الجامعة الإسلامية – غزة
كلية أصول الدين
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
الْدُّعَاءُ الْمَشْرُوْعُ
آدَاْبُهُ، وَآثَاْرُهُ، وَعَلاقَتُهُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ
دراسة وصفيَّة تحليليَّة
د. خالد حسين عبد الرحيم حمدان
(Khamdan@iugaza.edu.ps)
رجب/1429هـ - أغسطس/ آب /2006م
الْدُّعَاءُ الْمَشْرُوْعُ
آدَاْبُهُ، وَآثَاْرُهُ، وَعَلاقَتُهُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ
ملخص:
الدعاء من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات لا يستغني عنه العبد في حال من الأحوال، وهو صلة بين العبد وربه, وكلما كثر رجاؤه بالله وحسن ظنه به كثر دعاؤه، وأعرف الخلق بربِّهم أكثرهم دعاءً له. وهو دليل على كمال افتقار العبد لربه واستغنائه به، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظب على الدعاء، وكذلك حرص السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم على الدعاء في سائر شؤونهم، والعجيب في الأمر أنَّ كثيراً من الناس لا يدعون الله إلا في الشدائد والأزمات, وهذا مسلك خطأ، والمشروع للمؤمن أن يدعو الله في السراء والضراء، وإذا كان دائم الاتصال بالله أجيبت دعوته في الشدائد، ففى الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ" (1)
__________
(1) - الجامع الصحيح سنن الترمذي/ محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، كتاب في الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، 5/ 462 ، حديث رقم: 3382، تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي – بيروت، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، قال الشيخ الألباني : حسن سند الحديث(1/1)
والله - عز وجل - قادر على تحقيق حاجة العبد من غير مسألة، ولكن يحب أن يرى من عبده الخضوع والتذلل والافتقار إليه سبحانه والاعتماد عليه وهذا هو ثمرة العبادة والغاية التي من أجلها خلق الله - عز وجل - الخلق.
ABSTRACT:
The relation between legal supplication and It's fatalism
... Sipplication is the best worshiping and agood obedience for the sarvent of Allah in all cases, the bileivers people supplicate Allah too much.
... Prophet Mohammed (p.p.u.h) and his followers supplicate Allah in all time and in all conditions, but some people supplicate Allah only if they faced problem, but It's illegal, the legal to supplicate Allah in agood or bad conditions.
... Prophet M. said : If you knew Allah in case of luxurious, Allah knew you in poverty. So moslime must be surrender for Allah to reply about supplication.
مقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا العلي القدير ويرضى. أحمدك اللهم لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على حبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - صلاة وتسليماً تفك بهما العقد، وتفرَّج بهما الكرب، وتقضى بهما الحوائج، وتنال بهما الرغائب وحسن الخواتيم.
اللهم إنا نستدعي من رضاك المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك العصمة كما نستوهب منك الرحمة، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا وأوزعنا شكر ما آتيتنا، انهج لنا سبيلاً يهدي إليك، افتح بيننا وبينك باباً، نفد منه عليك، لك مقاليد السموات والأرض وأنت على كل شيء قدير، أما بعد:(1/2)
فإن شأنَ الدعاء عظيم، ونفْعَهُ عميم، ومكانتَه عاليةٌ في الدين، فما استُجْلِبت النعمُ بمثله ولا استُدْفِعت النِّقَمُ بمثله، ذلك أنه يتضمَّن توحيد الله - عز وجل - ، وإفراده بالعبادة دون سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين، وهو عبادة يمارسها الإنسان في جميع حالاته، لأنه يترجم عمق الصلة بينه وبين بارئه، ويعكس حالة الافتقار المتأصلة في ذات الإنسان إلى الله سبحانه، والإحساس العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده، فهو مفتاح الحاجات ووسيلة الرغبات، وهو الباب الذي فتحه الله تعالى لعباده كي يلجوا إلى ذخائر رحمته وخزائن مغفرته، وهو الشفاء من الداء، والسلاح في مواجهة الأعداء، وهو من أقوى الأسباب التي يستدفع بها البلاء ويُردُّ بها القضاء، لذلك فإنّنا نجد الدعاء من أبرز القيم الرفيعة عند الأنبياء والصالحين، ومن أهمّ السنن المأثورة عنهم، ولقد اهتمّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الميامين - رضي الله عنهم - عنهم بالدعاء اهتماماً خاصاً، وحفلت كتب الدعاء الكثيرة المروية عنهم بتراث فذّ، الأمر الذي يُعدُّ صفحة مشرقة من صفحات تراثنا الإسلامي، فهو من حيث الفصاحة والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع، ومن حيث المضمون وسيلة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وتلقين أصول العقيدة وتهذيب النفوس وصفائها وتنمية نزعاتها الخيِّرة لتصل إلى درجات الطاعة والفضيلة .
وهذا البحث هو إحدى ثمرات ذلك الأدب الرفيع، فهو دراسة متواضعة تعكس للقارئ الكريم وبأسلوب بسيط أهم ما يتعلق بموضوع الدعاء وفقاً لما جاء في الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة.
خطة البحث:
جاء هذا البحث في مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة، وفيما يلي بيان ذلك:
أولاً:المقدمة، وقد اشتملت على: أهميَّة البحث، وسبب اختياره، ومنهجه، والدراسات السابقة.
1 - أهمِّيَّة البحث:(1/3)
ما من عاقل في هذه الدنيا إلا ويعلم أن الإنسان موضع الابتلاء والامتحان والاختبار والحوادث والمصائب والويلات والظلم والعدوان، وفجائع الدنيا لا تنفك عن أحد سواء في أول حياته أو آخرها، والكثير من هذه الأمور ضرر على الإنسان، ودفع الضرر أو جلب المصلحة الملزمة واجب بحكم النقل والعقل، وليس من طريق أبلغ من الدعاء في دفع ذلك الضرر، أو جلب تلك المصلحة، فالدعاء من أهمِّ الطرق التي تصل الإنسان بربه - عز وجل - ، وإذا كان السير المادِّي يقرب الطريق لاسيَّما إذا جدَّ الإنسان فيه، فإن الدعاء بمثابة السير المعنوي إلى مكان معنوي، والآيات الكثيرة والأحاديث الواردة في هذا الشأن خير شاهد على ما نقول لاسيَّما أن الله - عز وجل - وعد من دعاه بالاستجابة.
2 - سبب اختيار الموضوع:(1/4)
لعل السبب الأبرز الذي كان وراء الكتابة في هذا الموضوع هو زعم البعض أن لاحاجة للدعاء في ظل الاعتقاد بالقضاء والقدر، وكان من جملة ما قاله البعض حيال هذا الموضوع: إنّ المطلوب بالدعاء إن كان مقدَّراً عند الله تعالى، كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير مقدر عند الله تعالى، كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء، ومع وضوح الإجابة عن مثل هذه الشبه من خلال كتاب الله الكريم وسُنّة النبي ... - صلى الله عليه وسلم - المطهرة، إلاّ أن البعض ظنَّ بصحتها، فتركوا الدعاء، لظنهم – وبعض الظن إثم - بأن للإنسان مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وأنه ينال ما قُدّر له من الخير أو الشرّ، لذلك جاء هذا البحث ليساهم ولو بشكل يسير في تصحيح هكذا معتقد فاسد، وذلك من خلال بيان أن الدعاء أمرٌ ليس خارجاً عن نطاق القضاء والقدر بل هو وإجابته جزء لا يتجزأ من القضاء والقدر، وأن المقدَّر معلّق بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، ومتى أتى العبد بالسبب وقع المقدَّر، وإذا لم يأت بالسبب انتفى المقدَّر، فإذا قدّر وقوع المدعو به بالدعاء لا يجوز أن يقال: لا فائدة في الدعاء.
3 - منهج البحث: سلك الباحث في بحثه المنهج الوصفي التحليلي (1) ، حيث إنَّه أنسب المناهج في مثل هذه البحوث.
4 - الدراسات السابقة:
أكثر من أن تحصى في هذا المقام تلك الكتب التي صنِّفت في الدعاء، بيد أنَّ النادر منها تناول الموضوع الرئيس الذي تناوله هذا البحث، ألا وهو بيان أن لا منافاة بين الدعاء من جهة وبين القضاء والقدر من جهة أخرى، وفيما يلي سرداً لبعض الدراسات التي صنِّفت في الدعاء.
