إنك وإخوانك الأحباب عندكم فرصة لا تعوض في هذا الجيل أن تجمعوا القلوب على الله.
لقد كانت كثير من القلوب منطوية منزوية وكانت منسية، حتى إذا شاء الله تعالى أن تجد همسة من نداء ولمسة من يد حانية ونظرة من عين باكية، ولمحة من كلمة ندية، تفتحت كما تتفتح الأزهار وأقبلت النفوس كما يقبل النهار، وتدفقت العواطف كما تتدفق الأنهار، وظهرت الفطرة الإنسانية على حقيقتها الربانية، تشع النور وتستهدي الحق وتبني وتشيد.
أنشدكَ داعيةً بما وهبك الله من فضله من حسن الخلق وحسن السلوك وحسن المعاملة، لقد عرفتكَ من دون لقاء فأدركتُ فيك هذا الأمل.
أدعُ إلى سبيل ربك بما حباك الله تعالى به من فضائل.(1/23)
عايش هذا الشباب اليتيم الذي ليست له دعوة ولا رسالة وليس له هدف ولا غاية، تَقَرَّبْ من هذه القلوب حتى تتفتح أزاهيرها وتنتعش آمالها وتكونَ لنا زاداً أو تكون لنا رديفاً.
أي أخي:
تُرى هل أعيشُ فأخاطبك بعد اليوم. كلماتي هذه إليك عصارة قلب وأريج عاطفة، تكاد تنطق لفرط ما تحمله من عظيمِ الحبِّ لكَ، فالتحق بالركبِ وأعطه الحبَّ.
أي أخي:
عندما رأيت وجوه هذا الجيل كأنها روضة زاهرة، نور على نور، وزهور تحيط بها زهور، شبابٌ نَضَّرَ الله طلعتهم، لهم بهاء ورواء وسكون الأتقياء، رأيت نفسي من السعادة في سماء لا تطاولها سماء، وددت لو يبقى هذا الشعور وكفى.
أي أخي:
أدركنا ركب الدعوة الأسلامية فانطلقت الفطرة الإنسانية تعبر عن وجودها في رحاب الإسلام العظيم الذي أعطى كل شيء حقه في هذا الوجود، فكان الحبُّ الذي يصل قلوبنا بالله تعالى ويسمو بها إلى مدارج بعيدة عن إدراك كثيرٍ من الناس، كم من الليالي شهرناها في رحابِ الحق والخير ولاهداية، كم من دموعٍ زرفناها في سجود وركوع، وهواتف الأرواح تحلق بنا في عالم الغيب والشهادة، كم من مواقفَ دقيقة عشناها لا نبالي ولا نخاف، كم من أحداثٍ صنعناها سوياً.
ولقد كان الإمام البنا بنَّاءً يربط بين القلوب ويدعم الصلات ويوصي بالأخوة التي أدناها سلامةُ الصدر وأعلاها الإيثارُ.
أي أخي:
إنني أحب الإخووة جميعاً على هذه الساحة الواسعة وبودي لو أُعطي كل ذي حقٍ حقَّهُ. وطاقتي محدودة.. ومع هذا فإني أحاول الوفاء. ومنذ أيام سألني أخ كريم:
- قال: (أنت تحب كل الإخوان لكن هل تساوي بينهم في عاطفة الحب؟) الإجابة هو نفسه يعرفها، ومع هذا فقد قلتُ له: الإخوان في خاطري كالفاكهة كلها محبوبة، وإنْ كانَ بعضها أحب من بعض.
أي أخي:(1/24)
الدعوةُ عَرْضٌ وكلما كان العرضُ حسناً جذاباً أقبل الناس على الشراء.. قرأت منذ شهور عن انهيار الإقتصاد العالمي. قال الكاتب: إنًَّ سبب ذلك عدم وجود من يحسنون عرض البضاعة سواء في المحلات أو في الأسواق العالمية. وحين قرأت تلك الكلمات، عدت بتفكيري إلى الدعوة التي أحبها قلت: يا سبحان الله. إنَّ دعوتنا إذا لم تجد الدعاة العاملين الذين يحسنون عرضها، فإن ذلك سوف يؤدي إلى توقف الحركة الإسلامية، فهيا يا حداةَ الركب، "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسنُ".
أي أخي:
في عام 1951 عدت من منفاي في أسيوط للعمل في الإسكندرية، وكان ذلك حين عادت جماعة الإخوان رسمياً بعد محنة 1948. ومن تقاليد الإخوان في دورهم ومراكزهم أن يقوم على باب المركز أخ يسمى (مراقب الدار) مهمته حسن استقبال الذين يفدون من الزوار والإخوان وفوجئتُ أن الأخ القديم المكلف (أصيب في حادث حريق) وعنده بعض التشوهات ومع ذلك أرجعه الإخوان إلى مهمته فقلت للإخوة: إن هذا الأخ كلنا نحبه ولكن ليس هذا مكانه، فالرسول T كان يتخيرُ لمراسلاته من سفرائه من اجتمعت فيهم شروط معينة منها حسنُ السمتِ. وهذا رسولنا لكل قادم جديد، وإنه بقدر ما نحب بعضنا في الله، فعلينا أن نضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
أي أخي:
في سيرة الرسول T علاماتٌ بارزة، قوية مؤثرة، كنت أقرأها في ماضي السنين فلم أكن أدركها كما أدركتها اليوم، لم أكن أتذوقها كما تذوقتها اليوم. لقد غبطت الصحابة الكرام كيف كانوا يعيشون في رحاب قلب الرسول T، لا شك أنهم كانوا سعداء فوق السعادة، حياتهم معه كلها أفراح، كلها نعيم – وإذا نحن قسنا ما نحسه نحو إخواننا بالذي كانوا يعيشون فيه أدركنا هذه الحقيقة. نحن على فقرنا وضعفنا سعداء فكيف الأولياء من الصحابة العظماء.
الرسالة السادسة
أي أخي:(1/25)
أعترفُ بتقصيري البالغ نحوك، أشعر بالندم والحزن تجاهك، لا أدري كيف حدث هذا التقصير. مهما اعتذرت فإني نادم. مهما فعلت فإنني لا أستطيع القيام بحقوق الأخوة.
أخي: بالأخوة العظيمة نقتحم كل العقبات.. كل الصعوبات، كم لنا قصص فوق الخيال والمحال من الحب العجيب والتضحية والإيثار، فبحقي عليك ألا تستكبر عن الإعتراف بالخطأ لأخيك، وبحقي عليك أن تبذل جهداً لاستئناف مسيرة الإخاء، كلما تعكر الماء.
أي أخي:
الأيام بلا إخوان جد خسارة فإذا مات الإخاء في الله من قلوب الناس سيتوقف المد والمدد ويتعامل الناس بلا عواطف ولا مشاعر ولا شعور. انتَ الآن في خاطري (فرحةٌ كلما ذَكَرتُكَ) أنت في قلبي كالنور وفي روحي كالضياء فليكن لك إخوان كذلك.
(إنَّ المؤمنَ لينتفعُ برؤيةِ أخيه شهراً) هذا المعنى جميل والذي قاله كان يتذوقه تماماً لعلنا الآن نتذوقه جيداً.
أي أخي:
إن الحب في الله – قدرة.
قدرة على الإعتصام – قدرة على الثبات – قدرة على البقاء – قدرة على العفاف – قدرة على مواصلة الحب، ولن يتصل الحب إلا إذا كانت له مناسك وآداب. لهذا كان أدب الحب في الله كالنور كالماء كالهواء لهذا الحب.
أي أخي:
فجأة وجدت عاطفتي نائمة غير متأججة لا أدري ما السبب؟ أهو الجهد أو هو المرض أو هو الشيخوخة لا أعتقد فماذا يا ترى؟ الظروف التي أعيشها في هذه الأيام لها تكاليف كبيرة وأعباء كثيرة ولقد اعتدت على ذلك، لكني كنت دائماً أجد نبض القلوب وإشراقةَ العاطفة فيعطيني هذا مدداً وسعادة، إنك عندما لا تجد أخاً يعطيك هذا تشعر بالخمول. لا شك أن هذه المعاني والمشاعر موجودة لكن عليك أن تُشْعِرَ بها الآخرين، من ذا الذي يكشف الغطاء عن هذه الحقائق أو يفتح نوافذها او يطرق أبوابها.
إن الحياة بدونها تبقى بلا حركة قوية ولا باعث شديد.
أي أخي:(1/26)
بادر بالتصرف الذي يقربك من إخوانك ويقربُ إخوانَكَ إليك، كُنتُ في جلسة فدخل أخ، أسرعت فأرسلتُ له كوبَ شاي. تَعَجَّّبَ أحد الإخوة وقال لي هل تعرفه؟ قلت: معرفة شخصية لا – ولكن معرفة إسلامية أعرفه جيداً. قال: ولماذا تقدم له كوب شاي وأنت لا تعرفه؟ قلت لأني أرغب في معرفته ورسولنا T يعلمنا الوسيلة "تهادوا تحابوا".
يا أخي (الدعوة حبٌّ) (ولا دعوة بغير حب) ولا يمكن أن يلتقي آلاف الإخوان برغبة ملحة صارخة يأتون من كل فجٍ عميق إلا إذا كان هناك رابط قوي ولا أقوى من رابطة الحبِّ. ولما كان الأمر كذلك فإنه لا يصلح لهذه الدعوة إلا من كان له قلب. والقلب هو مستودعُ الرحمات ومنبع الخير والنور، إنه الحب في الله الذي جمع الأبيض والأسود والشامي والمغربي، والرشيدي والهندي، والطالبَ والمدرس، ثم يتطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى سلامة الصدر، ثم الإيثار، ثم الفداء. ثم النظر إلى آلاف الشباب المسلم الواعي فانك لا ترى فيه من يدخن السيجار فضلاً عما سوى ذلك، ألا ترى أن أموال الدولة سوف تكون في حصنٍ أمينٍ بيد هؤلاء؟ ألا ترى أن أوقات الأمة وكرامتها ستكون موفورة على يد هؤلاء. فالحب في الله عاطفة وتربية وتكوين.
أي أخي:
بالحبِّ تُفتحُ القلوب، تصور أنّ ابتسامة واحدة بصدقٍ وإخلاص (تأتي بالعجائب) فكم من رجال في الإسلام دوخوا أعداءَ الله دخلوا الإسلامَ بابتسامةٍ واحدة. وهذا رسولنا العظيم T كم فتح قلوباً متحجرة بكلمةٍ طيبة ويدٍ حانية ودعاء في السحر (اللهم اهدِ قومي فانهم لا يعلمون) (مَن نظر إلى أخيه نظرة ودٍّ غفر الله له).
أي أخي:
كثيرون يقولون:(1/27)
ماذا فعل الإسلاميون؟ يا سيدي الدعوة عملها في كل دقيقة وفي كل ميدان، ومع كل قلب (وحسن البنا شاهد على ذلك) ماذا فعلنا؟ لقد دعونا شعبنا بكل عواطف الحب والرحمة، إننا نحب شعبنا الإسلامي في كل مكان ولَنْ يُولِّدَ الحب إلا الحبَّ، ألا ترى أن هذا وحده كبير كبير في ميزان الأعمال.
الرسالة السابعة
أي أخي:
ذكرتَ أن عندك بعض التساؤلات وإنه ليسرني أن أدلي لك بكل ما عندي ولكن لا تنسَ كذلك أن صلتكَ بي وحدي لا تكفي، لأننا أمة كالجسد الواحد فأنا وأنت جزءان من جسد كبير.
إذا أجهدني العملُ أو أرهقتني القراءة أو أتعبتني المشاكل أو آلمتني الأحداث التي لا تنتهي أذهبُ إلى رحاب رسول الله T مُمَثلاً في سيرته وسنته أعيش فيه لحظات أستمدُ من رحيق نوره طاقةً ومن نسمات روحه قوة ومن آفاقه العلوية معنى، أتزود منه لهذا الطريق الطويل الشاق الذي هو طريق أهل الحق، طريق الإسلام الخالد العظيم، هذا الإسلام هو الذي قربني منك وقرَّبك مني، من هو الذي جمعَ بين قلبينا على البعد البعيد، من هو الذي حطَّم القيود والسدود فجمع بين الأبناء والجدود؟ إنه هذا الإسلام الذي به كان الحب أعظم غاية "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "إنما المؤمنون إخوة".
من الذي أعطانا هذه النعمةَ ورزقنا هذا الفضل، هو الله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً".
أخي:
بين يدي الله تعالى في محرابه المقدس، أبتهلُ إليه تعالى أن يعينني على كمال التعبير، وأستلهمه الإخلاصَ الذي هو سر من أسرار التوفيق الذي يسهل به الطريق إلى القلوب، قلوب من باتَّتْ أشواقنا تتطلعُ إليهم وأرواحنا تحلق حواليهم. حباً وإشفاقاً عليهم.. فلكم تئنُّ قلوبنا أسفاً لما بات عليه حالُ المسلمين: ومآلُ شبابهم الذين أسرفوا على أنفسهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
أخي الحبيب:(1/28)
حين أكتب لك هذه الرسالة – فأنا أعنيك بشخصك – أعنيك باسمك فلا تظنني أكتبها لشخص وهمي لا أعرفه ولا يعرفني، فهي ليست خُطبةً ولا مقالة ليقرأها أو يسمعها عامة الناس، ولكنها رسالة وأمانة لشخص بعينه وقلبه وذاته، فأنا حين أستلهم معانيها، إنما أتصورك في ذهني حقيقة ناطقة أمامي، كأنني أتحدث إليك بصوت عال، أتصورك بعقلي وقلبي وإحساسي وعواطفي أغوص في أعماقك بتصوراتي وتخيلاتي حتى أهييء لنفسي مناخاً.. يهزني بالانفعال ويشعلني بالحركة ويلهمني بالمعنى...
والحق يقال إن تعارفنا هذا تعارفٌ على عقيدة قديمة قدم الحياة لها رصيد مكين من فطرةِ كل إنسان... تحسه من أعماقك وتستشعره في ضميرك.
إن عقيدة الإسلام جامعة فأنا إنما أخاطب هذه العقيدة فيكَ – أنا لا أخاطب صورة الإنسان ولا شكله. أنا أخاطبُ قلبه ووجدانه وعاطفته.
أخي الحبيب:
إن أعظم ما أبتغيه وأنشده وأسعى إليه وأقصده هو أن أراك قد وضعت يدك على قلبك وأصابعكَ على رأسك استدراكاً لما فات من أمرك واستهلالاً لما باتَ متوقعاً من شأنك، أن أراك قد اضطرمَتْ جوانبكَ واشتعلتْ خواطرك وتأرَّقَ نومُكَ وازدحمت الأفكار في رأسك وبدأت عواملُ الحياة الحقة تدبُّ في أوصالك وتهزُّ كيانك كله، فتذوَّق القبح والجمال وتفصل بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وتتذوَّقَ حلاوة الإيمان ومرارة العصيان، وتشعر بشعور الناس من حولك فتتألم لألمهم وتفرح لفرحهم وتشارك المسلمين أينما كانوا فيما هم فيه فتهتم بشؤونهم وتناقشَ قضاياهم وتعرف أحوالهم.
أخي الحبيب:(1/29)
إن أجمل ما يتحدث به الأخ لأخيه هو المصارحة أي المكاشفة وهي أسمى ما يكون بين الأخوين من درجات المحبة وأنقى ما يكون بينهم من صفاء الود، والمصارحة هي لبُّ الأخوة ودعامة الثقة، فالمكاشفة لا تكون إلاّ بين قلبين اتبطا على الله بسر الأمانة والإيمان وبعاطفة الطهر والكرامة، وبعهد الله الذي لا ينفصم ولا ينقطع لأن الله تعالى حيٌ لا يموت أبداً.. وأراني حين أتحدث بكل صراحة ووضوح أكون أكثر انشراحاً وانطلاقاً، وأعمق توضيحاً وأسلسَ في التعبير وأيسر في الوصول، إذ لا يتعثر لساني خوفاً من كلمة خفية أكتمها أو معنى أخشى أن يكشف عن مكنون لا أرضاه، فالحديث من القلب يصل دائماً إلى القلب. فالقلوب المؤمنة تفقه بلغة أدق وأعمق، وأكثر أحاديث القلوب النابضة بالحب في الله تعالى تكون في صمت.. في خشوع.. في دعاء.. في مناجاة.. أن يفتحِ الله تعالى قلبَ أخي لقلبي، أن يفهم ما أفهم، أن يعتقدَ مثلَ اعتقادي، أن يضع يده في يدي لتقوى الكتيبةُ وترتفعَ راية الإسلام.
وليست المكاشفة التي أريد يا أخي هي أن أكشفْ لك عن مشاكلي الشخصية أو متاعبي النفسية وإنْ كانت هذه أولى درجات هذا المرتقى التي يتم عبرها تعارف وتآلف.
إنما المكاشفة التي أريدها هي مكاشفة الآلام والآمال التي تترقبها الدعوة الإسلامية.
أخي:(1/30)
لقد سبق لي أن عدت من محنة الإخوان المسلمون عام 1954 إلى بلدي رشيد بعد أن قضيت في السجن عامين، عدت لأجد الناس في وجوم، في خوف شديد وحذرٍ أشد. إنَّ الذين استقبلوني ورحبوا بي في هذه المحنة الشديدة عدد قليل وهذا القليل رَحَّبَ بي على استحياء بل لقد كنت أسمع من بعض الناسِ غمزاً ولمزاً واستهزاء، وكانت الأيام تمضي في حزن وكآبة، إذ القلوب مظلمة والأرواح كئيبة ولم يكن خوفي على نفسي بأشدَّ من خوفي على مَنْ حولي ولم يكن حزني على ظروفي بأقسى من حزني على ضعف الناس وجبنهم، لقد عدت من هذه المحنة على ثقة من عقيدتي وعلى يقين من الله الذي أومنُ به. فلم أشأ أن أخلد إلى الأرض أو أتشبث بها، لم أتراجع قيد أنملة عن إيماني وعقيدتي التي كانت (الغذاء والعزاء)، ورفضت من أعماقي أن أستكين، أو ألين، فلم أنْزَوِ أو أنطَوِ ولم أعرف التراخي أو التناسي بل أججَّتني الأحداث وجددتُ البيعة مع الله على الجهاد ما حييت أبداً.. الجهاد في سبيل الإسلام العظيم.
كنت مشوقاً إلى قلوب تتعاطف معي ودموع تنهمر مع دموعي، وأنفاسٍ تحترق مع أنفاسي كنت أتطلع في حرص وشوق إلى عقلٍ.. إلى قلبٍ.. إلى روح تفهمني عن قرب. عن فهم عميق لروح هذه الدعوة، ومنهاجها وأهدافها. كنت أحترق في بطء حين أراني وحيدأ في هذا الميدان أتطلع إلى هذا الأمل وأتحسس طريقي إليه في هدوء وصبر وحكمة، كنت أنظر إلى هذا الشباب التائه في صحراء الوجود السائح في الشكوك والظنون نظرة الحب والإشفاق والحنين، أريد أن أتحدث إليهم بكل خواطري وكل إحساساتي، كان تقربي منهم يزيدهم إمعاناً في البعد عني خوفاً على أنفسهم من عاقبة أمري.(1/31)
وفي هذا الجو الخائف، والمناخ الخانق فتحتُ طريقي في صبر وحزن وألم، ولكنَّه الألمُ العبقري الذي يفجر ينابيع الطاقة ويحطم أسوار اليأس يفك قيود الحرية ويوسِّعُ حدود العمل والأمل، وكان ما كان مما عرفتموه عن محنة 1965، وجدَّدتِ الدعوةُ الإسلامية شبابها وانطلقت من عقالها وتمردت على أعدائها فقهرت بإيمانها صرح الظلم "الذين قال لهمُ الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيمٍ".
وانتصر بفضل الله الإيمان الأعزل على القوة الغاشمة، لأن الإيمان هو أعظم القوى في الوجود.
وقضى الله تعالى أن أقضي في السجن تسع سنوات في رحاب الله، وكانت وستبقى حافزاً وداعياً إلى العمل الجاد المتواصل في سبيل الله، ولست هنا بصدد الحديث عن أحداث هذه المحنة ولست في سعة من الوقت كي أسجل تاريخاً حافلاً بالأمجاد والبطولات، لا أقول الفردية أو الشخصية ولكن أقول (الإسلامية) وسيأتي ذلك اليوم الذي تخشع فيه القلوب لعظمة هذه الرسالة التي أشرق بنورها هذا الجيل.
وشاء الله تعالى ولا رادَّ لمشيئته أن أعود إلى رشيد بلدي الحبيب، أعود مرَّة أخرى بعد هذا الغياب الطويل المرير أعود، ولكني أجدُ أمامي صورة أخرى.. مشاهد فريدة وعواطف أكيدة صورة رائعة فيها العزاء كل العزاء، وفيها الوفاء كل الوفاء، عيونٌ صادقة النظراتِ وأحاديث صادقة النرات، وفهمٌُ للإسلام جديد، ووعي واهتمام وحماس.
كانت تلك هي المشاعر التي أحسستها، وهذه الوجوه الكريمة التي استقبلتها شيء آخر غير الذي كان عام 1956 – فرقٌ كبير بين المشهدين – مشاهد حية نابضة بالإيمان آنستُ فيها راحةً وسعادة فما سر هذا المشهد الجديد وهذا التغيير وما دلالاته وماذا سيكون من بعده؟؟(1/32)
أمّا سر المشهد الجديد.. فلا يعود إلى فضل إنسان من الناس ولا لفضل جماعة ترى لنفسها الفضل في ذلك.. إنما يعود الفضل أولاً وأخيراً إلى طبيعة هذا الدين (هذا الإسلام) إلى سنَّة الله تعالى التي تجري على البلاد والعباد "ولن تجد لسنة الله بتديلا" إلى تجرد أشخاص وفنائهم في دعوتهم وصبرهم على الايذاء وصمودهم أمام الأعداء، وكان هذا الخير الذي شاع وهذا النور الذي انبثق وذاع أثراً عن هذا كله، وصدق الله "لتلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور".
ليس في جهاد الإخوان المسلمون منّةُ على أحد ولا عندهم رغبة في مغنم أو مظهر كما أنهم لا يمنون بتضحياتهم على الناس ذلك لأنهم يوقنون بأن عليهم بأن عليهم أن يقدموا الدمَ والمال في سبيل الله "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة". "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين".
أخي في الله:
إنّ الإرتفاع إلى قمة المعاني الإسلامية والمثل والقيم السامية هو رصيد الإسلام على مدار التاريخ، فنحن لا نذكر من عظمة المسلمين ما اندثر من آثار الحضارة في العمران بقدر ما نفتخر ونعتز بما خلَّفَهُ لنا المسلمون العظماء من مفاخر القدوة، لقد كان أعظم منجزات هذا الدين تكوين شخصية المسلم...
أي أخي:(1/33)
لقد عشنا أياماً وسنين استيأس عامةُ الناس من أن يجدوا للمثل الإسلامية سوقاً، بل لقد كان من الصعب أن يتصور الناس أنه من الممكن أن تتحقق المثل الإسلامية العظيمة وكأنها كانت وقفاً على الجيل الفريد جيل أصحاب رسول الله T، وحين سار هذا الشعور بين الشباب واستيأسوا من الإصلاح استمرأوا حياة الفجور والمجون وأغلقوا آذانهم عن كل صيحة وولوا وجوههم وأصروا واستكبروا استكباراً.. فكان لا بد إزاء هذا الخطر الزاحف على عقيدة المسلم وبلاد المسلمين من طليعةٍ مؤمنة تعزمُ عزمة أكيدة أن تخرقَ هذا الظلام وتبدده وتقتحم هذه الغيوم وتحطم هذه الأكذوبة وتُبْطِلَ هذا السحر وتقاوم هذا المخطط الرهيب.
كان لا بد من عمل يزيلُ زيفَ الباطل ويكشف أباطيل أعداء الدعوة الإسلامية.. كان لا بد من بعثٍ إسلامي حقيقي يبطل السحر ويكشف المكر ويبدد الظلام. لتندفع الدعوة الإسلامية بقوة وعزم ويقين لا يشوبه خوف ولا ينقصه وعي أو فهم أو إصرار وقد كان ذلك، ولكن لا بد من متابعة الطريق: فيا ربِّ بلغ شعوري وأحاسيسي وحرارة أنفاسي إلى كل مسلم.
أي أخي:
دعوتنا رسالةُ أنارةٍ لا إثارة.. إنها رسالة حضارة "ولكنها حضارة اليوم الآخر" رسالة إيقاظٍ للضمائر وإشعال للعزائم.. رسالة صحوة للقلوب والمشاعر.. رسالةُ حياةٍ ما أسمى معانيها وأرقى مناهجها وبرامجها ومراميها.
"ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وَلِيٌّ حميمٌ".
أخي:(1/34)
قد تظن أن هذا البناء الشامخَ لهذه الدعوة قد تمَّ في يوم وليلة، وأن هذا التجديد في الفكر الإسلامي، وهذا الشعور الذي يفيض حباً للإسلام وحنيناً إلى مجد المسلمين، قد تظن أن هذا كله قد ولد معك وجاء مع مطلعك، فتخطئ في تقدير الأمور وترتيب الخطوات وتقدير المسافات، لذلك أنصحك وأنصحُ كل منتسبٍ للدعوة الإسلامية ولهذه الجماعة أن تعود إلى تاريخها منذ نشأتها لتفهم منهجها وتدرس الظروف التي أحاطت بها والتي نشأت عليها والأوضاع السياسية والإجتماعية، كذا الخطوت والوسائل التي اعتمدتْ عليها في تحقيق أهدافها والمشروعات الإقتصادية والثقافية والإجتماعية التي حققتها ثم الخصومات والمحن التي ابتليت بها مع الإحاطة بتاريخ الإستعمار وأساليبه وتخطيطه العنيد في حرب الإسلام في كل عصر ومصر. فذلك يجعلكَ على الجادةِ أن تعرف صورة الدعوة الإسلامية وحقيقة حال المسلمين يوم بدأت هذه الدعوة عام 1928 بمدينة الإسماعيلية لتستطيع أن توازن فتدرك بعمق ووعي قيمة الجهد والمعاناة وقيمة الصبر وقيمة التخطيط الذي تم لتغيير حال هذه الأمة الحيرى التي كانت على مفترق الطرق من أجل العودة بها إلى ساحة الإسلام تحت راية القرآن.
الرسالة الثامنة
أي أخي:
إنكَ والإخوة الذين رزقني الله تعالى حبهم لا تغيبون عن عقلي وفكري، فالحياة دون هذا الشعور ميتةٌ قاتلة، ورغم أنه شعورٌ وإحساس إلا أنه مبعث للسعادة وراحة للنفس، وأنا حين أقول ذلك إنما أكرر معنى لا يغيب صداه من نفوسكم. فقد وهبنا الله تعالى من فضله أعظم مصادر الاستشعار على البعد والقرب بما لا يتصوره هؤلاء الذين غابوا عن هذا المحيط الهادئ والمجتمع الرباني. ومن لطائف هذا الشعور أن الإنسان يستطيع أن يغمض عينيه على قصة أو خاطرة أو معنى عاش فيه يوماً مع إخوانه فيتذكر أعظم ساعات السعادة: قلوباً صافية وأنفاسا طاهرة ومشاعر صادقة.(1/35)
ولهذا كثيراً ما يفر الأخ إلى قلب أخيه حين يصطدم بواقع هذه الحياة وجاهليتها، ومن هنا ينبغي علينا وبكل جهدنا أن ننمي هذه المعاني بالمحاسبة والتفقد، بالحب والحدب والرعاية، وحذار أن نخدش هذه الطهارة، بالغيبة والنميمة، أو بالحسد والغيرة ورسولنا T يقول لنا: فيما يقول: "لِينُوا في أيدي إخوانكم"، "تطاوعا ولا تختلفا" والله تعالى يحذرنا حين يقول لرسوله T: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك". "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين".
أي أخي:
أودعكم وقلبي يكاد يقفز ليبقى معكم. ولكن تلك سُنَّةُ الله تعالى في خلقه. كنت أتناول معكم غذاء من طعام، والحقيقةُ أن غذائي كان من تصورات أخرى وخواطر أخرى وكنت أعيش في سماء من السعادة والهناء، كنت أنظر إلى الإخوة بقلبي وأمتص من رحيق قلوبهم حياة لهذا القلب، ولو نطق القلب والوجدان لكان الأمر فوق الخيال.
وذهبت إلى محيط آخر، سافرت والتقيت بالأرواح وعشت أياماً وليالي أغوصُ في الأعماق بكل معاني الحب والأشواق، وتتكرر المعاني والإلهامات، فالصورة واحدة لأن المنبع واحد والغاية واحدة والحقيقة أيضاً واحدة، إنها الدعوة الإسلامية التي تفجر هذه الينابيع الصافية بفضل من الله تعالى ورحمة، فتصنع الرجال وتبني الأجيال.
الرسالة التاسعة
أي أخي:(1/36)
أريدك روحاً تلهب الحماس وتقوي الإحساس وتنعش الفكر ليبقى دائماً في تألق، حيٍّ مشرقٍ وضيء، فالعواطف هي النسمة الباردة في يوم شديد الحرارة، ألا ترى كيف يتلمسُ الناسُ في مثل ذلك اليوم سحابةً أو ظلّ شجرة فَكُنْ أنتَ السحابة والشجرة للعاني المكدود المتعب من هدير أمواج الحياة، ولكن اعلم أنك لن تكون كذلك إلا بعد ركعاتٍ خاشعة وتلاوةٍ للقرآن الكريم حزينة ترققُ القلبَ وتهدهد النفس، عندئذ تكون روضةً للقلوبِ تحنو عليها وتمسح دموعها. ليست كل العواطف مقبولةً أو مأمونةَ العواقب فأحياناً تكون (العواطف عواصف) لا يلجمها عقل ولا يلزمها شرع، لهذا كان لا بد للعواطف من ميزان الإيمان ليبقى الحب ويسمو ويحيا نظيفاً تلقى به الله تعالى:
"إخواناً على سررٍ متقابلين" يا لها من أمنية تلاحق الخيال – على سررٍ متقابلين، هل تذوقتَ، هل ذرفتَ من عينيك الدموعَ لهذه الفرحة الكبرى، وفي الجانب الآخر عافانا الله "الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌُ إلا المتقين".
أي أخي:
إني أخاطبُ فيك رجلاً والرجال قليل، أملاً أرسمُهُ في خيالي أنشده لدعوتي، أنشده لعقيدتي وديني، أنشده لمستقبل هذا الدين، تقولُ حفظك الله (لقد زرعتَ في قلبي مشاعر غمرت روحي فأحييتها بعد موتها وأنعشتها من بعد ركودها، هذه المشاعر أضاءتْ ليلَ هذا القلبِ بنورها وأطفأت ناره ببردها.. فأخذ ينبض بأحاسيس عفّة صادقة ويحس بخلجاتٍ طاهرة عذبة)، إذا كنت قد وصلتَ بفضل الله تعالى إلى مثل هذا أكون قد نجحت معك، وها أنا ذا أدعو الله لك أن يبارك هذا الإيمان وتلك النفحات، وأن يزيدك من فضله، وأن يجعلك نبراساً لتلك القلوب التي تحبك.
أي أخي:(1/37)
قلتُ لفتىً من الإخوان: هل أنت تحب الإخوان؟ قال نعم. قلتُ له: ولماذا تحبهم؟ قال بمنطق الفطرة لأنهم يحبونني!! صدِّقني أني ذُهلتُ، لأني كنت أبحث عن هذا المعنى الخطير.. أو قل كان هذا المعنى يحوم في خاطري أو يتراءى لي كالطيف، لقد قال كلمة واحدة ولكنها تحل المشكلات، فهناك ناسٌُ لا يقدمون للآخرين الحب ويريدون أن يُحَبُّوا، فافطنْ أخي لهذا، فإذا أنت سبقتَ الناس بالحب والإيناس والرحمة والمرحمة فإنهم لا بد أن ينجذبوا إليك ويحاولوا أن يقتربوا منك لأن نفسَ الإنسان مفطورة على أن تحبّ من يحسنُ إليها ولو بالابتسامة والكلمة الطيبة والسؤال عنها، فالإنسان له قلب يتمنى أن يحبه الناس بل إنّ بعض الظرفاء يصنعون بعض المواقف حتى يحبهمُ الناسُ، نحن لا نتكلف ذلك، وإنما هي رسالة الدعوة، ولهذا لا بد أن تكون تصرفاتنا نابعةً من أخلاق رسولنا وتعاليم ديننا، كم من قلوب مهيأة للسير في مواكب هذه الدعوة ولكننا عنها غافلون، وهذا رسولنا T ينادينا (بَلِّغوا عني ولو آية. لعل مُبَلِّغ أوعى من سامعٍ).
الرسالة العاشرة
أي أخي:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله T يقول: إنَّ من عبادِ الله أناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياءُ والشهداء لمكانتهم عند الله. قيل: تخبرنا يا رسول الله من هم وما أعمالهم فعلَّنا نحبهم؟ قال: أولئكَ قومٌ تحابوا بروح من الله على غير أرحامٍ تربطهم ولا أموالٍ يتعاطونها فوالله إنهم لعلى نور وإنهم نور لا يخافون إذا خافَ الناسُ ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون". أو كما قال عليه السلام. أعتقد أنك قد تخطيت كثيراً من الحواجز في الدعوة إلى الله تعالى وتمكنتَ من وسائل جديدة في الوصول إلى القلوب وأصبح لك من الأسلوب الواعي الحكيم ما يعطيك القدرةَ على جذب أكبر عدد من القلوب، والأسلوب القرآني الحكيم يقول لنا:(1/38)
"وقولوا للناس حُسناً"، "ولو كنت فظاً غليظ القلبِ لانفضوا من حولك" ورسول الله T يقول: (أقربكم مني مجالسَ يومَ القيامةِ أحاسِنكُم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون) فأنت بفضل الله تعالى تملكُ الكثير، وأملي أن يكون رصيدك من القلوب قد نما وزاد والله معك واعلم أنّ أعظمَ متعة في هذه الدنيا أن تحقق قول رسولنا T (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها) ولعلك قد جربت ذلك.
لو أنّ إنساناً ملك القصور وله من المال مالُ قارون ثم لم يجدْ من يحبه فما أتعسَهُ، أما نحن على فقرنا وقلة حيلتنا مع الناس فليس في هذه الدنيا مَنْ هو أسعدُ منا فنحن أغنياء بهذه القلوب وتلك المشاعر ولله المنة والفضل.
واعلمْ أن الطريق يحتاج إلى الصبر الجميل، فمن لم يقتنع اليوم فسوف يقتنع غداً، لو استطعنا أن نعرف ظروف كل مسلم وأن نَصْدُقَ التوجه إلى الله تعالى فيه، أنْ يشرحَ الله صدره للدعوة وتلك مهمةُ الداعية الموهوب الذي يشتعل قلبه للإسلام ليلَ نهار وهو لن يفقد من وقته شيئاً إذا أحسن استعمال ما وهبه الله تعالى من قوة في الإرادة ودقةٍ في الإحساس ورقةٍ في الشعور ووجه طَلْقٍ صَبُوحٍ ونفس نقية متواضعة وتطلعٍ بالإشفاق والدعاء أن يشرح الله القلوب لدعوته.
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ". تدبر هذه الآية الكريمة وعِشْ في رحابها باركَ الله فيك.
أما المزاح المباح فإنّ له هدفاً وغاية قد يكون مطلوباً أحياناً لنجذب به قلباً، والعبرة بعد ذلك بالأثر والنتيجة، واحذر أثناء المزاح من كلمة قد تبتعد بك كثيراً عما تريد، حَصِّنْ نفسك بروح الإسلام فليس المسلم ذلك العبوسُ الكئيب.. ولكنه الإنسان الذي يزينه الحياء ويتلألأ وجهه بنور الإيمان.
أي إخواني:(1/39)
الحياة والسعادة تنبعُ من قلوبكم أنتم ويجب أن ترتفعوا إلى مستوى العمل، وهذا هو الأساس الذي نبني عليه الجماعة، وهذا المشوار هو أصعبها وأشقها ولكنه مع هذا كله هو مشرق النور ومطلع الفجر، "فاصبر إنّ وعد الله حقٌ".
كم للحب من نفخاتٍ حتى في أحضان الحزن والملمَّات لأن الحب ليس لنا فيه خيارٌ فهو للسراء والضراء سواء، الحقيقة بعيدة عن الناس لأنهم لا يعلمون ولا يتذوقون، فأنّى لهم هذا النور، فنحن نعيش مع القلوب في صحوة وانتباه فالحياة لا قيمة لها إلا بالمشاعر، فليس في الحياة إلا الأخوة والحب والعمل والجهاد. والأمور تجري بالمقادير.
