الخُلاصَةُ
في فِقْهِ الدَّعْوَةِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430هـ -2009 م
(( ماليزيا))
((بهانج- دار المعمور ))
((حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه العزيز: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
أي ادعُ -أيها الرسول- أنت ومَنِ اتبعك إلى دين ربك وطريقه المستقيم، بالطريقة الحكيمة التي أوحاها الله إليك في الكتاب والسنة، وخاطِب الناس بالأسلوب المناسب لهم، وانصح لهم نصحًا حسنًا، يرغبهم في الخير، وينفرهم من الشر، وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين. فما عليك إلا البلاغ، وقد بلَّغْتَ، أما هدايتهم فعلى الله وحده، فهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين (1) .
فالدعوة إلى دين الله تعالى جزء لا ينجزأ من هذه الرسالة العظيمة، وقد فصَّل القول فيها القرآن الكريم، والرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وسائر أحواله .
وقد كتب عنها الكثير الطيب ولاسيما في عصرنا هذا، وقد سبق لي أن جمعت كتاباً كبيراً في هذا الموضوع وهو (( المفصل في فقه الدعوة إلى الله )).
وهناك مذكرة في فقه الدعوة جمع وإعداد: الأستاذ حسام عبد الرحمن، وهي مختصرة وجيدة في بابها، ولكن الأدلة فيها غير دقيقة، والعزو غير دقيق، ولا تخلو من بعض الآراء الشاذة والمنحرفة .
__________
(1) - التفسير الميسر - (4 / 491)(1/1)
وقد استفدت منها كثيراً، وسرت على تقسيماتها من حيث المبدأ،إلا أني لم أعرج على أدلتها بتاتاً، ولا على الآراء الشاذة فيها، بل بينت بطلانها في أمكنتها.
فدين الله تعالى ليس من عند البشر حتى يفسره كل واحد حسب هواه ؛ بل هو من عند الله تعالى، ومن ثم لا يجوز تفسيره بغير ما فسره السلف الصالح رضي الله عنهم
والعجيب في أمر في بعض الدعاة أنهم يتصرفون في دين الله تعالى تصرفاً عجيباً ليرضوا أعداء الإسلام - وما هم براضين- فيحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويخالفون الإجماع القطعي بحجة المصلحة وتطور الزمان !!!!.
ولكن لا عجب ولا غرابة بعد أن بين لنا الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خطر هؤلاء على الأمة وحذرنا منهم، فعَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يَقُولُ: كُنْتُ مُخَاصِرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا إِلَى مَنْزِلِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلَى أُمَّتِي مِنَ الدَّجَّالِ فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَدْخُلَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ شَيْءٍ أَخْوَفُ عَلَى أُمَّتِكَ مِنَ الدَّجَّالِ ؟ قَالَ: الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ (1) .
هذا وقد تطرقت في كتابي للمباحث التالية:
المبحث الأول= تعاريف
المبحث الثاني= خصائصُ الدَّعوةِ الإسْلاميَّةِ
المبحث الثالث= أساليب الإقناع وطُرُقُهُ المختلفة
المبحث الرابع= قواعد وأسس للفهم الصحيح
المبحث الخامس= درجات الإصلاح في نظر الدعوة الصحيحة
المبحث السادس= من صفات الداعية الناجح
المبحث السابع= موقف الداعي من المجتمع
المبحث الثامن= القواعد والأصول المرتبطة بالدعوة وفنونها
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 147)(21297) 21622- صحيح لغيره(1/2)
المبحث التاسع= قواعد أساسية في الدعوة إلى الله - تعالى -
المبحث العاشر= التعريف قبل التكليف
المبحث الحادي عشر= التدرج في التكاليف
المبحث الثاني عشر = التيسير لا التعسير، والتبسيط لا التعقيد ...
المبحث الثالث عشر= الأُصول قبل الفروع
المبحث الرابع عشر= الترغيب قبل الترهيب أو البشارة قبل النذارة ...
المبحث الخامس عشر= التفهيم لا التلقين
المبحث السادس عشر= التربية لا التعرية
المبحث السابع عشر= تلميذ إمام ( أستاذ وذي تجربة ) لا تلميذ كتاب ...
المبحث الثامن عشر= نصائح لا بد من مراعاتها أثناء الدعوة ...
المبحث التاسع عشر= قواعد في التصورات والأساليب والوسائل
المبحث العشرون= الخلاصة في فقه الأولويات
1- أولوية الـ ( كيف ) على الـ ( كم )، ( أولوية الكيفية على الكمية ) ...
2- الأولويات في مجال العلم والفكر
3- الأولويات في مجال الفتوى والدعوة
4- الأولويات في مجال العمل
5- الأولويات في مجال المأمورات
6- الأولويات في مجال المنهيات
7- الأولويات في مجال الإصلاح ( أي أثناء عملية الإصلاح )
وذكرت لكل قول دليلاً معتبراً من القرآن والسنة المقبولة، وشرحت كثير من الآيات القرآنية، فما لم أذكر مصدره فهو من التفسير الميسر، وأما الأحايث فقد(1/3)
قمت بتخريجها من مصادرها الأساسية والحكم عليها وشرح غريبها، وتوسعت في بعض الموضوعات حسب مقتضى الحال .
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
أسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 12 شوال 1430 هـ الموافق ل 2/10/2009 م
- - - - - - - - - - - -(1/4)
المبحث الأول
تعاريف
عِلْمُ فِقْهِ الدَّعْوَةِ:
هوعلمٌ يَبْحَثُ في كَيْفِيَّةِ الدعوةِ إلى اللهِ دعوةً صحيحةً واعِيَةً مُعْتَمِدَةً على دراسةِ فُنونِ الشَّريعةِ المختلفةِ وعلومٍ أخرى كالإدارةِ وعلمِ الاجْتِماعِ وعلمِ النَّفسِ وغيرِها، وَلِذا فهوعلمٌ مُهِمٌّ وَوَاسِعٌ وشامِلٌ ودَقيقٌ.
هل هذا العلمُ بِدْعَةٌ؟
لا، بَلْ كانَ موجوداً في زمنِ الرسولِ - - صلى الله عليه وسلم - - كما جاءَ ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ، وإِنْ لمْ يكنْ مكتوباً في الكتبِ.وهذا العلمُ - أيضاً -كانَ في زمنِ الأنبياءِ كُلِّهِمْ - عليهم السَّلامُ - كما ورَدَ ذلكَ في آياتٍ كثيرةٍ.
معنى كلمة " دعوة" في اللغةِ:
لها عِدَّةُ معاني، منها :
1-النِّداءُ، مثال: دَعَوْتُ الرجلَ، أيْ: ناديتهُ.
2-الحَثُّ على قَصْدِ شيءٍ ما، مثال: دعوتُ إلى إفطارٍ.
3-الدعوةُ إلى أمْرٍ يُرادُ إِثباتُهُ أوالدِّفاعُ عنْهُ سواءً أكانَ حَقَّاً أمْ باطلاً، مثال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} (41) سورة غافر.
4-المُحاوَلةُ القَوليَّةُ أوالفعليَّةُ لإِمالَةِ الناسِ إلى مَذْهَبٍ أومِلَّةٍ.
5-الابْتهالُ والسؤالُ، مثال: دعوتُ اللهَ أنْ يغفِرَ لي .
ماذا نُسَمِّي مَنْ يعملُ بالدعوةِ؟
نُسمِّيهِ: الدَّاعِي أوالداعِيَة، والجمْعُ: دُعاةٌ.
أصْنافُ الدعوةِ أوأصنافُ الدُّعاةِ :
هُناكَ صِنْفانِ :(1/5)
1- دعاةٌ إلى الخيرِ والهُدَى، أمثلة: الأنبياءُ والرُّسُلُ، الصَّحَابَةُ والتَّابِعون، الأئِمَّةُ والخُطَبَاءُ ...الخ.
2- دعاةٌ إلى الشَّرِّ والضَّلالِ، أمثلة: الشياطينُ، المُلْحِدونَ، المُفْسِدونَ...الخ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا. رواه مسلمٌ (1) .
الداعيةُ إلى اللهِ :
هوالذي يُحاوِلُ دعوةَ الناسِ بالقولِ والعملِ إلى الإسلامِ وإلى تَطْبيقِ مَنْهَجِهِ وَاعْتِنَاقِ عقيدَتِهِ بالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحسَنَةِ .
الدعوةُ إلى اللهِ واجِبٌ ثَقيلٌ :
أيْ: أنها أمانَةٌ عَظِيمَةٌ لا بُدَّ مِنْ حَمْلِها، وَمَنْ أرادَ حَمْلَ شيءٍ ثَقيلٍ فلا بُدَّ أنْ :
أ- يكونَ قوياً، وَإِلا لمْ يسْتَطِعْ حَمْلَهُ.
ب- يَحْمِلَهُ بطريقةٍ سليمةٍ، وَإِلا أفسد نفسه أَوأَفْسَدَ الْمَحْمُولَ.
لذلك جهز اللهُ-سبحانه وتعالى-الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - عندما قالَ: " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوانْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوزِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمل: 1 - 5] " سورة المزمل، ليستَطيع حمل الدعوة: " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا."
وبعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حمل الصحابة - رضوان الله عليهم - الأمانَة وبعدهم التابعون..وهكذا حتى وصلتنا .
أهداف الدعوة التي نعنيها :
الدعوة التي نعنيها والتي يجب على المسلمين القيام بها تهدف إلى :
1-تأسيس مجتمع إسلامي في المجتمعات الجاهلية.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6980 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 318)(112)(1/6)
2-دعوة الإصلاح في المجتمعات المسلمة التي أصابها شيء من الانحراف.
3-استمرار الدعوة في المجتمعات القائمة بالحق للحفاظ على سلامتها وحمايتها من أهل الباطل.
وهكذا نرى أنَّ أهداف الدعوة تختلف باختلاف المجتمع وطبيعته.
حكم الدعوة إلى الله والأدلة على ذلك:
الدعوة إلى الله فريضة شرعية، والأدلة على وجوبها كثيرة منها :
1- قال الله - تعالى -: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران .
ولتكن منكم -أيها المؤمنون- جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف، وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهى عن المنكر، وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وأولئك هم الفائزون بجنات النعيم.
واللام في "ولتكن" هي لام الأمر التي تدل على الوجوب.
2- قال الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (160) سورة البقرة
إن الذين يُخْفون ما أنزلنا من الآيات الواضحات الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، وهم أحبار اليهود وعلماء النصارى وغيرهم ممن يكتم ما أنزل الله من بعد ما أظهرناه للناس في التوراة والإنجيل، أولئك يطردهم الله من رحمته، ويدعو عليهم باللعنة جميع الخليقة.
إلا الذين رجعوا مستغفرين الله من خطاياهم، وأصلحوا ما أفسدوه، وبَيَّنوا ما كتموه، فأولئك أقبل توبتهم وأجازيهم بالمغفرة، وأنا التواب على من تاب من عبادي، الرحيم بهم; إذ وفقتُهم للتوبة وقبلتها منهم.
وفي هاتين الآيتين وَعيدٌ شديد لِمَنْ كَتَمَ ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب.(1/7)
3- قال الله - تعالى -: " وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) سورة العصر.
أقسم الله بالدهر على أن بني آدم لفي هلكة ونقصان. ولا يجوز للعبد أن يقسم إلا بالله، فإن القسم بغير الله شرك. إلا الذين آمنوا بالله وعملوا عملا صالحًا، وأوصى بعضهم بعضًا بالاستمساك بالحق، والعمل بطاعة الله، والصبر على ذلك.
4- عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنهم - ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ]، إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوَا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ. (1) .
5- قال الله - تعالى -: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
ادعُ -أيها الرسول- أنت ومَنِ اتبعك إلى دين ربك وطريقه المستقيم، بالطريقة الحكيمة التي أوحاها الله إليك في الكتاب والسنة، وخاطِب الناس بالأسلوب المناسب لهم، وانصح لهم نصحًا حسنًا، يرغبهم في الخير، وينفرهم من الشر، وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين. فما عليك إلا البلاغ، وقد بلَّغْتَ، أما هدايتهم فعلى الله وحده، فهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين.
6- القاعدة الفقهية: " ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلا به فهوواجبٌ ".وإقامة الدين وإظهار الإسلام والحق واجب، ولكنه لا يحصل إلا بالدعوة فهي واجبة.
هل الدعوة فرض عين أم فرض كفاية؟
هي فرض كفاية على الأمة إن كان فيها مَنْ يقوم بالدعوة والتعليم.وأما عند قلة الدعاة وغلبة الجهل فإن الدعوة تكون فرض عين .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 540)(305) صحيح(1/8)
هل الدعوة فرض على الرجال وحدهم، أم تَشْمَلُ النساء؟
الدعوة فرض على الرجال والنساء، كلٌّ حسب إمْكانِيَّاته وقُدراته.وقد وصف الله - تبارك وتعالى - المجتمع الإسلامي بأنه مجتمع دعوة يقوم بها المؤمنون والمؤمنات فقال- عز وجل -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
والمؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله بعضهم أنصار بعض، يأمرون الناس بالإيمان والعمل الصالح، وينهونهم عن الكفر والمعاصي، ويؤدون الصلاة، ويعطون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، وينتهون عما نُهوا عنه، أولئك سيرحمهم الله فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته. إن الله عزيز في ملكه، حكيم في تشريعاته وأحكامه.
وفي مقابل هذه الصورة الطيبة بَيَّنَ الله - سبحانه -صورة المنافقين والمنافقات يدعون إلى الباطل، فقال - تعالى -: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة
المنافقون والمنافقات صنف واحد في إعلانهم الإيمان واستبطانهم الكفر، يأمرون بالكفر بالله ومعصية رسوله وينهون عن الإيمان والطاعة، ويمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله، نسوا الله فلا يذكرونه، فنسيهم من رحمته، فلم يوفقهم إلى خير. إن المنافقين هم الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله.
وقال الله - تعالى -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
أنتم - يا أمة محمد - خير الأمم وأنفع الناس للناس، تأمرون بالمعروف، وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهون عن المنكر، وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وتصدقون بالله تصديقًا جازمًا يؤيده العمل. ولو آمن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما(1/9)
جاءهم به من عند الله كما آمنتم، لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، منهم المؤمنون المصدقون برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - العاملون بها، وهم قليل، وأكثرهم الخارجون عن دين الله وطاعته.
سبب خيرية الأمة الإسلامية مذكور في الآية وهو:
1- لأن الناس في الأمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (أي يقومون بواجب الدعوة).
2- لأنهم يؤمنون بالله - عز وجل - .قال الله - عز وجل -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف
قل لهم -أيها الرسول-: هذه طريقتي، أدعو إلى عبادة الله وحده، على حجة من الله ويقين، أنا ومن اقتدى بي، وأنزِّه الله سبحانه وتعالى عن الشركاء، ولستُ من المشركين مع الله غيره.
هذه سبيلي: أي: هذه طريقي في الحياة.
ما هي؟
أدعوإلى الله: سبيلي الدعوة إلى الله.
ولكن، كيف تكون الدعوة إلى الله؟
على بصيرة: أي: على نور ومعرفة وعلم وفقه لطريق الدعوة وقواعدها .
ولكن، مع مَنْ أدعو؟
أنا ومَن اتبعني: أي: مع الدعاة الذين يتبعون الحق ويدعون إليه.
وسبحان الله وما أنا من المشركين: أي: وفي طريقي ودعوتي أذْكُرُ الله وأنَزِّهُهُ عن كل نَقْصٍ وأتَوَكَّلُ عليه وأخْلِصُ له النية غير مُشْرِكٍ به .
الدعوة ضرورة اجتماعية :
أي أنَّ الدعوة ضرورية للمجتمع لا يَسْتَغْني عنها، بل هومحتاج إليها دائماً لِعِدَّة أسباب، منها :(1/10)
1- الناس في حاجة إلى مَنْ يُبيِّن لهم ما أمر الله به وما نهى عنه فَيَدَلُّهُم على طريق الخير ويُبعدهم عن طريق الشر.
2- في المجتمع مَن يحاول إفساده وتدمير أفكاره وأخلاقه وجَرَّه إلى طريق الضياع.فلننظر مثلا إلى نشر الإلحاد، ونشر المخدِّرات والدعوة إلى الزنا وشرب الخمر ...و...و..، وبهذا نرى أنَّ المجتمع يحتاج إلى الدعاة الواعين الذين يَحْمُونَه ويحفظون أهله بالرِّفْق والحكمة، ونستطيع تسمية الدعاة "حُرّاساً للمجتمع " يَسْهَرون على الخير له .
3- السكوت عن المنكرات والمفسدات يؤدي في النهاية إلى ضياع المجتمع كله بصالحه وطالحه .
وقد شبَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجتمع بالسفينة في البحر، ولكي تنجوالسفينة وتصل إلى شاطئ الأمان لا بُدَّ أن يُمنَعَ المفسدون والمُخَرِّبون من ثَقْبِها.فعن عَامِرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ، وَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، الْمُدَّهِنِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَأَوْعَرَهَا، وَشَرَّهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا الْمَاءَ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَآذَوْهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ، هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، نَجَوْا جَمِيعًا. رواه البخاري (1) .
وقال الله - تعالى -: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (25) سورة الأنفال.
واحذروا -أيها المؤمنون- اختبارًا ومحنة يُعَمُّ بها المسيء وغيره لا يُخَص بها أهل المعاصي ولا مَن باشر الذنب، بل تصيب الصالحين معهم إذا قدروا على إنكار الظلم ولم ينكروه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره ونهيه.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 276)(18370) 18560- وصحيح البخارى- المكنز - (2493)(1/11)
أي: أنَّ ترك الفساد في المجتمع دون محاولة إزالته بالحكمة ودون الدعوة إلى الله قد تكون نتيجته عذاباً لا يصيب الذين ظلموا فحسب، بل يَعُمُّ الجميع.
4- إنَّ نهاية الأمة والمجتمع يكون بكثرة الخبَث والفساد وعدم وجود مَنْ يدعوإلى الله.لذلك جاء عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ. رواه الأمام أحمد (1) .
أي: عندما لا يكون في الأمة مَنْ يقول كلمة الحق بالطريقة الصحيحة فإنَّ النتيجةَ ستكون نهاية الأمة .
5- إنَّ المجتمع الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، يُخشى أن تُصيبَه لعنة الله ،كما أصابت الكافرين مِنْ بني إسرائيل ، قال تعالى :{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }[المائدة: 78 - 81] .
يخبر تعالى أنه طرد من رحمته الكافرين من بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله على داود -عليه السلام- وهو الزَّبور، وفي الكتاب الذي أنزله على عيسى - عليه السلام - وهو الإنجيل; بسبب عصيانهم واعتدائهم على حرمات الله.
كان هؤلاء اليهود يُجاهرون بالمعاصي ويرضونها، ولا يَنْهى بعضُهم بعضًا عن أيِّ منكر فعلوه، وهذا من أفعالهم السيئة، وبه استحقوا أن يُطْرَدُوا من رحمة الله تعالى
تَرَى -أيها الرسول- كثيرًا من هؤلاء اليهود يتخذون المشركين أولياء لهم، ساء ما عملوه من الموالاة التي كانت سببًا في غضب الله عليهم، وخلودهم في عذاب الله يوم القيامة.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 598)(6521) صحيح(1/12)
ولو أن هؤلاء اليهود الذين يناصرون المشركين كانوا قد آمنوا بالله تعالى والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأقرُّوا بما أنزل إليه -وهو القرآن الكريم- ما اتخذوا الكفار أصحابًا وأنصارًا، ولكن كثيرًا منهم خارجون عن طاعة الله ورسوله.
فضل الدعوة إلى الله :
فضلها عظيم، وهناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تدلُّ على ذلك، منها :
1- قال الله- تعالى -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت
أي: لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه. وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه، وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة، وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - .
2- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ، لَكِنِ ائْتِ فُلاَنًا، قَالَ: فَأَتَى الرَّجُلَ، فَأَعْطَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ أَوْ عَامِلِهِ. رواه مسلم (1) .
فَإنْ كنت تريد أضعافاً مُضاعَفَة مِنَ الأجور فَدُلَّ الناسَ على الخير وادْعُ إلى الله، وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أُجور الأمة إلى يوم القيامة، ومِنْ بعده الصحابة والتابعون وكل داعية يحمل الدعوة بصدق وإخلاصٍ وفهم .
3- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟ قَالُوا: تَشْتَكِي عَيْنَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟ قَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5007 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 525)(289)(1/13)
اللهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ. متفق عليه (1) .
أي: إنْ كنتَ سبباً في هداية إنسان واحد فلك أجرٌ عظيمٌ، وهوخير لك من الإبل الحمراء ( وكانت ثمينة جداً عند العرب )، وفي عصرنا: خير لك من الأبنية والقصور والسيارات الفارهة...
4- عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِى جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ ». رواه الإمام الترمذي (2) .
وقال بعض العلماء: إنَّ أثر الدعوة ونشر الهدى يصل للحيوانات ( الحفاظ عليها ورعايتها ) مِمَّا يدعوها إلى الدعاء للداعية !
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3701) وصحيح مسلم- المكنز - (6376 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 377)(6932)
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2901 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمَّارٍ الْحُسَيْنَ بْنَ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيرًا فِى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ.(1/14)
المبحث الثاني
خصائصُ الدَّعوةِ الإسْلاميَّةِ
للدعوة الإسلامية خصائص تَنْفَرِدُ بها عن غيرها من الدعوات، ومنها :
1- أنَّها رّبَّانِيَّةٌ، فهي من عند الله.وأنها لم تتغيرْ ولم تتبدلْ،وهذا يطمئنُ النفسَ أنها خيرٌ لأنفسنِا،وأنَّ السعادةَ تكمنُ في تنفيذها،وأنَّ الشقاءَ يترتبُ على تركها:
أ.فالخيرُ والبركةُ والسعادةُ ووفرة ُالإنتاج كلُّها من بركاتِ تطبيقِ الشريعة المبنية على هذه العقيدة:
قال تعالى:{ وَلَوأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }.(الأعراف:96).
فلوأن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب،واتقوا بدل الاستهتار لفتح اللّه عليهم بركات من السماء والأرض..هكذا..«بركات من السماء والأرض» مفتوحة بلا حساب.من فوقهم ومن تحت أرجلهم.والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر،الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات..
وأمام هذا النص - والنص الذي قبله - نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء.وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان،تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال.بل تنكره كل الإنكار!..
إن العقيدة الإيمانية في اللّه،وتقواه،ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة،وعن خط تاريخ الإنسان.
إن الإيمان باللّه،وتقواه،ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض.وعدا من اللّه.ومن أوفى بعهده من اللّه؟
ونحن - المؤمنين باللّه - نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن،فنصدقه ابتداء،لا نسأل عن علله وأسبابه ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله..نحن نؤمن باللّه - بالغيب - ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان..(1/15)
ثم ننظر إلى وعد اللّه نظرة التدبر - كما يأمرنا إيماننا كذلك - فنجد علته وسببه! إن الإيمان باللّه دليل على حيوية في الفطرة وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية وصدق في الإدراك الإنساني،وحيوية في البنية البشرية،ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود..وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان باللّه قوة دافعة دافقة،تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها،وتتجه بها إلى وجهة واحدة،وتطلقها تستمد من قوة اللّه،وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها،وفي دفع الفساد والفتنة عنها،وفي ترقية الحياة ونمائها..وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.والإيمان باللّه تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد.وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية للّه،أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة.من العبيد للهوى ولبعضهم بعضا! وتقوى اللّه يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور،في دفعة الحركة ودفعة الحياة..
وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج،فلا يعتدي،ولا يتهور،ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح.
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح،عاملة في الأرض،متطلعة إلى السماء،متحررة من الهوى والطغيان البشري،عابدة خاشعة للّه..تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد اللّه بعد رضاه.فلا جرم تحفها البركة،ويعمها الخير،ويظلها الفلاح..والمسألة - من هذا الجانب - مسألة واقع منظور - إلى جانب لطف اللّه المستور - واقع له علله وأسبابه الظاهرة،إلى جانب قدر اللّه الغيبي الموعود..
والبركات التي يعد اللّه بها الذين يؤمنون ويتقون،في توكيد ويقين،ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها.
وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان،النابع من كل مكان،بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان.فهي البركات بكل أنواعها وألوانها،وبكل صورها وأشكالها،ما يعهده الناس وما يتخيلونه،وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال! والذين يتصورون الإيمان باللّه وتقواه مسألة تعبدية بحتة،لا صلة لها بواقع الناس في الأرض،لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون(1/16)
الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها اللّه - سبحانه - وكفى باللّه شهيدا.ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس:«وَلَوأَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»..
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمما - يقولون:إنهم مسلمون - مضيقا عليهم في الرزق،لا يجدون إلا الجدب والمحق!..ويرى أمما لا يؤمنون ولا يتقون،مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ..فيتساءل:وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال! إن أولئك الذين يقولون:إنهم مسلمون..لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم للّه،ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا اللّه! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم،يتألهون عليهم،ويشرعون لهم - سواء القوانين أوالقيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين.فالمؤمن لا يدع عبدا من العبيد يتأله عليه،ولا يجعل عبدا من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره..ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقا.دانت لهم الدنيا،وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض،وتحقق لهم وعد اللّه (1) .
2- أنَّها وَسَطِيَّةٌ في اختِيارِ الله لها.إنَّ العقيدة َالإسلامية وسطٌ بين الذينَ ينكرونَ كلَّ ما وراءِ الطبيعةِ مما لم تصلْ إليه حواسُّهم،وبين الذين يثبتونَ للعالم ِ أكثرَ من إلهٍ،والذين يحلُّون روحَ الإله في الملوكِ والحكام،بل وفي بعض الحيواناتِ والنباتات والجماداتِ؟!!.
فقد رفضتِ العقيدةُ الإسلامية الإنكارَ الملحدَ،كما رفضتِ التعددَ الجاهلَ والإشراكَ الغافلَ،وأثبتتْ للعالمِ إلهاً واحداً لا شريكَ له.كما أنها وسطٌ في الصفاتِ الواجبةِ لله تعالى،فلمْ تسلكْ سبيلَ الغلوفي التجريدِ فتجعلْ صفاتِ الإله صوراً ذهنيةً مجردةً عن معنًى قائمٍ بذاتٍ لا توحِي بخوفٍ ولا رجاءٍ،كما فعلتِ الفلسفةُ اليونانية،ولم تسلكْ كذلك سبيلَ التشبيهِ والتمثيلِ والتجسيمِ كما فعلتْ بعضُ العقائدِ حيثُ جعلتْ الإلهَ كأنهُ أحدُ المخلوقين يلحقُه ما يلحقُهم من نقصٍ وعيوبٍ.فالعقيدةُ الإسلاميةُ تنزهُ الله تعالى إجمالاً عن
__________
(1) -- فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1338)(1/17)
مشابهةِ المخلوقينَ بقواعدَ مثلَ قوله تعالى:{..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوالسَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) سورة الإخلاص
،وقوله تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (65) سورة مريم.
ومعَ هذا تصفُه بصفاتٍ إيجابيةٍ فعالةٍ تبعثُ الخوفَ والرجاءَ في نفوسِ العباد كما في قوله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوالْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوالْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) سورة البقرة .
ثم إنها وسطٌ بين التسليمِ الساذجِ والتقليدِ الأعمى في العقائدَ،وبينَ الغلووالتوغلِ بالعقلِ لإدراك ِكلِّ شيءٍ حتى الألوهيةِ.فهي تنهَى عن التقليدِ الأعمَى،حيث عابَ اللهُ على القائلين {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف،وتنهى عن التوغلِ بالعقلِ لإدراك ِكيفية صفاتِ الربِّ عزَّ وجلَّ فقال تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (110) سورة طه ،وقال تعالى:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء،وتدعوهم إلى التوسطِ والأخذ ِبالمدركاتِ كوسائطَ قال تعالى:{ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) [الذاريات/20،21] }.
فليس فيها الغلوفي التجريد الذي جعل صفات الإله مجرد سلوب لا تعطي معنى،ولا توحي بخوف أورجاء ـ كما فعلت الفلسفة اليونانية ـ فكل ما وصفت به الإله أنه ليس بكذا وليس بكذا..من غير أن تقول ما صفات هذا الإله الإيجابية؟ وما أثرها في هذا العالم؟
ويقابل هذا أنها خلت من التشبيه والتجسيم الذي وقعت فيه عقائد أخرى كاليهودية،التي جعلت الخالق كأحد المخلوقين من الناس،ووصفته بالنوم والتعب والراحة،والتحيز والمحاباة(1/18)
والقسوة..و..وجعلته يلتقي ببعض الأنبياء فيصارعه فيغلبه ويصرعه،فلم يتمكن الرب من الإفلات منه حتى أنعم عليه بلقب جديد!
وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (143) سورة البقرة
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا،فتقيم بينهم العدل والقسط وتضع لهم الموازين والقيم وتبدي فيهم رأيها فيكون هوالرأي المعتمد وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهمفتفصل في أمرها،وتقول:هذا حق منها وهذا باطل.لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها.وهي شهيدة على الناس،وفي مقام الحكم العدل بينهم..وبينما هي تشهد على الناس هكذا،فإن الرسول هوالذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها ويحكم على أعمالها وتقاليدها ويزن ما يصدر عنها،ويقول فيه الكلمة الأخيرة..
وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها..لتعرفها،ولتشعر بضخامتها.ولتقدر دورها حق قدره،وتستعد له استعدادا لائقا..
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل،أومن الوسط بمعنى الاعتدال والقصد،أومن الوسط بمعناه المادي الحسي..
«أُمَّةً وَسَطاً»..في التصور والاعتقاد..لا تغلوفي التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي.إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد،أوجسد تتلبس به روح.وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد،وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها،وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع،بلا تفريط ولا إفراط،في قصد وتناسق واعتدال.
«أُمَّةً وَسَطاً»..في التفكير والشعور..لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة...ولا تتبع كذلك كل ناعق،وتقلد تقليد القردة المضحك..إنما تستمسك بما لديها(1/19)
من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب وشعارها الدائم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها،في تثبت ويقين.
«أُمَّةً وَسَطاً»..في التنظيم والتنسيق..لا تدع الحياة كلها للمشاعر،والضمائر،ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب.إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب،وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك،فلا تكل الناس إلى سوط السلطان،ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان..ولكن مزاج من هذا وذاك.
«أُمَّةً وَسَطاً»..في الارتباطات والعلاقات..لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته،ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أوالدولة ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته..إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.
ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو،ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة،والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
«أُمَّةً وَسَطاً»..في المكان..في سرة الأرض،وفي أوسط بقاعها.وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب،وجنوب وشمال،وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا،وتشهد على الناس جميعا وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
«أُمَّةً وَسَطاً»..في الزمان..تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها.
وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات،ورصيدها العقلي المستمر في النماء وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.(1/20)
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه اللّه لها،إلا أنها تخلت عن منهج اللّه الذي اختاره لها،واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها اللّه لها،واصطبغت بصيغات شتى ليست صبغة اللّه واحدة منها! واللّه يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمة تلك وظيفتها،وذلك دورها،خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية،فللقيادة تكاليفها،وللقوامة تبعاتها،ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى،ليتأكد خلوصها للّه وتجردها،واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة (1) .
3- أنَّها إيجابِيَّةٌ في نظرتها للكون والإنسان والحياةِ .
مميزات التصور الإسلامي عن الإنسان والكون والحياة :
أـ وضوح الأفكار التي بنى عليها نظام حياة المسلم
ب ـ منطقية هذه المعتقدات ومعقوليتها وملاءمتها للفطرة.
ج ـ تمتاز المعتقدات الإسلامية بعرضها عرضا مقنعا إذ يستنبطها القرآن من لفت الأنظار إلى الواقع المحسوس.
د ـ لوتساءل إنسان عن اتخاذ القرآن الأسلوب الاستجوابي الحسي العاطفي لقلنا أنه يريد أن تتحول المعرفة إلى حركة فكرية وعاطفية ثم إلى قوة دافعة لتحقيق مدلولهافي عالم الواقع.
مازال الإنسان منذ وجوده على البسيطة مأخوذًا بسوء الفهم لنفسه يميل الى جانب الإفراط حينا قال تعالى: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } (38) سورة القصص.
وإلى جانب التفريط حينا آخر فيظن أنه أرذل كائن في الكون فيحني رأسه أمام شجر أوشمس أوبقر، فيبين الإسلام الإنسان على حقيقته وبين أصله، ومميزاته ومافضل به ومهمته في الحياة وعلاقته بالكون.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 130)(1/21)
اولاً: نظرة الاسلام إلى الانسان ترجع حقيقة الإنسان إلى أصلين :الأصل البعيد: الخلقة الأولى من طين ،الأصل القريب: خلقه من نطفة ،قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) } [السجدة: 7 - 10].
ولفت القرآن، نظر الإنسان إلى حقارة ذلك الماء الذي خلق منه في رحم أمه قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) }[الطارق: 5، 6]
ليندد بغطرسة الإنسان ويهذب كبريائه فيجعله متواضعا واقعيا في حياته ثم بين له عناية الله في ظلمات الرحم حينما أنشأه جنينا ورباه حتى أتم خلقه قال تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوفَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (6) سورة الزمر.فبين حقيقة الانسان وأصل خلقته
ثانياـ الإنسان مخلوق مكرم :
بين الإسلام للنوع البشري أنه ليس من الذلة والمهانه في درجة يتساوى فيها مع الحيوان وسائر المخلوقات قال تعالى :{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء.
فقد رزق الله الإنسان قدرة جعله بها يسيطر على ماحوله من الكائنات وسخرها الله له فمنعه أن يذل نفسه لشيء منها .
ثالثاًـ الإنسان مميز مختار :
وهذا مما كرم الله به الإنسان أن جعله قادر على التمييز بين الخير والشر وأعطاه الارادة يستطيع أن يختار بين الطرق المؤدية للخير والشر قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) } [الشمس: 7 - 10]
رابعاً ـ ومما كرم الله به الإنسان وفضله :(1/22)
* القدرة على التعلم والمعرفة قال تعالى: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) }[العلق: 3 - 5]
* تزويده بأدوات القدرة على التعلم قال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (78) سورة النحل
* وأيضا من هذه الأدوات اللسان والقدرة على البيان قال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) } [البلد: 8 - 10]
وقال: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (4) سورة الرحمن
*وأهم أهداف التفكير والتعلم عند الإنسان أن يتعلموا شريعة الله وأيضا التفكر في خلق السماوات والأرض وفي أنفسهم قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الذاريات
خامساًـ مسؤولية الإنسان وجزاؤه :
عندما كرم الإسلام الإنسان وفضله وميزه على الكائنات حمله مسؤلية تطبيق الشريعة وتحقيق العبادة لله قال تعالى :{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب
وعندما جعل له الحرية والإرادة والقدرة جعله مجزيا بما اختار قال تعالى :{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } سورة الزلزلة
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَزُولُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ " (1) .
سادساـ المهمة العليا للانسان، عبادة الله ،وجماع كل هذه المسؤليات إخلاص العبادة لله وحده قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (4 / 2105)(5292 ) صحيح لغيره(1/23)
وتمتاز نظرة الإسلام للكون بأنها تعمل على تحريك عواطف الإنسان وشعوره بعظمة الله وصغره أمامه إضافة إلى البراهين العقلية الدالة على وحدانية الله
أولاًـ الكون كله مخلوق لله خلقه لهدف وغاية ،قال تعالى :{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}(16) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (39) سورة الدخان
أما تحريك العواطف فبالاستفهام والحض على العبادة قال تعالى :{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (67) سورة الزمر.
ثانياً ـ خضوع الكون لسنن سنها الله وفق أقدار قدرها الله قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) }[يس: 37 - 40]
وقال :{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (12) سورة الإسراء
فيتضح من الآية الأولى أن جميع الخلائق مقدرة معيشتها ،كما يتضح من الآية الثانية أن ماتوصل إليه العلم في الرياضيات كل ذلك يرجع إلى ماتعلمه الإنسان من عدد الأيام والسنين .
ثالثاً ـ الكون مسير مدبر دائما بقدرة الله ،قال تعالى :{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (65) سورة الحج(1/24)
والإنسان جزء من هذا الكون واقع عليه ماقدره الله قال تعالى: {وَهُوالْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} (61) سورة الأنعام.
رابعاًـ وكذلك الإنسان قد رتب الله سننا اجتماعية لحياته ،فأرسل على أساسها الرسل وعذب الأمم وأهلك بعضها وغيَّر أحوالها قال تعالى :{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } (137) سورة آل عمران
خامساًـ ومن الفقرتين السابقتين ينتج معنا أن كل مافي الكون خاضع لله ولتدبيره ولأمره ولإرادته ومشيئته قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء.
سادساً ـ كثير مما في الكون مسخر للانسان زاخر بالنعم، لذا فإن الدين الإسلامي يمتاز بأن الإنسان يستخدم ما حوله من كائنات في سبيل مصلحته قال تعالى: {هُوالَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29) سورة البقرة
ونجد لذلك أثر تربوي :أن هذه الآية وأمثالها كثير ترقق قلب الإنسان وتربي عواطفه وانفعالاته على الخشوع لله وتربي العقل على مبدأ علمي هذا من الناحية العلمية والاجتماعية والحضارية، أما من الناحية التربوية فقد ربانا الله على عدم التعدي في استخدام ماحولنا في هذا الكون .
وأما نظرة الاسلام إلى الحياة فيقوم على الأسس التالية :
أولا- مبدأ الحياة وكيف جعلها الله دار اختيار وامتحان
إن الإسلام نظر إلى الحياة نظرة جدية ملؤها الشعور بالمسؤلية فرأينا أن للحياة مبدأين :
أولهما: خلق آدم من طين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وأسجد الملائكة له قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (30) سورة الحجر(1/25)
ولقد ميز الله البشرية منذ خلقها بميزتين: 1ـ العلم والعقل، والإرادة والاختيار، والتمييز بين الخير والشر 2ـ أنه مخلوق من طين ثم من دم ولحم ،قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (28) سورة النساء، وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (16) سورة الأعلى
وقال :{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } سورة العصر .
ولكي ندرك كمال التصور القرآني للنفس والكون والحياة فتأمل وصف القرآن للحياة، فجعلها دار امتحان يمر بها ليصل إلى الدار الباقية .
ثانياـ وصف القرآن للحياة الدنيا
إن الدنيا متاع مؤقت فلا يغتر العبد بها وينسى الهدف الذي خلق من أجله قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (86) سورة البقرة
هناك عدة صفات للحياة الدنيا وعلاقتها بالإنسان :
أ ـ متاع مؤقت ومكان عبور
ب ـ مملؤة بالزينة والزخرف والشهوات
ج ـ يجوز للمسلم بل يحق له التمتع بالحياة الدنيا وزينتها في حدود الشرع
د ـ الدنيا عالم له قوانينه الاجتماعية والبشرية التي سنها الله بين الأمم
هـ ـ الحياة الدنيا قصيرة الأمد قال تعالى:{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} (103) سورة طه
والحياة الدنيا دار تعب وكدح وجد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (6) سورة الإنشقاق
ز ـ المؤمنون ينصرهم الله في الدنيا والآخرة قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (51) سورة غافر(1/26)
ح ـ الحياة الدنيا دار لعب ولهووتفاخر وتكاثر قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْووَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (20) سورة الحديد
4- أنَّها واقِعِيَّةٌ حين تتعامَلُ مع الفرد والمجتمع .
المراد بالواقعية في شريعة الإسلام أنها تراعي واقع الحياة التي يعيش فيها الإنسان، فالشرائع التي في الإسلام ملائمة لفطرة الإنسان وواقعه وحياته، ولهذا فهي الشريعة القادرة على إسعاد البشرية كلها.
فكل عقائد الإسلام ليس فيها شيء غير واقعي، فالإيمان لابد أن يكون بإله واحد لا شريك له حتى تجتمع حواس الإنسان وإرادته وتكون كلها لله سبحانه.
والإيمان في شريعة الإسلام عقيدة واقعية، فالمؤمن لا يحكم بإيمانه إلا إذا قام بالعمل واجتهد، فالإيمان قول واعتقاد وعمل. والرسول في عقيدة الإسلام بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. والقرآن كلام الله المنزل على رسوله المتعبد بتلاوته، وحروفه وألفاظه من الله تعالى. فليس في شريعة الإسلام وعقائده ما يستغرب أوما هومثالي لا يمكن أن يتلائم مع واقع البشرية.
إن الأديان والفلسفات الوضعية والديانات المحرفة لم تكن واقعية، لأنها لم تلب حاجات البشرية ولم تسعدها، والواقع يشهد بهذا. لقد جاء الإسلام بعبادات واقعية. لأنه عرف ظمأ الجانب الروحي في الإنسان إلى الاتصال بالله، ففرض عليه من العبادات ما يروي ظمأه ويشبع نهمه ويملأ فراغ نفسه. فقد قضى الله أن في الإنسان جوعة لايسدها إلا الإيمان بالله والصلة به. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُواللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملكبلى سبحانه.
ومع هذا لم يشرع له عبادات فوق طاقته، بل جعلها ميسرة سهلة، قال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُواجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ(1/27)
وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُومَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج.
ومن واقعية الإسلام أن جعل محفزات ومرغبات للعمل الصالح، ومرهبات ومنفرات عن العمل السيء، لأن الإنسان بفطرته وطبيعته لا يحركه إلى الخير ولا يبعده عن الشر إلا شوق يحفزه ويدفعه، أوخشية تحجزه وتمنعه، وليس كالشوق إلى مثوبة الله وجنته والنظر إلى وجهه حافز، ولا كالخوف من عذابه وبطشه وانتقامه حاجز ومانع.
ومن واقعية شريعة الإسلام أنها لم تحرم على الإنسان شيئاً هوفي حاجته، وكذلك لم تبح له شيئاً يعود عليه بالضرر، قال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف. ومن واقعية شريعة الإسلام أنها أقرت بأن الإنسان مفطور على الميل إلى اللهووالمرح والترويح عن النفس، فضبطت ووجهت تلك الغريزة، ولم تمنعها وتكبتها، بل هذبتها، فأباحت كل لهوليس فيه محرم وصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وحرمت ما اشتمل على ضد ذلك، كالغناء بآلات اللهووالطرب والموسيقى والكلام الفاحش البذيء، وأباحت الشعر والإنشاد بالدف وبالكلام المباح.
فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُوبَكْرٍ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ وَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَأَنَا جَارِيَةٌ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ (1) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (987 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2100 ) وصحيح ابن حبان -ط الرسالة - (13 / 177) (5868)
المسجى : المغطى -العربة : المشتهية للعب الحريصة عليه(1/28)
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِدُفَّيْنِ، وَتُغَنِّيَانِ فِي أَيَّامِهِمَا، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَتِرٌ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُوبَكْرٍ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبَهُ وَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ الْحَبَشَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامُوا يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دَعْهُمْ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُمْ هُمْ بَنُوأَرْفِدَةَ (1) .