__________
(1) - المنهج الوصفي التحليلي هو:- "هو وصف منظم للحقائق، ولميزان مجموعة معينة أو ميدان من ميادين المعرفة المهمَّة بطريقة موضوعيَّة وصحيحة" دليل البحث والتقويم التربوي/ أحمد الخطيب وآخرون، ص 62،ط.1985م.(1/5)
1- أهمية الدعاء وكيفيته في السنة النبوية/ محمد بن إبراهيم الحمد.
2- الأدعية المأثورة عن رسول الله/ عفيفي محمد الصادق. ...
3- الترغيب في الدعاء/ عبد الغني المقدسي.
4- الدعاء والتوبة/ إسماعيل غريب الكيلان.
5- القول المعطاء في أحكام الدعاء/ محمد الشيخ الباليسان. ...
6- حياة القلوب بدعاء علام الغيوب/ محمد عبد الظاهر الفقي. ...
7- الدعاء بالأسماء الحسنى/ د.محمود عبد الرازق الرضواني.
8- الأزهية في أحكام الأدعية/ محمد الأشعري.
9- الدعاء و أحكامه الفقهية / خلود المهيزع ( رسالة ماجستير).
10- كتاب الدعاء/ للمخاملي، دراسة و تحقيق، محمد التركي ( رسالة ماجستير).
ثانياً: التمهيد.
ثالثاً: المباحث:
جاء هذا البحث في أربعة مباحث، هي:
المبحث الأول: الدعاء: مفهومه وأنواعه
المبحث الثاني: آداب الدعاء
المبحث الثالث: http://www.alhikmeh.com/arabic/mktba/doa/doua/index.htmlآثار الدعاء
المبحث الرابع: علاقة الدعاء بالقضاء والقدر
أرجو الله تعالى أن ينفع به المؤمنين، وأسأله سبحانه العون والسداد، وأستلهمه التوفيق والرشاد .
رابعاً: الخاتمة:
وقد اشتملت على أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.
تمهيد(1/6)
ليس بعد تلاوة كتاب الله - عز وجل - عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله تعالى ورفع الحاجات بالأدعية الخالصة إليه سبحانه وتعالى، ولكن كثيراً من المسلمين تركوا سلاحهم هذا، سلاح الدعاء، تركوه وراءهم ظهرياً، والبعض لا يرفع يديه البتة، وبعضهم يرفع يديه وهو موقن أنه لن يسمع، ولن يؤبه بدعائه، وإذا كان الخلاف في الدعاء وهل يرد القضاء؟ أو يغير في قوانين الله ونواميسه شيئاً، فإنه مما لا خلاف فيه أنه التجاء الضعيف إلى القوي، ورجاء الفقير من الغني، وتضرع من لا يملك من الأمر شيئاً إلى من بيده ملكوت السموات والأرض ثم إنَّ امتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء، والمسارعة إلى ما يحبه الله سبحانه، ومما يحبه من عباده وهو الدعاء إليه والضراعة بين يديه، أفضل من الجدال العقيم، في فائدة الدعاء، وجدوى الرجاء، عن أَنَس بْن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" (1)
المبحث الأول
الدعاء: مفهومه وأنواعه
المطلب الأول
مفهوم الدعاء
أولاً: الدعاء في اللغة:
__________
(1) - الجامع الصحيح، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب في فضل التوبة والاستغفار، وما ذكر من رحمة الله - عز وجل - ، 5/ 548، حديث رقم 3463. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(1/7)
الدعاء: هو أن تميل الشيء إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك، تقول: دعوت فلاناً أدعوه دعاءً، أي ناديته وطلبت إقباله، وأصله دُعاوٌ، إلاّ أنّ الواو لمّا جاءت بعد الألف هُمزت (1) ، أو هو طلب الأدنى للفعل من الأعلى على جهة الخضوع والاستكانة (2) يقال: دعوتُ الله أدعوهُ دعاءً : ابتهلتُ إليه بالسؤال، ورغبتُ فيما عنده من الخير. (3) ، وللدعاء في كتاب الله الكريم معانٍ عدّة، كلُّها تدور حول المعنى اللغوي المتقدم، نذكر منها:
1- الاستعانة، والاستغاثة:
قال تعالى: "...وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (4) في هذا المعنى قولان: "أحدهما أن معناه استعينوا، من المعونة قاله السدي والفراء، والثاني: استغيثوا: من الاستغاثة وأنشدوا:
فلما التقت فرساننا ورجالهم دعوا يال كعب واعتزينا لعامر." (5)
__________
(1) - انظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية/ إسماعيل بن حمَّاد الجوهري، مادة دعا، 6 : 2337، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية – بيروت 1399هـ- 1979م.
- تاج العروس من جواهر القاموس/ محمد مرتضى الزبيدي، مادة دعا، فصل الدال من باب الواو والياء، 10، 137، دار مكتبة الحياة، بيروت- لبنان.
- لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، مادَّة دعا، 14/257، دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى
(2) - معجم لغة الفقهاء/ وضع أ.د محمَّد رواس قلعة جي، د. حامد صادق قنيبي، ص: 209، دار النفائس.
(3) - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي/ أحمد بن محمَّد بن علي المقري الفيّومي 1 / 194، دار الفكر.
(4) - البقرة: من الآية23
(5) - زاد المسير في علم التفسير / عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، 1/50 المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1404هـ.(1/8)
بيد أنّ الدعاء أعم من كل من الاستعانة والاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره أما الاستعانة والاستغاثة فلا تكونان إلا من المكروب، فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثة. (1)
2- الذكر:
__________
(1) - انظر: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم/ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، 2/174، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1406هـ.
- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد/عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ص 174- 176، دار إحياء الكتب العربية.(1/9)
المراد بالذكر: الأوراد والأذكار الموظفة المقررة في كلِّ يوم وليلة، المشتملة على تجديد العقائد وطلب المقاصد والأرزاق ودفع كيد الأعداء ونحو ذلك، وينبغي للمرء أن يجتهد في حضور القلب والتوجه والتضرع عند قراءتها، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ"، (1) وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (2)
3 ـ السؤال:
قال تعالى : "قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ" (3) أي سَلْ لنا رَبّك (4)
4 ـ الطلب:
ومنه قوله تعالى: "وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى". (5)
__________
(1) - الموطأ / الإمام مالك بن أنس أبو عبد الله الأصبحي 1 / 214، حديث رقم 500، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – مصر.
(2) - الجامع الصحيح، كتاب الدعوات عن رسول الله، باب في دعاء يوم عرفة، 5/572، حديث رقم 3585، تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي – بيروت. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قال الشيخ الألباني: حسن
(3) - البقرة : من الآية 68.
(4) - لسان العرب، 14 /257.
(5) - فاطر: من الآية 18(1/10)
أي :"وإن تسأل ذات ثقل من الذنوب من يحمل عنها ذنوبها، وتطلب ذلك من لم تجد من يحمل عنها شيئا منها ولو كان الذي سألته ذا قرابة من أب أو أخ" (1)
5 ـ العبادة:
وهي الأدعية المشتملة على صنوف الكلام في التوبة والاستغاثة والاعتذار، وإظهار الحب والتذلل والانكسار، قال تعالى : "... لن ندعُو مِن دُونه إلهاً..." (2) ، أي نعبد، (3) ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..." قَالَ: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَقَرَأَ: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين (4) " (5)
__________
(1) - جامع البيان في تفسير القرآن/ محمد بن جرير الطبري أبو جعفر، 8/ 84، دار الفكر – بيروت، 1398هـ-1978م.
(2) - الكهف: من الآية 14.
(3) - معالم التنزيل في التفسير والتأويل/ الحسين بن مسعود الفراء البغوي 3/ 324، دار الفكر.