قُصارى العيشِ أن يمضي ... ... ... إنْ حُلواً وإنْ مُرّاً
فإن شئتَ فعشْ عبداً ... ... ... وإن شئتَ فعش حرّاً
علينا أن نملأ كل فراغ ونسعى إلى كل قلب بأمل مشرق عسى الله أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، فكم من قلوبٍ في قائمة الإنتظار تترقَب.
أي أخي:
استقبلتُ رسالتك، أسرعت ألتهمُ معانيها وما فيها بشوقٍ ونهم، فالبعيد بحاجة إلى كل جديد، أنتقل من كلمة إلى أخرى كما ينتقل العصفور من فنن إلى فنن ومن زهرة إلى زهرة، لا أكاد أنتقل حتى أعود لأستزيد، فالعطش شديد.
خطابك الكريم بين يدي، استلهمته ما بين السطور، يكاد الخطابُ ينطق، فالكلمات تتحرك تقول ما أسمعه بقلبي وأستشفه بروحي ويهز مشاعري وإحساسي.. من أين جئتَ بهذا الأسلوب وتلك المعاني؟
كيف صُغْتَ تلك الكلمات وأُلهمت تلك العبارات؟ صدقني أنا لا أجاملكَ، بل أحذر من ذلك ولكني أريد أن أقول إنه القلب الذي يفقه، القلب الذي ينبض، القلب الذي ينطق (أفلا تعقلون).(1/40)
القلب هو الحياة، فاحرصْ على قلبك، حافظ على سر وجودك احذر (الرَّان) فإنه العازلُ بين النور والظلام، وما أحلى النور "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" القلب يا أخي هو الذي يتسع وينفسخ كالضياء والهواء لولاه ما كتبت ولا انطلقت ولا تساميت ولا عرفت ولا تعارفت. الدعوةُ حبٌ (لَنْ تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تَحابُّوا) والحب دعوة: (ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم).
علينا أن نزكي قلوبنا حتى يهبها الله تعالى القدرة على التأثير والإستجابة والقدرة هنا هي:
تقوى الله تعالى في السر والعلن "واتقوا الله ويُعَلِّمكمُ الله".
ما أحوج قلوبَ إخواننا إلى من يدق عليها ليوقظها. ما أحوج إخوانك إلى نظرة حانية وبسمة مؤمنة وكلمة تؤنس حياتهم الموحشة، حزني أنني لا أستطيع أن أعود شاباً أجول وأسبح وأغوص في هذه البساتين وتلك البحار فأستخرج منها اللآليء والدرر، لهذا فإني أتطلع إلى مثلك من شبابنا المؤمن ليسرعوا الخطى ويسابقوا الزمن فان أعداء هذا الإسلام لا ينامون، وأسلوبهم كما تعرف يدمر الأخلاق، وكلما قصرنا في الواجب طال بنا البؤس والشقاء، وحل ببلادنا الإسلامية البوار والدمار.
أي أخي:(1/41)
لا زلتُ مع خطابك الرائع، وسأظلُّ معه، لا تَتَّسِع هذه الرسالة كي أحوم حول زهوره وأتنسَّمَ أريجه سأعود إلى أولها تقول: (أبي ومعلمي) لو لم تقلْ إلا هذا لكفاني سعادةً وشرفاً (أبي) إني حقيقة من السعداء وليس كل هذا إلا بفضل هذه الدعوة العظيمة (فنحنُ بالدعوة كل شيء وبغير الدعوة لا شيء) (أمَّا معلمي) فهذه فيها كلام، أقبله باعتباري أكبر منكَ سناً، أما غير ذلك فاني أحب أن أهمس في أذنك، هل يمكن أن يكون هناك معلمٌ بلا تلاميذ؟ إذن فالتلميذ هو الأساس بالنسبة لوجود المعلم، وإن كان لا معلمَ بلا تلاميذ ولا تلاميذ بلا معلم والقاعدة عندنا أننا كلنا إخوان يحبُّ بعضنا بعضاً ويخدمُ بعضنا بعضاً وتلك من أعظم سمات دعوة الإخوان، وعلى كل الأحوال فأنا أقبلها في النهاية لانها من مظاهر الأدب الذي صنعته هذه الدعوة في أبنائها.
(أبي ومعلمي) هل كنت أستطيعُ أن أسمعها منكَ قبل أن نتعارف. طبعاً: لا، إذن هناك الكثير من المعادن الغالية مدفونة أو مستحيية أو خجولة، تحتاجُ إلى قلبٍ أو يد تبحث عنها لذلك أقول لك وأنا أتهيأ للأفول وقد حطَّمني الذبولُ:
ماذا فعلتَ وماذا أنتجتَ، هل قرأت جديداً أو عملت عملاً مفيداً أو عرفتَ من شبابنا جديداً.. تترقبهم في الصباح بتحية صافية رقيقة يشع منها صدق الحب والود وتتلهف في وداعهم واستقبالهم. هل خطوتَ في ذلك خطوات، أتمنى أن تكون قد وُفِّقْتَ.
أكتبُ كلَّ يوم عدة خطابات أبوح فيها بكل نفسي لمن أحب حتى أستريح، وكثيراً ما تكون رسائلي حزينة لِفَرْطِ ما أعيشُ من ألم.
الألم والحزن حياةٌ وسعادة، فالعينُ التي تدمع هي العين التي تجكع، والقلب الذي يتذوَّقُ الخير والنفس التي تحب وتبغض في الله، تلك وسائلُ المسلم في درب هذه الحياة حتى لا يضيعَ ولا يميع ولا يتسرب إليه الضعف والهوان.(1/42)
لقد عرفتُ الحزنَ أكثر مما عرفت الفرح، فالذي يعيش فيه المسلمون اليوم ومن قبل لا يمنحُ الانسانَ الابتسامةَ، ولا يعطيه فرصة للراحة والاستقرار، وجيلنا نحن أكثر الأجيال عذاباً واحتراقاً، ولا تعجب إذا قلت لك إننا في حزن عميق لأننا كنا نتمنى أن نودّع هذه الدنيا ونلقى الله تعالى وقد تركنا من ورائنا ما نقدمه شفاعةً لنا بين يدي ربنا ومع كل هذا الشعور الذي يعيش في ضمائرنا فإننا على إيمانٍ وثقة أن جيلكم المجيد هو العزاءُ وهو الأمل، ورسائلي هذه وصية أن تعيشَ للإسلام وأن تحيا به وأن تجاهدَ في سبيله، وتذكر هذه الكلمات فلا تُلهينَّكَ عنها مطامعُ الحياة وزخرف الدنيا، وحسبك أنها وصية أخٍ يحبك ويأمل أن تكون على هذا الدرب صادقَ العهد والوعد حتى إذا التقينا في رحاب الله تعالى فلعلَّ أحدنا يشفعُ للآخر. حسبي أن قد وضعتُ بين يديك أمنيتي فيك فارتفعْ إلى مستوى هذا الأمل ليحققَ الله بكَ وبإخوانك الخيرَ للإسلام والمسلمين.
إن طريق الدعوات ليس كلاماً ولا شعاراتٍ ولا هتافات ولا مظاهرات. يجب أن ندرك من واقع التجارب السابقة الصادقة احتمالاتِ الخداع في هذه المظاهر الخارجية وهذا الحماس وهذا الإنفعال، الخيرُ في الصبر والمعاناة (فكثير من الناس يستطيعون أن يتخيلوا وقليلٌ من هؤلاء مَنْ يستطيعون أن يعملوا، وقليلٌ من العاملين من يستطيعون أن يجاهدوا، وقليل من المجاهدين من يستطيعون أن يصبروا، وقليل من الصابرين من يستطيعون أن يصلوا).(1/43)
يجب أن يدرك الداعية المسلم أنه من السهولة أن يسمعَ لهُ الناسُ، ولكن من الصعوبة بمكان أن يعمل معه هؤلاء الناس، لأن الإستماع أمرٌُ مُحَبَّبٌ إلى النفس، كما أنه من الممكن أن يدفع لك الناس اشتراكاً مادياً، ولكن من الصعوبة أن يشترك معك الناس في قول الحق، فالتكاليف والأعباء وضبط السلوك على تعاليم الإسلام هي محور الإيمان والإعتقاد والإنطلاق، ولن يتحقق هذا السلوك بمجرد البلاغ ولكن لا بد من عوامل الزمن والإستعانة بالسنن الربانية في التربية والتكوين. وشعارنا في ذلك (الزمنُ جزءٌ من العلاج) (والصبر على منهاج هذه الدعوة وخطواتها هو عينُ الجهاد والكفاح) (والمتقدمُ عن الصفِّ كالمتأخر عنه سواءٌ بسواء).
حين تدقق بهذا المعنى وتتذوقه وتعيش معه تشعر بثقل المهمة وضخامة الرسالة.
أخي الحبيب:
أريد أن تُوقِنَ أن دعوتنا إسلامية صحيحة ومهمتنا في هذه الظروف ليست إثارة النفوس وتَصَيُّدَ الأخطاء وتجريح الأشخاص والهيئات، فنحن أبعد الناس عن ذلك، بل إنّ ذلك يعوق مهمتنا الأساسية وينشئ خصومات لسنا في حاجةٍ إليها لأن مهمتنا (نجمعُ ولا نفرق. نبني ولا نهدمُ. نتعاونُ فيما اتفقنا عليه ويعذرُ بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).
مهمتنا في هذه المرحلة إنارةُ العقول وتزكية النفوس والارتقاء وبعواطف الناس ومشاعرهم ونقلهم إلى الصالح المفيد، والتعاون على تكوين الشخصية المسلمة التي هي قاعدة بناء المجتمع المسلم.
(وإذا وُجِدَ المؤمنُ بحقٍ وُجِدَتْ معه أساليبُ النجاح جميعاً). نحس من أعماقنا بضرورة إنقاذ هذه الأمة من غفلتها وتنبيهها إلى ما يتهددها من أخطار وما يتربص بها من أعداء.(1/44)
إن هذا الشباب بحاجة إلى قلوب كبيرة تعينه على الخروج من هذا المحيط الآسن إلى المحيط الهادئ، ومن البحر الأسود إلى البحر الأبيض في حاجة إلى عاطفةٍ طاهرة يستعذبُ حلاوتَهَا ويتذوق شَهْدَهَا ويأنسُ إليها ويستأنس بها، وليس إلا الإسلام أولاً وأخيراً فهو الواحة الظليلة والمرفأ الأمين والشريعة العادلة والدين القيم "ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".
أخي الحبيب:
لقد كتبت هذه الرسالة بشعور يفيض بالإخلاص والحب العميق راجياً من الله تعالى أن يجعلني وإياكَ من أهل هذا المقام "فآتاهُمُ الله ثوابَ الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرجمن الرحيم
الدعوة إلى الله حب
الجزء الثاني
إهداء
إلى الإخوة والأخوات
الذين كشفت كلمات الدعوة إلى الله حب. كوامن قلوبهم، وأشعلت عواطفهم، وأدركوا سر حواسهم التي وهبها الله تعالى لتعمل في ميدان النفس البشرية هداية وتربية وإنتاجا، فصارت حياتهم جديدة متجددة بتلك العواطف الندية الريانة والهواتف الروحية بالحب في الله تعالى لكل مسلم أشرق الإيمان في قلبه فأدرك سر وجوده وعرف الغاية من خلقه.
المقدمة
بقلم: سعيد حوى
الحمد لله والصلاة على رسول الله وآله
"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"
وبعد: ليس أدب الإخوانيات غريباً على الأدب العربي، ولا أدب الرسائل بمستغرب عربياً أو عالمياً فمكتبة الإنسانية عامرة بهذا النوع من الآداب ولكن أدب الإخوانيات في الله وأدب الرسائل التي تعبر عن هذه المعاني قليل إن لم يكن معدوماً في مكتبتنا العربية ولذلك فقد كان كتاب الأخ عباس السيسي "الدعوة إلى الله حب" فريداً في بابه جديداً في موضوعه بديعاً في مكانه في المكتبة العربية وفي المكتبة الإسلامية.(1/45)
لقد حاول الأديب الروسي (دستويفسكى) أن يعرض لنوع من الإخاء الديني في كتابه "الإخوة كرامازوف" ولكن عن طريق القصة واصفاً حال الأخوة القائمة على الأخوة المسيحية ولكن مكتبتنا العربية خلت في علمي من مثل هذه المحاولة التي تبين عمق الإخاء الإسلامي بين أصحابه وهو إخاء قائم على حق وصواب وفيه تتجلى أروع خصائص التعامل الإنساني ومن ههنا كان لرسالة "الدعوة إلى الله حب" جانب إبداعي في ناحتين: في كونها نمطاً جديداً في أدب الرسائل، ونمطاً تطبيقياً في الإخوانيات القائمة على الحب الإسلامي في الله، ومن ههنا أخذت محلها بسرعة في المكتبة الإسلامية وكأنها كانت معها على موعد ولكن الكتاب الأول الذي ظهر في صفحاته المعدودة كان رسائل من جانب واحد هو جانب الأخ عباس إلى إخوانه ولم يظهر في الرسائل مشاعر الجانب الآخر إلا قليلا فكان لا بد من كتاب آخر يكمل هذا النقص فكان هذا الكتاب وهو الثاني في سلسلة الدعوة إلى الله حب هو المكمل فقد جاء هذا الكتاب في بابين الباب الأول: رسائل إلى عباس وهي متخيرة من مجموعة رسائل أُرسلت إليه والباب الثاني رسائل جديدة من عباس إلى إخوانه في الله وهي كذلك متخيرة من مجموعة رسائله إلى إخوانه ليكون هذا الكتاب تصويراً صادقاً للأخذ والعطاء ولا شك أن نقل الرسائل المتفرقة من وضعها الأصلي لوضع آخر تصبح فيه وكأنها رسالة واحدة يحتاج إلى شيء من التصرف غير المخل، وإلى شيء من التصحيح لخطأ أدبي أو نحوي وذلك شيء لا بد أن يعذر فيه كتاب الرسائل الأصلية إذا ما وجدوا بعضاً من رسائلهم أصبحت جزءا من كل ولقد شرفني الأخ عباس بأن أقدم لكتابه الثاني كما قدمت لكتابه الأول وذلك شرف كبير أرجو به الأجر الجزيل من الله عز وجل وعندما اطلعت على كتابه الثاني رأيت فيه رسالتين اقترحت أن يعطيني إياهما ليكونا في هذه المقدمة. الرسالة الأولى موجهة منه لصديق مسيحي والرسالة الثانية موجهة لأخت.(1/46)
لقد رأيت في هاتين الرسالتين نمطاً جديداً وأدباً حميداً ورأيت فيهما شبه غربة عن بقية الرسائل فأخذتهما لهذه المقدمة فالرسالة الأولى ترمز إلى معنى عميق في دعوة حسن البنا رحمه الله إنها تنظر بأفق رحيب إلى المواطنين من غير المسلمين ولا عجب في ذلك فالله عز وجل يقول "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم"، ومن هنا كانت دعوة حسن البنا تنظر إلى المواطنين من غير المسلمين نظرة خاصة فهي تعاملهم بالعدل والبر معا ومن ههنا كان من الظلم لدعوة حسن البنا أن تتهم بأنها لا تحقق سلاماً اجتماعياً أو وحدة وطنية بل إن دعوة حسن البنا لتحاول أن تفتح علاقات مع المواطنين من غير المسلمين وأن تتعامل بآفاق رحيبة معهم ولذلك اخترت أن تكون رسالة الأستاذ عباس إلى أحد المسيحيين في هذه المقدمة للتأكيد على هذه المعاني ولقد أكد هذه المعاني من قبل أحد المسيحيين المشهورين وهو مكرم عبيد الذي أصر على الخروج مع جنازة حسن البنا يوم أن منعت السلطة كل الناس أن يخرجوا معه لقد كان تصرف مكرم عبيد يومذاك إشارة إلى فهمه العميق لدعوة حسن البنا وأنها دعوة تسع المواطنين جميعاً وهذه رسالة الأخ عباس الى مواطن مسيحي إحدى المؤكدات لهذا المنحى وهذه هي الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل الأستاذ أليكسان غطاس إبراهيم
تحية طيبة وبعد:
لقد سررت باستلام خطابكم البار – بعد أم مضى على غيابنا عنكم ثلاثون عاما – حالت دون رؤياكم ظروف شديدة – وكانت رسالتكم الكريمة، في تصوري لمعناها الكبير ومغزاها العميق رائعة، فالوفاء للقلوب هو أسمى ما ترصع به الإنسانية تيجانها وتزين به سيرتها وتاريخها ومما يزيد من أهمية هذا الوفاء النادر – هو اختلاف الأديان، وبعد الزمان والمكان وعدم النسيان.
والذي جاء في خطابك يسجل في صفحات وحدة الأمة بسطور من نور تثبت للأجيال أنها حقيقة وليست خيالاً.(1/47)
وحديثك عني هو صدى خلقك الفاضل وأدبك الرفيع – ولقد سبقتني بالسؤال عني وصاحب السبق له فضل.
وتقبل تحياتي وأشواقي مع شكري وتمنياتي الطيبة.
المخلص: عباس السيسي
ألمانيا في 10/04/1984
وأما الرسالة الثانية التي رأيتها أليق بهذه المقدمة فهي رسالة موجهة لأخت فهي رمز على معنى كبير جليل فالإسلام إذ أكد على نظافة العلاقات بين الرجال والنساء وفرض لذلك فروضاً تنسجم مع الفطرة وتطيقها المرأة والرجل لم يتعامل مع العلاقة بين الرجال والنساء تعاملا غير فطري بحيث لا يعطي للمرأة أو للرجل فرص التعبير عما هو كمال وعما هو ضروري فالمرأة ضمن شروط يستطيع أن يخاطب المرأة وهناك دائرة المحارم والأمر في شأنها واسع فلكي يتأكد هذا المعنى اقترحت على الأستاذ أن يعطيني رسالته إلى الأخت لتكون في هذه المقدمة ومعنى آخر لحظته هو أنه لا بد أن يكون في هذا الكتيب كلمة عن المرأة وللمرأة وكان المفروض أن تأخذ من أدب النسائيات ومن أدب الأخوات في رسائلهن الأخوية مما يغطي هذا المعنى وإذ فاتنا ذلك فلا أقل من أن نرصع هذا الكتاب بلفتة للمرأة وعن المرأة وهذه مقتطفات من رسالة الأستاذ عباس إلى أخت في الله :
"اختي الكريمة :
لقد تأخرت في الكتابة إليك وأنا آسف – فالمعروف أن إلقاء السلام سُنة ورد السلام والتحية واجب – لقد سافرت وأنا أشعر بالتقصير في سرعة الرد – حتى إذا استقر بي المقام وأمسكت بالقلم شعرت بالخجل لأني نادرا ما أكتب لفتاة وإن كانت خطاباتي دائما ما تكون للأخ والأخت سواء. وإن كانت للثانية فمن وراء حجاب. أتمثلها صفات واخلاقاً فأستوحي من ذلك المعنى – ان الحب في الله تعالى التقاء قلوب وأرواح على رسالة وعقيدة. لأن العقيدة آصرة ووشيجة (إنما المؤمنون إخوة) هو المعنى الجامع لكل الأجناس.
لقد تأثرت كثيراً بكتابك فهو في الواقع هدية ثناء أعتز بها فليس في هذه الدنيا من إنسان إلا وتشده وتأسره تلك اللفتات الصادقة المهذبة.(1/48)
والإنسانة التي تملك تلك الذخائر – إنسانة غنية، فالإسلام روح وريحان".
"عباس"
وأخيرا وبعد: فهذا هو الكتاب الثاني للاستاذ عباس في سلسلة الدعوة إلى الله حب ندعك معه فانه يحرك المشاعر النبيلة ويوقظ من الغفلة السادرة ويهيج على الكمالات الرفيعة ويذكر الناسين ويوقظ الغافلين.
"سعيد حوى"
ربيع الثاني 1405
يناير (كانون الثاني) 1985
من الإخوة
إلى الأخ عباس السيسي
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الفاضل الحاج عباس السيسي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعد أن علمت بوجودكم من الأخ سعيد بادرت بالكتابة إليكم شاكرين الله أن حفظكم حتى هذه الساعة راجيا لكم منه تعالى كامل الصحة والسعادة فالله الذي عرفته بكل الإيمان والصدق هو الذي حفظكم وأبقاكم شاهدا له حتى اليوم. فأنت يا حج عباس صورة حية وقدوة صالحة لكل مؤمن مدقق في إيمانه ورسالته بارك الله فيك وحفظك ودمّم لأخيكم الذي لعلك تتذكره من أيام العريش 1955. تقبل تحياتي واشواقي ودمّم لأخيكم المخلص.
تحريرا في أول اكتوبر اليكسان غطاس ابراهيم
1983 رئيس قسم النقابين بورش العريش
الرسالة الثانية
أخي لماذا أحبك؟
سؤال يسير، غير أن الإجابة عليه أمر عسير اللهم إلا إذا تبدلت الحروف إلى نور والسطور إلى رياحين وزهور.
أحبك لاتحاد الأفكار والآمال والآلام. لوحدة الهدف وشرف الغاية – للاتفاق في الشعور والشعائر – لان ألفة قلوبنا لا تكون إلا بوحدة أخلاقنا. فالطيور على أشكالها تقع. والأرواح جنود مجندة لأن الأرواح لا تعزلها المادة ولا تقيدها اللغة أو الجنسية. فهي تلتحم وتتلاصق بعوامل الحب والصدق والصفاء. وهذا هو الرباط الذي لا ينفصم.(1/49)
أحبك لأنك النور الذي أضاء لي الطريق الحق. والحق هو أغلى ما في الوجود وأثمن مافي الحياة ولهذا كان "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" لقد كنت قبل أن أعرفك أحب نفسي وحدي – أعطيها كل شيء وآخذ لها كل شيء، لا أبالي بمن حولي لا أفرح لفرحهم ولا أحزن لحزنهم ولا أتألم من أجلهم. نفسي نفسي هي كل الحياة – فكان حبي لك وحبك لي هو سفينة النجاة حيث طهرت نفسي من الأنانية وحب الذات وأشعلت قلبي بالوهج والحب. لقد أيقظتني من غفوة وغفلة. فلم أعد وحدي في هذه الدنيا. وأصبح حبي لك تطلعات بعيدة لجيل جديد له هدف وله غاية يحمل الراية بصبر وحلم وعزم – تطلعاتي تطلعات من يريد أن يترك لمن يحب كل ما عنده وما يعرفه من تجارب ليكون معالم لطريق طويل وشاق – حبي لك هو حرصي الشديد أن تسعد بك الدعوة وإن كان الأصل أن تسعد أنت بالدعوة "يمنون عليك أن أسلموا قُل لا تمنوا عَلَىَّ إسلمكم بل الله يمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صدقين" – ولكني باحث – أبحث عن رصيد من القلوب لتحمل هذا العبء – بل هذا الشرف – لتبقى الدعوة وتحيا الرسالة.
لكل هذا الشعور الذي نتذوقه ولا ننطقه نسعد به من الأعماق في صمت وحب واشتياق.
كنا قد جلسنا معك جلستين على انفراد، لنستمتع بحديثك، ونفرح برؤيتك ولقد كانتا جلستين رائعتين، تعلمنا فيهما أننا ملك لهذا الدين وأننا بحاجة إليه وما هو بحاجة إلينا. وفي الحقيقة لا أكاد أصف لك شعوري ولا أقدر أن أجسد لك حالتي حينما كانت لحظة الوداع، أحسست وكأني طير في السماء أطير فيها ألهو، تاركا ورائي كل ما يشغل غيري، لقد شعرت آنذاك أن قلبي قد بدل بقلب آخر، قلب أبيض ناصع البياض، قلب محب لك.
أبي الحبيب: ان تلك اللحظة، كانت أكبر درس لي وأعظم موعظة أتعظ بها، لقد كانت هي الحب كله وهي العاطفة كلها التي يشعر المسلم بها نحو أخيه وحبيبه المسلم.(1/50)
ثم تمضي الأيام وأزداد حبا لهؤلاء الإخوان الذين وجدت عندهم من الحب مالم أجده عند أهلي وأسرتي وها أنا اليوم اعتبر نفسي جزءا منهم وهم في نفسي وقلبي، وأصبحت أعتقد تمام الإعتقاد أن هذا الطريق طريقنا هو الطريق الوحيد لسعادتنا وسعادة البشرية جمعاء، فيه نصرة الإسلام وعزته، فأزداد تمسكا بإخواني وأمضي أدعو غيري من التائهين الحيارى إلى هذا الطريق وأحزن عليهم إن ابتعدوا عن هذا السبيل.
لم أجد الحب الخالص ولم أعرف معناه إلا بين الإخوان، ولا زلت أذكر لقاءنا الأول: كل كلمة كنت أسمعها منك كانت تزيدني ثناتا وتدفعني إلى العمل بجد ونشاط فوالله حضرت لك بعض اللقاءات في الديوانيات فكنت أخرج من الدرس واشعر أنني مقصر لأني لم أدع غيري ولم أدل غيري على الطريق الحق فكنت تقول – حفظك الله – (إنكم جئتم إلى هذه الدعوة بابتسامة وسلام وكلمة طيبة، فلا تبخلوا بهذه الأشياء وادعوا غيركم بهذه الهواتف: الابتسامة والكلمة الطيبة ...) فوالله يا أخي كنت أخرج من عندك وكلي شعور بالأسف أنني لم أؤد واجبي تجاه هؤلاء التائهين، لم أقم بإرشاد أحد منهم.
كم أتمنى يا أبي الحبيب أن يتحقق مافي ذهني وتخطيطي من دراستي للشريعة الإسلامية، والوصول إلى المرحلة التي تؤهلني لأهب نفسي في سبيل الله والدعوة. حقا إنها أمنية وطموح لي يا أبي الحبيب ما أشد شوقي إلى سرعة تحقيقه.
وأتمنى أيضا يا أبي أن أكتب كتاباً أو حتى مجلداً أصف به أحلى العواطف التي تمتعت بها، مع أطيب أب وأرق قلب تعاملت معه في حياتي، أود أن أسجل أشواقي العاطفية معك – دون نسيان ما استفدته من عمل للدعوة من تلك العواطف ومن غيرها – حتى يعلم الناس والمسلمون أن هذا الدين هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يوجد تلك العاطفة وهو الوحيد الذى يهب تلك الروح الشفافة، التي تمتعنا بها جميعا وحقيقة يا أبي لو علم الكفار هذه النعمة لقاتلونا عليها بالسيوف.(1/51)
في الواقع يا أبي أن الأخ عندما يعتاد ملاقاة إخوانه واجتماعه بهم لا يقدر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه وعلى إخوانه "واذكروا نعمت الله عليكم إذ كُنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً". ولن يشعر الأخ منا بهذه النعمة وعظمها إلا عندما تنزع منه فيجد نفسه في أحد الأيام وحيدا، لا يجد من يأنسه، لا يجد من يعينه على ذكر الله إن تذكر، ومن يذكره بذكر الله إذا نسي، قد يتصور الأخ في بداية الأمر انه سيكون أمرا طبيعيا جدا، ولن يكون له أدنى تأثير عليه وعلى إيمانه، حيث أنه يعتقد أن الإيمان سهل وتطبيقه أسهل، وما يظن أولئك أنهم يغفلون الواقع لأنهم يعيشون في مجتمع أكلت منه الشهوات، وارتوت منه المعاصي، لن يحسوا بذلك أبدا لأنهم يعيشون بين إخوانهم، يعيشون في مجتمع مصغر للمجتمع الذي يريدون أن يروه فيظنوا بجهلهم أنه هو المجتمع الذي نريد، ويتصورونه بهذه الضخامة التي تجعلهم يهملون الدعوة إلى الله لظنهم أنهم وصلوا إلى الغاية المرتجاة، ولكنهم سيعلمون عظم خطئهم ويندمون على ما فاتهم من فرص في زيادة ذخر إيمانهم، وإعداد أرواحهم ليستطيعوا أن يواجهوا ما واجهوه الآن، ألا وهو بعدهم عن إخوانهم وابتعادهم عنهم. حقا يا أبي إنها لمعان عظيمة لو تفكر فيها الإخوان حق التفكير، ولو أعطوها كما يعطون غيرها من الأمور من الجدية، لكانوا فوق الأمم بإذن الله ولارتفع بهم إيمانهم إلى ما ارتفع به إيمان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
الرسالة الثالثة
إن مشاعر الإنسان التي تغمره هي سر من أسرار الله تعالى يودعها في قلب من يشاء من عباده، وقد أحسست بمجرد أول لقاء معك بالسعادة والاطمئنان النفسي ولك في قلبي منزلة كبيرة ويعلم الله (أني أحبك في الله تعالى).(1/52)
لقد زاد حب إخواني في قلبي ومشاعري حينما سمعت منك حديثا عن الحب في الله والعاطفة الإسلامية، فلقد كان هذا الموضوع يشغل عقلي كثيرا وكنت لا أستطيع أن أقوله لأحد من إخواني الذين تربيت على أيديهم لأنني واثق بأن الرد لا يشفي مافي القلب، حتى أنعم الله علي باللقاء بك ففرحت إذ عبرت عما في نفسي وشرحت مافي صدري بكلامك الرقيق.
لقد كانت عواطفي نحو إخواني كبيرة ويعلم الله أنى أحبهم حبا كبيرا وقد امتزجت قلوبنا مع بعضها البعض ومن خلال لقائي معك، عرفت كيف تتوهج العاطفة لا أن تخفت كما قال لي بعض الإخوان، فشغل ذلك عقلي وزاد بذلك همي كيف تخفت العاطفة؟ وكان هذا في ضميري مكتوما حتى سمعت كلامك عن العاطفة وكيفية توجيهها فانشرح صدرى.
طريق الدعوة كما تعلمت منك طريق طويل وشاق. ويحتاج لزاد كبير ويعلم الله ان خير زاد بعد القرآن والسنة هو زاد المحبة والأخوة في الله فلولا الإخوان بمحبتهم الصادقة لما استطاع الإنسان أن يثبت، فالحمد لله على نعمة الأخوة ونعمة الإسلام وأسأل الله أن يجمعنا وإياك في مستقر رحمته.(1/53)
لقد كانت الجلسات الطيبة المباركة التي جلسناها معك قلوباً ومشاعر – من الأحداث التي نعتز بها أيما اعتزاز فلقد نهلنا من ينبوع قلبك وارتوينا من موارد روحك وحسك حباً لم نعهده من قبل وشعوراً لم نذق طعمه قبل لقياك وعاطفة جياشة صادقة قد زرعتها في نفوسنا وغرستها في قلوبنا فيا أعظم ما زرعت ويا أكرم ما غرست وحقيقة الأمر أننا كنا ندخل بيتك بقلوب ونخرج بأخرى ملؤها الحب والأحساس النقي والشعور العفيف. والحب هو صفة الأحياء وغريزة الإنسانية ومن لم يعرف قلبه الحب فبطن الأرض أولى به من ظهرها، ومن عرف الحب وارتشف من ينابيعه فنعم القلب هو ونعم الرجل صاحبه. فالحب حاؤه حياة القلوب وباؤه بلسم الجراح، وهو بين هذا وذاك أمل وخلود وأعظم حقيقة في هذا الوجود. وأتعجب من أن أجد قلبا مثل قلبك – يا سيدي الوالد – في دنيا ضائعة منحرفة ولكن هو الإسلام وهي مبادئ الإخوان وقديما قيل: إذا عرف السبب بطل العجب. ولست أحاول هاهنا أن أصف حبي لك أو بعضا منه إذ أنه أعمق من أن يوصف وأعظم من أن يتصوره الإدراك البشري.
الرسالة الرابعة
ما كنت أتصور أن هذا الحب برنامج لمنهج دعوة وطريقة لتطبيق رسالة اكتشفت أن على قلبي واجبات كما أنه له حقوقاً، لقد توصلت أخيراً إلى أن هذا الحب هو العطاء بعينه من دون أن أنتظر المقابل، لقد تعلمت أن أعطي الجميع من حبي ولا أخص أفرادا معينين.(1/54)
وبهذاوجدت الكثيرين الذين كنت غافلا عنهم ومقصرا في حقهم كان يمنعهم مني ويمنعني منهم انغماس في ظل حب أناني لأفراد لا يتعدون أصابع اليد الواحدة ولكني الآن أطمئن كل يوم عندما أكتشف أخا جديدا حبيبا إلى قلبي ويزيدني سعادة إشاراتك اللطيفة إلى هؤلاء الإخوة فيطمئن قلبي إلى هذا الاختيار لمشاركتك لي في ذلك. ومن آثار هذه الوسيلة الجديدة اكتشفت آخرين يعيشون بالقرب منا من الشباب الفلسطيني، فوجدت قلوبا خالية لم تسمع بهذا الحب الرباني، فوجدت تقبلا لهذا الفيض الإلهي.. ولعلها وسيلة لموازنة عواطفي وتوزيع مشاعري بصورة طبيعية.
ولقد ساعدتني في ذلك أحاديثك حول الوحدة الإسلامية المرتقبة، وكم خطر على بالي الوصول إلى نهاية هذا المطاف مهما طال فإن لكل أمر نهاية، وسأدعو الله أن يعينك ويسدد خطاك لتكمل لنا هذا الطريق.
لقد تعلمت منك يا أبي الحبيب أنه ليس شرطا أن يحبك كل من تحبه، ومن هذا ستجد من يحبك وأنت لا تلقي له بالا، وعند هذا الصنف الثاني تستطيع أن تثبت شخصيتك كداعية فتتنازل عن بعض حظ نفسك لتحب من يحبك فيحبك من لا يحبك.
لقد كانت رسالتك الأولى عبارة عن كلمات قليلة (أتمنى ان أراك، فإن كان وقتك لا يسمح فسوف أخضع وقتي لوقتك).(1/55)
كانت هذه الرسالة غير مفهومة لدي، فأصبحت أسائل نفسي: لماذا بعث إلي بهذه الدعوة، مع أنني لم أره إلا مرة واحدة؟ لماذا كل تلك المشاعر المخفية وراء تلك الكلمات؟ أهي لحاجة ما؟ أم لمصلحة معينة؟ إلى أن أنعم الله علي بفهم الدعوة، فعلمت أنها كلمات قليلة، ولكنها تسد عن ألف كتاب، وأنها أساليب دعوة راقية، لم تقم بها إلا صادقا مخلصا لله، وفي سبيله سبحانه وتعالى، لهذا كانت هذه الوسيلة أول درس أتعلمه في ميدان الدعوة على يد رجل أنعم الله عليه بصدق العاطفة، وبإخلاص العمل، فكان درسا ناجحا والحمد لله أعانني على سلوك هذا الدرب في راحة واطمئنان إلى النتائج، عالما أن الله لا يهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فأرجو الله الثبات على دينه وحسن الطاعة والعبادة له.
إنني أحمد الله تعالى الذي جعل لي رجلا مثلك ألتقي به وأتبادل معه المشاعر والعواطف فأنت تبلغ من العمر 65 سنة وأنا أبلغ 18 سنة، ترى ما هذه العاطفة التي تجعلني أرتبط بك وأحبك حبا غريبا من نوعه!
إنني أحب أن أقول لك بأني وأنا جالس أستمع لحديثك المشوق ونظراتك الجميلة التي أتكلم عن طريقها معك أشعر بأني بعد أن أنتهي من هذا اللقاء سأذهب للدنيا كلها وأجعلها من الإخوان المسلمون، وأحس بالحب الشديد للشباب الذين معنا وأتمنى أن يعرفوا ما أحس به من حب، إنني أتكلم معك كثيرا ولم أفاتحك من قبل إلا يوم أن جلست معك وقلت لك بإحساسي نحوك، أنني مليء بالعواطف والمشاعر، ولكنني لا أقولها لك، فتجدني أجلس أستمع لحديثك وأنا في غاية السعادة والحب.(1/56)
وإنني أحب أن أقول لك بعض المعاني التي قرأتها عن الامام الشهيد حسن البنا في كلامه عن الدعوة أنه لا قيمة لنا في هذا الوجود بدون هذه الدعوة التي هي بحاجة إلى رجال لكي يقوموا بها ولا تريد هذه الدعوة فضلات الأوقات وأنت من هؤلاء الرجال الذين أراهم ممن يقومون بها ويبلغونها لكل إنسان في هذا الوجود، فأجرك عند الله لن يضيع. ومن المعاني التي سمعتها منك هي طريقة التعامل مع البشر فهذه معان لم أكن يوما ما أحلم أني سأسمعها، فطريقتك مع الشباب والرجال لضمهم إلى الصف مشوقة جدا.
