الدرر السعدية
فوائد متنوعة
من كلام العلامة السعدي
رحمه الله
عمر المقبل – موقع الألوكة
الحمد لله وبعد :
فإن للشيخ عبدالرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ في نفسي مكانة خاصة ،فلقد أحببته من القلب حباً جعلني أجلس معه بعض الجلسات في المنام !
ولقد عشت مع تراث هذا الإمام منذ زمن ،ولا زلت أراجع وأقلب في كتبه ،مستفيداً منها .
وقد بدا لي أن أنثر بين يدي إخوتي ـ في هذا المجلس (حصرياً كما يقال ) ـ بعض هذه الدرر التي أعجبتني ،وأفدت منها .
وإن المطالع لكتب هذا العالم الجليل ليدرك ما تميزت به مؤلفاته من التحرير ،وقوة المعاني ،مع سهولة الألفاظ .
لذا قال بعض شيوخنا : إن القراءة في كتب الشيخ ،هي كالسلم لمن أراد أن يقرأ في كتب الإمامين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ.
أسأل الله تعالى أن يجمعني بالشيخ ـ وإياكم ـ في الفردوس الأعلى .
وإلى المقصود ،علماً أنني لن ألتزم ترتيبتها على الموضوعات ،فهذا شأن الفوائد ـ والإحالة على المجموعة الكاملة لمؤلفاته ،وما خرج عن ذلك نبتهت عليه ـ :
1 ـ وينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب , أو دفع مرهوب , أن لا يقتصر في قصده ونيته في حصول مطلوبه الذي دعا لأجله , بل يقصد بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء وعبادته التي هي أعلى الغايات , فيكون على يقين من نفع دعائه , وأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها , فإنه يجذب القلب إلى الله , وتلجئه حاجته للخضوع والتضرع لله الذي هو المقصود الأعظم في العبادة , ومن كان قصده في دعائه التقرب إلى الله بالدعاء , وحصول مطلوبه , فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا حصول مطلوبه فقط , كحال أكثر الناس , فإن هذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم , ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون . وهذا من ثمرات العلم النافع , فإن الجهل منع الخلق الكثير من مقاصد جليلة ووسائل جميلة لو عرفوها لقصدوها , ولو شعروا بها لتوسلوا إليها . والله الموفق (الفتاوى السعدية / 40).(1/1)
2 ـ كل عبادة مات العبد قبل تكميلها ،فلا تكمل عن صاحبها (الفتاوى السعدية / 169) قالها في معرض جواب له عن عدم إكمال لحج عمن مات أثناء النسك
ومما يحسن ذكره في هذا المقام ،أن أخانا الشيخ المفيد : محمد بن إبراهيم الحمد ، قد ترجم للشيخ عبدالرحمن ترجمة موعبة ،لا أعلم ترجمة أوسع منها ، في كتابه (تراجم لتسعة من الأعلام) طبع مؤخراً عن دار ابن خزيمة ، وقد ذُكِرَ في هذه الترجمة من الأخبار والنوادر التي تنشر لأول مرة عن هذا الإمام المتفنن ـ رحمه الله ـ.
ومع هذا ،فقد وعد الشيخ محمد بأن يفرد ترجمته بكتاب مستقل ،مع أخبار أخرى ما زالت عنده ،وما زال يجمعها من آل بيت الشيخ ـ وأكثرهم في المنطقة الشرقية ـ.
3 ـ قال رحمه الله تعالى :
قوله تعالى : {وما كان الله ليضيع إيمانكم} فسرها كثير من السلف بمن ماتوا قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة من المسلمين , وأنه أشكل أمرهم على المسلمين , فأخبرهم الله تعالى أنهم في ذلك الوقت قد عملوا بمقتضى الإيمان وهو طاعة الله في كل وقت وحال بما يتعلق بذلك الوقت والحال.
فيؤخذ من هذا أن من كان على قول , أو رأي ضعيف , وقد عمل به مجتهدا متأولا , أو فعله مدة طويلة أو قصيرة , ثم تبين له صحة القول الذي ينافيه , وانتقل إلى الثاني , أن عمله الأول مثاب عليه , وهو مطيع لله فيه , لكون ذلك القول هو الذي وصل إليه اجتهاده , أو تقليده لغيره , وهو لم يزل حريصا على الصواب راغبا فيما يحبه الله ورسوله . فمن كانت هذه حاله , فالله أكرم من أن يضيع إيمانه , وما عمل بذلك الإيمان من خير أصاب فيه أو أخطأ , فإن الله بالناس رءوف رحيم.
الفتاوى السعدية (51)
وقال رحمه الله ـ في معرض جوابه عن حكم نقل الأعضاء ـ (الفتاوى السعدية/137) :
((1/2)
جميع المسائل التي تحدث في كل وقت , سواء حدثت أجناسها أو أفرادها , يجب أن تتصور قبل كل شيء , فإذا عرفت حقيقتها , وشخصت صفاتها , وتصورها الإنسان تصورا تاما بذاتها ومقدماتها ونتائجها , طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية , فإن الشرع يحل جميع المشكلات , مشكلات الجماعات والأفراد , ويحل المسائل الكلية والجزئية , يحلها حلا مرضيا للعقول الصحيحة , والفطر المستقيمة , ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية ... الخ( انتهى.
والذي أردته من نقل كلامه هنا ،هو أهمية تصور المسائل المستجدة ـ وما أكثرها في عصرنا ـ تصوراً تاماً قبل الحكم عليها.
الشيخ عبدالرحمن اطلع على شرح "بلوغ المرام" للشيخ صديق حسن خان ـ رحمهم الله تعالى ـ كما في الفتاوى (153) ،وقد ذكره كالمتعقب على فتوىً له في باب الزكاة.
وهذا يدل على ما كان عليه الشيخ رحمه الله من اهتمام بكتب المعاصرين له ،وحرصه على اقتنائها ،واستفادته من تجار أهل بلده (عنيزة) الذين كانوا يترددون على الهند ،والزبير ،والبحرين.
سئل رحمه الله ـ كما في الفتاوى (167):
(هل يجوز الحج بسيارات الحكومة إذا كان السائق يأخذ الأجرة لنفسه وأجرته على الحكومة ؟
فأجاب :
لا بأس أن تحج والتبعة على السائق - إن كان فيه تبعة , وأنت ما عليك من إثمه شيء , والله أعلم ).
قلت : نحتاج إلى هذه الفتوى في بعض الأحيان ،ومن زار القرى ،أو تعامل مع بعض الذين معهم سيارات الدولة ،عرف حاجته لهذه الفتوى ،وما أجمل الورع ! لكن تطبيقه في بعض الأحيان يصعب.
وقال ـ رحمه الله تعالى ـ لما سئل : ما حكم الصدقة في رمضان أيام الخميس وليلة الجمعة ؟(1/3)
فقال : (الصدقة في رمضان أيام الخميس وليلة الجمعة من الأمور المحبوبة ولا زال مشايخنا الذين أدركنا , وكذلك مشايخ عنيزة وبريدة وتوابعهم متفقون على ذلك , ومكاتب المشايخ الكبار مثل أبا بطين وغيرهم كثيرة جدا , وذلك أن الصدقة في رمضان من أفضل الأعمال بالاتفاق , واعتاد الناس أن يجعلوا في وصاياهم " عيشا " يطبخ ويعينون لهم يوما فاضلا , مثل يوم الخميس وليلة الجمعة لأجل أهل العوائد الذين يحضرون , أو يرسل لهم منه , يكون عندهم معلوما , ولا أحد يشك بهذا , إلا من مدة سنتين بعض الطلبة وقع بخواطرهم من هذا شيء وهذا غلط منهم واضح( انتهى من الفتاوى السعدية (153-154).