(4) - غافر: 60
(5) - الجامع الصحيح، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ومن سورة البقرة 5 / 211، حديث رقم 2969، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/11)
قوله الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ: أتى بضمير الفصل والخبر المعرَّف باللام، ليدل على الحصر في أن العبادة ليست غير الدعاء مبالغة، ومعناه أن الدعاء معظم العبادة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "الحج عرفة"، أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة أو المعنى أن الدعاء هو العبادة سواء استجيب أو لم يستجب لأنه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته، ... ثم قرأ: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " قيل: استدل بالآية على أن الدعاء عبادة؛ لأنه مأمور به والمأمور به عبادة، وقال القاضي: استشهد بالآية لدلالتها على أن المقصود يترتب عليه ترتب الجزاء على الشرط والمسبب على السبب ويكون أتم العبادات ويقرب من هذا قوله مخ العبادة أي خالصها "...إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي..." أي من دعائي"سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" أي صاغرين ذليلين، وقال الطيبي: "معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري - عز وجل - وإظهار الافتقار إليه ولهذا ختم الآية بقوله: "...إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي..." حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان" (1)
__________
(1) - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي/ محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا،9 / 220، دار الكتب العلمية – بيروت.(1/12)
وقال تعالى: "فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (1) ، أي ادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها ولا تلتفتوا إلى كراهة الكفار ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم (2)
وقال تعالى:"وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ" (3) ، أي تعبدونهم أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم لا يستطيعون نصركم في أمر من الأمور (4) ، وقال تعالى:"وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً" (5) ، أي : أعتزل ما تعبدون من دون الله وأعبد ربي، عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام (6) ، وقال تعالى:"وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ" (7) "أي لا أحد أضل منه ولا أجهل فإنه دعا من لا يسمع فكيف يطمع في الإجابة فضلا عن جلب نفع أو دفع ضر ؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضل الضالين والاستفهام للترقيع والتوبيخ" (8)
6- القول:
__________
(1) - غافر:14
(2) -انظر: فتح القدير، الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير/ محمد بن علي الشوكاني 4/ 690 .
(3) - الأعراف:197
(4) - انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ محمود الألوسي أبو الفضل، 9/146، دار إحياء التراث العربي – بيروت
(5) - مريم:48
(6) - انظر: معالم التنزيل،1/235
(7) - الأحقاف:5
(8) - فتح القدير، 5/20(1/13)
ومنه قوله تعالى: "فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ" (1) ، قال أهل اللغة: "الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء والقول، والمعنى ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم، قال ابن الانباري: وللدعوى في الكلام موضعان: أحدهما الإدعاء، والثاني القول والدعاء" (2)
7- النداء:
ومنه قوله تعالى :"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (3) أي دعا ربه أني أصابني الجهد (4) وقال تعالى: "وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ" (5) والمراد أن نوحاً - عليه السلام - دعا ربه - عز وجل - على قومه لما عصوه فأجاب الله - عز وجل - دعاءه وأهلك قومه بالطوفان فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله والاستغاثة به. (6)
8 ـ النسبة:
قال تعالى : "ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ..." (7) ، أي انسبوهم لآبائهم (8) .
ثانياً: الدعاء في الاصطلاح :
هو استدعاء العبد ربه - عز وجل - العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقة إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة إلا إليه، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله - عز وجل - ، وإضافة الجود، والكرم إليه، ودعاء العبد ربه جلَّ جلاله: طلب العناية منه، واستمداده إياه المعونة (9) ،
المطلب الثاني
__________
(1) - الأعراف: 5
(2) - زاد المسير في علم التفسير، 3/ 168.
(3) - الأنبياء:83
(4) - انظر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ علي بن أحمد الواحدي أبو الحسن 1/722.
(5) - الصافات:75
(6) - انظر: فتح القدير 4 / 569.
(7) - الأحزاب: من الآية 5
(8) - انظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري/ بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني، 19/115 دار الفكر، بيروت.
(9) - التفسير الكبير/الإمام الفخر الرازي 5 : 97، الطبعة الثانية، دار الكتب العلميَّة- بيروت.(1/14)
أنواع الدعاء
الدعاء لله - عز وجل - نوعان (1) :
أولاً: دعاء العبادة: وهو توحيد الله - عز وجل - والثناءُ عليه، كقولك يا اللهُ لا إله إلا أَنت، وكقولك ربَّنا لكَ الحمدُ، إذا قُلْتَه فقدَ دعَوْته بقولك: ربَّنا، ثم أَتيتَ بالثناء والتوحيد، قال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (2) فهذا ضَرْبٌ من الدعاء.
ثانياً: دعاء المسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من يدعو أحداً من دونه ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً قال تعالى : ' قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَالاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (3) ، وقال تعالى: "وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ" (4)
ودعاء المسألة هو الآخر نوعان:
الأول: مسأَلة الله العفوَ والرحمة وما يُقَرِّب منه كقولك اللهم اغفر لنا.
الثاني: مسأَلة الحَظِّ من الدنيا، كقولك: اللهم ارزقني مالاً وولداً، وإنما سمي هذا جميعه دعاءٌ؛ لأَن الإنسان يُصَدّر في هذه الأَشياء بقوله يا الله يا ربّ يا رحمنُ. (5)
ثالثاً:علاقة الدعائين أحدهما بالآخر:
__________
(1) - انظر: فتاوى مهمة لعموم الأمة/ عبد العزيز بن باز, محمد بن صالح العثيمين،1/ 97، تحقيق: إبراهيم الفارس، دار العاصمة – الرياض، الطبعة الأولى ، 1413هـ
(2) - غافر:60
(3) - المائدة : 76
(4) - يونس : 106
(5) - انظر لسان العرب 14/257.(1/15)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : "فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة ... لأن السائل أخلص سؤاله لله وذلك من أفضل العبادات وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه طالب من الله في المعنى فيكون داعياً عابداً" (1)
قال الله تعالى : " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" (2)
وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل، وضابط هذا : أن كلَّ أمرٍ شرعه الله - عز وجل - لعباده وأمرهم به ففعلوه لله فهو عبادة، فإذا صرفوا من تلك العبادة شيئاً لغير الله - عز وجل - فهو شرك مصادم لما بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي" (3) ، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "أَفْضَلُ الذكر لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ" (4) ،
__________
(1) - فتح المجيد 1 / 159
(2) - الأعراف55، 56
(3) - الزمر:14
(4) - الجامع الصحيح، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، 5 / 462 حديث رقم 3383. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.(1/16)
ومن الذكر دعاء ذِي النُّونِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لا إِلَهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ" (1)
المبحث الثاني
آداب الدعاء
إنّ الدعاء هو الإقبال إلى الله تعالى والانقطاع إليه ليتحقق القرب من منازل الرحمة الإلهية لذا فقد حدّدت نصوص الكتاب الكريم كما السنَّة المطهرة آداباً للدعاء، ينبغي للداعي أن يراعيها كي يتقرّب إلى ربِّه - عز وجل - فينهل من خزائن رحمته وذخائر لطفه ، ويتحقّق مطلوبه من الدعاء، أمَّا إذا أهملها فلا تتحقّق له الاستجابة المرجوة من الدعاء ولا تحصل له نورانية القلب وتهذيب النفس وسمو الروح المطلوبة في الدعاء .
وفيما يلي أهم هذه الآداب:
المطلب الأول
الآداب المتقدّمة على الدعاء
أولاً: الصلاة:
__________
(1) - المصدر السابق، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد، 5/ 529 حديث رقم 3505. قال أبو عيسى: وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ، قال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد.(1/17)
يستحب أن يصلي الداعي ركعتين قبل أن يشرع بالدعاء، وأن يفتتح دعاءه بالبسملة، ويثني بذكر اللّه - عز وجل - والثّناء عليه بما هو أهله، وبالصّلاة على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، لما ورد عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ قال: "سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ" (1) ، فالثناء على الله - سبحانه وتعالى - اعتراف له بالوحدانية، وتحقيق للانقطاع التامّ إلى الله تعالى دون سواه، فينبغي للداعي إذا أراد أن يسأل ربّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة أن يحمد الله ويثني عليه ويشكر ألطافه ونعمه قبل أن يشرع في الدعاء، ففي حديث الشفاعة عن أنس - رضي الله عنه - َقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ... فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لا تَحْضُرُنِي الآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ...
__________
(1) - المصدر السابق ، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/517، حديث رقم: 3477. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/18)
" (1) يفعل ذلك أربع مرات.
أقول: هذا إن دلَّ فإنما يدل على أهميَّة الثناء على الله - عز وجل - ، بما هو أهله، وفيه من الأدب الجمِّ ما فيه، فلو أنَّ لإنسان عند أخر مصلحةً، فإنَّه لا يطلبها منه إلا بعد أن يقدم بين يدي طلبه عبارات من المدح والثناء، فإذا كان هذا هو اللائق بين الإنسان ومن هو مثله، فإنَّ الله - عز وجل - به أولى وله سبحانه المثل الأعلى، ومن أعظم الثناء على الله - عز وجل - الدعاء بالأسماء الحسنى، لقوله تعالى:"وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا..." (2) أما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّها تؤكد الولاء له - صلى الله عليه وسلم - والالتزام بما جاء به من عند ربِّه - عز وجل - ، لذا فهي من أهم الوسائل في استجابة الدعاء.