ومن الكلام والمعاني الطيبة التي أستشعرها في معاملتي مع المجموعات الأخرى هي الحب لهم وليس شرطاً أن نضمهم إلينا بل ان نكسب حبهم لنا، فكما يقول الإمام حسن البنا: أيها الناس كونوا كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، إنه معنى جميل جدا يدل على عمق الفهم والتجربة. إنني اتساءل متى ستقوم دولة الإسلام، ولكن المدة: الله أعلم بها فعلينا أن نعمل لهذه الدعوة وأن نبذل ما في وسعنا من طاقات فكما سمعت منك أن الحواس هي أدوات هامة في التعامل مع الناس (والتفسح في المجلس وأن تصب من انائك في اناء أخيك) وإنني حقا أحفظ كلامك الذي أرجو أن أحوله إلى عمل وحركة.
أسطر إليك خطابي هذا بعد أن طال الافتراق وباعدت بيننا الأقدار.. كل منا في سجنه رغم متعة الحياة الظاهرة لكل عينين.. سجن في داخل النفس.. أتصور نفسي مرات عديدة خلف القضبان واقفا ومن كوة ضيقة مبصرا.. والحياة من حولي تموج بالفتن يردف بعضها بعضا.. الناس أمامي في الطريق إلى المجهول.. ردة إلى الجاهلية ولكن بأسلوب جديد مُقنع بالعلم ومنجزاته.. تدهور في القيم وانحطاط في الأخلاق.. وفساد في العقيدة فإن ناديت بالإسلام فأنا عميل للاستعمار.. وإن دعوت إلى الله فأنا رجعي متأخر.. وإن قلت اتقوا الله أخذت الناس العزة بالإثم.. وحوصرت وحوصر أمثالي في سجن آخر جديد.(1/57)
فكانت السنة التي أرادها الله فكما قلتم لنا من قبل من لهيب المحنة ينضج الدعاة وتندفع الدعوة.
فإن مبدأكم.. ليس الكبار وحدهم الذين يحبون أن يبلغ إليهم الإسلام في صورته النقية من حيث العمل الجماعي والنهوض بالإسلام.. بل إن القلوب الصغيرة الحديثة العهد بالدعوة.. لأحوج إلى الغذاء.. ليشبوا عليه وطعم الإيمان في نفوسهم.. ونوره في قلوبهم وبشاشته في أرواحهم.. فكانت كتابتك لنا هي المادة الأولى التي تفتحت لها تلك القلوب.. فنحن في أشد الحاجة إليها.. وإلى مراميها العميقة.. وجوها الإيماني التهذيبي المؤثر.. جزاكم الله كل خير.. وزادكم توفيقا وثباتا.. فكنتم هداة لنا نحن الأجيال الناشئة التي تحيط بها العواصف والأعاصير وتنتشر في طريقها الأشواك..
الرسالة الخامسة
أخي عباس: - دعني أخرج عن عصمتي لأعبر عما في نفسي، في لحظات تتألق فيها نفس الإنسان ليناجي فيها الرحمن يتدبر في آيات الله الملأى في الأكوان، وقفات شعورية بين الفينة والأخرى كالبرق الخاطف كاللمعان، ياليتها تبقى! فهي أساس سمو الإنسان، هى زادنا في رحلتنا مع الله ونحو الله في كل مكان وزمان. ما أحلى تلك اللحظات التي يرسل فيها المسلم روحه كي تنطلق بين يدي ربه، هل هي أمل أم حساب أم حب أم تدبر أم كل ذلك معا؟! لكن فيها يحى القلب وتنطلق الأحزان. ما أجمل أن نخرج من قيد الدنيا، نتحرر من كل قيود الشيطان.
ياليت هذا الشعور الأخوي لا يفتر وليت كل تلك الدفقات تبقى متصلة، كي لا تترك الدنيا في أي صورة من صورها مسيطرة على القلب والوجدان.
أخي الحبيب عباس: - كنت عندما أقرأ للإمام البنا في كتاب نظرات في القرآن أشعر بالدفء الأخوي يملأني، كم كنت أسعد عندما أقرأ اللفتات في كثير من الآيات التي لم ألتفت إليها رغم مروري عليها وقراءتها كثيراً من المرات. أعجبت بحسن البنا وبأسلوبه.(1/58)
لقد شدني حديثك كما كان يشدني حديث البنا – حديث الثلاثاء – فأعود لأسأل نفسي.. هل تفهم لغة الإخوان؟ وأعود لأسأل نفسي.. ما سر فتور الإخوان؟
أيقظت شعوري فنسيت همومي وآلامي، أيقنت بأن الصبر وسيلة المؤمن، لكن أفكر دوما: لا بد من الإمتحان، لبيان صدق الإيمان، فهل أصبر؟
كم هو جميل معنى الأخوة لو أنه يتحقق بيننا. إن وجود الإخوان معا يعين على الصبر والسلوان.
أريد أن أبكي لحالتي لأنني كنت أعيش بعيدا عن معاني الحب في الله ومعانى العمل لله وكسب الأفراد إلى هذا الصف، كل هذه المعاني كانت غير موجودة عندي فأنا كنت ميتاً فعلاً وإن كنت أتنفس الهواء وأتحرك، إنها لمأساة حقا ولكن الحمد لله عندما رأيتك وجلست معك أصبحت أشعر بشعور غريب فتغيرت بعد أن كنت ميتا، فأصبحت أتذوق طعم الحب في الله مع الكثير من الشباب، فأحبهم ويحبونني وتغيرت علاقتي مع الله وأصبحت أشعر بالخوف من الله وازداد ايماني وعبوديتي له، كل هذا عندما رأيتك.
أطلب من هذا القلم الأصَم أن يكتب فيسيل دموعاً ليرسم ما في قلبي من الحب في الله، ثم أحلق في السماء عالياً لأبحث عن عش ألجأ إليه، فلا أجد نفسي إلا وروحي بين أرواح إخواني المسلمين حفظهم الله.(1/59)
نعم.. تلك هي الساعة الوحيدة التي أشعر فيها بنفسي، وبأننا نعيش في هذه الدنيا الغرورة وأن غيرنا جسد بلا روح يأكل ويشرب وينام كالأنعام لا يعي ولا يحس فبذلك يبقى في غمرة وسبات عميق.. إننا وبحمد الله – بأرواحنا – نتقابل ونتناجى في ظل إسلامنا العظيم الذي كرمنا وشرفنا وبهذه الأخوة الخارقة التي أنارت وستنير – بإذن الله – للبشرية لتنال ما ترجو من النعماء. كم أشعر يا والدي بفرح شديد يغمرني وراحة تملؤني، وصفاء ذهني ينسيني الدنيا وما فيها من هموم.. كل ذلك عندما ألتقي بك وأجلس إلى جوارك، وأناجيك بروحي وأخاطبك بقلبي وعيني، فأتركك وقد شحنتني بذلك الحماس الإيماني الذي يكفيني حتى ألقاك مرة أخرى وتبقى كلماتك ترن في أذني تذكرني وترشدني لما هو خير، فأذكرك بكل خير، وأدعو الله لك بدوام الصحة والعافية لكي تبقى لنا "أترجة" تمدنا بطعم الإيمان الطيب وتزيدنا برائحتها الزكية التي تملأ جونا بالحب والرحمة والأخوة.. آه.. كم تأثرت عندما قرأت كتابك المبارك الدعوة إلى الله حب – لقد شعرت برغبة في البكاء ولا أدري لماذا؟! هل لأنني استشعرت بأنك ستفارقنا يوما ما – والموت حق – كرجل وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، أم أن شعوري نحوك كوالد عزيز هو الذي دفعني إلى ذلك؟! أم الاثنان معا؟! في الحقيقة لا أدري؟!
لقد كان كلامك جميلا فعلا، وفعالا واسأل الله تعالى أن يأجرك عليه وأن يفيدنا بما نصحت وقدمت، وأن يمد في عمرك بما فيه خير وصلاح وتقوى.
هكذا هي العاطفة الربانية.. التي يحكمها الإيمان ويسيرها عقل متصل بالرحمن جل وعلا.. بحر زاخر لا شاطئ له وفضاء رحب لا حد له.. هي العصا الإيمانية التي أحيت القلوب بأريحها وشذاها.. هي السعادة الأبدية بعينها ووصفها!! وهذا للذي يزن حبه بميزان السماء.. ويطهر نفسه وحبه من جراثيم الحب الأرضي؟!!(1/60)
أبي الحبيب إن الشياطين تحرق الحب في الله.. فلما ران صمت الحب في قلبي... أحسست بأني سلبت شيئا عظيما.. فأخذت أبحث في أعماق نفسي عن الحقيقة.. فالتعمق يفتح أمامنا أبواب عالم رحب مليء بالأسرار.. فبالعمق والصدق وحدهما يتميز الإنسان!! فوجدت أن قلبي لم يزل ينبض بالحب في الله والخير والإيمان.. وشعرت برغبة جارفة وحنين عميق في أن ألتقي بأخ أحبه ويحبني وبصدق.. بعيدا عن جراثيم الأرض.. فأتعامل معه بخبرة سامقة وعاطفة حارة يحكمها عقل وإيمان.. أعطيه ما تعلمته وأخفف عنه ما يحزنه وأشاركه فيما يسره.. ليقول لي.. لساني يلهج بالدعاء لك! وقلبي ستبقى فيه! وموعدي معك جنة عرضها السموات والأرض!! إنها الأمنية التي خفق لها قلبي.. إنه الأمل الذي داعب خيالي. أبي الحبيب.. صوتك معي لن يفارقني ستظل أذني عامرة بصوتك الندي وسأدعو لك الله أن يجعل غدك أفضل من يومك وأن يوفقك إلى طريق الخير والعدل والحق.
الرسالة السادسة(1/61)
لا تعجب إذ أكتب لك بعد أن افترقنا منذ عام 1954 فالمدة طويلة تبلغ ثلاثين عاما وهي عمر ثانٍ. ولكن صلة القلوب والأرواح لا تعد بالسنين ولا تحد بالمسافات ولا يقهرها البعد البعيد أو الظرف الشديد، فهي حية باقية زاهرة فالكلمة الطيبة لا تفنى بل تبدأ بذرة ثم تتأصل جذورها مع الزمن حتى تصير شجرة مثمرة. ولا أنسى أبدا تلك اللحظات التي جمع الله تعالى فيها بيننا في محنة قاسية مريرة مرعبة. كنت فيها بالنسبة لي واحة ظليلة أستظل تحت أجنحتها الوارفة وأستنشق من عبيرها راحة وسعادة وأنساً وفي مثل هذه الظروف الشديدة تنصهر المعادن وتَتَكَوَّن الجواهر واللآلئ. ومع شدة هذه الأيام وقوة الحصار على اللقاء والأفكار – فقد سعدت بالكتابة لك بعد أن نقلت إلى مكان آخر. ورغم أن الكتابة خطيرة فقد دفعني حبي لك أن أظل معك ولو بالكلمة. ولا أنسى وفاءك البار بالرد على رسائلي بنفس الشعور المبرور. ولقد كنت أحس رغم أنك تعيش في جو مريح نسبيا إلا أنك كنت ترجو لو تكون في مشاركة مع هؤلاء الذين تحبهم ويحبونك. ومضت هذه السنون الطويلة وأنا أذكرك دائما بالخير والحب وفي هذه الفترة الطويلة تعرفت فيها على الكثير من القلوب التي تماثلك وهذه هي حقيقة النعيم لو كانوا يفقهون أو يتذوقون.
الرسالة السابعة
كنت أتمنى لحظات أجلس فيها معك يصاحبني حبي وشوقي لرؤيتك ويجالسني فيها أنسك وملاطفتك لي ولإخواني الذين أحب أن يكونوا معنا، أجالسك لأنتفع وأستزيد من خبرتك وتجاربك في طريق الدعوة إلى الله عبر الإتصال الفردي والمحن وأحوال شتى لتكون لي نورا أهتدي به على طريق الدعوة وتكون لي معالم مرسومة واضحة في تحركي في طريق الحق المبين.(1/62)
وقد كنت نصحتني بالاهتمام بالشباب والارتقاء بمستواهم التعبدي والخلقي والفكري وبهذه النصيحة وضعتني أمام أمر كبير وخطير جداً ألا وهو المسؤولية عنهم أمام الله يوم القيامة ويعلم الله وأنا أكتب لك هذه الكلمات وعاطفتي جياشة وقلبي يشتاق لإخواني ومجالستهم ويتقطع قلبي حزناً وألماً وتدمع عيني كلما وقفت معهم لحظة من اللحظات ثم أفارقهم، هل تدري لماذا؟ لأنني أفكر في نصيحتك ووصيتك لي وأقول، كيف السبيل للنهوض بهؤلاء الفتية والقلوب الطاهرة الرقيقة المشاعر الملتهبة العواطف حقاً إنها مسؤولية كبيرة تحتاج إلى عزائم لا تعرف القهر ولا الخور ولا الكسل. ومما عرفنا من إخواننا ان طريق الدعوة يحتاج إلى رجال فكيف يكونون رجالا في طريق الحق والإسلام؟ هذا ما يشغل فكري ويسيطر على قلبي لقد أحببت هؤلاء الفتية وحبي لهم يتطلب أن أكون خادما عاملا على تربيتهم وتفقد أحوالهم ومدارسة مشاكلهم كيف لا وأنا أحبهم أكثر من أهلي وولدي.. ويعلم الله ذلك وليس في ذلك بدعة أبدا فقد قالها ابن مسعود رضي الله عنه لإخوانه "والله لأنتم أحب الي من أهلي لأنكم تذكرونني بالآخرة وهم يذكرونني بالدنيا".
وإنني لأحس أن حب أصحاب هذه القلوب فرض من الفروض والمودة لها فرض آخر، حقاً إنها نعمة ونحن نحسها ونتذوق طعمها لأنها حلاوة روحية كما جاء في الحديث.. (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان.. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.." وحقا لو يعلم الملوك وابناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بحد السيوف.
إنها نعمة في مقابل أننا نرى كثيرا من الناس يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال ينشدون السعادة بملذات زائفة فانية ولا يجدون من طعمها إلا ما اشتهت نفوسهم في لحظة اللذة ثم تزول ويبقى القلق والهم الذي لا أجر ولا ثواب عليه.
قالوا السعادة جمع مال ... ... ... قلت التقي هو السعيد(1/63)
"إني لأحبك في الله" وكم لك من منزلة كبيرة في قلبي وانت من خاصة من أحبهم فالحب عموم وخصوص، وحب الخصوص نستلهم آدابه وأصوله من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم حينما يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب أسامة بن زيد" البخاري.
ويقول في الأنصار "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق" إن هذه المعاني تدور في قلبي وكم من إخواني الذين أعيش في ظلال محبتهم كم منهم يحبني وأحبه ومنهم من نحبه حب الخصوص ولكنا قد نكتمها في قلوبنا لأن البيئة الجاهلية لا تعرف لهذه المعاني قدرها وقيمتها عرفوا الحب خلاعة وميوعة ونحن – بفضل الله وهذه الدعوة المباركة – عرفنا الحب أصل ومنسك يحس حلاوته من صدق فيه.
أستاذي الفاضل.. ليس أفضل من لحظات صدق يعيشها الإنسان مع إخوانه الذين يحبهم ويحبونه لأن هذه اللحظات زاد على الطريق – وقد وجهتنا جزاك الله خيراً على أن العواطف لا بد أن تلجم بنظرات العقول وإلا صارت عواصف وهذا المعنى نسعى الآن لترسيخه في أذهان أحبابنا الشباب وأرواحهم وقلوبهم.
لقد خلصت نفسي من هم تنوء به، وفجرت ينابيع الهدى واشعلت روحي وأطلقت طاقاتها بعد أن كادت تختنق من فرط ما تعاني من آلام وأحزان شملت كل أطراف الأماني التي كادت تحترق في أتون العذاب لما أقرأه وأسمعه من تخطيطات أعداء الاسلام في كل مكان. إنها مؤامرات تواصوا بها في الشرق والغرب على السواء. "قد بَدَتِ البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبرُ" والأدهى والأمر أن يوادهم قوم ينتسبون إلى الإسلام هم من جلدتنا يتكلمون بكلامنا يجيدون التمثيل والنفاق واللعب بكل الاوراق.
لقد وضحت الخيانات وضوح الشمس في رابعة النهار ولم تعد تخفيها شعارات الزلفى ومؤامرات الضياع والامتصاص، ولا خطب الساسة وألاعيب السياسة.(1/64)
وبعد كل هذه المآسي من مذبحة ديرياسين إلى مذابح صبرا وشاتيلا وما بينها وما بعدها من مذابح ومجازر – أذهلت كل مرضعة عما أرضعت ووضعت كل ذات حمل حملها من هول ما رأيت رأي العين وشاهدت شهود العيان وههنا يبرز سر الحقيقة الخالدة:
"يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء".
من الأخ عباس السيسي
إلى الإخوان
الرسالة الأولى
أخي
لا تستهن ولا تحقرن من المعروف كلمة طيبة. فإن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء – الكلمة الصادقة الهادفة – خطيرة إنا تتحرك وتقيم جسرا.. ولا تعجب إذا علمت أن المستشار حسن الهضيبي – عام 1944 استمع إلى بعض شباب قريته حديثا عن دعوة الإخوان المسلمون لأول مرة فأعجب بفقههم وتأثر بصدق حديثهم – ثم كان واستمع بعد ذلك لأول خطبة من الاستاذ حسن البنا وقال في ذلك "كم من خطب كثيرة سمعت كنت أتمنى كل مرة أن تنتهي سريعا.. ولكني هذه المرة كنت أخشى أن يسرع البنا بإنهاء خطبته... لقد مضت مائة دقيقة جمع فيها قلوب المسلمين في راحتي يديه وهزها حيث أراد. وانتهى الخطاب وأعاد إلى مستمعيه قلوبهم.. ماعدا قلبي فقد بقي في يديه".
هذه ثمرة الكلمة الطيبة – التي قادت حسن الهضيبي – ليكون بعد ذلك خليفة حسن البنا والمرشد العام للإخوان المسلمون.
فاعلم أخي أن الكلمة دعوة والدعوة حركة والحركة عمل والعمل بناء والبناء مجد الإسلام.
لا تخف من الفراق فانت جزء من الدعوة – ففي أي مكان على سطح الأرض سوف تستقبلك قلوب حانية – سوف تجد قلوبا في انتظارك فإن لم تجد فإنه ليس عليك إلا أن تبحث عنها وتصنعها فإن الداعية المسلم لا يعوزه العمل الجاد في سبيل إيجاد هذه العناصر التي تعينه على الطاعة وعلى الحب في الله تعالى.. إذن لا تخف من الفراق فإن عاطفة الإيمان والحب في الله سوف تدفع بك يقينا إلى مثل هذه القلوب لأنك لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن هذا الميدان الحبيب.(1/65)
أرى أن الوفاء من شيم القلوب الكبيرة وأن خسارة قلب، إنما هي خسارة لا تعوض وأعتقد أنك والإخوة على هذا المستوى العظيم من الوفاء. فتعرفوا الأسباب لمن غاب وذاب فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (صل من قطعك وأطعم من حرمك، واعف عمن ظلمك).
ومكرمة تصنع الحب في جماد وتخرج من صخرة ماءاً. سماحة في الخلق، سلوك الأحباب المجيد في رفق ولهفة نادرة. لهفة محببة تصنع من الإنسان روحا تفيض وتحلق في جوف الليل والناس نيام ويقف الإنسان بين يدي الرحمن راكعا ساجدا في خشوع ودموع. في هذا الغياب الذي يذوب فيه الإنسان بكل كيانه – أتوجه الى الله تعالى بالدعاء لك – أن يحفظك طاهراً نقيا مجاهدا وفيا وهذه هي دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب وهي أشرف عواطف الحب في أقدس مواقف الجلال.. وأمام هذه العاطفة وهذا الدعاء تتضاءل كل معطيات الدنيا التي أتمنى أن أقدمها هدية لك تعبيرا عن حرارة حبي (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وعلى سياق هذا المعنى لازلت أتذكر تصوراتي وتخيلاتي لصورة الكعبة المشرفة حين توجهت لأداء فريضة الحج عام 1943 حيث كنت من أصغر حجاج بيت الله سنا في ذلك الزمان... كنت أتخيل أن الكعبة الشريفة مبنية من الذهب واللؤلؤ والماس لعظم شأنها في تصوراتي حتى إذا واجهت الكعبة انتابني شعور من الهيبة والرهبة والجلال تلاشى معه هذا التصور – حيث أدركت بل فهمت أن الحب والشوق والشعور والإحساس شيء فوق المادة. ولو كانت الذهب واللؤلؤ والماس وما هو أثمن. (فإن أعظم من ذلك وأجل، هو حياة القلب ويقظة الروح ووهج الإحساس).
الرسالة الثانية
أخي
اسمح لي أن أتوجه إليك بهذه الكلمات فهي ليست نصيحة ولكنها تلميحة – لقد تعايشنا في السجون عدد سنين تحملنا فيها من أهوال التعذيب ما يشيب له الولدان وأمدنا الله تعالى بروح من عنده حتى خرجنا إلى ما يسمى بالحرية.(1/66)
ولكني أراك بعد ذلك قد تجمدت وانطويت وما كان عهدنا ولا وعدنا. فالعهد بيننا جهاد في كل مكان وكل ميدان بالحركة والقلم واللسان بالزحف على القلوب فهي سر حياة الإنسان (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما بالنا يا أخي الحبيب نتحمل المصائب والأهوال ولا نصبر على الدعوة والبيان.
فليست قوة التحمل في حمل الأثقال والصبر على التعذيب والاعتقال. وإنما القوة والفتوة في قوة العقيدة والإصرار والاستمرار وتخطي الحواجز وتحدي الأخطار – وأوضح ما يكون هذا المعنى ما قاله الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس (إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو اليه على الأقل – إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور. إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره..).
فأين نحن يا أخي من هذا كله!!
الرسالة الثالثة
حين أكتب إليك أستشعر معاني كثيرة جمة تأسست على مدى هذه الشهور الطيبة التي أسعدنى الله تعالى فيها بالتعرف عليك. وحين كانت تلك اللحظة. أو تلك اللمحة. لم أكن اتصور ذلك الذي كان. سوف يكون. كنت أتصور أن تذويب الفوارق بيننا يحتاج إلى زمن من شهور إلى سنين. كنت أظن أيضا أن هذا الوقت ضروري للارتقاء والانتماء. فظني أنك برعم في حاجة إلى الغذاء والماء والهواء وتلك طبيعة الأشياء. كنت في خاطري وليداً أو مولوداً – بذرة أو زهرة في بستان.(1/67)
وتمضي الأيام فإذا التربة صالحة والبذرة ناجحة.. فأخجلتني ظنوني وأشعلتني شجوني وألهبتني عواطفي نحوك واكتشفت أن المرء بقلبه وإيمانه. وأدركت أيضا أن الإنسان يجب أن يغوص في أعماق القلوب ليكتشف النفائس – كما يغوص الغواصون في أعماق البحار ليكتشفوا اللآلئ.
أنا البحر في أحشائه الدر كامنُ
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
الرسالة الرابعة
الدعوة حركة – والحركة نبض وحياة – والدعوة بلا حركة – كركود الماء وسكون الهواء، فلا تجدد ولا نماء – ومن توقفت حركته مات وقته وفترت همته ومضت فرصته. وعجبي لمن هذا شأنه كيف يغطي عجزه بالنقد والعتاب – مع أنه لو استعاض ذلك بالحركة والعمل لما أحس بعجز الآخرين لأنه يتحرك وليس من ذاق كمن عاق وما أعظم قول الله تعالى (وقُل اعملوا سيرى الله عملكم ورسوله "والمؤمنون") المؤمنون حين يشاهدون يتأثرون ويعملون وينتجون (وهزّي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً) هي عملية حركة. ولولا هذه الحركة لما تساقط الرطب! ولو أنك وضعت قطعة من السكر في كوب ماء – فلا بد أن تحركها حتى تذوب. ومفهوم الداعية أنه داع.
أي انسان متحرك يدعو إلى الله تعالى. فهو يلتمس السبيل ويبحث عن الوسيلة ويسعى الى الهدف (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)... وبالحركة اتسعت رقعة العالم الإسلامي بلا حدود. ولولا حركة الدعاة في كل بلد وفي كل اتجاه ما بلغت الدعوة الإسلامية هذه الآفاق.
اسمع يا أخي (عن أبي بي كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده – وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل – وما كان أكثر فهو أحب الى الله تعالى").(1/68)
إن صلاة الفرد في جماعة أفضل من صلاته وحده بسبع وعشرين درجة هكذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم. لماذا يا أخي الحبيب... أتدري لماذا؟ حتى يتعارف المسلمون، حتى يتحاب المسلمون. حتى يتعانق المسلمون.. هل عرفت كيف يندبنا الإسلام للحب.. إذا كنت لا تدري فسوف تدري يوم لا قدر الله وتعيش وحدك لظروف خارجة عن إرادتك سوف تشتاق بعمق إلى صلاة الجماعة وسوف تندم على تركها. تصور أنني أعرف ذلك من واقع حياتي ووحدتي وانفرادي. فآمنت وآمنت.
الرسالة الخامسة
الحياة بلا قلوب توقع في الذنوب حيث يعيش الإنسان في مجتمع بعيدا كل البعد عن العواطف النظيفة والأخلاق اللطيفة المؤنسة التي تبعد الإنسان عن الغيبة والنميمة والانشغال بدنيا الناس والوسواس الخناس. تصور أن من منافع الحب في الله تعالى أن تجد نفسك منساقا إلى إصلاح نفسك لتكون أهلا لحب هذه القلوب فلا يمكن مثلا أن تحب أو يحبك إلا إنسان مثلك وبهذا الحب تكبر القاعدة المسلمة التي تتعايش بهذا الأسلوب الإسلامي – وإذا اتسع مجال هذا الشعور اتسعت القاعدة بالطبع وآنست قلوبا وأرواحا حية نقية فلا ترضى بعد ذلك أن تنزل لذاك المستوى الرخيص أو الخسيس – ولقد رأيت بنفسي عندكم كيف يبحث الأخ عن أخيه في كل مكان عيناه تحلقان حوله وروحه تبحث عنه إشفاقا وحبا – رأيت عندكم كيف استيقظت القلوب والعواطف وتأججت المشاعر بصورة تحتاج إلى مسار للعمل الجاد المفيد والاستفادة من هذه الطاقات المذخورة في الإنتاج للدعوة – وأنت في رسالتك تقول (لقد بدأتْ تتغير كثير من اهتمامات هذا القلب ... أرجو أن يكون هذا التغيير دافعا إلى العمل الجاد والأسلوب الأمثل ..) وهذا ما أرجوه وأتمناه.(1/69)
والحقيقة يا أخي الحبيب أن الإنسان حين يشرق في قلبه نور الإسلام وروح هذه العقيدة. فإنه يبدأ متحمسا بطبيعة الفراغ السابق وكلنا هذا الإنسان. والحماس مطلوب إذا رسم له طريق واضح منتج مفيد – والذي لاحظته طوال حياتي – أن كل متحمس يريد أن يسرع الخطى ويتخطى الحواجز من أول لحظة آمن فيها بهذا الإسلام – وأعتقد أن المتحمس يريد أن يرفع عن كاهله عبء هذا الشعور الذي يقلقه بأية صورة كانت ومع الفارق في التشبيه إن الإنسان أو غير الإنسان اذا كان يحمل فوق كتفيه بعض الأثقال فإنه يتمنى بأسرع وقت أن يتحلل من هذا العبء.
لهذا كانت التربية الإسلامية تعتمد على الفهم الدقيق والتربية الصحيحة التي تؤهل المؤمن كي يتحمل عبء دعوة عالمية شاملة قد تستغرق عشرات السنين بل أكثر في سبيل الوصول الى الغاية (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا). ومن أعظم صور الجهاد والبطولة الصبر على المنهاج وطول الطريق وتحمل الصعاب والعذاب وإلا فما ... ذا استفاد المسلمون الأوائل من رجال الدعوة في عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما غير شيء واحد هو الابتلاء والصبر والثبات (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة) وأرجو أن تتذوق معنى إن موعدكم الجنة نعم إن ذلك هو هدف المسلم ومن هنا كان لزاما على المسلم أن يضع نصب عينيه الجنة ولا سبيل لها إلا بالعمل الصالح والجهاد المستمر المتواصل حتى نلقى الله تعالى. ومن المعلوم أن جهاد أعداء الإسلام المكشوفين لنا هو أهون من جهاد هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل من أبناء الإسلام المخدوعين بالشعارات البراقة الخادعة ونحن نقضي وقتا طويلا في جدال لا طائل من ورائه إلا تعطيل سفينة الدعوة بل سفينة النجاة عن مواصلة الطريق.(1/70)
لهذا أقول لك أيها الحبيب – لا تشغل نفسك بالذين يشغلونك عن الدعوة بالمناقشات والجدال وسوء الظن – وتوجه ببوصلة قلبك الطاهر إلى من تحس نحوهم بالصدق وحسن الخلق والحياء، تحدث معهم ولا تتوقف عند أية عقبة حتى لا يطول بك التوقف – ابحث عن قلب تحبه قلب تحس منه صدق العاطفة وصدق الاتجاه، ودع هؤلاء (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (والعقبة للمتقين) سوف تجد عقبات وصداً عن سبيل الله من أقرب الناس ومع هذا فارجو ان تفهم أن ذلك هو طبيعة الدعوات على طول الزمان وفي أي مكان.
يصنع الحب في الله عجبا في تحريك الهمم والارتقاء بالقيم وربط القلوب بهذا الرباط الفريد الذي جمع بين درجات مختلفة يصعب بينها اللقاء فتلين قلوبهم لذكر الله ويكون عبد الله الحبيب من قلبي أقرب قريب.
أما سؤالك الخطير – فهل تراك يا أبي قد فهمتني وعلمت شيئا من مشاعري.
ثق أن ما في أعماقنا شيء لا يتحمله غيرنا (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) – فالذي يعلمونه هو ذلك الذي يلمسونه – أما ما بقي فهو غيب القلوب وتطلعات الأرواح. لك وللإخوة الذين أحبهم.(1/71)
وأملي كبير في إيمانك العميق بالدعوة التي أنت من غرسها من أول يوم بل من أول لحظة وهذا فضل الله تعالى عليك أن نشأت في صميم هذه الجماعة وفي كل مراحلها. فأنت لبنة من لبناتها التي أقيمت في بنائها الشامخ الكبير وحين أقول لبنة إنما أقصد أنك روح وقلب وعقيدة وزمن وتجربة – لهذا فإن المأمول فيك أن تكون محصلة صحيحة تعطي أنموذجا حيا لطبيعة هذه الدعوة ومقاصدها وأعتقد أن أعظم ما ينبغي الالتزام به هو العبادة الصحيحة مع الفقه المستنير في فهم هذا الدين. كل هذا مع حسن الخلق وجميل الصبر والمصابرة والاختلاط بالناس حبا لهم وأملا في جذبهم إلى محاسن الإسلام وليس هدفا لضمهم لدعوة الإخوان اللهم إلا من توجه بقلبه وفهمه إلى ذلك فإن الذي يعيش في رحاب هذه الدعوة سيكون في حياة كلها إشراق وسعادة. ولا تنس أن معايشة الناس بهذا الهدف أصل من أصول الإسلام وليس جديدا في فهم غاية هذا الدين. لهذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"، وبقدر إدراك هذا الأمر نستطيع الارتفاع إلى مستوى الحب والإيثار تقول حفظك الله (لقد زرعت في قلبي مشاعر غذت روحي فاحيتها بعد موتها وانعشتها من بعد ركودها.. هذه المشاعر التي أضاءت ليل هذا القلب بنورها وأطفأت ناره ببردها.. فأخذ ينبض بأحاسيس عفة صادقة ويحس بخلجات طاهرة عذبة) قرأت تلك الإلهامات الروحية بقلبي ووقفت في محراب الصلاة أدعو الله لك أن يبارك هذا الإيمان وتلك النفخات وأن يزيدك من فضله وأن يجعلك نبراسا لتلك القلوب التي تحبك. تقول أريد أن أعبر ولكن كيف؟!!! هذا الذي لم نتفق عليه.. وإنني أرى أننا لن نتفق عليه أبدا لأن هذا الحب الإيماني وهذا الشعور الفياض له عالم غير عالمنا ودنيا غير دنيانا تتخاطب فيها الأرواح وتتناجى القلوب وتتهامس المشاعر لتبوح كل منها بأسرارها وأخبارها.. ولكن اعلم أن هذا يفوق كل تصور ويسمو على كل ادراك بشري..(1/72)
إن هذا الوصف مجرد ذرة حب أصفها أو أحاول وصفها إنها ذرة من مجرة (مجرة حب في الله تعالى..).
الرسالة السادسة
قد رأيت دموعك وأنت تغادرني فلم أستطع أن أعبر لك عن شعوري وحزني وسروري أما حزني فهو لهذا الفراق الذي يؤلمني. فراق قلوب أعطتني الكثير مما ينذر في مثل هذا الزمان أما سروري فلأنني أعرف جيدا أن الدموع (حياة) (وصحة) حياة للقلب وصحة للعقيدة. الدموع (رحمة) و (نعمة) بها تفيض الروحانية وتسمو معاني الإنسانية – بها تتلطف الأخلاق وتلين المعاملات. فالعيون التي تدمع هي العيون التي تجمع – فالنفس البشرية تميل وتعشق من يتلطف معها ويخفض لها جناح الذل طمعا في قلبها. وليست إلا العيون وقطرات الدموع تشفع وتنفع (وعين بكت من خشية الله) دموعك هذه نعمة فحافظ عليها بركعات في جوف الليل والخليون هجع – قطرات دموعك عصارة تغسل الذنوب وترطب الأفئدة وتشفع لك بين يدي الله تعالى لتكون عبدا شكورا. وحافظ على قلوب إخوانك.
فإن مشاعر الأخوة والحب في الله هي الزاد الذي يعين على الصبر والقوة والثبات وإنها والله حقيقة فوق الخيال تلك الأحاسيس التي تصنع وتربي الرجال وهي هواتف روحية تتناجى بها القلوب كأقوى ما تصنع المفاعلات في دنيا الصناعات ودنيا الاختراعات. حيث أن قوة العقيدة وقوة الإيمان هي أقوى القوى على الإطلاق. ولكن الكثير من الناس لا يعلمون (سنريهم ءايتنا في الآفاق وفي أنفسهم).
أخي(1/73)
الإنسان ليس هو تلك الصورة التي نراها بأعيننا فتلك صورة وليست الحقيقة إنما الحقيقة هي أعماق الإنسان وأخلاقه وأشواقه وأذواقه وبقدر ما يملك من تلك المواهب الربانية والخصائص الروحية بقدر ما يقترب أو يبتعد عن معنى الإنسان أو الإنسانية ومنا من يملك بعضها أو يفقدها كلها فلا يعتبر في عداد الأحياء وإن كان يمشي ويتحرك ويتكلم ( لهم قلوب لا يفقهون بها) (ولهم ءاذان لا يسمعون بها) والذين يملكون يستشعرون مقام الروح والقلب والعاطفة والحب هؤلاء الذين اكتشفوا أنفسهم وعرفوا غايتهم وأدركوا سر الله في خلقهم وعرفوا أن لهم غاية ورسالة أسمى وأعظم وأجل وأكرم من تلك التي يعيشها أصحاب المتعة والمتاع والمال والسلطان – لا غاية لهم ولا هدف إلا الإشباع والضياع. فالناس صنفان.. موتى في حياتهم.. وآخرون ببطن الأرض أحياء (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
فكن كما أوصيتك – قلبا وروحا ومشاعر فإن هذا هو الأحلى وهو الأبقى – وهو الذي يبني ويشيد فلا تحرم نفسك من هذا الغذاء بل هذا الدواء وخذ من الإداريات ما تؤدي به الواجب.. وخذ من العواطف والمشاعر ما يعينك على هذا الأداء (فالحب صنعة الأحياء) ولا تنس أنك في أول الطريق. فاربط قلبك بالقلوب واحرص على الوفاء ولعلك قد أدركت بل عشت معي هذه المرحلة ورأيت كيف أن القلوب هي الحياة. وأن مفتاح القلوب ميسر لمن طلب الحقيقة وعض عليها بالنواجذ، فكن كما أحب لك، تعود على حفظ الأسماء من الألف إلى الياء بكل احترام وثقة وليس من باب المعرفة ولكن من باب الحب والتآلف ستجد في هذه القلوب زادا لقلبك وشفاء لما في الصدور وستعرف أن متاع الدنيا لا يساوي ذرة من متاع القلوب وسوف تدرك حقيقة خالدة أننا خلقنا أصلا لذلك ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(1/74)
اغرس بذرة اغرس فكرة اترك كلمة في قلب من تلقاه فلا تدري في أي القلوب يكون الخير. افتح لها نوافذ الهواء نوافذ الحرية لتسمع وتقرأ وتتدبر. ارعها بالري وري القلوب هو الحدب والحب. فالحب عنصر سريع التلاحم والتجاوب، وتابعها بالعناية والرعاية والاهتمام في السراء والضراء. فذلك هو الهواء وهو الغذاء، مع الصبر على مراحل النماء لتكون شجرة وارفة مثمرة خضراء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
أنا وأنت كراكبي قطار – قطار الدعوة وسائقه قائدها – وقائد الدعوة كقائد القطار يعيش دائما بين الغاز والزيت والنار. وصفير القطار هو الأذان او النداء وشريط السكة الحديد هو طريق الدعوة المرسوم منهاجها المعلوم الذي إن خرج عنه القطار كان الانحراف او الدمار – أو عود على بدء. للقطار محطات وللإخوان طاقات، فمنهم من يغادر في منتصف الطريق ومنهم من يبقى. ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ومن بتعبه الطريق فقد أعطانا جهد المقل فلا يلام، فعساه يوما يعود ويجود ما بقي بيننا وبينه صلة وقلب ودود. وتوقيت القطار معلوم فالذي يتأخر يفوته القطار ولا تنفعه الأعذار. ومن ركب القطار يلزمه الالتزام بالإسلام في الوقوف والقيام وفي الحلال وفي الحرام وكلما زاد الركاب في القطار انتشرت الدعوة في الأقطار والأمصار. وتلك رسالة الدعاة الذين يحترفون في سبيل الله. ويقدرون عامل الوقت فالوقت هو الحياة.
