بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله البر الرؤوف تعبدنا بالخوف، وعمر به الجوف، وأزال به الجيف وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب الخائفين، فضَّلهم على العالمين وجعل كتابهم في عليين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد الخائفين وقدوة الخاشعين، صلى الله عليه وسلم كلما خشع القلب وغفر الذنب.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله الذي { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255].
خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 11، 12]، وكرمكم وحملكم في البر والبحر، ورزقكم من الطيبات وفَضَّلَكم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وجَبَلَكم على حب الشرف؛ لأنه رفعة في الدرجات وأمن في الحياة وتميُّز عن الكائنات.(1/1)
وليس الشرف في كثرة المال؛ لأن المال فتنة. يقول تعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن: 15]، ولأن الله يعطي المال مَن يحب ومَن لا يحب، ولأن المال يؤخِّر أهله عن دخول الجنة خمسمائة سنة، ولأن حلاله حساب وحرامه عقابه، ولأن العبد يُسْأَل عنه يوم القيامة سؤالين: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
وليس الشرف في النسب؛ لأن شرف الإنسان في طاعته وليس في نَسَبه. يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].
ولأن المقاييس بالإيمان، وليست المقاييس بالمناصب، يقول - صلى الله عليه وسلم - : «رُبَّ أشعث أغبر ذو خمرين لو أقسم على الله لأَبَرَّه».
وانتسب رجل إلى تسعة هو عاشرهم فدخل بهذا النسب النار، ولم ينتفع أبو طالب بشرف نسبه إذ هو من المخلدين في النار، ولم يتضرر بلال بوضاعة نسبه إذ هو مؤذِّن الإسلام وبُشِّر بالجنة وهو لا يزال حيًّا في الدنيا. إذ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لقد سمعت خشخشة نعليك البارحة في الجنة يا بلال»، وقال عمر عن بلال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا – يعني بلالاً -.
وليس الشرف في كثرة الأولاد؛ لأنهم فتنة. يقول تعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15]، ولأن منهم مَن هو عدو لنا كما قال تعالى: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } [التغابن: 14]، ولأن الولد مجبنة يدعو إلى الجبن عند لقاء العدو، إذ يتذكر الأب ولده من بعده فيترك الجهاد، ومبخلة إذ يترك النفقة في سبيل الله من أجله، ومحزنة إذ يتألم عند مرضه وعند موته، وكم من الأولاد يجلبون لأهليهم العار والنار والدمار.
* * * *(1/2)
الشرف الحقيقي
والشرف الحقيقي هو طاعة الله؛ لأن الله يرفع أهلها، إذ قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11]، ولأن الله يدافع عن أهلها، إذ يقول: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا } [الحج: 38]، ولأن أهلها هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والطاعة هي وظيفة الإنسان التي من أجلها خُلِق، فشرفه بها وهلاكه بتركها، وبالطاعة شرفت الملائكة عليهم السلام؛ إذ أسكنهم الله سماواته { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]، وبالطاعة شرفت الأنبياء عليهم السلام إذ جاؤوا بها ودعوا الناس إليها، والطاعة شرف في الدنيا والآخرة، جعلها الله نورًا في القلب وبياضًا في الوجه، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخَلْق.
وبدن بلا طاعة كشجرة بلا ثمر وشمعة بلا نور. ولقد ضعفت الطاعة في نفوس الكثير من الناس بل ثقلت على كثير من النفوس، ويصدق عليها قوله - صلى الله عليه وسلم - : «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب». بل ولربما تركها الكثير واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة: 19].(1/3)
وسبب هذا الضعف والترك هو خلو القلب من خوف الله تعالى ونسيانه. ولمَّا خَلَت القلوب من خوف الله ملئت بحب الدنيا وتواردت عليها المعاصي حتى اسودت وقست وانتكست، ولما نست الله أنساها الله أنفسها بل ونسيها، والحق أن القلوب لا تحيا إلا بالخوف من الله؛ لأنه سياطها الذي يسوقها إلى الله ويدلها على الخير ويحذرها من الشر، وهو نورها الذي ينورها؛ لتهتدي إلى صراط مستقيم، وتؤمن بالله إيمانًا صادقًا وتعمل عملاً صادقًا وتحيا حياة سعيدة، والخوف هو سوط الله الذي يسوق به عباده إلى العلم والعمل لينالوا بهما القرب من الله تعالى، وبه يتألم القلب من توقع مكروه في المستقبل قد انعقد سببه.