ثانياً: أن يترصّد لدعائه الأوقات، والأحوال، والأماكن الشّريفة:
لابدّ للداعي أن يراعي اختيار الأوقات التي هي مظنّة الإجابة، فمن تأمل نصوص الكتاب الكريم والسنَّة المطهَّره يلاحظ أنّ الأوقات ليست كلّها سواء، فمنها ما تفتح فيها أبواب السماء ولا يحجب فيها الدعاء ومنها ما تستنزل فيها الرحمة أكثر من غيرها، وفيما يلي بعضاً من أهم الأوقات والأحوال، والأماكن التي ترجى فيها الإجابة.
أولاً: الأوقات التي ترجى فيها الإجابة:
1- يوم عرفة، ويوم الجمعة:
__________
(1) - صحيح مسلم/ مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، 1/180، حديث رقم 326 كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت
(2) - الأعراف: من الآية180(1/19)
يوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله - عز وجل - ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ" (1) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ..." (2) ، وعَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الأضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ، ... وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، ..." (3)
2- رمضان:
__________
(1) - سبق تخريجه في الهامش رقم"9".
(2) - صحيح البخاري/ محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 1/ 316، حديث رقم 893، تحقيق : د. مصطفى ديب البغا دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت، الطبعة الثالثة ، 1407 - 1987
(3) - سنن ابن ماجه/ محمد بن يزيد القزويني، كتاب إقامة الصلاة والسنَّة فيها، باب فضل الجمعة 1/ 344، حديث رقم 1084، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر – بيروت، والأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها، في الزوائد إسناده حسن، وبه قال الشيخ الألباني.(1/20)
لا سيَّما وأنَّ فيه ليلة القدر، وهي أكثر الليالي أهمية في استجابة الدعاء، قال تعالى:"لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" (1) ، فعلى المؤمن أن يتحرى هذه الليلة ويحييها بالصلاة والدعاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (2)
3- جوف الليل ووقت السّحر:
__________
(1) - القدر:3.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان،1 / 21، حديث رقم 35.(1/21)
جعل الله تعالى لساعات النصف الثاني من الليل من البركة والرحمة ما لم يجعله في الساعات الأخرى من الليل والنهار ، ففي هذا الوقت يستولي النوم على غالب الناس، فيتمكن أولياء الله تعالى من الإقبال عليه بالدعاء والذكر والانقطاع إليه بعيداً عن زحمة الحياة ومشاغلها، فهذا الوقت إذن هو وقت صفاء القلوب وإخلاصها وفراغها من المشوشات وهو وقت الخلوة وفراغ القلب للعبادة والدعاء، وهو يشتمل على مجاهدة النفس ومهاجرة الرقاد ومباعدة وثير المهاد والانقطاع إلى الواحد الأحد، قال تعالى: "وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " (1) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" (2) ، قال ابن زيد في قوله تعالى: "وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" قال: هم المؤمنون، وبلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يعقوب حين سألوه أن يستغفر لهم "قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ" (3) ، "قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (4) ، قال بعض أهل العلم: إنه أخر الاستغفار إلى السحر، وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء، قال ابن زيد: السحر هو السدس الأخير من الليل (5)
4- بعد الصلوات المكتوبة:
__________
(1) - الذاريات:18
(2) - المصدر السابق، كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل 1/384، حديث رقم 1094.
(3) - يوسف:97
(4) - يوسف:98
(5) - انظر: جامع البيان 11 /455(1/22)
عند إقامة الصّلوات تستجاب الدعوات، قال مجاهد: "إنّ الصّلاة جعلت في خير السّاعات فعليكم بالدّعاء خلف الصّلوات" (1) ، عَنْ سَلْمَان َ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا أَوْ قَالَ خَائِبَتَيْنِ" (2)
ثانياًً: الأحوال التي ترجى فيها الإجابة:
__________
(1) - إحياء علوم الدين/ محمد بن محمد الغزالي أبو حامد، 1 / 304، دار المعرفة – بيروت.
(2) - سنن ابن ماجه، كناب الدعاء، باب رفع اليدين، 2/ 1271، حديث رقم 3865، قال الشيخ الألباني:صحيح.(1/23)
من أهم آداب الدعاء أن يكون الداعي مجتنباً للتلبس بالحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذيةً فلهذا ينبغي له أن يتحرى ويجتهد إذا أراد أن يكون مجاب الدعوة، فللحلال سر عجيب في قبول الأعمال عند الله تعالى والحرام له منع وسد وشؤم على متناوله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (1) ، وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" (2) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (3)
ثالثاًً: الأماكن التي ترجى فيها الإجابة:
إنّ لله تعالى بقاعاً أحبّ أن يُعبد فيها وندب إلى أداء الأعمال الصالحة فيها، ومن هنا اكتسبت أهميةً وفضلاً على سواها، ومن ذلك الفضل استجابة الدعاء في أروقتها، ومن بين هذه البقاع:
1ـ مكة المكرمة :
وهي البقعة التي اختارها الله تعالى من بين بقاع الأرض لتكون محلاً لبيته المحرَّم، ومكاناً لعبادته، ونيل رحمته، وفيها الكعبة المشرَّفة، قبلة المسلمين، وملجأ الهاربين، بها يأمن الخائف، وفيها تنزل الرحمة، وعندها يستجاب الدعاء .
__________
(1) - المؤمنون:51
(2) - البقرة:172
(3) - صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب...، 2/ 703، حديث رقم 1015.(1/24)
وترجى إجابة الدعاء في عدة مواضع خلال مناسك الحج، منها: عند الميزاب، وعند المقام، وعند الحجر الأسود، وبين المقام والباب، وفي جوف الكعبة، وعند بئر زمزم، وعلى الصفا والمروة، وعند الجمرات الثلاث، وفي المزدلفة، وفي عرفة، وعند المشعر الحرام، عن حبيب بن صهبان قال: رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطوف بالبيت وهو يقول بين الباب والركن أو بين المقام والباب: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (1)
2 ـ المساجد :
المساجد عموماً بيوت الله في الأرض، فمن أتاها عارفاً بحقها، فإنّ الله تعالى أكرم من أن يخيب زائره وقاصده، قال قتادة : "هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول: مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر" (2) وأشرف المساجد المسجد الحرام بمكة المكرمة يليه مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة ثم المسجد الأقصى في فلسطين الجريحة.
__________
(1) - سنن البيهقي الكبرى/ أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، 5/ 84، تحقيق : محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 – 1994.
(2) - تفسير القرآن العظيم 3/ 390(1/25)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" (1) ، وعن أبي الدرداء، - رضي الله عنه - : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة و في مسجدي ألف صلاة و في مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة" (2)
المطلب الثاني
الآداب المصاحبة للدعاء
من الآداب المصاحبة للدعاء ما يلي:
أولاً: أن يدعو وهو مستقبل القبلة:
َعنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، قَالَ: فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ" (3)
ثانياً: إظهار التّضرّع والخشوع والرّغبة والرّهبة:
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 1/ 398 حديث رقم 1116، تحقيق : د. مصطفى ديب البغا، الطبعة الثالثة ، 1407 - 1987 دار ابن كثير، اليمامة – بيروت، الطبعة "3"
(2) - شعب الإيمان / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي3 / 484، حديث رقم: 4140، تحقيق : محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى ، 1410، : دار الكتب العلمية – بيروت.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب كيف حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهره إلى الناس، 1/ 347، حديث رقم 979.(1/26)
قال تعالى :"فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" (1) وقال - عز وجل - : "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (2) وقد ذمّ الله تعالى الذين لا يتضرعون إليه، قال تعالى: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ" (3) ، وروي أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتضرّع عند الدعاء حتى يكاد يسقط رداؤه، فعن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عز وجل - "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ" (4) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ...
__________
(1) - الأنبياء:90.
(2) - الأعراف:55.
(3) - المؤمنون:76.