الرسالة السابعة(1/75)
خطابك هزني وأفرحني وسبحت معه سبحات صافية كنت في حاجة إليها مثل هذه الغربة التي طالت وهذه المحنة التي باعدت بيننا، ورسالتك هذه تخفيف وتلطيف. وذكرت شابا من شباب الإسلام في مثل سنك وكنت إلى جواره وهو يقود السيارة سألنى بأحلى عبارة قال وهو ينظر إلىَّ بابتسامة حلوة.. هل الداعية إلى الله تعالى يتعب بهذه الحركة الدائبة والمعاناة في كل اتجاه. قلت له – الحقيقة التي يجب أن تعرفها بيقين أن الداعية لا يتعب بالصورة التي يتعايش بها الناس. لأن الداعية مثله كمثل (النحلة) تسقط دائما على الأزهار فتمص رحيقها ثم تتمثله عسلا نقيا شهيا ثم تقوم فتمشي به في الناس دعوة وحياة.. فليس أسعد من الدعاة. رغم الصدود والعذاب والمعاناة.
لقد قرأت كلماتك في إنصات وروية حتى أرتشف من معانيها رحيقا لقلبي وروحي وسعدت بتلك اللمحات الطيبة في فقه (والسماء ذات البروج) وكيف الهمك الله تعالى هذا التخريج الجميل الصافي المتجرد ففي هذا المشهد – مشهد أصحاب الأخدود – أروع ما وصل إليه التسامي بالإيمان – الإيمان بوعد الرحمن – وأن الجنة كما تقول هي المأوى في الحال بعد أن ألتقى بهم في النار – وهذا الإيمان وهذا الاعتقاد هو سبيلنا الحقيقي للنصر على أعداء هذا الدين – وهو الأساس الذي يجب أن نتربى عليه منذ نشأتنا حتى يمكن للأجيال القادمة أن تؤدي حق هذا الإسلام في صورته الزاهرة الباهرة. لقد علمونا كلمات – "يا أخي إنما تحرص في حياتك على أمرين – تحرص على رزقك وتحرص على أجلك – فإذا علمت أنه لا سلطان لأحد عليهما إلا الله. فلا تخشَ سواه".(1/76)
اسمعها مني في صراحة. أتمنى أن أجد الفرصة التي أستطيع فيها أن أقول لك كل ما في نفسي. وأهم ما في خاطري نحوك أن أضع يدك على سبيل الدعوة الفردية. فإني أدرك أنك مهيأ لهذا السبيل بما حباك الله تعالى من يقظة في القلب واستفادة بالحواس الإنسانية التي هي سلاح الإنسان – فثق يا... أن أعظم ما تقدمه لهذا الإسلام هو الدعوة بتلك الهبات الربانية التي هي خلاصة (الحكمة والموعظة الحسنة) إنها والله يا... أعذب العذاب في سبيل الله تعالى. لأن الدعوة إلى الله مجاهدة. ومعاناة وحب وتحمل.. ورقة مع الناس ودقة في اختيار الكلمات والألفاظ وعقاب للنفس على التقصير في حق الآخرين وحرص على عمل الخير واختيار الكلمة الحلوة والتعبير الذي له عبير يفوح في اللقاء فيجمع ويؤلف القلوب.
... – أعرف عنك الكثير في هذا الباب. فتزود بالتقوى واشحن قلبك بالحب لكل الناس ولا تترقب الثمرة في القريب فإن سنة الله في الأشياء التدرج ورب كلمة تلقيها فتنساها ولكن الله تعالى ينبتها نباتا حسنا "وما كان ربك نسيا" – ما أعظم هذا الإنسان الذي يختاره الله تعالى لهذه المهمة العظيمة.
الرسالة الثامنة(1/77)
كان حديثي الذي استمعت إليه بالأمس. عبارة عن هواتف روحية ومناجاة قلبية تبحث عن مدلولها في دنيا الناس. كنت أنشد يقظة في القلوب والوجدان والمشاعر. فإن ذلك هو عين الحياة (أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) كنت أتحدث كما قلت لكل قلب على حدة، حتى أستشعر في أعماقي قيمة الكلمة وقيمة الإنسان – وكم في القلوب من هواتف تلتقطها القلوب الحية المتذوقة "ويا سارية الجبل" ليست بعيدة عن هذا المعنى – وذهبت لصلاة العشاء والتلاوة حية منعشة والقلوب خاشعة – ورأيت أخي ونوره يسعى بين يديه أتمثل فيه كل المعاني الطيبة التي ذكرتها آنفا – ابتسامة عذبة – إشراقة في الوجه، يد حانية. كلمات مهذبة مؤدبة – حياء وبهاء – ذلك فضل الله عليك ولا أزكي على الله أحدا. أراك فأنظر إليك وكلي دعاء أن يحفظك الله ويرعاك.
فإن الإنسان الجامد المتحجر الذي لا تنطق ملامحه بروح أو عاطفة أو إشراقة لا يمكن أن تعطي صورته أي انطباع للحب.
كل إنسان حي لا بد فيه ملامح وضاءة متوهجة تلك هي الدوافع الروحية التي تعين وتدفع إليه القلوب وتهفو إليه الأرواح.
وفي هذا المقام أذكر "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من عباد الله أناسا ماهم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم عند الله تعالى قيل: أخبرنا يا رسول الله من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم؟! ".
قال: أولئك قوم تحابوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إنهم لعلى نور وإنهم لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتقون" صدق الله وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم.
الرسالة التاسعة(1/78)
قرأت الرسالة التي تفيض بشعور الأخوة الصادقة التي جمعتنا على هذا البعد البعيد وألفت بين قلوبنا بأشواق نادرة نتذوقها حلاوة وسعادة. والمعاني التي أشرقت بها رسالتك نبعت من معين أدبك الجم ومشاعرك وعواطفك السامية. فكان حسن ظنك بنا أصيل فطرتك ونبع عقيدتك. وسر الله تعالى في صنع هذه الأمة الإسلامية التي تتوافق وتتلاءم في انسجام رائع في الأخلاق والسلوك والمشاعر والهواتف. على اختلاف في المنشأ وتنوع في اللغات بل وعلى أبعاد ما بين المشرق والمغرب. وكل هذا بفضل هذا الإسلام.
أخي الحبيب. كنت أود أن أسترسل في هذه الجداول الرقراقة من معاني القلب والروح.. كي أستروح أو أسترجع ولكني تنبهت أنني أتحدث مع أستاذ فاضل يفيض قلبه بأودية يغترف منها مثلي. فأشفقت علي قلبي حياء.
لقد طلعت الشمس بعد غياب طويل وأشرقت بنورها وضيائها فبعثت الدفء والنشاط والحياة – وأي حياة احلى من حياة هذا القلب وأي دفء أقوى من حرارة الحب في الله تعالى. وأي سعادة ينشرح بها الصدر وتسمو بها النفس من سعادة اللقاء.. لقاء الأرواح وتعانق القلوب. كانت مفاجأة سارة حين استلمت رسالتك التي كنت أرتقبها بصبر وشوق. حتى إذا بلغتني لم أشأ أن أقرأها حتى أتهيأ لها روحيا. لأني أعتقد أنها من نبع قلبك وهواتف أعماقك ولابد من أن تستقبل بنفس الشعور وبنفس الإحساس... خلوت بها قراءة وتدبرا لأن لغة الكتابة لا يدرك سرها إلا بما يتلألأ من أعماقها كما لا تعرف الحاسة إلا بتلك التوهجات المضيئة ولا تبدو تلك التوهجات قوية مؤثرة إلا حين يشتد الظلام ويشتد البعاد وتتباعد البلاد. بهذا الفهم وبهذا الشعور قرأت كتابك فتأثرت جدا حتى وضعته أمامي كي أعود إليه لأتنفس من عباراته عبيرا يهزني ويفرحني ويعزيني عن هذا الفراق الذي طال وكم كنت حزينا لأني لم أسعد بالجلوس معك طويلا في رحلتى الأخيرة.(1/79)
وأذكر يا أخي الحبيب – حكاية لن أنساها ولعل فيها الإجابة الصحيحة على ما قدمت من سطور – حين ألقيت في زنزانة وحدي بالسجن الحربي لمدة شهرين – لم يتوقف عقلي لحظة عن التفكير المتلاحق – فيما سيأتي به القدر – لقد كنت أتوقع (الإعدام) بمنطق الطغاة. فالقضية كانت خطيرة – وفي الوحدة والقلق والاضطراب والخوف والفزع مما يدور حولنا يعود الانسان دائما إلى الماضي ولا يرى من حياته إلا المعاصي والذنوب ونادرا ما يتذكر عملا صالحا قدمه بين يديه.
كنت أتصور أنني سوف أموت فاقول لنفسي وكيف أموت شهيدا وذنوبي كثيرة وهل يقبل الله مثلي في عداد الشهداء وتروادني نفسي. فتقول لي وكيف أموت وأترك هؤلاء الإخوة الذي يشتعل قلبي بهم حبا وهياما وأنا لا أستطيع أن أفارقهم لحظة!؟ ثم تقول لي نفسي أيضا ولماذا لا أعيش حتى أرى مواكب الدعوة وهي تنتصر وأعلامها ترفرف على ربوع العالمين!؟.
فأنا أريد أن اموت شهيدا حتى أتخلص من موقف أو مواقف الحساب العسير بين يدي الله تعالى. وأرى ان ذنوبي الكثيرة لا ترشحني لهذا المقام العظيم – فأقول لنفسي وإذا قضى ربك أن تكون شهيدا – أليس معنى هذا أن الله تعالى قد صفح عنك وغفر لك ذنوبك!؟.
هواتف نفسية أحاطت بي من كل جانب.(1/80)
ثم شاء الله تعالى – أن تأخذني سنة من النوم – ويأتيني شاب لطيف من هؤلاء الذين أحبهم في صورة مفرحة تشرح الصدر – وقال لي: مالي أراك في حيرة وبلبلة!! ألست تريد وتتمنى أن تقضي شهيدا؟ ألست تتطلع إلى أن تعيش مع إخوانك الذين تحبهم؟ ألست تريد أن تعيش حتى ترى أعلام الإسلام ترفرف على ربوع العالمين؟ قلت نعم كل هذا هو الذى أنشده وأتمناه – قال: إذن فلتكن الشهادة – فان الشهيد حي لا يموت – وسوف تغفر لك ذنوبك – وسوف تلتقي بإخوانك الذين تحبهم إخوانا على سرر متقابلين وسوف ترى مواكب الدعوة وهي تحقق النصر للمسلمين ألم تقرأ قول الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم..) فاستيقظت على أعظم بشرى في هذا الوجود ومنذ ذلك الحين وأنا أنشد هذه الأمنية الشهادة في سبيل الله ليتحقق لي كل هذا – اللهم آمين.
الرسالة العاشرة
تحدثت إليكم في ذلك اللقاء بما شاء الله أن يكون – بكل كياني وأشجاني بكل حبي وقلبي بكل إحساسي وأنفاسي بكل دعاء يجمع تلك القلوب على الحق والخير والنور. لا زلت أتصور كل الوجوه من كل الوجوه. تلك الصورة محفورة لا تغيب عن ذاكرتي. الجالسين أمامي والذين عن يميني والذين عن يساري لأني كنت أتحدث إلى كل أخ منهم كانه حديث خاص. كنت أحس بحرارة أنفاسهم واتصال قلوبهم بقلبي لأني كنت أحاول بصدق حبي وتعاطفي ودعائي العميق. فإن صفاء القلوب يجمع ويربط ويوثق، وها أنذا أؤكد برسالتي هذه المعاني:(1/81)
والرسائل أنواع كثيرة – فهناك لاسلكية الأرواح وتلغرافات القلوب وجوابات المشاعر وتلك يا أخي موصولة بالله تعالى لا تنقطع ولا تموت لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف أما هذه الخطابات فهي النوع الثاني الذي يحقق الإنسان به ذاته ويصل به إلى قلب أخيه ويقول في هذه الرسائل ما يعجز عن أن يقوله بلسانه والإنسان الذي تعتمل في نفسه أشواق من الحب كثيرا ما يعجز عن التعبير عنها فتكون هذه الكلمات بعض الوفاء للقلب الذي أحبه. خطابك الذي قرأته عدة مرات متوالية. فجر ينابيع وأيقظ عواطف وحرك كوامن. والله إنها مشكلة غائبة عن أولي الألباب. غائبة عن الدعاة أو الذين يظنون أنهم دعاة – ياقوم تعالوا – ياقوم استيقظوا – ياقوم أفيقوا!! إن الأخ... الحبيب وأمثاله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في حاجة اليكم في حاجة الى قلوبكم في حاجة الى عواطفكم في حاجة إلى ترشيدكم، فإنه أمل.
الأمل الذى يعطينا الدروس في حب الناس وسياسة النفوس والذي يؤكد تأكيدا واضحا أن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
الرسالة الحادية عشرة
إن من رسالتنا تغيير العادات والتقاليد التي تخالف روح الإسلام، وإن من أخطر ما استدرج إليه المسلمون هو (الطبقية) و (العنصرية) التي فرقت بين الأمة الإسلامية. فالغني شيء والفقير شيء والطالب شيء والموظف شيء والعامل شيء آخر!؟ كل له مقام معلوم فلا تقارب ولا تعارف ولا انسجام، مع أن المسجد قد ساوى بين الجميع وقضى على تلك الفوارق بالتقارب والأحكام والعبادات (إن أكرمكم عند الله أتقكم).(1/82)
جددت دعوتنا في هذا القرن روح الإسلام فغيرت هذا الواقع من الفرقة والذاتية والأنانية إلى وحدة قلوب وتعاطف ومحبة فكانت (إنما المؤمنون إخوة) واقع حي متحرك متميز – كانت تطبيقا عمليا أعاد للأذهان صورة من أخلاق المهاجرين والأنصار – مما فتح أمام المسلمين الأمل في عودة لسالف مجد المسلمين وكانت دروس التربية التي جمعت كل الطبقات في جلسات روحية ومعايشة الأسر عن قرب في حب وأخوة فرفعت مستواها بالتحاب والتراحم والتلاحم – فذابت الفوراق وانمحت العصبيات وأصبحنا بنعمة الله إخوانا.
فما بالي لا أرى شخصية العامل في جلستنا وبين عيوننا كما كان ذلك في سابق عهدنا، فقد كان قسم العمال جناح جهودنا وتوازن حركتنا – إني أحس بانفصام في التصور الشامل لجامعة القلوب وأحس بنقص في بنية الجماعة وضعف في تركيبها – إن جسم جماعة الإخوان جسم متكامل حيث يكمل بعضه بعضا ثقافيا وفنيا واجتماعيا وتعاونيا عند الحاجة والاقتضاء ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.
كأني بالشباب والطلاب لا يستلطفون غيرهم ولا ينسجمون مع غيرهم. وهي غفلة في إدراك كنه الدعوة وأهدافها وتكاملها وشمولها. والدعوة ليست عواطف واستلطاف – ولكنها في الأصل انقاذ لكل المسلمين – فالعواطف وسيلة تقارب وتآلف لبناء الأمة على اختلاف الثقافات والبيئات والطبقات – لأنها دعوة لجميع الناس من مختلف البلاد والأجناس. لتذوب في قول الله تعالى في حديثه القدسي – (يا ابن آدم جعلت نسبا وجعلتم نسبا فقلتم فلان بن فلان وقلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم – فاليوم أرفع نسبي وأوضع نسبكم).
إن دعوتنا انقلاب لتحطيم الفوارق والعوائق بانسياب القلوب في القلوب وتعانق الأرواح بالأرواح.
فاندماج الأرواح لا يتلاشى.. بملال أو يبتلى بنفاد
والتقاء الأجساد شهوة لحم.. تتلظى وتنطفئ كرماد
واندماج الأرواح في ملكوت الحب.. دمج الآباد في الآباد(1/83)
إن صلة القلوب لا تحتاج إلى أكثر من صدق النية وصدق الحب وإن كلمة واحدة في نظرة صادقة تكفي لإيقاظ القلب وانتعاش الروح ثم تمضي الأيام لتحقق الأحلام وأعظم ما تفضل الله به علينا في هذا الوجود. هو نعمة الحب فيه والفناء في سبيله – وفضلا عن ذلك الأصل العظيم فإن الإنسان في حاجة إلى قلب يحن له ويئن معه.
ولا بد من شكوى إلى ذى مروءة. يواسيك أو يسليك أو يتوجع ففي كل الحالات لا تستطيع الانسان أن يعيش وحده – (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) ولقد سررت جدا حيث أنتج حبي لك ثمرات كثيرة وهذا هو الأصل في دوافع الحب في الله تعالى "أن تسود هذه العاطفة وتجود بالخير والنماء".
الرسالة الثانية عشرة(1/84)
لم أكن أتصور أن تأتي هذه اللحظة التي تنساب فيها معنا على فطرتك الحلوة النقية – بهذه الأخوة الصادقة بكل بساطتها وطبيعتها بلا تكلف ولا قيد، بل بالمشاهد التي تعودتها في بيتك وبين إخوانك ومحبيك. لاشك أنني أتذوق تلك اللمحات بعمق وأجد فيها كل ما كنت أطمع فيه منك فإن هذا لهو الحب الصادق الناطق المنعش للقلب والروح. إن الذي يحدث بيننا شيء فوق عادة الناس ومألوفاتهم. إنه في الواقع له مدلول كبير لو تعمقناه – ليس الأمر مجرد صلة حب عادي – فاعلم أن كثيرا من الناس يتحابون – ولكن هناك فرق كبير بين حب العقيدة وحب النتيجة تراهم جميعا وقلوبهم ستى – لهم في حبهم مآرب لا يكشف عنها إلا الزمن – أما حبنا نحن فلن يزيده الزمن إلا ثقة وتأكيدا – وما دونته سيرة الصحابة الكرام والتابعين وتابعي التابعين نور يضيء جوانب الدنيا وتتيه به فخرا على العالمين أصارحك يا أخي بأنني شديد الفرح بما تعطيني من قلبك وما توليني من اهتمامك ولي عظيم الأمل أن يسود هذا الشعور كل القلوب وأن نبعث من قلوبنا تيارا يحمل للإخوة نفس الشعور الذي نحياه ونسعد به (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فليس هذا الحب وقفا علينا وحدنا فهو حق الجميع علينا، هو النور الذي يكشف طريق الحق للناس ويعطينا فرصة حتى تتفتح قلوبهم لنا فيعرفوا دعوتنا ويكونوا بعد ذلك درعا لنا – فما أحوجنا أن نحمل هذه العقيدة إلى القلوب الظامئة إلى الحق والخير والهداية – وليس غيرنا هو صاحب هذا الواجب لأن الله تعالى قد منَّ علينا بما لم يعرفوه أو يتذوقوه (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) نعم إنهم لا يعلمون – لهذا فالمسؤلية تقع على عاتقنا وتحاصرنا أن اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.(1/85)
ومع أني أعيش في بلد تعبر فيه الأنهار وتغطيه الأشجار وتعطره الأزهار. وكل ما تراه يلفت الأنظار. وأمامي سماء تموج بالطائرات الغاديات الرائحات فضلا عن آلاف من مختلف أنواع السيارات. ولا أقول لك عن مظاهر بعيدة عن خيال أمثالنا. كل هذا قد يتوه فيه الإنسان ويسبح فيه الخيال ومع كل هذه الصور العجيبة فإن قلبي يهفو دائما إلى قلوبكم ويتعطش دائما إلى لقياكم ولا يجد متعة ولا سعادة إلا حين يلتفت بقلبه وروحه حيث أنتم وتلك أعظم خصائص الحب الذي جمع الله تعالى عليه قلوبنا ووحد به صفوفنا وتحدى به أعداءنا. حقيقة خالدة تتعالى ونستعلي بها على كل مظاهر هذه الحياة ومتعها التي فشت في كل قطر وصقع. نحن نعيش بهذا الشعور على البعد البعيد فلا تخدعنا ولا تلفتنا عنه مباهج ومفاتن ومغريات هذه المدنية. ذلك لأننا قد اعتصمنا بالله تعالى (ومن يعتصم بالله فقد هُدىَ إلى صراط مستقيمٍ).
واسمع يا أخي الحبيب. أحدثك – إن الفرق بين الحب في الله وغيره من مختلف أنواع الحب ومقاصده – أن الحب في الله تعالى – لا تتعدد مقاصده – فهو لله وحده والحب لغير الله له مسارب ومآرب – والفرق بين الحبين هو الفرق بين الظلام والنور – والظل والحرور – ويفصل بينهما (خط دقيق) هو (النية) والنية محلها القلب. والحب في الله تعالى. نور وضياء وبهاء. وراحة في القلب وانطلاق في الروح وسمو في النفس وسعة وانشراح في الصدر أما دون ذلك فهو ظلام في النفس وران على القلب.
الرسالة الثالثة عشرة
النظرة الصادقة الصافية (دعوة) وأنت... حباك الله بنعم كثيرة فاصنع بها للدعوة حياة واجعل من نفسك مبشرا بالقلب والروح والعاطفة والنظرة، سوف تجد أنك قد أديت بعض الواجب – لا أدري لماذا لا أملك دموعي لا أدري لماذا؟ ألأني سعيد بأني قد دخلت إلى قلبك أم لأني سعيد بانك ستكون كما أحب لك – خادما أمينا لهذه الدعوة.(1/86)
أخي الحبيب الحقيقة أنك أسرتني وأشعلت قلبي والهبت عواطفي، ومن الكلمات ما يهز وينعش وينبض وقولك (أقسم بالله العظيم أني أحبك في الله تعالى) قسم معطر بالإخلاص، ندي بالإيمان عميق الدلالة على سمو النفس وصدق العاطفة ومبلغ التأثر بهذه الحقيقة التي تعيش في أعماقك ووجدانك لقد سمعتها واستقبلتها بكل حواسي ولكن لم أستطع حينها أن أبلغ مداها وأن أرتفع الى مستواها فأبعث إليك بصداها – فكان سكوتي عجزا عن الوفاء بحقها، حتى استيقظت عليها تتفاعل في أعماقي في نداء، كأنه انشودة أو تغريدة أو تسبيحة في محراب الصلاة، استيقظت على روح تهفو وتحلق فإن الحب في الله تعالى يرقى بالإنسان في سماء لا تطاولها سماء – الدنيا كلها لا تتسع لسبحات نفسه وتطلعات روحه وانبعاث أشواقه لما لهذا الحب من أشواق وآثار عميقة الأثر في انفساح القلب وانشراح الصدر وإيقاظ الهمة وانسياب المعاني في جداول رقراقة تغذي وتنعش.(1/87)
أكتب لك رسالتي هذه وأنا في قمة السعادة وانشراح الصدر. فقد كانت زيارتي الأخيرة لكم من أمتع الزيارات التي سعدت فيها برؤيتك وإخوانك على هذه الصورة المشرقة وأصارحك بأنني تأثرت بك كثيرا لما وجدته منك من مشاعر وعواطف حية نابضة كستني بروح من السعادة والإطمئنان – وقد زاد انفعالي بهذه الأحاسيس ذلك الحدث الكبير بنجاحك وتوفيق الله لك في الثانوية العامة بهذا المجموع الرائع 95% والواقع اننا نهنئ أنفسنا جميعا بهذا النجاح الذي توج رؤوسنا بالفخر والإعتزاز، أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقك على الدوام وأن يحفظك ويرعاك لنا وللإسلام. والأمل في الله كبير أن يحقق بك لنا في المرحلة القادمة في الجامعة ما نصبوا اليه من داعية مسلم يرسم طريقه ويأخذ سبيله بنفس الروح ونفس الثقة التي آنستها منك والتي أغبطك عليها في الفهم الدقيق لمعاملة ومعالجة النفس البشرية بالتي هي أحسن. كما يجب أن يكون ذلك مع كل الجماعات وليس فقط مع الأشخاص ولقد استمعت إلى كلمتك في حفل السمر وأدركت منها ما تتمتع به من نظر بعيد وصبر جميل حتى تؤتي الثمرة أكلها... وأعتقد أن هذا الأسلوب كما أنه مجد ومفيد ومنتج فإنه مع كل هذا ممتع للنفس والقلب وإني علي يقين من أنك سوف تفتح قلبك لكل محب لك وكل مقترب منك وكل مستفسر عن سؤال. ولا تنس أيها الحبيب أن حفظ الأسماء عامل مهم جدا في التقارب والتحاب والألفة ولا ينبئك مثل خبير. وكل تلك المعاني ليست من عندنا كما تعرف. فإن الآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي لا تعد ولا تحصى قد وضعت لنا العلامات على الطريق. ومنها نستهدي الهدى والرشاد والحق والنور.(1/88)
ولعلك تذكر يوما تحدثت في خاطرة لنا – ونوهت عن ضرورة توسيع دائرة العلاقات الأخوية بين الجميع حتى لا تبقى هناك ازدواجية بين الإخوة – واعتقد أن ذلك لايتم إلا عن طريق تذويب هذه العواطف في أكبر مجموعة متحابة فحين ذاك سوف لايجد أحدنا وقتا لواحد فقط يتحمل أعباء العمل الجماعي تتفجر أمامه ينابيع الحب لكل أخ على السواء وفي هذا يمكن توزيع تلك العواطف في روافد كثيرة وما اشد تطلعها لمثل تلك العواطف على مستوى الجميع.
إن ود القلوب نادر وإن العثور على قلب أندر من الماس في دنيا الناس. وإن الحرص على قلب هو أعظم من الحرص على كنز فإن النفوس معادن أغلاها وأحلاها من كان له قلب يفقه ويتذوق ويتألم.
لا تنس أن في الكتابة حياة وسعادة فلا تهمل في الوفاء بحق قلبي أما ماذكرت في قولك البريء اللطيف – (ولقد تجلت أسمى آيات الحب في الله في الليلة الوداعية أحسست بأني سأترك دولتي الإسلامية المصغرة لأرحل عنها مدة طويلة... طويلة. وفي تلك الليلة تسللت أول دمعة من نوعها من عيني جارية على خدي.. شعور طالما افتقدته في حياتي. لقد كان ذلك الشعور في الماضي محط استهزاء وسخرية مني واستغراب في نفس الوقت، ولكني بعد ما جربته عرفت الحقيقة!! الحقيقة أني أحببت كل من كان في المخيم.. ولقد أحببتك أنت يا أبي حبا في الله)(1/89)
هذه السطور تسجل لك في ميزان حسناتك إن شاء ربي إنها تسجيل صادق يبرق ويتلألأ – منطق الحق والشعور بالحقيقة! ومن يعرف ويتذوق يستطيع أن يفرق بين الماضي والحاضر. ومن يقل قولك هذا... يجب أن ينقل هذا الشعور الحي إلى تلك القلوب التائهة الحائرة والغائبة عن الوجود الإسلامي. أنت تقول لقد كان ذلك الشعور في الماضي محط استهزاء وسخرية مني واستغراب في نفس الوقت!! ياليت قومي يعلمون – ياليت إخواني يهرعون إلى قلوب الشباب يحملون في أيديهم مشاعل النور وفي قلوبهم حرارة الحب. يا أخي الحبيب هكذا عرفت الطريق فالزم واعمل وكن رسول خير وبر ومرحمة. (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا).
الرسالة الرابعة عشرة
ومضت الأيام تحقق الأمل الذي كنت أنشده وأتطلع إليه بشوق شديد. وتحقيق الآمال يحتاج إلى صبر. والصبر يحتاج إلى صدق.. والصدق والإخلاص أساس الوصول إلى الغاية والنهاية. ومنذ كان اللقاء الأول الذي لا ينسى، سقطت في قلبي بذرة طيبة. أخذت أغذيها بصدق التوجه إلى الله أن ينميها ويقويها، راح قلبي يهفو إلى مطلع الثمرة رويدا رويدا حتى ظهرت براعمها نقية ندية.
.. ولكن كما قلت لك الصبر الجميل يعطي الكثير، إذ تفتحت الأزاهير وانطلقت المعاني وتجاوبت القلوب وتعانقت الأرواح وطال الحديث وانفرجت الأسارير وانبسطت الأحاديث وانسابت المشاعر في صدق وحب وإخلاص وكنت معكم بكل قلبي وبكل كياني – أما حديث نفسي فهو شيء لايقرأ ولا يكتب إنه فوق التصور والخيال كأني أريد أن أحتفظ به لأيام قادمة إذا شاء الله لي أن أبقى لأستزيد من هذا النعيم – نعيم الأخوة والحب في الله تعالى ذلك النور الذي هوهبة الله لمن أحبه واتضاه إني أطمع في مراحل أوسع وخطوات أبعد حتى تفيض قلوبنا بما تحمل لكم من معان وأحاديث وتجارب. وتلك أمنية عسى الله تعالى أن يرحمنا ويعطف علينا للوفاء بها.(1/90)
حين أجلس معك يا... لا أجد نفسي في حاجة إلى أن أخفي عنك شيئا – بل إن الواقع يجعلني أريد أن أبوح لك بكل خصائص نفسي وأغوارها – وتلك أسمى ما يبلغه المحب لمن يحب، ليس من السهولة على الإطلاق أن ينفسح القلب وينشرح الصدر وينطلق اللسان إلا لمن رق إحساسه وتعطرت أنفاسه واستيقظت حواسه فكان هذا التلاحم والتراحم، وهذا الحب الذى يفيض بلا حدود. في كل يوم له حكاية، أو مثل وآية، لا ينتهي حده ولا ينقطع مدده – لأنه هو الحب في الله والله حي لا يموت.
.... يوم عرفتك كان يوما من أسعد الأيام، قال لي الأخوة اليوم سوف نعرفك (بهدية) اسمه.. قلت لهم سوف أعرفه باحساسي، فما أخطأت فراستي فيك، وما زاغت عيني عن عينك حتى اقتربت مني، وشددت على يدك وتحدثت معك كلمات قليلة ولكنها غالية.
وددت لو أنك يا ... الحبيب – أمسكت بالقلم وكتبت لي رسالة ولو قصيرة، ردا على إحدى خطاباتي – لا تقل إن ذلك صعب أو أن مقدرتي لا تطاول مقدرتك – أو أن اسلوبي لا يقارن بأسلوبك كل هذا لا يعنيني أبدا ولا أتوقعه – ولكن الذي أطلبه هو أن تكتب من نبع قلبك الطاهر تقول الكلام الذي تحس به في أعماق نفسك – بأي أسلوب... تحدث عن روح ومشاعر الحب الذى تحسه نحو إخوانك الذين تحبهم – تحدث يا... كما يريد الله لك أن تتحدث وليس معنى ذلك أني اضغط عليك لا وإنما أنا أريدها خطوة هامة في سبيل النهوض بالكتابة والتعبير وخاصة وأنت طالب ولا بد من ممارسة الكتابة من الآن.(1/91)
كم أتمنى أن أضع بين يديك معالم على هذا الطريق الفسيح في عالم النفس البشرية ولكني أكتفي بلمحة أو إشارة. إن أعظم ما يجب أن يتميز به مثلك في هذا السبيل أن يوقن أن لكل إنسان مجالاً للخطأ والصواب. فيكون علاج الخطأ دائما (وليتلطف) (لينوافي أيدي إخوانكم) وأن تكون في علاج ذلك طبيبا وحبيبا. القدوة الصالحة في الكلمة والحركة هي العلاج الأمثل والأحسن... إن تقابل المخطئ بابتسامة خير من أن تبدأه بالحساب. حاذر أن يتغير عليك قلب فإنها خسارة لا تعوض. ثم أقول لك أنت أيها الحبيب. إن سماحة الوجه ولطف الحديث وجاذبية العاطفة تطفئ غضب من يأتيك غاضبا. إننا نملك أعظم أساليب الدعوة وصدق الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) في أنفسنا أيها الحبيب ذخائر ودوافع وأحاسيس ومشاعر يلين بها الحديد فاللين أقطع من السيف لو كانوا يعلمون.
يعجب الناس من هذا الحب ويندهشون لانهم تعساء لا يتذوقون. (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) (قل أعوذ برب الناس) ولما كان الناس في غفلتهم سادرين – كان علينا واجب مقدس أن نسعى إليهم بهذا النور (ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم).
عباس السيسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الدعوة إلى الله حب
الجزء الثالث
الشيخ المجاهد سعيد حوى
في ذمة الله
تمنيت أن يكتب فضيلة الأستاذ الشيخ سعيد حوى مقدمة الجزء الثالث من رسالة "الدعوة إلى الله حب" كما سبق له أن توّج الرسالة الأولى والثانية بمقدمته الكريمة التي أضفت على الرسالتين روحا وريحانا، وأفسحت الطريق إلى قلوب الآلاف من شباب الصحوة الإسلامية في كل الأرجاء والذين كأنهم كانوا معها على ميعاد. فأشرقت بها نفوسهم وتفتحت بها أزاهير عواطفهم النبيلة ففاح عطرها وشذاها فجذب القلوب وأجج المشاعر.(1/92)
ولكن فضيلة الشيخ سعيد حوى قد وافاه الأجل في مدينة عمان بالأردن في يوم أول من شعبان 1409 – الموافق 19 من مارس 1989 عن 55 عاما من عمره المبارك، قضاها منذ نشأته في مدينة حماه في أحضان الدعوة الإسلامية. الذي جذبه إليها العالم الجليل الشيخ محمد الحامد (عليه رحمة الله) والذي لازم الشهيد حسن البنا في المركز العام للإخوان المسلمون بالقاهرة حين كان يتم دراسته العالية بالجامع الأزهر حتى نهاية عام 1939.
إذ كان الشيخ محمد الحامد يُدرِّس التربية الإسلامية في الثانوية. فانضم الشيخ سعيد عندما كان طالبا في الصف الأول الثانوي إلى حلقته العلمية الشهيرة التي كان يلقيها في جامع السلطان. وكان الشيخ محمد الحامد يذكر أن شعب مدينة حماه في طليعة المجاهدين ضد المستعمر الفرنسي وضد الأنظمة الظالمة ولا يفوته أن يرد على كل من يعادي الإسلام وكان لا يخشى في الله لومة لائم.
وأشرقت الدعوة في قلب الشيخ سعيد بعد أن عرف غاية الدعوة وأهدافها وقال رحمه الله في ذلك (كان انقلابا في حياتي ونوعا من العثور على الأنا الجماعي والعثور على نفسي) وقال (كيف يعيش الناس دون هدف كبير يسعون لتحقيقه وكيف ينصرفون عما يورث الأمجاد).
وشارك الشيخ سعيد في الحركة الإسلامية وقاد المظاهرات ضد إعدام قادة الإخوان المسلمون في مصر عام 1954 – كما شارك في ثورة حماه 1964 حين فكر بعض وزراء سوريا في إلغاء الأوقاف وإلغاء تدريس مادة التربية الإسلامية في سوريا. واستمر الإضراب في مدينة حماه 29 يوما وقد شارك في هذه الحركة الشهيد مروان حديد الذي اعتصم ورفاقه في مسجد السلطان الذي قصفته السلطة فهدمت مئذنته وبعض قبابه ودافع المحاصرون حتى نفذت الذخيرة فاقتحمت السلطة المسجد.(1/93)
وحين قامت السلطة بالتضييق على الشيخ سعيد ورفاقه هاجر إلى السعودية من 1966 إلى 1971. ولما مرض الشيخ سعيد (بالسكري) عاد إلى حماه بعد أن قطع وقته في السعودية في تأليف (جند الله ثقافة وأخلاقا) وكتاب (جند الله تخطيطا وتنظيما وتنفيذا).