وقَالَتْ عَائِشَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ: لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ (2) .
5- أنَّها أخْلاقِيَّةٌ في وسائلها وغاياتها .
فهي تأمر أهلها بكل خير،وتنهاهم عن كل شر،فتأمرهم بالعدل والاعتدال،وتنهاهم عن الظلم والانحراف ،قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[النحل:90]
إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ،وَيَنْدُبُ إِلَى الإِحْسَانِ وَالفَضْلِ،وَيَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحْمِ وَإِعْطَاءِ ذَوِي القُرْبَى مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ،وَيَنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالفَوَاحِشِ،مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ،مِمَّا يَأْتِيهِ العَبْدُ سِرّاً وَخِفْيَةً وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالخَيْرِ،وَيَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَالشَّرِّ،لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطْرَةِ مِنْ وَحْيٍ قَوِيمٍ أَصِيلٍ،فَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ.
لقد جاء هذا الكتاب لينشىء أمة وينظم مجتمعا،ثم لينشىء عالما ويقيم نظاما.جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أوأمة أوجنس إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية.
__________
(1) - صحيح ابن حبان -ط الرسالة - (13 / 186) (5876) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 202)(24855) 25367- صحيح(1/29)
ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات،واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب،والثقة بالمعاملات والوعود والعهود:
جاء «بِالْعَدْلِ» الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل،لا تميل مع الهوى،ولا تتأثر بالود والبغض،ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب،والغنى والفقر،والقوة والضعف.إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع،وتزن بميزان واحد للجميع.
وإلى جوار العدل..«الْإِحْسانِ»..يلطف من حدة العدل الصارم الجازم،ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب،وشفاء لغل الصدور.ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أويكسب فضلا.
والإحسان أوسع مدلولا،فكل عمل طيب إحسان،والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل،فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه،وعلاقاته بأسرته،وعلاقاته بالجماعة،وعلاقاته بالبشرية جميعا.
ومن الإحسان «إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى"إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه،وتوكيدا عليه.وما يبني هذا على عصبية الأسرة،إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام.وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل.
« وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ»..والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد.ومنه ما خصص به غالبا وهوفاحشة الاعتداء على العرض،لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها.والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة.وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها.والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي.ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها،والمنكر بكل مغرراته،والبغي بكل معقباته،ثم يقوم..
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة،مهما تبلغ قوتها،ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها.وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي.فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من(1/30)
الدهر،فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة،فهي تنتفض لطردها،كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه.وأمر اللّه بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة،ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم اللّه.لذلك يجيء التعقيب:«يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم (1) .
6- أنَّها شُمولِيَّةٌ في منهاجها .
شمول لجميع حاجات الفرد،في قلبه وعاطفته وأحاسيسه وفي مشاعره وجوارحه وفي متطلبات حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والعالمية،فهي شاملة لكل ما يحتاجه أوما يحقق السعادة للناس في الدنيا والآخرة.
إن هذه العقيدة تشمل الإنسان كله،جسمه وعقله وروحه،كما تشمل سلوكه وفكره ومشاعره،كما تشمل دنياه وآخرته.
ليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بهذه العقيدة ولا تتصل العقيدة به.
إنها تصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته،وفي كل عمل يعمله،أوفكر يفكره،أوشعور يختلج في ضميره.
ويتضح لنا الشمول في مجالات متعددة،وعلى محاور مختلفة،تلتقي كلها في النهاية:
ا- ففي مجال الاعتقاد تشمل - كما رأينا - الإيمان بالله واليوم الاخر والملائكة والنبيين والكتب السماوية والقدر خيره وشره.
ب- وفي مجال العمل تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت.
ت- وفي مجال الكائن البشري تشمل حركة جسمه وتفكّر عقله وانطلاقة روحه.
ث- وفي مجال المجموع البشري تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة في ذات الوقت.
__________
(1) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2190)(1/31)
ج- وفي مجال العلاقات تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بغيره ( في داخل الأسرة وفي داخل المجتمع وفيما بين المسلمين وغير المسلمين،وفيما بين الإنسان والكون كذلك ! ).
ولن توجد دائرة أوسع من هذه ولا أشمل.لأن هذه تشمل كل شيء في الوجود ! (1) .
فهي عامة،شاملة،صالحة لكل زمان ومكان،وحال،وأمة.بل إن الحياة لا تستقيم إلا بها.قال تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..} (3) سورة المائدة
إن قول اللّه سبحانه لهذه الأمة:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ،وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»..يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها،وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة،كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية فلا تعديل فيها ولا تغيير فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره.وتعديل شيء فيه كإنكاره كله لأنه إنكار لما قرره اللّه من تمامه وكماله وهذا الإنكار هوالكفر الذي لا جدال فيه..أما العدول عنه كله إلى منهج آخر،ونظام آخر،وشريعة أخرى فلا يحتاج منا إلى وصف،فقد وصفه اللّه - سبحانه - في السورة.ولا زيادة بعد وصف اللّه - سبحانه - لمستزيد..
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد،وشريعة خالدة.وأن هذه الصورة التي رضيها اللّه للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة..إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان وليس لكل زمان شريعة،ولا لكل عصر دين..إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر،قد اكتملت وتمت،ورضيها اللّه للناس دينا.
فمن شاء أن يبدل،أويحور أويغير،أويطور! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان،فليبتغ غير الإسلام دينا..«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ».
__________
(1) -ركائز الإيمان للعلامة محمد قطب بتحقيقي (ص 422)(1/32)
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي،والشعائر التعبدية،والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله وهويسمح للحياة بأن تنموفي إطاره وترتقي وتتطور دون خروج على أصل فيه ولا فرع،لأنه لهذا جاء،ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين..
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أوإهمالها لأصل فيه ولا فرع ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوي كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور بلا خروج على أصل أوفرع.ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج لأن اللّه - سبحانه - لم يكن يخفى عليه - وهويضع هذا المنهج في صورته الأخيرة،ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع،وأن هناك حاجات ستبرز،وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات.فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا. (1) .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة،وتوجيهات عميقة،ومقتضيات وتكاليف..
إن المؤمن يقف أولا:أمام إكمال هذا الدين يستعرض موكب الإيمان،وموكب الرسالات،وموكب الرسل،منذ فجر البشرية،ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة.رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين..فماذا يرى؟..يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل.موكب الهدى والنور.ويرى معالم الطريق،على طول الطريق.ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه.ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان..رسالة خاصة،لمجموعة خاصة،في بيئة خاصة..ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه متكيفة بهذه الظروف..كلها تدعوإلى إله واحد - فهذا هوالتوحيد - وكلها تدعوإلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هوالدين - وكلها تدعوإلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا
__________
(1) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 833)(1/33)
هوالإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف..
حتى إذا أراد اللّه أن يختم رسالاته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة،رسولا خاتم النبيين برسالة «للإنسان» لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة،في زمان خاص،في ظروف خاصة..رسالة تخاطب «الإنسان» من وراء الظروف والبيئات والأزمنة لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير:
«فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»..وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة «الإنسان» من جميع أطرافها،وفي كل جوانب نشاطها وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان..وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة «الإنسان» منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات،لكي تستمر،وتنمو،وتتطور،وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإطار..وقال اللّه - سبحانه - للذين آمنوا:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»..
فأعلن لهم إكمال العقيدة،وإكمال الشريعة معا..فهذا هوالدين..ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال.ولا قصورا يستدعي الإضافة.ولا محلية أوزمانية تستدعي التطوير أوالتحوير..وإلا فما هوبمؤمن وما هوبمقر بصدق اللّه وما هوبمرتض ما ارتضاه اللّه للمؤمنين! إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن،هي شريعة كل زمان،لأنها - بشهادة اللّه - شريعة الدين الذي جاء «للإنسان» في كل زمان وفي كل مكان لا لجماعة من بني الإنسان،في جيل من الأجيال،في مكان من الأمكنة،كما كانت تجيء الرسل والرسالات.
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي.والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنموفي داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان دون أن تخرج عليه،إلا أن تخرج من اطار(1/34)
الإيمان! واللّه الذي خلق «الإنسان» ويعلم من خلق هوالذي رضي له هذا الدين المحتوي على هذه الشريعة.
فلا يقول:إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم،إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من اللّه بحاجات الإنسان وبأطوار الإنسان! ويقف المؤمن ثانيا:أمام إتمام نعمة اللّه على المؤمنين،بإكمال هذا الدين وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة.
النعمة التي تمثل مولد «الإنسان» في الحقيقة،كما تمثل نشأته واكتماله.«فالإنسان» لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له.وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين.وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه،كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه.
و«الإنسان» لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة اللّه وحده وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع اللّه وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه.
إن معرفة «الإنسان» بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد «الإنسان»..إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوي يمكن أن يكون «حيوانا» أوأن يكون «مشروع إنسان» في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون «الإنسان» في أكمل صورة للإنسان،إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن..
والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة،وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان!
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية،لهوالذي يحقق «للإنسان» «إنسانيته» كاملة..يحققها له وهويخرجه بالتصور الاعتقادي،في اللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات،إلى دائرة «التصور» الإنساني،الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات.
عالم الشهادة وعالم الغيب..عالم المادة وعالم ما وراء المادة..وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود!(1/35)
ويحققها له وهويخرجه بتوحيد اللّه،من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده،والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه.فإلى اللّه وحده يتجه بالعبادة،ومن اللّه وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام،وعلى اللّه وحده يتوكل ومنه وحده يخاف ..
ويحققها له،بالمنهج الرباني،حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه،ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء،والاستعلاء على نوازع الحيوان،ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام!
ولا يدرك حقيقة نعمة اللّه في هذا الدين،ولا يقدرها قدرها،من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه اللّه - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها..ويلاتها في التصور والاعتقاد،وويلاتها في واقع الحياة..هوالذي يحس ويشعر،ويرى ويعلم،ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة اللّه في هذا الدين..
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى،وويلات الحيرة والتمزق،وويلات الضياع والخواء،في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان..هوالذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان.
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى،وويلات التخبط والاضطراب،وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية،هوالذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام.ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة،يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات.لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم،في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن..
كانوا قد ذاقوا الجاهلية..ذاقوا تصوراتها الاعتقادية.وذاقوا أوضاعها الاجتماعية.وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية.وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة اللّه عليهم بهذا الدين وحقيقة فضل اللّه عليهم ومنته بالإسلام.
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية وساربهم في الطريق الصاعد،إلى القمة السامقة فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك.(1/36)
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام،والملائكة،والجن،والكواكب،والأسلاف وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة لينقلهم إلى أفق التوحيد.إلى أفق الإيمان بإله واحد،قادر قاهر،رحيم ودود،سميع بصير،عليم خبير.عادل كامل.قريب مجيب.لا واسطة بينه وبين أحد والكل له عباد،والكل له عبيد..ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة،ومن سلطان الرياسة،يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة..
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية.من الفوارق الطبقية ومن العادات الزرية ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان (لا كما هوسائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية!).
«فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال.وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه،لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
«وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا،وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول:
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامة ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذوالخزامة «وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره.
«وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء.
«وقد قيل عن عزة كليب وائل:إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد،فلا يجسر أحد على الدنومن مكان يسمع فيه نباحه.وقيل:«لا حر بوادي عوف»(1/37)
لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره.فكلهم أحرار في حكم العبيد..».
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية..كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة،والمرأة المنكودة،والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية،والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها،والثارات والغارات والنهب والسلب،مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي،كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة،وتخاذل وخذلان القبائل كلها،هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح،في كل جانب من جوانب الحياة.في جيل واحد.عرف السفح وعرف القمة.عرف الجاهلية وعرف الإسلام.ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول اللّه لهم:
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ،وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي،وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»..
ويقف المؤمن ثالثا:أمام ارتضاء اللّه الإسلام دينا للذين آمنوا..يقف أمام رعاية اللّه - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة،حتى ليختار لها دينها ويرتضيه..وهوتعبير يشي بحب اللّه لهذه الأمة ورضاه عنها،حتى ليختار لها منهج حياتها..
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا،يكافىء هذه الرعاية الجليلة..أستغفر اللّه..
فما يكافىء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه..وإنما هوجهد الطاقة في شكر النعمة،ومعرفة المنعم..وإنما هوإدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه،وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه.
إن ارتضاء اللّه الإسلام دينا لهذه الأمة،ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار.ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار..وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه اللّه له،ليختار لنفسه غير ما اختاره اللّه!..وإنها - إذن - لجريمة نكدة لا تذهب بغير جزاء،ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا(1/38)
وقد رفض ما ارتضاه له اللّه..ولقد يترك اللّه الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم،يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين..فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أورفضوه..
واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم اللّه..فلن يتركهم اللّه أبدا ولن يمهلهم أبدا،حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون! (1) .
7- أنَّها عالَمِيَّةٌ في الدعوة إليها .
إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل .. ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت البشرية تخطوعلى هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلا لها للرسالة الأخيرة. وكانت كل رسالة تتضمن تعديلا وتحويرا في الشريعة يناسب تدرج البشرية. حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعا، لأنه ليست هنا لك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان.
وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعا. ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية - كما خرجت من يد اللّه - إلا تعليم اللّه. فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعا :«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» ..
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه برسالته الناس جميعا، هي آية مكية في سورة مكية .. وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب، الذين يزعمون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدور في خلده وهوفي مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنه إنما بدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشا، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب، ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها ..
__________
(1) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 842)(1/39)
كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديما على هذا الدين وأهله. وما يزالون ماضين فيها! وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله. وأن يكون «المستشرقون» الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله .. إنما البلية الكبرى أن كثيرا من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم، المحاربين لهم ولعقيدتهم ،أساتذة لهم، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم «مثقفون!» . (1) .
8- أنَّها شورِيَّةٌ في الحكمِ بها .
قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس .. التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام،ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام. وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة تجذب الناس إليه وتحببهم فيه.
وهوتكليف ضخم ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية،ولا يحملها فوق طاقتها. فهويعترف لها بأن من حقها أن تغضب،ومن حقها أن تكره. ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن .. ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان ويخوفها عقاب اللّه،ويأمرها بتقواه،لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط،وعلى التسامي والتسامح،تقوى للّه،وطلبا لرضاه.
ولقد استطاعت التربية الإسلامية،بالمنهج الرباني،أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية،والاعتياد لهذا السلوك الكريم .. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوي
__________
(1) فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1379)(1/40)
وعن هذا الاتجاه .. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور:«انصر أخاك ظالما أومظلوما» .. كانت حمية الجاهلية،ونعرة العصبية. كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى وكان الحلف على النصرة،في الباطل قبل الحق. وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق. وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط باللّه ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج اللّه وميزان اللّه .. يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور:
«انصر أخاك ظالما أومظلوما» .. وهوالمبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى،وهويقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت،وإن ترشد غزية أرشد!
ثم جاء الإسلام .. جاء المنهج الرباني للتربية .. جاء ليقول للذين آمنوا: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى،وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ،إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
جاء ليربط القلوب باللّه وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان اللّه. جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية،ونعرة العصبية،وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء ..
وولد «الإنسان» من جديد في الجزيرة العربية .. ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق اللّه .. وكان هذا هوالمولد الجديد للعرب كما كان هوالمولد الجديد للإنسان في سائر الأرض .. ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء:«انصر أخاك ظالما أومظلوما». كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية،وأفق الإسلام هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور:«انصر أخاك ظالما أومظلوما». وقول اللّه العظيم:«وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ(1/41)
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى،وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ».وشتان شتان! (1) .
وعَنْ أَبِي مُوسَى،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا،وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.. متفق عليه (2) .
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (38) سورة الشورى
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ،الذِينَ أَعَدَّ لَهُم اللهُ تَعَالَى الثَّوَابَ والجَنَّةَ فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ،هُمُ الذِينَ أَجَابُوا رَبَّهُم الكَرِيمَ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيهِ مِنَ الإِيْمَانِ بِهِ،وَتوْحِيدِهِ وَإِطَاعَةِ أَوَامِرِهِ،وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ،وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ،وَأَدّوهَا حَقَّ أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا،وَأَتَمُّوهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَخُشُوعِهَا،وَلاَ يُبْرِمُونَ أَمْراً حَتَّى يَتَشَاوَرُوا فِيهِ،وَيُدْلِي كُلٌّ بِرأْيِهِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى والصَّوَابُ فِيهِ.وَلِتَتَبَيَّنَ جَمِيعُ جَوانِبِ المَوْضُوعِ،فَلاَ يَنْتَكِسُ أَمْرُ المُسْلِمِينَ بِاسْتِبْدَادِ فَرْدٍ أَوجَمَاعَةٍ فِي الرَّأْيِ.وَيُنْفِقُونَ مِمَّا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ فِي سَبِيلِ الخَيْرِ والبِرِّ،فِيمَا فِيهِ نَفْعُ الجَمَاعَةِ (3) .
وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها. ومع أن هذه الآيات مكية،نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة،فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة:«وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» ..مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة،فهوطابع أساسي للجماعة كلها،يقوم عليه أمرها كجماعة،ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة،بوصفها إفرازا طبيعيا للجماعة (4) .
وقال ابن كثير:{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي: لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه،ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها،كما قال تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي
__________
(1) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 839)
(2) -صحيح البخارى- المكنز - (481) وصحيح مسلم- المكنز -(6750)
(3) -أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4189)
(4) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3160)(1/42)
الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [آل عمران: 159] ولهذا كان عليه [الصلاة] السلام،يشاورهم في الحروب ونحوها،ليطيب بذلك قلوبهم. وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] الوفاة حين طعن،جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر،وهم: عثمان،وعلي،وطلحة،والزبير،وسعد،وعبد الرحمن بن عوف،رضي الله عنهم أجمعين،فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم،رضي الله عنهم" (1) .
وقال القرطبي:" مدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب ؛ وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الأحكام ؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما سبق بيانه. وقال عمر رضي الله عنه:نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال. وتشاوروا في الجد وميراثه،وفي حد الخمر وعدده. وتشاوروا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحروب ؛ حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي،فقال له الهرمزان:مثلها ومئل من فيها من الناس من عدوالمسلمين مثل طائر له ريش وله جناح فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهب الرجلان والجناحان. والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس ؛ ؛ فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى... وذكر الحديث. وقال بعض العقلاء:ما أخطأت قط ! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون ؛ فإن أصبت فيهم المصيبون،وإن أخطأت فهم المخطئون. " (2) .
9- أنّها عميقةُ الأثرِ في أعماقِ النفوس والحياة .
__________
(1) -تفسير ابن كثير - دار طيبة - (7 / 211)
(2) -تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (16 / 37)(1/43)
فلا قلق في النفس،ولا اضطراب في الفكر؛لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه ـ عز وجل ـ فيرضى به رباً مدبراً،وحاكماً مشرعاً،فيطمئن قلبه بقدره،وينشرح صدره لحكمه،ويستنير فكره بمعرفته.
فال تعالى:{هُوالَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) }[الفتح:4 - 6]
والسكينة لفظ معبر مصور ذوظلال والسكينة حين ينزلها اللّه في قلب،تكون طمأنينة وراحة،ويقينا وثقة،ووقارا وثباتا،واستسلاما ورضى.
ولقد كانت قلوب المؤمنين في هذه الواقعة تجيش بمشاعر شتى،وتفور بانفعالات متنوعة.كان فيها الانتظار والتطلع إلى تصديق رؤيا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بدخول المسجد الحرام ثم مواجهة موقف قريش وقبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجوع عن البيت في هذا العام،بعد الإحرام،وبعد إشعار الهدي وتقليده.كان هذا أمرا شاقا على نفوسهم ما في ذلك ريب.
قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنهم - :فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ:أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ ؟ قَالَ:بَلَى قُلْتُ:أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ ؟ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ:بَلَى،قَالَ:قُلْتُ:فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَالَ:إِنِّي رَسُولُ اللهِ،وَلَسْتُ أَعْصِيهِ،وَهُونَاصِرِي.قُلْتُ:أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ:بَلَى قَالَ:أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قُلْتُ:لاَ.قَالَ:فَإِنَّكَ آتِيهِ،وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ،قَالَ:فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ - رضي الله عنهم - ،فَقُلْتُ:يَا أَبَا بَكْرٍ،أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللهِ حَقًّا ؟ قَالَ:بَلَى.قُلْتُ:أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ:بَلَى.قُلْتُ:فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَالَ:أَيُّهَا الرَّجُلُ،إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ،وَلَنْ يَعْصِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،وَهُونَاصِرُهُ،فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ،وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ:تَطَوَّفْ بِغَرْزِهِ حَتَّى تَمُوتَ،فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ.قُلْتُ:أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي(1/44)
الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ:بَلَى.قَالَ:أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قُلْتُ:لاَ.قَالَ:فَإِنَّكَ آتِيهِ،وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ " (1) .
فهذه صورة مما كان يجيش في القلوب..
وكان المؤمنون ضيقي الصدور بشروط قريش الأخرى،من رد من يسلم ويأتي محمدا بغير إذن وليه.
ومن حميتهم الجاهلية في رد اسم الرحمن الرحيم.وفي رد صفة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد روي أن عليا - رضي اللّه عنه - أبى أن يمحوهذه الصفة كما طلب سهيل بن عمروبعد كتابتها،فمحاها رسول اللّه بنفسه وهويقول:«اللهم إنك تعلم أني رسولك»..
وكانت حميتهم لدينهم وحماستهم للقاء المشركين بالغة،يبدوهذا في بيعتهم الإجماعية ثم انتهى الأمر إلى المصالحة والمهادنة والرجوع.فلم يكن هينا على نفوسهم أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه.يبدوهذا في تباطئهم في النحر والحلق،حتى قالها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا.وهم من هم طاعة لأمر رسول اللّه وامتثالا.كالذي حكاه عنهم لقريش عروة ابن مسعود الثقفي.ولم ينحروا ويحلقوا أويقصروا إلا حين رأوا رسول اللّه يفعل هذا بنفسه،فهزتهم هذه الحركة العملية ما لم يهزهم القول،وثابوا إلى الطاعة كالذي كان في دهشة المأخوذ! وهم كانوا قد خرجوا من المدينة بنية العمرة،لا ينوون قتالا،ولم يستعدوا له نفسيا ولا عمليا.ثم فوجئوا بموقف قريش،وبما شاع من قتلها لعثمان،وبإرسال النفر الذين رموا في عسكر المسلمين بالنبل والحجارة.
فلما عزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على المناجزة وطلب البيعة أعطوها له عن بكرة أبيهم.ولكن هذا لا ينفي موقف المفاجأة على غير ما كانت نفوسهم قد خرجت له.وهوبعض ما كان يجيش في قلوبهم من انفعالات وتأثرات.وهم ألف وأربعمائة وقريش في دارها،ومن خلفهم الأعراب والمشركون.
__________
(1) -مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 428) وصحيح البخارى- المكنز - (2731 و2732)(1/45)
وحين يسترجع الإنسان هذه الصور يدرك معنى قوله تعالى:«هُوالَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ»..
ويذوق طعم اللفظ وطعم العبارة،ويتصور الموقف يومئذ ويعيش فيه مع هذه النصوص،ويحس برد السكينة وسلامها في تلك القلوب.
ولما كان اللّه يعلم من قلوب المؤمنين يومئذ،أن ما جاش فيها جاش عن الإيمان،والحمية الإيمانية لا لأنفسهم،ولا لجاهلية فيهم.فقد تفضل عليهم بهذه السكينة:«لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» والطمأنينة درجة بعد الحمية والحماسة،فيها الثقة التي لا تقلق،وفيها الرضى المطمئن باليقين.
ومن ثم يلوّح بأن النصر والغلب لم يكن عسيرا ولا بعيدا،بل كان هينا يسيرا على اللّه لواقتضت حكمته يومئذ أن يكون الأمر كما أراده المؤمنون،فإن للّه جنودا لا تحصى ولا تغلب،تدرك النصر وتحقق الغلب وقتما يشاء:«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»..فهي حكمته وهوعلمه،تسير الأمور وفقهما كما يريد.
وعن العلم والحكمة:«أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ».ليحقق لهم ما قدره من فوز ونعيم:«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ،خالِدِينَ فِيها،وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ،وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً»..
وإذا كان هذا في حساب اللّه فوزا عظيما،فهوفوز عظيم! فوز عظيم في حقيقته،وفوز عظيم في نفوس من ينالونه من عند اللّه مقدرا بتقديره،موزونا بميزانه..ولقد فرح المؤمنون يومها بما كتب اللّه لهم وكانوا قد تطلعوا بعد ما سمعوا افتتاح السورة،وعلموا منه ما أفاض اللّه على رسوله.تطلعوا إلى نصيبهم هم،وسألوا عنه،فلما سمعوا وعلموا فاضت نفوسهم بالرضى والفرح واليقين.
ثم أنبأهم بجانب آخر من جوانب حكمته فيما قدر في هذا الحادث وهومجازاة المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات،بما يصدر عنهم من عمل وتصرف:« وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ،الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ،عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ.وَغَضِبَ(1/46)
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ،وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً»..
وقد جمع النص بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات في صفة ظن السوء باللّه وعدم الثقة بنصرته للمؤمنين.وفي أنهم جميعا «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» فهم محصورون فيها،وهي تدور عليهم وتقع بهم.وفي غضب اللّه عليهم ولعنته لهم،وفيما أعده لهم من سوء المصير..ذلك أن النفاق صفة مرذولة لا تقل عن الشرك سوءا،بل إنها أحط ولأن أذى المنافقين والمنافقات للجماعة المسلمة لا يقل عن أذى المشركين والمشركات،وإن اختلف هذا الأذى وذاك في مظهره ونوعه.
وقد جعل اللّه صفة المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات هي ظن السوء باللّه.فالقلب المؤمن حسن الظن بربه،يتوقع منه الخير دائما.يتوقع منه الخير في السراء والضراء.ويؤمن بأن اللّه يريد به الخير في الحالين.
وسر ذلك أن قلبه موصول باللّه.وفيض الخير من اللّه لا ينقطع أبدا.فمتى اتصل القلب به لمس هذه الحقيقة الأصيلة،وأحسها إحساس مباشرة وتذوق.فأما المنافقون والمشركون فهم مقطوعوالصلة باللّه.ومن ثم لا يحسون تلك الحقيقة ولا يجدونها،فيسوء ظنهم باللّه وتتعلق قلوبهم بظواهر الأمور،ويبنون عليها أحكامهم.ويتوقعون الشر والسوء لأنفسهم وللمؤمنين،كلما كانت ظواهر الأمور توحي بهذا على غير ثقة بقدر اللّه وقدرته،وتدبيره الخفي اللطيف.
وقد جمع اللّه في الآية أعداء الإسلام والمسلمين من شتى الأنواع وبين حالهم عنده،وما أعده لهم في النهاية (1) .
10- أنّها جهادية، قال تعالى: {هُوالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة .
__________
(1) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3318)(1/47)
" إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون اللّه. وعدم الإيمان باللّه واليوم الآخر - وفق المفهوم الصحيح للإيمان باللّه واليوم الآخر - إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق ويريدون إطفاء نور اللّه في الأرض المتمثل في هذا الدين، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر ..
«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» ..فهم محاربون لنور اللّه. سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن أوبما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سدا في وجهه - كما كان هوالواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هوالواقع على مدار التاريخ.
وهذا التقرير - وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذ ذاك - هوكذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور اللّه المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور اللّه.
«وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوكَرِهَ الْكافِرُونَ» ..وهوالوعد الحق من اللّه، الدال على سنته التي لا تتبدل، في إتمام نوره بإظهار دينه ولوكره الكافرون ..
وهووعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق وعلى الكيد والحرب من الكافرين (والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم) .. كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان! ويزيد السياق هذا الوعيد وذلك الوعد توكيدا: «هُوالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
وفي هذا النص يتبين أن المراد بدين الحق الذي سبق في قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» .. هوهذا الدين الذي أرسل اللّه به رسوله الأخير. وأن الذين لا يدينون بهذا الدين هم الذين يشملهم الأمر بالقتال ..(1/48)
وهذا صحيح على أي وجه أوّلنا الآية. فالمقصود إجمالا بدين الحق هوالدينونة للّه وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع - وهذه هي قاعدة دين اللّه كله، وهوالدين الممثل أخيرا فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فأيما شخص أوقوم لم يدينوا للّه وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع مجتمعة انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق، ودخلوا في مدلول آية القتال .. مع مراعاة طبيعة المنهج الحركي للإسلام، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة كما قلنا مرارا. «هُوالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
وهذا توكيد لوعد اللّه الأول: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوكَرِهَ الْكافِرُونَ» .. ولكن في صورة أكثر تحديدا. فنور اللّه الذي قرر سبحانه أن يتمه، هودين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله.
ودين الحق - كما أسلفنا - هوالدينونة للّه وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة. وهومتمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل .. ولا يدخل فيه طبعا تلك الديانات المحرفة المشوهة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم. كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين، وهي تقيم في الأرض أربابا يعبدها الناس من دون اللّه، في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها اللّه. واللّه سبحانه يقول: إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله .. ويجب أن نفهم «الدين» بمدلوله الواسع الذي بيناه، لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه ..
إن «الدين» هو«الدينونة» .. فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء ..
واللّه سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على «الدين» كله بهذا المدلول الشامل العام!
إن الدينونة ستكون للّه وحده. والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة للّه وحده.ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان. وكان دين الحق أظهر وأغلب وكانت الأديان التي لا تخلص فيها(1/49)
الدينونة للّه تخاف وترجف! ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب، التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء ..
ولكن هذه ليست نهاية المطاف .. إن وعد اللّه قائم، ينتظر العصبة المسلمة، التي تحمل الراية وتمضي، مبتدئة من نقطة البدء، التي بدأت منها خطوات رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهويحمل دين الحق ويتحرك بنور اللّه .. " (1)
" لقد وقف بنوإسرائيل في وجه الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه بشتى الوسائل والطرق حربا شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم. حاربوه بالاتهام: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
كما قال الذين لا يعرفون الكتب ولا يعرفون البشارة بالدين الجديد. وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي، للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وبين الأوس والخزرج من الأنصار. وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة. وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين كما وقع في غزوة الأحزاب.
وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد اللّه بن أبي بن سلول، ثم ما جرى في فتنة عثمان على يد عدواللّه عبد اللّه بن سبأ. وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسوها في الحديث وفي السيرة وفي التفسير - حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم.
ولم تضع الحرب أوزارها لحظة واحدة حتى اللحظة الحاضرة. فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الكيد للإسلام، وظلتا تغيران عليه أوتؤلبان عليه في غير وناة ولا هدنة في جيل من الأجيال.
حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق، وحاربوه في الأندلس في المغرب، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حربا شعواء حتى مزقوها وقسموا تركة ما كانوا يسمونه
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1643)(1/50)
«الرجل المريض» .. واحتاجوا أن يخلقوا أبطالا مزيفين في أرض الإسلام يعملون لهم في تنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضد الإسلام. فلما أرادوا تحطيم «الخلافة» والإجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا «بطلا»! ..
ونفخوا فيه. وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الأستانة أمامه لتحقق منه بطلا في أعين مواطنيه.
بطلا يستطيع إلغاء الخلافة، وإلغاء اللغة العربية، وفصل تركيا عن المسلمين، وإعلانها دولة مدنية لا علاقة لها بالدين! وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين، ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين! وراية غير راية الدين.
«يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكافِرُونَ» ..وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعوإلى الرثاء والاستهزاء! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم: «هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد.
وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور اللّه بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل! «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكافِرُونَ» .. وصدق وعد اللّه. أتم نورة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار. صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب، ولكن حقيقة في عالم الواقع. وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه، ويجاهدون في سبيله، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر. فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء. وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين. وتنبض وتنتفض قائمة - على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد. لأن نور اللّه لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد، في أيدي العبيد! وإن خيل للطغاة الجبارين، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغوا هذا الهدف البعيد! لقد جرى(1/51)
قدر اللّه أن يظهر هذا الدين، فكان من الحتم أن يكون: «هُوالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
وشهادة اللّه لهذا الدين بأنه «بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» هي الشهادة. وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة.
ولقد تمت إرادة اللّه فظهر هذا الدين على الدين كله. ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته. فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال. وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها، وهوالصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها، فهوهي، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان.
ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها، ونقصت من أطرافها، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة. وحتى لوبقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبدا، لأنها جاءت في تقدير اللّه لأمد محدود.
فهذا تحقيق وعد اللّه من ناحية طبيعة الدين وحقيقته. فأما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق وعد اللّه مرة، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان. ثم زحف زحفا سلميا بعد ذلك إلى قلب آسيا وإفريقية، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى .. وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة - منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي «البطل» الذي صنعوه! - وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي «أبطال» آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء.
وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها، ظاهرا بإذن اللّه على الدين كله تحقيقا لوعد اللّه، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل!(1/52)
ولقد كانت تلك الآيات حافزا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم اللّه لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى. وكانت تطمينا لقلوبهم وهم ينفذون قدر اللّه في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة. وما تزال حافزا ومطمئنا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد اللّه مرة أخرى في واقع الحياة. بإذن اللّه." (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3557)(1/53)
المبحث الثالث
أساليب الإقناع وطُرُقُهُ المختلفة
على الداعية أنْ يعرف هذه الأساليب والطرق، ومنها :
1- حُسْنُ العَرْض.2- جمال الأسلوب .
3- الترغيب في الحق.4- المجادلة بالتي هي أحسن .
5- مراعاة مُقْتَضى الحال ( أي: الأحوال المختلفة ) .
6- استخدام أفضل وسائل الإعلام ومُنْجَزاتِ العصرِ .
7- استعمال الحكمة والموعظة الحسنة .
الحكمة في الدعوة:
قال الإمام العيني: " الحكمة تحتاج إلى علم دقيق بأسرار الحياة وطبائع النفوس وأوضاع المجتمع، وقد أمرنا الله - سبحانه وتعالى - بتعلم الحكمة، وكيف لا ؟ وقد أرسل رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - بها: {هُوالَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة.
فالله سبحانه هوالذي أرسل في العرب الذين لا يقرؤون، ولا كتاب عندهم ولا أثر رسالة لديهم، رسولا منهم إلى الناس جميعًا، يقرأ عليهم القرآن، ويطهرهم من العقائد الفاسدة والأخلاق السيئة، ويعلِّمهم القرآن والسنة، إنهم كانوا من قبل بعثته لفي انحراف واضح عن الحق. وأرسله سبحانه إلى قوم آخرين لم يجيئوا بعدُ، وسيجيئون من العرب ومن غيرهم. والله تعالى- وحده- هوالعزيز الغالب على كل شيء، الحكيم في أقواله وأفعاله.
وقال بعض العلماء: الحكمة في الدعوة هي: القول المناسب بالطريقة المناسبة والوقت المناسب للإنسان المناسب في المكان المناسب والمقدار المناسب والوسائل المناسبة ...
وإنَّ الله - عز وجلَّ - قد أرسل الرسل والأنبياء والصالحين وآتاهم الحكمة، ومن الأمثلة على ذلك:(1/54)
قال الله - تعالى -: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (54) سورة النساء.
وقال الله- تعالى - لعيسى - عليه السلام -: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (110) سورة المائدة
وقال الله - تعالى - عن داود - عليه السلام -: " ... {.. وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء..} (251) سورة البقرة
وقال الله - تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (12) سورة لقمان.
وقال الله - عز وجلَّ - لسيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام -: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (113) سورة النساء.
إلى أي شيءٍ ندعوالناسَ ؟
ندعوالناس إلى دين الله، ودين الله هوالإسلام، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوفِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران.
ندعوالناس إلى الإسلام بكل ما تحمله هذه الكلمة مِنْ معنى، إسلام الوجه لله في صغير الأمر وكبيره، الإسلام بشموله وعُمُومِهِ، الإسلام بدينه وعقيدته وشريعته، الإسلام بنظامه وأخلاقه وسلامِهِ وأخُوَّتِهِ ومحبته، الإسلام بدنياه وآخرته وبكل ما أنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، سائرين على سُنَّتِهِ راجين السعادة والخير لكل الناس في الدنيا والآخرة .
عَوامِلُ ( أسْبابُ ) نجاحِ الدعوة :(1/55)
لكي تنجح الدعوة إلى الله، هناك أمور لا بدَّ أن يراعيَها الداعي ويعمل على تحقيقها، وأهمُّها :
1- الفهم الدقيق.2- الإيمان العميق.3- الحبُّ الوثيق .4- الوَعْيُ الكامل.5- العملُ المُتَواصِل .
وفي سبيل الوصول إلى الدعوة الصحيحة يبيع المسلم لله نفسَه ومالَه ووقتَه ومَوَاهِبَه ...وكلَّ شيء، لأنَّ النتيجة والمُقابلَ مِنَ الله - تعالى - هوالجنة: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوالْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة.
فأما الفهم الدقيق، فهوالفهم الصحيح لهذا الدين العظيم وطبيعته ومقاصده الحقيقية وما يدعوإليه.وإنَّ الفهم الخاطئ تكون نتائجه عكسِيَّةً ضارَّةً.وأما الإيمان فهوالأصلُ الأَساسُ، وهوالغذاء المُستمِرُّ الذي يدعوالداعية إلى مزيد مِنَ العمل والنشاط، لذا كان لا بدَّ أنْ يكون عميقاً، لأنَّ صاحب الإيمان السَّطْحِيِّ قد يسقط مع مرور الأيام.وأما الحُبُّ الوثيق، فهوالحب القويُّ الذي يَتَوَجَّهُ به الداعية نحو:
1- إخوانه الذين يعملون معه .
2- الناس، وحب الخير لهم وللمجتمع الذي يعيش فيه، وحب الوطن والخير له .
3- الدعوة، لأنها طريق السعادة للناس كلِّ الناس .
وأما الوعي الكامل، فهوسِعَةُ الثقافةِ والمعلومات ومعرفة ما يحدث حول الداعية من أمور، وما يَتَطَوَّرُ مِنْ علوم واكتشافات علمية، وما ينتشر من أفكار، وما يحدث من حوادث، و" رحم الله امرءاً عرف عصره واسْتقامت طريقته ".(1/56)
وأما العمل فلا بد أنْ يكون مُتَواصِلاً غير مُنْقَطِعٍ، فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ (1) ..
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 541)(26343) 26874- صحيح(1/57)
المبحث الرابع
قواعد وأسس للفهم الصحيح
الفهم الدقيق هوالفهم الصحيح الشامل للإسلام وهوالفهم المطلوب وهناك كثير من القواعد والأسس التي وضعها بعض العلماء والتي تُعِينُ وتساعد على ذلك الفهم، ومنها :
- الإسلامُ نِظامٌ شامل يَتَنَاوَلُ مَظاهِرَ الحياة كُلَّها، فهودولة ووطن، وهوخُلُقٌ وقوةٌ ورحمة وعدالة، وهوثقافة وقانون وهوعلم وقضاء، وهومادة وثروة أوكَسْبٌ وغِنَىً وهودعوة وعقيدة صادقة وعبادة صحيحة ومحبة للناس .
- القرآن الكريم والسُنَّةُ المُطَهَّرَةُ مَرْجِعانِ في تَعَرُّفِ أحكام الإسلام، ويُفْهَمَان وِفْقاً لقواعد اللغة العربية مِنْ غير تَكَلُّفٍ ولا تَعَسُّفٍ، ويُرْجَعُ في فهم السنة المُطَهَّرَةِ إلى عُلَماء الأمَّةِ الثِّقَاةِ .
- للإيمان الصادق والعبادة الصحيحة نورٌ وحَلاوَةٌ يَقْذِفُهُما الله في قلب مَنْ يشاءُ مِنْ عباده.ولكن الإلْهامُ والخواطِرُ والرُّؤى ليست من أدلَّة الأحكام الشرعية، ولا تُعْتَبَرُ بشرطٍ عند اصطدامها بأحكام الدين ونصوصِه .
- التَّمائمُ والوَدع والكَهانةُ وادِّعاء معرفة الغيب، وكل ما كان مِنْ هذا الباب مُنْكَرٌ يجب تغييره، إلا ما كان آية مِنْ قرآن أورُقْيَةٌ مَأْثُورَةٌ .
- كل إنسان يُؤخَذُ مِنْ كلامه ويُترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي عَصَمَهُ الله، وكل ما جاء عن الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم - مُوَافِقاً لكتاب الله والسنَّة قَبِلْنَاهُ، وإلا فَهُمَا أوْلَى بالاتِّبَاع ( وهذا يعرفه الأئِمَّة والعلماء وليس عامة الناس )، ولا نَتَعَرَّضُ للأشخاص في الأمور المختلف فيها بِطَعْنٍ أوتَجْرِيحٍ، ونَكِلُهُمْ إلى نِيَّاتِهِم .
- يجوز لكل مسلم لم يَبْلُغْ درجة النَّظَر في أدلة الأحكام الفرعية أنْ يَتَّبِعَ إماماً مِنَ الأئمة، ويحسُنُ به أنْ يجتهد ما استطاع في تَعَرُّفِ أدِلَّتِهِ، وأنْ يَتَقَبَّلَ كلَّ إرْشَادٍ مَصْحُوبٍ بالأدلة إذا تأكَّدَ صَلاح مَنْ أرْشَدَهُ، وأنْ يَتَعَلَمَ ويَسْتَكْمِلَ نَقْصَهُ العلمي إنْ كان مِنْ أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر.(1/58)
- الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سَبَبَاً للتَّفْرِقَةِ في الدين، ولا يُؤَدِّي إلى خُصُومَةٍ ولا بَغْضَاء، ولكل مجتهدٍ أجْرُهُ ،ولا مانِعَ من التَّحْقِيق العلمي النَّزِيهِ في المسائل الخِلافِيَّةِ في ظِلِّ الحبّ والتعاون للوصول إلى الحقيقة، من غير خصومة وتَعَصُّبٍ.
- رأي الإمام ( الحاكم ) ونائبه فيما لا نَصَّ فيه، وفيما يَحْتَمِلُ وُجُوهاً عِدَّةً، وفي المَصَالح المُرْسَلَة مَعْمُولٌ به ما لم يَصْطَدِمْ بقاعدة شَرْعِيَّةٍ، وقد يتغيَّر الظرف والعادات.
- كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا، ومن ذلك كثرة التفريعات في الأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد والكلام في المفاضلة بين الصحابة - رضوان الله عليهم - وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته، وفي التَّأَوُّلِ مَنْدُوحَةٌ .
- معرفة الله - تبارك وتعالى - وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من المتشابه، ونؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، {هُو الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (7) سورة آل عمران.
-كل بدعة لا أصل لها ولا دليل ولا قياس في دين الله، واستحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيها أو بالنقص منها، لا بد من تغيرها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرٌّ منها.
- البدعة الإضافية والتَّركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه ( من العلماء)، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.
- محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عُرِفَ مِنْ طِيب أعمالهم قُرْبَةٌ إلى الله - تبارك وتعالى -، والأولياء هم المذكورون في قول الله - تعالى - { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي(1/59)
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64].
والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم - رضوان الله عليهم - لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مما تهم .
- زيارة القبور أيَّاً كانت سُنَّةٌ مشروعة بالكيفية المأثورة، لكن الاستعانة بالموتى ونداءهم وطلب قضاء الحاجات منهم مباشرة والنذر لهم والتمسح بالقبور، والحلف بغير الله كبائر لا بد من تغييرها بوسائل حكيمة.
- الدعاء إذا قُرِنَ بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة، والراجح جوازه بشروطه .
- العرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة بالمُسَمَّيَات لا بالأسماء .
- العقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعا، وإن اختلفت مرتبتا الطلب .
- الإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع في كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .
- وقد يتناول كُلٌّ مِنَ النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر ولكنهما لن يختلفا في القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار .
- لا نكفر مسلما أقرَّ بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض - بسبب رأي أو معصية - إلا إن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح(1/60)
القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر . (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - للتوسع راجع كتبي (( الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد )) و((الخلاصة في شرح حديث الولي)) ، و((الواضح في أركان الإيمان)) .....(1/61)
المبحث الخامس
درجات الإصلاح في نظر الدعوة الصحيحة
1-إصلاح النفس حتى يكون المسلم صحيح الجسم متين الخلق، مثقف الفكر، قادرا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدا لنفسه، حريصا على وقته، منظما في شؤونه، نافعا للناس، محبا للخير والإصلاح.
2-تكوين البيت المسلم الذي يقوم على أساس تقوى الله وحب الخير واحترام الدعوة، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة وحسن تربية الأولاد، لتصبح الأسرة نموذجا صغيرا صالحا للمجتمع الذي ننشده .
3-إرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات وتشجيع الفضائل والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية .
4- دعوة الحكومة ومؤسساتها لتطبيق شريعة الله بكل الوسائل الحكيمة وآداب الإسلام السامية، فالحكومة من الشعب وأعضاؤها يحتاجون إلى الإيمان وإدخال النور إلى قلوبهم برفق واحترام ومحبة وسلام وعلم.
5- الدعوة إلى التعاون مع البلاد الإسلامية الراشدة أي القائمة على فهم الإسلام والعمل به فهما وعملا سليمين ؛وذلك من أجل توحيد الجهود والتعاون على الخير وعلى نشر الفضائل وراحة الناس ومحاربة الشرور وأهل الفساد والتخريب .
- - - - - - - - - - - - -(1/62)
المبحث السادس
من صفات الداعية الناجح
إننا لا نستطيع أن نفصل بين الدعوة والداعية، لأن المسلم الذي يفهم دعوته فهماً سليماً لكنه يسيءُ تقديمها للناس لا يقل خطراً عن المسلم الذي لا يفهم إسلامه الفهم الصحيح ولكنه يجيد الحوار والكلام، فالأول يسيء التقديم بالرغم من فهمه، والثاني يسيء العرض مع الجهل.ولذا فإن الدعوة تكون ناجحة مع الداعية الواعي الخلوق والذي تتوفر فيه صفات معينة.والدعوة تحتاج إلى دعاة مخلصين ورجال عاملين لأن الداعي ينشيء أمَّةً ويُرَبِّي أجيالاً لها صفات أخلاقية حددها القرآن الكريم، وحققها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صحابته - رضوان الله عليهم -.
والدعوة الصحيحة تهتم أولاً بنوعية الدعاة لا بِكَمِّيَّتِهِم مع أن الكمية مهمة، ولننظر مثلاً إلى الصحابة الذين كانوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكانوا قِلَّةً ولكنهم كانوا عناصر بناءٍ بنَوْا أُمَّةً بعد أن توفرت فيهم صفات أرادها الإسلام .
ومن أهم صفات الداعية :
1- حسن الصلة بالله - تعالى - أوَّلاً وقبل كل شيءٍ :
فقلب الداعية مملوء بحب الله وخشية الله، فيحسن العبادة ويواظب عليها من صلاة، صيام، يتهجد في الليل والناس نيام، يذكر الله ولا يمل، يبتعد عن المحرمات صغيرها وكبيرها، ويسعى للزيادة من الأجر...
إن حسن الصلة بالله عز وجل.. مفتاح كل خير ومغلاق كل شر ،أن نحسن من صلتنا بالخالق البارىء جل في علاه،ذلك أن قلوبنا بيد باريها يقلبها كيفما شاء.ومن ذلك كمال التوحيد الإخلاص لله سبحانه واتباع أوامره واجتناب نواهيه واتباع سنة نبيه صلوات ربي وتسليماته عليه ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي(1/63)
الأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ (1) .
وحسن الصلة بالله تستوجب علينا تعليق القلب بالله لابسواه بالذكر والمراقبة والخشية والحب، وعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي أَتَانِي اللَّيْلَةَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَا يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا، قَالَ: فَخُيِّلَ لِي مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ، فَأَمَّا الدَّرَجَاتُ: فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَبَذْلُ السَّلامِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ: فَمَشْيٌ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: قُلْتُ: فَعَلِّمْنِي، قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ وَأَنَا غَيْرُ مَفْتُونٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبًّا يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ (2) .
ولتكن لدينا الثقة في الله عز وجل أنا إذا أحببناه سبحانه وداومنا على ذكره وشكره تولنا برعايته وفتح لنا مغاليق القلوب، وأسعد بعبد أحب ربه فأحبه ورزقه سعادتي الدنيا والأخرة.
فإن كانت صلة الداعية بالله جيدة فإنَّ الله - تعالى - يوفقه للخير وينصره ويحفظه وينير له طريقه ويحبب الناس فيه .
2- الصدق :
قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 486)(9352) 9341- وصحيح مسلم- المكنز - (6873 )
(2) - كشف الأستار - (3 / 13)(2128) صحيح لغيره(1/64)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه في كل ما تفعلون وتتركون، وكونوا مع الصادقين في أَيمانهم وعهودهم، وفي كل شأن من شؤونهم.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا "رواه الشيخان (1) .
والناس يثقون بالصادق وإن خالفهم، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبرة، إذ كان يُدعى قبل البعثة " الصادق الأمين " .
والصدق أنواع، منها :
أ- صدق اللسان، وفي المعاريض كفاية وبعد عن الكذب.ففي غزوة بدر قال ابن هشام: " ثُمّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرّجُلُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ.قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كَمَا حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْن حِبّانَ: حَتّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ الشّيْخُ لَا أُخْبِرُكُمَا حَتّى تُخْبِرَانِي مِمّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاك قَالَ أَذَاكَ بِذَاكَ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ الشّيْخُ فَإِنّهُ بَلَغَنِي أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الّذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الّذِي بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَلَغَنِي أَنّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمَكَانِ الّذِي فِيهِ قُرَيْشٌ.فَلَمّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ مِمّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحْنُ مِنْ مَاءٍ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ يَقُولُ الشّيْخُ مَا مِنْ مَاءٍ أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ ؟ " (2) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6094 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6803 ) وشعب الإيمان - (6 / 438) (4450 )
(2) - سيرة ابن هشام - (1 / 615) صحيح مرسل(1/65)
ب- الصدق في الأعمال، فيقوم بها بأحسن صورة ويتقنها، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " (1) .
ج- صدق الوفاء بالعهد، قال الله - تعالى -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب.
وعَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا.حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ حَدَّثَنِى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنهم - قَالَ غَابَ عَمِّى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِى قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ » - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ، وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ.قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ.قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ.قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (2) .
د- صدق النية والإرادة، وهوالإخلاص، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة.
3- الأمانة:
وهي صفة وصف الله تعالى بها الرسل والأنبياء - عليهم السلام -، ومثال ذلك ما جاء في سورة الشعراء :
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)} [الشعراء: 141 - 144]
__________
(1) - شعب الإيمان - (7 / 233) (4930 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2805)(1/66)
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) } [الشعراء: 160 - 163]
وقال تعالى: { كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) } [الشعراء: 176 - 179].
كَذَّبت قوم نوح رسالة نبيهم، فكانوا بهذا مكذبين لجميع الرسل; لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تخشون الله بترك عبادة غيره؟ إني لكم رسول أمين فيما أبلغكم، فاجعلوا الإيمان وقاية لكم من عذاب الله وأطيعوني فيما آمركم به من عبادته وحده. وما أطلب منكم أجرًا على تبليغ الرسالة، ما أجري إلا على رب العالمين، المتصرف في خلقه، فاحذروا عقابه، وأطيعوني بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب
إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها اللّه لها وتجذب توابعها بلا إرادة منها فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا ..
وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة اللّه بلا إرادة منها.(1/67)
وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب. وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء .. وهذه الجبال.
وهذه الوهاد .. كلها .. كلها .. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة. لقد أشفقت من أمانة التبعة. أمانة الإرادة. أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.
«وحملها الإنسان».الإنسان الذي يعرف اللّه بإدراكه وشعوره. ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره. ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده. ويطيع اللّه بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته .. وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد. مدرك. يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق! إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع ..
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم «كان ظلوما» لنفسه «جهولا» لطاقته. هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة. حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه. المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال .. الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء .. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد. فإنه يصل حقا إلى مقام كريم، ومكان بين خلق اللّه فريد.
إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة .. هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق اللّه. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه اللّه في الملأ الأعلى، وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» .. فليعرف الإنسان مناط(1/68)
تكريمه عند اللّه. ولينهض بالأمانة التي اختارها والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها.!. (1) .
والأمانة صفة واجبة على كل مسلم، ولكنها على الداعية أوجب، فيشعر بأن كل شيء في يديه أمانة سيحاسبه الله - عز وجل - عليه، فالجسم والوقت والفراغ والكلمات والدعوة نفسها والناس الذين يعلمهم أويدعوهم ...كل ذلك أمانات لا بد من المحافظة عليها .
4- الإخلاص :
والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة
وما أمروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا الله وحده قاصدين بعبادتهم وجهه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان، ويقيموا الصلاة، ويُؤَدُّوا الزكاة، وذلك هو دين الاستقامة، وهو الإسلام.
وقال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) سورة الزمر
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف.
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ من ربي أنما إلهكم إله واحد، فمَن كان يخاف عذاب ربه ويرجو ثوابه يوم لقائه، فليعمل عملا صالحًا لربه موافقًا لشرعه، ولا يشرك في العبادة معه أحدًا غيره.
وقال عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىُّ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2884)(1/69)
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » (1) .
وعن مَعْقِلَ بْنِ يَسَارٍ قالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنهم - إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ؟ " قَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ " (2) .
وعلى الداعية أن يخلص النية لله - تعالى - ويجددها حيناً بعد حينٍ، فإن وسوس له الشيطان وشكَّكه في نيته، فعليه أن يتعوذ بالله وأن يجدد النية ويمضي في العمل ولا يتركه، فإنما هي وساوس شيطانية ليحبط أعمال المؤمنين .
والأمثلة كثيرة عن المخلصين وقصصهم، منها :
عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي، يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي، مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا يُعَاتِبُهَا، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا فَلَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ " (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا، لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا،
__________
(1) - مسند الحميدي - المكنز - (31) وصحيح البخارى- المكنز - (1)
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (738 ) صحيح لغيره
(3) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (1634 ) صحيح(1/70)
وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي، قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا، فَخُذْهَا فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مَا بَقِيَ " (1) .
يفرجها عنكم معناه يكشفها بأن يجعل فيها فروجا.
فإذا أرحت عليهم: أي إذا رددت الماشية من المرعى إليهم، وإلى موضع مبيتها، وهو مراحها. يقال: أرحت الماشية وروحتها، بمعنى.
نأى بي ذات يوم الشجر: ومعناه بعد. والنأي البعد.
يتضاغون: أي يصيحون ويستغيثون من الجوع.
فلم يزل ذلك دأبي: أي حالي اللازمة.
بفرق: بفتح الراء وإسكانها، لغتان، الفتح أجود وأشهر. وهو إناء يسع ثلاثة آصع جمع صاع ومقداره خمسة أرطال وثلث على رأى الشافعي، أو ثمانية على رأي أبي حنيفة. ينظر: لسان العرب.
الرّعاء بكسر الراء وضمها: جمع راع وهو من يقوم بمهنة الرعي. (القاموس).
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7125 )(1/71)
* دلائل الإخلاص*
وللإخلاص دلائل وعلامات كثيرة تظهر في حياة المخلص وسلوكه ونظرته إلى نفسه والناس، منها :
1- الخوف من الشهرة، وخصوصاً إذا كان من أصحاب المواهب.عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: " لَمْ يُصَدِّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ " (1) ، وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ، يَقُولُ: بَلَغَنِي " أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَقُولُ لِلْعَبْدِ فِي بَعْضِ مِنَّتِهِ الَّتِي مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ: " أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ ؟ أَلَمْ أُعْطِكَ ؟ أَلَمْ أَسْتُرْكَ ؟ أَلَمْ ؟ أَلَمْ ؟ أَلَمْ ؟ أُخْمِدْ ذِكْرَكَ ؟ قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُعْرَفَ فَافْعَلْ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا تُعْرَفَ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يُثْنَى عَلَيْكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ إِذَا كُنْتَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " (2) .
ولكن لا يُفْهم من هذا الدعوةُ إلى الإنطوائية والعزلة، فإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وغيرهم إنما هم دعاة مصلحون كان لهم آثار في دعوة المجتمع وتوجيهه وإصلاحه.ولكن الذي يُفْهَمُ من ذلك اليقظة المستمرة لشهوات النفس الخفية والحذر من مداخل الشيطان، فالشهرة في ذاتها ليست مذمومة، فليس هناك أشهر من الأنبياء والخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين، ولكن المذموم هوطلب الشهرة والحرص عليها .
2- اتَّهام النفس، فالمخلص يتهم نفسه دائماً بالتقصير، ويخشى من سيِّئاته ألا تُغفر ومن حسناته ألا تُقْبل {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (60) سورة المؤمنون.
والذين يجتهدون في أعمال الخير والبر، وقلوبهم خائفة ألا تُقبل أعمالهم، وألا تنجيهم من عذاب ربهم إذا رجعوا إليه للحساب.
3- العمل في صمت بعيداً عن الأضواء ( الجندي المجهول ) .
__________
(1) - الزهد لأحمد بن حنبل - (2276) بلاغاً
(2) - التَّوَاضُعُ وَالْخُمُولُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (17 )(1/72)
4- ألا يطلب المدح ولا يغترَّ به، عن الْأَوْزَاعِيِّ،قال: " إِذَا أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي وَجْهِهِ، فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنَ النَّاسِ، اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ " (1) ..
وعَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، قَالَ: كَانُوا إذْ أَثْنُوا عَلَيْهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذُنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ (2) .
5- ألا يَبْخَلَ بمدح مَنْ يستحِقُّ المدح، وربما كان المانع من المدح هوى في النفس أوحسداً متمكناً، فهويخاف مزاحمته على مركزه أومنافسته في منزلته وهولا يملك أن يُطلِق لسانه بذمه فعلى الأقل يسكت عن مدحه !!
6- استِواء العمل في القيادة والجندية، فالمخلص يعمل إن كان مسؤولاً أوكان تابعاً، إن كان مديراً أوكان خادماً، إن كان مفتياً أوكان إمام مسجد أومصلياً عادياً، فالمهم العمل والدعوة وليس المهم الشخص.
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَلِي عُمَرُ، فَقَالَ: لأَنْزِعَنَّ خَالِداً، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ اللهَ إِنَّمَا يَنْصُرُ دِيْنَهُ.يَعْنِي: بِغَيْرِ خَالِدٍ (3) .
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ أَظُنُّ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِداً الوَفَاةُ، قَالَ:لَقَدْ طَلَبْتُ القَتْلَ مَظَانَّهُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إِلاَّ أَنْ أَمُوْتَ عَلَى فِرَاشِي، وَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ التَّوْحِيْدِ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ، وَالسَّمَاءُ تُهِلُّنِي، نَنْتَظِرُ الصُّبْحَ حَتَّى نُغِيْرَ عَلَى الكُفَّارِ.ثُمَّ قَالَ: إِذَا مِتُّ، فَانْظُرُوا إِلَى سِلاَحِي وَفَرَسِي، فَاجْعلُوْهُ عُدَّةً فِي سَبِيْلِ اللهِ.فَلَمَّا تُوُفِّيَ، خَرَجَ عُمَرُ عَلَى جِنَازَتِهِ، فَذَكَرَ قَوْلَهُ:مَا عَلَى آلِ الوَلِيْدِ أَنْ يَسْفَحْنَ عَلَى خَالِدٍ مِنْ دُمُوْعِهِنَّ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعاً أَوْ لَقْلَقَةً . (4)
النَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرُّؤُوْسِ. وَاللَّقْلَقَةُ: الصُّرَاخُ.
__________
(1) - شعب الإيمان - (6 / 504)(4533 ) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 56)(36853)
(3) - سير أعلام النبلاء - (1 / 378)
(4) - سير أعلام النبلاء - (1 / 381) صحيح(1/73)
إن حاجة البشر إلى هُداة صالحين، كحاجة الأرض الجُرُز إلى ماء الغَمام، والجِياع إلى قِوام الطعام.
ولكن كثيراً من العاملين الباذلين يبتغون الحرص على رضاء الناس، والازدلاف إلى قلوبهم، ويرجون أن يروا لكل عمل أو قول يقدّمونه أثراً ظاهراً في عيون النّاظرين، وآذان السّامعين، وأفواه المتكلّمين، فكلما وُلدت في نفوسهم مشاعر العُجب والارتياح المُدْلي إلى الغرور، أرخَوْا لأَخيلتِهم العنان، لتسرح في أحاسيس الناس وأحكامهم، ويتساءلون هل رضي المشاهدون أو السَّامعون أو القارئون عن أعمالهم أم سخطوا؟ ويستنبئون كل غادٍ أو رائحٍ عن رأيه في أقوالهم وأفعالهم، فإن يسمعوا مدحاً وثناءً، طاروا به فرحاً وإعجاباً، وإن يسمعوا ذَمّاً وهِجاءً، حَصِرت صدورهم غيظاً وإياساً.
إن ظواهر الحياة وأحداثها تدلّ على أن الكثيرين من المصلحين، ومن دعاة الإحسان وسُعاة الخير، لم يحرِّروا سرائرهم، ولم يختبروا صدق نواياهم، فلا يعلم أحدهم إذا كان يحدِّث الناس ليُعجبهم أم لينفعَهم، وإن كان يكتب للناس ليُطْربهم أم ليُرشدهم، وإذا أسدى إليهم البرّ والمعروف ليخدمهم أم ليستخدمهم؟! وهل يفعل ذلك وغيره ليقول له الناس: أحسنت وأجدت، أم ليقول لسان حالهم: تركت في نفوسنا أثراً طيّباً مما فعلت!
ومن هؤلاء من يظنّ نفسه أنه ابنُ بَجْدة الإصلاح، وقُطب دائرته، وهو في حقيقة الأمر لا في العير ولا في النفير، وما هو إلا مغرور ضعيف النفس، كثير النّقص، يرى في نفسه أضعاف ما يرى فيه غيره (1) .
7- الاحتفال برضاء الله لا الناس، فالمهم رضاء الله حتى وإن سخط عليه الناس ( مع مراعاة الاحترام والحكمة )، فعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ (2) .
وإرضاء الناس كلهم غاية لا تُدرك، وما أجمل قول القائل :
فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتك ترْضى والأنامُ غضابُ
__________
(1) - http://alboraq.info/showthread.php?t=37921
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 511)(277) صحيح(1/74)
وليت الّذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صحَّ منك الودُّ فالكُلُّ هيِّنٌ وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
8- جعل الرضا والسخط لله لا للنفس .
9- الصبر على طول الطريق، هذا ما صنع نوح وهذا ما قال عاد يعرضه على ربه وهو يقدم حسابه الأخير في نهاية الأمد الطويل.وهو يصور الجهد الدائب الذي لا ينقطع: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} (5) سورة نوح ..
ولا يمل ولا يفتر ولا ييئس أمام الإعراض والإصرار: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» .. فرارا من الداعي إلى اللّه. مصدر الوجود والحياة، ومصدر النعم والآلاء، ومصدر الهدى والنور. وهو لا يطلب أجرا على السماع ولا ضريبة على الاهتداء! (1)
فلا يستعجل الثمرة قبل أوانها ولا يكسل عن العمل والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .
10- الفرح بكل كِفايةٍ ( موهبةٍ ) تَبْرُزُ، لأنها تعني تقدماً في العمل والدعوة إلى الحق .
11- الحرص على العمل الأنفع والأرضى لله لا الأرضى للنفس، والأنفع للناس والأمة لا الأنفع للنفس.فعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.قَالَ: " صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ".قَالَ: " وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيِّنِ هِيَ الْحَالِقَةُ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّمَّاكِ: " فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ " (2) ..
12- السلامة من آفة العُجْبِ، وعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ؛ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بن حسان: سيئة تسوؤك خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ (3) ..
13- الحذر من مدح النفس والثناء عليها، قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (49) سورة النساء
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3712)
(2) - شعب الإيمان - (13 / 428) (10578 ) صحيح
(3) - المجالسة وجواهر العلم - (5 / 300)(2160 ) صحيح(1/75)
ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك الذين يُثنون على أنفسهم وأعمالهم، ويصفونها بالطهر والبعد عن السوء؟ بل الله تعالى وحده هو الذي يثني على مَن يشاء مِن عباده، لعلمه بحقيقة أعمالهم، ولا يُنقَصون من أعمالهم شيئًا مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ.فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ » رواه مسلم (1) .
* من ثمرات الإخلاص*
للإخلاص ثمرات طيبة في النفس والحياة، منها :
1 - السكينة النفسية، قال الله - تعالى -: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (29) سورة الزمر.
ضرب الله مثلا عبدًا مملوكًا لشركاء متنازعين، فهو حيران في إرضائهم، وعبدًا خالصًا لمالك واحد يعرف مراده وما يرضيه، هل يستويان مثلا؟ لا يستويان، كذلك المشرك هو في حَيْرة وشك، والمؤمن في راحة واطمئنان. فالثناء الكامل التام لله وحده، بل المشركون لا يعلمون الحق فيتبعونه.
2- القوة الروحية المستمدة من سموالغاية التي أخلص لها نفسه وهي رضاء الله - تبارك وتعالى - .
3- الاستمرار في العمل، ولذا قال الصالحون: ما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل (2) .
4- تحويل المباحات والعادات إلى عبادات .
5- إحراز ثواب العمل وإن لم يتمه أولم يعمله، وقال الله - تعالى -: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6850 )
(2) - القرآن منهاج حياة - (3 / 60)(1/76)
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (100) سورة النساء.
ومَن يخرج من أرض الشرك إلى أرض الإسلام فرارًا بدينه، راجيًا فضل ربه، قاصدًا نصرة دينه، يجد في الأرض مكانًا ومتحولا ينعم فيه بما يكون سببًا في قوته وذلة أعدائه، مع السعة في رزقه وعيشه، ومن يخرج من بيته قاصدًا نصرة دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإعلاء كلمة الله، ثم يدركه الموت قبل بلوغه مقصده، فقد ثبت له جزاء عمله على الله، فضلا منه وإحسانًا. وكان الله غفورًا رحيمًا بعباده.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ "رواه النسائي (1) .
6- النصر والكفاية الإلهية، فالمخلص مُؤَيَّد من الله وعلى قدر إخلاص المرء لله يكون مدد الله وعونه له فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :مَنْ خَلُصَتْ نِيَّتُهُ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ ؛ كَفَاهُ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ " (2) .
7- تأييد الله - تعالى - ومعونته في الشدائد والأزمات .
* من بواعث الإخلاص*
هناك أمور تعين المسلم على إخلاص النية والعمل لله - تعالى -، ومنها :
1- العلم الراسخ {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (38) سورة إبراهيم
2- صُحْبَةُ أهل الإخلاص، ليتأسّى بهم ويتخلَّقَ بأخلاقهم، وقد صوَّر لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثر الصحبة والمجالسة تصويراً مُعَبِّراً ،فعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (1439 ) صحيح
(2) - المجالسة وجواهر العلم - (8 / 267)(3534 ) صحيح لغيره(1/77)
يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً » (1) ..
وقال الله - عز وجل -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف.
واصبر نفسك -أيها النبي- مع أصحابك مِن فقراء المؤمنين الذين يعبدون ربهم وحده، ويدعونه في الصباح والمساء، يريدون بذلك وجهه، واجلس معهم وخالطهم، ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم من الكفار لإرادة التمتع بزينة الحياة الدنيا، ولا تُطِعْ من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا، وآثَرَ هواه على طاعة مولاه، وصار أمره في جميع أعماله ضياعًا وهلاكًا.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ، إِذَا رَأَى فِيهَا عَيْبًا أَصْلَحَهُ " (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ " (3) .
3- قراءة سيرة المخلصين .
4- المجاهدة للنفس الأمَّارة بالسوء، ومقاومة رغباتها الذاتية والدنيوية .
5- الدعاء والاستعانة بالله، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) سورة الفاتحة، والدعاء سلاح المؤمن، وسبب من الأسباب الروحية التي شرعها الله للإنسان ليحقق مطالبه ويسد حاجاته.فعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الدُّعَاءُ سِلاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " (4) .
5- الرحمة والرفق والحلم، وهذه صفات لا يستغني عنها الداعية بأية حالة، فلا بد أن يعرف :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6860 )
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ ( 240 ) صحيح
(3) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ ( 4335 ) صحيح
(4) - مسند أبي يعلى الموصلي- (1 / 212)(439) ضعيف(1/78)
- أنَّ رسالته للناس جميعاً هي رسالة رحمة كما أخبرنا الله - عز وجل - مخاطباً الرسول - صلى الله عليه وسلم - : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء
والخطاب هنا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكل داعية يسير على خُطاه إلى يوم الدين.والرحمة هي رحمة في العقيدة ورحمة في التشريع ورحمة في الأخلاق وفي كل مَنْحَىً من مناحي الحياة، حتى مع الحيوان والنبات !
- أنَّ قراءته للفاتحة في كل صلاة هي تذكير له بالرحمة، فهويبدأ قراءته بـ " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم .." .
- أنَّ الرحمة سببٌ كبير في تقبل القلوب للحق، قال الله - تعالى - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَبْصَرَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فقَالَ: إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ، مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ، فقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ (1) .
- أنَّ الرحمة مرتبطة بالإشفاق على الناس لا ببغضهم، والداعية حين ينظر إلى الناس هذه النظرة الحانية المشفقة فإنه يكون مُتَأَسِّياً ( مُقْتَدِياً ) بأخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حيث وصفه الله - تعالى -: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة.
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول من قومكم، يشق عليه ما تلقون من المكروه والعنت، حريص على إيمانكم وصلاح شأنكم، وهو بالمؤمنين كثير الرأفة والرحمة.
- أن من الرحمة التيسير على الناس لا التعسير، كما قال الله - تعالى -: {.. يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ..} (185) سورة البقرة.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5997) وصحيح مسلم- المكنز - (6170 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 202)(457)(1/79)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنهم - ا أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ.فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.قَالَ « مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ ».قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ » (1) .
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، أَمَرَنَا أَنْ يَنْزِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَنَا: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا فَلَمَّا قُمْنَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا: الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ مِنَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كُلُّ مُسْكِرٍ يُسْكِرُ عَنِ الصَّلاَةِ. متفق عليه (2) .
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا » (3) .
ومن التيسير اختيار الأيسر، فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبَعْدَ النَّاسِ عَنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا " (4) .
- والعسر الذي يرغبه بعض المسلمين إنما هوراجع إلى عوامل نفسية عنده وليس سبب ذلك الإسلام، فلا بد من تربية النفس تربية حقَّةً مستنيرةً دون تعقيد أوتعسير .
- أنَّ الحِلْمَ خلق يحبه الله ورسوله، وهذا ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأشجع رئيس قبيلة عبد قيس فعَنِ الأَشَجِّ الْعَصَرِيِّ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي رُفْقَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ لِيَزُورَهُ فَأَقْبَلُوا، فَلَمَّا قَدِمُوا رَفَعَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنَاخُوا رِكَابَهُمْ، فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ، وَلَمْ يَلْبَسُوا إِلاَّ ثِيَابَ سَفَرِهِمْ، وَأَقَامَ الْعَصَرِيُّ فَعَقَلَ رَكَائِبَ أَصْحَابِهِ وَبَعِيرَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ ثِيَابَهُ مِنْ عَيْبَتِهِ وَذَلِكَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6030 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4341 و 4342 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4623 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 196)(5376)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (69 )
(4) - مسند أبي يعلى الموصلي (4382) صحيح(1/80)
بِعَيْنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: مَا هُمَا ؟ قَالَ: الأَنَاةُ وَالْحِلْمُ، قَالَ: شَيْءٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ أَوْ شَيْءٌ أَتَخَلَّقُهُ ؟ قَالَ: لاَ بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ .. (1) .
وحلم الحليم لون من ألوان الرحمة بالناس، لأنَّ الشر لا يُداوى بالشر بل بالحكمة وبالحب والخير، قال الله - تعالى -: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت.
ولا تستوي حسنة الذين آمنوا بالله، واستقاموا على شرعه، وأحسنوا إلى خلقه، وسيئة الذين كفروا به وخالفوا أمره، وأساؤوا إلى خلقه. ادفع بعفوك وحلمك وإحسانك مَن أساء إليك، وقابل إساءته لك بالإحسان إليه، فبذلك يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب لك شفيق عليك. وما يُوفَّق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، وما يُوفَّق لها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.
- أن من الرحمة القولَ الحسن، قال الله - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (83) سورة البقرة.
نعم، لكل الناس: أبيضهم وأسودهم، غنيهم وفقيرهم، عالمهم وجاهلهم، مسلمهم وكافرهم، لكل الناس.فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ كُتِبَ عَلَيْهَا الصَّدَقَةُ كُلَّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَأَنْ يُعِينَ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلَهُ عَلَيْهَا وَيَرْفَعَ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَمْشِي إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ (2) .
- أن الذي لا توجد في قلبه رحمة للناس لا يستحق أن يكون داعية .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 178)(7203) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 323)(8608) 8593- صحيح لغيره(1/81)
- أن من الرحمة أن يوكل لكل إنسان ما يستطيع القيام به من أعمال، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .} (286) سورة البقرة
6- الصبر:
وهوأكثر خلق تكرر في القرآن الكريم، لأنه لا إيمان لمن لا صبر له وإن وُجد فإيمان ضعيف.
والصبر له مجالات ذُكرت في القرآن الكريم، منها :
1- الصبر على بلاء الدنيا، قال الله - تعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }سورة البقرة
ولنختبرنكم بشيء يسير من الخوف، ومن الجوع، وبنقص من الأموال بتعسر الحصول عليها، أو ذهابها، ومن الأنفس: بالموت أو الشهادة في سبيل الله، وبنقص من ثمرات النخيل والأعناب والحبوب، بقلَّة ناتجها أو فسادها. وبشِّر -أيها النبي- الصابرين على هذا وأمثاله بما يفرحهم ويَسُرُّهم من حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
من صفة هؤلاء الصابرين أنهم إذا أصابهم شيء يكرهونه قالوا: إنَّا عبيد مملوكون لله، مدبَّرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون بالموت، ثم بالبعث للحساب والجزاء.
أولئك الصابرون لهم ثناء من ربهم ورحمة عظيمة منه سبحانه، وأولئك هم المهتدون إلى الرشاد.
2- الصبر عن الشهوات الحرام، أوعن المتع الحلال التي تصدُّ عن ذكر الله وعبادته .
3- الصبر على طاعة الله، والقيام بها على أكمل وجه دون تكاسل أوملل، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (65) سورة مريم(1/82)
والصبر هنا يكون قبل الطاعة بتصحيح النية، وأثناء الطاعة حتى تكتمل، وبعدها فلا يرائي ولا يعجب بعمله .
4- الصبر على مشاقِّ الدعوة، فطريق الدعوة طويلة لا بد لها من صبر وعدم استعجال للثمرات.وأثناء الدعوة قد يتعرض الداعية إلى إعراض من قبل الناس، أوأذى منهم بالقول أوالفعل، أو..أو..
5- الصبر في مجال العلاقات الإنسانية، قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (20) سورة الفرقان
وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول - أحدًا مِن رسلنا إلا كانوا بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. وجعلنا بعضكم- أيها الناس- لبعض ابتلاء واختبارًا بالهدى والضلال، والغنى والفقر، والصحة والمرض، هل تصبرون، فتقوموا بما أوجبه الله عليكم، وتشكروا له، فيثيبكم مولاكم، أو لا تصبرون فتستحقوا العقوبة؟ وكان ربك - أيها الرسول - بصيرًا بمن يجزع أو يصبر، وبمن يكفر أو يشكر.
ومن الأمور التي تعين على الصبر كما جاء ذلك في القرآن الكريم :
أ- المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا، وأنها لا تثبت على حال، فيوم لك ويوم عليك، قال الله - تعالى -: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (140) سورة آل عمران.
إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها باللّه أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر اللّه أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم. ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون! واللّه سبحانه يعلم المؤمنين(1/83)
والمنافقين. واللّه سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور. ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعا في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فاللّه سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم.
ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم. والرخاء في هذا كالشدة.
وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل. والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى اللّه في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن اللّه.
وقد كان اللّه يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن اللّه الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعة للّه، وتوكلا عليه، والتصاقا بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين (1) .
ب- معرفة الإنسان بنفسه، أنه مملوك لله رب العالمين، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل.
وما بكم مِن نعمةِ هدايةٍ، أو صحة جسم، وسَعَة رزقٍ وولد، وغير ذلك، فمِنَ الله وحده، فهو المُنْعِم بها عليكم، ثم إذا نزل بكم السقم والبلاء والقحط فإلى الله وحده تَضِجُّون بالدعاء .
ويقول الشاعر :
" وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ "
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 481)(1/84)
ج- اليقين بحسن الجزاء من الله - تعالى -، قال الله - تعالى -: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (96) سورة النحل
ما عندكم من حطام الدنيا يذهب، وما عند الله لكم من الرزق والثواب لا يزول. ولنُثِيبنَّ الذين تحمَّلوا مشاق التكاليف -ومنها الوفاء بالعهد- ثوابهم بأحسن أعمالهم، فنعطيهم على أدناها، كما نعطيهم على أعلاها تفضُّلا.
وقال الله - تعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر .
قل -أيها النبي- لعبادي المؤمنين بالله ورسوله: اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معصيته. للذين أحسنوا في هذه الدينا بعبادة ربهم وطاعته حسنة في الآخرة، وهي الجنة، وحسنة في الدنيا من صحة ورزق ونصر وغير ذلك. وأرض الله واسعة، فهاجِروا فيها إلى حيث تعبدون ربكم، وتتمكنون من إقامة دينكم. إنما يُعطَى الصابرون ثوابهم في الآخرة بغير حدّ ولا عدّ ولا مقدار، وهذا تعظيم لجزاء الصابرين وثوابهم.
د- اليقين بالفرج، وبأن نصر الله وتوفيقه قريب وأن بعد العسر يسراً قال الله - تعالى -: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (60) سورة الروم
فاصبر -أيها الرسول- على ما ينالك مِن أذى قومك وتكذيبهم لك، إن ما وعدك الله به من نصر وتمكين وثواب حق لا شك فيه، ولا يستفزَّنَّك عن دينك الذين لا يوقنون بالميعاد، ولا يصدِّقون بالبعث والجزاء.
إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية! والثقة بوعد اللّه الحق، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك .. الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين، ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد اللّه. ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين. فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل اللّه فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين. مهما يطل هذا الطريق، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم! وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد اللّه في نصر الروم بعد بضع(1/85)
سنين، ونصر المؤمنين. تختم بالصبر حتى يأتي وعد اللّه والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون (1) .
وقال الله - تعالى -: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (7) سورة الطلاق.
ويقول الشاعر:
" ولَرُبَّ نازلة يضيق لها الفتى ذرعاً، وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَتْ، وكنت أظنها لا تفرج "
هـ- الاستعانة بالله، قال الله - تعالى - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (48) سورة الطور.
واصبر -أيها الرسول- لحكم ربك وأمره فيما حَمَّلك من الرسالة، وعلى ما يلحقك من أذى قومك، فإنك بمرأى منا وحفظ واعتناء، وسبِّح بحمد ربك حين تقوم إلى الصلاة، وحين تقوم من نومك، ومن الليل فسبِّح بحمد ربك وعظِّمه، وصلِّ له، وافعل ذلك عند صلاة الصبح وقت إدبار النجوم.
و- الاقتداء بأهل الصبر والعزائم، وذلك من خلال التأمل في سيرهم، وفي القرآن الكريم من ذلك الكثير .
ز- الإيمان بقدر الله وسنته، فقدر الله - تعالى - نافذ لا محالة، قال الله - تبارك وتعالى -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) }سورة الحديد
ما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم من الأمراض والجوع والأسقام إلا هو مكتوب في اللوح المحفوظ من قبل أن تُخْلَق الخليقة. إن ذلك على الله تعالى يسير.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2778)(1/86)
لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا بما آتاكم فرحَ بطر وأشر. والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور به على غيره.
ح- الحذر من الآفات العائقة عن الصبر، ومنها: الاستعجال، الغضب، شدة الحزن والضيق، اليأس، ...
7- الحرص :
لا بُدَّ أن يشعر المَدْعُوأن الداعية حريص عليه، وهذا الشعور يفتح قلبه ويستثير عواطفه، وقد وصف الله - تعالى - الرسول - صلى الله عليه وسلم - : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة.
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول من قومكم، يشق عليه ما تلقون من المكروه والعنت، حريص على إيمانكم وصلاح شأنكم، وهو بالمؤمنين كثير الرأفة والرحمة.
ولقد عرض علينا القرآن الكريم مواقف حرص الرسل والأنبياء على أقوامهم، فكلٌّ منهم كان يأتي إلى قومه قائلاً: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، ويخاطبهم دائماً بقوله: يا قومي، لأنه يحبهم ويحب الخير لهم .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي، وَيَرَانِي إِلاَّ أَحَبَّنِي، قُلْتُ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ: إِنَّ أُمِّي كَانَتِ امْرَأَةً مُشْرِكَةً وَكُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الإِسْلاَمِ، فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ، فَتَأْبَى عَلَيَّ وَأَدْعُوهَا، فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ اهْدِهَا، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، وَسَمِعْتُ خَشْفَ رَجُلٍ أَوْ رِجُلٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَمَا أَنْتَ وَفَتَحَتِ الْبَابَ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَلَى خِمَارِهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحُزْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ، فَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَكَ، قَدْ هَدَى اللَّهُ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ(1/87)
اللهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا (1) .
8- الأمل والثقة بنصر الله :
فالداعية إيمانه عميق وثقته كبيرة في انتصار هذا الدين، ويؤمن أن الإسلام لا بد وأن تعلورايته ويعم خيره الأرض ويُسعِد الناس ويدلهم على ما فيه خيرهم .
- والأمل في الدعوة شرطٌ في النجاح، لذلك وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشر المؤمنين، فعَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا اللَّهَ، أَوَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ بِنِصْفَيْنِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ (2) .
- والداعية لا بد أن يوقن بنصر الله له إن اتبع الحق وأخذ بالأسباب، فالله - تعالى - يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47) سورة الروم .
ولقد أرسلنا، يا محمد، قبلك رسلا إلى أقومهم بالدلائل الواضحات على أنهم رسل الله، وأنهم مرسلون إليهم لدعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبت الأقوام رسلها، فانتقمنا من الكافرين الذين اجترحوا السيئات، ونجينا الذين آمنوا بالله، واستجابوا لدعوة رسله وقد أوجبنا على أنفسنا نصر المؤمنين، وكذلك نفعل، فلا تبتئس يا محمد لما تراه من تكذيب قومك لك، ومن إيذائهم إياك، فسننصرك عليهم (3) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6551 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 107)( 7154)
المجاف : المغلق -الخشف : حركة المشى وصوته
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 72)(21073) 21388- صحيح
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3337)(1/88)
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين وجعله لهم حقا، فضلا وكرما. وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا. وكيف والقائل هو اللّه القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وناموسه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا - في تقدير البشر - لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب اللّه، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها اللّه. واللّه هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح.
ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين (1) .
وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) سورة محمد
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله، والحكم بكتابه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ينصركم الله على أعدائكم، ويثبت أقدامكم عند القتال.
وقال - تبارك وتعالى -: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (51) سورة غافر
يقول الله تعالى، إنه سيجعل رسله هم الغالبين لأعدائهم ومعانديهم، وإنه سينصر معهم المؤمنين بهم في الحياة الدنيا، وذلك يكون بالطرق التالية:
- إما بجعلهم غالبين على من كذبهم، كما فعل بداود وسليمان ومحمد، عليهم السلام .
- وإما بالانتقام ممن عاداهم وآذاهم، وإهلاكه إياهم، وإنجائه الرسل والمؤمنين، كما فعل بنوح وهود وصالح وموسى ولوط .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2774)(1/89)
- وإما بالانتقام ممن آذى الرسل بعد وفاة الأنبياء والرسل، بتسليط بعض خلق الله على المكذبين المجرمين لينتقموا منهم، كما فعل مع زكريا ويحيى، عليهما السلام .
وكما أن الله تعالى ينصر رسله والمؤمنين بدعوتهم في الحياة الدنيا، كذلك ينصرهم يوم القيامة، وهو اليوم الذي يقوم فيه الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، بالشهادة على الأمم المكذبة بأن الرسل قد أبلغوهم رسالات ربهم (1) .
- ولنا في قصص الأنبياء عبرة: كيف أنَّ الله - تعالى - ينصر دعوته ولوبعد حين فنجد سيدنا نوحاً - عليه السلام - قد مكث في قومه يدعوهم " ألف سنة إلا خمسين عاماً " .. " ليلاً ونهاراً "، ومعه الأمل بنصر الله - تعالى -، وفي النهاية ما آمن معه إلا قليل .