(4) - الأنفال:9.(1/27)
" (1)
والتضرُّع من أهم أسباب استجابة الدعاء، ليس إلا لأنَّه يعكس حالة الافتقار إلى الله تعالى التي يتساوى فيها جميع البشر، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ..." (2)
ثالثاً: الاضطرار إلى الله سبحانه وحسن الظنّ به:
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1383، حديث رقم 1763
(2) - المصدر السابق، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، 4/ 1994، حديث رقم 2577.(1/28)
لابدّ للداعي أن يتوجه إلى الله تعالى توجّه المضطر الذي لا يرجو غيره، وأن يرجع في كلِّ حوائجه إلى ربه، ولا ينزلها بغيره من الأسباب التي لا تملك ضراً ولا نفعاً، قال تعالى: " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً" (1) ، فإذا لجأ الداعي إلى ربه بقلب سليم وكان دعاؤه حقيقياً صادقاً جاداً، تحقق الانقطاع الصادق بالاضطرار الحقيقي إلى الله تعالى الذي هو شرط في قبول الدعاء قال تعالى:" أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" (2) رابعاً: التلبث بالدعاء وعدم القنوط:
ما ينبغي للداعي أن يستعجل في دعوته فيستحسر ويسأم ويترك الدعاء، بل اللائق به أن يلازم الطلب ولا ييأس ولا يستعجل، ولا يسأم الرغبة، فإنه يستجاب له، أو يُكَفَّرُ عنه من سيئاته، أو يدخر له، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، ولا يمل الله - عز وجل - من العطاء حتى يمل العبد من الدعاء ومن عجل وتبرم فنفسه ظلم (3) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" (4)
خامساً: الدعاء بالمأثور:
__________
(1) - الإسراء:56.
(2) - النمل:62.
(3) - انظر: الاستذكار/ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، 2 / 526، تحقيق : سالم محمد عطا ، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى ، 1421هـ - 2000م.
(4) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، 5/2335، حديث رقم 5981.(1/29)
الدعاء بالمأثور يجنّب الإنسان الوقوع في الخطأ، فهو أولى من غيره، وأفصح ممّا يؤلفه الإنسان، ويفضل اختيار الأدعية التي هي مظنة الإجابة، أو التي خُصّت بالفضل الكبير في قضاء الحاجات وغفران الذنوب وهي كثيرة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، كتلك الأدعية التي تشتمل على اسم الله الأعظم لما فيها من الكرامة والقربى واستجابة الدعاء، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا" قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات ؟ قال: "أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن" (1) ولا يفوتنا هنا أن نحذر من مسألة الاعتداء في الدعاء، فعَنْ أَبِي نَعَامَةَ عَنْ ابْنٍ لِسَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلاسِلِهَا وَأَغْلالِهَا وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ يَا بُنَيَّ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ إِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَإِنْ أُعِذْتَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان/ محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي،3 / 253، حديث رقم: 972، تحقيق : شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة الثانية ، 1414 هـ- 1993م، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها، قال: إسناده صحيح(1/30)
مِنْ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ" (1)
وعلى الداعي أن يختار من الأدعية المأثورة ما يناسب حاله وحاجته، فبعض الأدعية تناسب حالة الخوف، وبعضها حالة الرجاء، وبعضها للبلاء، وبعضها للرخاء، إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة التي ترد على الإنسان، فعليه أن يقرأ في كلِّ حالة ما يناسبها من الأدعية المأثورة مترسّلاً وكأنّها من إنشائه، ويدعو بلسان الذلّة والخشوع لا بلسان التشدّق والاستعلاء مع التدبّر في معانيها والتضرُّع فيها .
المبحث الثالث
http://www.alhikmeh.com/arabic/mktba/doa/doua/index.htmlآثار الدعاء
الدّعاء عبادة، له آثاره البالغة وفوائده العظيمة، لذلك أمرنا الحقّ جلَّ في علاه بالدّعاء، ورغبنا فيه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فكم من محنة رفعها الله - عز وجل - بالدّعاء، وكم من مصيبة أو كارثة كشفها اللّه - عز وجل - بالدّعاء، وقد أورد القرآن الكريم جملةً من الأدعية التي استجابها اللّه تعالى بمنّه وفضله وكرمه، والدّعاء سبب أكيد لغفران المعاصي والذنوب، ولرفع الدّرجات، ولجلب الخير ودفع الشّرّ، ومن ترك الدّعاء فقد سدّ على نفسه أبواباً كثيرةً من الخير، هذا وقد ذكر شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله عشرة أسباب لغفران الذنوب، حيث قال رحمه الله:" والسبب الرابع الدافع للعقاب دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته" (2)
__________
(1) - سنن أبي داود/سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/66، حديث رقم: 1480، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، مع الكتاب : تعليقات كَمَال يوسُفْ الحوُت، والأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها قال الشيخ الألباني : حسن
(2) - مجموع الفتاوى/ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني 12/ 403 ، اعتنى بها وخرج أحاديثها، عامر الجزار – أنور الباز، مكتبة العبيكات – الرياض، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1998م.(1/31)
عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ" (1) ، ثمّ إنَّ من أبرز فوائد الدّعاء أنّه يستدعي حضور القلب مع اللّه وهو منتهى العبادات، فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الدعاء هو العبادة" (2) ثم قرأ: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (3) ، وفيما يلي نبين بعض الآثار المترتبة على الدعاء في الدنيا والآخرة.
المطلب الأول
الآثار العاجلة
أولاً: يستدعي حضور القلب مع الله:
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه، 2 / 654 حديث رقم: 58،
(2) - الأدب المفرد/ محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري ، 1/ 249، حديث رقم 714 تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية – بيروت، الطبعة الثالثة ، 1409 - 1989.
(3) - غافر: من الآية60.(1/32)
هذا الأثر للدعاء هو بلا شك أهمّ الآثار التي سنتعرض لها، ذلك أنه يستدعي حضور القلب مع الله - عز وجل - ، ونعني به أن يفرِّغ الدَّاعي قلبه عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به، فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما، ولا يكون الفكر جائلاً في غيرهما، ومهما انصرف في الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء فقد حصل حضور القلب (1) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ" (2)
ثانياً: الدعاء يهذب النفس:
الدعاء من أهم العوامل التي تسهم في بناء الإنسان المؤمن ، لما فيه من العبودية المطلقة للواحد الأحد، والتي تكسب الداعي النقاء والصفاء وخشوع القلب ورقته، وتصنع منه ذاتاً متواضعة لله تعالى، محبة للخير، ومصدراً للمعروف، وتبعاً لفيض البركات، فيصل بتلك النفس إلى درجات المتقين، والدعاء سلَّم المذنبين الذي يعرجون به إلى آفاق التوبة، حيث يخلون بربهم، ويبوءون بذنوبهم، وينزلونها عنده، ليخفف من غلواء نفوسهم المكبلة بالذنوب، فهو السبب الذي يوصلهم إلى درجات الطاعة والفضيلة ، لينالوا درجة الإنسانية الكريمة، ويهذّبوا نفوسهم، ويفلحوا بسعادة الدارين .
ثالثاً: الدعاء تلقين لأصول العقيدة:
__________
(1) - انظر: إحياء علوم الدين 1/ 161.
(2) - الجامع الصحيح، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/517، حديث رقم 3479،قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، قال الشيخ الألباني: حسن سند الحديث(1/33)
إذا تأملنا الأدعية المأثورة نجد أنّها تمثّل مدرسة لتعليم العقيدة الإسلامية والانفتاح على جميع مفرداتها، حيث يستحضر الداعي في وعيه توحيد الخالق وصفاته ومشيئته وإرادته وعلمه وقضاءه وقدره ، ويتحدث عنها بطريقة إيحائية تحرك الأصل الأول من أصول العقيدة في الروح، وتعمّق إحساسها بخالقها جلَّ وعلا في حالةٍ من التقاء الفكر والشعور، تحقق وضوح الرؤية وحصول اليقين، حينما يجد المؤمن ربه قريباً فيناجيه، ومحيطاً به فيدعوه، ويجد نفسه محتاجاً فيعطيه، قال ابن عقيل: قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معان، أحدها: الوجود فإن ليس بموجود لا يدعى، الثاني: الغنى فإن الفقير لا يدعى، الثالث: السمع فإن الأصم لا يدعى، الرابع: الكرم فإن البخيل لا يدعى، الخامس: الرحمة فإن القاسي لا يدعى السادس: القدرة فإن العاجز لا يدعى (1) .
كانت تلك بعضاً من آثار الدعاء في الدنيا، أما عن آثاره في الآخرة، فبه ينال الداعي ما عند الله تعالى من الرحمة والمغفرة والنجاة من العذاب في الآخرة، وذلك من أبرز آثار الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه؛ لاَنّ عطاء الآخرة دائم مقيم لا نفاد له.