وفي عام 1973 بدأ الصراع حول الدستور. وأصر الإخوان أن يكون (دين الدولة الإسلام) وعلى أثر مصادمات عنيفة وإصدار بيان العلماء ضد الدستور. تم القبض على عدد من علماء سوريا على رأسهم الشيخ سعيد وقد مورس ضدهم التعذيب البدني والحبس الإنفرادي داخل سجن المزة – وحين أصدر – الأسد – عفوا عن الشيخ سعيد عام 1978 – انضم في الحال إلى الجهاد المسلح ضد نظام الأسد. الذي مارس ضد الإخوان أبشع أنواع الاضطهاد. حتى كانت مذبحة (حماه) التي دوت في أسماع الدنيا وتجاوزت ما فعله نيرون في إيطاليا. وختم المجاهد سعيد حوى حياته في ساحة الدفاع عن الإسلام بالكلمة والسنان. تغمده الله بواسع رحمته وأدخله فسيح جناته.
المقدمة
حين بدأت أكتب "الدعوة إلى الله حب" كنت أتعامل بها كتابة ولم أتعامل بها كتبا – كنت أتهيب أن تخرج هذه المعاني على عامة الناس باعتبارها تيارا جديدا في عالم تعود على نوع من الحب المكشوف الذي عبأ كل الأجواء بريح صرصر عاتية من عواطف الحب الآثمة المدمرة التي تفشت في الشارع الإسلامي في النصف الأخير من القرن العشرين.
ومنذ أن صدرت رسالة الدعوة إلى الله حب وأنا أعيش في مشغلة نفسية عميقة حول المعاني التي برزت وتوهجت في قلوب أبناء الدعوة الإسلامية إذ كشفت الدعوة إلى الله حب عن طاقات وكنوز روحية هائلة من عواطف الحب الطهور المطمور في أعماق الضمائر وخفايا النفوس المؤمنة.(1/94)
قد حجبها عن الظهور "الاستحياء" مما طغى واستعلن وشاع "من الحب الجاهلي" الذي استنفر عواطف الشباب والشابات إلى السفور وساحات الاختلاط التي أُستجلب لها المغنون والمغنيات وسخرت لها السينما والمسرح والفيديو والتلفزيون. هكذا أدرك أعداء الإسلام خطورة عواطف الحب الإسلامي فانحرفوا بها في مسارب الشياطين وأحلام العصافير وصرفوا العواطف وشتتوها في دروب كثيرة من الشهوات. فاستهلكوا عواطف الشباب والشابات في حانات الخمور وإدمان المخدرات، ليقتلوا عوامل الرجولة والقوة والإنتاج. وليسلموا هذا الشعب إلى فقدان الذاتية والحرية.
واستيقظ شباب الأمة الإسلامية وشاباتها على (الحب في الله) الذي هو الأصل الطاهر النظيف العفيف. وكشف الغطاء عن هذا المخطط الخبيث الذي يعمل على تدنيس الحب وإفساد الأخلاق وإظلام القلوب وإطفاء نور الإيمان. (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً).
وشاء الله تعالى أن تتفجر ينابيع الحب في الله تعالى من قلوب عامرة بالإيمان مدركة لسمو الغاية ونبل المقصد. وطوى هذا الحب الشريف مساحات هائلة من قلوب الإخوة والأخوات في كل أقطار العالم الإسلامي. وفقه المسلمون أن الحب في الله ليس متعة شخصية بل هو متعة جماعية وترغيب في شمولية الحب لكل الإخوة على وجه الأرض. فهو سياسة إسلامية فطرية. حتى إذا تحاب المسلمون بروح الله تعاونوا وتآلفوا وتوحدوا عقائديا وروحيا وثقافيا واقتصاديا.
فإذا توحدت الأمة وجاء نصر الله والفتح – التحمت جماهير الأمة الإسلامية الواحدة في عناق واشتياق. وحب وإيثار. كما حدث بين المهاجرين والأنصار. (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..).(1/95)
فجذبوا القلوب إلى الدعوة بالحب.. إن الجهاد بالحب في الله هو الفرصة المتاحة والسياسة المباحة التي لا تعوقها حدود أو يصادرها قانون – لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس – والحب في الله تعالى هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيزٌ حكيمٌ).
والجزء الثالث من رسائل الدعوة إلى الله حب يختلف عن الجزء الأول والثاني. إذ كانا عبارة عن مقتطفات من مجموعة رسائل اختارها الشيخ سعيد حوى رحمه الله تعالى. أما الجزء الثالث فقد اخترت له عدة رسائل رأيت أن أسجلها كاملة. وخاصة تلك التي وردت إليَّ. وحرصت على أن تكون كما هي بعباراتها وأسلوبها كي تعطي صورة صادقة عن الأخ ثقافته وفهمه زمانه ومكانه – ويعتبر هذا تعريفا بكل منهم حتى يتعامل القارئ الكريم معهم بموازين منصفة (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
الشهيد
هاني أحمد رشيد
ولد على أرض فلسطين المباركة في بلدة عتيل من قرى طولكرم. وهاجر مع أسرته إلى دولة الكويت المضيافة وسافر إلى باكستان طالبا بالجامعة الإسلامية في إسلام أباد واستشهد على أرض أفغانستان المجاهدة باعتبار أن وطن المسلم عقيدته.(1/96)
عرفته الكويت في الثامنة عشرة من عمره وهو في الثانوية العامة شابا في ريعان الصبا والشباب مشرق الوجه وضاح الثنايا. سمته الصمت ولباسه الحياء. كثر جلوسه معنا فلم أسمع له صوتا ولم يستفزه حديث – اقتربت منه ليقترب مني – صارحني أنه يخجل من الحديث معي. وعدني بأن يخاطبني في رسالة. وجاءتني رسالته متوهجة مشرقة. فأدركت أن صمته كان في الاستغراق والاستيعاب. وأنه كان لا يتحدث حتى لا يقطع روافد الفهم والتذوق.. وأعاد في سطور رسالته بعض ما استوعبه من معان في فقه الدعوة. وذكر ما استبد بقلبه من حب عميق لأبنائها وما طرأ عليه من تغيير جديد في الأخلاق والسلوك. واهتمام بالغ بأمر الإسلام حاضره ومستقبله. لا زلت أعيش مع كلمات رسائله التي سبق أن سجلت بعض كلماتها في رسائل الدعوة إلى الله حب. وأسجل هنا آخر كلماته في آخر رسالة.. حيث يقول "إنني يا حبيبي عباس أريد أن أعبر لك عن مدى حبي لك ولكن لا أستطيع أن أعبر عما في نفسي مهما قلت.. أحب أن أصارحك بكل شييء وأعرض عليك ما يدور في ذهني وأشكو أحيانا لأنني أعتبرك .. أبي وأمي وأخي".. وبعد ست سنوات قضاها مجاهدا في سبيل الله على جبال وفي وديان أفغانستان.. وفي "قندهار" الرعب انضم الأخ هاني "أبو زهير" إلى إخوانه الذين استقروا في مركز للشيوعيين بعد فتحه وذلك تمهيدا للمركز الذي يليه – ولم يبق أبو زهير مدة طويلة فيها ففي يوم الأربعاء السادس من ذي الحجة 1408 بينما كان الأخ هاني يصلي الظهر بجوار أخ أفغاني جاءهما رسول الشهادة يمتطي قذيفة دبابة وحطت القذيفة بجوار أبي زهير وهو في صلاته ويرحل هاني شهيدا في سبيل الله.
رحمك الله يا هاني كم أسعدتنا وأتعبتنا – وكم مثلك من الشباب الطاهر يغلف عواطفه ومشاعره بالصمت.. ولو تجاوبت القلوب وتنادت الأرواح بهواتف الحب في الله – لاندمجت القلوب وتعانقت الأرواح – وبين للإسلام صرح يشرق على الدنيا بنور الإيمان والقرآن.(1/97)
ولن يعود للإسلام سالف مجده. إلاّ بالجهاد والبذل والعطاء والفداء.
الرسالة الأولى
أخي وابني الحبيب
للخطاب فرحة عند تلقيه وعند قراءته والانفراد به – وعند تملي معانيه ثم عند كتابة الرد. وخطابك اللطيف أعطاني فرصة أوسع وأرحب كي أنفتح على قلبك الحبيب. إذ أن خطابي الأول لك كان على استحياء ورفق وإيجاز. لأنه هكذا تكون الخطوة الأولى. وعلى قدر الاستجابة تكون الإجابة. وقد لمست وآنست من كلماتك أنك لست جديدا في ساحة الحب ولا فريدا في نبض القلوب. فالنبع صاف والفهم عميق والخط جميل. كنت أخشى أن يطول بي الانتظار لرسالتك – فقد أرسلت عدة رسائل مشحونة بعواطف الحب لبعض من أحبهم فلم يستجيبوا لنداء قلبي استجابة الرد ولا أقول استجابة الرفض، هذه العادة في تصرف بعض الإخوة تكون لعدم قدرتهم على كتابة الرد بمستوى مناسب عاقهم عن الوفاء بالرد واللواذ بالصمت الذي يحتاج إلى تأويل وبسلوكهم هذا ينقطع التيار ويتوقف المدد والمداد أيضا. فالكتابة تولد الكتابة – فلولا رسالتك هذه ما وجدت من المعاني ما يبعث النشاط والانتعاش.
فالكتابة عن الحب الثابت الذي لا يتحرك ولا يتجدد دواما. لا تشعر معه بالحياة. والكاتب في مثل هذه الحالة سوف يكرر نفسه.. حيث لا يجد جديداً يحرك مشاعره وعواطفه. فكأنك تنظر في عشر مرايا حولك في لحظة واحدة. فالكتابة المتجددة تبعث النشاط وتستنهض المعاني فالإنسان لا بد أن يجدد ذاته ونشاطه وعلاقاته كما يجدد رباط عنقه.
الرسالة الثانية
يا أبتاه .. لقد بهرني موضوع كتابك (الدعوة إلى الله حب) فكان رسالة لي إنه لابد من أن أدعو إلى الله بحب.
لقد أحببتك يا أبتاه حبا جديدا.. لقد قضيت معك وراء أسوار الظالمين تسع سنين، ولكني اليوم بعد كتابك هذا فكأني لم أقض معك يوما بل ساعة أين كنتُ منك خلال هذه السنين التسع؟ لست أدري!(1/98)
لقد عرفتك وأنا ابن أربع وعشرين سنة. واليوم أنا ابن سبع وأربعين أعرفك جيدا.. ويبدو أن الله تعالى سيجعلك جديدا دائما.. وحالك ياأبتي تنبئ عن أنه كلما كبرت سنك كبر وعظم قلبك. فهنيئا لك هذا القلب الكبير. القلب الكبير الذي أحب كل من رأى ومن سمع.
موضوع كتابك جعلني أفكر كثيرا.. لقد شغلت نفسي بأن الدعوة إلى الله تكون بأسلوبين رئيسيين.. أسلوب الفقه.. وأسلوب منطق العقل، فكنت أقول إن من فقه واتسع فقهه أو عقل وأنصف لا محالة أن ذلك يسلمه إلى الانخراط في دعوة الإخوان المسلمين أو مثلها إن كان شغوفا حقا مهموما بالعمل على إعادة الإسلام إلى نفوس المسلمين.
وأيقنت أن من الحب في الله ما هو ركن من أركان الدين يضعف دين المرء بفقده. ومنه ما هو فريضة ومنه ما هو دون ذلك. ولكن الذي دون ذلك هذا.. هو بين الإخوان المسلمون عزيمة إن تخلوا عنها ضاعوا. ومع ذلك كنت أرى أن العامل المؤثر القوي وحده هو أسلوب "الفقه ومنطق العقل" – على جفافهما – عند طرح دعوة الإخوان المسلمون بين الناس – وبين بعض الإخوان المسلمون أنفسهم.. ووجدت أن لذلك اعتباره الذي لا ينكر.
ولكني بعد اطلاعي على موضوع (الدعوة إلى الله حب) تبين لي أنه طريق فيه قوة التأثير. بل له من قوة التأثير مالا يملكه أسلوب الفقه ومنطق العقل.. فكم من مشكلات فقهية وشبهات حول الطريق وحيرة وتوقف في البت في الصواب والخطأ.. كم من مثيل ذلك يتوقف أمامها منطق العقل أو أسلوب الفقه. ولكنها تخضع وتتهاوى إذا جاءها الداعية والمدعو بسلاح الحب في الله تعالى. وهو سلاح تحت ظلاله جنة القلوب والعقول وطمأنينة النفوس وسعادتها، ولا مراء أن هناك فرقا بين تلقي الدعوة من أفواه القلوب العامرة بحبها وتلقي الدعوة من الكتب. لذلك حرص الظالمون على الحيلولة بين شخص الداعية (الكيان الشاعر) وشخص المدعو ولم يحرصوا ذلك الحرص على الحيلولة بين الكتاب وشخص المدعو فليس للكتاب كيان شاعر.(1/99)
روى ابن سعد: أن أحد الصحابة رضي الله عنهم "ذهب بصره" حزنا على وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فجاء أصحابه يعودونه فقال لهم: إنما كنت أريدهما لأنظر بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكم من عامل في هذه الجماعة جُذب إليها بحب القلوب الصادقة فأقام بين أحضانها وشمر وجد ووقف حياته على إبلاغ هذه الدعوة للظامئين وأنار سبيل الحياة للحائرين فأنتج وأثمر وضم إلى الصف رجالا وشبابا هم معالم نور ومشاعل هداية.
وكان حبهم البصير العميق لدعوتهم ولبعضهم بعضا هو القوة التي جعلتهم لا يقيمون وزنا لخلاف فقهي أو شبهة.. فكل ذلك هبط إلى الدرجة الدنيا من التأثير.
وكم من عامل في هذه الجماعة جذبه إليها أسلوب فقه أو حصافة عقل ولم يقم لحجة مشاعر القلوب كركن في بناء هذه الدعوة. فإذا به يتلكأ عند كل شبهة ويتوقف عن العمل أو ينصرف عند ظهور إشكالات لا يجد عند أسلوب الفقه الجاف جوابها فإما يفتن أو يتأخر – وإما ينكر أو يُنفر.. ورضاه يكفيه أن واحدا لم يخرج من الجماعة!
ونسي أنه مطالب أن يُدْخل الأرض بأسرها تحت لوائها.
الرد
أخي الحبيب(1/100)
كانت رسالتك الكريمة. مفاجأة سارة. لم تكن لها سابقة من قبل. قرأتها في نشوة تختلف عن شعوري مع غيرها. جلست أستمع بكل كلمة نطق بها قلبك واشتعل بها فؤادك وتحرك بها وجدانك. وأدركت قبل أن أتمها. أن يقظة في الوجدان والمشاعر قد تفجرت في كينونتك. أدركت ذلك من صداها في نفسي حيث أني انتفضت متهللا مسرورا. أريد أن يحس ويقرأ هذا الشعور وتلك السطور كل الإخوة الذين كانوا معي وقتئذٍ. لولا أن في الرسالة إشارة إلى نفسي. منعتني من ذلك. تابعت السطور وغير المنظور فتكشفت لي أسرار الحب في الله تعالى. فالحب في الله يسبح بالإنسان في ملأ لا حدود له. إن هذا الحب نور وشعور وزهور. عجبت أيها الحبيب كيف تفجرت هذه المعاني متدفقة بهذا السياق الرفيق. كيف كانت هذه المعاني كامنة ثم اشتعلت واندلعت فكانت هذه الأنشودة الحية الوفية.
إن توجهات الداعية إلى القلوب تكون ببواعث أحاسيس وعواطف مبهرة مثقفة – تشع بالنور والهداية والرحمة – وتلك أخص خصائص الداعية وأَلمع مواهبه ووسائله إلى القلوب.. ثم تخضع بعد ذلك الجوارح بتوفيق من الله تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون".
الرسالة الثالثة
أخي الحبيب
لا تزال كلمتك الرقيقة [إني أحبك في الله تعالى] ترن في أذني وتدق على قلبي لا تزال بروحها السمحة وعطرها الفواح وأريجها المنعش تعطر أجواء النفس وتريح القلب وتلهب أشواق الروح. إنها كلمات قلتها ولا تدري عمقها وسحرها. لقد تركت أثرا يدوي في أعماقي ويزيد لك من حبي وأشواقي، لقد شغفتني وشغلتني ولا قدرة للوفاء بحق شعورك الفياض وعاطفتك النبيلة.(1/101)
لقد كان اللقاء الطيب واحة ظليلة ومرفأ لكل من يعاني أو يقاسي. فحين توجهت إلى هذا الحفل المبارك لم يكن في خاطري أن أتعرف عليك. ففي هذا الجمع الجامع كيف أصطفيك وما سعيت أقصدك أو أهدف إليك. ولكنك جئت إليَّ بقلب يحملك وعاطفة تدلني عليك، فما هي إلا لمحة عين حتى ألهمت حبك ورزقت قلبك. وما زاد حديثي معك عن كلمات معدودة. وتركت في قلبي بعد ذلك أحاديث كثيرة يعجز لساني وبياني عن سردها.
الحب نور يظل الظلم يرهبه ... ... وما سوى الحب قهار ومنتصر
الرسالة الرابعة
إنني يا والدي. فتاة لا يتجاوز عمرها الثامنة عشرة. فرّت هاربة مع أهلها من الوطن الحبيب سوريا، أمام طغيان أسد الجارف منذ أحداث عام 1967 طموحة أنا متأملة أن تناطح آمالي أعنان السماء. ولكن أملي هو الله وطموحي هي الآخرة وأمنية أماني الشهادة في سبيل الله. تلك التي أتمناها في كل صباح وأصيل مع مطلع الشمس وغروبها. ولكني رغم ذلك لا أجد نفسي أهلاً لها ولا ما أديته لربي أستحق أن يتوج جبيني بهذا الإكليل الخالد.
لقد نويت أن أكتب هذه الكلمات بعد قرآءتي لرسالتك التي وجهتها إلى الشباب المسلم بعنوان "الدعوة إلى الله حب" بجزئيه. فوصلتني رسالتك التي كنت أنتظر وحركت في نفسي مشاعر قد كانت كامنة وهيجت في نفسي ثورة أحاول جاهدة منعها من الهيجان.. لأني لا أجني من وراء ثورتها وزلزلتها سوى دموعا سخية لا تضن لها مقلتاي على آمال وهمية وأحلام خيالية تراود ذهني المتفتح على عالم مليء بالوحوش، وهو أشبه الآن بغابة كبيرة – القوي فيها يأكلُ الضعيف. والضعيف يركن وينطوي ويستظل بظل القوي.
أبي الغالي: ما قدمت لرسالتي الأولى التي أخطها في حياتي لمن أشعر نحوه بعاطفة الأبوة بمزيج من الحب في الله. والذي ألتمس من ورائه تمهيدا لطريق الجهاد وقوة على طريق الدعوة وزادا أتقوى به في تكملة المسير أثناء رحلتي إلى الله تعالى.(1/102)
والدي: أرجو من الله تعالى ألا تعدُ عيناك عن رسالتي لأنني فتاة فما أنا بالتي جعلت نفسها أنثى بل الله تعالى هو الذي أراد ذلك ولكن منْ حولي لا يزال يظهر فضل الذكر على الأنثى – ولولا تذكيري لنفسي دوما بوجوب الخضوع والاستسلام لأمر الله.
أبي.. أنا لا أريد أن أتكلم بهذا الصدد في رسالتي هذه.. وإنما يشغلني حقيقة ويعلق ببالي دَوْماً هو الحال التي آل إليها إخواني المسلمون في عصرنا الحاضر فأراضي المسلمين تُغتصب وإخواني المضطهدون في سجون العالم. يستغيثون بالأحرار منا ذوي الشهامة والمروءة ذوي العقيدة والحمية – ولكنهم للأسف لا يسمعون صدى كلماتهم تتردد في جنبات السجون.
الرد
أختي الكريمة
لقد استقبلت رسالتك بشعور خاص وعاطفة جياشة – لقد استقبلت رسالتك بقوة شعورك النبيل الذي تأثرت به كثيرا وشحنت به قلبي وتألقت به روحي – قرأت كلماتك التي دلتني عليك وعرفتني بك من قريب. بقلمك وروحك ومشاعرك – فلما يستطيع ذلك إلا قليل من الإخوة والأخوات فإن الكتابة قدرة والتعبير موهبة والعاطفة روح وكل هذا من فضل الله تعالى فإذا كان عمرك المبارك في الحدود التي ذكرت فهو أمر يزيد في نفسي من قدر شعورك وشخصك الكريم.
لقد قرأت سطور رسالتك وكأني معك في شعورك وتصوراتك بل كذلك آمالك وطموحاتك في رضاء الله والشهادة في سبيله – وأسأل الله تعالى أن يحقق لك تلك الآمال وأن يتوج جبينك بإكليل الشهادة.
وتأثرت كثيرا لقولك (أرجو من الله ألا تعدُ عيناك عن رسالتي لأنني فتاة – فما أنا بالتي جعلت نفسها أنثي بل الله تعالى أراد لي ذلك).
رجاء أن تباعدي بينك وبين هذا الشعور.. فإن هذا الدين قد وضع لنا شريعة تحدد منهجا للحياة الإنسانية ورسم لنا طريق التعامل في هذه الدنيا تجعل بين الذكر والأنثى درجة تهبط وترتفع بعوامل وظروف الحياة – (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم).(1/103)
ولكننا للأسف الشديد قد تجاوزناها – بل فهمنا غير ما قصدت إليه وانحرفنا إلى عادات وتقاليد نقلناها عن غير المسلمين بل عن أعداء ثم أقول لك.. إن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى أمثالك ممن وهبهم الله الفهم الدقيق. والحماسة المرتبطة بمنهج واضح وخطوات مرسومة وأن المحيط الذي تعملين فيه هو محيط خصب لا تنقطع موارده، وأسلوب العمل في هذا المحيط في حاجة إلى عاطفتك الريانة ومشاعرك الحية النابضة بالإيمان. فإن الكلمة الطيبة لا تفنى والحركة معها لا تتوقف بل تظل تشق طريقها وتنتقل من مكان إلى آخر تؤثر وتبني وتشيد وتؤتي أكلها ولو بعد حين.
"لو أن القيامة قد قامت وكانت في يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها فإن له بها أجرا" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسالة الخامسة
أخي الحبيب
لقد كنت أشعر بعاطفة جارفة ومشاعر متوقدة فلا أستطيع أن ينطق بها لساني – حتى فهمت وآمنت بهذه الدعوة فأدركت أنها لا تصطدم بفطرة الإنسان ولا تقتل فيه عواطفه بل هي تحييها وتزكيها وتعطيها صورة الحلال المباح فتكون الحب في الله الذي بروحه تراصت جيوش الإسلام على قلب رجل واحد يتدافعون للتضحية ويتسابقون للفداء. (إن الله يُحبُ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص).
كثيرا ما تألقت في معانيك السامية مما أفضت به على حياتي سعادة وانشراحا. كم حدث هذا في صمت دونما تعبير، ذلك لأن القلوب قد بلغت من الوعي والإحساس درجة فاقت الخيال وتسامت حتى صارت من الشفافية ما يتراءى لها عمق الحقيقة ولطائف الروح.
لا أدري سوى أن هذه النعمة لا تقدر بأي قيمة مادية على وجه الأرض لقد أدركت أن الإفصاح عما في قلبي كما أستوعبه سوف لا يبقى لي بعده ما أدخره من هواتف قلبي وحفيف روحي – فكنت أعتمد مع من أحب على الإيماء أو الإرسال وواقع الحال من مظاهر موحية.
دلائل الحب لا تخفى على أحد ... ... كحامل المسك لا يخلو من العبق(1/104)
لقد أدركت من خلال كلماتك المكتوبة مبلغ عواطفك الحية الندية. إن النفس التي بين جنبيك عالم كبير. فليس الذي تسمعه والذي تقرأه والذي تشاهده هو كل الحقيقة فالحقيقة الصادقة علمها عند ربي (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
الرسالة السادسة
أخي الحبيب
أنت في رسالتك هذه أتعبتني جدا.. جعلتني أبحث عنك كي أروي ظمأ قلبي وأرد نفسي إلى نفسي.. كلماتك مشحونة بالعاطفة وهي سر من أسرار حياة القلوب. فأنت أيها الكائن المجهول تعيش في عذاب وأي عذاب أشد من حبيب تحبه ولا يدري أنك تحبه تقترب منه ويبتعد هو لأن جهاز الاستقبال عنده معطل أو فاقد الإحساس. والمعاناة في هذا الحب قاسية. فليس لها إلا أن تبوح [إذا أحب أحدكم أحدا فليخبره] حديث.
كي تستريح – فليس لمثل ذلك إلا ذلك. فضياع الوقت يقتل العاطفة ويزيد من تفتت الشعور. فالحب دائما يسكن الأعماق ولا بد له من غواص ماهر. يتحسس السبيل برفق وصبر. حتى لا يخطئ الوسيلة ولا يرقى في غير هدف ولا يصطدم بالمجهول من الأخلاق والعادات، فالتوجه إلى الحب في الله له مقدمات وله أساليب وله خطوات، فالله تعالى يقول (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) فمن باب أولى أن يكون الوصول إلى القلوب له خطوات.
ولا تظن أنك الوحيد الذي يقاسي هذا الشعور. فكثير من الشباب يحترق شوقا إلى إخوانه – ولكنه لا يجد الإيجابية فتعيش عاطفته مقهورة داخل النفس حتى تجد "داعية دعوة" وليس داعية أشخاص بعينهم. داعية يؤمن بأن كل إنسان من كل الناس مطلوب ومأمول – فأنت لا تدري في أي الناس يكون الخير والإنقاذ. فلا تحبس الدعوة عمن لا ترضاه ولا تهواه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) – (عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزّكى) .. فإذا عجزت عن الشعور المتبادل بالإحجام والوجوم.. فإني أذكرك بقول الشاعر.
إذا المرء لا يلقاك إلاّ تكلفا ... ... ... فدعه ولا تكثر عليه التأسُّفا(1/105)
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة ... ... وفي القلب صبرٌ عن حَبِببٍ إذا جفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ... ... ... فلا خير في وُدٍ يجيء تكلفا
الرسالة السابعة
أخي الحبيب
سلام الله عليك ورحمته وبركاته – عليك كافة – كافة نفسك ظاهرك وباطنك سلام دائم ليلك ونهارك. في حركتك وسكونك..
إسمك إسم حبيب يجذب كل قلب قبل أن يراك. فإذا رآك تعطرت الصورة بأريج منعش وعاطفة تهز الوجدان – قد يخفي الإنسان هذه الجواذب وهذه الموصيات يخفيها حياءً ويكتفي بهواتفها ويبقى الشعور بالحب دفينا، يتناسى ولا ينسى – يغمض عينيه كأنه نائم وأنى له أن ينام، يتحدث ويكتب ويظنه الناس في شغل شاغل وما هو إلا طير سابح حول هذا القلب. فالحب طاقة فوق تصور الإنسان. إن أي تعبير مهما سما في معناه لن يحقق الهدف في مرماه.
عجبت لأمرك كيف التقطت كل هذه المعاني وتذوقت طعم النظرة والضربة.. كثير لم يدرك تلك اللمحات لأنهم يفقدون حاسة الاستشعار أعتقد أنه لا بد في أول الطريق إلى القلوب. أن نعمل على إيقاظ الحواس فإن ذلك يعين على فتح أبواب القلوب. ويكون بذلك المدعو في وضع الاستعداد للتلقي – تلقي الكلمة والهمسة والإشارة – (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وأعتقد أيضا أن هناك (أمية) في سلوك الحواس وثقافتها. فإن حضارة المسلم تتمثل في نبوغ القلب والحواس والعقل. (وإنك لعلى خلق عظيم).
الرسالة الثامنة
أخي الحبيب(1/106)
وصلتني رسالتك تحمل أريج عاطفتك النبيلة. خط جميل. وكلمات مسطورة بين هوامش في ذوق رفيع. أسلوب متسق يغري بالمتابعة المشبعة. قرأتها بشغف ونهم، فقد ترقبتها بشوق ولهفة – لأستروح من كلماتها العذبة راحة لنفسي، أستشف من معانيها شفاء، فالبعد يزيد من الأشواق ويلهب المشاعر، فالبعد ينهض بكوامن القلوب وإشعالها وتحريك سكونها. وكما قيل فإن ركود الماء يفسده.. فكم قاسيت من الغربة وتعذبت بها.. ومع هذا فقد صنعتني صناعة جديدة وفريدة تعلمت من الغربة أن أعتمد على نفسي – واكتشفت أغواري المستكنة ومذخور طاقاتي المدفونة التي كنت أعتمد فيها على غيري. تعرفت على كثير من الناس. فتعلمت كيف أعايشهم وأدخل في قلوبهم – أقترب منهم بحلو الحديث – وأبتعد عنهم فيما لا يعنيني. عرفت الكثير وهم لا يزالون يعيشون في ذاكرتي بل في قلبي.
الرسالة التاسعة
أخي وابني الحبيب
ما وجدت في هذه الحياة أكرم ولا أعظم من الوفاء. فهو نادر، وقليل هؤلاء الذين سعدوا بهذه المنحة الربانية فأنعشوا القلوب وأثلجوا الصدور. عدت إلى منزلي متأخرا مجهدا فاستقبلتني رسالتك فتلهفت عليها بأشواق حارة. فلم أكن أتوقع ما وقع في قلبي. لقد جلست معك مرات وتحدثت إليك في مناح شتى وأنت صامت. ولكني كنت أستشعر في حديثي معك سعادة تضيء جوانبي. إنه شعور ينطق بالحق الذي يغمرني ويكسوني لولا هذا السياج الوهاج.
لماذا لا تفصح؟ لماذا لا تنطق؟ لماذا كل هذا الصمت والقلوب تشتعل والأرواح تحلق! هكذا جاءت رسالتك متوهجة.. لقد قرأت كل كلمة بإمعان وتدبر وأدركت من فقه الحواس مدى ما تتمتع به من صدق العواطف المتألفة. وما أعطيت من جمال التعبير وأدب اللغة. وأدركت من سمو تعبيراتك مستوى استقبالك لهواتف القلوب ورسائل العيون ودقة إحساسك بالهمسات الدقيقة.(1/107)
لقد تعاملت مع رسالتك كأنك تجلس معي صامتا. ولكني لم أكن كذلك. كنت أتذوق كل هذه المعاني وأرتشف رحيقها. وإن كان الصمت أسلوبا بليغا راقيا ورائعا – كما تعايشت مع القلوب وتعذبت بها حين تناءت في أرض الله الواسعة ولا تزال تعذبني – لأن الحب في الله تعالى لا يتوقف عند حد بل تشتد وتزيد إنه فوق المقاييس التي يتعامل بها الناس في هذا الزمان. ترى لو أني صارحتك بما ذكرت في رسالتك من تلك النفحات الغالية – ترى لو أني ذكرت لك شعوري منذ سعدت بزيارتك الأولى. لو أني قلت لك ما دار في عقلي وقلبي – لو أنك سمعت دعواتي وتجسمت لك أشواقي.. لقد فتحت مغاليق كثيرة وكشفت بها عن منجم من القيم والفضائل. التي أرجو أن تحملك على الاستفادة بها في ميادين النفوس البشرية التي تتطلع إلى أمثالكم لتحملوها إلى ميادين الطهر والعفاف إلى ميدان الروح فإن العواطف الندية تتسرب إلى القلوب كما تتسرب المياه الجوفية في أعماق الأرض ثم تنبثق في أماكن أخرى فتكون الواحات الناضرة وتظهر آثارها بهجة للعيون ومتعة للأرواح.
الرسالة العاشرة
أخي وإبني الحبيب
ليس خطابك وحده هو الذي أسعدني وأشجاني. ولكن هناك بُعدٌ آخر له أثره الكبير في نفسي. ذلك أن الوفاء بالغ الأهمية والتأثير على النفس.. إن مجرد أن تذكرني بالمراسلة أو الدعاء. ثم تُذكرني بأول لقاء – ثم تزورني على بعد المسافات وفي مثل هذه الظروف التي تحيط بنا. كل هذا أجدُ له في ميزان قلبي قدرا هائلا من التقدير فضلا عن الحب الذي جمع الله به قلوبنا.. لقد فكرت في هذا المعنى طويلا. فوجدت أن الإنسان يمكن أن يتعرف على إنسان آخر.. فتكون جلسة أو لقاء ثم لا شيء بعد ذلك على الإطلاق. فتموت البذرة في تربة القلوب فلا تنبت لها جذور ولا تؤتي ثمارها.(1/108)
فانظر أخي الحبيب كيف كانت نظرتك حين رأيتك لأول مرة فأفسحت لك مكانا في قلبي هفوت إليك بروحي، أحطتك بعواطفي ومشاعري. ولكن لم يأن لقلبك أن يتحرك ومشاعرك أن تصحو وأحاسيسك أن تتنبه!!
ولا يمكن أن تدرك أثر ذلك على نفسي.. ولكن ماذا يمكن أن أفعل في مثل تلك المواقف الحرجة، لابد أن أجمع شتات نفسي وألملم أحزان شعوري فربما أكون قد تجاوزت الحدود المناسبة دون أن أدري وأحاسب وانتبه.
وشاء الله تعالى أن يأتي الظرف والوقت المناسب. ففتح الله تعالى أمامي المغاليق والعوائق وأشرق في قلبينا نور الحب الذي أضاء لنا السبيل. لقد صحوت أخي الحبيب صحوة مشتعلة، أدركت بعدها الفرق بين الماضي والحاضر بين الموت والحياة – لقد صحوت بكل مشاعرك ثم بدأت تعاني مثلما كنت أعاني وفتحت لك تلك الحادثة آفاقا واسعة من أبواب الحب في الله تعالى. لقد قرأت لك بعدها كلمات نادرة حين قلت ( لقد كنت تخرج من المدرسة إلى مدرسة مجاورة كي تنظر إلى إخوانك فقط كما كنت تفعل ذلك حين تذهب إلى المسجد وانطلقت في ميدان الدعوة بقلب جديد ومشاعر فياضة بالحب والخير. وهكذا العاطفة الحية ترف ولا تجف.
الرسالة الحادية عشر
أخي الحبيب(1/109)
كان لابد أن تكتب لي وكيف لا تكتب وهو أقل القليل بالنسبة لما تعلمه من حبي لك – وكيف ترضى أن تمضي هذه الأيام الطويلة دون أن تذكرني بكلمات وتعيد إلى قلبي حلو الذكريات. تبوح بما يكنه قلبك وتشدو بمعاني الحب. عساها تعوض علينا هذا البعاد وهذه الغربة – لا أنسى يوم كنت تستاك بالسواك وكان يجلس أمامك أخ يحجبني عنك يتحرك كبندول الساعة يمينا ويسارا – أنظر أخي الحبيب كيف أن لحظة واحدة يكون لها هذا التأثير الكبير الذي امتد سنوات وسيبقى ما شاء الله أن يكون ينمو ويزداد ويثمر في قلوب الآخرين.. لو أننا تدبرنا قيمة الوقت وقيمة الحركة والصدق في الكلمة والنظرة لأدركنا كنوز الحياة ونعيمها تري لو مرّت هذه اللحظة بلا فاعلية ولا التقاء أرواح هل يكون لها هذا الأثر القوي فيما بيننا وبين غيرنا.
تقول إنك أصبحت خفيفا وانقصت وزنك. وفعلا قد لاحظت عليك ذلك في زيارتي الأخيرة. وليس المهم هو الوزن الخفيف ولكن المهم هو اللقاء اللطيف والابتسامة الوضيئة وسلامة الصدر وجمال الروح.
والذي نفسه بغير جمال ... ... لا يرى في الوجود شيئا جميلا
الرسالة الثانية عشر
أخي الحبيب
حين أريد أن اكتب لأخ أحبه في الله. فإني قبل أن أبدأ الكتابة له لابد أن أتصوره وأستحضر معالمه وأخلاقه. أضعه أمامي كأني أتحدث إليه.. فإذا لم أكن أعرفه من قبل – فإني أرسم له في خاطري مجموعة من القيم الفاضلة لأن هذا هو الأصل في حبنا وإيلاف قلوبنا.