- والنصر الذي يؤتيه الله عباده المؤمنين تَتَعَدَّدُ أشكاله وصوره، فقد يمكن الله - تعالى - للمؤمنين، وقد يصيب أعداءهم بالأمراض التي لم تكن من قبل، وقد.. وقد ..، إلا أنَّ المطلوب من المؤمنين أنْ يأخذوا بالأسباب .
- ثم إنَّ الأملَ لا بد معه من العمل الواعي المخلص المستمر، وإنْ طالَتْ الطريق، فلا يشكو مِنْ تأخُّر الثمَرَات ولا ييأس من إيمان الناس، ويضرب الله - تعالى - لنا مثلاً سيدنا يونس - عليه السلام - حين غادر قومه غاضباً لأنهم كذبوه ... {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) }سورة الصافات
فابتلعه الحوت، وهو مستحق للملامة على ما فعل من خروجه من بين أظهر قومه بغير إذن ربه، وتخليه عن دعوتهم إلى الله، والدعوة تستدعي الصبر والثبات.
{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (87) سورة الأنبياء
يذكر الله تعالى قصة يونس عليه السلام ( وهو ذو النون أي صاحب الحوت )، وكان الله قد بعثه نبيا إلى أهل نينوى فدعاهم إلى عبادة الله وحده فأبوا، وتمادوا في كفرهم، فخرج يونس من بينهم مغاضبا لهم، وأتذرهم بأن العذاب واقع بهم بعد ثلاثة أيام، فلما تحققوا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4063)(1/90)
من ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا من البلد بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، ثم تضرعوا إلى الله تعالى، وجأروا إليه بالدعاء، فرفع الله عنهم العذاب، وصرفه عنهم، كما جاء في آية أخرى .
أما يونس فإنه ترك قومه مغاضبا لهم، وذهب فركب في سفينة فاضطربت وخاف من فيها من غرقها، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم في الماء يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه، فأبوا، ثم أعادوا للمرة الثالثة فوقعت عليه، فتجرد يونس من ثيابه، وألقى بنفسه في الماء، فالتقمه الحوت، ولذلك سمي بصاحب الحوت ( ذو النون ) .
وكان يونس يظن أن الله لن يضيق عليه في بطن الحوت، ( أو أنه تعالى لن يقدر عليه أن يكون في بطن الحوت ) فكان في بطن الحوت في ظلمة، وفي أعماق البحر في ظلمة، وفي ظلام الليل في ظلمة، ولذلك قال تعالى: { فنادى في الظلمات } ودعا ربه قائلا: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (1) .
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} [الصافات: 143 - 148]
ولو لم يكن من الذاكرين ربهم كثيرا، والمسبحين بحمده.للبث ميتا في بطن الحوت إلى يوم القيامة، يوم البعث والنشور، ولكان طعاما يتغذى به الحوت.فأمر الله تعالى الحوت بأن يلقيه في مكان خال لا شجر فيه ولا نبات، وهو عليل الجسم، سقيم النفس .
فأنبت الله بجانبه شجرة يقطين تظلله بأوراقها، وتقيه لفح الشمس، ويأكل ثمرها .
ثم إنه بعد أن شفي، ورضي عليه ربه، بعثه الله تعالى رسولا إلى قومه مرة أخرى، وكان عددهم كثيرا قد يتجاوز مئة ألف، فاستقامت حالهم معه، لأنهم بعد خروجه عنهم، خافوا عذاب الله، وما أنذرهم به يونس، فخرجوا خارج البلد بأموالهم وأبنائهم ومواشيهم،
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2486)(1/91)
وجأروا إلى الله بالدعاء، وأعلنوا التوبة لربهم، فأنجاهم ربهم من الهلاك، ولما عاد إليهم يونس التفوا حوله.فآمنوا بالله، وبما دعاهم إليه نبيهم يونس، فمتعهم الله في هذه الحياة الدنيا، حتى حانت آجالهم، فهلكوا فيمن هلك .
- ولا بد للداعية أنْ يعلم أنَّ اليأسَ ليس من صفات المؤمن أبداً، فالله - تعالى - يقول: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (87) سورة يوسف.
- والداعية واثِقٌ بأنَّ الله معه ( إن كان هومع الله )، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة حين كان في غار ثور أثناء الهجرة، {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40) سورة التوبة ...
ولنا في سيدنا موسى - عليه السلام - كذلك أسْوَةٌ حين تَبِعَهُ فرعون وجنوده فظَنَّ البعضُ أنَّ سيدنا موسى - عليه السلام - خائف من فرعون فقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (62) سورة الشعراء .
- وإنَّ الأمل لا بد معه من العمل، فلا يكفي أنْ نحلم ونتمنَّى أنْ يرجع مجتمعنا إلى الإسلام، بل لا بد مع هذا الأمل من الأخذ بالأسباب، وكما قال الشيخ العلامة محمد الغزالي - رحمه الله - تعالى - -: " فإنَّ الدعاة اليوم هم طلائع النور في أمَّةٍ طالَ عليها الليل، وبَوَادِرُ اليَقَظَة في أمَّةٍ تَأَخَّر بها النوم، وأمَلُ العالم في عَصْرٍ أجْدَبَتْ فيه الدنيا مِنْ رسل الرحمة واليقين وامْتَلأتْ بِزَبانية الأثَرَةِ والإلحاد " (1) .
9- الوعي والفقه :
فلا شكَّ أنَّ حركة الداعية حركة واسعة، وانتشاره كبير، واتصالاته كثيرة، وهويلتقي بأنواع كثيرة مختلفة من البشر، كلٌّ له مِزاجه وثقافته وعلمه، فلا بد أن يعرف الداعية
__________
(1) - مع الله دراسات في الدعوة والدعاة - (1 / 6)(1/92)
الكثير من الثقافات والعلوم أوعلى الأقل يطّلع على بعضها ... وإن وجد الداعية وقتاً واستطاعة فعليه أن يلتحق بعدد من الدورات المفيدة كاستخدام الكمبيوتر ( الحاسوب )، وفن الكلام، واتقان اللغات المختلفة إذا كان بحاجة إليها وإلا فلا، فعَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ ؟ إِنَّهَا تَأْتِينِي كُتُبٌ، قَالَ: قُلْتُ: لاَ.قَالَ: فَتَعَلَّمْهَا فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا (1) .
والوعي يجعل الداعية مخططاً في دعوته يعرف أهدافه ويبحث عن الوسائل المناسبة لتحقيق هذه الأهداف، فالدعوة ليست حركة عَشْوَائِيَّة .
10-حسن الخلق :
وهذه الصفة لا بد أن تكون في كل مسلم، والكلام في هذا الموضوع مَبْسُوطٌ في كتب الأخلاق بِتَوَسُّعٍ .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 234)(21587) 21920- صحيح(1/93)
المبحث السابع
موقف الداعي من المجتمع
الداعي يحترم مجتمعه ويحبه ويحب الخير له، ويتعامل معه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن لذلك حدود يجب ألا يخرج عنها الداعية وإلا وقع في المحظور.فالداعي لا يجاري القوم في مطالبهم ولا عاداتهم ولا تقاليدهم التي تتصادم مع قواعد الشريعة وأحكامها وآدابها، ولكنه يسعى بكل الوسائل الحكيمة إلى تغييرها إن استطاع !
- - - - - - - - - - - - -(1/94)
المبحث الثامن
القواعد والأصول المرتبطة بالدعوة وفنونها
ومن المداخل الضرورية أن يتعرف الداعية على بعض القواعد والأصول المرتبطة بالدعوة وفنونها، ومن ذلك :
- مقاصد الشريعة:
حيث انه من أول مقاصد الشريعة صيانة وحفظ الأركان الخمسة الضرورية للحياة وهي: الدين، النفس، العقل، النسل والمال، ثم ضمان ما سوى هذه الأركان من الأمور التي تحتاج إليها الحياة الصالحة .
ولقد قسم علماء الفقه الإسلامي الأعمال والتصرفات التي تعد من المصالح بالنظر الشرعي وبحسب دلائل النصوص الشرعية وأحكامها إلى ثلاثة أقسام :
1- الضروريات:
وهي الأعمال والتصرفات التي يتوقف عليها حفظ الأركان الخمسة السابقة، وهي أمور لا بد منها للحياة، فإذا فقد بعضها انهارت الحياة الإنسانية أواختلَّت .
2- الحاجيات :
وهي الأعمال والتصرفات التي لا يتوقف عليها حفظ الأركان الخمسة، ولكنها تتطلبها الحاجة لأجل التوسعة ورفع الحرج.
3- التحسينيات أوالتكميليات :
وهي التي لا تتحرج الحياة بتركها ولكن مراعاتها من مكارم الأخلاق أومن محاسن العادات .
وعلى هذا فإن الأحكام التي شرعت لحفظ الأركان الضرورية هي أهم الأحكام وتليها الأحكام المشروعة لضمان الحاجيات ثم الأحكام المشروعة للتحسين والتكميل .( مثال: كشف العورة لأجل تشخيص داء أولعملية ضرورية ) .(1/95)
( وقال العلماء: كل أمر فيه جهتا نفع وضرر، فإن كانت جهة النفع في الشيء هي الغالبة فهي مصلحة بالمعنى العرفي وإن اشتملت على ضرر مغلوب، وإن كانت جهة الضرر هي الغالبة فهي مفسدة بالمعنى العرفي وإن اشتملت على نفع مغلوب كما أخبر الله - تعالى - في القرآن الكريم عن الخمر والميسر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (219) سورة البقرة.
- العلم بقيم الأحكام والأعمال: فلكل عمل وحكم قيمة معينة لا يقل عنها ولا يزيد، فهناك المستحب، والمسنون، والواجب، والفرض، وحتى للفرض نوعان: فرض عين وفرض كفاية، وفرض العين المتعلق بالمجموع والأمة مقدم على فرض العين المتعلق بالفرد، وسيأتي الكلام عن هذا الموضوع بإذن الله - تعالى - عند الحديث عن فقه الأولويات .
والمنهيات كذلك لها مراتب منها المكروه التنزيهي والمكروه التحريمي، وهناك الحرام بنوعيه: الكبائر والصغائر، فالصغائر تكفرها الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك، وأما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة النصوح.
ومما وقع فيه الخلل والاضطراب :
أ- اشتغال كثير من الناس بتغيير المكروهات أوالشبهات أكثر مما اشتغلوا بتغيير المحرمات المنتشرة أوالواجبات المضيعة
ب- انصراف الكثيرين إلى مقاومة الصغائر مع إغفال الكبائر والموبقات !
- العلم بمراتب الأحكام الشرعية، وأنها ليست في درجة واحدة من حيث ثبوتها.فهناك الأحكام الظنية التي هي مجال الاجتهاد، وتقبل تعدد الأفهام والتفسيرات، سواءً كانت أحكاماً فيما لا نص فيه، أوفيما فيه نص ظني الثبوت أوظني الدلالة أوظنيهما معاً، كالأحكام الفقهية مثلاً حيث يكفي فيها الظن بخلاف الأحكام التي تتعلق بالعقيدة حيث لا يغني فيها إلا القطع واليقين.والاختلاف في الأحكام الفرعية العملية الظنية لا ضرر فيه ولا خطر، إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح وهورحمة بالأمة ومرونة في الشريعة(1/96)
وسعة في الفقه، وقد اختلف فيها أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان فما ضرهم ذلك شيئاً .
فعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , قَالَ: " كَانَ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ , فَمَا عَمِلْتَ مِنْهُ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَدْخُلْ نَفْسَكَ مِنْهُ شَيْءٌ " (1) .
وعَنْ قَتَادَةَ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ , كَانَ يَقُولُ: " مَا سَرَّنِي لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا , لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ تَكُنْ رُخْصَةٌ " (2) .
فلا يجوز أن توضع الأحكام كلها في درجة واحدة فيسارع البعض دون علم إلى إلصاق الكفر بكل من عارض حكماً دون تمييز بين الأصول والفروع، ولا تفريق بين الثابت بالنص والثابت بالاجتهاد وبين القطعي والظني في النصوص وبين الضروري وغير الضروري في الدين .
- اختلاف مراتب الناس: فهناك في المسلمين من هومبتدئ وهناك من هومتقدم، وهناك الضعيف وهناك القوي ..، ومن غير المسلمين من هوغير عالم بحقيقة الإسلام ولوعلم لآمن، وهناك من عنده صورة مشوهة عن الدين، وهناك ..وهناك .
شروط التصدي للمنكر :
1- لا بد أن يكون المنكر منكراً، أي ما كان محظور الوقوع في الشرع .
2- أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس، فكل من ستر معصيته في داره وأغلق بابه لا يجوز الدخول عليه بغير إذن لتعرف المعصية، ولا يتجسس عليه، وقد نهى الله - تعالى - عن التجسس فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات.
3- أن يكون منكراً معلوماً بغير اجتهاد، فكل ما هومحل الاجتهاد فلا نكران فيه، فلا بد أن يكون المنكر متفقاً عليه .
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 736 ) صحيح
(2) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 738 ) صحيح(1/97)
- إنكار المنكر أربع درجات :
فأنت حينما تفكر في التصدي للمنكر وإنكاره تحدث إحدى الاحتمالات التالية :
1- أن يزول المنكر ويخلفه ضده .
2- أن يقل وإن لم يزل بجملته ( كله ) .
3- أن يخلفه ما هومثله .
4- أن يخلفه ما هوشر منه .
فالدرجتان الأولى والثانية مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد: إما أن تزيله وإما أن تتركه، والرابعة محرمة أي: إنك إن فكرت في إزالة المنكر في هذه الحالة تكون آثماً.وهذا يتماشى مع قاعدة فقهية وهي: السكوت عن منكر ما مخافة منكر أكبر منه ارتكاباً لأخف الضررين وأهون الشرين (أمثلة: تكسير الأصنام، إقامة الحدود في الحروب ) .
- لا بد من معرفة العديد من القواعد الفقهية: ومنها :
- لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان هذا الفعل جائزاً ( أمثلة: قتل المنافقين، سب وشتم آلهة الكافرين، قال الله - تعالى -: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (108) سورة الأنعام
ولا تسبوا -أيها المسلمون- الأوثان التي يعبدها المشركون -سدًّا للذريعة- حتى لا يتسبب ذلك في سبهم الله جهلا واعتداءً: بغير علم. وكما حسَّنَّا لهؤلاء عملهم السيئ عقوبة لهم على سوء اختيارهم، حسَّنَّا لكل أمة أعمالها، ثم إلى ربهم معادهم جميعًا فيخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، ثم يجازيهم بها.
- يجوز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة .
- الفتوى تقدر زماناً ومكاناً وشخصاً.
ولوأخذ الداعية بحكم من الأحكام المختلف فيها واختار رأياً يجذب به الآخرين إلى الإسلام تيسيراً لهم ما دام هذا الحكم لا يتعارض مع شريعتنا ولا يعطلها فهذا من فقه الدعوة، وكم من أمور فقهية لا بد للداعي من فهمها والعمل بها !(1/98)
- إن فقه الداعية للدعوة فهماً دقيقاً يمكِّنه من الحركة بمرونة أكبر ضمن حدود الدين، ويمكنه من الانخراط في مجتمعه لا الانعزال عنه، ويجعل الداعية قريباً من الناس ومشاكلهم يحلها لهم ولا ينتقدها من بعيد .
- هناك قواعد فقهية أخرى كثيرة لا بد من مراعاتها ومنها :
1- لا ضرر ولا ضرار :
أ-الضرر يدفع بقدر الإمكان.ب- الضرر يزال.ج- الضرر لا يزال بمثله .
د- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.هـ- نختار أهون الشرين
2- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام .
3- الضرورات تبيح المحظورات .
4- ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها .
5- المشقة تجلب التيسير .
وقواعد أخرى كثيرة لا بد من فهمها قبل الأمر والنهي .
- - - - - - - - - - - -(1/99)
المبحث التاسع
قواعد أساسية في الدعوة إلى الله - تعالى -
1) القدوة قبل الدعوة.2) التأليف قبل التعريف .
3) التعريف قبل التكليف.4) التدرج في التكاليف .
5) التيسير لا التعسير.6) الأصول قبل الفروع .
7) الترغيب قبل الترهيب.8) التفهيم لا التلقين .
9) التربية لا التعرية.10) تلميذ إمام لا تلميذ كتاب .
1) القدوة قبل الدعوة.
- الله - تعالى - حين يريد إقامة حجته على خلقه يخلق لهم منهم رجلاً يكون قدوة لهم، ولنا في سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أوضح مثال :
- سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - هوالقدوة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع، فهوالأسوة لكل داعٍ وكل قائد وكل صديق وكل زوج وكل مربٍّ وكل سياسي وكل رئيس وكل عابد.
- إن الإسلام يعرض هذه القدوة ليس للإعجاب السالب في عالم الخيال، بل يعرضها للناس ليحققوها في ذوات أنفسهم، كلٌّ بقدر ما يستطيع، لأن الإسلام يرى أن القدوة أعظم وسائل التربية .
- الطفل مثلا يقتدي بأبويه، فلذا لا بد من إظهار القدوة الحسنة له حتى يقلدها .
- لإظهار القدوة يجب على الإنسان أن يبدأ بنفسه أولاً، فيربيها على تقوى الله - تعالى -، والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وترك الخيانة، و..و.. وكل الصفات الحميدة التي يأمرنا الله - تعالى - بها .
- انتشر الإسلام في بلاد كثيرة عن طريق القدوة، فمثلاً بلاد الملايو انتشر الإسلام فيها عن طريق التجار المسلمين، فرأى الناس في أهله طيب الأخلاق وصلاحها، فآمنوا !(1/100)
- كثير من الناس من يستطيع الكلام والوعظ ولكن القليل هم الذين يستطيعون العمل، والناس عندما ترى الداعية قائلاً عاملاً فإنهم يصدِّقونه أما عندما يرون قوله في وادٍ وفعله في وادٍ آخر فإنهم لا يسمعون، ويبتعدون .
- لذلك وبَّخ الله - تعالى - أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة.
ما أقبح حالَكم وحالَ علمائكم حين تأمرون الناس بعمل الخيرات، وتتركون أنفسكم، فلا تأمرونها بالخير العظيم، وهو الإسلام، وأنتم تقرءون التوراة، التي فيها صفات محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ووجوب الإيمان به!! أفلا تستعملون عقولكم استعمالا صحيحًا؟
- قال أحد الصالحين: " إن رجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات، إن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن القليل من هذا الكثير يثبتون عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا، ولكن قليل منهم يستطيعون حمل الأعباء (1) .
- قال الشاعر :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم !
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم
- إن القول دون عمل سبب في مقت الله - تعالى - للإنسان، قال الله - تعالى - في سورة الصف: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) }[الصف: 2، 3] .
__________
(1) - http://www.daawa-info.net/books1.php?id=5128&bn=195&page=6(1/101)
ينكر الله تعالى على من يعد وعدا، أو يقول قولا لا يفي به، فيقول تعالى: لأي شيء تقولون لوددنا أن نفعل كذا وكذا من أفعال الخير، حتى إذا طلب منكم فعل ذلك كرهتم ذلك ولم تفعلوه؟..
وأكد الله تعالى إنكاره هذا على هؤلاء القائلين ما لا يفعلون، فقال لهم: إنه يكره كرها شديدا أن تقولوا شيئا لا تفعلونه لأن الوفاء بالعهد والوعد ينمي الثقة بين أفراد الجماعة، كما أن فشو الخلف بالوعد يضعفها (1) .
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالُوا لَهُ: أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَتُكَلِّمُهُ ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ أَمْرًا لاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَنَا أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلاَ أَقُولُ لِرَجُلٍ، أَنْ يَكُونَ عَلَيَّ أَمِيرًا: إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، قَالَ: فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلاَنُ، أَمَا كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. (2) .
وفي الآية الكريمة قال الله - تعالى -: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) سورة الجمعة.
شَبَهُ اليهود الذين كُلِّفوا العمل بالتوراة ثم لم يعملوا بها، كشَبه الحمار الذي يحمل كتبًا لا يدري ما فيها، قَبُحَ مَثَلُ القوم الذين كذَّبوا بآيات الله، ولم ينتفعوا بها، والله لا يوفِّق القوم الظالمين الذين يتجاوزون حدوده، ويخرجون عن طاعته.
- وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، سَمِعْتُ ابْنَ السَّمَّاكِ، وَكَتَبَ , إِلَى أَخٍ لَهُ: " أَمَا بَعْدُ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ نَجِيُّكَ فِي سَرِيرَتِكَ , وَرَقِيبُكَ فِي عَلَانِيَتِكَ , فَاجْعَلِ اللَّهَ فِي بَالِكَ عَلَى حَالِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ وَحِبِّ اللَّهَ بِقَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ , فَاعْلَمْ أَنَّكَ بِعَيْنِهِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5044)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 292)(21800) 22143- وصحيح البخارى- المكنز - (3267 )(1/102)
لَيْسَ تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى سُلْطَانِ غَيْرِهِ , وَلَا مِنْ مُلْكِهِ إِلَى مُلْكِ غَيْرِهِ فَلْيَعْظُمْ مِنْهُ حَذَرُكَ وَلْيَكْثُرْ مِنْهُ وَجَلُكَ , وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّنْبَ مِنَ الْعَاقِلِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ مِنَ الْأَحْمَقِ , وَالذَّنْبَ مِنَ الْعَالِمِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ مِنَ الْجَاهِلِ وَالذَّنْبَ مِنَ الْغِنَى أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ مِنَ الْفَقِيرِ , وَقَدْ أَصْبَحْنَا أَذِلَّاءَ رُغَمَاءَ وَالذَّلِيلُ لَا يَنَامُ فِي الْبَحْرِ وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: حَتَّى مَتَى تَصِفُونَ الطَّرِيقَ لِلذَّاكِرِينَ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي مَحِلِّهِ الْمُتَجَبِّرِينَ تَضَعُونَ الْبَعُوضَ مِنْ شَرَابَكُمْ وَتَشْتَرِطُونَ الْجِمَالَ بِأَجْمَالِهَا وَقَالَ: إِنَّ الزِّقَّ إِذَا نُقِبَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْعَسَلُ وَإِنَّ قُلُوبَكُمْ قَدْ نُقِبَتْ فَلَا تَصْلُحُ فِيهَا الْحِكْمَةُ , أَيْ أَخِي كَمْ مِنْ مُذَّكَّرٍ بِاللَّهِ نَاسٍ لِلَّهَ وَكَمْ مِنْ مُخَوَّفٍ بِاللَّهِ جَرِيءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَمْ مِنْ دَاعٍ إِلَى اللَّهِ فَارٌ مِنَ اللَّهِ , وَكَمْ مِنْ قَارِئٍ لِكِتَابِ اللَّهِ يَنْسَخُ مَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالسَّلَامَ " (1) .
- إنه من السهل إلقاء محاضرة ووعظ بأحسن الكلمات وأقواها، ولكن هذا كله يبقى كلاماً إن لم يتحول إلى حركة وحياة .
2) التأليف قبل التعريف .
- إن الإسلام رسالة رحمة فمن حملها وآمن بها لا بد أن يكون رحيماً بالناس جميعاً لأنه يقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال الله - تعالى - له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء.
إن المنهج الذي جاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة.
ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي: جاءت كتابا مفتوحا للعقول في مقبل الأجيال، شاملا لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل، مستعدا لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة. وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة، واستنباط
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ ( 12177 )(1/103)
وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم.
وكفل للعقل البشري حرية العمل، بكفالة حقه في التفكير، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير.
ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض.
ولقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقا لخطوات البشرية في عمومه، قابلا لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نموا مطردا. وهو يقودها دائما، ولا يتخلف عنها، ولا يقعد بها، ولا يشدها إلى الخلف، لأنه سابق دائما على خطواتها متسع دائما لكامل خطواتها.
وهو في تلبيته لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو الجماعي، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها.
وقيمة هذا المنهج أنه متوازن متناسق. لا يعذب الجسد ليسمو بالروح، ولا يهمل الروح ليستمتع الجسد.
ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو الدولة. ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة، أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد.
وكافة التكاليف التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته، ولمصلحته وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف، وتجعلها محببة لديه - مهما لقي من أجلها الآلام أحيانا - لأنها تلبي رغيبة من رغائبه، أو تصرف طاقة من طاقاته.
ولقد كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة(1/104)
الواقعية والروحية من مسافة. ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئا فشيئا من آفاق هذه المبادئ. فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى.
لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية والجغرافية. لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد .. وكان هذا غريبا على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك. والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد .. ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرنا تحاول أن تقفو خطى الإسلام، فتتعثر في الطريق، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل. ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج - ولو في الدعاوى والأقوال - وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.
ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون. في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات، وتجعل لكل طبقة قانونا. بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع ..
فكان غريبا على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء ..
ولكن ها هي ذي شيئا فشيئا تحاول أن تصل - ولو نظريا - إلى شيء مما طبقة الإسلام عمليا منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.
وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما أرسل رحمة للعالمين. من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء. فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة، لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام.(1/105)
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها. وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب (1) ..
- النفوس جُبِلَتْ على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، والداعي الحكيم هوالذي يوفقه الله - تعالى - إلى أقفال القلوب فيفتحها ويتعامل معها برفق مقدِّماً لها كل مشاعر الحب، حينئذٍ تلين القلوب القاسية .
- يقول الإمام الغزالي - رحمه الله -: " لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه " (2) .
وذكر أن رجلاً دخل على المأمون الخليفة العباسي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فأغلظ له القول وقسا في التعبير، ولم يُراعِ أن لكل مقامٍ مقالاً يناسبه، وكان المأمون ذا فقه فقال له: يا هذا، ارفق، فإن الله بعث من هوخير منك إلى من هوشرٌّ مني، وأمره بالرفق: بعث موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهوشر مني، وأوصاهما بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (44) سورة طه، وبهذا حاجَّ المأمونُ ذلك الرجلَ فلم يجد جواباً (3) .
- الكلمة الطيبة في نظر الإسلام كائن حيٌّ له تأثيره الطيب على الناس كل الناس، لذلك أخبر الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - أن الكلمة الطيبة صدقة، وليس المهم توصيل الحقيقة إلى الناس فقط، ولكن الأهم الأسلوب والطريقة التي تصل بها، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " (4) .، لكي يتشوق السامع وينجذب إليه فيؤثر فيه، فكيف كلام البشر وكلام الداعية ؟ ألا يحتاج إلى تزيين ؟ ؟
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2401)
(2) - إحياء علوم الدين - (2 / 169) والبرهان المؤيد - (1 / 105) والمدخل لابن الحاج - (1 / 300)
(3) - ttp://services.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=13308
(4) - صحيح ابن حبان - (3 / 26)(750) صحيح(1/106)
- وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: " وَعَلَيْكُمْ "، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ، وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَهْ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ "، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا ؟ إِنَّمَا قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: " قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ " (1) .
- والكلام اللين ليس مداهنة ولا نفاقاً، بل هومراعاة النفسيّات كما تُراعى المصالح والمقاصد.وعن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنهم - ا - أَخْبَرَتْهُ قَالَتِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ، أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوِ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ».فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِى قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلاَمَ قَالَ « أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ - أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ - اتِّقَاءَ فُحْشِهِ » (2) ..
- وما أجمل قول أحد الصالحين إذ يقول ناصحاً الدعاة: " كونوا كالشجر: يُرْمى بالحجر فيُلقي بالثمر، يرمونكم بالتَّهَكُّم والسُخرية والاستهزاء والتنكيل والإخراج، وأنت ترميهم بالرفق واللين والصبر على الإيذاء، لأن الله يحب الرفق في الأمر كله " (3) .
- وللأسف نجد في زماننا هذا بعض الشباب الذين يكون قبل التزامه عطوفاً على أهله، بشوشاً في وجوه الناس، يحب الخير للناس ويرحمهم، فإذا التزم بالإسلام فإنه يفهمه خطأً، فيعبس في وجوه الناس ويقسو في وجوههم، وهذا كله جهل عظيم بحقيقة الإسلام .
ولكي نؤلف القلوب بتوفيق الله فإننا يجب أن نراعي أموراً وأسباباً لا بد منها، منها :
1- شعور المدعوأنَّك تدعوه إلى مبدأ وعقيدة لا إلى نفعٍ شخصي.- أي: شعور مَنْ تدعوهم بأنك لا تريد منهم جزاءً ولا شكراً ولا مالاً، وإنما تريد لهم الخير، ولنا في رسل الله - عليهم السلام - قدوة، حيث أن كل نبي كان يأتي إلى قومه كان يقول لهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (109) سورة الشعراء.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6927) وصحيح مسلم- المكنز - (5784 ) وشعب الإيمان - (11 / 365)(8678 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6054)
(3) - http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=48187&SecID=363(1/107)
- لذلك كانت بلقيس ملكة سبأ ذكية حينما أرسلت إلى سليمان - عليه السلام - هدية ( وفي الحقيقة هي رشوة ) لتختبره هل يريد الدعوة أم يريد المال والجاه { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) } [النمل: 32 - 37].
2- شعور المدعوأنَّك حريص عليه تحب له الخير .- وذلك بسبب الشفقة التي لا بد منها في قلب الداعية على الناس وحب الخير لهم، يشفق عليهم من الحيرة دون دين الله، ويشفق عليهم من الشقاء الذي سيصيبهم إن هم أعرضوا عنه، ويشفق عليهم من عذاب الله ويحب لهم السعادة ودخول الجنة مع الداخلين .
- لذلك وجدنا كل رسول ونبي يأتي إلى قومه يقول لهم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (135) سورة الشعراء. وكذلك كل داعية، ولنا في قصة مؤمن يس موعظة ودليل على حرص الداعية على قومه في حياته وبعد موته: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) } [يس: 20 - 27] (1) .
وكذلك نجد الحرص عند مؤمن آل فرعون في كلامه ودعوته { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ
__________
(1) - راجع كتابي (( قصة أصحاب القرية )) دروس وعبر(1/108)
يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) }[غافر: 28 - 46].(1/109)
- ولا بد للداعية من أن يقتدي بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت نفسه تحزن وتكاد تتقطع حسرةً على عدم إيمان قومه، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (6) سورة الكهف
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَيَّتُهَا الأُمَّةُ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا بِلَيْلٍ، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْفَرَاشُ وَالدَّوَابُّ الَّتِي تَغْشَى النَّارَ، فَجَعَلَ يَذُبُّهَا وَتَغْلِبُهُ إِلاَّ تَقَحُّمًا فِي النَّارِ، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَتَغْلِبُونِي إِلاَّ تَقَحُّمًا فِي النَّارِ. (1) .
3- عدم تعنيف المدعو ولو بالكلمة مع الرفق به .
- القرآن الكريم لم يذكر الشدة إلا في موضعين :
1- في قتال الكفار.
.2- في تنفيذ العقوبات الشرعية .
أما في فتال الكفار فلا بد من استخدام الآداب الإسلامية ، حيث إن الإسلام يختلف عن جميع الأنظمة الأرضية، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: " اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ،
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 818)(10963) 10976- وصحيح مسلم- المكنز - (6098 )
الجنادب : جمع جندب وهو نوع من الجراد يقفز ويطير
الحجز : جمع حجزة وهى معقد الإزار والسراويل(1/110)
وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا " (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ قَطُّ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: " رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ كُنْتُ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا فَعَّالًا لِلْخَيْرَاتِ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَكَ حَتَّى تُحْشَرَ مِنْ أَفْوَاهٍ شَتَّى، أَمَا وَاللهِ عَلَى ذَلِكَ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ ".قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمَ سُورَةِ النَّحْلِ الْآيَةِ: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [النحل: 126]، فَصَبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ (2) .
وأما في تنفيذ الحدود فلها آدابها وشروطها، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (3) .
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي.فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ارْجِعِي.فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ أَيْضًا فَاعْتَرَفَتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي.فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ارْجِعِي.فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ أَيْضًا فَاعْتَرَفَتْ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4619 )
تخفر : تنقض العهد -تغل : تسرق من الغنيمة قبل أن تقسم
(2) - شعب الإيمان - (12 / 185)(9253 ) ضعيف
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5167) وصحيح ابن حبان - (13 / 199)(5883)(1/111)
عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، طَهِّرْنِي فَلَعَلَّكَ أَنْ تَرْدُدْنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى.فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي.فَلَمَّا وَلَدَتْ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ تَحْمِلُهُ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، هَذَا قَدْ وَلَدْتُ.قَالَ: فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ.فَلَمَّا فَطَمَتْهُ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، هَذَا قَدْ فَطَمْتُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّبِيِّ فَدَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا حُفْرَةٌ فَجُعِلَتْ فِيهَا إِلَى صَدْرِهَا، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا، فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا، فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْنَةِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلاً يَا خَالِدُ بْنَ الْوَلِيدِ لاَ تَسُبَّهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ فَأَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ (1) .
وزاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - موطنا ثالثاً، وهو الرد على المعاندين والمستهزئين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ أَخَذَ عَظْمًا مِنَ الْبَطْحَاءِ فَفَتَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُحْيِي اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَعْدَ مَا أَرَى؟ فَقَالَ َرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ"، قَالَ: وَنَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخَرِ " يس " " (2) .
وقد زعم قوم من فقهاء الهزيمة بحجة - فقه الدعوة -أن العنف في الدعوة لا يأتي بخير أبداً، بل وصلت بهم القحة إلى أن يتكلموا على قصة النبي إبراهيم عليه السلام في كسر الأصنام ،قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 617)(22949) 23337- وصحيح مسلم- المكنز - (4528)
المكس : الضريبة والعشور التى تأخذ على خلاف حكم الشرع
(2) - معجم أسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي - (368 ) وتفسير ابن أبي حاتم - (12 / 78) وتفسير ابن كثير - دار طيبة - (6 / 593) والأحاديث المختارة للضياء - (4 / 318) حسن(1/112)
كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)} [الأنبياء: 51 - 72]
وزعموا أنه عليها الملاحظات التالية :
1- تكسير الأصنام شبيه بالعمل الفردي كلاهما لا يبطل الفساد، ولا يستأصل عبادة الأصنام، لأن سبيل استئصالها هو بثّ العقيدة الصالحة في القلوب بالوسائل الخالية من الاستفزاز .
2- إن القوم ربما يصنعون أصناماً غير التي كسرت، وقد تكون أجمل من القديمة، فتكسير القديمة لم يُثمر .
3- إن القوم غضبوا، وعاجلوا الفتى إبراهيم -عليه السلام- بإلقائه في النار ليتخلصوا منه، لولا أن الله - تعالى - تداركه في آخر لحظة ونجاه من عذابهم، وجعلها برداً وسلاماً (1) .
قلت: هذا تكذيب للقرآن الكريم، فقد ذكرها الله تعالى في معرض مدح النبي إبراهيم عليه السلام، وليس في معرض الذمِّ، فحوَّلها فقهاء الهزيمة إلى ذمٍّ والعياذ بالله تعالى .
ولا يوجد أحد من المفسرين السابقين قال ذلك أو أشار إليه ...
وهم يقيسون المسالة بهذا الفهم الأخرق ماذا استفاد من تحطيم الأصنام ؟
__________
(1) - مذكرة في فقه الدعوة - (1 / 16)(1/113)
ونسوا أن الأصل في تغيير المنكر أن يكون باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، عند العجز، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنَّ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ (1) .
وفي التفسير المنير: " كان لإبراهيم موقف جريء رائع من الأصنام وعبدتها، فقال لأبيه آزر وقومه أي النمروذ ومن اتبعه: ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون على عبادتها ؟ .
فأجابوه بأنهم يعبدونها تقليدا للأسلاف، فيرد عليهم بأنهم وآباءهم في خسران مبين بعبادتها إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم.
وكأنهم لم يصدقوا قوله، فسألوه: هل جئتنا بحق فيما تقول أم أنت لاعب مازح ؟
فكان إبراهيم صارما مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد قولا وفعلا، أما القول فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وأبدعهن. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي إنني شاهد على أنه رب السموات والأرض، والشاهد يبين الحكم، وأنا أبين بالدليل ما أقول.
وأما الفعل: فإنه كسر الأصنام وكان عددها سبعين، فعل واثق باللّه تعالى، موطّن نفسه على تحمل المكروه في سبيل رفع لواء الدين الحق، وإعلاء راية التوحيد للّه. وترك كبير الأصنام وعظيم الآلهة في الخلق، فإنه لم يكسره.
قال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر، وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتج به عليهم.
وهذا هو معنى قوله: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، كما يرجع إلى العالم أو الزعيم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة، ومالك صحيحا، والفأس على عاتقك ؟.وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، ويظهر لهم أنهم في عبادته على جهل عظيم.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (186) وصحيح ابن حبان - (1 / 542)(307)(1/114)
وذكر القرطبي والرازي وجها آخر في تفسير ذلك: وهو لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون إذا قامت الحجة عليهم، أو يرجعون إلى توحيد اللّه عند تحققهم عجز آلهتهم" (1) .