رابعاً: الدعاء سلاح المؤمن:
__________
(1) - انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، ص 458، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الرابعة ، 1391هـ(1/34)
الدعاء سلاح المؤمن، وهو أظهر مظاهر العبادة، به يستنزل العبد أسباب النصر، ويستمد أسباب القوة، وبه يرتبط العبد بخالقه، وهو سبب لرفع كثير من البلاء، فعن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ تُعِيدُهَا ثلاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثلاثًا حِينَ تُمْسِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ، قَالَ عَبَّاسٌ فِيهِ: وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ تُعِيدُهَا ثلاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلاثًا حِينَ تُمْسِي فَتَدْعُو بِهِنَّ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ" (1) ، وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ً - صلى الله عليه وسلم - : "أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ أَللَّهُ أَللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" (2)
المطلب الثاني
الآثار الآجلة
__________
(1) - سنن أبي داوود/ سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 2 /745، حديث رقم 5090، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر. قال الشيخ الألباني:حسن الإسناد
(2) - المصدر السابق، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، 1 /477، حديث رقم 1525. قال الشيخ الألباني: صحيح.(1/35)
أولاً: الدعاء مفتاح الحاجات:
الدعاء باب مفتوح للعبد إلى ربّه سبحانه، يلتمس من خلاله كل ما يحتاجه في دنياه من صحة الأبدان وسعة الأرزاق والخلاص من البلاء والنصر على الأعداء، وهذا الذي كان يقوم به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فقد كان خليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - معروفاً بالدعاء والمناجاة، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - في قول تعالى:"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (1) " أنّه كان يكثر من الدعاء (2) ، وممّا جاء في كتاب الله الكريم من دعاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، قوله تعالى:"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" (3) ، و قوله تعالى:"وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" (4)
__________
(1) - التوبة: من الآية114
(2) - انظر:الجامع لأحكام القرآن/ محمد بن أحمد القرطبي أبو عبد الله 8/ 249
(3) - الأنبياء:83، 84
(4) - الأنبياء:89، 90(1/36)
وقوله تعالى:"وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ *وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ" (1) ولما اشتدّ الفزع بأصحاب طالوت لكثرة العدد والعدة في صفّ جالوت وجنوده، دعوا الله متضرعين، قال تعالى: "وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ* فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (2) ، وفي بدر حيث التقى الجمعان، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربّه واستنصره متضرعاً إليه حتى سقط رداؤه فأنجز له الله تعالى ما وعده، وأمدّه بألف من الملائكة مردفين، ولاحت بشائر الانتصار (3) ، قال تعالى:" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ" (4) ، وفي كتاب الله الكريم والسُنّة المطهّرة أمثلة كثيرة لآثار الدعاء في ردّ كيد الأعداء والانتصار عليهم.
ثانياً: الدعاء شفاء من كلِّ داء:
__________
(1) - الأنبياء:76، 77
(2) - البقرة:250، 251
(3) - انظر: البداية والنهاية/ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء، 3/275، مكتبة المعارف– بيروت.
(4) - الأنفال:9(1/37)
الدعاء شفاء من كلِّ داء، ومن أوكد الأسباب في إزالة الأمراض المستعصية لا سيَّما الأمراض النفسية الشائعة في زماننا هذا ، وقد أكدت البحوث الطبية أنّ الطب الروحي من أهم الأسباب في تخفيف مثل هذه الأمراض وإزالتها ، والدعاء يقف على رأس مفردات الطب الروحي والعلاج النفسي، باعتباره وصفةً طبيَّةً روحيَّةً مقرونةً بالرحمة والشفاء للمؤمنين، قال تعالى:"وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" (1) ، عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنهم - قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَادَ مَرِيضًا قَالَ اللَّهُمَّ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ فَأَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا" (2) وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي وَعَافِنِي فِي بَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (3)
ثالثاً: الدعاء ادخار وذخيرة :
__________
(1) - الإسراء: من الآية82
(2) - الجامع الصحيح ، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب في دعاء المريض، حديث رقم 1488. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح
(3) - المصدر السابق، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حديث رقم 3402، قال أبو عيسى: حديث حسن غريب
- مسند أبي يعلى/ أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي، 8/145، تحقيق : حسين سليم أسد، قال: رجاله ثقات، دار المأمون للتراث – دمشق، الطبعة الأولى ، 1404هـ - 1984م(1/38)
من آثار الدعاء إذا واظب عليه العبد في حال الرخاء أنّه يكون له ذخيرة لاستخراج الحوائج في البلاء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ" (1) ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:..."احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ..." (2)
المبحث الرابع
علاقة الدعاء بالقضاء والقدر
__________
(1) - المصدر نفسه، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، حديث رقم3304، قال أبو عيسى: حديث غريب قال الشيخ الألباني: حسن
(2) - مسند الإمام أحمد بن حنبل/ أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني،1/293، حديث رقم 2669، تعليق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة قرطبة – القاهرة.(1/39)
الإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول العقيدة الإسلاميَّة، لذلك لمَّا سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الإيمَانِ قَالَ: "..أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ..." (1) ، والنصوص المخبرة عن القدر كثيرة، منها قوله تعالى "... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً" (2) وعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ (3) ... " (4) ، وقال ابن عمر أيضا لما أخبر عن قول مَعْبَد الْجُهَنِيِّ (أَنْ لا قَدَرَ وَأَنَّ الأمْرَ أُنُفٌ) قَالَ: "فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ" (5)
المطلب الأول
تعريف القضاء والقدر
أولاً: تعريف القضاء
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، 1/36، حديث رقم 1.
(2) - الفرقان: من الآية2
(3) - العجز: عدم القدرة على الطاعات، والكيس: النشاط والجد في الأمور. انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج/ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، 16/204، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية ، 1392
(4) - صحيح مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر،4/ 2045، حديث رقم 4799.
(5) - المصدر السابق: ، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإحسان، 1/ 36، حديث رقم 8
- مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة/ عبد الله بن أسعد اليافعي 1/ 84، تحقيق : محمود محمد نصار، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى ، 1992.(1/40)
1- القضاء في اللغة: الحكم، يقال: قضى، يقضي، قضاءً، فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلق. (1)
2- القضاء في الاصطلاح: هو إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه في وجودها الحادث، كإرادته تعالى الأزلية بخلق الإنسان في الأرض، أو: هو الخلق الراجع إلى التكوين كخلق الله تعالى الإنسان على ما هو عليه طبق الإرادة الأزلية. (2)
ثانياً: تعريف القدر:
1- القدر في اللغة: القضاء والحكم (3) .
2- القدر في الاصطلاح: هو إيجاد الله تعالى الأشياء على مقاديرها المحددة بالقضاء في ذواتها وصفاتها، وأفعالها وأحوالها وأزمنتها وأمكنتها، وأسبابها، كإيجاد الله تعالى الإنسان فعلاً على وجه الأرض طبق ما سبق في قضائه، أو: هو جعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده، ثم يكون وجوده في الواقع بالقضاء على وفق التقدير (4) .
ثالثاً:الفرق بين القضاء والقدر:
__________
(1) - انظر: لسان العرب، ، مادة قضى، 5/3665.
- التعريفات/ علي بن محمد الجرجاني ص 226، تحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1407هـ- 1987م.
- النهاية في غريب الحديث والأثر / أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، 4/78. تحقيق: طاهر أحمد الزاوي- محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت ، 1399هـ- 1979م
(2) - انظر العقيدة الإٍسلامية وأسسها/ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ص 729-730، دار القلم، دمشق-بيروت، 1399هـ- 1979م.
(3) - انظر اللسان 5/3545، مادة قدر.
(4) - انظر: العقيدة الإٍسلامية وأسسها، ص 729-730.(1/41)
ذكر بعض أهل العلم في التفريق بين القضاء والقدر، أن القدر: هو تقدير الشيء قبل قضائه، والقضاء هو الفراغ من الشيء، ومن الشواهد التي ذكرت للتفريق بين القضاء والقدر، أن القدر بمنزلة تقدير الخيَّاط للثوب، فهو قبل أن يفصِّله يقدِّره، فيزيد وينقص، فإذا فصَّله فقد قضاه وفرغ منه، وعلى هذا يكون القدر سابقاً للقضاء (1) ، وقيل: القضاء:" هو وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ، والقدر هو وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها" (2) ، قال ابن الأثير : "القضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه" (3) .، والقضاء والقدر إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى فأصبح لكل منهما معنى يخصه، وإذا افترقا في الذكر دخل أحدهما في معنى الآخر، فالقضاء والقَدَر أمران مُتَلازِمان لا يَنْفَك أحدُهما عن الآخَر لأن أحدَهُما بمَنْزلة الأساس وهو القَدَر والآخَرَ بمنزلة البِناء وهو القَضاء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هَدْم البِناء ونَقْضَه (4)
وعلى هذا يكون معنى القضاء والقدر:- هو إرادة الله تعالى إيجاد الأشياء على وجه مخصوص ثم إيجادها فعلاً على وفق المراد (5) .