من هنا كانت قلوبنا هي التي تحب أرواحنا هي التي تهفو ومشاعرنا هي التي تسعد وتفرح. أما أشكالنا فهي وسائل إيضاح ومعالم على الطريق فإذا أدركنا ذلك كان دستور حبنا في الله واضحا حين تلتبس علينا الأمور. فنعود إلى جوهر الحب ولب الحب.فنلتقي على الصفاء والوفاء للدعوة التي هي سر جمعنا ودوافع حبنا (وما كان الله دام واتصل).(1/110)
حاولت أن أرسم لك صورة أتلمس فيها سبيلا إلى قلبك فذكرت أن الأخ (.....) يذكرك بعاطفة من الحب العميق فتأثرت بك لأن حبيب الحبيب حبيب. والحب يجذب الأحباب إلى أوسع الساحات وأبعد المسافات.
... الحبُ سِرٌ لدى الرحمن منبعه ... ... لا الجن تعرف ما يطوي ولا البشر
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول [ لو أن اثنين تحابا في الله تعالى وكان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة وقال هذا الذي كنت تحبه فيَّ].
لهذا كانت صلة الأرواح لا تعوقها حواجز ولا يلزمها لقاء المسلم بأخيه المسلم.. إنما هو تعارف الإيمان بالإيمان. الأشجان بالأشجان والأحزان بالأحزان – كما يحدث بين الإخوة في مصر وفلسطين والأفغان.
الرسالة الثالثة عشر
أخي الحبيب
من القلب أبعث لك بتحية الإسلام – فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته بكل ما تحمل الكلمات الشرفة من معان كبيرة وعميقة. في كل كلمة عشر حسنات. إنه ليس من السهولة أن يكتب الإنسان لأخ لم يسعد برؤيته رأي العين – ولم يكن قريبا من مكانه حتى يمكن أن يسعى إليه ويتحدث معه وتلك هي وسائل التعارف بين عامة الناس.(1/111)
أما وقد تحدث عنك (....) بروح شفافة وعاطفة جياشة وقلب ودود لطَّفت الطريق إلى قلبك – فكان شعور الأخ الكريم نحوك سببا أتبع سببا. وأقف معك برهة نستمع إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول [إن من الناس أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم عند الله تعالى. قالوا يا رسول الله صفهم لنا لعلنا نحبهم....] وفي روح هذا الحديث أشواق غامرة إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبون أن يسمعوا إلى دلائل ومعالم وموجبات الحب حتى ينجذبوا إليه. إنهم يتذوقون الحب على أنه طعام القلوب فهم يستلهمون الطريق إلى الحب (صفهم لنا لعلنا نحبهم) إن قلوب الصحابة رضوان الله عليهم تهفوا إلى أصحاب المثل والقيم فتأنس إليهم وتلتحم بهم (وألقيت عليك محبة مني).
الرسالة الرابعة عشر
أخي الحبيب
هاتف يتردد في شهر رمضان من كل عام فقد التقينا يوم تشييع جثمان أستاذنا الراحل عمر التلمساني في شهر رمضان 1406 هـ إلى رحمة الله تعالى.
حين رغبت في تحيتك بعد أن استمعت إلى كلمتك الصادقة المخلصة. تلك التي روت عواطفنا وأججت مشاعرنا وأثلجت صدورنا وسكنت أعماق قلوبنا. وهي تنبع من قلب شاب ولد في زمن المحنة والغربة، فما أشد وقعها وأعظم تأثيرها، لشدة وحشتنا وتشوقنا إلى هذه الروح وتلك المواقف التي أعادت إلى ذاكرتنا ذلك الماضي التليد للدعوة الإسلامية – يوم كانت الخطابة بالعربية الفصحى نبراس وأسلوب العصر – يوم كانت لسان المثقف والعامل والفلاح يوم أنطقت الدعوة كل شيء. وشهدت مصر حضارة اللغة العربية وتوهج ألفاظها وجمال التعبير بها – ومنذ أن أغلقت دور الإخوان ومؤسساتهم العلمية والصحفية انحط أسلوب الكتابة والخطابة والشعر حين نزلت اللغة العربية إلى مستوى العامية التي لم يعرف غيرها حتى القادة والزعماء.(1/112)
عشرات بل مئات من الشباب كانوا يغردون بالدعوة الإسلامية أدبا ونثراً وقصصا وشعراً في أنحاء مصر والعالم الإسلامي مدنها وقراها على منابر المساجد وأروقتها في الحفلات والندوات والمؤتمرات والمحافل في الأفراح والأتراح في كل ميدان وكل مكان كلمة الدعوة كانت تدوي كالرعد وتضيء كالبرق وتسري كالنور. لقد غابت هذه الروح طويلا – ولهذا كانت كلمات الخطباء في رثاء الأستاذ عمر التلمساني بشيرا بعودة الروح لجسد هذه الأمة وللغة القرآن الكريم.
لقد كنت أستمع إلى كلمتك بقلبي وكنت أشفق عليك وأنت تستلهم المعاني وتنادي الكلمات وتدق على القلوب بأحلى عبارة وأرق أسلوب في هذا الجمع الحاشد والموقف الخاشع والملأ الحزين.
رحم الله الفقيد الجليل الذي كانت حياته دعوة ومماته دعوة.
الرسالة الخامسة عشر
أخي الحبيب
دفعتني عاطفة مستكنة في أعماقي لتعلن عن نفسها – لتقول بلسان حالها ما لم تبده في حينها - حين رأيتك لأول مرة بقلبي رأيتك دون حديث سوى هواتف أبعثها إشارات كالشهب تخترق الحجب. إن لقاءنا الأول كان حديثا أنطِقهُ بل كان شوقا أبثُه إليكم وعاطفة أسربها إلى وجدانكم وأناجي بها مشاعركم. فحديثي إليك دعاء ومفاجأة وأمل. فأنا مشدود إليك من الداخل وحريص على أن تصلك أصداء هذا الشعور بنفس الإحساس ونفس الشعور.
إن الاختلاس حرام إلا في هذا المقام فاختلاس القلوب أمر محبوب [لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم] حديث شريف.
الرسالة السادسة عشر
أخي الحبيب(1/113)
كأني بك كنت على موعد معي في معرض الكتاب ومنذ تلك اللحظة وأنت في قلبي. ولعلي أردت يومها أن أترك لنفسي مكانا في نفسك. أو رأيت أنها فرصة لا يجب أن تضيع فالوقت هو الحياة فتقدمت لك بكتاب هدية (تهادوا تحابوا).. حتى كان لقاءنا الثاني فأدركت أن المسافة بين قلبينا قد تقاربت وشعرت منك بعاطفة وانعطاف، رأيت ذلك في إقبالك وإشراقة وجهك ونظرات عينيك، ولما دار الحديث عن قرب قريب في تلطف إحساس وشديد حماس بكلمات ساكنة هادئة ولكنها قوية متأججة تتفاعل من الداخل كأنها أمواج متلاطمة. ثم ظلت هذه المشاعر تعيش في ضميري ووجداني.. حتى باعدت بيننا الأيام وأصبح كل منا في مكان والأرواح تهيم والحنين يزيد وليس لنا والله إلا الصبر والدعاء.
... تلمست حبي في كل درب ... ... وعانقت قلبي لأنك فيه
الرسالة السابعة عشر
عمي الحاج عباس
بعد أن هبت علينا نسائمكم الطيبة وريحكم العبقة كالحلم الجميل وملأت قلوبنا بشرا برؤيتكم وهناءً بقربكم، إستيقظنا والجميع علم الله غير مصدق بأنه كان حلماً مر سريعا وإن كان قد ترك بصماتٍ لا نستطيع أن ننكرها.
عمي الحاج – كلما جلست معك أحسست أنني في عالم آخر هل للكلام دور؟ أم للبساطة أم للأدب؟ أم للشكل الحلو الجميل الذي حباك الله به؟ أم لكل هذا؟
إنني علم الله أحس عند الجلوس معكم كما كنت أحس مع والدي رحمه الله بالسكينة والطمأنينة كما أحس بتلاقي المعاني والأفكار...
الرد
أخي وابني الحبيب
كانت مفاجأة طيبة أسعدتني وأشرقت بنورها على قلبي، رسالتك اللطيفة المهذبة إنها قوية جذابة – تقول فيها يرحمنا ويرحمك الله – كلما جلست معك أحسست أنني في عالم آخر – هل للكلام دور؟ أم للبساطة؟ أم للأدب أم للشكل الحلو الجميل الذي حباك الله به؟؟(1/114)
إسمع أيها الحبيب اللبيب. إنني اعتزُّ بهذه الكلمات الكريمة التي ذكرت، من ناحية أنك تُعبر عن صدق شعورك وتصارحني بما يجول في خاطرك، وأعتقد أننا في حاجة إلى هذا الوضوح وهذا الإجتلاء – كم من أخ تسكن هذه الأسئلة في ضميره ولا يبوح بها تقلقه ولا يصارح بها – أقول لك إن الكلام الذي تنطقه أو تكتبه هو بالنسبة للكلام المستور والمكنون قليل (يوم تُبلى السرائرُ) سوف تنكشف حقائق نفسية مذهلة – حجبها عن الظهور ظروف غير مرئية ..
وساعة يلبس الحديث تمام الصدق.. وصدق النية وعطر الأنفاس تكون البساطة في الحقيقة فطرة لا صناعة. إذ أن البساطة أسلوب حياة تنبثق من العقيدة ويُسر الإسلام.
وكل تغيير أو تقليد في أسلوب الفطرة سوف يعكر صفو السامعين. المتذوقين الذين تسمو نفوسهم عن الصناعة والصباغة. فالعين اللماحة المستبصرة تكون مشدودة دائما إلى الفطرة.. وهكذا يستوي الفهم على خط استواء مع المشاعر والأحاسيس. وتلك عظمة التربية وهي عبارة عن تجانس متقارب في الفهم والعاطفة والسلوك تقع بينها فوارق هامشية لا تضر.
أما قولك للشكل الحلو الجميل الذي حباك الله به؟؟
أقول أخي الحبيب. إن هذه أول مرة أسمع هذه النعوت الجميلة! إنني معجب بما تقول مجازا، لأن هذا المعني صدر عن نفس جميلة ترى في إخوانها صدى ما يدور في حسها. فكل إناءٍ بما فيه ينضح.. وكم أتمنى أن نخرج عوالج قلوبنا ومضامين أفئدتنا. فعند كل منا كنز من الأسرار النفسية العميقة.
وأصارحك أن الإنسان حين يحب أخا من إخوانه.. إنما تجذبه إليه بعض الخصائص والمميزات. فإذا كشفها له أخجله، فهو يحب فيه قيمة من القيم. أو حاسة من حواسه المضيئة.. بعضنا يظن أنه بذلك قد استحوذ على من يحبه (كله) طبعا. لا. لأنه يحب فيه جزءا من كل.. فالأخ الذي يظن أنه استحوذ على الحبيب بسلطان الحب. فإنه بعد قليل يفتقد هذا الحب فلا يجده لأن دوام الحب يكون في تقدير مشاعر الأحباب واحترام حريتهم.(1/115)
أنا أحب الجمال – وكل صاحب كبد رطبة يحب الجمال، ولكن المقاييس والنظرات تختلف.
جمالُ الوجه مع قُبح النفوس ... ... كقنديل على قبر المجوس
فإذا قال الأخ لأخيه إني أحبك لأنك جميل. فإن هذا الحب سوف تنطفيء شمعته وتخمد جذوته وتموت غايته. إني لا أستطيع أن أصارح كل من أحب بكل ما أحببته فيه فيخفيه فتتعطل إمدادات الروح بسفه العقل. فالجمال ومضةٌ تضيء الوجه بجلال السكينة والإيمان وهو عند المحبين للجمال موصول بمحاسن الأخلاق ورقة الأحاسيس والمشاعر فإذا لمُ يحطْ هذا الجمال بسياج الإيمان والتقوى. كان غاية في ذاته.
أخي الحبيب.. لقد فتحت رسالتك لي مجالا للإفصاح عن واقع يعيش في الأعماق، تحجبه عن الحديث فيه ظلال من الخجل. وإن كان لا يمنعه الإحساس به والحياة معه كمن يعيش في حديقة. وليس من داع ليقول أنها حديقة.
الرسالة الثامنة عشر
أخي الحبيب
أعود إليك هذه المرة تتنازعني عوامل كثيرة وتتخطفني أراء شتى أراني أغوص في أعماقها تارة وأطفو على سطحها تارة أخرى لأتبين طريقي وأعرف سبيلي. فإن الطريق شاق الخطى شديد الوعورة. مع هذا فقد تعجب حين ترى هذا الشباب الغض وهو في ريعان الصبا في نشوة الحياة وزينتها والمستقبل الزاهر يفتح له ذراعيه والمنفعة سهلة بين يديه – ثم هو تجاه كل ذلك يفطم نفسه عن كل شهوة ويستعلي على كل منفعة في عزة المؤمن وكرامة المجاهد (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) إن هذا الشباب المؤمن قد استيقظ على صحوة قلبية ومتعة روحية وسلعة غالية (هي الجنة) لم يعد هذا الإنسان الجديد في خاطري شكلا أو صورة. لقد أصبح في عقلي وقلبي – عقيدة – روح وريحان خلق وسلوك وعي وحركة. قلب صادق ودود روح هفهافة ولسان رطب – عين فيها بريق الإيمان والأمل والحياة.(1/116)
أخي هذا ما كنت أنشده قد ولد من جديد، أراه قد انتفض واستنهض من نكسة وانتشل من غرق وأفاق من غفوة وغفلة. وتنبه للحياة الحق فوقف في أعلى قمة في الوجود يهتف [ لا إله إلا الله محمد رسول الله].
أخي الحبيب.. أعود إليك مرفوع الرأس مدفوعا بالأمل الذي لن يخبو في نفسي أبداً محصناً باليقين الذي تزيده المحن رسوخاً وقوة – لقد رأينا من الآيات الربانية ما ثبت الله به أفئدة المؤمنين (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) آيات أبلج من الشمس في رابعة النهار. لقد رأينا قدرة الله تعمل معنا في غير حول لنا ولا قوة من جار يأوينا ولا سلطان يحمينا.
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
الرسالة التاسعة عشر
أخي وإبني الحبيب
والبنوة هنا ليست بنوة نسب وإن كان ما بيننا من نسب يضاعف من قيمة الصلة التي تربطنا، والحقيقة أن الصلة التي أستشعرها نحوك هي فوق كل هذا بل أعمق لأنها صلة العقيدة ورابطة الإسلام والعقيدة أغلى شيء في الوجود.
"يابن آدم جعلتم نسبا وجعلت نسبا فقلتم فلان ابن فلان وقلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم. فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم" حديث قدسي.
ولعل هذه أول رسالة أسطرها لك.. كنت أود أن أوجهها لك حديثا تسمعه مني كلمات. غير أني أحسست بل خشيت أن تغلبني عاطفتي في هذا الموقف الحزين الأليم الذي يدرك فيه الإنسان فداحة المصيبة – فالحزن عندما يكون على قيم فقدت وأشواق وعواطف انطفأت فلا تعود فالحزن لا يسكن ولا يهدأ. إنها مصيبة غيث انقطع ونور انطفأ ونفس طاهرة لن تعود إلينا في هذه الدنيا.
الرسالة العشرون
إبني الحبيب(1/117)
رغم ما أحسه من حزن يخيم بالصمت وعدم الانشراح، رغم ما أجد من ضيق وألم رغم هذه المشاعر المتألمة، فإني أسعى إليك كاتبا وإلى قلبك مخاطبا فإني أعلم أخوتنا لم تكن ملكا لأحدنا دون الآخر. بل هي في الواقع ملكٌ لهذا الدين الذي آمنا به بعقيدة صادقة وفهم وإدراك. لهذا فلن أدعك مخاصما ولا أتركك مجافيا ولا أبتعد عنك. وليس ما قد وصلني عنك يُغير من قلبي نحوك ولا يضعف من صلتي بك – فلست بالذي لا يدرك الحياة والأمور على حقيقتها لست هذا الإنسان الجاف الجامد.
وإنما أنا قلب يحترق وضمير يتأرق ونفس تهفو إلى أسمى ما تزكو به النفس وتتطهر به الروح وترقى به المشاعر. فكلما ارتفعت أنت في هذا النور شأنا كان ذلك انتصاراً للحق وإنصافا للدعوة والتماسا للشباب أن يجدوا فيك القدوة ويحمدوا للدعوة أن صنعت رجالا وحققت أحلاما، ويكون لك بهذا أجر لنفسك إن استقامت على الحق والهدى، على أن تكون شمعة تضيء لغيرك سبيل الحق والاستقامة.
( أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم).
الرسالة الواحدة والعشرون
أخي الحبيب
فرحتي لا ترى بالعين وإن كانت قد حركت كل جوانبي وهزت كل مشاعري وأيقظت مني كل ساكن. إن فرحتي فوق تصورك مهما حاولت أن تتذوقها من جانبك إذ أن العثور على قلب مؤمن في هذه الحياة أمر شاق وعسير. فإذا أكرمنا الله تعالى بهذا القلب فهناك زينات وأفراح تقام في أعماق قلوبنا وأنوار مشرقة تضيء في جوانب نفوسنا وحياة منعشة تجدد شبابنا.. صورتك اللطيفة المهذبة روحك الهفهافة المؤنسة نظراتك العطوفة الحانية وعواطفك النقية التقية، كلماتك التي تكاد تتحرك على القرطاس والتي تكاد تسمع صوتها كأنين الثكلى ودموعك الحارة الساخنة التي أحسها تسقط على قلبي فتشعله نورا وتضيء جوانبه بالفرحة والسعادة. قلبي الذي تخاف أن يفلت من يديك ويسرقه غيرك. إن هذا القلب غاص في المحيط – محيط الدعوة الواسع الفسيح – مذاقه حلو عذب رقراق.(1/118)
الرسالة الثانية والعشرون
أخي الحبيب
إن الكتابة رغبة والأسلوب موهبة والتعبير حركة انفعال، وبقدر هذا الشعور بقدر ما يلتحم العقل بالقلب، فقلما يتصل بالقلب إلا في الحب، والقلب هو مستودع الحقائق الظاهرة والباطنة وأروع ما في خزائن القلوب هو الإيمان والحب، وكثيرا ما يخجل المحب من الحب، فترتعش الشفاه وتبرق العيون وتصمت الكلمات.
لهذا كانت النظرات ملحمة أرواح وعواطف سريعة كلمح البصر أو هي أقرب. والقلوب تتذوق من خلال تألق الروح أو ومضة من قبساتها.
وكلمة الحب في الله تعالى لها منازل ولها مواقف. فهي اليوم في ظروف ما أصابك في حادث السيارة – ألذ شراب وأشهى طعام وأمتع متعة وأنعم نعمة. فكلما رقت القلوب من محنة الألم توهجت معاني الحب وقويت روابط القلوب وتساقطت الذنوب واستجاب الله الدعاء (ودعوة المريض حتى يبرأ) وصار الحب في الله تعالى في وحدة الغاية والهدف والأمل بعيدا عن رغبات النفس والهدى – لهذا كانت فتنة الاعتقال والسَّجن والتعذيب في منطق الأعداء هي القاصمة ولكنها في منطق الحب في الله تعالى هي التي تجمع وتربي وتزكي.
إن الظروف التي تعايشك وتعايشها قد أشعلت قلبك وأطلقت مخزون عواطفك وحصدت بها رصيد النظرات والابتسامات والكلمات والخطوات المخلصة التي أحاطت بك. فرأيت بقلبك أضعاف ما تراه بعينك. وكان الألم المقدور محطة على الطريق، حقيقة جديدة في عالم الدعوة التي هي في الواقع (أحداث ومواقف)، (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) فمن خلال المواقف والأقدار تتكون معادن الرجال وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
الرسالة الثالثة والعشرون
أخي الحبيب (إلى الدكتور الحبر يوسف الدايم – الأستاذ بجامعة الخرطوم)(1/119)
أكتب لك هذه الرسالة بعاطفة تفيض حبا لشخصك الكريم الذي أحببته منذ رأيته لأول مرة في مطار فرانكفورت وكان يوما بهيجا مشرقا متلألئ ثناياه واضحات بينات كاللؤلؤ المكنون. وناهيك عما حدث وكان. مما ظل أثره في كل لقاء وفي كل مكان.
أخي الحبيب – صدقني أنني معجب بشخصك لأسباب كثيرة تتجاوب فيها معي بلا قيد ولا مقدمات – ذلك هو تفاهم تام واتصال كامل بين قلبينا وتعانق حار بين روحينا. وأعظم من ذلك تلك السماحة السمحة اللطيفة في تقبل حديثي معك بما لا يغضبك. ولعلك تكون قد أدركت أنني (سيسي) ولا عتاب على الأحباب!؟.
والحقيقة أقول لك. أنني أحب الإخوان (السمر) ولا أدري أهي فضيلة أم لأنني من نفس الفصيلة!.
فإذا كنت أسمر بنضارة وأيضا تلبس نظارة فتلك من دوافع الحب ومؤهلاته وتلك نعمة (والطيور على أشكالها تقع) أين كنت من زمان وعايش لوحدك في السودان في غربة هذا الزمان.. ولكن لا غربة بين المسلمين – (وطني الإسلام لا أفدي سواه – وبنوه أين كانوا يا إخوتي).
الرسالة الرابعة والعشرون
أخي
قرأت رسالتك المسطورة، تشكو فيها العواطف التي تبدلت وحرارة الحب التي بردت والمشاعر التي خبت وتبكي الأيام التي خلت – حيث كان نعيم الحب يكسو الحياة بالمتعة والسعادة – ويضفي عليها البهجة – وكان الشوق إلى اللقاء يتوقد وعلى الدوام يتجدد – كانت النظرات في حياء وصفاء لا يحجبها غبش ولا يردها أسف – وكانت الكلمات تنساب في جداول القلوب لا يعوقها ظن ولا تعكرها شبهة.
كانت أحلى النظرات وأطايب الكلمات دستور تعاملنا وضمير علاقاتنا واليوم تئن القلوب أنين الثكلى بأشواق محزونة وعواطف مهزومة لأسباب مجهولة لا تريد أن تفصح عنها – ولو كنت أجلس وأستمع منك – لقرأت ذلك على صفحة وجهك ونبرات صوتك واستحياء كلماتك – ولكن أنى لي ذلك والبعد البعيد لا يعطي الإنسان ما يريد.(1/120)
فالحب ما كان لله دام واتصل حيث لا يعكره إثم ولا يعوقه ذنب. كما يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي (أحب ولكن في ضميري عقيدتي وديني). فالعواطف أمواج تحرك الأحاسيس والمشاعر فلا تدعها تموت من فتور أو ركود – وأحيانا تنقلب العواطف إلى عواطف تخلع ثوابت الحب وتزلزل قواعد الثقة وتباعد بين القلوب – فقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرقُ بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما"، والله تعالى يحذرنا في قوله (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعضٍ عدوٌ إلا المتقين)، فانضباط العواطف على قواعد الشرع يحفظ موازين الحب في الله ويديمه مدي الحياة.
الرسالة الخامسة والعشرون
أخي الحبيب
لقد عشت مع نفسي على انفراد فترة طويلة – عشت بعضها مع بعض الكتب وبعضها مع الخواطر.. فرأيت أن أتحدث إليك بهذه الرسالة استشعارا مني بوجودك معي حين طال غيابك عني، وشعوري هذا هو الحقيقة التي قد تغيب عنك وعن بعض من أحب. أتمني لو تتكشف لهم حتى يتذوقوها – وهو شعور يتيم بعد أن تركت ورائي هذه القلوب الحبيبة. لقد بدأت أحس بالوحشة وأتنسم على البعد عبير هذه المشاعر الندية التي عشت في رحابها ونعمت في ظلال حبها.. إنني أتحسس طريقي على صدى هذا النغم الحلو وهذا النشيد العذب عساي أجد الواحة الظليلة والقلوب الكبيرة التي تضمد الجراح وتخفف الآلام وتواسي الأحزان وتمسح على جبين المعاناة. لأن القلوب المؤمنة ترى من صميم العقيدة أن تسعد الناس بالسعادة التي منَّ الله تعالى بها عليها، فلا يستريح له بال ولا يطمئن له خاطر حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه – إنه يتمنى أن يتذوق الناس جميعا طعم هذه الحلاوة. فهو يتلطف في حديثهم ويتودد بقلبه إليهم ويبذل من ذاته وجهده ووقته ليصل إلى قلب تزداد به كتيبة الإسلام قلبا جديدا.
الرسالة السادسة والعشرون
أخي الحبيب(1/121)
في رسالتك الكريمة تسألني سؤالا وتطلب مني أن أجيبك عنه في صراحة ووضوح لأنك تعلم يقينا أهمية هذا الموضوع ولزوم صدق التعبير عن مكنون نفسي وشعوري وتذوقي حين إجابتي عن هذا السؤال.
وحين قرأتك وأنت تسأل [ أيهما أولي بحبك من تحبه أو من يحبك؟] شعرت في الحال كأني في لجنة امتحان آخر العالم. فالسؤال مفاجأة لم أكن أتوقعها ولكني استجمعت قواي الروحية لتواجه تلك المفاجأة التي أدهشتني كي أرد عليها بنفس العاطفة ونفس الشعور. إذ أن هذا السؤال وارد ولكنه مستور في أعماق النفس والشعور، حيث أن فلسفة الحب في الله لم تكشف أسرارها وأغوارها النفسية بالبحث والصراحة في حركة الدعوة الإسلامية التي تأسست على العقيدة واشتعلت بالحب وانتصرت بالجهاد والصبر.
فالإجابة على سؤالك ليست سهلة لأنها ليست عملية حسابية تنضبط بأرقام ولكنها في الصميم عملية قلبية تتعامل بالأحاسيس والعواطف والمشاعر فإذا كان حبك ينصب على الشخص الذي تحبه دون سواه، فهو حب ذاتي لا يرقى إلى مستوى الحب في الله – لأن الحب في الله حب جماعي – (إنما المؤمنون إخوة) صحيح أن الحب يبدأ بالفرد على أساس دعوة. فالواجب أن تحب على مستوى الطرفين ثم على مستوى جذب الأفراد من تحبه ومن يحبك. وأن تحب من لا يبدي لك حبه حتى يحبك (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً والله قديرٌ والله غفورٌ رحيمٌ) لأن دعوتنا تجمع وتبني. فمن أجل نصرة الدعوة يكون حبيبُ الحبيبِ حبيبا – ومع هذا فقد تحب إنسانا بصدق الحب ولكنك لا تدري موقعك في قلبه!
"أنت الحبيبُ ولكني أعوذ به ... ... ... من أن أكون محباً غير محبوب"(1/122)
ولهذا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حث على تبادل الحب فقال في حديثه الشريف "لو تحاب اثنان في الله تعالى كان أقربهما لله تعالى أشَّدهما حبا لصاحبه"، فإذا حكمنا العقل والمنطق فإن من يحبني هو أولى بحبي – وإذا حكمنا العاطفة دون العقل فإن من أحبه هو أولي بحبي. وأما سعة الحب في الله تعالى وعالميته فإنها تدعونا أن نحب كل من يحب الله ورسوله ودعوته والحب على هذا المستوى يشمل مساحة لا حدود لها من قلوب وعواطف وأشواق كل المسلمين على وجه الأرض.
الرسالة السابعة والعشرون
أخي الحبيب
منذ تسلمت رسالتك وأنا معك على الدوام أعود إليها كثيرا لأخفف عن نفسي الكثير من المتاعب التي نعايشها في هذه الحياة والتي أعتقد أنها من طبيعة الأشياء ومن هنا كانت الكلمات الصادقة إيناسا للنفس وراحة للقلب وحياة للروح، وكانت تلك العاطفة المشرقة كالماء البارد في صيف شديد الحرارة. ولا تنس أخي أن تلك المشاعر والإيناس هو شعور بقيمة الإنسان وذاته ووجوده الحي على وجه هذه الدنيا. فالإنسان الذي لا يجد قلبا يؤويه أو روحا تسري فيه فتسري عنه همومه وتأخذ بيده إلى الحق والصواب. إنسان يعيش في تيه لا ساحل له ولا مرفأ يستقر عليه، لهذا كانت صلتنا وود قلوبنا سعادة ورحمة مهداة من الله تعالى – ولعلك أدركت ذلك من الواقع الذي نعيشه.. ومن فضل الله أنك قد أدركت ذلك من زمن بعيد – يوم كنت لا أدري نفسي ولا أعرف لي غاية ولا هدف ولا مصير اللهم إلا متاع الحياة الدنيا وزينتها. فلما أدركني الله تعالى برحمته وهداني إلى واحته، تغيرت حياتي وكأني قد ولدت من جديد لهذا فأنت أيها الحبيب سعيد ومسعود بما حباك الله من فضل حيث وفقت إلى هذا الطريق وتلك نعمة تحتاج إلى الشكر وتحتاج إلى تدعيم الشكر بالعمل المتصل والصبر الجميل.
الرسالة الثامنة والعشرون (الرسالة إلى أخ فلسطيني في المدارس الثانوية)
إبني الحبيب(1/123)
إن هناك غذاء لا يتوفر في الأسواق مهما بحثت عنه لا تجده إلا في نفحات القلوب ورقة المشاعر وصدق الحب في الله، تستطيع أن تغذي جسدك وتملأ معدتك بأي أنواع الطعام! ولكنك لا تستطيع أن تملأ روحك وتغذي قلبك إلا بأعطر المعاني وأزكى الكلمات وأطهر العبارات ولا يتأتى ذلك أيها الحبيب إلا من هواتف قلوب متحابة غاية الحب في الله تعالى – إذا رأيتها أيقظتك وإذا غابت عنك تلمست السبيل إليها بهواتف القلوب. يعيش معها وتعيش معه لا يفرط في حقها ولا تخدعه ظروف الحياة عن الوفاء لها.
إن الحمام ينوح من ألم النوى ... ... وأنا أنوح مخافة الديان
نوح الحمام على الغصون شجاني ... ... وَرَأى العذول صبابتي فبكاني
هذا حال الحمام فما بالك بحال القلوب الذواقة المشتاقة.
عيون للسماء تبوح سرا ... ... وقد تغني العون عن البيان
أحاسيس تبدت في نفوس ... ... فأيدتها العيون بلا لسان
حين تعرفت بك وأحببتك كنت على يقين من أنك مذخور بهذه المعاني ومشحون بهذه العاطفة – وكنت ولا زلتْ أقصدك منبعا يفيض بهذه المشاعر على من حولك وأن يفتح الله بك سبيلا لحياة القلوب والأرواح.
الرسالة التاسعة والعشرون (رداً على خطاب إحدى الأخوات الكريمات في مصر)
الأخت الكريمة(1/124)
رسالتك اللطيفة أعود إليها أكثر من مرة. رغبة مني في استنشاق عبيرها واسترواح مناخها والعيش في رحابها. فقد نقلتني هذه العاطفة من خمود إلى حركة وحيوية وهذا شأن الصدق في التعبير والاتجاه، وهو رد فعل صنعته دوافع روحية عميقة، فكان لابد له أن يصل إلى القلوب بقوة هذا الدفع الرائع فإن قوة الروح المدعومة بعاطفة الإخلاص هي أقوى المداخل إلى نفوس الناس ومفاتيح قلوبهم وأفكارهم. فإن رجال الرياضة البدنية يتعاملون بقوتهم البدنية والعضلية – أما رجال الدعوة الإسلامية فإنهم يتعاملون من منابع أرواحهم وأريج قلوبهم (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ) من هذا المنطلق الذي وهبك الله تعالى. أرجو أن يكون له شأن في تدعيم روح الحب والأخوة بين من تعيشين بينهن من الزميلات – اللواتي هن في حاجة ملحة إلى تلك العاطفة المشرقة. التي تهدهد من المعاناة من عذاب تلك الحياة فالنفس البشرية تميل بطبعها إلى من يخفف عنها ويلطف الجو حولها.
قرأت فيما قرأت لك [ لست أدري كيف أشكرك على اهتمامك البالغ بتلميذة صغيرة جدا.. ] صدقيني إنها رسالة رائعة بل رسالة قلب وليس للقلوب سن بل الإنسان بقلبه وإيمانه.. صدقيني أنني أرحب بكل رسائل الإخوة والأخوات وأسعد بالرد في الحال. لأن هذا كما تشعرين فيه حياة وأنس وسعادة وتجديد لمعلومات ومفهومات. فضلا عن أن الكتابة تفجر ينابيع وتلهم المعاني وترقق القلب وتعين على الصبر وتؤدي رسالة الدعوة بأحسن ما تكون الوسيلة، أو الوسيلة التي هي أحسن.
وتقولين [ ولا سبيل إلى تجافينا بعد هذا الارتباط الحميم] وكيف أجافي من بدأني بالسلام وصاحب السبق له فضل.. كيف أجافي قلبا سعى إلى قلبي كيف أجافي سر وجودي وحفيف روحي – كيف يعيش أمثالي بلا قلوب تتعانق وأرواح تهفو على البعد البعيد.
الرسالة الثلاثون (إلى أخ كريم طيب في لندن)
أخي الحبيب(1/125)
لا تزال أعماق الروح وهواتف القلب ومنابع الروحانية مجهولة عند البشر ويوم يتذوقونها ويستشعرونها سوف تتغير سلوك وأخلاق وعادات تنقلت بها الموازين البشرية (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) ولهذا أخي الحبيب إنني حين قرأت رسالتك شعرت بالتجاوب العميق والتقابل الوثيق والاتفاق فيما يجمع بيننا من شعور ومشاعر وهواتف، هي أسمى ما بلغته الإنسانية من رقي في الذوق واللياقة والحضارة والأدب، وسلوك الحواس بل وثقافة الحواس، تلك أعظم معالم شخصية المسلم، فإنها بتحركها الحية المشرقة المضيئة تعلن عن حسن الخلق، وأدب الكلمة وخشوع النظرة وحسن اللقاء والاستماع، والرحمة والتواضع، وخفض الصوت، ورقة الابتسامة، وخفض الجناح – كل ذلك إنما هو حركة الحواس ويقظة في الوجدان والمشاعر.. والإنسان الذي لم يستخدم حواسه كما أرادها الله تعالى. فستبقي مظلمة معتمة جافة – وهذا هو الإنسان (الميت) (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
خطابك هذا ينطق بتلك المعالم المتوهجة وتلك المعاني التي تعبر عن مكنون صادق كريم فإذا أضفت إلى كل ذلك، القلب الفتي والعقل الذكي والروح النقي فقد تربعت على قمة من الحب في الله تعالى.
الرسالة الواحدة والثلاثون
أخي وإبني الحبيب
تلقيت اليوم رسالتك المشحونة بالعواطف والتي تشكو فيها نفسك لما تحسه من شعور جارف بالحب نحو أخ شغل عليك تفكيرك وملك منك الجوارح حتى أنك لا تطيق أن تبتعد عنه ساعة من نهار أو ليل، وتحس بضيق وغضب واكتئاب نفسي إذا رأيته يمشي مع أحد غيرك فلا يطيب لك طعام أو شراب بالرغم من أنه يحبك أكثر من الآخرين.(1/126)
وقبل أن أسرد عليك ما أحسه نحوك بما جاء في رسالتك أرجو أن تعتبرني أخا كبيرا – أقدم لك النصيحة وخاصة أن مثل هذه الحالات تحتاج أن يتغلب العقل على شرود العاطفة. فالحب في الله تعالى مشروط بقواعد شرعية وآداب إسلامية. فلا يتعداها سواء إلى التفريط أو الإفراط – فالحب في الله ارتقاء بالعواطف والمشاعر إلى مستوى الانتساب إلى الحب "في الله" وهو الحب على مستوى الطرفين بميزان بعيد عن الذاتية والأنانية – فليس الحب في الله أن تذيب نفسك في نفس من تحب وحدك. فالحب في الله هو رباط كل القلوب بكل القلوب لينشأ من هذا الحب صرح الوحدة الإسلامية، فأنت تستأثر وتحجب روح الحب عن القلوب وتجعل من تحب أسير حبك وحدك، وهذا طغيان عاطفة وقصور عقلي. تجعل عند وجودك ضياع لوجوده وتقليل من حقوقه وتعطيل قدراته، وتعوقه عن حرية الحب في بساتين القلوب وتعطل مواهبه الروحية والجمالية والأخلاقية من أن تنطلق وتعمل في محيط الدعوة الممتد الفسيح لتكون أداة محببة وجاذبة تجمع على الدعوة كل مسلم أشرق في قلبه نور الإيمان.
[تحبب فإن الحب داعية الحب ... ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب]
ولتعلم أن الأخ الذي تحبه كنز مفتاحه الحب فضعه في مكانه اللائق الكريم.
وكل من يعايش ظروفكما ويرى سلوككما ليس بأعمى ولا غافل. فينقلب الأمر إلى مشكلة أخرى كما يقال في المثل (إللي يحب نفسه تكرهه الناس) (ومن لم تكن في الله خلته... فخليله منه على خطر).