* * * *
بضاعة الصالحين
والخوف يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات، والخوف يحرق الشهوات المحرمة فتصير المعاصي المحبوبة عندها مكروهة كما يصير العسل مكروهًا عن من يشتهيه إذا عرف أن فيه سمًا؛ فبالخوف يسلم الإنسان من الأهواء والشهوات، وبه تتأدب الجوارح ويحصِّل من القلب خشوعًا وذلة واستكانة، ويسلم الإنسان من الكِبر والحق والحسد وينشغل بالمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والخوف هو بضاعة الصالحين، ولأهمية الخوف أمر الله به في كتابه فلا عذر لمؤمن أن يتركه؛ يقول تعالى: { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [النحل: 51]، ويقول: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175].(1/4)
وجعله الله ركنًا من أركان العبادة، لا تتم العبادة إلا به؛ لأن به الذل لله تعالى والخشوع والخشية والانقياد والتواضع، وبه تحب النفوس الطاعات وتكره السيئات، وبه تنقلب السيئة حسنة. يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل: «إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها حتى يعملها فإذا عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها حسنة». وفي الحديث الآخر: «ومَن همَّ بسيئة فتركها من جرائي كتبها الله عنده حسنة كاملة».
ومما يدل على أهميته أن الله تعالى قدَّمه على الرجاء ليكون العبد خائفًا ربه في دنياه راجيًا ربه في أُخراه، ولأن الخوف كالتحلية، والرجاء كالتحلية؛ ولأن الحياة والشباب والصحة والغِنى والفقر تحتاج إلى الخوف، والآخرة والمرض تحتاج إلى الرجاء. يقول الله تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [السجدة: 16]، ويقول: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر: 9]، والأولى أن يقدم العبد الخوف حال الصحة ويقدم الرجاء حال المرض؛ ففي الحديث عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت، فقال: «كيف تجدك؟» قال: والله يا رسول الله، إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف».(1/5)
وقد جمع الله للخائفين الهُدى والرحمة والعلم والرضوان، وهي مجامع ومقام أهل الجنان. يقول الله تعالى: { هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [الأعراف: 154]، ومَن هداه الله فلا مضلَّ له، ومَن رحمه الله لم يعذبه. يقول تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28]. ويقول تعالى: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: 8].
والخوف من لوازم الإيمان؛ إذ أمر الله به وجعله شرطًا في الإيمان؛ فلا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف، ولذا يقول تعالى: { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175]، والخوف صفة من صفات الملائكة رضوان الله عليهم؛ فإنهم أهل خوف ووجل دائم؛ لأنهم أعرف الخلق بالله، ومَن كان لله أعرف كان منه أخوف. يقول تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50]، وإذا سمعوا أمر الله خَرُّوا له سُجَّدًا، وأول من يرفع رأسه جبريل فيوحي إليه الرب ما يشاء ثم يخبر الملائكة بذلك. وفي الحديث: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحق لها أن تئط، ما منها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله». قال أبو ذر راوي الحديث: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعامًا على شهوة ولا شربتم شرابًا على شهوة أبدًا ولا دخلتم بيتًا تستظلون به ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل.(1/6)
ويقول - صلى الله عليه وسلم - : «مررت ليلة أُسْرِي بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى»، وقال - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: «ما لي لا أرى ميكائيل يضحك». قال: «يا محمد، ما ضحك ميكائيل منذ خَلَق الله النار». وهكذا العارفون بالله تعالى.
فقد ورد أن الحسن البصري مرَّ على شباب يضحكون فقال لهم: هل أخذتم كتبكم بأيمانكم. قالوا: لا. قال: هل عبرتم الصراط إلى الجنة. قالوا: لا. قال: فلم تضحكون وأنتم لا تدرون أين تصيرون.
وكذلك ربعي بن حراش قال: والله ما أضحك حتى أعلم هل أنا في الجنة أم لا. فلمَّا توفي وجد مبتسمًا.
والخوف صفة من صفات الأنبياء، فها هو رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس خشية لله وأكثرهم خوفًا منه، يقول - صلى الله عليه وسلم - : «أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له»، وكان إذا رأى السحاب تغير وحزن وعَلَتْه كآبة، فتقول له عائشة: لماذا تحزن يا رسول الله؟ قال: «أخشى أن تكون عذابًا، فإن الله قال عن عاد: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } » [الأحقاف: 24]، وكان إذا سمع الريح أقبل وأدبر، وقام وقعد، ودخل وخرج، وعرف ذلك فيه، فإذا سئل قال: «أخشى أن تكون عذابًا، فإن الله أهلك بها عاد». وكان إذا دخل في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المِرْجَل من شدة خوفه من الله تعالى، وقال لابن مسعود: «اقرأ عليَّ القرآن». فقرأ عليه سورة النساء، فلمَّا وصل إلى قوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [النساء: 41] قال: «حسبك». قال ابن مسعود: فنظرت إلى عينيه فإذا بها تذرفان بالدمع.(1/7)
ومن خوفه لربه أنه كان يذكر الله على جميع أحواله، وكان إذا صلَّى أطال الصلاة، وكان يقوم الليل حتى تورَّمت قدماه، وكان يدعو في سجوده ويقول: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك».