وغرضي من إيراد هذا الجواب أمران :
1 ـ هو استئناس العالم بفعل علماء أهل بلده وعصره عند عدم وجود النص المانع من ذلك العمل .
2 ـ عدم استعجال طالب العلم الإنكار على العلماء في قول قالوه إلا بعد تمحيص وتأمل ،والله المستعان
قال نوّر الله ضريحه ـ مبيناً ضابط العيب الذي ترد به السلع ـ :
( قد ضبط الفقهاء رحمهم الله السبب بضابط جامع نافع لا يشذ عنه شيء , فقالوا :
العيب ما نقص ذات المبيع أو قيمته , فما عده التجار عيبا علق به الحكم , وما لا فلا(.
من الفتاوى السعدية (207)
وسئل ـ نور الله قبره ـ : - ما حكم كسب العمال الذين يشتغلون في الظهران عند الأمريكان ؟
فأجاب :
((1/4)
أما اشتغال العملة ـ كذا في المطبوع ،والظاهر أنها : العمالة ـ في الظهران عند الأمريكان , فالكسب الذي فيه خطر على دين الإنسان , لا بركة فيه , لأن كثيرا ممن يخالطونهم هناك يتضررون كثيرا في أمور دينهم , ويخشى عليهم , وخصوصا من لا بصيرة له , ومع ذلك فهذا الكسب كسائر المعاملات من جهة حله , فالأصل الحل في معاملات الناس , سواء مع المسلمين أو مع الكفار , إلا إذا سلك صاحبها طريقا محرما , ولكن الكسب الذي يبعده عن هؤلاء ويسلم به دين العبد أبرك ولو كان قليلا , نسأل الله السلامة والعافية , إنه جواد كريم ) انتهى من فتاواه (296)
وفائدة نقل هذه الفتوى : هو الإشارة إلى فقه الشيخ في التنبيه على الخطر الديني ،وبيان التوجيه التربوي ،مقروناً بالحكم الذي رآه ، وهذا ما يُفقد ـ أحياناً ـ في بعض فتاوى المشايخ الذين ابتلوا بالخروج في البرامج المباشرة للفتوى ، فتجد أحدهم يذكر الحكم مجرداً من آثاره التربوية والاجتماعية .
وأذكر أنني سمعت أحدهم سئل عن حكم خروج المعقود عليها مع العاقد ،فأجاب : لا حرج ؛ لأنها زوجته ،إلى هنا انتهت افتوى .
وهذا حق من حيث الحكم الفقهي ، إلا أنه من الناحية الاجتماعية له آثار سيئة ،وقد وقفت بنفسي على بعضها ،من حمل بعضهن قبل الدخول !! وأشد من ذلك أنه حصلت خصومة بعد هذا الحمل وقبل الدخول !!
قال غفر الله :
(أما اللعب بأم خطوط , فهي لا تحل , ولا تجوز , سواء كانت بعوض أو بغير عوض , فهي من جنس الشطرنج والنرد الذي صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الزجر عنه .
فاللعب المباح اشتغال العبد بمعاشه المباح , وأسبابه المباحة . وأما اللعب المحرم , فمثل الشطرنج , وأم خطوط , والمدافن , وما أشبه ذلك , فكل ذلك حرام لا يحل , ويجب نصيحة من يتعاطى ذلك وتعليمه إن كان جاهلا والله أعلم) فتاواه : (302(.
ملاحظة : أم خطوط ،هي اللعبة المعروفة عندنا بأم تسع .(1/5)
وقال ـ سقى الله قبره شآبيب الرضوان ـ مبيناً الفرق بين القيام للرجل وإليه وعليه :
( أما الأول , فمكروه , إلا أن يكون في تركه مفسدة , وقد استحبه طوائف من العلماء لأهل الفضل والولاة والوالدين ونحوهم . وأما الثاني - وهو أن يقوم إليه أي : لإنزاله إذا كان راكبا أو كان قادما من سفر فهو مستحب . والثالث محرم للنهي .
فهذان الفَرْقان بين الأمور الثلاثة يوجب لك أن تعطي الأمور حقها من التأمل , وتنظر الداعي والسبب الحامل عليها , كما تأمل ما يترتب عليها من الخير والشر والمصالح والمفاسد) انتهى من فتاواه (358(.
وقال رحمه الله ـ مبيناً ضعف القول بأن المطلقة لزوجها أن يراجعها إذا طهرت من حيضتها قبل أن تغتسل ـ :
(فيه نظر , فإن جميع الأحكام تتعلق بانقطاع دمها من الحيضة الثالثة , فيجب أن يكون هذا منها , وهو قول جمهور العلماء , وهو ظاهر القرآن , حيث قال تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ،والإشارة إلى ما تقدم من القروء فهي بعد الطهر ليست في قروء لأن القروء الحيض) الفتاوى : (374(.
وقال رفع الله درجته في المهديين ـ في ضمن جواب له عن لزوم العدة بمجرد الخلوة ؟ ـ :
) ... ولأن العدة لها عدة مقاصد :
1 - العلم ببراءة الرحم .
2 - أداء حق الزوج الأول .
3 - الاستبراء لحق الزوج الآخر .
4 - الانتظار لعله يراجع في الرجعية .
إلى غير ذلك من المقاصد الشرعية ) فتاواه : (383(.
وقال ـ أنزله الله منازل الفردوس ـ في نصيحته لطلاب العلم :
(واعلم أن القناعة باليسير والاقتصاد في أمر المعيشة مطلوب من كل أحد , لا سيما المشتغلون بالعلم , فإنه كالمتعين عليهم , لأن العلم وظيفة العمر كله أو معظمه , فمتى زاحمته الأشغال الدنيوية والضروريات حصل النقص بحسب ذلك , والاقتصاد والقناعة من أكبر العوامل لحصر الأشغال الدنيوية وإقبال المتعلم على ما هو بصدده(.
فتاواه (455(.(1/6)
من المعلوم أن الشيخ رحمه الله ألّف كتابه )القواعد الحسان) ،وضمنه سبعين قاعدة ،ولست بصدد الحديث عن الكتاب ،إلا أن الكتاب كله فوائد ـ يظهر هذا لمن قرأه وتأمله ـ وقد رأيت من المناسب أن أشير إلى جملة من الفوائد التي تضمنتها هذه القواعد ،ومن ذلك قوله ـ في القاعدة الأولى ـ :
(
القاعدة الأولى : في كيفية تلقي التفسير .
كل من سلك طريقا وعمل عملا وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه فلا بد أن يفلح وينجح كما قال تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } [ البقرة : 189 ] .
وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر وتعين البحث التام عن أمثل وأحسن الطرق الموصلة إليه ولا ريب أن ما نحن فيه هو أهم الأمور وأجلها وأصلها .
فاعلم أن هذا القرآن العظيم أنزله الله لهداية الخلق وإرشادهم وأنه في كل وقت وزمان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] .