والغريب أخي الكريم.. أنك تغضب وتتألم حين يمشي أخوك مع أحد غيرك. فأنت بهذا الشعور وهذا السلوك قد اعتبرت الأخ الكريم (أسير) حبك تتحكم في شخصيته بما تراه وتهواه – وكيف تكون أنت حر في تصورك وتصرفك ولا تدعه هو كذلك!!
إن الحب في الله أن ترقى بمن تحب إلى مستوى التقدير والاحترام حتى يحس أنه شخص على مستوى يحبه كل الناس. فتشعر أنت بالفخر والاعتزاز أنك تحب أخا يضعك في مقام كريم.(1/127)
والأخ الذي تحبه لا يمكن في كل مناسبة أن يتحدث ويكرر أنه يحبك إن ذلك شأنه أن يفرغ كلمات الحب من قاموس العواطف وتكون بذلك قد استنفذت رصيدها – ولا قيمة لكلمة الحب إذا قيلت لفظا فإنها ستكون نغما يشجي لحظة وينطفئ. إن أجمل وأنقى كلمات الحب تلك التي تسمعها بقلبك.
وختاما أخي أقول لك، إنك قد جاوزت حد الاعتدال في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أحبب حبيبك هونا ما) فشعورك هذا الذي وصفته بصدق وأمانة لا يمكن أن يبقى مشتعلا على هذه الصورة الملتهبة. فإن الأيام والظروف سوف تعمل عملها حتى تستقيم وتستقر العواطف على طبيعتها. فمن المحال أن يدوم هذا الحال إذ لا بد من مجالات وتغييرات مختلفة قادمة على حياة كل منكما سوف تغير من هذه الثوابت المؤقتة. حتى تستوي العواطف على الجودي.
الرسالة الثانية والثلاثون (من أخ مصري طبيب)
أبي الحبيب
إنه لا يُطفئ الشوق إلا اللقاء. لقد تعب قلبي من الانفعال العاطفي الذي يشعلني.. الحقيقة أنني عندما بدأت هذه الرسالة كنت في حيرة قبل أن أخاطبك (يأبي الحبيب) ولكنني لم أجد غيره في قلبي كي أعبر به عن شعوري نحوك – فإن شعور التلميذ تجاه معلمه محدود بالدراسة وفضل تعلمه على يديه، وإذا خاطبتك بلفظ "أخي" فإني أجد في ذلك خجلا من شخصكم الكريم.. ولكني أناديك بأبي لأني وجدت لديك عاطفة ورحمة وروح المعلم الحريص على ابنه، أنت أخ كبير سقى بذرة الحب التي غرسها الله سبحانه وتعالى في قلوبنا لتنمو وتصبح شجرة باسقة صحيح أنني لم أمكث معك فترة ولكن ما تعلمته منك كان عظيما.(1/128)
لقد قرأت الجزء الأول من الدعوة إلى الله حب. وبكيت حين وصلت إلى قصة "كوب الشاي" التي كانت سببا في تعارفنا، فكانت ساعة ميلادي ويقظة قلبي – وقرأت الجزء الثاني لأجد كلمات من رسالتي إليك فجرت الدموع من عيني مرة أخرى. تذوقت كل كلمة فيها على لساني ومن صميم قلبي وتجولت بين معاني الكلمات كمل ترفرف النحلة على الزهور تمتص رحيقها، فكانت كلماتك الصادقة غذاءً لقلبي وإنعاشاً لروحي – تعبيرات جميلة وأسلوب عذب.
أبي الحبيب.. قد يتعب الإنسان حتى يصل إلى الإرهاق الشديد – ثم يلتقي بمن يحب من إخوانه فتمسح نظراته وكلماته تلك المعاناة وتذيب هذا العناء، وهكذا كان اللقاء والحديث وكانت الرحلة والسياحة وكانت الكتابة من العوامل التي تخفف وطأة متاعب الحياة، فلا أستطيع أن أعبر عن مدى سعادتي وأنا أسطر إليك خطابي – فمنذ قليل كنت في غاية الإرهاق والآن أنا في غاية السعادة.
الرسالة الثالثة والثلاثون (من أخ كريم من سوريا)
والدي الحبيب
فقد قرأت رسالتك وتأملتها مليا وقد سكنت قلبي دفئاً وأنساً وأضافت إلى فهمي مفاهيم جديدة فجزاك الله خير الجزاء.. وقد خجلت من نفسي أيما خجل عندما وجدت هذا الاهتمام الذي لا أستحقه وهذا الإصرار على رؤيتي ولقائي وأنا أقابلك بالإعراض والإدبار. فكنت كالإبن العاق الذي قاطع أباه، وأحسست في قلبي جفافا وقسوة تجاهك وهذا يصفني به الأخ (....) بأني جاف العاطفة.
أخي الكريم.. لقد وجدت فيك نموذج الأخ الكبير الذي تسمع عنه ولا تراه وأعجبت بخلقك المتواضع وبساطتك اللطيفة مع إخوانك وأبنائك وكم أود لو اندرجتّ هذه الصفة على بقية الإخوة لزادت الأواصر أكثر فأكثر.(1/129)
أخي الكريم أصارحك أني في بداية الأمر ومن أول لقاء معك عندما وجدت منك هذا الاهتمام بي. تساءلت في نفسي. هل هذا الاهتمام وهذه العواطف هي فقط لمساعدتك في أداء مهمتك أم هي حقيقة! واعذرني على هذه الخواطر فقد مررت بتجارب جعلتني أشك في حقيقة البسمة والكلمات الطيبة، وجعلتني لا أفتح قلبي بسهولة حتى أستيقن من حقيقة ما يقابلني به الشخص. وأنا أظنها صفة سلبية وأرجو زوالها مع الزمن. كما أنتظر منك الرد ووصفة العلاج أطال الله في بقائك.
الرسالة الرابعة والثلاثون (من أخ فلسطيني طالب بالصف الثالث الثانوي)
أبي أبي الحبيب
منذ عدة أيام خلت ودعت قلبا عزيزا عليَّ جد عزيز وكان وداعا من نوع خاص وعجيب!! لقد كان وداعا لا لقاء بعده.. عاش معي مع كل نبضة سعادة وفرحا.. وشاركني في كل نبضة ألم وأسى.. كان منبع عاطفتي وأريجها ومصدر أحاسيسها وأزاهيرها. منه انبثقت عاطفة صادقة.. ومشاعر أمينة وأحاسيس حارة إلا أن حوادث الدهر أتعبته وآلمته. ومستنقعات الغيرة وحب الملكية الآثمة عكرت صفوة وقتلت صدق عاطفته، وكتمت حرارة حبه ووجده. فلا أشواق يزودني بها ولا أحاسيس يمدني بحيويتها، وشَرَع يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهو ينزف ألم الأيام ومكابدة الليالي – ثم فقدته فلم أجده.. إنه قلبي. حقا لقد فقد عنصر التجديد فلم يعد قادرا على مواصلة السير في هذا الطريق.
أسمعت عن فتى عاش فترة من الزمن بلا قلب؟ بلا أحاسيس وأشواق من طبعي أن أحب التجديد والتغيير.. لا أحب أن أعتاد على شيء فأفقد وطفقت أبحث عن عالم حب في الله جديد – وأخذت أبحث عن قلب نقي طاهر وأحاسيس ربانية عفة.. أتدري لماذا يا أبي الحبيب؟ حتى أخاطبك (يأبي الحبيب) أكون مدركا لمعنى هاتين الكلمتين.. حتى أخرجهما بصدق وشوق وحنين. وما احتجابي واحتجاب رسائلي عنك إلا لفقدان هذه الأمور.
الرسالة الخامسة والثلاثون (من أخ سوري طالب جامعي)
والدي الحبيب(1/130)
لقد زرعت في قلبي بذورا أثمرت وستبقى إن شاء الله ما حييت مثمرة وإن تلك الأيام التي قضيتها معنا في النمسا قد أعادت إليَّ ما كنت فقدته بعد خروجي من سوريا – إن ما أجده من معاملتك للإخوة ومراعاة لشعورهم والسؤال عنهم ما أجده بالمقارنة لحالنا شيئا جديدا.. ولكن أحزن عندما أرى هذا النموذج المثالي وأرى بعض الإخوة الذين تؤتى الجماعة من قبلهم بتصرفاتهم وسلوكهم ولا أعرف كيف أتصرف معهم.
فهذه الرابطة وما تعطيه من شحنات ربانية تدفعني مراحل وخطوات إلى الأمام ومن حين لآخر أعاود قراءة رسائلك التي عندي فأستشعر ما بها من معان عميقة صادقة – وكل مرة أكتشف معاني أخرى وتتضح لي الرؤية من خلال تلك المعاني فقد استشعرت بحق حين قلت لي إن الفرق بين الداعية ورجل الدعوة كبير فكن رجل دعوة. وكذلك عرفت منك كيف يسعى الأخ إلى قلب أخيه بكل مشاعره وأحاسيسه إنها معان لا يكسبها الإنسان إلا بالتجربة والعمل والأيام وهي وسيلة للعلم وكسب والدي الحبيب.. لقد أحسست بعد اتصالك بالهاتف برغبة في الكتابة إليك وقلت في نفسي إن شاء الله غدا صباحا أخط لك رسالة – ولكن الرابطة التي ربطتني بها جعلتني أحس في أول النوم بصوتك وكلامك فقمت في الحال وحررت لك هذه الكلمات.. فقد أخبرتك في الرسالة الأولى أن قلبي فتح لكلامك دون إرادتي. فأجبتني بأن ذلك سببه الصدق والإخلاص في المحبة. فعرفت أن ذلك لا يتجلى إلا بالحب المتبادل بين الإخوان وفي إسعاد كل أخ للآخر وذلك بعمل ما يحبه ويحرك إحساسه. فهل يمكن أن تتجلى هذه المحبة على حقيقتها بين أخوين لا يراعي أحدهما شعور الأخر؟ وللأسف أقول لك والدي أن الإخوة في المركز الإسلامي لا يراعي أحدهم شعور الآخر، لذلك ضعفت الرابطة بينهم عن الواقع الإسلامي المطلوب منهم.(1/131)
وحتى يعطي الإنسان كل طاقاته وحبه للدعوة والناس يجب عليه أن يشعر بهذه العاطفة مع باقي الإخوة – وكيف يشعر بذلك وغيره لا يراعي شعوره ولا يعطيه حقه من العاطفة والحب – وحتى هذا الشعور الجاف يقابل به بعض الزائرين الوافدين من خارج دائرة المركز الإسلامي في صورة معاملة جافة.. مع أن دعوتنا دعوة تربية وجذب لقلوب عامة الناس ونحن نقرأ في كتاب الله تعالى (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
لقد تأكد لي من خلال عملك ورسائلك ما قاله (فضيلة الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة) وكرر (أن الإٍسلام ذوق).
وختاما إن عاطفة الأبوة التي حرمت منها في هذه الغربة قد حصلت على أضعافها بعطفك وحنانك وإنني والله لأضعك في مرتبة والدي.
الرسالة السادسة والثلاثون (من طالب فلسطيني بإحدى جامعات ألمانيا)
والدي وأخي في الله
وصلتني رسالتك الكريمة تفوح شذى ومحبة – كسابقتها – لا أدري يا أخي ماذا أقول بعد ما قرأتها عدة مرات – إذا كنت تحتار كيف ترد على كلماتي فكيف لا أحتار أنا أمام ما تكتبه لي من معاني الأخوة والحب.(1/132)
كنت أظن أن هذه الأيام التي سأقضيها في مدينة (كولونيا) في ألمانيا سوف تمر كسابقتها ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يرزق كل منا أخاً جديدا من حيث لا يدري فالله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب. ولا زلت أذكرك عندما كنت أنت والأخ علي في المطبخ ثم سألتني عن اسمي بابتسامتك.. ثم عندما سألتني ماذا أعمل. فقلت لك أعمل طالبا. فقلت عندها – يا طالب يا مطلوب – كثيرة هي المواقف التي تأبى مغادرة الذاكرة – إن لقائي بك وبالتالي التعارف الذي حدث وإن كان قصيرا فقد أحدث الكثير من التغيير من ناحيتي إن شاء الله نحو الأحسن، وأستطيع أن أقول لك إنك أفدتني بدروس كثيرة أشكرك عليها.. فقد رأيت فيك ما ينبغي أن يكون عليه الداعية مع من يدعو من صفاء ومحبة وصراحة، ترى ما الذي كان مقدرا لو أنك لم ترسل لي الرسالة الأولى. لا شك أن الحالة كانت ستكون على غير ما هي عليه الآن ولكن الله قدر غير ذلك.
كذلك لاحظت من رسائلك أنك تستعمل التاريخ الهجري. فقلت لنفسي مادامت الهجرة حدثا إسلاميا كبيرا غير تاريخ البشرية فلماذا لا تتخذه تاريخا.
وأريد أن أقول بأنك وفقت بحمد الله في رسائلك فكانت كلمات صادقة لها حرارتها، فكما كنت تخاطب في رسائلك وكأنك في مشهد حي، كذلك استمعنا لحديثك العذب النابض بالحياة في "مدينة ميونخ" والذي أبى إلا اختراق حصون القلوب وفتح أبوابها بكل سرور لاستقبال هذا الفيض من الحرارة الروحية.
وقبل أن اختم رسالتي أود أن أخبرك بأنَّ هناك أخا كريما من بلدي "اليامون" في الضفة الغربية يدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في مدينة "القدس" فقد كان عنده كتابك (حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية) وعندما رأيت الكتاب وعليه اسمك أخبرته عن بعض الأشياء عنك ويبدو أن الشعلة قد جذبته – فالضوء في الظلام يؤنس ويجذب وقد بعث برسالتين فيهما سلام لك وأرجو أن أكون قد بلغت الأمانة.
الرسالة السابعة والثلاثون (من طالب بالصف الثاني الثانوي)(1/133)
أبي ومعلمي وحبيبي
عندما تقابلنا عدة مرات كنت أنتعش بسماع صوتك وحديثك وفي المرة الأخيرة وعدتك بأن أكتب لك رسالة وها أنا أوفي لك لأنني أحبك في الله حبا شديدا لأنك من تلامذة الإمام حسن البنا. وهأنذا أقول لك ردا على ما قلته لي ( أحبك الله الذي أحببتني من أجله) وفي رسالتك لي عتاب لأنني قلت لك عندما سألتني لماذا لا تتكلم؟ وأجبتك (أنك قد أحرجتني) ما كنت أود أن أقولها لو أعلم أنك تأثرت كثيرا بهذه الكلمة، وأنني كنت صامتا معك فها تقبل أسفي!!
أبي ومعلمي وحبيبي.. إن الأخوة شيء عظيم ولولا الأخوة ما أحسست بلذة الحياة.. وأن ترابط القلوب بعضها ببعض شيء عظيم في حياتنا وأن الأخوة التي بيننا ليست أخوة زائفة. بدليل أنني عندما أكون وحدي أحس بضيق كبير وحزن في قلبي ما لم يكن معي أحد من الإخوة لدرجة أنني في يوم من الأيام هربت من المدرسة وذهبت إلى مدرسة الفحاحيل الثانوية كي أرى بعض الشباب – هذه المعاني العظيمة التي نحس بها هي سر من أسرار سعادتنا.
ولقد تأثرت بحديثك عن الثلاثة الذين خلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك – حين ذهب كعب بن مالك من الذين تخلفوا، إلى المسجد وكان فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكان كعب بن مالك يسارق رسول الله النظرة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبادله نفس الشعور دون حديث أو كلام؟
هذه الكلمات كان لها تأثير كبير على نفسي – وكل هذا لأنني عرفت حقيقة الأخوة – وأنها ليست دروسا تلقى. ولكنها أرواح وقلوب ومشاعر.. إنني آسف حيث كنت صامتا معك – أتمنى أن أجلس معك بعض الوقت ومعذرة لتقصيري، ومنذ اللحظة فتح الله قلبي لكل إخواني.(1/134)
أبي الحبيب.. لقد جلست معك عدة مرات – وفي مرة كنت تراني أبتسم فتقول للإخوة إن الأخ (....) قد فقه .. ولقد حدث هذا معي بالفعل، إنني يوما كنت أصلي في المسجد وبعد الانتهاء راقبت أحد الإخوة فابتسم لي وبادلته نفس الشعور فابتسمت له ثم صليت السنة وبعد الانتهاء لم أجد هذا الأخ ولكنني وجدته في صلاة العشاء فقلت له يا أخي لماذا لم تكلمني ولم تصافحني فقال لي – لقد فعلت ذلك – فقلت له؟ كيف؟ فقال لي بنظرتي الأولى لك فكأنني كلمتك – فدهشت لقول هذا الأخ كيف وصل إلى هذا المستوى ولكني أقول إنها دعوة حب وقلوب لا تقتصر على الأفكار والعقول.
الرسالة الثامنة والثلاثون (من أخ فلسطيني طالب بالمدارس الثانوية)
الأخ الوالد ..
إن هذه الرسالة هي أول رسالة مني إليك فأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يشرح لي صدري ويحلل عقدة من لساني كي أعبر عما في نفسي وما يجول في خاطري من حب صادق عميق تجاه أخي الحبيب حفظه الله.
إني لم أعرف قيمة هذا الحب ولا معناه إلا في ظل الإخوان الذين تعرفت عليهم فدخلوا قلبي وإليك قصتي في هذه السطور.
في أحد الأيام وكنت أتردد على مسجد (البيدان) فصليت العصر وخرجت وصليت المغرب وخرجت – وذلك بعد أن سمعت درسا من والدتي عن عقوبة تارك الصلاة – وبعد صلاة العشاء وأنا خارج من المسجد، فإذا بأحد الشباب يسلم ويتعرف عليَّ ثم يعرفني على معظم الشباب في المسجد. فصرت أتردد على المسجد لمدة طويلة وأزداد حبا لإخواني على مر الأيام. وتمضي الأيام وأذهب مع الشباب في زيارة للأخ الفاضل (.....) وهناك أسمعه يتكلم عن دعوة الإخوان المسلمون! وهناك في تلك اللحظة أندهش وأكاد أصعق.. فأنا إذن مع شباب من الإخوان المسلمين- الذين طالما سمعت عنهم من الأهل وغيرهم، فكنت أخاف منهم كما كان يخاف الناس – ولكني تمالكت نفسي وصبرت على هذا الموقف وتمضي الأيام وأزداد حبا لهؤلاء الإخوان الذين وجدت عندهم من الحب ما لم أجده في أهلي وأسرتي.(1/135)
وهأنذا اليوم أعتبر نفسي جزءاً منهم وهم في نفسي وقلبي، وأصبحت أعتقد تمام الاعتقاد أن هذا الطريق هو الطريق الوحيد لسعادتنا وسعادة البشرية جميعا – فيه نصرة الإسلام وعزته فأزداد تمسكا بإخواني وأمضي أدعو غيري من التائهين الحيارى إلى هذا الطريق وأحزن عليهم إذا ابتعدوا عنه.
ولا زلت أذكر لقاءك الأول في المسجد (العلبان) عند الشيخ أحمد القطان وجئت يومها معكم بالسيارة. لقد كانت كل نظرة – كل حركة – كل لمسةِ منك لها معنى ومقصد وكل كلمة كنت أسمعها منك كانت تزيدني ثباتا وتدفعني إلى العمل بجد ونشاط لقد حضرت لك بعض الزيارات في الديوانيات.. فكنت أخرج من الدرس وأشعر أني مقصر لأنني لم أدع غيري على هذا الطريق كنت تقول لنا فيما تقول.. إنكم قد جئتم إلى هذه الدعوة بابتسامة وسلام ونظرة وكلمة طيبة. فلا تبخلوا بهذه المشاعر وتلك الأحاسيس فإنها وسائلنا إلى قلوب المسلمين.
الرسالة التاسعة والثلاثون (من أخ فلسطيني طالب بالثانوية)
أبي عباس
أبي أكتب لك هذه الرسالة بعد ما غادرت بيتك يوم الجمعة فوصلت إلى منزلي متأخرا أي في حدود العاشرة مساءً – حيث فوجئت بالضرب على جسمي في كل مكان. وأبي يسألني عن سبب تأخيري؟ وأنا أجيب إني ذهبت عند شخص قد جاء من مكان بعيد وكنت أنتظره على شوق – ولم تعجبهم هذه الإجابة – فقالوا لا زيارات ولا شباب مسجد فدمعت عيناي على ما أجد وألاقي – ولكن صدقني إنني ما حزنت من ضرب أبي.. بل حزنت عندما تذكرتك وتذكرت الشباب وإلى متى سأظل بعيدا عنكم أيها الأحباب؟
ولا أدري إن كان هذا القلب الكبير الصغير سيسع هذا الحب كله أم لا ؟ وكل ما حدث لي إنما يدل على مدى حبي لإخواني وتعلقي وتمسكي بهم.
أبي عباس.. صحيح أنني ضربتُ من أبي.. ولكن كل هذا الألم زال وخف بعد ما تذكرتك وتذكرت إبتسامتك الجميلة.(1/136)
أبي.. أرجو أن لا تنساني بالدعاء في السجود وبعد كل صلاة وأن أحصل على الدرجة التي أريدها وهي 80% في الثانوية العامة وذلك كي أرضي أبي وأمي وأهلي وأكون بعدها سعيدا وحرا.
يا حبيبي. كتبت هذه الرسالة لك والعين تدمع وهي تذكرك فلا تخش شيئا فإني سأظل ملتزما بهذه الجماعة الطيبة وهذه الدعوة الصالحة في كل زمان ومكان وسأصبر الصبر الجميل. (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
الرسالة الأربعون
أستاذي وأخي الفاضل
إنني لست من هواة المراسلة – بل إنني كما يعهدني أهلي كسلان – والذي دعاني إلى مراسلتك هو حبي في التعبير عن مشاعري وعما في قلبي من حب وتقدير لك، وإنني أجد نفسي وقلمي عاجزا عن التعبير الجيد عن كل المعاني التي نبتت في قلبي بعد قراءة كتابك (الدعوة إلى الله حب).
ولكني قلت لأكتب لأن الشيخ عباس واسع الصدر، قلبه كبير كما عرفته من خلال الكتاب، وهو يحبني وسيستر عليَّ أخطائي.. نعم إنني الآن واثق بأن هناك شخص لا أعرفه ولم أره ولكنه يحبني رغم بعد المسافات وفارق السن وإنني أرجو الله أن يثبتني على طريق الدعوة حتى أظل ضمن من تحبهم.(1/137)
إنني استشعرت العاطفة الحارة القوية لكاتب كلمات وسطور كتاب الدعوة إلى الله حب – التي كنت وأنا أطالعها أستشف قلباً متدفقاً بالعاطفة الجياشة والقلب الكبير لكل أخ في الله على أي أرض كانت – لمستُ روحا شفافة وعرفت الأسلوب اللين الرقيق في المخاطبة – ثم خرجت بتصور تخيلت فيه شخصيتك من خلال قراءتي لكتابك، وإنني أعتبرها أمنية من أمنياتي وهي أن أرى شخصك الكريم وأن أحظى بسماع كلماتك العذبة عن قرب، إننا في حاجة إلى هذه المعاني التي ذكرتها في رسالتك – وإني أعتقد أن من استقرت في قلبه معاني الحب والأخوة في الله كما ورد في كتابك – فإن قلبه سوف لا يعرف الحقد والحسد والأنانية، وسيكون وجوده في أي مكان رحمة بحيث يفيض قلبه عليهم بالود والحب والصدق والحنان، وما أحوجنا في هذه الأيام لمثل هذه القلوب التي تجمع حولها النفوس وتشدها إلى الله تعالى.
أستاذي الفاضل – أريد أن أصارحك وأطرح عليك مشكلة تواجهني هنا وأرجو منك الحل إن سمح وقتك، إذ أنني أرى بعض الأخوة لا يبادلني نفس الشعور الأخوي الذي أبديه تجاههم، أزور البعض وأظهر لهم ما استطعت من محبة وود وتقرب ولكن لا يزورونني ولا أرى أنهم يتفاعلون معي كما أتفاعل معهم!! أحيانا تراودني فكرة أن أقاطعهم وأن أجافيهم حتى يشعروا بأنّ عليهم حقا وواجبا نهو أخيهم وأحيانا تراودني أفكار أخرى سرعان ما أتخلى عنها.
فلا أدري هل السبب والخلل فيَّ أم فيهم، ولا أدري ما هو الأسلوب الناجح في معالجة مثل هؤلاء الأخوة الفاترين، أرجو الإفادة وبارك الله فيكم.
الرسالة الواحدة والأربعون (من طالب في كلية الهندسة من أبناء الإسكندرية)
والدي الحبيب(1/138)
كان لي والد رحيم طيب القلب، كان يصارع في هذه الدنيا من أجلنا، وكنت أحبه – ما أحببت أحدا من الناس كما أحببته، وقد توفاه الله ليلة الجمعة من شهر رمضان – ولما قيل أنه قد مات، أحسست أن مسراتي قد ماتت لأنه تركنا ونحن في أمس الحاجة إليه، وقضيت بعده سنة وأنا ممزق القلب شارد النفس أعاني آلام الفراق وقسوة الشوق. وتخيلت أن الله سبحانه وتعالى قد كتب عليَّ الشقاء، وجاءتني الكآبة سافرة الوجه وكان الصبح يطلع عليَّ صبحا فاترا وما أحسست قط أني في يوم جديد كنت أدعو الله وأتوسل إليه أن ينزل علي غيثا من عنده فتحيا به نفسي بعد موتها.
أقول يا والدي.. أني لما علمت بموت أبي – استرجعت من فوري لهذه المصيبة. كما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن من يسترجع يبدله الله خيرا مما فقد ولكني لا أخفي عليك قد شاب نفسي ما شاب نفس أم سلمة رضي الله عنها من قبل عندما مات عنها زوجها واسترجعت وقالت في نفسها: ومن خير من أبي سلمة؟ ولكنه لم يمض وقت طويل حتى كانت معرفتي بك، وقتها أدركت أنك ستكون بإذن الله عوضا عن أبي، ستكون لي أباً آخر..
الرسالة الثانية والأربعون (من أخ كريم من أبناء مدينة رشيد –طالب بالثانوية العامة)
الأب الفاضل
الحمد لله الذي عرفني بك وجمعني معك على الخير وأدعو الله ألا يفرق بيننا. ذلك التعارف الذي غير وسيغير من حياتي – إذ أن حياتي إلى وقت قريب كانت الدعوة فيها شيئا كماليا، إذ كنت أعيش كي آكل وأعمل وأنام وإذا بقي وقت جعلته للصلاة – ولكن بعد أن تعرفت بكم وخرجت من رشيد، آمنت وأيقنت أن الإنسان لم يخلق إلا للدعوة الإسلامية.(1/139)
أيها الأب العطوف.. أنا أكتب إليك تلك الرسالة وبنفسي من الأشواق والعاطفة ما تمتلئ به نفسي، ولكني ظللت أكتم عنك أشواقي وولعي برؤياك، وكنت أتقابل معك كثيرا فلا تساورني نفسي مرة أن أخرج لك ما في قلبي، فالحب لا يظهر إلا في أوقات الفراق، ولا أنسى يوم تعرفت عليك وكانت السماء ممطرة ملبدة بالغيوم وكانت الحجرة التي تقابلنا فيها مظلمة لانقطاع التيار، وعندما دخلت أنت الحجرة وجلست إلينا ما كنت لأرى منك إلا بريق العينين وبياض الشعر، هاتان العينان اللتان تضيئان في الظلام، والنور ينبعث منهما سحرا يجذب إليه القلوب – وفي تلك الليلة ما رفعت عينيَّ عنك لحظة لأنني كنت أحس أن شيئا غريبا يشدني إليك.
الرسالة الثالثة والأربعون
والدي الحبيب
أطلب من هذا القلم الأصم أن يكتب ولكنه يقف عاجزا أمام تلك الدموع ليرسم ما في قلبي من عواصف عاطفية تجتاحني بين الحين والآخر، فأطير في شرود في نعيم الحب في الله تعالى، ثم أحلق في السماء عاليا لأبحث عن عش ألجأ إليه فلا أجد نفسي إلا وأنا بين قلوب إخواني المسلمين حفظهم الله تعالى.
نعم تلك هي الساعة الوحيدة التي أشعر فيها بنفسي وبأننا نعيش وحدنا في هذه الدنيا الغرور، وأن غيرنا جسد بلا روح يأكل ويشرب وينام. لا يعي ولا يحس وبذلك يبقى في غمرة وسبات عميق. إننا بحمد الله بأرواحنا نتقابل ونتناجى في ظل إسلامنا العظيم الذي كرمنا وشرفنا وأحيانا بهذه الأخوة الخارقة التي أنارت للبشرية طريقها إلى العلياء وتنال ما ترجوه من النعماء.(1/140)
كم أشعر يا والدي بفرح شديد يغمرني وراحة نفسية تملأني وصفاء ذهني ينسيني هموم الدنيا.. كل ذلك عندما ألتقي بك وأجلس إلى جوارك وأناجيك بروحي وأخاطبك بقلبي وعيني، فأتركك وقد شحنتني بذلك الحماس الإيماني الذي يكفيني لمدة حتى ألقاك مرة أخرى، ونبض كلماتك ترن في أذني تذكرني وترشدني إلى كل خير، فأذكرك بكل خير وأدعو الله لك بدوام الصحة والعافية كي تبقي لنا "أترجة" تمدنا بطعم الإيمان وتنعشنا برائحتها الزكية التي تملأ جونا بالحب والرحمة والأخوة.
الرسالة الرابعة والأربعون (من أستاذ دكتور مصري يعمل بإحدى ولايات أمريكا)
الأخ والأستاذ
بالأمس سعدت بتسلم رسالتكم الكريمة.. وردا على رسالتكم. أحب أن أؤكد أن زيارتي لشخصكم الكريم أمر لا أستحق عليه الشكر لأنه واجب ولمسة وفاء نحو أخ فاضل له في قلوب كل من عرفوه مكان وحب كبير، إنك بذلت الكثير نحونا حينما كنا صغارا لا نتجاوز الرابعة عشر من العمر وغرست فينا من الأخلاق الفاضلة التي نعتز بها – ومن أبرز ما ركزت آنذاك رابطة الحب في الله وكيف أنها ضرورية جدا في المجتمع المسلم الذي أراده الله أن يكون متلاحما وأن يكون كالجسد الواحد، وما أظن أن مثلي في حاجة إلى إيضاح لهذه العاطفة الإسلامية.. إن أي مدقق في فهم روح الإسلام العظيم يستطيع دون عناء أن يدرك أن وحدة الجماعة أمر يسبق غيره من الأهمية – وما أظن أن هناك جماعة تتقدم إلا على أساس الحب. فالجماعة غير المتحابة لا يمكن أن تقوى على مواجهة الصعاب.(1/141)
أقول ذلك عرفانا لعملاق الجيل الإمام الشهيد حسن البنا الذي حقق رابطة الحب في الله وجعلها حية بين الناس يعيشونها في كل لحظة من حياتهم اليومية، ولم يقتصر على بيانها بالكتابة أو الخطابة، وكون بذلك جيلا من المسلمين المتماسكين الذين أصبح اسمهم في كل مكان على هذه الأرض.. تلك هي روح الإمام الشهيد التي قل من يدركها في أيامنا هذه. فانفرط العقد وتباعد الإخوة وأصبح لقاؤهم عزيزا وتزاورهم نادرا، إلا في حالات المجاملة التي هي إلى الدبلوماسية أقرب منها إلى الإخوة الصادقة، وانشغل أكثرنا بحياته الخاصة حتى أصبح لقاؤهم أصعب من لقاء كبار المسئولين أو كبار رجال الأعمال، فأصبحنا كمن يملك أجمل مصباح ولكن بدون تيار كهربائي فهو لا يضيء، فهو إلى المتاحف أنسب – يراه الزائرون جميلا ولا يجدون له نورا. ومن هذا المنطلق أجد أنّ عليَّ التزاما بمحاولة زيارة أي أخ أعرفه في أي بلد أزورها لعلي أُؤدي جزءا من واجب حتمه الشرع الحنيف، ثم بعد ذلك يا أستاذنا الفاضل تشكرني على زيارتكم؟ إنني أنا الذي أشكرك على ما علمتني من سالف الأيام الكثير عن الحب في الله ورابطة الأخوة.
الرسالة الخامسة والأربعون (من طالب فلسطيني بالصف الثالث الثانوي)
أبي
جزاك الله خيرا على الرسالة وعلى التشجيع للكتابة – ولكني أقول لنفسي إنني ليس عندي كلام أقوله، ولكن إن شاء الله يفتح عليَّ.(1/142)
إني أكتب هذه الرسالة وأنا في الصف الثالث الثانوي حيث قرأت رسالتك العزيزة في الصق أيضا لشدة حبي أن أقرأها.. فأرجو منك يا أبي إذا بعثت لي رسالة أن تكتب فيها نصائح لاحتياجي لها مع هذا المجتمع – وفي الصف أعامل الطلاب كأني منهم ومعهم – وفي أحد الأيام سألني أحدهم إذا كنت من الإخوان أم لا؟ فقلت له اتق الله، ثم جاء أحد الطلاب وقال له. إن سليمان ليس من الإخوان حقيقة.. ولكني لا أدري هل أنا أسير نحو المعاملة الجيدة المطلوبة أم لا؟ لأني أمزح مع الطلبة وأضحك معهم كثيرا.. ولكنه جاء ببعض النتيجة حيث أصبح طالبان يصليان أحدهما سوري والآخر لبناني.
وأنا معي واحد خارج الصف هو الصف الأول الثانوي وكان طول عمره يسير مع فئة فاسدة، ولكني أملت فيه الخير فتعرفت عليه فانجذب نحوي ولله الحمد، ولكنه بقي مرتبطا قليلا معهم – لأنه ليس من الممكن أن يتحول شخص في يوم وليلة ولكن أحواله تحسنت جدا بفضل الشباب وصفاتهم الجميلة – أصبح يصلي العشاء فقط – وأريد أن أربطه بالمسجد كيف؟
أرجو منك إذا كتبت لي أيضا أن تتكلم عن قصص المرشد العام الإمام الشهيد حسن البنا وغيرهم ممن لهم الفضل على الأمة الإسلامية، وأنا والحمد لله أسلوبي ليس معقدا في الكتابة وهذا من فضل ربي – وأنا لا أقدر أن أتصل بك تليفونيا في ألمانيا – لأن أهلي سوف يسألونني عن هذا الذي تعرفه في ألمانيا، ولكن إن شاء الله أحاول أن أتصل بك من عند أحد الشباب.
الرسالة السادسة والأربعون
والدي الحبيب
كم كان بودي أن أسعد برؤيتك وأستمع إلى حديثك العذب – فحتى هذه اللحظة أنا غير متأكد من مشاهدتك – فأرجو أن تكون هذه الرسالة لتعوض ولو بعض الشيء عن هذا اللقاء.(1/143)
قبل أن يمن الله عليَّ بما أنا فيه الآن كنت تائها تماما عن هذا الطريق الطيب. كنت أعتقد أنني قد فهمت الدين الفهم الكامل وأنني قد أديت ما عليَّ من حقوق تجاه الله سبحانه وتعالى، ولكن مع هذا كنت أشعر في كثير من الأحيان بالضيق في نفسي لدرجة أنني أكاد أنفجر مما أنا فيه، أفكر في كل ما حولي غير راض عن نفسي أبدا – أصحابي الذين يعتبرون أصدقاء بمعنى الكلمة كانوا لا يتعدون شخصا واحدا أو شخصين.
ولكن بعد أن هديت لهذه الدعوة المباركة تغيرت حياتي – بعد أن كنت لا أجد من أثق فيه وجدت الكثير من الأحباب. أقول لك يا أخي الحبيب هذا الكلام الذي لم أقله بهذه الصراحة ربما فقط لأبي، أقول لأني وجدت فيك الصدر والقلب الكبير الذي يستطيع احتمال وفهم ما أقول، لأنني أشعر بقرب كبير نحوك.. فمنذ أول لقاء عندما قال لي أحد الإخوة – تعال لتسلم على الحاج؟ قلت في نفسي وأنا أرى الجميع يتحدث عنك بحب قوي، من هذا الحاج؟ الذي يحظى بكل هذا الاحترام والحب، وصرت تواقا لمصافحتك ورؤيتك. وبعد أن رأيتك وتحدثت قليلا معك أصبحت دائما أحاول الإنصات لما تقول وأحاول أن أراك – وبعد أن وصلتني رسالتك التي لم أكن أبدا أتوقع استلام واحدة مثلها – فرحت كثيرا وتمسكت أكثر بطريقي من خلال رسالتك أيها العزيز، رأيت كأنك داخل نفسي، وبدأت في تطبيق وصيتك فمشكلتي هي عدم مقدرتي على حفظ الآيات من القرآن الكريم. فأنا أنساها ولكن أحاول جاهدا والله الموفق – وبالنسبة لعدم تحدثي أثناء المجالس ربما لأني تعودت على ذلك من الصغر. ولكني بإذن الله سوف أتخلص من كل ذلك.