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: " لَمَّا حَضَرَ الْمَوْسِمُ حَجَّ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَالَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ أَيْقَنُوا وَاطْمَأَنُّوا إِلَى دَعْوَتِهِ وَعَرَفُوا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ بِصِفَتِهِ وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَصَدَّقُوا وَآمَنُوا بِهِ وَكَانُوا مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ قَالُوا لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الدِّمَاءِ وَنَحْنُ ثَمَّ نُحِبُّ مَا أَنْ نَشُدَّ بِهِ أَمْرَكَ وَنَحْنُ لِلَّهِ وَلَكَ مُجْتَهِدُونَ وَإِنَّا نُشِيرُ عَلَيْكَ بِمَا نَرَى فَامْكُثْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى قَوْمِنَا فَنُخْبِرَهُمْ بِشَأْنِكَ وَنَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَنَا وَيَجْمَعَ أَمْرَنَا، فَإِنَّا الْيَوْمَ مُتَبَاعِدُونَ مُتَبَاغِضُونَ، فَإِنْ تَقْدَمْ عَلَيْنَا وَلَمْ نَصْطَلِحْ لَمْ يَكُنْ لَنَا جَمَاعَةٌ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ نُوَاعِدُكَ الْمَوْسِمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي قَالُوا، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ سِرًّا، وَأَخْبَرُوهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِهِمْ إِلَّا أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْ قِبَلِكَ فَيَدْعُو النَّاسَ بِكِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ أَدْنَى أَنْ يُتَّبَعَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَنَزَلَ فِي بَنِي غَنْمٍ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَجَعَلَ يَدْعُو النَّاسَ سِرًّا فَيَفْشُو الْإِسْلَامُ وَيَكْثُرُ أَهْلُهُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُسْتَخْفُونَ بِدُعَائِهِمْ ثُمَّ إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ أَقْبَلَ هُوَ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حَتَّى أَتَيَا بِئْرَ مَرَقٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا فَجَلَسَا هُنَاكَ وَبَعَثَا إِلَى رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَتَوْهُمْ مُسْتَخْفِينَ فَبَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُهُمْ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ أُخْبِرَ بِهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَأَتَاهُمْ فِي لَأْمَتِهِ مَعَهُ الرُّمْحُ حَتَّى
__________
(1) - التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج - (17 / 74) وانظر فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2385)(1/115)
وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: عَلَامَ تَأْتِينَا فِي دُورِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْفَرِيدِ الطَّرِيحِ الْغَرِيبِ يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ، وَيَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَلَا أَرَاكُمْ بَعْدَهَا بشَيْءٍ مِنْ جِوَارِنَا، فَرَجَعُوا ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا الثَّانِيَةَ لِبِئْرِ مَرَقٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا فَأُخْبِرَ بِهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَتَوَاعَدَهُمْ تَوَعُّدًا دُونَ الْوَعِيدِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا رَأَى أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنْهُ لِينًا قَالَ: يَا ابْنَ خَالَةٍ، اسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنْ سَمِعْتَ مُنْكَرًا فَارْدُدْهُ بِأَهْدَى مِنْهُ، وَإِنْ سَمِعْتَ حَقًّا فَأَجِبْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: مَا أَسْمَعُ إِلَّا مَا أَعْرِفُ، فَرَجَعَ قَدْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُمُ الْإِسْلَامَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَقَالَ: مَنْ شَكَّ فِيهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ فَلْيَأْتِنَا بِأَهْدَى مِنْهُ نَأْخُذْ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ أَمْرٌ لَتُحَزَّنَّ فِيهِ الرِّقَابُ، فَأَسْلَمَتْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ عِنْدَ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَدُعَائِهِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُذَكِّرْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ دُورٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَتْ بِأَسْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي النَّجَّارِ أَخْرَجُوا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَاشْتَدُّوا عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَانْتَقَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَدْعُو وَيَهْدِي اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَسْلَمَ أَشْرَافُهُمْ وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَكُسِرَتْ أَصْنَامُهُمْ، وَكَانَتِ الْمُسْلِمُونَ أَعَزَّ أَهْلِهَا وَصَلُحَ أَمْرُهُمْ، وَرَجَعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ يُدْعَى الْمُقْرِئَ، ثُمَّ حَجَّ الْعَامَ الْمُقْبِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ وَثَلَاثُونَ شَابًّا، وَأَصْغَرُهُمْ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا حَدَّثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى أَنْ يُبَايِعُوهُ وَيَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ أَجَابُوا وَصَدَّقُوا وَقَالُوا: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، قَالَ: " أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْبُدُوهُ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ " فَلَمَّا طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ الشَّرْطِ اشْتَرَطَ لَهُ الْعَبَّاسُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَظَّمَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا،(1/116)
وَالْحِبَالُ الْحِلْفُ وَالْمَوَاثِيقُ، فَلَعَلَّنَا نَقْطَعُهَا ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى قَوْمِكَ وَقَدْ قَطَعْنَا الْحِبَالَ وَحَارَبْنَا النَّاسَ فِيكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: " الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ وَالْهَدْمَ " فَلَمَّا رَضِيَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِمَا رَجَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ أَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُ الْيَوْمَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ بَيْنَ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ تُخْرِجُوهُ تَرْمِكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ طَابَتْ أَنْفُسُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فَادْعُوهُ إِلَى أَرْضِكُمْ، فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَإِنْ خِفْتُمْ خِذْلَانَهُ فَمِنَ الْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَبِلْنَا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَخَلِّ بَيْنَنَا يَا أَبَا الْهَيْثَمِ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَلْنُبَايِعْهُ فَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا كُلُّهُمْ، وَصَاحَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذِهِ بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ تَحَالَفُ عَلَى قِتَالِكُمْ، فَفَزِعُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَرَاعَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَرُعْكُمْ هَذَا الصَّوْتُ، فَإِنَّمَا هُوَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، لَيْسَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَخَافُونَ " وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَرَخَ بِالشَّيْطَانِ فَقَالَ: " يَا ابْنَ أَزَبَّ، أَهَذَا عَمَلُكَ ؟ سَأَفْرُغُ لَكَ " وَبَلَغَ قُرَيْشًا الْحَدِيثُ فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتَوَطَّئُونَ عَلَى رَحْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا يُبْصِرُونَهُمْ فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ شِئْتَ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ مِلْنَا عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ اتَّفَقُوا عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَأَوْفَوْا بِالشَّرْطِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِنَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ صَدَرُوا رَابِحِينَ رَاشِدِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ وَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَلْجَأً وَأَنْصَارًا وَدَارَ هِجْرَةٍ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ وثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: ثنا مِنْجَابُ بْنُ حَارِثٍ قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ ثنا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْأَنْصَارُ الْمَدِينَةَ بَعْدَمَا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بِهَا وَفِي قُومِهِمْ بَقَايَا عَلَى دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذٌ قَدْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ سَيِّدَا مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلَمَةَ وَشَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَكَانَ(1/117)
قَدِ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ مَنَاةُ كَمَا كَانَتِ الْأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ يَتَّخِذُهُ إِلَهًا وَيُطَهِّرُهُ فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو فِي فِتْيَانٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلَمَةَ وَفِيهَا عَذِرَةُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيْلَكُمْ مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟ قَالَ: ثُمَّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ مَنْ صَنَعَ بِكَ هَذَا لَأُخْزِيَنَّهُ فَإِذَا أَمْسَى عَمْرٌو وَنَامَ عَدَوَا عَلَيْهِ فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ يَوْمًا فَغَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَفْعَلُ بِكَ مَا نَرَى فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ بِهَذَا السَّيْفِ مَعَكَ فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَدَوَا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وَالسَّيْفُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ مَعَهُ بِحَبْلٍ ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلَمَةَ فِيهَا عَذِرَةٌ مِنْ عُذَرِ النَّاسِ وَغَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ حَتَّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ فَلَمَّا رَآهُ وَأَبْصَرَ شَأْنَهُ وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ أَسْلَمَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَزَادَ مِنْجَابٌ عَنْ زِيَادٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ أَسْلَمَتِ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَوَلَدُهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَا تَدْعِي أَحَدًا مِنْ عِيَالِكِ فِي أَهْلِكَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ قَالَتْ: أَفْعَلُ وَلَكِنْ هَلْ لَكَ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ ابْنِكَ فُلَانٍ مَا رَوَى عَنْهُ ؟ قَالَ: فَلَعَلَّهُ صَبَأَ قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ كَانَ مَعَ الْقَوْمِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ وَكُلُّ كَلَامِهِ مِثْلُ هَذَا ؟ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَالَ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تُبَايِعَهُ ؟ قَدْ صَنَعَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَوْمِكَ ؟ قَالَ: لَسْتُ فَاعِلًا حَتَّى أُؤَامِرَ مَنَاةَ فَأَنْظُرَ مَا يَقُولُ قَالَ: وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا كَلَامَ مَنَاةَ جَاءَتْ عَجُوزٌ فَقَامَتْ خَلْفَهُ فَأَجَابَتْ عَنْهُ قَالَ: فَأَتَاهُ وَغُيِّبَتِ الْعَجُوزُ وَأَقَامَ عِنْدَهُ فَتَشَكَّرَ لَهُ وَقَالَ: يَا مَنَاةُ تَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ سِيلَ بِكَ وَأَنْتَ غَافِلٌ ؟ جَاءَ رَجُلٌ يَنْهَانَا عَنْ عِبَادَتِكَ وَيَأْمُرُنَا بِتَعْطِيلِكَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَايِعَهُ حَتَّى أُؤَامِرَكَ، وَخَاطَبَهُ طَوِيلًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَظُنُّكَ قَدْ غَضِبْتَ وَلَمْ أَصْنَعْ بَعْدُ شَيْئًا، فَقَامَ إِلَيْهِ(1/118)
فَكَسَرَهُ.وَزَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ حِينَ أَسْلَمَ وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَيَشْكُرُ اللَّهَ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَمَى وَالضَّلَالَةِ:
أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا مَضَى وَأَسْتَنْقِذُ اللَّهَ مِنْ نَارِهِ
وَأُثْنِي عَلَيْهِ بِنَعْمَائِهِ إِلَهَ الْحَرَامِ وَأَسْتَارِهِ
فَسُبْحَانَهُ عَدَدَ الْخَاطِئِينَ وَقَطْرَ السَّمَاءِ وَمِدْرَارِهِ
هَدَانِي وَقَدْ كُنْتُ فِي ظُلْمَةٍ حَلِيفَ مَنَاةٍ وَأَحْجَارِهِ
وَأَنْقَذَنِي بَعْدَ شَيْبِ الْقَذَالِ مِنْ شَيْنِ ذَاكَ وَمِنْ عَارِهِ
فَقَدْ كِدْتُ أَهْلِكَ فِي ظُلْمَةٍ تَدَارَكَ ذَاكَ بِمِقْدَارِهِ
فَحَمْدًا وَشُكْرًا لَهُ مَا بَقِيتُ إِلَهُ الْأَنَامِ وَجَبَّارُهُ
أُرِيدُ بِذَلِكَ إِذَا قُلْتُهُ مُجَاوَرَةَ اللَّهِ فِي دَارِهِ
وَقَالَ أَيْضًا يَذُمُّ صَنَمَهُ:
تَالَلَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ
أُفٍ لِمَصْرَعِكَ إِلَهًا مُسْتَدَنٍّ الْآنَ فَتَشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنِ الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ (1)
- ولا بد أن نميز بين البِرِّ والمودة، فالبر مطلوب مع الناس غير المقاتلين، قال تعالى :{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 8، 9]
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (1 / 452) ودَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ ( 222 ) حسن مرسل(1/119)
إِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْهَاكُمْ عَنِ الإِحْسَانِ إِلَى الكُفَّارِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، وَلَمْ يُعَاوِنُوا فِي إِخْرَاجِكُمْ مِنْهَا، وَلاَ يَمْنَعُكُمْ مِنْ إِكْرَامِهِمْ، وَمَنْحِهِمْ صِلَتَكُمْ، لأَنَّ اللهَ يُحِبُّ أَهْلَ البِرِّ والتَّوَاصُل .
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ مُوَالاَةِ الكُفَّارِ الذِينَ نَاصَبُوكُمُ العِدَاءَ فِي الدِّينِ فَقَاتَلُوكُمْ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَدِيَارِكُمْ، وَأَعَانُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ، فَهَؤُلاَءِ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنْ مُوَالاَتِهِمْ، وَعَنْ اتَّخَاذِهِمْ أَنْصَاراً، وَيَأْمُرُكُمْ بِمُعَادَاتِهِمْ .
وَيُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى الوَعِيدَ عَلَى مُوَالاَتِهِمْ فِيُبَيِّنُ: أَنَّ الذِينَ يَتَوَلَّوْنَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارَ المُؤْذِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأَنَّهُمْ خَالُفوا أَمْرَ اللهِ فَوَالَوْا أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَهُمْ (1) .
والبر هو الإحسان إلى الناس وهوحركة خارجية وليست قلبية، فنبتسم في قلوب الناس كلهم. وأما المودة فهي حركة قلبية تتصل بالإيمان والعقيدة،فيحب المسلم لله ويبغض لله .
4- أن تُدْنيَ المدعو منك وتُلاطِفَهُ وتهشَّ في وجهه ولا تَتَّبِعْ عوراته.
- ونتعلم هذا من ذلك الحديث الذي جاء فيه جبريل - عليه السلام - إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على صورة رجل سأله عن الإيمان والإسلام ومسائل أخرى، فكان الرسول يجيبه بكل لطف مع الإدناء .
- والابتسامة لا شك أن لها أثراً عظيما في تأليف القلوب، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ (2) .
- فعن مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلاَةِ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَّاهُ، مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ قَالَ: فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُسَكِّتُونِي سَكَتُّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَلاَتِهِ دَعَانِي، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ، وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي، وَلاَ كَهَرَنِي، وَلاَ سَبَّنِي،
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5036)
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 221)(474) صحيح(1/120)
وَلَكِنْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَتِلاَوَةُ الْقُرْآنِ (1) .
وهكذا يعلمنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - التلطف حتى في علاج الأخطاء ! (2)
- وللأسف نجد البعض من الناس يرمون الناس بالكفر والفسق والإلحاد والكلمات الخشنة التي لا دليل عليها فتكون سبباً في صدِّ الناس عن دين الله، فعنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ: أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلاَمَ، فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللهِ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ، قُمْ يَا فُلاَنُ، رَجُلاً مِنْهُمْ، فَأَخْبِرْهُ، قَالَ: فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلاَنٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلاَمَ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلاَنًا قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللهِ، فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلاَمَ يُبْغِضُنِي ؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ: قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَلِمَ تُبْغِضُهُ ؟ قَالَ: أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاَةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ الرَّجُلُ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا، أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ، أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلاً قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ، إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ: فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ، أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1227 ) وصحيح ابن حبان - (6 / 22) (2247)
كهرني : الكهر: الزبر والنهر، كهره يكهر: إذا زبره ونهره.
(2) - انظر كتابي (( منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء ))(1/121)
طَالِبَهَا ؟ قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لاَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ (1) .
- وللأسف كذلك نجد أن بعض الناس وهم يدعون الناس للخير يسمح لنفسه أن يتآلى على الله فيحكم بحرمان إنسان من مغفرة ربه، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عَنْ جُنْدُبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَ، " أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَقَالَ اللهُ: " مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ فَإِنِّي غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ أَوْ كَمَا قَالَ " (2) .
وكذلك لا يجوز تعيير إنسان بذنب فعله، ففي الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَ " (3) .
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللهُ وَيَبْتَلِيَكَ " (4) .
- والداعية مطلوب منه ستر معاصي الناس لا فضحها، ولا يجوز التجسس على الناس لتتبع معاصيهم .
- وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي وَأَدْتُ ابْنَةً لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَاسْتَخْرَجْتُهَا، ثُمَّ إِنَّهَا أَدْرَكَتِ الْإِسْلَامَ مَعَنَا فَحَسُنَ إِسْلَامُهَا، وَإِنَّهَا أَصَابَتْ حَدًّا مِنْ حُدُودِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ نَفْجَأْهَا إِلَّا وَقَدْ أَخَذَتِ السِّكِّينَ تَذْبَحُ نَفْسَهَا، فَاسْتَنْقَذْتُهَا، وَقَدْ خَرَجَتْ نَفْسُهَا فَدَاوَيتُهَا حَتَّى بَرَأَ كَلْمُهَا، فَأَقْبَلَتْ إِقْبَالًا حَسَنًا، وَإِنَّهَا خُطِبَتْ إِلَيَّ فَأَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: " هَاهِ، لَئِنْ فَعَلْتَ لَأُعَاقِبَنَّكَ عُقُوبَةً "، قَالَ أَبُو فَرْوَةَ: " يَسْمَعُ بِهَا أَهْلُ الْوَبَرِ، وَأَهْلُ الْوَدَمِ "، قَالَ إِسْمَاعِيلُ، يَتَحَدَّثُ بِهَا أَهْلُ الْأَمْصَارِ، أَنْكِحْهَا نِكَاحَ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ " (5) .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 856)(23803) 24213- صحيح مرسل
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6847 )
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2693) وشعب الإيمان - (9 / 68)(6271 ) حسن لغيره
(4) - شعب الإيمان - (9 / 120) (6355 ) حسن
(5) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ ( 10377 ) صحيح مرسل
الوأد : عادة جاهلية ، كان إذا وُلِدَ لأحَدِهم في الجاهلية بنتٌ دفَنَها في التراب وهي حَيَّة. - الحَدّ والحُدُود : محَارم اللّه وعُقُوبَاتُه المحددة الَّتي قرَنَها بالذُّنوب- الشفرة : السكين العريضة - بَرَأَ أو بَرِئ : شفي من المرض -الشأن : الأمر والخطب والحال - المصر : البلد أو القرية(1/122)
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أُمَّ حَكِيمِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةً عَاقِلَةً أَسْلَمَتْ، ثُمَّ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَمَانَ لِزَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ، فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ وَقَالَتْ لَهُ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النَّاسِ، وَأَبَرِّ النَّاسِ، وَخَيْرِ النَّاسِ، وَقَدِ اسْتَأْمَنْتُ لَكَ فَأَمَّنَكَ، فَرَجَعَ مَعَهَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَبْشَرَ وَوَثَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ فَرِحًا بِقُدُومِهِ (1) .
- وعن يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ ذَا بَأْسٍ وَكَانَ يُوفَدُ عَلَى عُمَرَ لِبَأْسِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنَّ عُمَرَ فَقَدهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: تَتَابَعَ فِي هَذَا الشَّرَابِ، فَدَعَا كَاتِبَهُ فَقَالَ: اكْتُبْ: مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ غَافِرَ الذَّنْبِ، وَقَابِلَ التَّوْبِ، شَدِيدَ الْعِقَابِ، ذِي الطَّوْلِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، ثُمَّ دَعَا وَأَمَّنَ مَنْ عِنْدَهُ، وَدَعَوْا لَهُ أَنْ يُقْبِلَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَتَتِ الصَّحِيفَةُ الرَّجُلَ جَعَلَ يَقْرَأُهَا وَيَقُولُ: غَافِرِ الذَّنْبِ، قَدْ وَعَدَنِي اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَ قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ قَدْ حَذَّرَنِي اللَّهُ عِقَابَهُ، ذِي الطَّوْلِ وَالطَّوْلُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَمْرُهُ قَالَ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا، إِذَا رَأَيْتُمْ أَخًا لَكُمْ زَلَّ زَلَّةً فَسَدَّدُوهُ، وَوَفِّقُوهُ، وَادْعُوا اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَيْطَانِ عَلَيْهِ " (2) .
5- أن تُعْطِيَهُ وجهَكَ حينَ التحدُّثِ إليه، ولا تُقاطِعه ولا تَسْتَهْزِئَ بقوله .
__________
(1) - المستدرك للحاكم (5055) وسنده واهٍ
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ( 4989 ) فيه انقطاع(1/123)
- لا شكَّ أن أدب الداعي يجذب المستمع إليه، وخاصة إذا أقبل بحديثه على من يدعوه بالنظر إليه والاهتمام به حتى يشعره بأنه يهتم به ويستريح للقائه ويُقَوِّي آصرة المحبة والثقة بينه وبينه، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة حينما نجده يتكلم بتؤدة وتمهل حتى يفهم السامع ما يقول، ويُصغي للمتكلم كل الإصغاء حتى ولوكان كافراً، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ - وَكَانَ سَيِّدًا حَلِيمًا - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى هَذَا فَأُكَلِّمُهُ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أَمُورًا لَعَلَّهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا بَعْضَهَا وَيَكُفَّ عَنَّا ؟ قَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِيمَا قَالَ لَهُ عُتْبَةُ وَفِيمَا عَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: أَفْعَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ فَلَمَّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ " قَالَ: سَمِعْتُ، قال: فَأَنْتَ وَذَاكَ، فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا السِّحْرِ وَلَا الْكَهَانَةِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعلُوهَا بِي خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَوَاللَّهِ لِيكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ " (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ لَهُمْ: دَعُونِي حَتَّى أَقُومَ إِلَيْهِ أُكَلِّمَهُ فِإِنِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ مِنْكُمْ فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَرَاكَ أَوْسَطَنَا بَيْتًا وَأَفْضَلَنَا مَكَانًا وَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ مَا لَمْ يُدْخِلْ رَجُلٌ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَهُ فِإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالًا
__________
(1) - الِاعْتِقَادُ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 252 ) صحيح مرسل(1/124)
فَذَلِكَ لكَ عَلَى قَوْمِكَ أَنْ يُجْمَعَ لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا وَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ شَرَفًا فَنَحْنُ نُشَرِّفُكَ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ أَشْرَفَ مِنْكَ وَلَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ وَإِنْ كَانَ هَذَا عَنْ مُلِمٍّ يُصِيبُكَ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى النُّزُوعِ مِنْهُ بَذَلْنَا لَكَ خَزَائِنَنَا حَتَّى نُعْذَرَ فِي طَلَبِ الطِّبِّ لِذَلِكَ مِنْكَ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حم السَّجْدَةَ حَتَّى مَرَّ بِالسَّجْدَةِ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعُتْبَةُ مُلْقٍ يَدَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ مَا يَدْرِي مَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقْبِلًا قَالُوا: لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَا قَامَ مِنْ عِنْدِكُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ كَلَّمْتُهُ بِالَّذِي أَمَرْتُمُونِي بِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ لَا وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ مِثْلَهُ قَطُّ وَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَأَطِيعُونِي الْيَوْمَ وَأعْصُونِي فِيمَا بَعْده وَاتْرُكُوا الرَّجُلَ وَاعْتَزِلُوهُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِتَارِكٍ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ فَإِنْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ يَكُنْ شَرَفُهُ شَرَفَكُمْ وَعِزُّهُ عِزَّكُمْ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِ تَكُونُوا قَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ قَالُوا: صَبَأْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ " (1) .
- إن أدب الحوار هومن آداب الإسلام، ولا بد لكل مسلم من إتقان هذا الأدب، فكيف بالداعية الذي يتعامل مع أصناف مختلفة من الناس ؟ (2)
6- أن تُحاوِرَهُ دونَ تَعالٍ ( تكَبُّرٍ ) عليه، وأَنْ تُنْزِلَهُ مَنْزِلَتَهُ .
- كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ينزل الناس منازلهم، فكان يوقر الكبير ويعطف على الصغير، ويكرم من له سبق في الإسلام، فعَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِى شَبِيبٍ أَنَّ عَائِشَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِى ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ » (3) .
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ ( 180 ) حسن
أرفق : من الرفق وهو ضد العنف - الشرف : القَدْر والقِيمة والرفعة- صبأ الرجل وصبا : ترك دين قومه ودان بآخر
(2) - انظر كتابي المهذب في الآداب الإسلامية - أدب الحوار
(3) -سنن أبي داود - المكنز - (4844 ) حسن لغيره
قَالَ أَبُو دَاوُد مَيْمُون بن أبي شبيبَ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ 0وقال الشيخ ابن الصلاح وفيما قاله أبو داود نظر فإنه كوفي متقدم قد أدرك المغيرة ابن شعبة ومات المغيرة قبل عائشة وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك فلو ورد عن ميمون أنه قال لم ألق عائشة استقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه وهيهات ذلك انتهى قال النووي وحديث عائشة هذا قد رواه البزار في مسنده وقال هذا الحديث لا يعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه وقد روى عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفا انتهى عون المعبود 13/132(1/125)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" (1) .
- وعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ:"أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ فِي الصُّفَّةِ وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنَ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ سُبِقُوا إِلى الْمَجْلِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوسَعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ، فَلَمْ يُفْسَحْ لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ: قُمْ يَا فُلانُ، وَأَنْتَ يَا فُلانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُهُمْ بِعَدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" (2) .
- وعندما كان يأتي مندوب عن قوم أورئيس لهم كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوم إليه ويرحب به ويجلسه عن يمينه ويسأله عن أحواله .
7- أن تُسِرَّ إليه بالموعظةِ ولا تُكاشِفه بين الناس .
- كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل أحد الناس خطأً يقول: ما بال أقوام فعلوا كذا وكذا، وذلك للستر وعدم الفضيحة بين الناس وهذا هوأدب الداعية الحقيقي .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَتَزَوَّجُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي (3) .
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 362)(10485 ) ضعيف
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 295) وتفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 45)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 191) (14) صحيح(1/126)
وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ (1) .
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ قَامَ فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ أَقْوَامٍ نُوَلِّيهِمْ أُمُورًا مِمَّا وَلاَّنَا اللَّهُ وَنَسْتَعْمِلَهُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ، ثُمَّ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ أُهْدِيَتْ إِلَيَّ، أَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَلاَ أَعْرِفَنَّ رَجُلاً يَحْمِلُ عَلَى عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ بَصَرَ عَيْنِي وَسَمِعَ أُذُنِي، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ - ثَلاَثًا -، الشَّهِيدُ عَلَى ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ يَحُكُّ مَنْكِبِي مَنْكِبَهُ (2) .
- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنهم - فِى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِذَا نَحْنُ بِرَاكِبٍ فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنهم - أَرَى هَذَا يَطْلُبُنَا قَالَ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَبَكَى قَالَ: مَا شَأْنُكَ إِنْ كُنْتَ غَارٍمًا أَعَنَّاكَ وَإِنْ كُنْتَ خَائِفًا أَمَّنَّاكَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ قَتَلْتَ نَفْسًا فَتُقْتَلَ بِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَرِهْتَ جِوَارَ قَوْمٍ حَوَّلْنَاكَ عَنْهُمْ؟ قَالَ إِنِّى شَرِبْتُ الْخَمْرَ وَأَنَا أَحَدُ بَنِى تَيْمٍ وَإِنَّ أَبَا مُوسَى جَلَدَنِى وَحَلَقَنِى وَسَوَّدَ وَجْهِى وَطَافَ بِى فِى النَّاسِ وَقَالَ: لاَ تُجَالِسُوهُ وَلاَ تُؤَاكِلُوهُ فَحَدَّثْتُ نَفْسِى بِإِحْدَى ثَلاَثٍ إِمَّا أَنْ أَتَّخِذَ سَيْفًا فَأَضْرِبَ بِهِ أَبَا مُوسَى وَإِمَّا أَنْ آتِيَكَ فَتُحَوِّلُنِى إِلَى الشَّامِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَنِى وَإِمَّا أَنْ أَلْحَقَ بِالْعَدُوِّ وَآكُلَ مَعَهُمْ وَأَشْرَبَ.قَالَ فَبَكَى عُمَرُ - رضي الله عنهم - وَقَالَ مَا يَسُرُّنِى أَنَّكَ فَعَلْتَ وَإِنَّ لِعُمَرَ كَذَا وَكَذَا وَإِنِّى كُنْتُ لأَشْرَبُ النَّاسِ لَهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَالزِّنَا وَكَتَبَ إِلَى أَبِى مُوسَى سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ التَّيْمِىَّ أَخْبَرَنِى بِكَذَا وَكَذَا وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ عُدْتَ لأَسُوِّدَنَّ وَجْهَكَ وَلأَطُوفَنَّ بِكَ فِى
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (6 / 61)(2284) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 373)(4515) صحيح(1/127)
النَّاسِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ حَقَّ مَا أَقُولُ لَكَ فَعُدْ فَأْمُرِ النَّاسَ أَنْ يُجَالِسُوهُ وَيُؤَاكِلُوهُ وَإِنْ تَابَ فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُ وَحَمَلَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَتَىْ دِرْهَمٍ (1) .
وعَنْ عَلِيٍّ، - رضي الله عنهم - ، قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَوْقِفُ وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ثُمَّ أَرْدَفَ أُسَامَةَ، فَجَعَلَ يُعْنِقُ عَلَى نَاقَتِهِ، وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ الإِِبِلَ يَمِينًا وَشِمَالاً لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، وَيَقُولُ: السَّكِينَةَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَدَفَعَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ فَأَتَى جَمْعًا فَصَلَّى بِهَا الصَّلاتَيْنِ، يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ، فَقَالَ: هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ قَالَ: ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا أَتَى مُحَسِّرًا قَرَعَهَا، فَخَبَّتْ حَتَّى جَازَ الْوَادِيَ ثُمَّ حَبَسَهَا، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَنْحَرَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَنْحَرُ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ثُمَّ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ قَدْ أَفْنَدَ، وَقَدِ ادْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللهِ فِي الْحَجِّ.فَهَلْ يُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ.فَأَدِّي عَنِ ابِيكِ.قَالَ: وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ ؟ قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَخِفْتُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا قَالَ: وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ، قَالَ: فَاحْلِقِ اوْ قَصِّرْ وَلاَ حَرَجَ، قَالَ: وَأَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سِقَايَتَكُمْ، لَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمِ النَّاسُ عَلَيْهَا لَنَزَعْتُ (2) .
8- إعطاؤه بعضَ الهدايا والعطايا تأليفاً لقلبه .
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ - أَوْ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ - حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّيْفَ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي، قَالَ: كُنَّ خَيْرًا مِنِّي، قَالَ: تَشَهَّدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، قَالَ: فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَجَاءَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، بِصَلاَةِ الْخَوْفِ قَالَ: فَكَانَ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 214)(21476) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 431)(1348) حسن(1/128)
النَّاسُ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً يُصَلُّونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَكَانُوا مَكَانَ أُولَئِكَ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ (1) .
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَهَادُوا تَحَابُّوا " (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ (3) . ( أي الحقد ) " .
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا (4) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لأَجَبْتُ » (5) .
- وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يعطي حتى من يتعامل معه بغلظة تلييناً لقلبه، فقد روى الشيخان وعَنِ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ مِنْ خَلْفِهِ جَبْذَةً حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " (6) .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، وَأَعْرَابِيٌّ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَعْضِ حُجَرِهِ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً، حَتَّى انْشَقَّ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 138)(2883) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (11 / 302)(8568 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 464)(9250) 9239- حسن لغيره
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 142)(24591) 25098- وصحيح البخارى- المكنز - (2585 )
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (1388 ) قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الكراع : مستدق الساق من الغنم والبقر العارى من اللحم
(6) - صحيح البخارى- المكنز -(3149) وصحيح مسلم- المكنز -(2476 )(1/129)
الْبُرْدُ ،وَحَتَّى تَغَيَّبَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ مِنْ تَغْيِيرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِشَيْءٍ فَأُعْطِيَهُ." (1) .
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَعِينُهُ فِي شَيْءٍ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا، وَلَا أَجْمَلْتَ قَالَ: فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا.قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْأَعْرَابِيِّ، فَدَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا، فَأَعْطَيْنَاكَ، فَقُلْتَ: مَا قُلْتَهُ، فَزَادَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّكَ كُنْتَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا، فَأَعْطَيْنَاكَ، وَقُلْتَ مَا قُلْتَ، وَفَى أَنْفُسِ أَصْحَابِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى تُذْهِبَ مِنْ صُدُورِهِمْ مَا فِيهَا عَلَيْكَ.قَالَ: نَعَمْ.قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوْ الْعَشِيُّ، جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا كَانَ جَاءَ فَسَأَلَنَا، فَأَعْطَيْنَاهُ، وَقَالَ مَا قَالَ، وَإِنَّا دَعَوْنَاهُ إِلَى الْبَيْتِ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ، أَكَذَلِكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَا إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ، فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي، فَأَنَا أَرْفَقُ بِهَا وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا هَوْنًا هَوْنًا هَوْنًا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ وَشَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَقَتَلْتُمُوهُ، دَخَلَ النَّارَ" (2) .
9- أن تَسْتَثيرَ هِمَّتَهُ بِما يَفْتَحُ قَلْبَهُ للحَقِّ مع مُداراةِ سَفَهِهِ إِنْ كانَ سَفيهاً .
- ومن ذلك النداءات التي تستثير الهمم وتستجيش العواطف وتدفع العقل للتفكر والقلب للتقبل والجوارح للعمل، فمثلاً نداء إبراهيم - عليه السلام - لأبيه فلم يقل له يا كافر أو يا مشرك كما يقول بعض الشباب اليوم، ولكنه يقول: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
__________
(1) -مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 542)(13194) 13226- صحيح
(2) - أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (170 ) فيه ضعف(1/130)
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (42) سورة مريم، ولقمان - عليه السلام - يخاطب ابنه بقوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان، وكل نبي ورسول كان ينادي قومه بقوله: " يا قوم " قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف.
- وعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالاَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لاَ يُرِيدُ قِتَالاً، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَ مِئَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ، فَخَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنْ لاَ تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدِمُوا إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإِِسْلاَمِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللَّهِ إِنِّي لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ، أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ، فَسَلَكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيْ الْحَمْضِ عَلَى طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمِرَارِ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَسَلَكَ بِالْجَيْشِ تِلْكَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ، نَكَصُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمِرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلأَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا خَلأَتْ، وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، وَاللَّهِ لاَ تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: انْزِلُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ.فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ ،فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ، فَغَرَزَهُ فِيهِ، فَجَاشَ الْمَاءُ بِالرَّوَاءِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَالَ لَهُمْ(1/131)
كَقَوْلِهِ لِبُشَيْرِ بْنِ سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لَحَقِّهِ.فَاتَّهَمُوهُمْ.قَالَ مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ خُزَاعَةُ فِي غَيْبَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا، لاَ يُخْفُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِذَلِكَ، فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَدْخُلُهَا أَبَدًا عَلَيْنَا عَنْوَةً، وَلاَ تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ الْعَرَبُ.ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ، أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ.فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوٍ مِمَّا كَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: فَبَعَثُوا إِلَيْهِ الْحِلْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ الْكِنَانِيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَحَابِشِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ.فَبَعَثُوا الْهَدْيَ، فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عَرْضِ الْوَادِي فِي قَلاَئِدِهِ، قَدْ أَكَلَ أَوْتَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحِلِّهِ، رَجَعَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِعْظَامًا لِمَا رَأَى، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ رَأَيْتُ مَا لاَ يَحِلُّ صَدُّهُ: الْهَدْيَ فِي قَلاَئِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْتَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحِلِّهِ.فَقَالُوا: اجْلِسْ، إِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ لاَ عِلْمَ لَكَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَا يَلْقَى مِنْكُمْ، مَنْ تَبْعَثُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ إِذَا جَاءَكُمْ، مِنَ التَّعْنِيفِ وَسُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ وَالِدٌ وَأَنِّي وَلَدٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ بِالَّذِي نَابَكُمْ، فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي.قَالُوا: صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ.فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جَمَعْتَ أَوْبَاشَ النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ لِبَيْضَتِكَ لِتَفُضَّهَا، إِنَّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنْ لاَ تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَأَيْمُ اللهِ، لَكَأَنِّي بِهَؤُلاَءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا .
قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدٌ، فَقَالَ: امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ ؟ قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي، لَكَافَأْتُكَ بِهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ بِهَا.ثُمَّ تَنَاوَلَ لِحْيَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيدِ، قَالَ: يَقْرَعُ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمْسِكْ(1/132)
يَدَكَ عِنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ وَاللَّهِ لاَ تَصِلُ إِلَيْكَ.قَالَ: وَيْحَكَ، مَا أَفَظَّكَ وَأَغْلَظَكَ.قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: أَغُدَرُ، هَلْ غَسَلْتَ سَوْأَتَكَ إِلاَّ بِالأَمْسِ، قَالَ: فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ مَا كَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا، قَالَ: فَقَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ، لاَ يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا إِلاَّ ابْتَدَرُوهُ، وَلاَ يَبْسُقُ بُسَاقًا إِلاَّ ابْتَدَرُوهُ، وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ شَيْءٌ إِلاَّ أَخَذُوهُ، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ، وَجِئْتُ قَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِمَا، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لاَ يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءٍ أَبَدًا، فَرُوا رَأْيَكُمْ.قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ ذَلِكَ بَعَثَ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَقَرَتْ بِهِ قُرَيْشٌ، وَأَرَادُوا قَتْلَ خِرَاشٍ، فَمَنَعَهُمُ الأَحَابِشُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ،قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، وَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَدِفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَرْسَلَهُ بِهِ ،فَقَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَطُفْ بِهِ.فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ: فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ.قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَقَالُوا: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ، وَلاَ يَكُونُ فِي صُلْحِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا، فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَكَلَّمَا، وَأَطَالاَ الْكَلاَمَ، وَتَرَاجَعَا حَتَّى جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَأَمَ الأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ(1/133)
الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَوَلَيْسَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ: بَلَى.قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا.فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ حَيْثُ كَانَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ.قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلاَمِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لاَ أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لَوْ شَهِدْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَمْ أُقَاتِلْكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ،وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَإِنَّهُ لاَ إِسْلاَلَ وَلاَ إِغْلاَلَ، وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا، فَلاَ تَدْخُلْ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ، خَرَجْنَا عَنْكَ، فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ، وَأَقَمْتَ فِيهِمْ ثَلاَثًا مَعَكَ سِلاَحُ الرَّاكِبِ لاَ تَدْخُلْهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ.فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَكْتُبُ الْكِتَابَ إِذْ جَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْحَدِيدِ قَدِ انْفَلَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجُوا وَهُمْ لاَ يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وَمَا تَحَمَّلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَفْسِهِ، دَخَلَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا، فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ،(1/134)
قَامَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ لُجَّتِ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا.قَالَ: صَدَقْتَ.فَقَامَ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ، قَالَ: وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي.قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ.قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ.قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ.قَالَ: يَقُولُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ، فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ.قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ، وَنَفَذَتِ الْقَضِيَّةُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْكِتَابِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِلِّ.قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْحَرُوا وَاحْلِقُوا قَالَ: فَمَا قَامَ أَحَدٌ، قَالَ: ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، حَتَّى عَادَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، مَا شَأْنُ النَّاسِ ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ دَخَلَهُمْ مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَلاَ تُكَلِّمَنَّ مِنْهُمْ إِنْسَانًا، وَاعْمِدْ إِلَى هَدْيِكَ حَيْثُ كَانَ فَانْحَرْهُ وَاحْلِقْ، فَلَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ.فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَحَلَقَ، فَقَامَ النَّاسُ يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ.قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ (1) .
- وإذا كان المدعوسفيهاً أوصدر منه تصرف سفيه فلا بد من علاجه بالحكمة، فهذا زين العابدين بن علي بن الحسن - رضي الله عنهما - خرج إلى المسجد يوماً فسبَّه رجل، فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذوه، فنهاهم زين العابدين، وقال لهم: كفوا أيديكم عنه ،ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه مني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك.فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 414)(18910) 19117- صحيح(1/135)
قميصه، وأمر له بألف درهم، فمضى الرجل وهويقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
- ولكن استثارة الهمم لا تعني المدح الكاذب أوالمبالغ فيه والذي قد يؤدي إلى إعجاب المدعوبنفسه وبعده عن الله، لذا فلا بد من الاعتدال الذي هو أساس الحكمة .
10- أن تَتَجَنَّبَ معه الخلافاتِ الفقهيةَ وتتركَ المراء المذمومَ .
- فإن الخوض في الخلافات قد يؤدي إلى مجادلات لا تزيد القلوب إلا قسوة، فينفر المدعو من الداعية وطريقة عرضه .
فكل الإئمة على خير، والتعصب لمذهب ليس من الدين في شيء، "ويَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة، خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فعَن كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِى مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّى جِئْتُكَ مِن مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَدِيثٍ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ » (2) .
وهمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنزِلَةِ النُّجُومِ يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، إذْ كَلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ،
__________
(1) - تربية الأولاد في الإسلام للنابلسي - (15 / 16)
http://montada.rasoulallah.net/index.php?showtopic=265
(2) -أخرجه أبو داود في سننه برقم (3643 ) وهو حديث صحيح.(1/136)
والمحيون لِمَا مَاتَ مِن سُنَّتِهِ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا، فعَن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ " (1) .
وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ مِن سُنَّتِهِ ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر، ولقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ (2) .
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - أخرج الطحاوي في مشكل الآثار برقم(3269 ) وهو حسن لغيره
(2) - انظر : مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 227) و (ج 3 / ص 347) و (ج 13 / ص 259)و (ج 20 / ص 209) و (ج 20 / ص 211) و (ج 20 / ص 232) و(ج 27 / ص 241) و (ج 33 / ص 28) و (ج 1 / ص 210) وج 4 / ص 300) و (ج 7 / ص 211) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 967) و (ج 4 / ص 9967) و (ج 6 / ص 49) و (ج 6 / ص 49) و(ج 9 / ص 4669و (ج 10 / ص 1051) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 175)(1/137)
المبحث العاشر
التعريف قبل التكليف
- مرحلة التعريف من أهم المراحل وأخطرها، لأنه إذا أحسن الداعي تقديم الدعوة والتعريف بها تفتَّحت كثير من قلوب الناس لها .
- الداعي لا يستطيع أن يلزم الناس بما يحمل، إنما يقنعهم بما يقول، والإقناع يحتاج إلى حسن العرض وبساطة القول وتوضيح الفهم، وتعريف بالدعوة قبل أن يكلفهم بأي شيء أو يُحَمِّلهم أية مسؤولية .
- قال الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد .
نلاحظ في الآية أن التكليف قد سبقه التعريف بالله أولا ثم العمل تكليفاً، وهل يستغفر الله مستغفر إلا إذا عرف الله ؟.والقرآن الكريم نزل في بداية الأمر ليعرف الناس بأمور أربعة قبل أن يكلفهم بأي أمر، وهي :
1- عرّفهم بربهم ليعبدوه .
2- عرّفهم بأنفسهم ليبصروا حقيقة وجودهم .
3- عرّفهم بالكون ليسخروه ويعمروه .
4- عرّفهم بالمصير الذي ينتظرهم في أخراهم .
- إن الإنسان المدعو إذا عرف من هو الله - تعالى - فإنه سيوقر أمره، حتى في دقائق الأمور.عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ، فَوْقَ صَوْتِ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2 ] قَعَدَ ثَابِتٌ فِي الطَّرِيقِ يَبْكِي، فَمَرَّ بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ ؟ قَالَ: أَنَا رَفِيعُ الصَّوْتِ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا بُنَيَّ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟ " قَالَ: رَضِيَتُ بِبُشْرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا أَرْفَعُ صَوْتِي أَبَدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ(1/138)
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) سورة الحجرات. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (1) .
- إذا مرض إنسان وذهب إلى الطبيب الذي يعرف مهارته، فإن قال له الطبيب افعل كذا أو كذا، أولا بد من قطع يدك أو رجلك، فإن المريض سيوافق، لأنه عرف الطبيب ومهارته، فكيف إذا عرف المدعو عظمة الله - تعالى - وكماله وقوته وحكمته ؟!
- التعريف بالدعوة والصبر عليها في غاية الأهمية ليصبح عندنا الفرد الذي يسارع إلى أوامر الله - تعالى - دون كسل أو ملل، ولنا في قصص الأنبياء والرسل - عليهم السلام - أوضح العبر.فسيدنا إبراهيم - عليه السلام - أمره الله- تعالى - أن يسكن ذريته بواد غير ذي زرع عند البيت الحرام، وسيدنا إسماعيل - عليه السلام - حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه قال: { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (102) سورة الصافات، وأم موسى - عليهما السلام - ألقت طفلها في اليم حين خافت عليه طاعةً لأمر الله - تعالى - وما ترددت .
- إن التعريف الحق يؤدي إلى الطاعة، أي أن الطاعة ثمرة المعرفة، فها هن الصحابيات يسارعن إلى أمر الله في اللباس بعد أن عرفن الله، فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ,"قَالَتْ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَذَكَرَتْ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلا, وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ, وَلا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِنَّ فِيهَا, وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ, وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ, مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ, فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ مُعْتِجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ" (2) .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 73)(1301) فيه انقطاع
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (10 / 107)(15233) صحيح(1/139)
وها هم الصحابة يسارعون إلى إراقة الخمور بعد أن أمرهم الله - سبحانه - فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا (1) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّى بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ :« مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ ». قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا. قَالَ :« إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَخْبَرَنِى أَنَّ بِهِمَا قَذَرًا - فَقَالَ - إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَالَ قَذَرًا فَلْيُمِطْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا » (2) .
ومواقف الصحابة كثيرة، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ رَجُلاً فَارِسًا، قَالَ: فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا نَبِيَّ اللهِ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم - : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَكُونَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " (3) .
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمْ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 189)(378) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 431)(4422) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 194)(4376) صحيح(1/140)
مِنْ عُلَمَائِنَا، فَبَعْضُهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْضٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، قَالُوا: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ قُرَيْشٍ تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ فِيهِمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ: " هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَافِلًا بِتِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فَاخْرُجُوا لَهَا لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَفِّلُكُمُوهَا "، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ، فَخَفَّ مَعَهُ رِجَالٌ وَأَبْطَأَ آخَرُونَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَتْ نَدْبَةً لِمَالٍ يُصِيبُونَهُ لَا يَظُنُّونَ أَنْ يَلْقَوْا حَرْبًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَنَيِّفٍ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مُشَاةٌ، مَعَهُمْ ثَمَانُونَ بَعِيرًا وَفَرَسٌ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لِلْمِقْدَادِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ بَعِيرٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ مِنَ الْحَرَّةِ عَلَى الْعَقِيقِ، فَذَكَرَ طُرُقَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمٌ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ - وَالَلَّطِيمَةُ هِيَ التِّجَارَةُ - الْغَوْثَ الْغَوْثَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكُوهَا.فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ يَقُودُونَهَا، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالْقِيَانِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَتَغَنَّيْنَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ الْمُطْعِمِينَ مِنْهُمْ، وَذَكَرَ رُجُوعَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْجُحْفَةِ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ رُؤْيَا فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: وَهَذَا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِيِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى قُرَيْشٍ مَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْعَسْكَرِ فَقَالَ: قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، يُعَدِّدُ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَبْقَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ قُرَيْشٍ إِلَّا أَصَابَهُ دَمُهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى(1/141)
وَجْهِهِ ذَلِكَ، فَذَكَرَ مَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّيْنِ يَلْتَمِسَانِ الْخَبَرَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى وَرَدَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا بَعِيرَيْهِمَا إِلَى تَلٍّ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا مِنَ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا، فَلَخَّصَ بَيْنَهُمَا مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ: صَدَقَتْ، وَسَمِعَ ذَلِكَ بَسْبَسٌ وَعَدِيٌّ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ وَلَّيَا وَقَدْ حَذِرَ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ عِيرِهِ فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ عَلَى هَذَا الْمَاءِ مِنْ أَحَدٍ تُنْكِرُهُ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ فَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَ بَعِيرَيْهِمَا فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا وَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ فَانْطَلَقَ بِهَا مُسَاحِلًا، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَرِجَالَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا - وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ - فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ، وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا بَعْدَهَا أَبَدًا.قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى أَمْوَالَكُمْ، وَنَجَّى صَاحِبَكُمْ، فَارْجِعُوا.فَأَطَاعُوهُ فَرَجَعَتْ زُهْرَةُ فَلَمْ يَشْهَدُوهَا، وَلَا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَ مَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ وَادِي ذَفَارٍ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنهم - فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ.فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونَهُ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ " وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَكَانُوا حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَمِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ(1/142)
مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى أَنَّ عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ بِغَيْرِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرِيدُنَا.قَالَ: " أَجَلْ "، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ نَلْقَى عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ مَصَارِعَ الْقَوْمِ ".قَالَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، وَالْقُلُبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ التَّلِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهِسًا، فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ مِنْهَا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا فَسَبَقَ قُرَيْشًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ "، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: " قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ "، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَغُوِّرَتِ الْقُلُبُ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ.وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ يَقْدُمُهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ(1/143)
أَحْمَرَ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْحَطُّونَ مِنَ الْكَثِيبِ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَأَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ " (1) .