فعلى الناس أن يتلقوا معنى كلام الله كما تلقاه الصحابة رضي الله عنهم ; فإنهم إذا قرءوا عشر آيات أو أقل أو أكثر لم يتجاوزوها حتى يعرفوا ما دلت عليه من الإيمان والعلم والعمل فينزلونها على الأحوال الواقعة فيعتقدون ما احتوت عليه من الأخبار وينقادون لأوامرها ونواهيها ويدخلون فيها جميع ما يشهدون من الحوادث والوقائع الموجودة بهم وبغيرهم ويحاسبون أنفسهم :
هل هم قائمون بها أو مخلون ؟.
وكيف الطريق إلى الثبات على الأمور النافعة وإيجاد ما نقص منها ؟.
وكيف التخلص من الأمور الضارة ؟.
فيهتدون بعلومه ويتخلقون بأخلاقه وآدابه ويعلمون أنه خطاب من عالم الغيب والشهادة موجه إليهم ومطالبون بمعرفة معانيه والعمل بما يقتضيه .(1/7)
فمن سلك هذا الطريق الذي سلكوه وجد واجتهد في تدبر كلام الله = انفتح له الباب الأعظم في علم التفسير ،وقويت معرفته ،وازدادت بصيرته ،واستغنى بهذه الطريقة عن كثرة التكلفات ،وعن البحوث الخارجية ،وخصوصاً إذا كان قد أخذ من علوم العربية جانباً قوياً ،وكان له إلمام واهتمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحواله مع أوليائه وأعدائه ; فإن ذلك أكبر عون على هذا المطلب.
ومتى علم العبد أن القرآن فيه تبيان كل شيء وأنه كفيل بجميع المصالح مبين لها حاث عليها زاجر عن المضار كلها وجعل هذه القاعدة نصب عينيه ونزلها على كل واقع وحادث سابق أو لاحق ظهر له عظم موقعها وكثرة فوائدها وثمراتها) انتهى كلامه (ص/ 13(.
وقال ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ في القاعدة الـ(19( :
(ختم الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم .
وهذه قاعدة لطيفة نافعة ; عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة بها تجدها في غاية المناسبة ; وتلك على أن الشرع والأمر والخلق كله صادر عن أسمائه وصفاته ; ومرتبط بها.
وهذا باب عظيم من معرفة الله ; ومعرفة أحكامه ; من أجل المعارف وأشرف العلوم ; ونجد آية الرحمة مختومة بأسماء الرحمة ; وآيات العقوبة والعذاب مختومة بأسماء العزة ; والقدرة ; والعلم ; والقهر .
ولا بأس هنا أن نتتبع الآيات الكريمة في هذا ; ونشير إلى مناسبتها بحسب ما وصل إليه علمنا القاصر ; وعبارتنا الضعيفة ; ولو طالت الأمثلة هنا لأنها من أهم المهمات ; ولا تكاد تجدها في كتب التفسير إلا يسيرا منها ... الخ( .
ومن أراد الأمثلة فعليه بالكتاب ،وإنما أردت لفت النظر إلى هذه القاعدة الشريفة.
وفي القاعدة الثلاثين حديث يتصل بهذه القاعدة ،والتي عنون لها الشيخ ـ رحمه الله ت بقوله : (القاعدة الثلاثون : أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة : إيماننا بالاسم ; وبما دل عليه من المعنى , وبما تعلق به من الآثار(.(1/8)
ومن القواعد النفيسة التي قررها الشيخ ـ رحمة الله عليه في كتابه ـ وهي القاعدة الخامسة والخمسون أنه :يكتب للعبد عمله الذي باشره ; ويكمل له ما شرع فيه وعجز عن تكميله ; ويكتب له ما نشأ عن عمله.
فهذه الأمور الثلاثة وردت في القرآن :
أما الأعمال التي باشرها العبد فأكثر من أن تحصى النصوص الدالة عليها ; كقوله : { بما كنتم تعملون } [ المائدة : 105 ] { لها ما كسبت } [ البقرة : 286 ] { لي عملي ولكم عملكم } [ يونس : 41 ] ونحو ذلك .
وأما الأعمال التي شرع العبد فيها ولما يكملها فقد دل عليها قوله تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } [ النساء : 100 ] فهذا خرج للهجرة وأدركه الأجل قبل تكميل عمله , فأخبر تعالى أنه وقع أجره على الله ; فكل من شرع في عمل من أعمال الخير ثم عجز عن إتمامه بموت ; أو عجز بدني ; أو عجز مالي ; أو مانع داخلي ; أو خارجي ; وكان من نيته لولا المانع لأتمه فقد وقع أجره على الله ; فإنما الأعمال بالنيات .
...
وأما آثار أعمال العبد فقد قال تعالى : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا } أي : باشروا عمله { وأثارهم } [ يسن : 12 ] التي ترتبت على أعمالهم من خير وشر . وقال في المجاهدين : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ التوبة : 120 ] فكل هذه الأمور من آثار عملهم ; ثم ذكر أعمالهم التي باشروها بقوله : { ولا ينفقون نفقة } إلى آخر الآية [ التوية : 121 ] . والأعمال التي هي من آثار عمله نوعان : أحدهما : أن تقع بغير قصد من الإنسان ; كأن يعمل أعمالا صالحة خيرية فيقتدي به غيره في هذا الخير ; فإن ذلك من آثار عمله ... ) انتهى المقصود من كلامه ،وفيه درر ،فلتراجع.(1/9)
قال ـ نوّر الله ضريحه ـ في القاعدة الثامنة والأربعين :
(متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء . وذلك أنه تقرر في الكتاب والسنة والإجماع أن الله بكل شيء عليم ; وأنه علمه محيط بالعالم العلوي والسفلي ; والظواهر والبواطن ; والجليات والخفيات ; والماضي والمستقبل ; وقد علم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا الأعمال ; وقد رود عدة آيات يخبر بها أنه شرع كذا ; أو قدر كذا ; ليعلم كذا .
فوجه هذا : أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء ; وأما علمه بأعمال العباد ; وما هم عاملون قبل أن يعملوا ; فذلك علم لا يترتب عليه الجزاء ; لأنه إنما يجازى على ما وجد من الأعمال . وعلى هذا الأصل نزّل ما يرد عليك من الآيات ; كقوله : {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب} [المائدة : 94] وقوله : {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [ البقرة : 143 ] ،وقوله : { لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا } [ الكهف : 12 ] وما أشبه هذه الآيات كلها على هذا الأصل) انتهى باختصار .
ومن لطيف استنباطاته ـ رحمه الله ـ قوله في تفسير آية الجمعة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) [الجمعة/9]) في كتابه المختصر في التفسير(تيسير اللطيف المنان) وليس تفسيره المشهور :
[ومنها : تحريم الكلام والإمام يخطب , لأنه إذا كان الاشتغال بالبيع ونحوه , ولو كان المشتغل بعيداً عن سماع الخطبة محرماً , فمن كان حاضرا تعين عليه أن لا يشتغل بغير الاستماع , كما أيد هذا الاستنباط الأحاديث الكثيرة ] ص :(248).(1/10)
تنبيه : لم يذكر الشيخ هذا التفصيل في تفسيره المشهور ،فهي فائدة تضم إلى موضعها من تفسيره.
قال الشيخ ـ قدّس الله روحه ـ في كتابه(تيسير اللطيف المنان / 251) في تعليقه على قوله تعالى ـ في سورة البقرة ـ (فعدة من أيام أخر( :
[وفي قوله : {فعدة من أيام أخر} دليل على :
1 ـ أنه يقضي عدد أيام رمضان كاملا كان أو ناقصاً.