الرسالة السابعة والأربعون
والدي الحبيب(1/144)
قبل شهر تقريبا قرأت كتابا لك بعنوان ( من المذبحة إلى ساحة الدعوة) من غير مجاملة كنت أقرأ كل كلمة وأحس وأعيش معك روحا وكنت أتخيل وأسمع صوتك الحنون في أذني كأنك تروي لي ما في الكتاب بنفسك الزكية، ولا أستطيع أن أعبر عن شعوري في هذه الورقة.. ولله الحمد قد استفدت من مواقف كثيرة تعرضت لها أنت وذكرتها في هذا الكتيب وقد نصحت الأخ أبا يونس أن يقرأه كي يجلب نفس الاستفادة بإذن الله تعالى.
والدي الحبيب – عندما التقينا لأول مرة قلت لنا (أنتم أنانيون) وفي كل مرة كنت تكرر هذه الكلمة – كنت تقول نفس الوجوه – نفس الأشخاص، وكل مرة تدعوني لتناول طعام الغداء، أجد نفس الأشخاص – أنتم أنانيون!! أنتم أنانيون!!.. كانت هذه الكلمة تعذبني كثيرا، وكانت تدور في ذهني وعقلي وقلبي فترة طويلة من الزمن.. كنت أقول مثلا نحن أنانيون ومقصرون، بل كانت تحطمني وتمزق قلبي مرارا وكنت أستهين بنفسي وبالدنيا كلها.. وكنت أقول لابد من الحركة واكتساب ناس آخرين للإسلام.. ولله الحمد تنبهنا بعد ذلك فكنا في كل حفل غداء نوجه الدعوة إلى أشخاص جدد يجلسون معنا يستمعون إلى أحاديثنا التي كانت شديدة التأثير في نفوسهم – وتكونت من العبارة (أنتم أنانيون) شحنة إيمانية ربانية.
الرسالة الثامنة والأربعون (صاحب هذه الرسالة – شاب من المغرب العربي في الخامسة عشر من عمره طالب بمدرسة ألمانية في مدينة فرانكفورت – ذكي – متدين – شغوف بالعمل للإسلام)
عمي العزيز
أبدأ جوابي على كتابك الذي أعجبني كثيرا والذي قرأته بقلبي فدخله، وأوجد هناك مكانا كبيرا للحب لجميع الأخوة المسلمين ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولما أمر به من الدعوة وأن نتبع طريقه المستقيم الذي رسمه لنا، فأشكرك يا أخي على هذا كله وجزاك الله خيرا كثيرا عني وعن كل من قرأ ذلك الكتاب.(1/145)
أريد أن أبدأ هذا الجواب من البداية الأولى. فكانت تلك الهداية في يوم لقيتك في المركز الإسلامي كنت في المكتبة. فجئتني وبدأت تتكلم معي، قلت لي أنك تحبني في الله، فسألتني هل أحبك أنا أيضا، فقلت نعم! نعم كنت أحبك وأحب جميع المسلمين، ولكن هذا الحب لم يكن حبا حقيقيا صحيحا، فأنا كنت لا أعرف حقيقة الحب في الله تعالى إنما أسمع عنه فقط – فالحمد لله العلي القدير أن عرفني بك يا عمي يا حبيبي الكبير – وكنت ألاقيك وتعمل معنا لقاءات ولكن ذلك كله كان شيئا طبيعيا. ولم أكن أحب لقاءك أو لقاء الأخوة الآخرين كما ينبغي. إنما كنت أظن أن لقاء أخ كما يكون لقاء أي إنسان – إذا لقيتك يكون جيدا وإذا لم ألقك يكون جيدا أيضا، هكذا كنت عند اللقاءات الأولى ثم مرت الأيام – بدأت تدخل قلبي دخولا صحيحا. ولما سافرت إلى الكويت ولم أرك وقتا طويلا وشعرت باشتياق نفسي لرؤيتك، فبدأ حبك يزداد. ومع كل أسبوع أذهب إلى المركز الإسلامي فأسأل عنك، وبعد عودتك من هناك أهديتني كتابك (الدعوة إلى الله حب) ومعه كتاب (من المذبحة إلى ساحة الدعوة) ففرحت بهما وأردت أن أقرأهما، ولكن لما نظرت فيهما لم أفهم الجمل الأولى. فتكاسلت عن قراءتهما.. حتى كان ذات يوم حاولت من جديد وبعد قليل وجدت أن الكتاب جيد الفهم وبدأ قلبي يتذوقه حتى أكملت قراءته.. ولم أكن أستطيع أن أرده إلى مكانه حتى أكملته بعد الثانية عشر ليلا. ولقد أعجبني هذا الكتاب وكان من أحسن ما قرأت وهذا الكتاب وتلك الأفكار التي خرجت من قلبك ودخلت في قلبي وتفكيري وعملي ونيتي التي أخرج بها كل صباح إلى المدرسة، فقلبي دخله الحب في الله ووجد هناك مكانا كبيرا.. وتفكيري بدأ يدور عن كيفية الدعوة وعملي رجع خالصا لله وبدأت في تأسيس هذه الدعوة.. وأما نيتي التي أخرج بها إلى المدرسة هي أن أدعو هؤلاء الألمان الذين يعيشون على فطرتهم إلى دين الإسلام إلى هذا الطريق المستقيم.. أريد أن يكونوا كلهم مسلمين.(1/146)
وأرجع إلى كتابك يا عمي المحترم لما أكملته كنت قريبا من البكاء وفي تلك الليلة، لم أنم قضيت بعض الوقت أفكر في حقيقة إيماني. وفي حقيقة حبي لله وللرسول وللمؤمنين فوجدت أن إيماني ضعيف جدا بالقياس إلى إيمان الصحابة ووجدت أن حبي لله وللرسول أيضا ضعيف جدا إذا ذكرت قصة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطائف.
وأخيرا يا أستاذي لي عليك ملاحظة – فلقد جاوبتك على كتابك فجاوبني أنت على سؤالي – لماذا لا تزور كل الإخوة في فرانكفورت – إنني لم أرك في أي مسجد قط إلا في هذا المركز وأنت تذهب إلى دول أخرى خارج ألمانيا وتترك الإخوة القريبين – زرهم يا عمي وإن كانوا على غير الذي أنت عليه، فعظهم وتفاهم معهم.
الرد
إبني الحبيب
بعد أن تسلمت خطابك الرقيق الذي يحمل أنبل المشاعر وأرق العواطف ذهبت إلى المنزل وبعد أن فرغت من كل ما حولي. أخذت أقرأ تلك الكلمات الصافية الصادقة قرأتها بقلبي ذهلت حين رأيتك تتحدث بكل شعورك الذي كشفت عنه بكل صدق – الصدق الذي أراك تتمسك به في أقوالك وأعمالك.
وصدقني أن تلك الأخلاق الطيبة هي التي جذبتنا إليك وهي التي شرحت صدري نحوك حتى سعيت إلى قلبك بهواتف قلبي وتطلعات الأمل الكبير في مستقبل أيامك لخدمة هذا الإسلام العظيم.
لقد قرأت كلماتك بشغف كما يمتص الإنسان رحيق الحياة وينبض القلب بالرضا والسعادة – عجبت كيف كنت تنظر إلى عموم الناس نظرة واحدة، حتى إذا نبض قلبك واهتزت مشاعرك والتهبت عواطفك أدركت أن لك رسالة وعليك واجبات للوفاء بحق هذا الدين في هذا المجتمع، عجبت لك في مثل سنك هذا المبارك كيف توصلت إلى هذه المعاني لولا فضل الله تعالى عليك.(1/147)
يا محمد إنك بانتسابك إلى هذه الأسرة الكريمة وما أشربته من النبع الإسلامي الصافي كل هذا قد غذى هذه البذرة الصالحة وأثمر تلك التربية الناجحة كنت أتحدث إليك وأنا شديد الاهتمام بما تقول – أفكر في كل كلمة تقولها باللغة العربية الفصحى فأشعر بالسعادة والفرح، وأتمنى لو أن كل مسلم صنع مثل ما تصنع. ورغم أن وقتي لا يتسع للجلوس معك طويلا إلا أن كلماتك التي أسمعها تبقى حية ندية تعيش معي حتى ألقاك.
كما أدركت شيئا هو في الحقيقة موجود في أعماق الإنسان، ولكن لا يجد من يبحث عنه أو من يكتشف أعماقه، فلا بد للمسلم الداعية الذي يوفقه الله تعالى أن يغوص في أعماق تلك القلوب ليستخرج خيرها وبرها. وأنا حين أكتب هذه المعاني إنما أكتبها لكل من أحبه فهي مقصودة بذاتها لذات من أحب على منوال من أحب من إخواني، ولما كنت لا أستطيع أن أحدثك بكل ما في قلبي فقد أهديت لك رسالة "الدعوة إلى الله حب" كي تعيش معها وتعيش معك.
والحقيقة الحلوة التي أسعدتني بها أنك قرأت الكتاب بفهم ووعي وتذوق ولقد لمست أثر ذلك في تعبيراتك وكلمات خطابك، تعبيرات سوف أسجلها حبا وتقديرا لك. وودت لو سمحت لي أن يقرأ رسالتك هذه أمثالك من الشباب ليكون ذلك من الدوافع والتشجيع على الكتابة. فإن رسالتك لها أثر كبير في نفسي وليس هذا من باب المجاملة. ولكني أستطيع أن أعطيها لأي إنسان ليقرر تلك الحقيقة الرائعة.
وليس أعجب من أن يكتب مثل ذلك "فتى" في سن الخامسة عشر من عمره. لا يجيد الكتابة باللغة العربية إلا من وقت قريب ثم يلهمه الله تعالى تلك النفائس وتلك التعبيرات الرائعة.
إبني الحبيب محمد(1/148)
قلت في رسالتك "وهذا الكتاب وتلك الأفكار التي خرجت من قلبك ودخلت قلبي وذلك الحب العظيم الذي تعلمته من كتابك هذا. هذه الأشياء بدلت قلبي وتفكيري وعملي ونيتي التي أخرج بها كل صباح إلى المدرسة، فقلبي دخله الحب في الله ووجد هناك مكانا فسيحا. وتفكيري بدأ يبحث عن كيفية الدعوة وعملي رجع خالصا لله وبدأت في تأسيس هذه الدعوة العظيمة وأمنيتي أن أخرج بها إلى المدرسة كي أدعو هؤلاء الألمان الذين يعيشون على فطرتهم إلى دين الإسلام إلى هذا الطريق المستقيم" قواك الله وأيدك بروح منه وأمد في عمرك يافعا نافعا لأمة الإسلام.
الرسالة التاسعة والأربعون (كاتب هذه الرسالة – شاب فلسطيني طالب في الثانوية العامة)
أخي الحبيب
كما قلت أرجو السماح بندائك "يا أخي" فمع وقار الشيب وخطوط السنين وفارق العمر إلا أننا نسير على درب واحد فنستفيد من تجارب السابقين، لنكون نعم اللاحقون.
لا أدري لماذا يذهب كل الكلام الذي عندي عندما أجلس إليك، على العموم فللقلوب لغة أخرى لا ينطقها اللسان ولا تسمعها الآذان.
والآن اسمح لي أن أحدثك عن دخولي الدعوة، كان هذا الحدث المبارك من تاريخ حياتي سنة 1981 وإن لم أكن قد التزمت فعلا، فلقد تعرفت على الشباب قديما – إلا أنني كنت خائفا وكنت أظن أن وراءهم تنظيما معينا. على أنني بالرغم من كل هذا التخوف كنت أحس بنفسي مندفعا ومجذوبا نحوهم بدافع من داخلي كنت أفرح للقائهم بالرغم من خوفي منهم، فكان حقا شعورا غريبا، على أن ذلك كله ما لبث أن اختفى عندما أخذت أفهم ديننا بالوجهة الصحيحة. فانطلقت خلفهم وصرت معهم ذاتيا ودون حاجة للدفع فقد آمنت بالدعوة بعد اقتناع تام والحمد لله.(1/149)
ومنذ بداية دخولي هذه الدعوة لاحظت أن أشياء كثيرة كانت أساسية عندي أصبحت ثانوية – وأشياء أخرى لم أكن أفكر فيها أصبحت أشياء أساسية وأهدافا، فقد كان همي الدراسة والشهادة – لا أهتم بمن حولي، اللهم نفسي. كانت الصلاة عندي روتينيا والصيام عادة – فأصبحت لذتي في الصلاة وجهادي في الصوم لم أكن أفكر مطلقاً في إقامة شرع الله، وحتمية الدعوة إلى الله والآن أصبحت هذه هي حياتي.
أخي في الله – هناك كثير من الناس أصحاب الأفق الضيق ينظرون لهذا الطريق على أنه طريق أوله تعب وآلام – وأوسطه ابتلاءات ومحن، وآخره غالبا ما يكون سجون ومشانق – لكنني أعتبر نظرات هؤلاء المساكين لم تتجاوز أفكارا قاصرة، فإني أعتبر هذا الطريق أوله هداية – وأوسطه فهم وإدراك للغاية وآخره رحمة ولقاء الأحبة محمد وصحبه، ولولا هذا الطريق لعاشت البشرية في ظلمات بعضها فوق بعض.
الرسالة الخمسون (من أحد الإخوة في الجزائر)
أخي عباس
أما بعد فإني يا أخي عباس أقول لك "أخي" لأني أعتقد أن أسمى وأجمل رابطة بين الناس هي رابطة الأخوة في العقيدة، فأقول أني لم أصاحب في حياتي إنسانا أطيب قلبنا وأخف نفساً وروحا منك؟؟
فإن كلامك في مسمعي أحلى وأخف من غناء البلابل ولا تظنن أن هذه مجاملة فإني لم أتعود معك مثل ذلك وأستغفر الله أن أفعل، فإني أعتبره نوعا من النفاق عافانا الله منه.
لقد بدأت كتابة رسالتي هذه في مدينة (هيدلبرج) واليوم أتم كتابتها في مدينة (آخن) حيث يقام مؤتمر إسلامي خاص بالألمان المسلمين باللغة الألمانية. وأنا مستغرق في الفترة الأخيرة في دراسة كتاب (رسائل الإمام الشهيد حسن البنا).(1/150)
وأصدقك القول إني لم أقرأ لكاتب بعد أوضح فهما للإسلام في عصرنا الحاضر من الإمام حسن البنا.. إني أخي تأثرت بطريقتكم في الدعوة التي تعتمد على الحب والمشاعر ولا تقتصر على العقل فقط – فأنا أحاول في هذه الفترة أن أطبق هذه الطريقة وأستلهم من كتاب الشهيد حسن البنا ما يمكن أن أنتفع به وأنفع به غيري.
لهذا يا أخي عباس أعتقد أن نفسي لا تحتاج دفعاً للعمل في سبيل الله والدعوة إلى الله بقدر ما تحتاج إليه لأمثلة تطبيقية ووسائل عملية أستطيع أن أصلح بها نفسي أولا والناس المحيطين بي ثانيا – وأحتاج إلى فهم أوضح للإسلام، فانصحني أخي كيف أزكي نفسي؟ كيف أجعل كل عمل خالصا لله تعالى – كيف أجعل نفسي تشفق من عذاب الله وتسخر ما لديها من طاقة لنصرة دين الله وإعلاء كلمته، ثم إن الدعوة إلى الله أخي تطلب جهدا كبيرا ووقتا كثيرا، فيجب على الداعية المسلم أن يكون على مستوى دعوته علما وفقها وسلوكا.. فلقد سخرت منذ أربعة سنين خلت جهدي للدعوة للإسلام وكان ذلك في "تونس" وعندما وصلت إلى البكالوريا – قلت يجب أن أسخر كل وقتي للدراسة وأخفف من التركيز الذي كنت أوليه لموضوع الدعوة فكان من نتيجة ذلك أن نامت نسبيا شعلة الإيمان التي أحملها، لأن المدة طويلة قاربت سنة – ولكن الحمد لله لقد أتيت إلى ألمانيا وحضرت بعض المؤتمرات واستمعت إلى بعض الشخصيات – لقد استيقظت والحمد لله تلك الشعلة في نفسي من جديد وسوف تعود كما كانت وأقوى فأعني أخي على ذلك.
الرسالة الواحدة والخمسون (من أخ كريم من الإخوة في تونس)
أبي الحبيب(1/151)
إنه تساؤل في القمة.. تبادل عاطفة بين جيل يقدم شعلة الحق إلى الجيل اللاحق متمنيا الإستمرارية في الدينونة للحق دون سواه، والحق أولى أن يُتبع، وأن يكون منهجا للحياة – إن الوقت يزاحمنا وإنه العامل الوحيد الذي لا يعلم أهميته إلا المسلم، وكيف لا وهو يتقدم بنا يوما بعد يوم، إن الأفكار أصبحت حقيقة تعاش، من كان يتصور أن هذه الدعوة سيكون لها صدى في العالم كله؟ تتقدم عجلة الزمن ويتخلف الكثير رغم هذا التقدم؟! إنهم يعيشون في وهم فقدوا مبررات وجودهم.
أبي الكريم – قد تمر الأيام ويكشف الله تعالى رويداً عن غيبه فينصر الحق فصبر جميل والله المستعان، وهل خطر ببالك كرة يا أبي أن يزداد لك مولود في الجزائر وأنت في السجن؟ إن الطغاة أول من يلعنهم أولادهم.. أما أنت فقد رزقك الله ذرية صالحة – إذا سألتهم من تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك، إنها نعمة الدنيا قبل الآخرة.
أبي – إنك مطالب بتربيتي وإخواني تربية إيمانية تضمن لي إن شاء الله السير على طريق الحق طريق الدعوة إلى الله.. إني لو ذهبت سيحول ذلك بيني وبين الميراث ولا أستطيع أن آخذ حقي منك، والله وددت أن يكون عندي عنوان كل من كان وما زال، فأكتب لهم وأطالبهم بالميراث. وأنا أقول إن الكتب لها قيمتها ولكن الجملة المباشرة الخاصة لها أهميتها وتأثيرها وتقدم حقيقة، لأنها تخاطب معلوما.
الرسالة الثانية والخمسون (من أستاذ كبير من الإخوان في الأردن)
أخي الكريم
تحياتي إليكم مع وافر الشوق والرغبة الأكيدة لزيارتكم ي رشيد مدينو الفضل واللطف وخفة الروح كما أتخيلها، ويكفي أن يكون من أبنائها الأبرار أبو معاذ الأخ الحبيب والأديب الأريب والذي نعمنا بقربه فترة مبهجة، كان فيها مصدر كل غبطة وسرور.(1/152)
ولقد تسلمت رسالتك اللطيفة في هذا اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان شهر القرآن والغفران في ليلة القدر وسعادة الدنيا والآخرة – وبادرت فورا لأحييك بل لأحيي فيك الوفاء والحب في الله الذي قرأناه من سجاياك وخصالك قبل أن نقرأه في كتبك التي أهديتها مشكورا ومأجورا، وجزاك الله في كل ذلك خير ما يجزى عبد صالح صابر مجاهد وسع قلبه الكبير طيوف جميع إخوانه فأوفاهم حقوقهم وصبر على تقصيرهم وإني لأرجو قبول أكرم التهاني والبركات بالعيد المبارك أعاده الله عليكم وعلى جميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - باليمن والخير، والوحدة والعزة والكرامة مع وافر سلامي وتحياتي إلى جميع أفراد الأسرة الكريمة وفي المقدمة إلى الأخت أم معاذ المؤمنة الصابرة المجاهدة التي بلا شك لها الفضل الأول في رقة طبعك وحلاوة قولك وخفة روحك وكثرة وفائك، حفظك الله لهم جميعا وللعمل الصالح الذي ترعاه واسلم لأخيك.
الرسالة الثالثة والخمسون
لقد كانت رسالتك يا أخي وأستاذي الحبيب شيئا عظيما بالنسبة لي وذلك لأني شعرت من خلالها بعظم هذه الدعوة المباركة التي تجعل الأخ الكبير يعطف ويحنو ويحب الصغير وتجعل الصغير يحترم ويوقر ويحب الكبير، أشعرتني بعظم نعمة الله علينا في هذه الدعوة التي جعلت القلوب تقترب رغم بعد أجساد أصحابها وجعلت الأرواح تتلاقى وتعيش مع بعضها مع أن أميالا بعيدة تفرق بين أصحابها فعلا يا أخي أبو معاذ الحبيب كانت رسالتك درسا من الدروس الثمينة التي أتلقاها على الطريق درسا علمني كيف يكون تواضع الأخ الكبير للأخ الصغير، حبه له وحرصه عليه. درسا زادني يقينا على يقين بصدق الرسالة التي نحملها ونعيش من أجلها، ومما زاد وقع الكلام وجود صورتك التي جعلتني وأنا أقرأ الكلمات كأن الأخ أبو معاذ يقرأها لي بصوته.
أسأل الله أن يديم علينا فضله ويرزقنا حبه وحب من يحبه وحب ما يقربنا لحبه.
الرسالة الرابعة والخمسون
الوالد الحبيب(1/153)
الحمد لله أنك تعرفني جيدا وتعرف عني إذا حاولت أن أعبر عن بعض عواطفي ومشاعري. فالكلمة لا تطاوعني لأكتب كل ما أشعر به. ولا حتى النطق حين أكون معكم ولا شك أنني الآن أعاني من هذه الحالة، ومع علمي التام بمشغولياتكم إلا أن ذلك لم يمنعكم من التفكير فيما سأفعل في موضوع الالتحاق في خدمة الجيش وعن جواز السفر وجهات العمل بعد التخرج – كل هذه الأسئلة بخصوصي وسط مهامكم لا شك أنه يريحني جدا، وذلك منذ أن غادرت مصر وتركتكم. وقد تعودت على معاملة كريمة منكم، وهذا من فضل الله تعالى عليَّ – أن جعلك أنت أيها الوالد الحبيب لتؤكد بيننا هذه الأخوة وتوجهها إلى الوجهة الربانية الخاصة، فلقد أحببتك حبا صادقا شاء الله عز وجل أن يترجم هذا الحب في أيام قضيناها معا في التعرف على هذه الدعوة المباركة – تأخذ بيدي وترشدني وتنصحني حتى منَّ الله تعالى عليَّ بالهداية وأسأله عز وجل أن يرزقني الإخلاص والثبات. ولا شك أيضا أيها الوالد أنني قد استفدت خبرة لا تقدر بثمن من التصاقي بك تلك الفترة المباركة – حتى أن كثيرا من الظروف والأحوال تحدث مطابقة كما كنت معكم وأتصرف فيها على هدي تصرفكم الصائب وهذا فضل الله ونعمه.
الرسالة الخامسة والخمسون
أخي الأكبر(1/154)
وبعد فشكرا لله على رسالتك الفياضة الذاخرة، ومعذرة لتأخير بريدي لا إرادي – وإني أبادر إلى التهنئة بالحج عامرة بمعاني الإيمان الصادق ونحن نستقبل شهر رجب الفرد – وما ذاك إلا لتطوف بي في محاريب الأرض الطاهرة التي عشت فيها لحظة صفاء مع الله لم أذق حلاوتها من قبل، ومن عجب أنك كنت معي تشعرني بالأنس وتفيض عليَّ من الحب والعطف مما هيأ لي فرصة الحديث عنك مع شاب صالح انجذبت إليه، وقلت لو كان الحاج مكاني لصاده – خصوصا ونحن في مسجد الرسول والنفوس مهيأة لتقبل كل معنى إيماني. وبسرعة خاطفة كان العناق الأخوي الروحي بيني وبينه، كنت أشعر بأنك ترقب حركته وتباركها، كنت أحس بأن هذا الموقف ستعرفه، وصدق الحس. وكان اللقاء، وكانت لي جائزة ودليلا أكد لي فاعلية التيارات الروحية التي تقوم بعمليات لا تقع تحت دائرة الماديات فهي تنظم اللقاء وتختار مادة الحديث ثم تربط بين قلوب الحاضرين والغائبين، ولن يحتاج إلا إلى شيء من إخلاص القلب لله وتجرده تماما لدعوته – حمدت الله كثيرا على أنه لم يحرمني لقاءك ونحن غرباء الأوطان غرباء بالدعوة. ونحن في غربتنا أحوج ما نكون إلى هذا اللقاء عبر الأثير الروحي إن عز اللقاء جسما ومادة.(1/155)
لقد كانت رسالتك لي الدعوة إلى الله حب زادا ونعم الزاد ومادة لحديث شجي بيني وبين الزملاء، وتجديدا لصلة بيني وبين الأبناء من الطلاب الذين أخذوا لأول مرة يراسلونني من مدارسهم الثانوية. أو معاهدهم العملية. واتخذت من نشاطك دافعا لنشاطي وتجرأ بعضهم لزيارتي اليوم وما كان يقدر لفارق السن على أقل تقدير – وعرفت أن العمل في بيئات جديدة يتطلب استعدادات فريدة. وأساليب تتفق وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وأن أقصر الطرق للوصول إلى قلوبهم، وتخطى هذه العقبات كلها هو الحب كما تعلمناه منك – تعلمناه منك صغارا ونتعلمه منك كبارا – تعلمناه سلوكا عمليا وتضحية وبذلا – تعلمناه عاطفة تسمو في غير تكبر وتواضع في غير تبذل حبا تذوب معه كل الفوارق – ويبقى لكل مكانه ومنزلته.
الرسالة السادسة والخمسون (من طالبة في الثانوية العامة في مصر)
والدي الفاضل
لست أدري من أين أبدأ فالأفكار محتشدة والمشاعر متأججة في صدري ولكني أشعر بعجز شديد إذا ما حاولت أن أعبر لك عن مدى السعادة التي غمرتني حين تسلمت رسالتك الرائعة.
ما شعرت يوما أني جاهلة باللغة وعباراتها كما أشعر الآن وأنا أخط لحضرتك هذه الرسالة. تلك السعادة التي مست أعماق أعماقي وجعلت قلبي يخفق مع كل كلمة صادقة نابعة من القلب تضمنتها رسالتك.. لست أدري كيف أشكرك على اهتمامك البالغ بتلميذة صغيرة جدا تتمنى أن تنهل من العلم الكثير، هذا الاهتمام يدينني لك بالعرفان وخالص التقدير.. أشكرك على أسلوبك الرائع الذي يأسر كل من يقرأه ويستحوذ على اهتمامه.. لقد كانت أمنيتي يا والدي أن احظي بأقل القليل من هذا الاهتمام فإذا بك تغمرني به. أدعو لك بدوام الصحة والعافية حتى تظل دائما تملأ أرواحنا بهجة وتشع في صدورنا نورا برقة مشاعرك التي تنسجها على سطور ورقاتك فنراها حقيقة ماثلة لأعيننا.(1/156)
ربما يا والدي تتساءل عن سر انجذابي لكتابك وتعلقي به فأقول لك أن هذا الكتاب ليس كأي كتاب يقرأه المرء ثم يطوي صفحاته وتضيع معانيه مع مرور الوقت.. بل تظل معانيه عالقة بالذهن تأسر القلب وتنير البصر.
لقد قرأت بعض الكتب الإسلامية وأرجوك لا تغضب إذا قلت لك أنها لم تؤثر فيَّ التأثير الجيد الذي يجعلني أعيش معها بروحي وعقلي لأنه غالباً ما يكون أسلوب الكتابة جافا ومهما كانت قيمة التعاليم التي تتضمنها هذه الكتب إلا أن طريقة عرضها تجعلها غير مفهومة.. ولكني وجدت في كتابك الفكر ممتزجاً بالعاطفة، كلمات تنبض بالعاطفة وتندى بالحب، الألفاظ الجزلة البراقة.. العرض الشائق الذي يؤثر سريعا في نفس القارئ. المعاني العميقة جدا التي تصل إلى ذروتها وتجعلنا نعيش معها قي قمة شامخة تعلو السحاب. تسمع نداء الروح يعلو فوق كل الأصوات من حولنا ونحس بعالم نوراني شفاف يحيط بنا.. هذا هو العالم الذي نبغيه يا والدي، عالم النورانية والنقاء – عالم خال من الجفاف ينبض بالعاطفة رأيته متمثلا أمامي في كلماتك وفي المفاهيم التي استطعت بقدرة كلماتك أن تبثها في مسامعنا وتغرسها في قلوبنا فاستقرت فيها ولا سبيل لأن تجافينا بعد هذا الارتباط الحميم.
كان تعبيرك مرآة لعاطفتك وانعكست أمام هذه المرآة مشاعري وعواطفي أنا الأخرى.. ووجدتني أهتف لنفسي أخيرا وجدت ما كنت أبحث عنه، جزاك الله خيرا.
الرسالة السابعة والخمسون (من أخ كويتي طالب بالجامعة)
الوالد الفاضل(1/157)
وبعد أن قال جبريل عليه الصلاة والسلام للرسول - صلى الله عليه وسلم - "... وأحبب من شئت فإنك مفارقه.." فالفراق يا أخي الحبيب سنة من سنن الله بين خلقه فها أنت قد فارقت أخاك الحبيب أحمد حيدر رحمه الله تعالى منذ أيام خلت ومن قبله قد فارقت الإمام مجدد القرن الرابع عشر الهجري الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى. واليوم تدور رحى الزمان علينا لنفارق أخا طالما أشرق في نفوسنا وأرواحنا الأمل بنصر الله تعالى لدينه والعزة لجنده – سنفارق رجلا إذا جلسنا إليه نسينا همومنا وأشغالنا. وكان شغلنا الشاغل هو عذوبة حديثه وخفة دمه وحرارة شوقه للقائنا عن كل هموم هذه الحياة عديمة الطعم بدون مجالسة أمثاله.
أخي الكريم.. لست أسرد كلامي هذا سردا أدبيا مجردا من المشاعر فأنت لك الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في إيقاد مشاعرنا نحو الأخوة والمحبة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى – وكما حدثتني في السيارة عندما كنا في طريقنا إلى جمعية الإصلاح – سألتني ما رأيك في قيمة المشاعر والأحاسيس.....؟
قلت لك أراها في أسس الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.. فهذه الكلمة التي صدرت مني قد اقتبستها من كلامك العذب الحلو والذي كانت الروح تسكن بسماع هذه الأنغام الإخوانية الصادقة الممزوجة بتجارب السنين وما مر عليك من سنين عشتها مع الأخوة الأوائل في ظل هذه الدعوة المباركة.
الرسالة الثامنة والخمسون (من أخ طالب سوري)
حضرة الأخ الفاضل عم الحاج
خير ما أستهل به رسالتي إليكم مبادأتكم بالسلام. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طالما أسعدني أن أستلم منك الرسالة تلو الرسالة. وأنا هنا أعترف بتقصيري في الكتابة ولكن والله يا عم ما أحببت هذا. ولا أدري كيف مضت هذه الأيام حتى كبر هذا التقصير وتراكم. ما ذكرت إلا جاء العفو عما مضى، وإن شاء الله سأكتب لك منذ الآن مرارا وتكرارا.(1/158)
لا أدري كيف أعبر لك عن فرحتي ساعة قرأت رسالتك الأولى عندما كتبت لي "إبني الحبيب" فهذا شرف كبير لي وفخر، وإنه لمن دواعي السرور عندي أن يناديني أستاذ فاضل ومرب كريم بهذا الاسم وأنا أود أن أستزيد من رسائلكم عم الحاج ولو علمتم قيمتها لدي وما تتركه في نفسي من أثر طيب لأجبتم الرجاء. فهي الآن في غربتنا هذه وما تحويه من أفكار دقيقة في معانيها ورفيعة في قيمتها وسموها. وقد نبهني بعضها على قلتها في العدد – على أمور ما كنت أرى من داع إلى أن أفكر فيها ونبهتني إلى أمور كنت غافلا عنها فجزاك الله خيرا.
لو تعلم عم الحاج حال الأخوة في المقر لحظة أن تتصل بنا بالهاتف – لأيقنت أن هذه الحادثة روح يسري بين الأخوة – ولو كنت بيننا لرأيت الفرحة في وجوه الأخوة جميعهم أما يوم مجيئكم هنا فهو يوم عيد وسرور.
أما أخباري فالحمد لله على خير ما يرام ولكن الشوق إلى الأخوة والأهل في سوريا كبير والحمد لله الذي سنّ لنا الأخوة شرعا نسير عليه ونقفو أثره ولولا ذلك لكانت حياتنا هنا لا تطاق.
الرسالة التاسعة والخمسون
والدي الحبيب الحاج أبو معاذ(1/159)
إنني أشعر بالسعادة تغمر قلبي وبالفرحة تنبعث من حنايا روحي وحسبي عندما أمسك هذا القلم لأسطر لك كلمات تعبر عما يجول في هذه النفس من عظيم حب لك أحمله وأحفظه لروحك – أعايشه صباح مساء لأنهل من جدوله العذب ولأرتوي من نبعه الصافي العطر – لقد زرعت في قلبي هذا مشاعر غذت روحي فأحيتها من بعد موتها وأنعشتها من بعد ركودها – هذه المشاعر التي أضاءت ليل هذا القلب بنورها وأطفأت ناره ببردها، فأخذ ينبض بأحاسيس عفة صادقة ويحس بخلجات طاهرو عذبة – فيتحرك وسط هذا الركام وهذه الحياة الهامدة ليشق طريقه عبر صخورها وليجتاز خضمها وسط هديره وأمواجه العاتية. فنظر إلى هذه الدنيا وقد عُريت من أثوابها الزائفة ومخاملها المرقشَة الخادعة لتظهر على حقيقتها بكل ما فيها من شر أودى بأشرارها أو خير رفع من قدر أخيارها. فتلمس الطريق نحو غاية أسمى وهدف أعلى فما وجد أعظم من تلك الغاية السماوية العظيمة، إنه الإسلام ولا غير الإسلام.. والله أسأل أن يثبتك على هذا الدرب إلى أن تلقى الله وأنت كذلك.
ويعلم الله يا أخي الحبيب أني أحبك حبا عظيما وأعتز بك اعتزاز كبيرا. إنني متضايق من هذه النفس- إنها عاجزة تماما عن التعبير بما يجول بها ويصول. وإني أرى أننا لن نتفق عليه أبدا لأن هذا الحب الإيماني وهذا الشعور الفياض له عالم غير عالمنا ودنيا غير دنيانا تتخاطب فيها الأرواح وتتناجى القلوب وتتهامس المشاعر لتبوح كل منها بأسرارها وأخبارها ولكن اعلم أن حبي لك يفوق كل تصور ويسمو على كل إدراك بشري.. إن هذا الوصف مجرد ذرة حب أصفها أو أحاول وصفها إنها ذرة من مجرة (مجرة حب في الله تعالى) إنني أشعر بالسعادة الآن أتدري لماذا؟ لأني أعتقد أنني أعطيتك بعض الذي تريد – بعض الذي يشرح صدرك ويريح نفسك وأنا حريص على ذلك أيما حرص.. وكل همي أن تسعد بنا لأن في سعادتك سعادة لنا وفرحة تملأ قلوبنا.(1/160)
والدي العزيز.. إن كنت أصيلا في الحب فأنت الذي علمتني أصالته وإن كنت عظيم المشاعر فلا يداني مشاعرك مثلي – بل لا يداني مشاعرك أحد. أنسيت أنك أنت أبو القلوب.
نعم إن من ذاق طعم الحب لا يرضى بغيره بديلا.. لك الله يا والدي الكريم.
كلمة ختام
تقدمت ببعض هذه الرسائل إلى عدد من كبار الإخوان.. وتابعت أثرها فوجدت إشراقة الاستحسان على وجوههم. وسألوني عن مصدر تلك الرسائل؟ أجبت أنها رسائل من شباب الدعوة الإسلامية من أبناء هذا الجيل الجديد وأكثرهم من طلاب المدارس الثانوية – فرأيت الدهشة على محياهم.
فقلت لهم إنكم قطعتم مراحل طويلة في الدعوة. ولكنكم قطعتم الصلة بين أجيالها – وفيما بين الأجيال حدثت تغييرات وأحوال وأهوال – لم تتفاعل أحداثها ولم تندمج أطرافها وأجيالها – فواجب الدعوة على الإخوة القدامى الكبار أن ينزلوا إلى مستوى الإخوة الجدد بالمعايشة والمؤانسة ليرفعوهم بالتربية والتجربة إلى مستواهم المعاصر.
وهذه هي سبيل المؤمنين في نقل الماضي للحاضر، ونقل الحاضر للمستقبل.
(إنهم فتيةٌُ آمنوا بربهم وزدناهم هدى).(1/161)