رابعاً:الأدلة على إثبات القضاء والقدر:
1- الأدلَّة من الكتاب:
__________
(1) - انظر أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة/ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ص ، 332، تحقيق : باسم فيصل الجوابرة ص 332
(2) - التعريفات، 222.
(3) - النهاية في غريب الحديث والأثر 4/125، وانظر: توضيح المقاصد 1/72.
(4) - انظر: المصدر السابق 4/ 125.
(5) - انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، ص 729-730.(1/42)
قول الله تعالى :" إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (1) وقوله تعالى: " وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا " (2) ، وقوله تعالى : " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا " (3)
وكان مما قاله الإمام الطبري –رحمه الله- في قوله تعالى:" وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا "، إن الله كان علمه معه قبل أن يخلق الأشياء كلها، فأتمه في علمه أن يخلق خلقا، ويأمرهم وينهاهم ويجعل ثوابا لأهل طاعته وعقابا لأهل معصيته فلما ائتمر ذلك الأمر قدره فلما قدره كتب وغاب عليه فسماه الغيب، وخلق الخلق على ذلك الكتاب أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدة من الكتاب الذي كتبه أنه يصيبهم وقرأ: " أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا - نفد ذلك - جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُم (4) " (5)
2- الأدلَّة من السنة:
دلت السنَّة كما الكتاب على إثبات القدر في أحاديث كثيرة منها حديث جبريل - عليه السلام - وسؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أركان الإيمان؟ فذكر منها: « ...وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ... » (6) وروى مسلم بسنده المتصل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهم - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ... " (7) ، قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير، فإن ذلك أزلي لا أول له. (8)
المطلب الثاني
__________
(1) - القمر:49
(2) - الأحزاب: 38
(3) - الفرقان: 2
(4) - الأعراف: من الآية37
(5) - انظر: جامع البيان، 10/304
(6) - مسند الإمام أحمد بن حنبل، 1/51.
(7) - صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج موسى وآدم 4/2044، حديث رقم:2653.
(8) - المصدر السابق.(1/43)
هل ينافي الدعاء القضاء والقدر؟!
هناك شبهات كثيرة حول منافاة الدعاء، للقضاء والقدر، وقد تسرّب هذا الاعتقاد في جملة ما تسرب من معتقدات اليهود إلى التراث الإسلامي العريق الذي ينبذ بوضوحه وإشراقه كل وافدٍ غريب لا يمتُ إلى الدين القويم وشرعة الإسلام الحنيف بصلة، وكان من جملة الإِثارات حول هذا الموضوع، أن قال بعض الجهال: إنَّ الدعاء شيء عديم الفائدة، واحتجوا عليه من وجوه عدَّة، أهمّها الوجه التالي:
إن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء.
واستدلُّوا لما ذهبوا إليه بما يلي:
أولاً: ما رواه عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرٍو - رضي الله عنهم - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَلَّمَ يَقُولُ: "قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" (1) .
__________
(1) - الجامع الصحيح، كتاب القدر عن رسول الله، باب ما جاء في الرضا بالقضاء 4/458، حديث رقم 2156، قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح غريب.(1/44)
ثانياً: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا غُلامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ فَقُلْتُ: بَلَى فَقَالَ: "احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (1) .
ومع وضوح الإجابة عن مثل هذه الشبهات من خلال محكمات الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة على ما سيأتي بيانه، إلاّ أن البعض ظنَّ بصحتها، فتركوا الدعاء، لاعتقادهم بأن للإنسان مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وأنه ينال ما قُدّر له من الخير أو الشرّ، وفيما يلي الرد على شبهة "أنَّ الدعاء شيء عديم الفائدة".
أولاً: الدعاء وإجابته من أجزاء القضاء والقدر
__________
(1) - مسند أحمد 1/307، حديث رقم 2804.(1/45)
لا شكّ أن شبهتهم تلك ناشئة عن فرط جهلهم بظنهم أن الدعاء أمرٌ خارج عن نطاق القضاء والقدر، وبعيد عن الحكمة الإلهية، والواقع أن الدعاء وإجابته من أجزاء القضاء والقدر، وأن المقدَّر معلّق بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، ومتى أتى العبد بالسبب وقع المقدَّر، وإذا لم يأت بالسبب انتفى المقدَّر، ويعتبر الدعاء من أقوى الأسباب، وليس شيء من الأسباب أنفع منه ولا أبلغ في حصول المطلوب، لما ورد في فضله من آيات الكتاب الكريم وصحيح الأثر، فإذا قدّر الله تعالى وقوع المدعو به بالدعاء لا يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء، قال تعالى:"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (1) ، وقال تعالى:"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (2)
__________
(1) - غافر:60
(2) - البقرة:186(1/46)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات" (1) ، وهذا الذي عليه الجمهور، وهو أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، فإذا أراد الله بعبد خيرًا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - : "إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه" (2) كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبداً أو يرويه، الهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد أن يتوب على عبد، ألهمه أن يتوب فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة، يسره لعمل أهل الجنة، والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها (3) .
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية/ ص458
(2) - دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية (مختارات)/ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية،2/ 517، تحقيق : د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن – دمشق، الطبعة الثانية، 1404هـ.
(3) - انظر:اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، 1 /358،359 تحقيق : محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية – القاهرة، الطبعة الثانية ، 1369(1/47)
وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، قال تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (1) وإجابة الله لدعاء العبد مسلماً كان أو كافراً وإعطاؤه سؤله هي من جنس رزقه له ونصره له وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً، ثم قد يكون عدم دعائه فتنة في حقه ومضرة عليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" (2) وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب (3)
ثانياً: مظاهر علم الله تعالى:
إنّ لعلم الله تعالى مظاهر أخبر عنها سبحانه في كتابه الكريم، هذه المظاهر هي:
1- أم الكتاب:
__________
(1) - يونس:12
(2) - الجامع الصحيح، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،5/ 456، حديث رقم 3295، قال أبو عيسى: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال الشيخ الألباني :حسن
(3) - انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص 459.(1/48)
وقد أخبر فيه سبحانه عن علمه الأزلي المحيط بكلِّ شيء، الذي لا يتطرق إليه التغيير أوالتبديل، قال تعالى: "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (1) ، وفي أمُّ الكتاب التقدير القطعي الذي يشتمل على جميع السنن الثابتة الحاكمة على الكون والإنسان، وذلك كقوله تعالى: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" (2) ، وقوله تعالى:" ...فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" (3) ، وقوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً..." (4) وفي صحيح مسلم بسنده المتصل قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ..." (5) ، وقد أورد الإمام ابن القيم رحمه الله - عز وجل - في شفاء العليل (6)
__________
(1) - الزخرف:4
(2) - الأعراف:34
(3) - النحل: من الآية61
(4) - آل عمران: من الآية145
(5) - صحيح مسلم،كتاب القدر، باب بيان أنَّ الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص، 4/2050، حديث رقم 2663.