2 ـ وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة , عن أيام طويلة حارة كالعكس .
وبهذا أجبنا عن سؤال ورد علينا : :
أنه يوجد مسلمون في بعض البلاد التي يكون في بعض الأوقات ليلها نحو أربع ساعات أو تنقص , فيوافق ذلك رمضان , فهل لهم رخصة في الإطعام إذا كانوا يعجزون عن تتميمها .
فأجبنا :
إن العاجز منهم في هذا الوقت يؤخره إلى وقت آخر يقصر فيه النهار ،ويتمكن فيه من الصيام كما أمر الله بذلك المريض , بل هذا أولى , وأن الذي يقدر على الصيام في هذه الأيام الطوال يلزمه ولا يحل له تأخيره إذا كان صحيحاً مقيماً , هذا حاصل الجواب] انتهى.
قال ـ رفع الله درجته في المهديين ـ :
(قد أخبر الله في عدة آيات بهدايته الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم , وتوبته على كل مجرم , وأخبر في آيات أخر أنه : {لا يهدي القوم الظالمين } ،{ لا يهدي القوم الفاسقين } فما الجمع بينها ؟ .
فيقال قوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } هي الفاصلة بين من هداهم الله ومن لم يهدهم , فمن حقت عليه كلمة العذاب - لعنادهم , ولعلم الله أنهم لا يصلحون للهداية , بحيث صار الظلم والفسق وصفا لهم , ملازما غير قابل للزوال , ويعلم ذلك بظاهر أحوالهم وعنادهم ومكابرتهم للحقائق - فهؤلاء يطبع الله على قلوبهم فلا يدخلها خير أبدا , والجرم جرمهم , فإنهم رأوا سبيل الرشد فزهدوا فيه , ورأوا سبيل الغي فرغبوا فيه , واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) انتهى من تيسير اللطيف المنان (450(.(1/11)
قال ـ نوّر الله ضريحه ـ في المجلد الثاني من الفقه (107( :
(والقول إذا تناقض أو فُرِّقَ بين صورة وصورة ـ مع عدم الفرق ـ أكبر دليل على ضعفه ) اهـ.
وهذه فائدة ، عظيمة الموقع ، لصدقها على واقعنا ، نقلها الشيخ عبدالرحمن السديس ، في هذا الموضوع.
تأملوا هذا الكلام الذي كتبه العلامة ابن سعدي قبل 56 سنة في شرح حديث «القابض على دينه»
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد أعجبني ما كتبه العلامة ابن سعدي رحمه الله في شرح هذا الحديث، وهو آخر حديث في كتاب النفيس «بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار» :
الحديث التاسع والتسعون
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر » رواه الترمذي .
وهذا الحديث أيضا يقتضي خبرا وإرشادا .
أما الخبر ، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه ، ويكثر الشر وأسبابه ، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل ، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة ، كحالة القابض على الجمر ، من قوة المعارضين ، وكثرة الفتن المضلة ، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد ، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها ، ظاهرا وباطنا ، وضعف الإيمان ، وشدة التفرد لقلة المعين والمساعد .
ولكن المتمسك بدينه ، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين ، وأهل الإيمان المتين ، من أفضل الخلق ، وأرفعهم عند الله درجة ، وأعظمهم عنده قدرا .(1/12)
وأما الإرشاد ، فإنه إرشاد لأمته ، أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة ، وأن يعرفوا أنه لا بد منها ، وأن من اقتحم هذه العقبات ، وصبر على دينه وإيمانه - مع هذه المعارضات - فإن له عند الله أعلى الدرجات ، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه ، فإن المعونة على قدر المؤونة .
وما أشبه زماننا هذا بهذا الوصف الذي ذكره صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، إيمان ضعيف ، وقلوب متفرقة ، وحكومات متشتتة ، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين ، وأعداء ظاهرون وباطنون ، يعملون سرا وعلنا للقضاء على الدين ، وإلحاد وماديات ، جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان ، ودعايات إلى فساد الأخلاق ، والقضاء على بقية الرمق .
ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا ، بحيث أصبحت هي مبلغ علمهم ، وأكبر همهم ، ولها يرضون ويغضبون ، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة ، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا ، وتدمير الدين واحتقاره والاستهزاء بأهله ، وبكل ما ينسب إليه ، وفخر وفخفخة ، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشررها وشرورها قد شاهده العباد .
فمع هذه الشرور المتراكمة ، والأمواج المتلاطمة ، والمزعجات الملمة ، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة - مع هذه الأمور وغيرها - تجد مصداق هذا الحديث .
ولكن مع ذلك ، فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله ، ولا ييأس من روح الله ، ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة ، بل يكون متلفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب ، الكريم الوهاب ، ويكون الفرج بين عينيه ، ووعده الذي لا يخلفه ، بأنه سيجعل له بعد عسر يسرا ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات .(1/13)
فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال : " لا حول ولا قوة إلا بالله " و" حسبنا الله ونعم الوكيل . على الله توكلنا . اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى . وأنت المستعان . وبك المستغاث . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ويقوم بما يقدر عليه من الإيمان والنصح والدعوة . ويقنع باليسير ، إذا لم يمكن الكثير . وبزوال بعض الشر وتخفيفه ، إذا تعذر غير ذلك : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } ، { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [ الطلاق : 2 ، 3 ، 4 ]
قال ـ رحمه الله ـ في شرح الحديث السابع من كتابه "البهجة" :
(النفاق أساس الشر , وهو أن يظهر الخير , ويبطن الشر .
هذا الحد يدخل فيه النفاق الأكبر الاعتقادي ـ الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر , وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية , وصاحبه في الدرك الأسفل من النار .
وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها : من الكفر , وعدم الإيمان , والاستهزاء بالدين وأهله , والسخرية منهم , والميل بالكلية إلى أعداء الدين , لمشاركتهم لهم في عداوة دين الإسلام.
وهم موجودون في كل زمان , ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية والإلحاد والإباحية .
والمقصود هنا : القسم الثاني من النفاق الذي ذكر في هذا الحديث , فهذا النفاق العملي - وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية - فإنه دهليز الكفر , ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع فقد اجتمع فيه الشر , وخلصت فيه نعوت المنافقين ... الخ (.(1/14)
قال ـ نوّر الله ضريحه ـ في شرح الحديث الثامن ،وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق الله ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله , ولينته ) . وفي لفظ ( فليقل : آمنت بالله ورسله ) متفق عليه . وفي لفظ ( لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا : من خلق الله ؟(.
احتوى هذا الحديث على أنه لا بد أن يلقي الشيطان هذا الإيراد الباطل :
إما وسوسة محضة ،
أو على لسان شياطين الإنس وملاحدتهم ...
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم إلى دفع هذا السؤال بأمور ثلاثة : بالانتهاء , والعوذ من الشيطان , وبالإيمان ...
ثم استطرد في تفصيلها ، ثم قال :
( فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم تبطل هذه الشبه التي لا تزال على ألسنة الملاحدة , يلقونها بعبارات متنوعة .
فأمر بالانتهاء الذي يبطل التسلسل الباطل ,
وبالتعوذ من الشيطان الذي هو الملقي لهذه الشبهة ,
وبالإيمان الصحيح الذي يدفع كل ما يضاده من الباطل . والحمد لله .