وهذا كله من ثمرات التعريف والمعرفة .
- ونرى في القرآن الكريم أن الله - تعالى - قبل أن يكلف العباد بصلاة أو صيام أو أي أمر فإنه يناديهم أولاً بنداء محبب إلى قلوبهم وهو: " يا أيها الذين آمنوا " ثم بعدها: افعلوا كذا أولا تفعلوا.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة.
أي: يا من عرفتم ربكم وآمنتم به، أطيعوا أمره فهو الذي يأمر وينهى.وها هو سيدنا يوسف - عليه السلام - قبل أن يفسر المنام للرجلين اللذين دخلا السجن معه، يدعوهم إلى الإيمان: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (39) سورة يوسف.
- وماذا بعد التعريف ؟ بعد التعريف لا بد من فتح أعين الناس إلى الحق، فالدعوة لا بد لها من ثلاث مراحل :
1- مرحلة التعريف والتبشير بالفكرة .
2- مرحلة التكوين وتخيّر الدعاة وتربيتهم .
3- مرحلة التنفيذ والعمل والدعوة الواعية .
لذلك لا نستعجل قطف الثمرة قبل أوانها ونضجها، ولا بد لنا من قوة نفسية تتمثل في إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يتلوَّن، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.وهكذا تأخذ مرحلة التعريف حقها، وحينئذٍ ما أيسر التكاليف على الناس !!
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 874 ) صحيح مرسل(1/144)
المبحث الحادي عشر
التدرج في التكاليف
إن من أشق الأشياء العملية التربوية، وذلك لأنها تتعامل مع نفوس لا يحكمها قانون محدد يسير عليه الإنسان، فكل نفس لها تشكيلها الخاص، ومن ثم الوسيلة الخاصة لمعالجتها، ولذلك وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي كل إنسان ويوجهه على حسب قدرته وميوله .
- ولو تأملنا في الرسالات لوجدناها نزلت متدرجة فنزلت التوراة مثلاً على موسى - عليه السلام -، وعندما صعدت الإنسانية في مدارج نضجها الفكري جاء القرآن الكريم في أسلوب أعمق وأرحب: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل .
والقرآن نفسه نزل متدرجاً كما قال الله - تعالى -: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (106) سورة الإسراء.
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، ويقيم لها نظاما، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل. ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى. والتربية تتم في الزمن الطويل، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل. جاء ليكون منهجا عمليا يتحقق جزءا جزءا في مرحلة الإعداد، لا فقها نظريا ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني! وتلك حكمة نزوله متفرقا، لا كتابا كاملا منذ اللحظة الأولى.
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى. تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي، وكلما تلقوا منه أدبا أو فريضة. ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية. تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم، وفي(1/145)
سلوكهم ونشاطهم. وفي بيوتهم ومعاشهم. فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه، ومما عرفوه، ومما ما رسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن.
قال ابن مسعود - رضي اللّه عنه - كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
ولقد أنزل اللّه هذا القرآن قائما على الحق: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ» فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته: «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» .. فالحق مادته والحق غايته. ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه .. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود، والذي خلق اللّه السماوات والأرض قائمين به، متلبسا بهما، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه. فالحق سداه ولحمته، والحق مادته وغايته. والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به (1) .
- وعَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، إِذْ جَاءَهَا أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فأَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ: " لِمَهْ ؟ " قَالَ: لَعَلِّي أُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، وَإِنَّا نَقْرَأُهُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، وقَالَتْ: " وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّةَ قَرَأْتَ قَبْلُ ؟ إِنَّمَا أُنْزِلَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلُ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُهَا أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ - وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ - عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر: 46] وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ " قَالَ: " فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَّ السُّوَرِ "َخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (2) .
إذن لا بد من تغيير النفوس شيئاً فشيئاً، وإعدادها لتقبل أوضاع جديدة وتهيئة النفوس لتقبل الحق .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2253)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4993 ) وشعب الإيمان - (4 / 7)(2108 )(1/146)
- ولا بد أثناء التعامل مع الناس ودعوتهم من أن نبدأ معهم فهماً وقولاً من حيث عقولهم وفهمهم هم أنفسهم لا فهم الداعية نفسه، ولذا قال العلماء: لا بد من مخاطبة الناس على قدر عقولهم.قَالَ عَلِىٌّ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (1) ..
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً" (2) ..
وقد روي عن أحد العلماء أنه سئل عن مسألة فتأخر في الإجابة عليها، فقيل له: لم تأخرت ؟ فهذه المسألة لا تحتاج إلى كل هذا التفكير، فأجاب السائلَ: أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك .
- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - ما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ « إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ».رواه البخاري (3) .
- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ (4) .
والوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة - رضي الله عنه - ليس من الأحكام بل هو من الأحاديث التي فيها أسماء أمراء السوء وأحوالهم وزمانهم، وذلك رفقاً بالناس من الفتن ومن نفسه من القتل .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (127 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (14 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (4347 ) -الكرائم : جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (120)(1/147)
- وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا فقه الدعوة حينما يأتيه رجل فيسأله أي الإسلام أفضل ؟ ويكون الجواب مختلف :
فعَنْ أَبِي الْخَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ (2) .
وعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ: أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ، أَوْ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَيُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ وَيُهْرَاقَ دَمُكَ قَالَ: فَأَيُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ. (3)
وكذلك فقد سئل عن العمل الذي يدخل الجنة، فكان الجواب مختلفاً، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: " تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ " (4) .
وعَنْ كُدَيْرٍ الضَّبِّيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: تَقُولُ الْعَدْلَ، وَتُعْطِي الْفَضْلَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ، قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْهَدْ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِكَ وَسِقَاءٍ، فَانْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ لا يَشْرَبُونَ الْمَاءَ إِلا غِبًّا، فَإِنَّهُ لا يَعْطَبُ بَعِيرُكَ، وَلا يَنْخَرِقُ سِقَاؤُكَ حَتَّى تَجِبَ لَكَ الْجَنَّةُ " (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان -ط الرسالة - (2 / 125)(400) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (12 ) وصحيح ابن حبان -ط الرسالة - (2 / 258)(505)
(3) - مسند الطيالسي - (3 / 329)(1886) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (10 / 326)(7568 ) صحيح
(5) - صحيح ابن خزيمة - (3 / 446) صحيح(1/148)
وعَنْ أَبِي الْيُسْرِ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: أَمْسِكْ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، هَلْ يُكَبُّ النَّاسُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدَ أَلْسِنَتِهِمْ (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ أَوَّلَ مَا بُنِيَ مَسْجِدُهَا، وَهُوَ فِي أَصْحَابِ التَّمْرِ يَوْمَئِذٍ، وَجُدُرُهُ مِنْ سِهْلَةٍ، فَإِذَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ النَّاسَ، قَالَ: بَلَغَنِي حَجَّةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، حَجَّةُ الْوَدَاعِ، فَاسْتَتْبَعْتُ رَاحِلَةً مِنْ إِبِلِي، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جَلَسْتُ لَهُ فِي طَرِيقِ عَرَفَةَ، أَوْ وَقَفْتُ لَهُ فِي طَرِيقِ عَرَفَةَ، قَالَ: فَإِذَا رَكْبٌ عَرَفْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِمْ بِالصِّفَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ أَمَامَهُ: خَلِّ لِي عَنْ طَرِيقِ الرِّكَابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَيْحَهُ فَأَرَبٌ مَا لَهُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ رَأْسُ النَّاقَتَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُنْجِينِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، لَئِنْ كُنْتَ قَصَّرْتَ فِي الْخُطْبَةِ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ افْقَهْ إِذًا، تَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، خَلِّ طَرِيقَ الرِّكَابِ (2) .
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، أَوْ أَنْتَفِعُ بِهِ ؟ قَالَ: اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ (3) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَغْضَبْ , وَلَكَ الْجَنَّةُ (4) .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ غَزَا تَبُوكًا، فَأَدْلَجَ لَيْلَةً وَأَدْلَجْنَا مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ اغْتَدَى وَغَدَوْنَا مَعَهُ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَتَفَرَّقَتِ الرِّكَابُ، وَالْإِبِلُ تَأْكُلُ عَلَى أَفْوَاهِهَا، وَعَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ قَدْ أَخَذَ طَرَفَيْهِ فَأَلْبَسَهُ بِوَجْهِهِ وَمَلَكَتْ فَلَمَحَتْ عَيْنِي حَلْقَةَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَنَا أَحْسِبُ أَنَّهُ يَنْزِلُ
__________
(1) - كشف الأستار عن زوائد البزار - (4 / 219)(3572) صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 453)(15883) 15978- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 667)(19791) 20030- حسن
(4) - مسند الشاميين 360 - (1 / 36)(21) صحيح(1/149)
عَلَيْهِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ تَنَادَلَتْ نَاقَتِي رِمْثَةً رَنَّةً ؛ فَاجْتَذَبَهَا فَأَسْدَتُّهَا ؛ فَالْتَوَى فَرَسَنَهَا، فَفَزِعَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِقَرْعِهَا، فَاسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مُعَاذُ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ادْنُ فَدَنَوْتُ، قَالَ لِي ذَلِكَ ثَلاَثًا، فَدَنَوْتُ حَتَّى تَحَاكَتِ الرَّاحِلَتَانِ، قَالَ مُعَاذُ: وَفِي نَفْسِي كَلِمَةٌ قَدْ أَحْزَنَتْنِي وَأَمْرَضَتْنِي، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَسْأَلُ عَنْهَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ أَسْأَلْ عَنْهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ كَلِمَةٍ أَحْزَنَتْنِي وَأَمْرَضَتْنِي لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْهَا قَطُّ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَسْأَلُكَ عَنْهَا ؟ قَالَ: سَلْ يَا مُعَاذُ قُلْتُ: حَدِّثْنِي عَنْ عَمِلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ لاَ أَسْأَلُكَ عَنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ، لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مِنْ يَسُرَّهُ اللَّهُ ؛ تَشَهَّدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةِ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَتَعَبَّدُ اللَّهَ وَحْدَهُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ أَسْأَلُهُ، فَقُلْتُ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ، الصَّلاَةُ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ ؟ قَالَ: لاَ، وَنِعْمَ مَا هِيَ، قُلْتُ: الزَّكَاةُ بَعْدَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ؟ قَالَ: لاَ، وَنِعْمَ مَا هِيَ قُلْتُ: فَالصِّيَامُ بَعْدَ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ ؟ قَالَ: لاَ، وَنِعْمَ مَا هِيَ ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ، أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ هَذَا الأَمْرِ وَقَوَامِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: رَأْسُ هَذَا الأَمْرِ شَهَادَةُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقِوَامُهُ إِقَامَةُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَغَبَّرَتْ قَدَمَا عَبْدٍ وَلاَ وَجْهُهُ فِي عَمِلٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ جِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، أَلاَ أُخْبِرُكَ يَا مُعَاذُ بِأَمْلَكَ بِالنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى لِسَانِهِ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ كُلَّمَا نَقُولُ بِأَلْسِنَتِنَا يُكْتَبُ عَلَيْنَا ؟ فَضَرَبَ مَنْكِبِي الأَيْسَرَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى حَتَّى أَوْجَعَنِي ثُمَّ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟ أَوْ مَا تَقُولُ الأَلْسِنَةُ (1) .
- إن بعض الناس وللأسف يريدون للمرضى أن يشربوا الدواء دفعة واحدة لا كما حدده الطبيب تدرجاً، ولو فعل المرضى ذلك لهلكوا ولكن الحكمة تقتضي التدرج في الدواء حتى يكون الشفاء بإذن الله، وهكذا الدعوة، فلو أن إنساناً كان من المبتدئين في قراءة القرآن
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (4 / 137)(2938) حسن(1/150)
مثلاً وتعتع فيه فلا تشعره بجرم ارتكبه ولا تشقَّ عليه بتصحيح كل كلمة، بل قل له ما جاء عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ (1) .
أجر قراءته وأجر تعتعته، فتأخذ بيده قليلاً قليلاً نحو إتقان القراءة وهكذا فَقِسْ !
- وقد رأينا الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - قد ترك بعض الاختيار مخافة أن يقع الناس في أشد منه، فعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنهم - ، أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوَا الْكَعْبَةَ، اقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مَا أَرَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. (2) .
- وكذا وجدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخصُّ قوماً دون قومٍ ببعض الحديث خوف ألا يفهموا، فعَنْ قَتَادَةَ، حدثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ ".قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ.قَالَ: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ ".قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا ؟ قَالَ: " إِذًا يَتَّكِلُوا ".قَالَ: وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ". رواه البخاري (3) .
- ولكن ! هذا التدرج لا ينبغي أن يترك للصدفة، بل ينبغي أن ينتظم في خطة مدروسة بالنسبة للدعوة الفردية من الداعي أوفي خطة مدروسة على مستوى المجتمع وذلك من أجل الوصول إلى الخير والهدى والحق .
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 50)(24211) 24715- وصحيح مسلم- المكنز - (1898 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1583) وصحيح مسلم- المكنز - (3306 ) وصحيح ابن حبان -ط الرسالة - (9 / 123)(3815)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (128 )(1/151)
المبحث الثاني عشر
التيسير لا التعسير، والتبسيط لا التعقيد
- ومن ذلك: التيسير في الكلام وفي اللغة التي يتكلم بها الداعية مع الناس، فيخاطبهم باللغة التي يفهمونها وبالأسلوب السهل الذي يجذبهم ويضرب لهم الأمثلة، ولا يتفاصح عليهم، فعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَىَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ « الْمُتَكَبِّرُونَ ». رواه الترمذي (1) .
-ومن ذلك: ما نراه في القرآن الكريم من تيسير في عرض العقيدة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22) سورة الأنبياء
لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى تدبر شؤونهما، لاختلَّ نظامهما، فتنزَّه الله رب العرش، وتقدَّس عَمَّا يصفه الجاحدون الكافرون، من الكذب والافتراء وكل نقص.
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } سورة الإخلاص
قل -أيها الرسول-: هو الله المتفرد بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات، لا يشاركه أحد فيها.الله وحده المقصود في قضاء الحوائج والرغائب.ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة.ولم يكن له مماثلا ولا مشابهًا أحد من خلقه، لا في أسمائه ولا في صفاته، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى وتقدَّس.
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2150 ) هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
الثرثار : كثيرالأكل والكلام فى تخليط وترديد -المتشدق : المتوسع فى الكلام من غير احتياط وقيل المستهزئ بالناس -المتفيهقون : جمع متفيهق وهو المتوسع فى الكلام المتنطع(1/152)
- ومن ذلك: تيسير العبادات في كثير من أحكامها ،فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا » (1) .
- ومن ذلك: اختيار الوقت المناسب للدعوة والوعظ لكي تجد الأذن الصاغية، فعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا (2) .
وقَالَ الْحَسَنُ: حَدِّثُوا النَّاسَ مَا أَقْبَلُوا عَلَيْكُمْ بِوُجُوهِهِمْ، فَإِذَا الْتَفَتُوا فَاعْلَمُوا أَنَّ لَهُمْ حَاجَاتٍ (3) .
وقَالَ الْأَعْمَشُ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَأَتَانَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ فَقَالَ: مَا لَكُمْ ؟ قُلْنَا: نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْنَ تَرَوْنَهُ ؟ قُلْنَا: فِي الدَّارِ، قَالَ: أَفَلَا أَذْهَبُ فَأُخْرِجَهُ إِلَيْكُمْ ؟ فَذَهَبَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَمَعَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنِّي لَأُخْبَرُ بِمَجْلِسِكُمْ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا " (4) .
- ومن ذلك: نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التشديد، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - مَا قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٌ فِى الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ وَلاَ يُفْطِرَ. فَقَالَ :« مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ ».رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (5) .
وكذلك الأمر حينما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة تتكلف في عبادتها لربها نهاها عن ذلك، فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه ؟ قالت: فلانة (وفي رواية: لا تنام وتصلي)، قال: " مَهْ، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (69 )
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 495)(27046) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 495)(27045) صحيح
(4) - مُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ (106 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6704 ) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 75)(20586)(1/153)
الله حتى تملوا ". فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ « مَنْ هَذِهِ ».قَالَتْ فُلاَنَةُ.تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا.قَالَ « مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا ».وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ" رواه البخاري (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنهم - قَالَ دَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ « مَا هَذَا الْحَبْلُ ».قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ » رواه البخاري (2) .
- ومن ذلك: أنه يجوز النهي عن المستحبات إذا خشي أن يفضي ذلك إلى السآمة والملل وتضييع حقوق، فعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ.فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا.فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ.قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ.فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ.فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الآنَ.قَالَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ.فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « صَدَقَ سَلْمَانُ » (3) .
- ومن ذلك: التيسير في معالجة الأخطاء ،فعَنْ عَمِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَعَدَ يَبُولُ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَهْ مَهْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُزْرِمُوهُ، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْقَذَرِ وَالْخَلاَءِ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّمَا هِيَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ ذِكْرِ اللهِ، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ. (4) . -شن : صبه صبا متقطعا
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (43)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1150 ) -فترت : ضعفت وكسلت
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6139 ) -المتبذلة : التاركة للزينة والهيئة الحسنة
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (687 ) وصحيح ابن حبان -ط الرسالة - (4 / 246)(1401)(1/154)
المبحث الثالث عشر
الأُصول قبل الفروع
- فلا بد من دعوة الناس إلى الأصول الكبرى كالعقيدة، فنصححها ونحرك العواطف ونستثير الوجدان، ونذكر الناس فنوقظ الغافل ونذكره .
- لا ندخل مع المدعويين في تفاصيل الأمور ودقائقها، بل نطلب منهم الحد الأدنى وهو:
حفظ العقيدة، وأداء الفريضة، واجتناب الكبائر .
- فعَنْ طَلْحَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا، جَاءَ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا " قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ، قَالَ: " صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا " قَالَ: فَأَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ لَا أَتَطَوَّعُ، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ " (1) .
وعَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ قَالَ: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ (2) .
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (2 / 292)(821 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (46 ) وصحيح مسلم- المكنز - (109) وصحيح ابن حبان -ط الرسالة - (5 / 11) (1724)(1/155)
- ومما ينكر على بعض المسلمين أنه يشتغل بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بكينونة الأمة وهويتها ومصيرها، فترى كثيراً منهم يقيم الدنيا ويقعدها من أجل حلق اللحية أو الأخذ منها أو إسبال الثوب أو اقتناء الصور الفوتوغرافية أو غير ذلك، في الوقت الذي ينتشر الفساد ولا يتكلم عنه، ويفسد المفسدون ويغرقون الناس في الكبائر !!!
- - - - - - - - - - - -(1/156)
المبحث الرابع عشر
الترغيب قبل الترهيب أو البشارة قبل النذارة
- الحث على فعل الخير وأداء الطاعات والاستقامة على أمر الله - تعالى - جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة مقروناً ببشريات كثيرة في الدنيا والآخرة، ولذا وجب على الداعية أن يقدم البشارة قبل النذارة والترغيب قبل الترهيب .
- فالداعي يقدم الترغيب في الإخلاص قبل الترهيب من الرياء، والترغيب في نشر العلم قبل الترهيب من كتمانه، والترغيب في الصلاة قبل الترهيب من تركها وهكذا .
- وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبب الناس في رحمة الله ويرغبهم في الطاعات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، مَا تَقُولُونَ يبقى مِنْ دَرَنِهِ ؟ "، قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ " فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُوا اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا " رواه البخاري (1) .
- فعلى الداعي أن يفقه حال المدعو حين يدعوه فلا يرهب أحداً قبل أن يرغبه، حتى إن بعض الناس يظن أن ملكه سيزول وحريته ستضيع إن هو التزم بأمر الله، وذلك بسبب العرض الخاطئ لطبيعة الدين والدعوة .
قال تعالى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (57) سورة القصص
إنها النظرة السطحية القريبة، والتصور الأرضي المحدود، هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى اللّه يعرضهم للمخافة، ويغري بهم الأعداء، ويفقدهم العون والنصير، ويعود عليهم بالفقر والبوار: «وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» ..فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون اللّه،
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (528 ) وشعب الإيمان - (4 / 301)(2552 )(1/157)
وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى اللّه وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم اللّه. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار اللّه، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه.
وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى اللّه معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فاللّه خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى اللّه يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة. إن هدى اللّه منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى اللّه.
والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى اللّه إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة اللّه والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء اللّه ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا».فلما اتبعت هدى اللّه سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.(1/158)
وقد رد اللّه عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟» ..فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى اللّه، واللّه هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟! «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله للّه (1) .
وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ ؛ أَنَّ رَجُلاً، قَالَ: قُلْتُ: أَسْأَلُ عَنْ حَدِيثٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، فَأَكُونُ أَنَا الَّذِي أَسْمَعُهُ مِنْهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ، قُلْتُ: حَدَّثَنِي، قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكَرِهْتُهُ أَشَدَّ مَا كَرِهْتُ شَيْئًا قَطُّ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَنْزِلَ أَقْصَى أَهْلِ الْعَرَبِ مِمَّا يَلِي الرُّومَ، فَكَرِهْتُ مَكَانِي أَشَدَّ مِمَّا كَرِهْتُ مَكَانِي الأَوَّلَ، فَقُلْتُ: لآَتِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لاَ يَضُرُّنِي، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لاَ يَخْفَى عَلَيَّ.
فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَاسْتَشْرَفَنِي النَّاسُ، وَقَالُوا: جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : يَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، قُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْك، قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْك ،قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَك ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لَك فِي دِينِكَ، قَالَ: فَتَوَاضَعْتُ مِنْ نَفْسِي.
قَالَ: يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنِّي مَا أَظُنُّ، أَوْ أَحْسَبُ أَنَّهُ يَمْنَعُك مِنْ أَنْ تُسْلِمَ إِلاَّ خَصَاصَةُ مَنْ تَرَى حوْلِي، وَأَنَّك تَرَى النَّاسَ عَلَيْنَا إِلْبًا وَاحِدًا، وَيَدًا وَاحِدَةً، فَهَلْ أَتَيْتَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2703)(1/159)
الْحِيرَةَ ؟ قُلْتُ: لاَ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَكَانَهَا، قَالَ: يُوشِكُ الظَّعِينَةُ أَنْ تَرْتَحِلَ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ عَلَيْكُمْ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، قَالَهَا ثَلاَثًا، يُوشِكُ أَنْ يَهُمَّ الرَّجُلُ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ.
فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِي أَوَّلِ خَيْلٍ أَغَارَتْ عَلَى الْمَدَائِنِ، وَلَتَحِينُ الثَّالِثَةُ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ لِي (1) .
- وإن نتيجة تقديم الترهيب على الترغيب نتيجة مُبْعِدَةٌ عن دين الله، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ، فقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ: لاَ فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ، فقَالَ: أَنَّهُ قَتَلَ مِئَةً، فَهَلْ لَهُ تَوْبَةٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ ائْتِ أَرْضَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا نَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ الطَّرِيقَ، أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَنَا تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ: أَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ، فَهِيَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ بِهَا مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ (2) .
- نحن بهذا الكلام لا نهوّن من أمر الترهيب - فقد جاء في القرآن الكريم -، ولكن لا نحب للداعية أن يُفْرِطَ فيه، وعلى الداعية أن يختار الترغيب أو الترهيب كما يراه مناسباً لحال المدعو (3) .
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (20 / 267) (37761) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3470 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7184 ) وصحيح ابن حبان -ط الرسالة - (2 / 376) (611)
(3) - انظر كتابي الترغيب بالجنة والترهيب من النار ، وكتابي الخلاصة في فضائل الأعمال(1/160)
وكثيرا ما كان القرآن الكريم يقرن بينهما ،قال تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} (35) سورة الرعد
وقال تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) } [القمر: 47 - 53]
وقال تعالى :{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) } [الحاقة: 19 - 37]
- - - - - - - - - - -(1/161)
المبحث الخامس عشر
التفهيم لا التلقين
- إن العودة للإسلام لا بد لها من الدعاة الأذكياء الأتقياء، الذين فهموا الإسلام على حقيقته النازلة من رب العالمين، ثم يقدمونه للناس ليوقظهم من الغيبوبة التي يعيشون فيها، ويزيلون جهل أبنائه، ويغسلون ما التصق بفهمهم من خرافات ويُقْصون من طريقهم الحواجز التي شعَّبت أهله وقسمتهم طوائف، يفهمون الإسلام لا على أنه نصوص تقرأ وتحفظ فحسب بل وروحٌ تبعث الحياة ونورٌ يُمشى به في الناس .
- إن الإسلام ليس نصوصاً تلقن كما يفعل بعض الشباب الذين يتصدون للدعوة، فيلقنونه للناس دون فهم ولا مراعاة للأحوال والظروف .
- إن القرآن الكريم يعلمنا ضرورة الفهم، كما جاء ذلك في قصة داود وسليمان - عليهما السلام - .
قال تعالى :{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء: 78، 79]
واذكر - أيها الرسول - نبي الله داود وابنه سليمان، إذ يحكمان في قضية عرَضَها خصمان، عَدَت غنم أحدهما على زرع الآخر، وانتشرت فيه ليلا فأتلفت الزرع، فحكم داود بأن تكون الغنم لصاحب الزرع ملْكًا بما أتلفته، فقيمتهما سواء، وكنَّا لحكمهم شاهدين لم يَغِبْ عنا.
فَفَهَّمنا سليمان مراعاة مصلحة الطرفين مع العدل، فحكم على صاحب الغنم بإصلاح الزرع التالف في فترة يستفيد فيها صاحب الزرع بمنافع الغنم من لبن وصوف ونحوهما، ثم تعود الغنم إلى صاحبها والزرع إلى صاحبه; لمساواة قيمة ما تلف من الزرع لمنفعة الغنم، وكلا من داود وسليمان أعطيناه حكمًا وعلمًا، ومننَّا على داود بتطويع الجبال تسبِّح معه إذا سبَّح، وكذلك الطير تسبِّح، وكنا فاعلين ذلك.(1/162)
- ولو تأملنا سيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - لرأينا أنهم كانوا يمتازون بـ :
1- جودة الحفظ.2- عمق الفهم.3- دقة الاستنباط .
وخير مثال على ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا (1) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ"لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: اعْطِنِي قَمِيصَكَ حَتَّى أُكَفِّنَهُ فِيهِ وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، ثُمَّ قَالَ: آذِنِّي بِهِ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ فَلَمَا أَرَدَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ قَدْ نَهَاكَ أَلا تُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ ؟ قَالَ:"أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ " فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ " وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ " فَتَرَكَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ" (2) .
وغير ذلك من الأمور، .. وغير عمر من الصحابة .
- ومن الأمثلة على الخطأ في الفهم: طلب بعض المسلمين من الناس الأكل على الأرض بحجة أن ذلك من السنة، وما هو من السنة بل هو عادة، وكذلك أولئك الذين يريدون أن يدخلوا المساجد بأحذيتهم دون خلعها، ولا يفرقون بين حالة المسجد في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمساجد الآن ! وأولئك الذين يحرمون جرس الباب والصور الفوتوغرافية وإن كان موضوعها خيراً ! وأولئك الذين يقولون إن صوت المرأة عورة في كل أحواله ! وهكذا..
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 189)(378) صحيح
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (7 / 366)(10678) صحيح(1/163)
فعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ، عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، أَحَدُهُمَا " يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ "، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ ؟ " قَالَ: قُلْنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَتْ: " كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
ومن الأمثلة أيضاً تكفير الناس ومحاربة المجتمع وعدم التمييز بين درجات الفسق والكفر والشرك، وعدم الفهم لبعض الآيات في هذا المجال، ولو أنهم رجعوا إلى أهل الذكر من العلماء لأخبروهم بالحق وبالمعنى الصحيح للآيات .
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2610 )(1/164)
المبحث السادس عشر
التربية لا التعرية
- وذلك عن طريق الشفقة على العاصي والمخطئ، وعدم التشهير به وعدم التعالي عليه وعدم إحراجه أمام الناس .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا ؟ قَالَ: فَصَاحَ الْقَوْمُ بِهِ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَقِرُّوهُ وَادْنُهْ " فَدَنَا حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ " فَقَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ " قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ " قَالَ: " فَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ " - ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ كَذَلِكَ - قَالَ: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ: فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ بَعْدُ " (1) .
وهذا موقف تربوي نتعلم منه الكثير، وليس شرطاً أن نخاطب الناس بما خاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - به هذا الصحابي، ولكن المهم أخذ العبرة ومعرفة كيفية التعامل مع الناس وتربيتهم لا فضحهم وتعريتهم !
- رأيتَ شاباً يدخل المسجد لأول مرة وهو يلبس الذهب، فهل من الصحيح أن تذهب إليه وتقول له: اتق الله، الذهب حرام !!!.فكِّر وابحث عن الموقف الدعوي المناسب.
- وقد يجتمعُ في المرء إيمان وعمل صالح من وجه وفسق من وجه آخر، فلا يقتضي وجود الثاني ذهابَ الأول، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - شعب الإيمان - (7 / 295)(5032 ) صحيح(1/165)
قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ » (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اضْرِبُوهُ.قَالَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ.قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، وَلَكِنْ قُولُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ. ( رواه البخاري ) (2) .
وفي رواية قَالَ فِيهِ بَعْدَ الضَّرْبِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « بَكِّتُوهُ ». فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ مَا خَشِيتَ اللَّهَ وَمَا اسْتَحَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَرْسَلُوهُ وَقَالَ فِى آخِرِهِ « وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ». وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ الْكَلِمَةَ وَنَحْوَهَا (3) .
- ومن الأمثلة على ذلك أيضاً موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عمار بن ياسر - رضي الله عنه - حين أُكره على سبه والتلفظ بالكفر.فعَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« مَا وَرَاءَكَ؟ ». قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ. قَالَ :« كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ ». قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالإِيمَانِ. قَالَ :« إِنْ عَادُوا فَعُدْ » (4) .!
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - " كيف تجد قلبك ؟ " دلالة على أهمية صيانة الفكر من أن يتطرق إليه شيء من الشبهات التي يثيرها الكفار .
إن هؤلاء المعذبين قد استطاع الكفار أن يثخنوا في أجسادهم وأن يُلجئوا بعضهم إلى قول مالا يعتقدون , ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أن يهيمنوا على عقولهم وأفكارهم .
__________
(1) - صحيح البخارى (6780 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 185)(7985) 7973- وصحيح البخارى- المكنز - (6777 )
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4480 ) صحيح - بكت : وبخ
(4) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 208)(17350) والحلية برقم (449 ) صحيح لغيره(1/166)
إن الفكر حصن حصين وهبه الله تعالى للإنسان , فلا يستطيع البشر مهما أوتوا من قوة أن يطلعوا على أسراره وخفاياه , ولا أن يهيمنوا عليه فيغيروا من معتقده .
إن الطغاة الجبابرة يستطيعون أن يفعلوا في أجساد المؤمنين المعذبين ماشاؤوا وأن ينتزعوا من بعضهم مايريدون من اعترافات , ولكنهم لا يستطيعون أن يتحكموا في أفكارهم , وهذا من أبرز علامات الفشل والعجز , لأن تغيير الأفكار هو المقصود الأول من وراء ذلك التعذيب (1) .
وعن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، وَهُوَ كَاتَبُ عَلِيٍّ - رضي الله عنهم - ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: آللَّهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينِ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ قَرَابَتَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي قَرَابَةٌ أَحْمِي بِهَا أَهْلِي، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَأَهْلِي، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ هَذَا قَدْ صَدَقَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، وَأَنْزَلَ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ
__________
(1) - موسوعة فقه الابتلاء 1-4 - (4 / 341)(1/167)
إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة (1) ..
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3007 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2165 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 424)(6499)(1/168)
المبحث السابع عشر
تلميذ إمام ( أستاذ وذي تجربة ) لا تلميذ كتاب
- من أعظم الأخطاء التي يرتكبها بعض الشباب الداعي إلى الله أنه يتعامل مباشرة ووجها لوجه مع نصوص الكتاب والسنَّة ويتتلمذ على الكتاب دون الرجوع إلى عالم متخصص أوداعية حصيف يبين له ما لم يعرفه وما أشْكَلَ عليه من فهمٍ وما غاب عنه من فقه، مع أن الله - تعالى - يقول: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل.
- والصحابة أنفسهم كانوا حريصين على الرجوع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليفهموا الفهم السليم، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (60) سورة المؤمنون، أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي، وَيَسْرِقُ، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قَالَ: لاَ، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لاَ يُتَقَبَّلَ مِنْهُ (1) .
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "
وفي رواية عَنِ الْأَعْمَشِ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ - فَقَالُوا: " يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ ؟ قَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " (2) ..
- وهكذا كان حال الصحابة - رضوان الله عليهم -، فكيف بنا اليوم وقد بعدنا عن فهم اللغة وبعدنا عن الالتزام الصحيح والفهم السليم، ألسنا بحاجة إلى الجلوس بين يدي عالم متخصص وذي تجربة ليعلمنا ويفهمنا ؟!
__________
(1) - سنن ابن ماجة- ط-الرسالة - (5 / 287)(4198) صحيح
(2) - مُسْتَخْرَجُ أَبِي عَوَانَةَ ( 165و166 ) صحيح(1/169)
- وإن من الخطر أن يقرأ بعض الشباب الحديث فلا يعرف متى قيل هذا الحديث ولا لمن قيل ولا الحالة التي قيل فيها، وقد يقرؤه مترجماً فتكون الترجمة غير صحيحة أوصحيحة ولكنها دون روح وفهم لجوهر الحديث، وهذا بالطبع له نتائجه الخطيرة على الفرد وعلى المجتمع.وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِى سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِى رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: هَلْ تَجِدُونَ لِى رُخْصَةً فِى التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ قَالَ :« قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ » (1) .
- وإنه مما يدهش ويُحزن أن نجد بعض الدعاة يجترئون على الفتوى في أخطر القضايا، وإصدار الأحكام في أهم الأمور دون أن تكون عنده مؤهلات الفتوى، ودون دراية بأحوال المجتمعات وظروفها المختلفة، هذا مع أن الصحابة - رضوان الله عليهم -كانوا يتورَّعون من الفتوى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: " أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّلِ " (2) ..
- إن تربية الناس وتبصيرهم يحتاج إلى فقه دقيق ويستحيل على الداعي أن يحصٍّل الفقه إذا كان تلميذ كتاب، فهو في هذه الحالة يجمع السطور ويحفظ المتون، ولكي يكون ذا فقه فلا بد من فقيه يرشده، وفي المثل: من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه .
- إنَّ التلقي عن ذوي الخبرة يعصم من الزلل ويحمي من الأخطار التي قد تصيب الفرد والمجتمع بسبب عدم الفهم والوعي. فالعلماء وذووالخبرة مصابيح تنير لمن بعدهم الطريق وتنقل لهم الطريقة الصحيحة في الدعوة، لذا لا بد كذلك من احترامهم أشدّ الاحترام، فإن الناس دونهم في ضلال وتخبط عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ،
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (1 / 227)(1115) حسن
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (655 ) والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (632) صحيح(1/170)
وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا (1) ..
قال النووى: هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ولكن معناه أنه يموت حملته ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون.... وقال أيضا: في هذا الحديث الحث على حفظ العلم وأخذه عن أهله واعتراف العالَم للعالِم بالفضيلة (2) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 596)(6511) وصحيح مسلم- المكنز - (6971)
(2) - الإيمان والعمل الصالح سبب النجاح والفلاح - (1 / 91)(1/171)
المبحث الثامن عشر
نصائح لا بد من مراعاتها أثناء الدعوة
أولاً: على الداعي أن يتحرى قصده حين دعوة غيره، فيقصد وجه الله - تعالى - فعن عَلِيَّ بْنِ إِشْكَابٍ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ , يَقُولُ: " يَا قَوْمُ , أَرِيدُوا بِعِلْمِكُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , فَإِنِّي لَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ , أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَتَوَاضَعَ , إِلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أَعْلُوهُمْ , وَلَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَعْلُوهُمْ , إِلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أُفْتَضَحَ " (1) .
ثانياً: أن يتخلق الداعي بالمحاسن والأخلاق الكريمة ويتحلى بالحلم والصبر وطلاقة الوجه والورع والحذر من الحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس وإن كانوا دونه .
ثالثاً: لا يستنكف الداعي من التعلم ممن هو دونه في سنٍّ أونسب أوشهرة أو دين أو في علم آخر، ولا يستحي من السؤال عمَّا لا يعلم، ولا يتعاظم على المتعلمين عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ , قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ , يَقُولُ: " لَا يَزَالُ الرَّجُلُ عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ , فَإِذَا تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى , وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ كَانَ أَجْهَلَ مَا يَكُونُ " (2) . .
رابعاً: على الداعي حين يتعامل مع الناس أن يعرف أنَّ أساس التعامل هو ظاهر السلوك ولا شأن له بالباطن.
خامساً: أن يحترم من له سبق في الدعوة، وأن ينزل الناس منازلهم .
سادساً: أن يعلم الداعي أن غايته الله - تعالى -، والوصول إلى تحقيق العبودية لله - سبحانه - هو الهدف الأسمى ،ولذلك فإن الجماعة وسيلة، والحكومة وسيلة ... وليست غايات، فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنقلب الوسائل إلى غايات .
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 662 )
(2) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 1053 )(1/172)
سابعاً: أن يعي أن وسائل العمل الإسلامي وطرقه وأساليبه ليست ديناً لا يتغيَّر ولا يتبدل، بل يجب أن تتطور طبقاً لظروف المكان والزمان والعصر، فالأهداف الإسلامية من الثوابت، والوسائل لتحقيقها من المتغيرات .
ثامناً: لا بد أن يتهم الداعي نفسه بالتقصير ويسعى نحو الأفضل دائماً، ويقوم مع إخوانه الدعاة بدراسة أسباب التقصير بحوار مؤدب، ومراعاة الاستفادة من جميع الطاقات والمواهب .
تاسعاً: لا بد للداعي أن يحتسب الدعوة لله - تعالى - فيتحمل التعب، ويتحمل الإيذاء والاستهزاء، ولا يفكر برد الصاع صاعين، قال تعالى:{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (43) سورة الشورى.
عاشراً: أن يبتعد عن مزاحمة الناس في ما هم فيه من مناصب ولا يحترف الإسلام .
حادي عشر: أن يفهم جيداً أن الدعوة ليست حكراً عليه أو على من يعمل معهم، لذا فإنه يحترم الجميع ولا يقلل من شأنهم.
ثاني عشر: أن يبتعد عن الخلاف السلبي، وأن يكون شعاره مع الجميع: فلنتعاونْ فيما اتفقنا عليه،ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه (1) .
ثالث عشر: على الداعي أن يُفهم المدعوين أن الإسلام منزَّهٌ لا يُدان، أما المسلمون فهم معرضون للخطأ والإدانة !
رابع عشر: على الداعي أن يبدأ دعوته حيث انتهى فهم المدعو، وليس حيث انتهى فهم الداعي نفسه .
خامس عشر: البدء بأقرب الناس ومن هو لديه استعداد ثم الذي يليه، {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (214) سورة الشعراء .
سادس عشر: ألاّ ينظر إلى العصاة والبغاة نظرة اليائس من إصلاحهم، فيحكم عليهم مسبقاً بعدم الاستجابة، لا، بل عليه أن يتذكر أن الله- تعالى - يقلب القلوب والأبصار .
__________
(1) -قالها رشيد رضا رحمه الله في مجلة المنار - (ج 35 / ص 471)(1/173)
سابع عشر: ألاّ يضع شروطاً يجب أن تتوفر في المدعو لكي يدعوه فإذا افتقد شرطاً حكم عليه بعدم الصلاح، ولا يوجهه إلا حسب قدراته، ويستغل إمكاناته - مهما كانت ضئيلة - لصالح الخير .
ثامن عشر: ألاّ يتعامل مع طبقة من الطبقات ويهمل بقية الطبقات، فالدعوة للناس كافة ولكن كلٌّ حسب ظروفه ووضعه .
تاسع عشر: ألاّ يستهين بدعوة الصبي والصغير، فأطفال اليوم هم رجال الغد بإذن الله.
العشرون: ألاّ تهمل دعوة النساء، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلاَ يَذْكُرُ احْتِلاَمًا قَالَ: يَغْتَسِلُ، وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ، وَلاَ يَرَى بَلَلاً، قَالَ: لاَ غُسْلَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ تَرَى ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ. (1) .
الواحد والعشرون: ألاّ تستهين بالكلمة الطيبة، فهي مفتاح للقلوب مهما كانت قاسية !
الثاني والعشرون: ألاّ تسفه أعمال الآخرين، بل تظهر جانب الإحسان فيها .
الثالث والعشرون: التدرج مع المدعو حتى وإن تطلَّب ذلك وقتاً طويلاً .
الرابع والعشرون: ألا تسخر من العصاة من أصحاب المراكز العالية أو ترميهم بفسق، وأنزل الناس منازلهم، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
الخامس والعشرون: كن داعياً لا قاضياً، فلا تحكم على الناس بكفر أوردَّةٍ ولتكن مهمتك التذكرة {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (22) سورة الغاشية
وليكن حكمك على الظاهر، وليس على الباطن، فمن أعلن الكفر أو أتى بناقض معلوم من الدين بالضرورة فهو كافر، ولا نكفر بتأويل ،وتذكر كذلك أن الأعمال بخواتيمها، وأن باب التوبة مفتوح !
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 507)(26195) 26725- صحيح(1/174)
فعن مُعَاوِيَةَ ،قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، كَالْوِعَاءِ إِذَا طَابَ أَعْلاَهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلاَهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ (1) .
السادس والعشرون: ألا يتعلق المدعو بشخصك، بل بالفكرة التي تدعو إليها !