والخوف صفة من صفات أهل الإيمان؛ يقول تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 60، 61]. قالت عائشة: يا رسول الله، هؤلاء هم الذين يسرقون ويشربون الخمر ويزنون، ومع ذلك يخافون الله. قال: «لا يا ابنة الصدِّيق، هم الذين يصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل الله منهم، أولئك يسارعون في الخيرات».
وفي الحديث: «أن رجلاً حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله فقال: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا عليَّ الناس حتى إذا صرت فحمًا فاسحقوني، ثم إذا كان ريح عاصف فذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك. ففعلوا، فقال الله: كن فكان رجلاً قائمًا، فقال الله له: يا عبدي، ما حملك على ما فعلت. قال: مخافتك يا رب. فتلقاه برحمته وغفر له».
* وكان أبو بكر - رضي الله عنه - من أشد الناس خوفًا من الله؛ إذ كان يأخذ بلسان نفسه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وكان يقول: يا ليتني كنت شعرة من جنب عبد مؤمن، وكان لا يأكل الطعام حتى يسأل من أين هو، ويومًا من الأيام جاءه غلام بطعام فلم يسأل، فلما أكل لقمة سأله، فقال: تكهنت لأناس من الجاهلين فأعطوني هذا الطعام، فاستعاد اللقمة من بطنه حتى خرجت، وقال: والله لو خرجت نفسي معها لأخرجتها؛ لأن كل جسم نبت من السُحت فالنار أولى به.(1/8)
* وكان عمر من أشد الناس خوفًا من الله تعالى، يقول: لو نادى مناد من السماء: أيها الناس كلكم يدخل الجنة إلا رجل واحد. لظننت أن أكون هو. وكان في وجهه خطَّان أسودان من كثرة البكاء، وسمع قارئًا يقرأ { وَالطُّورِ } فنزل من على راحلته واستند للجدار حتى وصل إلى { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فبكى ثم رجع إلى بيته ولزم فراشه مريضًا يعوده الناس شهرًا كاملاً.
* وكان عثمان خائفًا لله تعالى؛ إذا وقف على القبر بكى حتى يبلل لحيته، وقال: لو أني بين الجنة والنار، ولا أدرك إلى أيهما أصير، لاخترت أن أكون رمادًا.
* وبكى أبو هريرة في مرضه، فقيل: ما يبكيك يا أبا هريرة. قال: ما أبكي على دنياكم، ولكن أبكي لأن السفر طويل والزاد قليل، وأصبحت في صعود وهبوط، فلا أدري أصعد إلى الجنة أو أهبط إلى النار.
* وكان علي بن الحسين إذا قام يتوضأ يتغير لونه، وإذا قام يصلي يصفر ويحمر ويقول: أتدرون بين يدي مَن أقف، إني أقف بين يدي الله. وكان إذا أراد أن يلبي في الحج تلون كذلك، وقال: أخشى أن أقول: لبيك اللهم لبيك. فيُقال لي: لا لبيك ولا سعديك.
والخوف سبب من أسباب دخول الجنة، يقول الله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46]. ويقول تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 40، 41].
ويقول عن أهل الجنة: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور: 25-27].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «مَن خاف أدْلَج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية».
والخوف سبب من أسباب النجاة من النار؛ ففي الحديث: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».(1/9)
* وفي الآخر: لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع.
* ومن حكمة الله أنه لا يجمع على عبده بين أمنين ولا خوفين؛ مَن خاف في الدنيا أمنه الله يوم القيامة، ومَن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة، ومَن خاف الله أخاف منه كل شيء.
واعلموا أن الخوف يُثْمِر دوام ذِكر الله ودوام مراقبته؛ لعلم الخائف أن الله يسمع كلامه ويُبْصِر أفعاله ويعلم بحاله، ويُثْمِر سلامة القلب؛ لأن الخوف لا يَحِلُّ إلا في القلوب السليمة، ويُثْمِر حفظ الجوارح؛ لتؤدي حق الله عليها، ولتسابق إلى الخيرات، وتبتعد عن السيئات، ويُثْمِر صلاح العمل؛ ليكون خالصًا لله تعالى موافقًا للسُنَّة، ويُثْمِر الزُّهد في الدنيا والإعراض عنها وتركها، والرغبة في الآخرة كأنما هي الساعة غدًا أو بعد غد، ويُثْمِر التواضع والحِلم والأناة وحسن الخلق ويمنع من الكبر والعجب والخيلاء.
فهل حققنا الخوف ليغمر القلوب وليغمر الحياة وتؤدى العبادة على أكمل وجه، ونقدر الله حق قدره ونعظمه حق تعظيمه، وفق الله الجميع للعمل بكتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وصلى الله على نبينا محمد.
* * * *(1/10)