فبالانتهاء : قطع الشر مباشرة , وبالاستعاذة : قطع السبب الداعي إلى الشر , وبالإيمان اللجأ والاعتصام بالاعتقاد الصحيح اليقيني الذي يدفع كل معارض.
وهذه الأمور الثلاثة هي جماع الأسباب الدافعة لكل شبهة تعارض الإيمان . .
فينبغي العناية بها في كل ما عرض للإيمان من شبهة واشتباه يدفعه العبد مباشرة بالبراهين الدالة على إبطاله , وبإثبات ضده وهو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال , وبالتعوذ بالله من الشيطان الذي يدفع إلى القلوب فتن الشبهات , وفتن الشهوات , ليزلزل إيمانهم , ويوقعهم بأنواع المعاصي . فبالصبر واليقين : ينال العبد السلامة من فتن الشهوات , ومن فتن الشبهات . والله هو الموفق الحافظ( .(1/15)
وقال ـ غفر الله له ـ في شرح حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ... الحديث ( رواه مسلم .
فكل من علم علما أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم : فهو داع إلى الهدى .
وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله , أو بحقوق الخلق العامة والخاصة : فهو دل إلى الهدى .
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين : فهو دل إلى الهدى .
وكل من اهتدى في علمه أو عمله , فاقتدى به غيره : فهو دل إلى الهدى .
وكل من تقدم غيره بعمل خيري , أو مشروع عام النفع : فهو داخل في هذا النص .
وعكس ذلك كله : الداعي إلى الضلالة .
فالداعون إلى الهدى : هم أئمة المتقين , وخيار المؤمنين .
والداعون إلى الضلالة : هم الأئمة الذين يدعون إلى النار . .
وكل من عاون غيره على البر والتقوى : فهو من الداعين إلى الهدى .
وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان : فهو من الداعين إلى الضلالة(.
وقال ـ أعلى الله درجته ـ في شرح الحديث (11) وهو حديث معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) متفق عليه .
( والفقه في الدين يشمل :
الفقه في أصول الإيمان ,
وشرائع الإسلام والأحكام ,
وحقائق الإحسان ،
فإن الدين يشمل الثلاثة كلها , كما في حديث جبريل ... ).
قال رحمه الله في شرح الحديث (15) ،وهو حديث عائشة (أنزلوا الناس منازلهم( :
يا له من حديث حكيم , فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة ،...
هذا الحديث جامع , إذ أمر أن ننزل الناس منازلهم ، وذلك في جميع المعاملات , وجميع المخاطبات , والتعلم والتعليم .
فمن ذلك : أن الناس قسمان :(1/16)
قسم لهم حق خاص : كالوالدين والأولاد والأقارب , والجيران والأصحاب والعلماء , ... فهذا القسم تنزيلهم منازلهم : القيام بحقوقهم المعروفة شرعا وعرفا , من البر والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة , وجميع ما لهم من الحقوق , فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة .
وقسم ليس لهم مزية اختصاص بحق خاص : وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية , فهؤلاء حقهم المشترك : أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل , وأن تحب للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكره لها من الشر , بل يجب منع الأذى عن جميع نوع الإنسان وإيصال ما تقدر عليه لهم من الإحسان ... ثم ذكر صوراً من الإحسان إليهم ثم قال :
وكذلك من تنزيل الناس منازلهم : أن تجعل الوظائف الدينية والدنيوية والممتزجة منهما للأكفاء المتميزين , الذين يفضلون غيرهم في ولاية تلك الوظيفة ...
وكذلك يدخل في ذلك معاملة العصاة والمجرمين : فمن رتب الشارع على جرمه عقوبة من حد ونحوه تعين ما عينه الشارع , لأنه هو عين المصلحة العامة الشاملة , ومن لم يعين له عقوبة , عزر بحسب حاله ومقامه ...
فهذه الأمور وما أشبهها داخلة في هذا الكلام الجامع الذي تواطأ عليه الشرع والعقل . وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) انتهى.
وقال ـ غفر الله لنا وله ـ في شرح حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم , ولا تنظروا إلى من هو فوقكم , فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ( متفق عليه :
(وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر ،وقد أرشد إلى هذا الدواء العجيب , والسبب القوي لشكر نعم الله :(1/17)
وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم ،فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه , فإنه لا يزال يرى خلقا كثيرا دونه بدرجات في هذه الأوصاف , ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق , وخلق وخلق , فيحمد الله على ذلك حمدا كثيراً ...
ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم , فيحمد ربه على كمال العقل .
ويشاهد عالما كثيرا ليس لهم قوت مدخر , ولا مساكن يأوون إليها , وهو مطمئن في مسكنه , موسع عليه رزقه.
ويرى خلقا كثيرا قد ابتلوا بأنواع الأمراض , وأصناف الأسقام وهو معافى من ذلك , مسربل بالعافية .
ويشاهد خلقا كثيرا قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك , بانحراف الدين , والوقوع في قاذورات المعاصي , والله قد حفظه منها أو من كثير منها .
ويتأمل أناسا كثيرين قد استولى عليهم الهم , وملكهم الحزن والوساوس , وضيق الصدر , ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء , ومنة الله عليه براحة القلب , حتى ربما كان فقيرا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرا من الأغنياء.
ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد عالما كثيرا أعظم منه وأشد مصيبة , فيحمد الله على وجود العافية وعلى تخفيف البلاء , فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه .
فمن وُفّق للاهتداء بهذا الهدى الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو , ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى ،ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك , فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله , ويفقد شكره ،ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم , وتسابقت إليه النقم , وامتحن بالغم الملازم , والحزن الدائم , والتسخط لما هو فيه من الخير , وعدم الرضى بالله ربا ومدبرا ...(1/18)
ولما كان على الشكر مدار الخير وعنوانه قال عنه لمعاذ بن جبل : ( إني أحبك , فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة : ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ( ...
وقد اعترف أعظم الشاكرين بالعجز عن شكر نعم الله , فقال صلى الله عليه وسلم: ( _ لا أحصي ثناء عليك , أنت كما أثنيت على نفسك ) انتهى باختصار.
وقال ـ أعلى الله نزله في الجنة ـ في شرح الحديث (20) وهو حديث أبي هريرة المتفق عليه : (لا يقبل الله صلاة أحدكم - إذا أحدث - حتى يتوضأ(. :
(يدل الحديث بمنطوقه : أن من لم يتوضأ إذا أحدث فصلاته غير مقبولة : أي غير صحيحة , ولا مجزئة , وبمفهومه : أن من توضأ قبلت صلاته : أي مع بقية ما يجب ويشترط للصلاة ; لأن الشارع يعلق كثيرا من الأحكام على أمور معينة لا تكفي وحدها لترتب الحكم , حتى ينضم إليها بقية الشروط , وحتى تنتفي الموانع ، وهذا الأصل الشرعي متفق عليه بين أهل العلم ; لأن العبادة التي تحتوي على أمور كثيرة - كالصلاة مثلا - لا يشترط أن تجمع أحكامها في كلام الشارع في موضع واحد , بل يجمع جميع ما ورد فيها من الأحكام , فيؤخذ مجموع أحكامها من نصوص متعددة ،وهذا من أكبر الأسباب لوضع الفقهاء علوم الفقه والأحكام , وترتيبها وتبويبها , وضم الأجناس والأنواع بعضها لبعض للتقريب على غيرهم ...