(6) - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل/ الإمام العالم ابن قيِّم الجوزيَّة، ص: 19،دار المعرفة، بيروت- لبنان..(1/49)
- طائفة من الأحاديث بهذا الخصوص منها ما رواه حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - َ قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَيُكْتَبَانِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَيُكْتَبَانِ وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ" (1) ، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وضرب لهم آجالاً" (2) ، وحتى يزول من أذهان البعض ما يبدو أنَّه تعارض – ولا تعارض في الحقيقة – بين حديث أم حبيبة رضي الله عنها – السابق – وما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (3) أقول وبالله التوفيق: إن ما رواه أنس - رضي الله عنه - لايدلُّ البتَّة على تغيير ما في اللَّوح المحفوظ، بل يفهم منه أن الله تعالى قدَّر السلامة من الشرور، والبركة في العمر، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع ..،
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفيَّة خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله... 4/2037، حديث رقم 2644
(2) - شرح العقيدة الطحاوية، ص 142
(3) - صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق 2 / 728، حديث رقم 1925، 2557، ومعاني الكلمات: يبسط: يوسع، ينسأ: يؤخر، أثره: بقية عمره، فليصل رحمه: فليبر بأقاربه.(1/50)
كل ذلك لمن وصل رحمه (1) ، والمعنى: أنَّ اللهَ - عز وجل - دفع عن العبد شرًّا، وبارك له في عمره؛ وذلك مقدَّرٌ بسببٍ يفعله وهو الدّعاء، وهو مقدَّرٌ، وكذلك قدَّر أن يطولَ عُمرَه وقدَّر أن يحصلَ منه سببُ لذلك، وهو البِرُّ وصلة الرَّحم، فالأسبابُ والمسبَّباتُ كلُّها بقضاء الله وقدره، وعليه هذا فلا يفهم أن من المفترض أن يكون عمر إنسان ما ستين سنة مثلاً، فلما وصل رحمه زاد عمره (2) ، يؤيد هذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:"... وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (3) يقول: :ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له" (4) ، ومما ينبغي بيانه أنَّه ليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى، أن لا يحمل السلاح، قال تعالى"... وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ...
__________
(1) - انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج/ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، 16/ 114 دار إحياء التراث العربي – بيروت الطبعة الطبعة الثانية ، 1392
(2) - انظر: الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص 11، 12، دار الفكر- 1424هـ- 2003م.
(3) - فاطر: من الآية11
(4) - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول/ حافظ بن أحمد حكمي، 2/ 705، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم – الدمام، الطبعة الأولى ، 1410 هـ- 1990م(1/51)
" (1) كما أنه ليس من شرطه، أن لا تسقى الأرض بعد بث البذر، ثمَّ يقال: إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر، وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول، الذي هو كلمح البصر، أو هو أقرب، وترتيب تفصيل المسببات، على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدر الخير قدره بسبب ،والذي قدر الشر قدر لرفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته (2) .
من هنا ينبغي العلم أن الدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، يؤيد هذا ما رواه سَلْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد العمر إلا البر " (3) ومن الدعاء ما يكون مشروعاً نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، لذا كان الإمام أحمد - رحمه الله - يكره أن يدعى له بطول العمر ويقول: "هذا أمر قد فرغ منه" (4) ، بعد هذا وذاك، فإنَّه لا مانع من أن يحمل طول العمر الوارد في بعض الأحاديث على هدوء البال مثلاً، فهو نعمة كبرى، وعلى رغد العيش مثال ثان، وهو نعمة كبرى هو الآخر، فإن هذا الصنف من الناس يستمتع بعمره المقّدَر له ولو كان قصيراً أكثر بكثير من إنسان مغموم البال، ولو كان عمره المقدَّر له طويلاً، والله تعالى جلَّ في علاه أعلى وأعلم.
2- لوح المحو والإثبات:
__________
(1) - النساء: من الآية102
(2) - انظر: إحياء علوم الدين 1 /329.
(3) -الجامع الصحيح ، كتاب القدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء: لا يرد القضاء إلا الدعاء، 4/ 447، حديث رقم 2139. قال أبو عيسى : حديث حسن غريب قال الشيخ الألباني: حسن.
(4) - شرح العقيدة الطحاوية، ص 142(1/52)
وهو مظهر لله تعالى فيه المشيئة، يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء حسب ما تقتضيه حال العباد من حسن الأفعال أو قبحها التي تؤدي بالإنسان إلى السعادة أو إلى الشقاء (1) ، قال تعالى :"يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" (2) ، وظاهر قول الله تعالى العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو الله - عز وجل - ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا (3) "لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (4) ، وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - (5) ، وفي لوح المحو والإثبات يكتب التقدير الأول، ولكنه يُعلّق بتحقق شرطه أو زوال مانعه، أي إنّه موقوف على أعمال العباد، فالدعاء والذكر والصدقة وصلة الأرحام وبر الوالدين واصطناع المعروف ، تحوّل شقاء الإنسان إلى سعادة، وتقيه مصارع الهوان وتدفع عنه ميتة السوء وتزكي أعماله وتنمي أمواله، وما إلى ذلك من الآثار الكثيرة الحسنة الواردة في كتاب الله الكريم وسنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى العكس من ذلك فان اقتراف الذنوب، وارتكاب السيئات، كقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وسوء الخلق، وغيرها، تحوّل مصير الإنسان من السعادة إلى الشقاء ، قال تعالى: "...إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...
__________
(1) - الإيمان والرد على أهل البدع / من أجوبة لابن حجر الهيثمي 1 / 86، مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام، عبد الرحمن بن حسن محمد بن عبد الوهاب.
(2) - الرعد:39
(3) - انظر: عمدة القاري، 91/ 22.
(4) - الأنبياء:23
(5) - انظر: فتح القدير 3 / 126(1/53)
" (1) ، من هنا فإنَّ المدعو به قد يكون معلقاً على الدعاء، فكان للدعاء أعظم الفائدة، ما ينبغي بموجبها أن يجتنب، وأيضاً يبدل الله الداعيَ بدل ما دعا به مما لم يُقَدِّر له ما هو أفضل مما قدَّر له، مما يليق بجوده وكرمه وسعة فضله، ومن ثَمَّ أطلق تبارك وتعالى الاستجابة للدعاء ولم يقيدها بشيء فقال عزَّ من قائل: و"َقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..." (2) ، وقال جلَّ شأنه: "...وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..." (3) والتغيير الذي في لوح المحو والإثبات لا يمسّ بكامل علم الله تعالى ، فليس هو انتقال من عزيمة إلى عزيمة ، وليس هو حصول للعلم بعد الجهل، تعالى الله - عز وجل - عن ذلك علوَاً كبيراً، وليس هو معارضاً للتقدير الأول، بل إنّ الله تعالى عالم بما يؤول إليه مصير الإنسان في لوح المحو والإثبات، أمَّا الظهور بعد الخفاء فهو بالنسبة لنا، لا إلى علمه تعالى المحيط بكلِّ شيء، فعن عكرمة - رضي الله عنه - في قوله تعالى:" يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" (4) قال: "الكتاب كتابان: كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" (5) .
__________
(1) - الرعد: من الآية11
(2) - غافر: من الآية60
(3) - البقرة: من الآية186
(4) - الرعد:39
(5) - جامع البيان 7/ 398.(1/54)
مما تقدم تبين أن الإنسان لم يكن محكوماً بمصير واحد مقدور غير قابل للتغير والتبديل ، بل إنّه يستطيع أن يغير مصيره لكي ينال سعادة الدارين بحسن أفعاله وصلاح أعماله، ومنها الدعاء والتضرع وقد صحّ عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - أنّه قال: "لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر" (1) ، وهذا مما يبعث الرجاء في القلوب المظلمة كي تشرق بنور الإيمان، ويوقد النور في أفئدة المذنبين فلا ييأسوا من روح الله، ويسعوا للخلاص بالدعاء والتضرع والذكر وسائر أعمال البر، فإنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وكل يوم هو في شأن، ويداه مبسوطتان بالرحمة والمغفرة (2) .
خاتمة البحث
1- إن الدعاء من أهم الأسباب التي تزيد في الإيمان والتوحيد، حيث يجعل القلب متعلقاً بالله تعالى، ويفتح له باباً عظيماً من لذيذ المناجاة وحلاوة الإيمان وبشاشته، وبرد اليقين، وراحة البال، وطمأنينة النفس، وانشراح الصدر، وغير ذلك.
2- إن الدعاء يتضمن الاعتقاد بربوبية الله تعالى، وقدرته، وجوده، وكرمه، وعلمه، وسمعه، وعلوه على خلقه ، وغير ذلك من الصفات العليا.
3- إنَّه يجتمع فيه من أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره، وأن الدعاء سبب شرعي من جملة الأسباب التي جعلها الله - عز وجل - سبباً لنيل المرغوب ، ودفع المرهوب، وهو من جملة القضاء و مندرج تحته فليس خارجاً عنه.
4- بيان خطأ من اعتقد ( بموجب الشبهات ) أنَّ القدر يمنع من استجابة الدعاء وتحقق مقتضاه.
المصادر والمراجع
__________
(1) - فتح القدير، 3/ 126.
(2) - الإيمان والرد على أهل البدع 1 / 86.(1/55)