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران
فعَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، قَالَ ذَهَبْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي إِلَى عَائِشَةَ فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا، فَأَلْقَتْ لَنَا وَسَادَةً، وَجَذَبَتْ إِلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَ صَاحِبِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَقُولِينَ فِي الْعِرَاكِ ؟ قَالَتْ: وَمَا الْعِرَاكُ، وَضَرَبْتُ مَنْكِبَ صَاحِبِي، فَقَالَتْ: مَهْ آذَيْتَ أَخَاكَ ؟ ثُمَّ قَالَتْ: مَا الْعِرَاكُ: الْمَحِيضُ، قُولُوا: مَا قَالَ اللَّهُ: الْمَحِيضُ، ثُمَّ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَشَّحُنِي، وَيَنَالُ مِنْ رَأْسِي، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ، وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا مَرَّ بِبَابِي مِمَّا يُلْقِي الْكَلِمَةَ يَنْفَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ مَرَّ أَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، قُلْتُ: يَا جَارِيَةُ ضَعِي لِي وِسَادَةً عَلَى الْبَابِ، وَعَصَبْتُ رَأْسِي فَمَرَّ بِي، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا شَأْنُكِ ؟ فَقُلْتُ: أَشْتَكِي رَأْسِي فَقَالَ: أَنَا وَارَأْسَاهْ، فَذَهَبَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى جِيءَ بِهِ مَحْمُولاً فِي كِسَاءٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ، وَبَعَثَ إِلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ اشْتَكَيْتُ، وَإِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بَيْنَكُنَّ، فَائِذَنْ لِي فَلأَكُنْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَكُنْتُ أُوَضِّئُهُ، وَلَمْ أَكُنْ أُوَضِّئُ أَحَدًا قَبْلَهُ، فَبَيْنَمَا رَأْسُهُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى مَنْكِبَيَّ إِذْ مَالَ رَأْسُهُ نَحْوَ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأْسِي حَاجَةً، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ، فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي، فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا، فَجَاءَ عُمَرُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَاسْتَأْذَنَا، فَأَذِنْتُ لَهُمَا، وَجَذَبْتُ إِلَيَّ الْحِجَابَ، فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَاغَشْيَاهْ مَا أَشَدُّ غَشْيَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَا، فَلَمَّا دَنَوَا مِنَ الْبَابِ قَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا عُمَرُ مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: كَذَبْتَ بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ تَحُوسُكَ فِتْنَةٌ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 51)(339) صحيح(1/175)
يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ، وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَانَبِيَّاهْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاصَفِيَّاهْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ، وَقَالَ: وَاخَلِيلاَهْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَعُمَرُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ، وَيَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ، فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللهِ مَا شَعَرْتُ أَنَّهَا فِي كِتَابِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ذُو شَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَبَايِعُوهُ فَبَايَعُوهُ (1) .
السابع والعشرون: كرر الدعوة مرات ومرات ولا تتعب ولا تيأس، فأنت لا تعرف متى تفتح القلوب، وتذكر قصة إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَتْ: وَاللهِ، إِنَّهُ لَنَرْتَحِلُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بَعْضِ حَاجَتِنَا، إِذْ أَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، قَالَتْ: وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلاَءَ أَذًى لَنَا وَشَرًّا عَلَيْنَا، فَقَالَتْ: فَقَالَ: إِنَّهُ لاَنْطِلاَقٌ يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ، قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللهِ لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَنَا مَخْرَجًا، قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ فِيمَا أَرَى خُرُوجُنَا، قَالَتْ: فَجَاءَ عَامِرٌ مِنْ حَاجَتِنَا تِلْكَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا، قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إِسْلاَمِهِ ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: لاَ يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ: يَأْسًا لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنِ الإِسْلاَمِ.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 427)(25841) 26365- صحيح(1/176)
وَكَانَ إِسْلاَمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ مَعَهَا، وَهُمْ يَسْتَخْفُونَ بِإِسْلاَمِهِمْ مِنْ عُمَرَ، وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّحَّامُ رَجُلاً مِنْ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَانَ أَيْضًا يَسْتَخْفِي بِإِسْلاَمِهِ فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ يَخْتَلِفُ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطَّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَمَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمُّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ فِيمَنْ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا، هَذَا الصَّابِيءُ الَّذِي قَدْ فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ، وَسَفَّهَ أَحْلاَمَهَا، وَعَابَ دِينَهَا، وَسَبَّ آلِهَتَهَا، فَأَقْتُلُهُ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: وَاللهِ، لَقَدْ غَرَّتْكَ نَفْسُكَ مِنْ نَفْسِكَ يَا عُمَرُ، أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا ؟ أَفَلاَ تَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ ؟ قَالَ: وَأَيُّ أَهْلِ بَيْتِي ؟ قَالَ: خَتَنُكَ وَابْنُ عَمِّكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ، فَقَدْ أَسْلَمَا وَتَابَعَا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عَلَى دِينِهِ، فَعَلَيْكَ بِهِمَا، فَرَجَعَ عُمَرُ عَامِدًا لِخَتَنِهِ وَأُخْتِهِ، وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا طَهَ يُقْرِئُهُمَا إِيَّاهَا، فَلَمَّا سَمِعُوا حَسَّ عُمَرَ تَغَيَّبَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ فِي مَخْدَعٍ لِعُمَرَ أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ الصَّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا مِنَ الْبَيْتِ قِرَاءَتَهُ عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُهَا ؟ قَالاَ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا، قَالَ: بَلَى وَاللهِ لَقَدْ أُخْبِرْتُ عَمَّا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ، وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَامَتْ إِلَيْهِ فَاطِمَةُ أُخْتُهُ لِتَكُفَّهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَضَرَبَهَا فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتَنُهُ: نَعَمْ، قَدْ أَسْلَمْنَا وَآمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ.وَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنَ الدَّمِ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَارْعَوَى وَقَالَ لِأُخْتِهِ: أَعْطِينِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي سَمِعْتُكُمْ تُقْرَآنِ آنِفًا أَنْظُرْ مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ؟ وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إِنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا، قَالَ: لاَ تَخَافِي، وَحَلَفَ لَهَا(1/177)
بِآلِهَتِهِ لَيَرُدَّنَّهَا إِلَيْهَا إِذَا قَرَأَهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهَا ذَلِكَ طَمِعَتْ فِي إِسْلاَمِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، إِنَّكَ نَجِسٌ عَلَى شِرْكِكَ، وَإِنَّهُ لاَ يَمَسُّهَا إِلاَّ الطَّاهِرُ، فَقَامَ عُمَرُ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَعْطَتْهُ الصَّحِيفَةَ، وَفِيهَا طَهَ، فَقَرَأَهَا، فَلَمَّا قَرَأَ صَدْرًا مِنْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلاَمَ وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الإِسْلاَمَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَاللَّهَ اللَّهَ يَا عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَادْلُلَّنِي عَلَيْهِ يَا خَبَّابُ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ خَبَّابٌ: هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، مَعَهُ فِئَةٌ، يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشَّحَهُ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَرَآهُ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فَزِعٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: فَائْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ وَنَهَضَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَ بِحُجْزَتِهِ أَوْ بِجُمْعِ رِدَائِهِ، ثُمَّ جَبَذَهُ جَبْذَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ وَاللهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ قَارِعَةً، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُكَ أُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ عَزُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ إِسْلاَمِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللهِ، وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوِّهِمْ (1) .
الثامن والعشرون: ثق في نصر الله لدعوته فهوحافظها {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر،
وعَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي
__________
(1) - فضائل الصحابة لعبد الله بن أحمد 290 - (1 / 279)(371و372) فيه جهالة(1/178)
الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ بِنِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ فِيمَا دُونَ عَظْمِهِ وَلَحْمِهِ، فَمَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ (1) .
ولا تخشَ عليها، بل اخشَ على نفسك من ألاّ تلحق بركب أصحاب الدعوات.فالدعوة إن لم تكن بك فبغيرك، وأنت إن لم تكن بأصحاب الدعوات فلست بغيرهم .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3612 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 91)(6698)(1/179)
المبحث التاسع عشر
قواعد في التصورات والأساليب والوسائل
1/ الدعوة إلى الله سبيل النجاة في الدنيا والآخرة :
- قص علينا القرآن الكريم قصة الأنبياء مع أقوامهم مؤكدا دائما على نجاة الدعاة وعلى هلاك الظالمين المعرضين: ففي قصة نوح - عليه السلام - مع قومه كانت النهاية: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } (73) سورة يونس
وفي قصة صالح - عليه السلام - مع قومه كانت النتيجة: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (66) سورة هود.
كل هذه الآيات تؤكد أن النجاة في الدعوة إلى الله، وهذا وعد الله - تعالى - للمؤمنين: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } (103) سورة يونس.
- ليس أمر الدعوة كما يظن بعض الناس أنها تعب وخسارة ونصب وألم، فإنها وإن كانت لا تخلومن المتاعب والمصاعب لكنها لذيذة الطعم، عزيزة على القلب، ولذلك فإن أصحابها يضحون في سبيلها بالغالي والرخيص ،ويستعذبون العذاب، ويجدون الموت حياة من أجلها.وهم أسعد بها من الناس بدونها.أما في العاقبة فهي الفوز وغيرها الفشل، وهي الباقية وغيرها الفاني .
عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (2) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7590) وصحيح ابن حبان - (15 / 264)(6850)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (393 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 262)(6848)(1/180)
وعن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شِمَاسَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لاَ يَدْعُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ إِلاَّ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ: يَا عُقْبَةُ، اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: هُوَ أَعْلَمُ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي، يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا، رِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ، وَمَسُّهَا مَسُّ الْخَزِّ، فَلاَ تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ (1) .
وهذه الأحاديث تدلُّ على أن قيام الساعة يقترن به ذهاب الدعوة والدعاة، أي أن الله - تعالى - يكرم الإنسانية بالدعوة والدعاة، وأنه ما دام الدعاة وما دامت الدعوة فإن الغاية من الخلق على هذه الأرض باقية، فإذا زال الدعاة والدعوة فقد خسر الإنسان مبرر وجوده على هذه الأرض .
- ليس المقصود بالنجاة نجاة الفرد من الأذى والألم، وإنما المقصود نجاة الجماعة والفكرة في النهاية، وأما في الآخرة فإن صوَر النجاة نعيم مقيم، قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133) سورة آل عمران
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} (15) سورة محمد
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5066 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 250)(6836)(1/181)
فِي كِتَابِ اللهِ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: ] (1) .
2/ ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ):
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟ قَالُوا: تَشْتَكِي عَيْنَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟ قَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ (2) .
وذلك لأن هدى الله هو الهدى، وأنه ليس بعد الهدى إلا الضلال، وعندما يوفق الله - تعالى - داعية من دعاة الإسلام فيهيئ له من يقبل دعوته فإن نتائج هذا القبول عظيمة جليلة، نذكر منها :
1- إن في ذلك استنقاذاً لهذا المهتدي من النار واستبدال مقام خالد في النار بمقام خالد في الجنة ،قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (20) سورة الحشر، فالداعية يقدم الجنة هدية للناس من حوله ويدلهم على مقامات السعادة .
2- إن كل حركة وسكنة يتحركها المهتدي، وكل تسبيحة أوتكبيرة ينطقها وكل ركعة وسجدة يفعلها وكل إحسان يجريه الله على يديه، فإنما كان الداعية سبب كل ذلك
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3244 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7310 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 91)(369)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3009 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6376) وصحيح ابن حبان - (15 / 377)(6932)
على رسلك : تمهل ولا تعجل -النعم : الإبل والشاء ، وقيل الإبل خاصة(1/182)
وطريقه الدال عليه.وإن له مثل أجر فاعله.عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُبْدِعَ بِي، فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ عِنْدِي فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ (1) .
وباب الأجر هذا لا يغلق، وهو يتنامى يوما بعد يوم.وإن جهد أبي بكر الصديق وبلال وعمار، وخديجة وأسماء، وغيرهم وغيرهن -رضي الله عنهم أجمعين - إنما هو أساس في إقبال كل إنسان على الله - تعالى - إلى قيام الساعة.وإن جهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو مبدأ كل جهد طيب بذله مسلم أو يبذله.ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - - بعد الله - تعالى - منّة وأية منّة في عنق كل مسلم .
ج- إن من يهتدي على يد الداعية يكون عونا للداعية على أداء رسالته، ويضم جهده إلى جهد الداعية.وهكذا فإن الدعوة لا تتكاثر إلا عن طريق الدعوة ولا تتقوى إلا بالعناصر الجديدة الرافدة .
د- إن الهداية أسلوب من أساليب النصر المادي ولكنه يتحقق لا في معركة ذات جرح وقرح ولا عن طريق السيف والسهم وإنما عن طريق {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
هـ- إن من يهديه الله على يديك أيها الداعية إنما هو كلبنة فكَّت من بناء الجاهلية ووضعت في بناء الإسلام، وسيكون هذا على حساب الكفر والضلال، وهو خسارة للشيطان وأعوانه، وكسب للرحمن وأنصاره .
3/ الأجر يقع بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة :
وهذه القاعدة تعالج خطأ شائعا عند كثيرين وهو أن الأجر يترتب على النتيجة الدنيوية الظاهرة.هذا نوح - عليه السلام - يدعو قومه ويمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5007 ) وصحيح ابن حبان - (4 / 554)(1668)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُهُ أُبْدِعَ بِي : يُرِيدُ قُطِعَ بِي عَنِ الرُّكُوبِ ، لأَنَّ رَوَاحِلِي كَلَّتْ وَعَرَجَتْ.(1/183)
.ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إلاّ قليل ،وكذلك كان أمر أكثر الأنبياء فإنهم يحشرون يوم القيامة، ومع بعضهم الواحد والاثنان والثلاثة، وبعضهم لا يكون معه أحد من المؤمنين.فقد أخرج الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أُسْرِىَ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِىِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ وَالنَّبِىِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ وَالنَّبِىِّ وَالنَّبِيِّينَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ حَتَّى مَرَّ بِسَوَادٍ عَظِيمٍ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قِيلَ مُوسَى وَقَوْمُهُ وَلَكِنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَانْظُرْ. قَالَ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ مِنْ ذَا الْجَانِبِ وَمِنْ ذَا الْجَانِبِ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَسِوَى هَؤُلاَءِ مِنْ أُمَّتِكَ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. فَدَخَلَ وَلَمْ يَسْأَلُوهُ وَلَمْ يُفَسِّرْ لَهُمْ فَقَالُوا نَحْنُ هُمْ. وَقَالَ قَائِلُونَ هُمْ أَبْنَاؤُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَالإِسْلاَمِ. فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « هُمُ الَّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ». فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمْ ». ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ فَقَالَ « سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ » (1) .
ولذلك فقد وجَّه الله - تعالى - رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة، فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ..} (48) سورة الشورى.
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا } عما جئتهم به بعد البيان التام { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } تحفظ أعمالهم وتسأل عنها، { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ } فإذا أديت ما عليك، فقد وجب أجرك على اللّه، سواء استجابوا أم أعرضوا، وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها، وظاهرها وباطنها (2) .
ومَنْ فَقِهَ هذه القاعدة فإنه لا يقع تحت الإحباط والضغوط النفسية الناشئة عن إعراض الناس وعدم استجابتهم للداعية.ولقد رفع الله - تبارك وتعالى - الحرج عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولم يكلفه إلا بما يستطيع فقال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2634 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) - تفسير السعدي - (1 / 761)(1/184)
يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (8) سورة فاطر.
وكذلك رفع هذا الحرج عن الدعاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إن لم يهتد الناس ويستجيبوا لهم بعد استنفاد غاية الجهد معهم ؛لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها .
وفي هذه القاعدة علاج لأولئك المتعجلين من الدعاة الذين ينتظرون النتائج الدنيوية الظاهرة ويجعلونها شرطا للمواصلة والسير في طريق الدعوة.وهذا التلازم إنما هو سوء فهم من جهة، ومخالفة صريحة لقواعد الدعوة في القرآن والسنة من جهة أخرى .
ولا يعني هذا أن الداعية غير مطالب ببذل قصارى جهده، واستخدام أحسن ما يستطيع من الأساليب والوسائل ،وهذا ما سنذكره في قاعدة البلاغ التالية .
4/ على الداعية أن يصل إلى رتبة المبلِّغ وأن يسعى إلى البلاغ :
- ليس أمر الدعوة إلى الله بأقل من أمر الدعوة أوالدعاية إلى سلعة دنيوية.ونحن على يقين من أن صاحب البضاعة يستخدم أقوى الوسائل وأوسعها انتشارا من أجل إيصال الجمهور إلى درجة القناعة ببضاعته، ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل .
وقد جعل الله - تعالى - مهمة رسله وأنبيائه البلاغ، ووصف البلاغ بأنه المبين فقال: {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (18) سورة العنكبوت
- ولا معذرة للداعية إذا قصر في البلاغ ولقد نبه الله - تبارك وتعالى - نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا قائلا: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة.
يا أيها الرسول بلِّغ وحي الله الذي أنزِل إليك من ربك، وإن قصَّرت في البلاغ فَكَتَمْتَ منه شيئًا، فإنك لم تُبَلِّغ رسالة ربِّك، وقد بلَّغ - صلى الله عليه وسلم - رسالة ربه كاملة، فمن زعم أنه كتم شيئًا مما أنزِل عليه، فقد أعظم على الله ورسوله الفرية. والله تعالى حافظك وناصرك على(1/185)
أعدائك، فليس عليك إلا البلاغ. إن الله لا يوفق للرشد مَن حاد عن سبيل الحق، وجحد ما جئت به من عند الله.
وليس المقصود بالبلاغ مجرد الإخبار أوالإعلان، إنما المراد أن تصل رسالته للناس .
- ومن مقتضيات البلاغ أن يعي الداعية ما يبلغه، لأنه لا تبليغ بلا وعي، ومن مقتضيات البلاغ البلاغة.والبلاغة في تفسير قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} (63) سورة النساء، أن يكون كلاما حسنا حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والثواب والعقاب.وليست البلاغة في صعوبة الألفاظ والأساليب، والبحث عن وحشي الكلام
وغريبه .
- ولقد جاء القرآن بتأكيد الفصاحة وسلامة النطق عندما قال الله - تعالى - على لسان موسى - عليه السلام-: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (28) سورة طه
فقد علم موسى - عليه السلام - أن سلامة النطق وفصاحته من أسباب البلاغ وإقامة الحجة .
ويستفاد من هذه القاعدة أن على الداعية أن يُعَوِّد نفسه على النطق الصحيح وإذا كانت في لسانه عقدة فليستعن بمن يفصح عنه، ويساعده في مهمته، وذلك كي يصل بدعوته إلى درجة البلاغ والبيان .
- ومما يساعد الداعية على البيان والبلاغ وجود إخوانه معه إلى جانبه، فإن وجودهم يشد من عضده ويلقي في روعه الطمأنينة من جهة، ومن جهة أخرى فإن وقع ذلك على المدعوين كبير.إذ عندما يرى المدعوون أن الداعية ليس وحيدا وأن معه أنصارا وأعوانا فإنهم يلاحظون أثر الدعوة في الناس ،ويحملهم هذا على إمعان الفكر في هذه الدعوة .
- ولكي يصل الداعية إلى درجة البلاغ فعليه أن يستعمل الوسائل الكاشفة عن مراده والمقربة لدعوته، وهذا ما يعرف بوسائل الإيضاح، والوسائل المعينة.وعلى الداعية أن(1/186)
يخاطب الناس بالصورة والفيلم والخريطة والرسم البياني والمقطع التوضيحي والرحلة الهادفة والقصة والمثل والقصيدة ومخلوقات الله - تعالى - وعجيب صنعه .
- وللوصول إلى رتبة البلاغ فإنه لابد من تقليب الأساليب وتنوعها فما لا يصل بالجهر قد يصل بالسر، وما لا يصل في الليل قد يصل في النهار، وما لا يستقر في القلوب مع انشغالها قد يستقر فيها عند فراغها، وما لا يؤثر في الصحيح قد يؤثر في المريض.وفي سورة نوح تطبيق كامل لهذا المبدأ ولهذه القاعدة .
- وللوصول إلى رتبة البلاغ فإن على الداعية أن يخاطب المدعوين باللين لا بالغلظة والشدة.واللين تلطف بالمدعو ورفق به وتخير لأحب الأسماء إليه وأقرب الأساليب إلى قلبه.وليس اللين في التساهل في أحكام الشرع ولا في مجاراة أهل الباطل على باطلهم ولا في السكوت على المنكرات، فإن المؤمن على كل حال لا يخشى إلا الله ولا يرجو إلا ثوابه. {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (39) سورة الأحزاب
والدعاة إلى الله يبتغون إيصال الحق والهدى إلى قلوب الخلق وليسوا في حلبة مصارعة يبتغون الظفر على خصومهم ،ويريدون إثبات تفوقهم في الحجة والدليل.ويذهب الرازي إلى أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة هي التي تؤدي إلى كسب الأنصار، بينما تبقى المجادلة بالتي هي أحسن لإقامة الحجة على الخصوم .
5/ على الداعية أن يقدِّم الجهد البشري وهو يطلب المدد الرباني :
شاء الله - تبارك وتعالى - أن تعمر هذه الدعوة بالوسائل البشرية.والداعية الحق هو الذي يستطيع أن يوظف عالم الأسباب من أجل دعوته.
وفي قوله - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ..} (286) سورة البقرة ،بيان شاف لهذا المبدأ .
والناس اليوم يفهمون هذه الآية على أن الوسع هو أدنى ما يستطيعه المرء، فإن هذا الوسع متقلب متغير حسب الدوافع.ونحن لا ننسى أن الناس متفاوتون في أصل المقدرة والجهد وأن مساحات نفوسهم متفاوتة كذلك ،ولكن المطلوب أن تصل هذه النفوس إلى أكبر(1/187)
عطاء لها وأن يكون جهدها متزايدا متصاعدا كل يوم، وإنَّ قدرا كبيرا من طاقة العاملين والدعاة محكوم عليها بالهدر والضياع إن لم تستغل في سبيل الحق والدعوة.وإن كثرة العاملين الذين يقدمون بعض ما يستطيعون ويعيقون السير وتزدحم بهم الطرق تماما كالعربات التي تملأ الطريق في الوقت الذي لا تحمل من وسعها سوى الشيء القليل .
الصحابة يلتزمون بمعيار الوسع :
وعندما نقرأ سير الأولين من الأصحاب - رضوان الله عليهم - نرى أن أكثرهم قد مات خارج بلده.فهذا ( أبوأيوب الأنصاري ) - رضي الله عنه - يرقد عند أسوار القسطنطينية وهذه ( أم حرام بنت ملحان ) - رضي الله عنها - ترقد في جزيرة قبرص، وهذا ( عقبة بن عامر ) - رضي الله عنه - يرقد في مصر، وهذا (بلال) - رضي الله عنه - يرقد في دمشق .
وهذا خير دليل أن الاستطاعة فيها جانب إرادي نفسي يدفع إليها ويعمل على تحقيقها بإذن الله -تعالى-، وإذا انعدم هذا الجانب فإن المرء يصاب بالعجز.ومن هنا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا بأن ندعوالله قائلين: « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ » (1) ..
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ الْخَيْرُ، فَاحْرِصْ عَلَى مَا تَنْتَفِعُ بِهِ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ: قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ اللَّوَ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " (2) ..
6/ الداعية مرآة دعوته والنموذج المعبر عنها: ( لا ينفصل الداعي عن دعوته ) :
- الاقتران بين الداعية والدعوة قائم في أذهان الناس، والداعية نفسه شهادة للدعوة، وهذه الشهادة قد تحمل الناس على قبول الدعوة، وقد تحملهم على ردها ورفضها. وعندما يكون الداعية بعيدا عن الالتزام بواجبات الإسلام وتكاليفه فإنه يكون فتنة للناس يصرفهم
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6369 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6945 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 29) (5722)(1/188)
بسلوكه عن دين الله ويقطع الطريق عليهم .وقد كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - نماذج صادقة معبرة عن دعوتهم وإسلامهم.وعندما رأى سكان البلاد المفتوحة صدق هؤلاء الأصحاب وثباتهم على عقيدتهم وتمثلهم لمنهج دينهم أقبلوا على الإسلام .
- والداعية قد يكون معروفا عند الناس وقد يكون مجهولا.فإذا شرع في الدعوة وكان معروفا بالاستقامة والورع فإن كلامه يصل مجامع القلوب وكانت استقامته وورعه مقدمة القبول والحافز عليه.وإذا كان الداعية فقيرا في التزامه واتباعه فإن كلامه يمرُّ من فوق الرؤوس كالسهم الطائش الذي لا يصيب الهدف .
- وحياة الداعية العامة والخاصة موضع الملاحظة، وعين الناس عليه كالمجهر المكبر، وقبل أن يطالب الناس بترك الغيبة فعليه أن يدفع الغيبة والتهمة عن نفسه وأن يصون حياته الخاصة والعامة عن كل ما يشينها .
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } [الصف: 2 - 3]
قال الشاعر :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ مِنَ السَّقَامِ لِذِي الضَّنى.كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَأَرَاكَ تُلْقِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا ... نُصْحًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلُق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
7/ خاطبوا الناس على قدر عقولهم :
الدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، وتظهر الحكمة في معرفة المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس.والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل من يعرف، وهو يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها .
والناس أمام هذا الأصل أصناف :(1/189)
الصنف الأول: العوام غير المتعلمين، والتعامل معهم ودعوتهم في غاية الصعوبة. وحالهم كحال المبتديء في تعلم القراءة والكتابة، وكل صعوبة أوتعقيد قد يصرفهم عن الدعوة .
الصنف الثاني: المتعلمون من خريجي الجامعات ومن في مستواهم في التقدم المعرفي، وهؤلاء يبحثون عن التحاليل والاستنتاجات والمعنويات ودلائل الإعجاز، وعند مخاطبتهم فإنه لابد من مراعاة منزلتهم العلمية .
الصنف الثالث: أصحاب التخصصات العلمية: إذ لكل تخصص مصطلحاته ووسائله، ومن يتعرف على هذا المناخ فإنه أقدر على توجيهه ولفت نظر أصحابه إلى دلائل مما بين أيديهم.فالداعية بين المحامين يحتاج إلى معرفة شيء عن القوانين والصالح والطالح منها.وأما بين الأطباء فهو بحاجة إلى معرفة بعض الجوانب التي توقف الطبيب على عظمة الله - تعالى - وقدرته في خلق الإنسان ووظائف أعضائه .
8/ الابتلاء سنة الله - تعالى - وهوالسبيل إلى تمثل الدعوة وصياغة النفس وفق العقيدة :
- كلما كان العمل شاقا ودقيقا ومعقدا احتاج المرء إلى بذل جهد أكبر في الإعداد والتدريب لكي يكون على مستوى ذلك العمل.والعمل لدين الله - تعالى - مستمر ومتنوع وفسيح.ومهمته لا تقف عند حدود أشكال معينة، بل تتعدى الشكل إلى المضمون والمحتوى.ومسئولية العامل تزداد يوما بعد يوم .
قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (186) سورة آل عمران
إنها سنة العقائد والدعوات. لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام.
إنه الطريق إلى الجنة. وقد حفت الجنة بالمكاره. بينما حفت النار بالشهوات.(1/190)
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها. طريق التربية لهذه الجماعة وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال. وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة.
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا. فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها ..فهم عليها مؤتمنون.
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال. فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال.
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة. فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها.
والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصل جذورها وتتعمق وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة ..
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية. ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها. وحقيقة الجماعات والمجتمعات. وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس. ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال! ثم .. لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير، ولا بد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون .. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها .. أفواجا .. في نهاية المطاف! إنها سنة الدعوات. وما يصبر على ما فيها من مشقة ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى اللّه، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ولا ييأس من رحمة اللّه ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد .. ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء: « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام. وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال. من أهل الكتاب من حولها. ومن المشركين أعدائها ..(1/191)
ولكنها سارت في الطريق. لم تتخاذل، ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها .. لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت. وأن توفية الأجور يوم القيامة. وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور .. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو .. والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان. والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان. وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها، تتوالى القرون والأجيال وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال ..والقرآن هو القرآن ..
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها .. ولكن القاعدة واحدة: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً»! ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك.
أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها، وأحيانا في أصحابها وقيادتها. وهذه الصور تتجدد مع الزمان. وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية. فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف اللّه عنها للجماعة المسلمة الأولى، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق ..
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج اللّه في الأرض فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الحديثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها .. يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها. وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق. ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد اللّه ذاك فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة .. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق! ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل(1/192)
عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي .. تستبشر بهذا كله، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها اللّه لها من قبل. وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق. ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى وتمضي في طريقها الموعود، إلى الأمل المنشود .. في صبر وفي تقوى .. وفي عزم أكيد (1) ..
-ومن خلال الآيات الكريمة والأحاديث النبوية فإننا نتبين وظائف الابتلاء ونتائجه التالية:
أ/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الزَّرْعِ لاَ تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ بَلاءٌ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ لاَ تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ، يَفِىءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا، فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ » (3) .
خامة: الخامات من النبات: الغضَّةُ الرطبة اللينة .
تُفيئها: أي تُميلها كذا وكذا، حتى ترجع من جانب إلى جانب.
كالأرَزَةِ: بفتح الراء: شجرةُ الأرزِن، وهو خشب معروف، وبسكونها: شجرة الصنوبر، والصنوبر: ثمرها.
يقصِمُها: القَصْمُ: الكسر، يقال: قَصَمْتُ الشيء قَصمًا: كسرته حتى يبين وينفصل .
تستحصد: الاستحصاد: التهيؤ للحصد، وهو القطع.
صماء: الصماء المكتنزة التي لا تخلخل فيها (4) .
وهذا الحديث يكشف عن وظيفة الابتلاء البنائية بالنسبة للجماعة المسلمة، فإن تعرض الزرع للحركة الدائمة يكسبه قدرة على الثبات أمام الأعاصير، في حين أن الأرزة التي لا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 539)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (11 / 20)(30981) وصحيح مسلم- المكنز - (7270 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7466 )
(4) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (1 / 272)(1/193)
تحركها الرياح العادية فإنها تتحطم وكذلك الدعاة فإن لديهم قوة احتمال على مواجهة الصعاب لكثرة إجراء الابتلاء عليهم .
ب/ الابتلاء يعمل على اصطفاء العناصر القوية الصالحة .
ج/ الابتلاء يكشف عن صدق الصادقين وحقيقة انتسابهم للإيمان .
د/ الابتلاء يربط بين المؤمنين بعضهم ببعض برباط عقلي وعاطفي .
هـ/ الابتلاء يقدم الدليل القوي على جدارة الدعوة .
و/ إذا علم المؤمن أنه سيبتلى فإنه يكون دائما على حذر وخوف من الله.وهذا يدعوه إلى إحسان العمل والحرص على توافر شروط النصر، والبعد عن أسباب الهزيمة من المعصية والعجز والتواكل .
ز/ الابتلاء يحقق الإخلاص في نفس المؤمن (1) .
9/ مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته :
أ/ فليبدأ بالقريب قبل البعيد، وهؤلاء الأقربون معروفون عند الداعية، ولا يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم، وهم يعرفونه ولا داعي لكثير من المقدمات، وهم يعتبون عليه إذا أهملهم وذهب إلى الأبعدين، وهو يعيش بينهم، فهم العين الساهرة في الخير والشر .
ب/ وليبدأ بالصغير قبل الكبير , وذلك لأن الصغير لم يصلب عوده على فكر معين أو سلوك معين والتعامل معه أسهل من التعامل مع الكبير الذي اختار طريقه.ولا يعني هذا إهمال الكبار وإنما يعني الاهتمام أكثر بالصغار، والناشئة هم مستقبل الأمة .
ج/ وليبدأ بالمتواضع قبل المتكبر، لأن التواضع يدلُّ على إمكان قبول الحق، في حين أن التكبر يدلُّ على سفه الحق وغمط الناس .
د/ وليبدأ بالمثقف قبل الأمي .
__________
(1) - انظر كتابي (( الخلاصة في فقه الابتلاء ))(1/194)
هـ/ وليبدأ بغير المنتمي قبل المنتمي، لأن غير المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات، وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلى الطرف الآخر، والجهد المطلوب لنقله إلى مركز التأثر أضعاف الجهد المطلوب لغير المنتمي .
و/ وليبدأ بزميله في العمل أو المهنة قبل غيره لأن أفراد كل مهنة بينهم تعاون تلقائي.ومجالات الحديث بينهم مهيأة، ونقاط الاشتراك كثيرة .
ز/ والمفروض أن يراعي التخير وفقا للمرحلة التي تمر فيها الدعوة، وفي كل مرحلة تراعى مقتضياتها ويكون التخير وفق هذه المقتضيات.وقد نفهم ما جاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (1) . على ضوء المرحلة التي كانت تمر فيها الدعوة في مكة.فقد انتشرت الدعوة بين الضعفاء والفقراء ووصلت مرحلة تريد أن تعلن فيها عن نفسها، وشخصيةٌ كشخصية عمر تناسب المرحلة الجديدة.وهذا ما حدث يوم أن دخل عمر - رضي الله عنه - في دين الله، فعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ (2) .
فقد دخلت الدعوة طورا جديدا هوطور العلن بعد السرِّ ... وهكذا فإن توجيه الدعوة إلى بعض مراكز القوة في المجتمع يسهم في الإسراع في عملية التغيير وقد يغير كثيرا في المعادلة لصالح الدعوة .
10/ الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة :
أ/ أول ما يجب أن نعلمه أن الواقع الذي نتعامل معه واقع غير إسلامي، وأنه تشكل بفعل عوامل كثيرة، معظمها نشأ بفعل مؤثرات مادية إلحادية أوفاسدة، وقد سيطر هذا الواقع على أفراد المجتمع .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 444)(5696) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3684 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 304)(6880)(1/195)
ب/ إن أية كلمة يقولها الداعية لا تذهب هباء منثورا، وإنما تدخل في مكونات المدعو، ويختزنها عقله وتتراكم مع خبراته الخيرة، وقد يظهر أثر كلمة قيلت قبل سنوات بفعل موقف محرك أدى إلى استرجاع تلك الخبرة .
ج/ وإن اختيار زمن الدعوة أمر في غاية الأهمية، وهناك أوقات يخلو المرء فيها مع نفسه، ولا يكون مستعدا فيها لتقبل الأفكار.وإن الدعوة تتأثر بالجو العام والظرف الذي يمر فيه الداعية والمدعو، ولهذا فإن على الداعية أن يختار أنسب الأوقات التي لا إحراج فيها ولا مشقة .
د/ ولا ينبغي أن يطيل الداعية على المدعو، لأنه قد يضجر ويمل .
هـ/ لا بد من الانتباه إلى أن الاستعجال على المدعو قد يؤدي إلى نتيجة سيئة .
و/ وإن إدخال الزمن كعنصر من عناصر الدعوة يخفف من حدة الدعاة، ويقف أمام اليأس الذي يعتري الدعاة أحياناً، ويفتح لهم باب الأمل، وذلك عندما يفقهون دور الزمن .وإن الطبيب لا يقول للمريض: خذ العلاج جرعة واحدة، ولكن يقول له: خذه على جرعات وفي خلال مدة معينة من الزمن .
11/ الدعوة فن وقيادة وهي تقوم على التخطيط والمتابعة :
- يظن كثير من الدعاة أن الدعوة تقوم على قول الكلمة الخيرة في أي وقت وفي أي مكان، وأنها تسير بطريق عشوائي يستوي فيه الدعاة على اختلاف إمكانياتهم .
- التخطيط الواعي هو الذي ينقل الدعوة إلى الإطار الفني المنتج، والتخطيط هو التصور النظري لسير الدعوة، وكلما طال التخطيط واستوعب عناصره أدى إلى النتيجة المتوقعة بعون الله - تعالى - وبعد الاتكال عليه.إن على الدعاة أن يتجهوا نحوالتخطيط للدعوة، والخطة الواعية رأسها الأهداف، وجسمها الوسائل، والربط بين الأهداف والوسائل عن طريق الأساليب، ومادتها الإمكانيات البشرية والمادية والمعنوية، وموجهها المتابعة والتقييم، وثمراتها ظهور الأهداف على شكل نتائج ملموسة .
- هنالك نوعان من الأهداف :
الأول: الهدف الأكبر، الذي هو الثمرة الرئيسية .(1/196)
الثاني: الأهداف المرتبطة بأزمنة محدودة أو أمكنة معينة أو أفراد معينين أو تسعى لتحقيق الوسائل وتوفيرها .
وأما الوسائل فمنها المباشر ومنها غير المباشر، ولكل هدف جزئي وسائله الخاصة.والوسائل الخاصة تستخدم بأشكال مختلفة وأساليب عدة، والأسلوب الأفضل يعطي من الوسيلة كفاءة أكبر واختيار الأسلوب المناسب عامل كبير في نجاح العمل .
جمع المعلومات أساس الخطة :
ولما كانت الخطة تصورا عن عمل في مكان خاص وزمان محدود، وأناس محدودين كان لابد من جمع المعلومات عن البيئة سواء كانت اقتصادية أواجتماعية أوسياسية أومناخية أوطبيعية أوفكرية، ولابد من معرفة مراكز القوة والضعف.ولابد من التعرف على العوائق والحوافز، وبذلك تكون الدعوة إلى الله على بصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
الزمن عنصر فعال في الخطة :
والزمن عنصر فعال في الخطة يدلُّ على مدى النجاح أوالفشل، فما يحتاج إلى يوم واحد لا ينبغي أن يصرف فيه شهر، وما يحتاج شهرا من الزمن لا ينبغي الإسراع في إنجازه في يوم أو أسبوع .
والمراجعة والتقييم بعد انتهاء مدة الخطة تساعد على معرفة الممكن من غير الممكن، والسهل من الصعب والمراجعة تقدم هدفا أو تؤخره وتحكم على فعالية الوسائل أو عدم فعاليتها، وتكشف عن جدوى الأساليب أوعدم جدواها .
العين الساهرة ( المتابعة ) :
والمتابعة: عين ساهرة وأذن صاغية ويد مؤيدة، والخطة القوية قد تفشل بلا متابعة والخطة الضعيفة قد تنجح مع المتابعة المستمرة.والداعية الناجح صاحب مبادرة وبديهة حاضرة وقدرة على التصرف في أسوأ الظروف، وقبل أن يفاجأ بالمواقف الصعبة فإنه يفترضها، ويتصورها، ويلتمس لها الحلول، وهكذا فإنه يستعين بالموقف الوهمي الذي افترضه سابقا على الموقف المفاجىء .(1/197)
12/ الدعوة صورة أكيدة من صور الجهاد ومقدَّمة على القتال :
- لم تعد كلمة الجهاد تعطي المدلولات التي فهمها الصحابة والتابعون، والتي جاء بها القرآن الكريم والسنة الشريفة، إذ أنها تعني في عرف بعض الدعاة القتال ! وأنه لا جهاد بدون قتال ! ونتيجة لهذا الفهم فقد ظهر في العالم الإسلامي أناس يريدون القتال ولولم يحن وقته وتستكمل عدته، شعورا منهم بأن الإثم يطاردهم وهم لا يقاتلون !
إن الجهاد استفراغ الوسع في محاربة الأعداء في الداخل والخارج، وليس الهدف منه هو القضاء على العدو، وإنما هو القضاء على أسباب العداوة والخصومة، فالكفر سبب العداوة بين المؤمن والكافر، والنفاق سبب العداوة بين المؤمن والمنافق.ونرى أن الدعوة مقدمة على غيرها، وهي الوسيلة الأولى لكسب الأنصار ولتحويل الكفار إلى مؤمنين .
- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة تجلب كل يوم أنصارا للإسلام.وكلما أقبل فرد على هذه الدعوة سقط مكوّن من مكوّنات الجاهلية، وهكذا فإن الجاهلية في مكة كان لها كل يوم حديث عن تحول رجل أو امرأة من ساحة الشرك إلى ساحة الإيمان، ومن جند الشيطان إلى جند الرحمن .
- إن الغزوالفكري الذي داهم بلاد المسلمين قد استحوذ على جمهرة كبيرة من أبنائها، وسقط هؤلاء الأبناء صرعى في معركة فكرية كانت في غيبة الدعاة غير متكافئة.وما خسرناه عن طريق الفكر أكثر مما خسرناه عن طريق معارك المواجهة وما نسترده عن طريق الفكر بعد هذه الصحوة واليقظة أكثر مما نسترده عن طريق المواجهة .
- إن الفرار من المجتمع أو العزلة عنه أسلوب يدلُّ على ضيق الأفق ويكشف عن جهل بأوليات الدعوة، ويدلُّ أيضا على اليأس من المجتمع، وعلى فشل الداعية في الإصلاح، وإن أعداء الفكرة الإسلامية يطمعون في إيصال الداعية إلى مثل هذه القناعات، وإن خطر هذه الأفكار أعظم على الدعوة من خطر أعدائها !
والمقصود بالعزلة هنا المادية وترك الدعوة إلى الله تعالى، أما العزلة الشعورية فواجبة على كل مؤمن يعيش في مجتمع لا يتحاكم إلى الإسلام عقيدة وعبادة ومنهج حياة ,(1/198)
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} (48) سورة مريم
وقال تعالى :{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} سورة الكافرون
لقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق.
إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر .. ولا يلتقيان .. التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى اللّه وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود. هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي اللّه، اللّه وحده بلا شريك. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس. غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية .. وهي تسير ..
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية. وضرورية للمدعوين ..
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها. وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف. أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا. ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد .. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة! إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام. والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.(1/199)
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصورا ومنهجا وعملا. الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق. والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.
لا ترقيع. ولا أنصاف حلول. ولا التقاء في منتصف الطريق .. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادعت هذا العنوان! وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس. شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء. لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريقه. لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير! وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح .. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم .. ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة، ثم طال عليهم الأمد «فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .. وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج .. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية. والتميز الكامل عن الجاهلية .. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» .. وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته .. كلها من اللّه .. دون شريك .. كلها .. في كل نواحي الحياة والسلوك.
وبغير هذه المفاصلة. سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع .. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة. إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح ..
وهذا هو طريق الدعوة الأول: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3992)(1/200)
- لا مناص من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة في حالة اختلاط الصالحين بغيرهم والمسلمين بغيرهم، وإن استخدام القوة مؤداه خطر على الدعوة والدعاة للأسباب الآتية :
• ستتعرض فئات المجتمع لألوان البطش والإرهاب وسيذهب البريء مع غيره.
• ستغيب الدعوة بالحكمة والموعظة والكلمة، ولن يعود هناك من وسيلة للتفاهم سوى القوة .
• سيترك الدعاة أماكن التأثير في المجتمع إلى المغاور والكهوف والأماكن النائية.
• ستنفرد الأفكار المعادية في تربية المجتمع وتوجيهه .
• سيواجه الإسلام بالدعاية المضادة، وأن رجاله لا يفهمون سوى لغة القوة والبطش .
• ستخسر الدعوة من رجالها من يصعب تعويضه وسد العجز الناشئ عن فقده .