وفي هذا دليل على أنه لو صلى ناسيا أو جاهلا حدثه فعليه الإعادة لعموم الحديث , وهو متفق عليه ، فهو وإن كان مثابا على فعله صورة الصلاة وما فيها من العبادات , لكن عليه الإعادة لإبراء ذمته .
وهذا بخلاف من تطهر ونسي ما على بدنه أو ثوبه من النجاسة , فإنه لا إعادة عليه على الصحيح ; لأن الطهارة من باب فعل الأمور التي لا تبرأ الذمة إلا بفعلها . وأما اجتناب النجاسة فإنه من باب اجتناب المحظور الذي إذا فعل والإنسان معذور , فلا إعادة عليه) انتهى .
وقال ـ رفع الله منزلته ـ في شرح الحديث (21) : [عشر من الفطرة] :
( والمقصود :(1/19)
أن الفطرة هي شاملة لجميع الشريعة باطنها وظاهرها ; لأنها تنقي الباطن من الأخلاق الرذيلة , وتحليه بالأخلاق الجميلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان والتوحيد , والإخلاص لله والإنابة إليه وتنقي الظاهر من الأنجاس والأوساخ وأسبابها , وتطهره الطهارة الحسية والطهارة المعنوية , ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( الطهور شطر الإيمان ) وقال تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } [ سورة البقرة : الآية 222 ] فالشريعة كلها طهارة وزكاء وتنمية وتكميل , وحث على معالي الأمور , ونهي عن سفسافها , والله أعلم ).
وقال ، نوّر الله قبره ـ في شرح حديث (23) وهو حديث أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة : ( إنها ليست بنجس , إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) رواه مالك وأحمد وأهل السنن الأربع).
[هذا الحديث محتو على أصلين :
أحدهما : أن المشقة تجلب التيسير , وذلك أصل كبير من أصول الشريعة , من جملته : أن هذه الأشياء التي يشق التحرز منها طاهرة , لا يجب غسل ما باشرت بفيها أو يدها أو رجلها , لأنه علل ذلك بقوله : ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) ...
الثاني : أن الهرة وما دونها في الخلقة كالفأرة ونحوها طاهرة في الحياة لا ينجس ما باشرته من طعام وشراب وثياب وغيرها , ولذلك قال أصحابنا :
الحيوانات أقسام خمسة :
أولها : نجس حيا وميتا في ذاته وأجزائه وفضلاته , وذلك كالكلاب والسباع كلها , والخنزير ونحوها.
الثاني : ما كان طاهرا في الحياة نجسا بعد الممات ,وذلك كالهرة وما دونها في الخلقة ,ولا تحله الذكاة ولا غيرها.
الثالث : ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات , ولكنه لا يحل أكله , وذلك كالحشرات التي لا دم لها سائل.
الرابع : ما كان طاهراً في الحياة وبعد الذكاة , وذلك كالحيوانات المباح أكلها , كبهيمة الأنعام ونحوها .(1/20)
الخامس : ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات , ذكي أو لم يذك وهو حلال , وذلك كحيوانات البحر كلها والجراد.
واستدل كثير من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) بطهارة الصبيان , وطهارة أفواههم , ولو بعد ما أصابتها النجاسة , وكذلك طهارة ريق الحمار والبغل وعرقه وشعره . وأين مشقة الهر من مشقة الحمار والبغل ؟
ويدل عليه : أنه صلى الله عليه وسلم كان يركبها هو وأصحابه , ولم يكونوا يتوقون منها ما ذكرنا , وهذا هو الصواب .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الحمر يوم خيبر : ( إنها رجس ) أي : لحمها رجس نجس حرام أكله , وأما ريقها وعرقها وشعرها : فلم ينه عنه , ولم يتوقه صلى الله عليه وسلم .
وأما الكلاب : فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسل ما ولغت فيه سبع مرات إحداهن بالتراب].
وقال ـ جزاه الله عن الإشلام وأهله خيراً ـ في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الصلوات الخمس , والجمعة إلى الجمعة , ورمضان إلى رمضان , مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ) رواه مسلم :
[ ... ، فهذه الفرائض الثلاث إذا تجنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بها الصغائر والخطيئات , وهي من أعظم ما يدخل في قوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ سورة هود : الآية 114 ] .
كما أن الله جعل من لطفه تجنب الكبائر سببا لتكفير الصغائر , قال تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } [ سورة النساء : الآية 31 ] أما الكبائر , فلابد لها من توبة .
وعلم من هذا الحديث : أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للسيئات , فإنما المراد به الصغائر , لأن هذه العبادات الكبار إذا كانت لا تكفر بها الكبائر فكيف بما دونها ؟ .
والحديث صريح في أن الذنوب قسمان : كبائر , وصغائر .
وقد كثر كلام الناس في الفرق بين الصغائر والكبائر !(1/21)
وأحسن ما قيل : إن الكبيرة ما رتب عليه حد في الدنيا , أو توعد عليه بالآخرة أو لعن صاحبه , أو رتب عليه غضب ونحوه , والصغائر ما عدا ذلك .
أو يقال : الكبائر : ما كان تحريمه تحريم المقاصد , والصغائر : ما حرم تحريم الوسائل , فالوسائل : كالنظرة المحرمة مع الخلوة بالأجنبية , والكبيرة : نفس الزنا , وكربا الفضل مع ربا النسيئة , ونحو ذلك , والله أعلم ].
علق رحمه الله على حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه ـ المتفق عليه ـ مرفوعاً : ( صلوا كما رأيتموني أصلي , وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم , وليؤمكم أكبركم ) متفق عليه [الحديث رقم 25 من "البهجة"] فقال :
(هذا الحديث احتوى على ثلاث جمل , أولها أعظمها :
الجملة الأولى : قوله : (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ) فيه مشروعية الأذان ووجوبه للأمر به , وكونه بعد دخول الوقت، ويستثنى من ذلك : صلاة الفجر فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إن بلالا يؤذن بليل , فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا ينادي حتى يقال له : أصبحت , أصبحت (.
وأن الأذان فرض كفاية , لا فرض عين , لأن الأمر من الشارع إن خوطب به كل شخص مكلف وطلب حصوله منه , فهو فرض عين . وإن طلب حصوله فقط , بقطع النظر عن الأعيان , فهو فرض كفاية . وهنا قال : ( فليؤذن لكم أحدكم (
والحديث يدل على وجوب الأذان في الحضر والسفر , والإقامة من تمام الأذان , لأن الأذان : الإعلام بدخول الوقت للصلاة , والإقامة : الإعلام بالقيام إليها ...(1/22)
الجملة الثانية : ( وليؤمكم أكبركم ) فيه : وجوب صلاة الجماعة وأن أقلها إمام ومأموم , وأن الأولى بالإمامة أقومهم بمقصود الإمامة , كما ثبت في الصحيح : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله , فإن كانوا في القراءة سواء , فأعلمهم بالسنة , فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة أو إسلاما ) فإذا كانوا متقاربين - كما في هذا الحديث - كان الأولى منهما أكبرهما ; فإن تقديم الأكبر مشروع في كل أمر طلب فيه الترتيب , إذا لم يكن للصغير مزيد فضل , لقوله صلى الله عليه وسلم ( كبر كبر ( ...
الجملة الثالثة : - وهي الأولى في هذا الحديث - قوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ( وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل , كما فعل ذلك في الحج , حيث كان يقوم بأداء المناسك ويقول للناس : ( خذوا عني مناسككم ( وهذه الجملة تأتي على جميع ما كان يفعله ويقوله ويأمر به في الصلاة , وذلك بأن يستكمل العبد جميع شروط الصلاة , ثم يقوم إلى صلاته ويستقبل القبلة , ناوياًَ الصلاة المعينة بقلبه ...
فجميع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من فعله وقوله وتعليمه وإرشاده داخل في قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وهو مأمور به , أمر إيجاب أو استحباب بحسب الدلالة .
فما كان من أجزائها لا يسقط سهوا ولا جهلا , ولا عمدا قيل له : ركن , كتكبيرة الإحرام , وقراءة الفاتحة , والتشهد الأخير , والسلام , وكالقيام , والركوع , والسجود , والاعتدال عنها .
وما كان يسقط سهوا ويجبره سجود السهو قيل له : واجب , كالتشهد الأول , والجلوس له , والتكبيرات غير تكبيرة الإحرام , وقول " سمع الله لمن حمده " للإمام والمنفرد , وقول : " ربنا ولك الحمد " لكل مصل , وقول : " سبحان ربي العظيم " مرة في الركوع , و " سبحان ربي الأعلى " مرة في السجود , وقول : " رب اغفر لي " بين السجدتين .(1/23)
وما سوى ذلك , فإنه من مكملاتها ومستحباتها , وخصوصا روح الصلاة ولبها , وهو حضور القلب فيها , وتدبر ما يقوله من قراءة , وذكر ودعاء , وما يفعله من قيام وقعود , وركوع وسجود , والخضوع لله , والخشوع فيها لله .
ومما يدخل في ذلك : تجنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة , كالضحك , والكلام , وكثرة الحركة المتابعة لغير ضرورة , فإن الصلاة لا تتم إلا بوجود شروطها وأركانها وواجباتها.
وانتفاء مبطلاتها التي ترجع إلى أمرين : إما إخلال بلازم , أو فعل ممنوع فيها , كالكلام ونحوه(انتهى.
وقال ـ رفع الله درجته في المهديين ـ في شرح حديث (26) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا , فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل , وأحلت لي الغنائم , ولم تحل لأحد قبلي , وأعطيت الشفاعة , وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة , وبعثت إلى الناس عامة ) متفق عليه .
=================
(فضل نبينا محمد بفضائل كثيرة فاق بها جميع الأنبياء , فكل خصلة حميدة ترجع إلى العلوم النافعة , والمعارف الصحيحة , والعمل الصالح , فلنبينا منها أعلاها وأفضلها وأكملها , ولهذا لما ذكر الله أعيان الأنبياء الكرام قال لنبيه : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } . [ سورة الأنعام : الآية 90 ]
وهداهم : هو ما كانوا عليه من الفضائل الظاهرة والباطنة ...)
ثم تحدث عن ميزة النصر بالرعب فقال :
((1/24)
وهذا نصر رباني وجند من السماء يعين الله به رسوله وأمته المتبعين لهديه , فمتى كان عدوه عنه مسافة شهر فأقل , فإنه مرعوب منه , وإذا أراد الله نصر أحد ألقى في قلوب أعدائه الرعب , قال تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } [ آل عمران : 151 ] وألقى في قلوب المؤمنين من القوة والثبات , والسكينة والطمأنينة ما هو أعظم أسباب النصر , فالله تعالى وعد نبينا وأمته بالنصر , وأن يعينهم بأسباب أرشدهم إليها , كالاجتماع والائتلاف , والصبر والاستعداد للأعداء بكل مستطاع من القوة إلى غير ذلك من الإرشادات الحكيمة , وساعدهم بهذا النصر , وقد فعل تبارك وتعالى , كما هو معروف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم والمتبعين له من خلفائه الراشدين والملوك الصالحين , تم لهم من النصر والعز العظيم في أسرع وقت ما لم يتم لغيرهم .
ثم تحدث عن الميزة الثانية : وهي قوله : ( وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ) وحقق ذلك بقوله : ( فأينما أدركت أحدا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ) فجميع بقاع الأرض مسجد يصلي فيها من غير استثناء إلا ما نص الشارع على المنع منه ... والشارع أناب التراب مناب الماء عند تعذر استعماله , فيدل ذلك على أنه إذا تطهر بالتراب ولم ينتقض وضوءه لم يبطل تيممه بخروج الوقت ولا بدخوله , وأنه إذا نوى التيمم للنفل استباح الفرض كطهارة الماء , وأن حكمه حكم الماء في كل الأحكام في حالة التعذر.(1/25)
الثالثة : قوله : ( وأحلت لي الغنائم , ولم تحل لأحد قبلي ) : وذلك لكرامته على ربه , وكرامة أمته وفضلهم , وكمال إخلاصهم , فأحلها لهم , ولم ينقص من أجر جهادهم شيئا , وحصل بها لهذه الأمة من سعة الأرزاق , وكثرة الخيرات , والاستعانة على أمور الدين والدنيا شيء لا يمكن عده , ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( وجعل رزقي تحت ظل رمحي ) أما من قبلنا من الأمم , فإن جهادهم قليل بالنسبة لهذه الأمة , وهم دون هذه الأمة بقوة الإيمان والإخلاص , فمن رحمته بهم أنه منعهم من الغنائم ; لئلا يخل بإخلاصهم , والله أعلم.
الرابعة : قوله : ( وأعطيت الشفاعة ) :وهي الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها كبار الرسل , وينتدب لها خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم , فيشفعه الله في الخلق , ويحصل له المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون , وأهل السماوات والأرض , وتنال أمته من هذه الشفاعة الحظ الأوفر , والنصيب الأكمل , ويشفع لهم شفاعة خاصة , فيشفعه الله تعالى , وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لكل نبي دعوة قد تعجلها , وقد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا ) , وقال : ( أسعد الناس بشفاعتي : من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) .
الخامسة : قوله : ( وكان النبي ) أي : جنس الأنبياء ( يبعث إلى قومه خاصة , وبعثت إلى الناس عامة ) وذلك لكمال شريعته وعمومها وسعتها , واشتمالها على الصلاح المطلق , وأنها صالحة لكل زمان ومكان , ولا يتم الصلاح إلا بها , وقد أسست للبشر أصولا عظيمة , متى اعتبروها صلحت لهم دنياهم كما صلح لهم دينهم .)انتهى .(1/26)
وقال ـ نور الله قبره ـ في شرحه للحديث (28) وهو حديث أبي أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر . ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا وأبشروا , واستعينوا بالغدوة والروحة , وشيء من الدلجة ) متفق عليه . وفي لفظ ( والقصد القصد تبلغوا ( .
[ ما أعظم هذا الحديث , وأجمعه للخير والوصايا النافعة , والأصول الجامعة , فقد أسس صلى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير , فقال : ( إن الدين يسر ( أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله , وفي أفعاله وتروكه ...
ثم ذكر رحمه الله نماذج من يسر الشريعة في الأركان الخمسة ثم قال ـ رحمه الله ـ :
ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده , فهي في نفسها ميسرة . قال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ سورة البقرة : الآية 185 ] ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما , رتب على ذلك من التخفيفات , وسقوط بعض الواجبات , أو صفاتها وهيأتها ما هو معروف .
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل , وصلاة وصيام وصدقة وغيرها , وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم رأى ذلك غير شاق عليه , ولا مانع له عن مصالح دنياه , بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها : حق الله وحق النفس , وحق الأهل والأصحاب , وحق كل من له حق على الإنسان برفق وسهولة , وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم , ولا بما علمه للأمة وأرشدهم إليه , بل غلا , وأوغل في العبادات = فإن الدين يغلبه , وآخر أمره العجز والانقطاع , ولهذا قال : " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو , ولم يقتصد : غلبه الدين , واستحسر ورجع القهقري . إلى أن قال رحمه الله :(1/27)
ثم ختم الحديث بوصية خفيفة على النفوس , وهي في غاية النفع . فقال : ( واستعينوا بالغدوة والروحة , وشيء من الدلجة ) وهذه الأوقات الثلاثة كما أنها السبب الوحيد لقطع المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسية , مع راحة المسافر , وراحة راحلته , ووصوله براحة وسهولة , فهي السبب الوحيد لقطع السفر الأخروي , وسلوك الصراط المستقيم , والسير إلى الله سيرا جميلا ، فمتى أخذ العامل نفسه , وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته - أول نهاره وآخر نهاره وشيئا من ليله , وخصوصا آخر الليل - حصل له من الخير ومن الباقيات الصالحات أكمل حظ , وأوفر نصيب . ونال السعادة والفوز والفلاح , وتم له النجاح في راحة وطمأنينة , مع حصول مقاصده الدنيوية , وأغراضه النفسية .
وهذا من أكبر الأدلة على رحمة الله بعباده بهذا الدين الذي هو مادة السعادة الأبدية , إذ نصبه لعباده , وأوضحه على ألسنة رسله , وجعله ميسرا سهلا , وأعان عليه من كل وجه , ولطف بالعاملين , وحفظهم من القواطع والعوائق . فعلمت بهذا : أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد .
القاعدة الأولى : التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم .
القاعدة الثانية : المشقة تجلب التيسير وقت حصولها .
القاعدة الثالثة : إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم .
القاعدة الرابعة : تنشيط أهل الأعمال , وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال .
القاعدة الخامسة : الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله , التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء . فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها ] انتهى.
وقال ـ رحمه الله ـ في شرح حديث (29) ،وهو حديث أبي هريرة مرفوعاً : (حق المسلم على المسلم ست : قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال إذا لقيته فسلم عليه , وإذا دعاك فأجبه , وإذا استنصحك فانصح له , وإذا عطس فحمد الله فشمته , وإذا مرض فعده , وإذا مات فاتبعه ) رواه مسلم .
[(1/28)
هذه الحقوق الستة من قام بها في حق المسلمين كان قيامه بغيرها أولى , وحصل له أداء هذه الواجبات والحقوق التي فيها الخير الكثير والأجر العظيم من الله.
الأولى : " إذا لقيته فسلم عليه " فإن السلام سبب للمحبة التي توجب الإيمان الذي يوجب دخول الجنة , ... والسلام من محاسن الإسلام , فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الشرور , وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير , ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة , ويزيل الوحشة والتقاطع . فالسلام حق للمسلم , وعلى المسلم عليه رد التحية بمثلها أو أحسن منها , وخير الناس من بدأهم بالسلام.
الثانية : ) إذا دعاك فأجبه ) أي دعاك لدعوة طعام أو شراب فاجبر خاطر أخيك الذي أدلى إليك وأكرمك بالدعوة , وأجبه لذلك إلا أن يكون لك عذر.
الثالثة : قوله : " وإذا استنصحك فانصح له " أي إذا استشارك في عمل من الأعمال : هل يعمله أم لا ؟ فانصح له بما تحبه لنفسك , فإن كان العمل نافعا من كل وجه فحثه على فعله , وإن كان مضرا فحذره منه , وإن احتوى على نفع وضرر فاشرح له ذلك ووازن بين المصالح والمفاسد , ... وهذه النصيحة واجبة مطلقا , ولكنها تتأكد إذا استنصحك وطلب منك الرأي النافع , ولهذا قيده في هذه الحالة التي تتأكد.
الرابعة: قوله : " وإذا عطس فحمد الله فشمته " ... فمن لم يحمد الله لم يستحق التشميت , ولا يلومن إلا نفسه , فهو الذي فوت على نفسه النعمتين : نعمة الحمد لله , ونعمة دعاء أخيه له المرتب على الحمد .
الخامسة : قوله : " وإذا مرض فعده " عيادة المريض من حقوق المسلم , وخصوصا من له حق عليك متأكد , كالقريب والصاحب ونحوهما , وهي من أفضل الأعمال الصالحة , ... ولا يطيل عنده الجلوس , بل بمقدار العيادة , إلا أن يؤثر المريض كثرة تردده وكثرة جلوسه عنده , فلكل مقام مقال .(1/29)
السادسة : قوله : "وإذا مات فاتبعه " ... واتباع الجنازة فيه حق لله , وحق للميت , وحق لأقاربه الأحياء.] انتهى المقصود منه.
وقال ـ أنزل الله على قبره الرحمة ـ في شرحه للحديث (30) ،وهو حديث أبي موسى مرفوعاً : )إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما ) رواه البخاري .
[هذا من أكبر منن الله على عباده المؤمنين : أن أعمالهم المستمرة المعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كتبت لهم كلها كاملة ; لأن الله يعلم منهم أنه لولا ذلك المانع لفعلوها , فيعطيهم تعالى بنياتهم مثل أجور العاملين مع أجر المرض الخاص , ومع ما يحصل به من القيام بوظيفة الصبر , أو ما هو أكمل من ذلك من الرضى والشكر , ومن الخضوع لله والانكسار له , ومع ما يفعله المسافر من أعمال ربما لا يفعلها في الحضر : من تعليم , أو نصيحة , أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية , وخصوصا في الأسفار الخيرية , كالجهاد , والحج والعمرة , ونحوها .
ويدخل في هذا الحديث : أن من فعل العبادة على وجه ناقص وهو يعجز عن فعلها على الوجه الأكمل , فإن الله يكمل له بنيته ما كان يفعله لو قدر عليه , فإن العجز عن مكملات العبادات نوع مرض , والله أعلم .
ومن كان من نيته عمل خير , ولكنه اشتغل بعمل آخر أفضل منه , ولا يمكنه الجمع بين الأمرين ، فهو أولى أن يكتب له ذلك العمل الذي منعه منه عمل أفضل منه , بل لو اشتغل بنظيره , وفضل الله تعالى عظيم]انتهى.
وقال ـ رفع الله درجته ـ في شرح حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( أسرعوا بالجنازة , فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه , وإن تك غير ذلك , فشر تضعونه عن رقابكم ) متفق عليه .
قوله صلى الله عليه وسلم :( أسرعوا بالجنازة ( يشمل : الإسراع بتغسيلها وتكفينها وحملها ودفنها وجميع متعلقات التجهيز ،... ويستثنى من هذا الإسراع :
إذا كان التأخير فيه مصلحة راجحة , كأن يموت بغتة , فيتعين تأخيره حتى يتحقق موته ; لئلا يكون قد أصابته سكتة .(1/30)
وينبغي أيضا تأخيره لكثرة الجمع , أو لحضور من له حق عليه من قريب ونحوه , وقد علل ذلك بمنفعة الميت لتقديمه لما هو خير له من النعيم , أو لمصلحة الحي بالسرعة في الإبعاد عن الشر ...
وفيه : الحث على البعد عن أسباب الشر , ومباعدة المجرمين , حتى في الحالة التي يبتلى الإنسان فيها بمباشرتهم) انتهى المقصود.(1/31)