• سيقف هذا الأمر مانعا من لحاق كثير من الناس بركب الدعوة؛ لأن الناس يفهمون عندها أن الدعوة ليس لها هدف عميق صبور طموح يعمل - بإذن الله - على إيصال المجتمع إلى قبول الإسلام، وإنما يسود التصور القائل بأن المسلم يريد أن يموت في سبيل الله، وليست لديه خطة واعية ناشطة للوقوف في وجه الفتن التي ستبقى تلاحق أبناءه وأقرباءه وجيرانه.وعندما لا يضع المسلم في حسبانه مقارنة قوته بقوة أعدائه فإنه يحوِّل العمل للإسلام إلى ضرب من الانتحار ويظنه في سبيل الله !!
- لا شك أن للواقع الذي يعيشه المسلمون تأثيرا كبيرا على فكرهم وممارستهم، وأحيانا يصل ضغط هذا الواقع إلى درجة يفقد المسلم معها قدرته على تصور الخط المنهجي، ويتساءل: إلى متى نبقى تحت وطأة المعاناة ؟ فيقول: أليس هنالك شئ غير الصبر والمصابرة ؟ وعندها يجيب المتحمسون على هذا السؤال بطلب المواجهة والانتقام ولو على حساب الدعوة ! والقرآن الكريم يحذرنا من هذا التفكير .
- وقد يبلغ تيار الحماس من الشدة إلى درجة ينساق المربي والموجه والمفكر في هذا التيار، ويفقد هؤلاء قدرتهم على السيطرة والقيادة، وهذه مجاراة خطرة، وكما تكون مجاراة أهل المعاصي في معصيتهم فإن مجاراة المتعجلين خطرة، وهكذا يكون التعجل والتنازل عن خط(1/201)
الدعوة المثمر كبيرة من الكبائر، بالرغم مما قد يوصف به الموجه من العجز والضعف.وإن الموجه الذي آتاه الله بصيرة ومعرفة مسئول عن نتائج التعجل أكثر من المتعجلين .
الحل الصحيح :
- إن ضغط الواقع ينبغي أن لا يسوق إلى الحل الخطأ ومهما طال انتظار الحل الصحيح فإن هذا هو الصواب وطول الزمن لا يفقد الحق أحقيته، وقصر الزمن لا يعطي الخطأ صفة الصواب .
- إن الحل الصحيح يكمن في الدعوة مع المعاناة، والصبر على طول الطريق والتمركز في المجتمع والتماس أسباب القوة والبحث عن هذه الأسباب في كل مجتمعات الأرض، وهو جهد لا يعرف الكلل ولا الملل، وعندئذ تقوم القاعدة الصلبة التي يبدأ منها طريق الحل الشامل .
- إن أعداء الإسلام يطمعون في أن تخرج الجماعة المؤمنة عن خطها فتستعجل النصر، وتحاول قطف الثمرة قبل أوانها .،والشواهد كثيرة على عمليات الاستدراج التي تنتهي بالبطش والتنكيل بالعاملين للإسلام، إلى جانب النتائج السلبية التي يتركها التعجل على الجماعة وأنصارها وخططها ومستقبلها !
قلت: وهذا كله إذا كان طريق الدعوة السلمية مفتوحاً، ومتاحاً للدعاة، أما إذا أوصد الطريق، وكمت الأفواه، وفُرضَ الكفر بالقوة ،فلا مناص من المواجهة المدروسة الواعية المنضبطة، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَا كَانَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانَ لَهُ حَوَارِيُّونَ يُهْدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ أَقْوَامٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُنْكِرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ (1) .
وهناك فرق كبير بين مجتمع إسلامي يراد سلخه من الإسلام بكل وسائل البطش المادية والمعنوية، وبين مجتمع غير إسلامي، فلا شك أن هذا الثاني تنطبق عليه الأحكام السابقة
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (188 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 73)(6193)(1/202)
بلا ريب، وأما المجتمع الإسلامي، فإن الأمر يختلف فيه تماماً، فمن برفض التحاكم إلى الإسلام عقيدة عبادة وشريعة منهج حياة فهذا ليس بمسلم، ولا يجوز بحال أن يلي أمر المسلمين، ولا تجوز طاعته بحال، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، سَمِعَهُ مِنْ جَدِّهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ .وَعُبَادَةُ نَقِيبٌ، وَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَلاَ نُنَازِعُ الأَمْرَ أَهْلَهُ، ونَقُولُ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.مَا لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا (1) .
قوله: "عندكم من الله فيه برهان" أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم انتهى. وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا والله أعلم. ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه (2) .
13/ الدعوة سلعة شريفة لا تباع بالأعراض الدنيوية :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7055و7056) وصحيح مسلم- المكنز - (4877 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 540) (22679) 23055-
(2) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر - (13 / 8)(1/203)
- الداعية يعمل بمقتضى تكليف الله - سبحانه وتعالى -، ويأخذ أجره كاملا من الله - تعالى -.ووظيفة الدعوة ليست من جنس الوظائف الدنيوية فهي أسمى وأشق، ووظيفة فيها مثل هذا الجهد لا تعادلها الدنيا كلها .
- لقد كان كل نبي من أنبياء الله الكرام يؤكد هذا المبدأ قائلا: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (51) سورة هود.
والأجر الذي ينبغي أن يتنزه عنه الداعية لا يقتصر على المال، وإنما يشمل كل منفعة سببها الدعوة، وينبغي أن لا ينتظر من الناس كلمة الشكر ولا إسداء المعروف، وكل الذي يريده من المعروف أن تصل الدعوة إلى قلوب الخلق.
- والتأكيد على عدم طلب الأجر له فوائد وحكم :
أولاً: قد يظن المدعوون أن الداعية إنما شرع في الدعوة كي يتوصل بالدعوة إلى الرزق والاكتساب .
ثانياً: تعودت الشعوب أن تتعامل مع المشعوذين والدجالين من الكهنة الذين يتوصلون بالدين إلى الدنيا وملذاتها، فجاء التأكيد على أن هذه الدعوة نقية أصيلة لا يبتغي أهلها عرضا من أعراض الدنيا يتوصلون إليه بسببها .
ثالثاً: كل عمل مأجور قد يعتريه النقص والخلل، وصاحبه يسير به حسب مقدار الأجر.ودين الله أكرم من أن يربط بمتاع الدنيا وتقلبه، ومن هنا فالعمل للدعوة مرتبط بالإخلاص .
رابعاً: والعمل المأجور يتأثر بمن يدفع الأجر وإرادته تتدخل في العمل، وقد عرفت الدعوات نمطا من الناس غيروا وبدلوا تحت ضغط الأجر الدنيوي .
خامساً: وإذا عرف الناس أن الداعية لا يلتمس منفعة دنيوية فإنهم يتبنون صدق الداعية في دعوته وينجذبون إلى الدعوة. ومن لوازم غنى الداعية عن الناس أن يكون ذا كسب من تجارة أوزراعة أوعمل أوحرفة .
- ومما يجب أن يلتفت إليه أن الوظائف التي يحبس عليها صاحبها كالتعليم والإمامة والخطابة إنما يأخذ صاحبها الأجر لكونه مشغولاً بها عن الاحتراف والاكتساب وهذا(1/204)
جائز شرعا، ويدخل في ذلك أيضا مسؤولية الإمامة العامة وولاية القضاء وكل ما كان من جنس هذه الأعمال وكان الداعية محبوسا عليها .
14/ التعرف على المدعو عامل أساسي في كسبه :
- أول ما ينبغي معرفته أسماء المدعوين وكناهم وألقابهم، وأن يخاطبهم الداعية بأحب الأسماء إليهم وأن يتجنب ما يسوؤهم من الألقاب والكنى .
- إن معرفة ما يحبه المدعو وما يكرهه تجعل الداعية فقيها بلغة المدعو الخاصة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ، فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي ؟ فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِيِّ، فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: سَبَقْتَنِي، قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ " فَقَالَ: " اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ "، قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا، وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ "، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: " حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا "، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ "، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ ؟ " قَالُوا: قَدْ(1/205)
كَانَ ذَاكَ، قَالَ: " كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ "، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ، مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ "، قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ، قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ .." (1) .
وإذا بزعيم مكة الذي خرج للدفاع عن قاعدة الشرك يرجع ليحولها قاعدة للإسلام .
- الداعية الناجح يتعرف على أحوال الناس وأوضاعهم، ولا تغيب عنه كثير من أمورهم الفكرية والاجتماعية والنفسية، ويعرف متى يكون المدعو مشغولا ومتى يكون خاليا، وهذه المعرفة تأتي من خلال المعايشة والنشاط الاجتماعي، فالداعية لا يضيع أية فرصة يمكنه من خلالها التعرف على المدعوين .
- ومن جوانب المعرفة الضرورية والمفيدة معرفة أوضاع المدعو الاقتصادية، فإن كان فقيرا معوزا كانت مساعدته من أهم القضايا التي تهم الداعية، وإن كان مريضا كانت مواساته وإرشاده إلى الطبيب الماهر الخلوق من وظائف الداعية .
- حضور الداعية في المناسبات والأفراح والأتراح والأعياد يفتح له ميادين للدعوة، ويقدم له فرصا طبيعية للاتصال بالناس وكسب ودِّهم.وكم من سؤال عن الولد المريض جعل الوالد يفتح قلبه ويلقي بسمعه ويمد يده ! وكم من همسة تهنئة بولد رزقه أوفوز حققه كانت سببا في تحويل اتجاه وتبديل قرار! ولا يعدم الداعية البصير من وسائل كثيرة تساعده على كسب القلوب وتكثير الأنصار.
15/ المعاصرة ومعرفة البيئة العامة من أسباب نجاح الدعوة :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4722 )(1/206)
- من الضروري أن يتعرف الداعية على البيئة العامة: الاجتماعية والاقتصادية والسكانية والسياسية.والداعية الأوسع اطلاعا هو الأقوى أثراً في الغالب، ولما كان الداعية يقوم بدور قيادي في المجتمع، فإن أفراد هذا المجتمع يتوقعون أن يجدوا عند الداعية ثقافة واسعة، ومعارف متنوعة على المستوى المحلي والعالمي.ومما لاشك فيه أن كل بيئة لها مميزاتها ومتطلباتها، فالبيئة الصحراوية غير البيئة القروية، والبيئة القروية غير البيئة الحضرية، والبيئة التجارية غير الصناعية والزراعية .
- الداعية يعيش في عالم تتصارع فيه الأفكار والتيارات والفلسفات، والأفكار فيه سريعة التقلب والتغير والعالم الإسلامي يتلقى عن الغرب والشرق بلا احتراس، وفي نهاية المطاف يجد الداعية نفسه أمام هذه الأفكار.وما كان يمكن تجاهله في عصر صعوبة الحركة والانتقال، أصبح لا يمكن تجاهله في عصر المحطات الفضائية والأقمار الصناعية .
- الداعية يعيش في عصر المخترعات العلمية المتطورة، ومنها ما يفيده في دعوته ومنها ما يعوق دعوته.والداعية الناجح يكتسب من مخترعات عصره ما ينفعه، ويتقي ما يضره .
- لا يقف الداعية مكتوف اليدين أمام الطبيعة، بل يعتبرها مسخرة من الله - تعالى - لخدمته ولنصرة دعوته، وهذه النصرة لا تأتي إلا بعد معرفة هذه الطبيعة عن كثب من حيث بحارها وأنهارها وسهولها وجبالها، وترابها وماؤها وحرها وبردها.{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }(12) سورة النحل .
- - - - - - - - - - - -(1/207)
المبحث العشرون
الخلاصة في فقه الأولويات
ومن العلوم التي لا بد للداعية من معرفتها والإلمام بها: فقه الأولويات (1)
تعريفه :
وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدم الأولى فالأولى بناءً على معايير ( موازين ) شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي ونور العقل: " نور على نور "، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم ولا المرجوح على الراجح، بل يقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير ولا يصغر الكبير ،بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا إخسار .
فالقيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتاً بليغاً، وليست كلها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى، والفاضل والمفضول .
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تدلُّ على تفاوت في الدرجات في الأحكام والأمور، منها :
1- قال الله - تعالى - في سورة التوبة: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (19) سورة التوبة.
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. (2)
__________
(1) - انظر كتاب فقه الأولويات للدكتور يوسف القرضاوي
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 420) (191) صحيح(1/208)
3- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ». قَالُوا وَكَيْفَ قَالَ « كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا » (1) ..
وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بيّنت تفاوتها عند الله - تعالى - من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحياناً بعض النسب بين بعضها وبعض، فمثلاً :
1- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً (2) ..
2- عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ. (3) .
3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟ فَقَالَ: هُمُ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ، أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا (4) .
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَسْوَأُ النَّاسِ سَرَقَةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ ؟ قَالَ: لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا، وَلاَ سُجُودَهَا (5) ..
4- قال الله - تعالى -: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
__________
(1) - سنن النسائي- المكنز - (2539) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 334)(21957) 22303- صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (8 / 42) (3250) صحيح
شح هالع : الشح :أشد البخل، والهلع : أشد الجزع، والمراد : أن الشحيح يجزع جزعا شديدا، ويحزن على درهم يفوته، أو يخرج عن يده ، وهذا من باب قولهم : «ليل نائم، ويوم عاصف» أي : ينام فيه، وتعصف فيه الريح، ويحتمل أن يكون قال : «هالع» لمكان «خالع للازدواج» و«الخالع» : الذي كأنه خلع فؤاده لشدة خوفه وفزعه.
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 370)(8822) 8808- صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (5 / 209) (1888) صحيح(1/209)
6- قال الله - تعالى -: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) }[فاطر: 19 - 22] .
ولونظرنا في حال المجتمعات اليوم لوجدنا أن الأولويات غير مرتبة، فنرى - مثلاً - أن الناس يمدحون أهل الرياضة والرقص أكثر من مدحهم أهل العلوم المختلفة .وحتى بعض الملتزمين بالدين لا يلتزمون بهذا النوع من الفقه ... فنرى البعض يهتم ببناء المساجد في أماكن فيها مساجد أصلا بدل اهتمامه ببناء المؤسسات التعليمية من جامعات ومعاهد وغيرها، ونرى البعض الآخر يهتم بأداء فريضة الحج كل عام بينما باستطاعته حج الفريضة مرة أو اثنتين أو ثلاثة ... وإنفاق الباقي على المشاريع الخيرية والدعوية والإنسانية !
حتى بعض المسلمين يسيرون بين الناس ويقيمون معارك يومية يحمى وطيسها من أجل مسائل جزئية أو خلافية، مهملين أصول الإسلام الكبرى، فبعضهم وجدوا أكبر همهم في: الساعة أين تلبس، أفي اليد اليمنى أم في اليسرى ؟!!
ولبس الثوب الأبيض بدل ( القميص والبنطال ( السروال ) ): واجب أم سنة ؟!!
والأكل على المنضدة والجلوس على الكرسي للطعام واستخدام الملعقة والشوكة: هل يدخل في التشبه بالكفار أولا ؟؟!! وغيرها من المسائل التي تأكل الأوقات وتمزق الجماعات وتخلق الحزازات وتضيع الجهود ... وبعض الفتيان الملتزمين والمتعبدين يعاملون آباءهم بقسوة وأمهاتهم بغلظة وإخوانهم وأخواتهم بعنف، وحجتهم أنهم عصاة أو منحرفون عن الدين ! ناسين أن الله - تعالى - أوصى بالوالدين إحساناً، وإن كانا مشركين يجاهدان ولدهما على الشرك، ويحاولان بكل جهدهما فتنته عن إسلامه: قال الله -تعالى-: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (15) سورة لقمان.
ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط ولا زال قائماً إلى اليوم :(1/210)
1- أنهم أهملوا - إلى حد كبير - فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة: كالتفوق العلمي والصناعي والحربي، الذي يجعل الأمة مالكة لأمر نفسها وسيادتها حقاً وفعلاً، لا دعوى وقولاً، ومثل الاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، ومثل نشر الدعوة إلى الإسلام ..!
2- وأهملوا بعض الفرائض العينية أوأعطوها دون قيمتها، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !
بل تركوا الجهاد في سبيل الله، وهو فرض عين على كل مسلم في حال الاعتداء على المسلمين .
3- واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا وُجٍد من المسلمين والمسلمات من يتكاسل عن الصلاة، ووجد من ينقضي عمره دون أن ينحني لله راكعاً ساجداً، كما أن أكثر الناس اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله - تعالى - قرن بينهما في كتابه الكريم في ( 28 ) موضعاً ! {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة البقرة
4- واهتموا ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات، كما هو ملاحظ عند كثير من المتدينين الذين أكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض وخصوصاً الاجتماعية مثل: بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان بالجار، الرحمة بالضعفاء، رعاية اليتامى والمساكين ..!
5- واهتموا بالعبادات الفردية كالصلاة والذكر أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، كالفقه والإصلاح بين الناس والجهاد الواعي، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر والمرحمة، والدعوة إلى العدل والشورى، ورعاية حقوق الإنسان عامة والإنسان الضعيف خاصة !
6- واهتم كثير من الناس بفروع الأعمال وأهملوا الأصول، مع أن الأقدمين قالوا: من ضيَّع الأصول حُرٍمَ الوصول.كما أغفلوا أصل البناء كله وهو العقيدة والإيمان وإخلاص الدين لله !(1/211)
7- ومما وقع فيه الخلل والاضطراب: اشتغال كثير من الناس بتغيير المكروهات أو الشبهات، أكثر مما اشتغلوا بتغيير المحرمات المنتشرة أو الواجبات المضيعة، ومثل ذلك: الاشتغال بما اختلف في حله وحرمته عما هو مقطوع بتحريمه، وهناك أناس مولعون بهذه الخلافيات مثل مسائل التصوير والغناء والنقاب ونحوها، وكأنما لا همَّ لهم إلا إدارة المعارك الملتهبة حولها، ومحاولة سَوْق الناس قسراً إلى رأيهم فيها، في حين هم غافلون عن القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة ومصيرها وبقائها على الخريطة !
ارتباط فقه الأولويات بغيره من أنواع الفقه :
يرتبط فقه الأولويات بأنواع أخرى من أنوع الفقه: منها :
1- فقه الموازنات
ومنها :
أ - الموازنات بين المصالح بعضها ببعض، فقد رأينا في صلح الحديبية مثلاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - - يُغَلٍّب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية على المصالح والاعتبارات الشكلية التي يتشبث بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يُظَنّ - لأول وهلة - أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة أو رضا بالدون ورضي - عليه الصلاة والسلام - أن تحذف البسملة المعهودة من وثيقة الصلح، ويكتب بدلها: باسمك اللهم، ورضي أن يحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم: محمد رسول الله، ويُكتَفى باسم محمد بن عبد الله، وذلك ليكسب من وراء ذلك الهدنة التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة ومخاطبة ملوك العالم، ولا غرو ولا عجب أن سماها القرآن: " فتحاً مبيناً " ..والأمثلة على ذلك كثيرة .
ب- الموازنات بين المفاسد أو المضار بعضها ببعض، فالمفاسد أو المضار متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها وقد وضع الفقهاء جملة قواعد ضابطة لذلك، منها: لا ضرر ولا ضرار، الضرر يزال بقدر الإمكان، الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، يُرتكب أخف الضررين وأهون الشرّين، يُتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام .(1/212)
ج- الموازنات بين المصالح والمفاسد عند التعارض.فإذا اجتمع في أمر من الأمور مصلحة ومفسدة، أو مضرة ومنفعة، فلا بد من الموازنة بينهما، والعبرة للأغلب والأكثر، فإن للأكثر حكم الكل.فإذا كانت المفسدة أكثر وأغلب على الأمر من المنفعة أو المصلحة التي فيه، وجب منعه لغلبة مفسدته، ولم تُعتبر المنفعة القليلة الموجودة فيه.وهذا ما ذكره القرآن في قضية الخمر والميسر في إجابته عن السائلين عنهما: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (219) سورة البقرة. وبالعكس: إذا كانت المنفعة هي الأكبر والأغلب، فيُجاز الأمر ويشرع، وتهدر المفسدة القليلة الموجودة به.ومن القواعد المهمة هنا: أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، ويكمل هذه قاعدة أخرى، وهي: أن المفسدة الصغيرة تُغْتَفر من أجل المصلحة الكبيرة، وتُغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة، ولا تُترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة .
2- فقه المقاصد:
أي: مقاصد النصوص الواردة وروحها وجوهرها، فمن المتفق عليه أن أحكام الشريعة في مجموعها معلَّلة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدف الشرع إلى تحقيقها، فإن من أسماء الله - تعالى - " الحكيم " الذي تكرر في القرآن الكريم بضعاً وتسعين مرة، والحكيم لا يشرع شيئاً عبثاً ولا اعتباطاً، كما لا يخلق شيئاً باطلاً - سبحانه - .
وحتى التعبديات المحضة في الشرع لها مقاصدها، ولهذا علّل القرآن العبادات ذاتها، فالصلاة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (45) سورة العنكبوت، والزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103) سورة التوبة، والصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة، والحج: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ(1/213)
لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) } سورة الحج.
ومن حسن الفقه في دين الله أن ندرك مقصود الشرع من التكليف، حتى نعمل على تحقيقه، وحتى لا نشدد على أنفسنا وعلى الناس فيما لا يتصل بمقاصد الشرع وأهدافه .فلا مبرر للتشديد في ضرورة إخراج صدقة الفطر من الأطعمة في كل البيئات في عصرنا، فليست هي مقصودة لذاتها، إنما المقصود إغناء الفقير في هذا اليوم الأغرّ عن السؤال .ولا معنى كذلك للتشديد في رمي الجمار في الحج قبل الزوال حتى وإن ترتب على ذلك شدة الزحام وموت المئات تحت الأقدام كما حدث في مواسم حج ماضية !
فليس في الشرع ما يدل على أن هذا أمر مقصود لذاته، بل المقصود هو ذكر الله - تعالى -، والمطلوب هو التيسير ورفع الحرج .
ومن المهم هنا التفريق بين المقاصد الثابتة للشريعة والوسائل المتغيرة، فنكون في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير !
3- فقه النصوص نصوص الشريعة الجزئية :
بحيث يربط بينها وبين المقاصد الكلية والقواعد العامة، فتُرد الجزئيات إلى كلياتها والفروع إلى أصولها. ومن الضروري هنا: التمييز بين القطعي والظني من النصوص، وبين المحكم والمتشابه منها، وفهم الظني في ضوء القطعي، والمتشابه في ضوء المحكم.وألزم ما يكون هذا الفقه بالنسبة للسنَّة النبوية، فهي التي كثيراً ما يقع الخلط في فهمها أكثر من القرآن، نظراً لتعرضها للتفصيلات، ودخولها في الكثير من الجزئيات والتطبيقات، ولأن فيها ما هو للتشريع وهو الأصل، وما ليس للتشريع كحديث تأبير النخل وما على شاكلته .
قلت: لا يوجد إلا هذا الحديث الفرد فقط والذي يتشبث به دعاة الهزيمة والانحلال، والباقي كله تشريع إلا ما ورد تخصيصه به - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه التفرقة باطلة لا أصل لها، فلو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعل فعلاً وسكت عنه الوحي فهو تشريع بلا ريب ،خاضع للأحكام التكليفية الخمسة.(1/214)
وفي الموسوعة الفقهية: " وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لاَ تَقِل خَطَرًا عَنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَقُول: إِنَّنَا نَقْبَل السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِل بِالْعِبَادَاتِ، أَمَّا مَا يَتَّصِل بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا، وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ، وَهِيَ حَادِثَةُ تَأْبِيرِ النَّخْل ،فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْوَاتًا فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: لَوْ تَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ لَصَلُحَ فَتَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا: تَرَكُوهُ لِمَا قُلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ (1) .
هَذَا الْخَبَرُ إِنْ دَل عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُل عَلَى أَنَّ الأُْمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لاَ صِلَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلاً أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، بَل هِيَ مِنْ الأُْمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ، لاَ تَدْخُل تَحْتَ مُهِمَّةِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - كَمُبَلِّغٍ عَنْ رَبِّهِ، بَل هَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ مِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى أَنَّ الأُْمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لاَ عَلاَقَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُل الْجَهْدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الأَْصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَنْ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ هَذَا حَلاَلٌ أَوْ حَرَامٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنْ صُلْبِ وَظِيفَةِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ فِي كُل مَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ (2) .
ومنهم من قال هو غير معصوم لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، ووقع الإجماعُ على عدم الإقرار بالخطأ مطلقًا (3) , سواءً كانت دنوية أو دينيّة، ومما يدل على ذلك آيات عتابه - - صلى الله عليه وسلم - , مما يدل على حصول الاجتهاد منه - - صلى الله عليه وسلم - , ووقوع الخطأ، وأنه - - صلى الله عليه وسلم - لم يقرّ عليه.
ومن ذلك أيضاً: حديث عائشة ل، قالت: دخل عليّ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - , وعندي امرأةٌ من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تُفْتَنُون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: "إنما تُفْتَنُ يهود". قالت عائشة: فلبثنا لياليَ، ثم قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - : "هل
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 392)(12544) 12572- صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (1 / 45)
(3) - المسوّدة لآل تيمية (79، 190) .(1/215)
شعرتِ أنه أُوحِىَ إليَّ أنّكم تُفتنون في القبور؟". قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ يستعيذُ من عذاب القبر. (1)
قال العلماء (2) : " إن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - نفى فتنة القبر أوّلًا عن أهل التوحيد، اجتهادًا منه، لمّا وجد أماراتٍ تدلُّ على أن عذاب القبر خاصٌّ بالكفار. ثمّ أُوحي إليه بأن من أهل التوحيد من يُعذّب في قبره، فرجع عن اجتهاده، وأخبر بما نزل عليه به الوحي في ذلك.
وفي هذا الحديث إلزامٌ قويٌّ لمن احتجّ باجتهاد النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا وخطأه فيها، كما في حديث تأبير النخل، على أن السنَّة في أمور الدنيا ليست وحياً. فهذا الحديث وقع فيه للنبيّ - - صلى الله عليه وسلم - اجتهادٌ في أمر عقدي من أمور الدين، وأخطأ فيه، فهل سيلتزمون بطريقة استدلالهم: أن السنَّة في أمور العقيدة أو الدين عمومًا ليست وحيًا؟! هذا مما يدل على وهاء استدلالهم.
وفي ذلك يقول القاضي عياض (ت544هـ) في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "وأمّا أقواله الدنيويّة: من إخباره عن أحواله وأحوال غيره، وما يفعله أو فعله، فقد قدّمْنا أن الخُلفَ فيها ممتنع عليه من كل حال وعلى أي وجهٍ: من عمدٍ أو سهوٍ، أو صحّةٍ أو مرضٍ، أ و رضيً أو غضب. وأنه - - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ فيما طريقُه الخبر المحض مما يدخله الصِّدْقُ والكذب" (3) .
وبذلك نخلص أن اجتهاد النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا والدِّين لا يُخْرِجُ السنَّة عن أن تكون بوحي؛ لأن اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في بعض المسائل لا ينفي أنه كان يُوحَى إليه بسنن غيرها ابتداءً (وهذا محلّ إجماع)، وأمّا اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - : فهو إما أن يُقَرَّ عليه من ربّه -عز وجل-، وهو الغالب, بدليل قلّة المسائل التي صُوّبَ فيها اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - , وبدليل أنه - - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى الخلق بإصابة الحقِّ.
__________
(1) - أخرجه مسلم رقم( 584)
(2) - وقد شرحه الطحاوي في مشكل الآثار (13/191 - 198)، والقرطبي في المفهم (2/207 - 208) والنووي في المنهاج شرح مسلم (3/87- 88) وغيرهم: بما دلَّ عليه ظاهر الحديث
(3) - الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري- (4/471).(1/216)
فيكون بهذا الإقرار منزَّهًا عن الخطأ، وإمّا أن يُصَوَّبَ اجتهادُه بنزول الوحي عليه بكتابٍ أو سنَّةٍ ببيان أنه أخطأ وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عُصِم من نَقْصِ البلاغ أو تكذيب الواقع لخطابه - - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا التقرير البالغ هو الذي يفيدنا التقرير التالي، الذي به تتحرَّر المسألة، وينحلّ محلّ النزاع، وهو: أنّ السنّة وحيٌ: حالًا أو مآلًا، أي إنها وحي: ابتداءً، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
وأنت تلحظ في هذين الجوابين أنهما يعودان بالاجتهاد النبوي إلى أنه معبِّرٌ عن مراضي الله تعالى في التشريع: إمّا بعصمة النبي - - صلى الله عليه وسلم - عن الخطأ في الاجتهاد، أو بعدم إقراره - - صلى الله عليه وسلم - على الخطأ، فما أُقرَّ عليه (وهو الغالب) فهو مُقَرٌّ عليه من الله تعالى، فالله تعالى راضٍ عنه. وما لم يُقرَّ عليه، فقد بلَّّغنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فيه عن مراضي الله، فكان اجتهادُه - - صلى الله عليه وسلم - الأول كالمنسوخ ببلاغه الثاني لتصويب الله تعالى الذي جاء كالناسخ له.
ولم يقل أحدٌ من أهل العلم، لا من السلف ولا من الخلف: إن ما لم يُقرَّ عليه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - إلى وفاته مشروعٌ يجوز العمل به، وكيف يقول هذا أحدٌ وهو - - صلى الله عليه وسلم - لم يُقرَّ عليه من ربّه عز وجل. فهذا الصِّنف من اجتهاداته - - صلى الله عليه وسلم - خارجُ محلِّ النقاش أصلاً، ولا ينازع فيه أحد. وأمّا ما سواه: فقد أفادنا الجوابان السابقان أنّ الاجتهاد النبوي فيه معّبِّرٌ عن مراضي الله عز وجل، في التشريع، وبالتالي فهو وَحْيٌ، لكنه وَحْيٌ مآلاً.
وبذلك تصحّ تلك الأوامرُ المطلقةُ والنصوصُ العامةُ التي أضاء بها الكتاب وتلألأت بها السنة: الدالةُ الدلالةَ القطعيةَ: على وجوب تصديق خبره - - صلى الله عليه وسلم - ، وطاعة أوامره - - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه - - صلى الله عليه وسلم - (وبعد وفاته) لا يُحتملُ أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يُقرّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يُصَوَّب من أقواله - - صلى الله عليه وسلم - فكُلُّه وحي من الله تعالى، وما صُوِّب فقد بلَّغ - - صلى الله عليه وسلم - عن ربّه -عز وجل- ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلًا من أدلّة نبوّته - - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّ مدّعي النبوّة كذبًا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغُ وحُفِظَ الدين وعُصمت السنَّةُ من أي سببٍ يدعو إلى التردّد في الطاعة أو التصديق.(1/217)
وبذلك يتّضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - بوحي ابتداءً وما صدر عنه " باجتهاد: في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره ؛ فكما كان الموحَى به إليه ابتداءً لا خلاف في وجوب ذلك فيه , فكذلك الاجتهادُ منه" ؛ لأنه مُوحَى به إليه انتهاءً بالإقرار.فلا فرق بين سنة النبيّ " , فكلُّها وحيٌ يُوجِبُ التصديق والطاعة , بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة , والتي لم تُخصِّصْ سنةً من سننه ": لا سنةَ الوحي ابتداءً ولا سنة الوحي انتهاءً , ولا سنَّةَ الدِّين ولا سنةَ الدنيا.فالعموماتُ تشملُ جميع السنة, ولم تُخرج منها شيئًا.بل من تلك النصوص ما ورد في وجوب طاعته " في اجتهاده خاصة, ومنها ما ورد في وجوب طاعته في أمور الدنيا على وجه التحديد .
ومن هنا أدخل في الجواب عن الحديث الذي جعله بعضهم مُتّكأَهُ لردّ كثير من السُّننِ الثابتة عنه - - صلى الله عليه وسلم - , لا من جهة عدم صحّتها عنه - - صلى الله عليه وسلم - عندهم، وإنما من جهة أنها اجتهادٌ قابلٌ للصواب والخطأ. فهم قد لا يُعارضون في الثبوت، بل قد يقرّرون أن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك الحديث؛ لكنّهم يعارضون في وجوب التصديق بما تضمّنه ذلك الحديث، وفي العمل بما دلّ عليه؛ لأنه عندهم ليس من السنّة التي هي وحيٌ.
وهذا الحديث هو عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ « لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ». قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا (1) فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ « مَا لِنَخْلِكُمْ ». قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ».. (2)
وفي لفظ آخر لهذا الوجه من أوجه روايات الحديث: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ أَصْوَاتًا. فَقَالَ « مَا هَذَا الصَّوْتُ ».
قَالُوا النَّخْلُ يُؤَبِّرُونَهُ فَقَالَ « لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلَحَ ». فَلَمْ يُؤَبِّرُوا عَامَئِذٍ فَصَارَ شِيصًا فَذَكَرُوا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنَكُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ ».. (3)
__________
(1) - الشِّيص: التمر الذي لم يكتمل نُمُوُّهُ ونُضْجُهُ، حتى ربّما لم يأتِ له نوى .
(2) - صحيح مسلم (6277 )
(3) - سنن ابن ماجه(2565 ) صحيح(1/218)
ووجه دلالة هذا الحديث على ما يستدلُّ به القومُ المشار إليهم آنفًا: أنه صريح في أنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في أمور الدنيا، وأنه - - صلى الله عليه وسلم - لذلك قد يخطئ، وبناءً على ذلك وضع قاعدةً عامّةً لنصوصه المتعلّقة بأمور الدنيا، وأعلمنا أنّ الأمر فيها راجع إلى تحقيق المصلحة التي يعرفها أهل الدنيا، وأنه لا يلزمنا فيها اتّباع أمره - - صلى الله عليه وسلم - , وذلك عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وقال: "إذا كان شيءٌ من أمر دنياكم: فشأنكم، وإذا كان شيءٌ من أمر دينكم: فإليَّ".
هذا الحديث هو عمدة فئامٍ كبيرٍ ممّن ردّوا عامّةَ السنة أو قدْرًا منها، وجعلوه أصلًا ما أكثر ما يلهجون به في مقالاتهم وبحوثهم، وكأنّه أصل الأصول، وأصحُّ منقول!!
وأوّلُ ما يؤخذ على هؤلاء هو هذا الاعتماد المبالغ فيه وفي دلالته، حيث جعلوا هذا الحديث الوحيد أساسًا ترجع النصوص إليه؛ وكأنّه هو المُحْكَمُ الذي تؤول إليه كل نصوص القرآن والسنَّة التي تقدّم قطرةٌ من بحرها، وغرفةٌ من نهرها!!
وهذا خطأٌ منهجيّ، لا من جهة أنه نصٌّ واحد مقابل عشرات ... بل مئات النصوص، بل من جهة أنّهم لم يُمعنوا النظر في ألفاظ الرّواية، لينظروا هل هي دالةٌ على ما يريدون، أم لا تدل؟ وهذا الخطأ كان سيكون مقبولًا، لو لم يكن هذا الاستدلالُ يخالف جميع تلك النصوص.
أمَا وقد خالفها، فكان هذا يوجب عليهم عميق النظر والدراسة.
وقبل الدخول إلى مناقشتهم في انتقائيّتهم لأحد ألفاظ الرواية؛ لأنها هي الرواية التي يؤيّد لفظُها مُرادَهم، أودّ مُبَاحَثَتَهم في أصل استدلالهم باللفظ الذي أوردوه واستدلّوا به:
فأقول لهم: ما المراد بأمر الدنيا الذي تجعلونه ممّا لا يرُجع فيه إلى السنّة؟ حيث إنه يدخل في أمر الدنيا كلّ ما لا يدخلُ في أمر العقائد والعبادات المحضة: كالمعاملات: من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وآداب للحديث واللباس والطعام والشراب وعموم الأخلاق ... وغير ذلك.
فإن قالوا: المقصود جميعُ ما ذُكر، لدخوله تحت دلالة قوله (أمر الدنيا)، كان هذا القول منهم دليلًا على سقوط فهمهم وبطلانه؛ لأنه خالف قطعيّات الكتاب والسنَّة الدالة على(1/219)
وجوب طاعة النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر من أمور المعاملات والآداب والأخلاق، وخالف أيضًا إجماعَ العلماء: فهذه كتب الفقه على جميع المذاهب وكتب العلم لدى جميع أهل العلم: حفيلةٌ بنصوص السنَّة في ذلك، عظيمةُ العناية بالاهتداء بنورها، مستضيئةٌ بهدايتها.
وإن قالوا: بل بعض ذلك دون بعض، كأحاديث الطبّ.
قلنا: وما دليل هذا التخصيص؟ ثم إن الحديث الذي تحتجّون به ليس في الطب، بل النصّ الذي تعتمدونه ظاهره العموم (أمر الدنيا). فالتخصيص بلا دليل، دليلٌ على بطلان ذلك القيل.
وبذلك نخلص أن هذا الفهم باطلٌ من أساسه؛ فلا عُمومُهُ مقبول، ولا خُصوصُه بالذي يُساعدهُ الدليل؛ بل بُطلان طرفيه أوضحُ مِنْ أن يحتاجَ إلى شيءٍ من التطويل.
وهذا يكفي لانعقاد القلوب على خلاف هذا الفهم، وعلى أن نعلم علم اليقين أن معارضة النصوص القاطعة في الكتاب والسنة بهذا الفهم السَّقيم لهذا الحديث غير قويم.
فإن قيل: فما الفهم الصحيح لهذا الحديث؟
قيل: هو أن تجمع طرق الحديث، وتنظر في ألفاظه أوّلًا:
فقد روى هذا الحديث مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ « مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ». فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا ». قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».. (1)
ورواه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ: « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ
__________
(1) - صحيح مسلم(6275 )(1/220)
بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ». قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْمَعْقِرِىُّ فَنَفَضَتْ. وَلَمْ يَشُكَّ. (1) .
وسنقف مع هذين اللفظين عدة وقفات:
أوّلاً: جاء التصريح في كلا اللفظين من النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينههم عن تلقيح النخل إلا بناءً على الاجتهاد، ووضّح لهم - - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً أنه لا يقول ما يقوله في ذلك اعتمادًا على خبر السماء، بل اعتمادًا على ظنّه واجتهاده. فقد قال في رواية طلحة -رضي الله عنه-: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، وقال في رواية رافع -رضي الله عنه-: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ومن المعلوم أنه لو كان ما قاله في شأن تلقيح النخل وحيًا لما قال: "أظن" ولا "لعلكم"، فهذان اللفظان قاطعان لمن سمعهما منه - - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُخبر عن وحي السماء, وإنما يُخبر عن اجتهاده.
وهذا التنبيه يوجب علينا التفريق بين نصٍّ نبويٍّ صريح بأنه اجتهادٌ غير مجزوم به، مثل هذا النص, ومن أمثلته أيضاً حديث ثابت بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-، قال: كنّا مع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في جيش، فأصبنا ضِبَابًا، فشويت منها ضَبًّا، فأتيتُ به النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل ينظر إليه ويُقلِّبُه, وقال: " إن أُمّةً مُسخت، لا يُدْرَي ما فَعَلت، وإني لا أدري لعل هذا منها ". فما أمر بأكلها، ولا نهى. (2)
وحديث أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّى فِى غَائِطٍ مَضَبَّةٍ وَإِنَّهُ عَامَّةُ طَعَامِ أَهْلِى - قَالَ - فَلَمْ يُجِبْهُ فَقُلْنَا عَاوِدْهُ. فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلاَثًا ثُمَّ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الثَّالِثَةِ فَقَالَ « يَا أَعْرَابِىُّ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَوْ غَضِبَ عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِى الأَرْضِ فَلاَ أَدْرِى لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا فَلَسْتُ آكُلُهَا وَلاَ أَنْهَى عَنْهَا ». (3)
__________
(1) - صحيح مسلم (6276) -يأبر : يلقح = نفضت : أسقطت ثمرها
(2) - أخرجه أبو داود: رقم( 3789) والنسائي: رقم( 4320 - 4322) وابن ماجه: رقم(3238) بإسناد صحيح.
(3) - صحيح مسلم (5156 )(1/221)
وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأْرَ أَلاَ تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ ». (1)
ثم إن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - أُوحي إليه بما صحّ من حديث عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ قَالَ مِسْعَرٌ وَأُرَاهُ قَالَ وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ». (2)
فتبيّن أن ما قاله - - صلى الله عليه وسلم - في شأن الضبّ والفأر كان ظنًّا (كما جاء مصرِّحًا به)، ثم أُوحي إليه - - صلى الله عليه وسلم - بأن المُسُوخ لا نسل لها. فقطع بذلك دون ظنّ أو تردّد. (3)
ونصٍّ آخر صدر منه - - صلى الله عليه وسلم - على وجه القطع وعدم الشك، فهذا حقٌ مطلقًا،إلا أن يُصوّبه النبي - - صلى الله عليه وسلم - بما يُوحَى إليه من قرآن أو سنّة.
ثانيًا: أن الخطأ في هذا الحديث قد وقع من الصحابة الذين تركوا تلقيح النَّخل (4) ؛ لأنهم حملوا ظنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - على عدم احتمال الخطأ، وكأنه وحيٌ، فقدّموا ظنّه - - صلى الله عليه وسلم - على ما علموه يقينًا من ضرورة تلقيح النخل!!
قال المناوي في (فيض القدير): « قوله: "إنما أنا بشر" يعني: أُخطئ وأُصيب فيما لا يتعلّق بالدين؛ لأن الإنسان محلُّ السهو والنسيان، ومراده بالرأي: في أمور الدنيا، على ما عليه جمعٌ. لكنّ بعض الكاملين قال: أراد به الظنّ؛ لأن ما صدر عنه برأيه واجتهاده وأُقِرَّ عليه حُجَّةُ الإسلام مطلقًا » (5) .
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء الكاملون، هو الذي يدلّ عليه لفظ الحديث وسياقُه، فاحرص أن تكون من الكاملين!!
__________
(1) - صحيح مسلم(7688 )
(2) - صحيح مسلم(6941)
(3) - وهذا ما قرّره الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/325-327، 328، 338 رقم 3273 - 3288).
(4) - هذا ما صرح به شيخ الإسلام إن تيميه (مجموع الفتاوى: 18/12) .
(5) - فيض القدير (2/567) .(1/222)
فإنك إن نظرت في لفظ الحديث بروايتيه السابقتين، تجد أنه - - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بظنّه المصرَّح بأنه ظنّ، ثم لمّا أخذوا بظنِّه قال لهم: (( إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ ))، أي ما دمتُ قد صَرّحتُ لكم بأني أظنّ فلا مؤاخذةَ عليَّ، ثم إنه - - صلى الله عليه وسلم - جعل الذي يُقابل الظن: ما أخبر به عن الله تعالى، فقال: (( ولكن إذا حدثكم عن الله شيئًا فخذوا به )). إذن فليس هناك إلا ظنٌّ أو وحيٌ، والظنّ هو ما صرَّح بكونه ظنًّا، والوحي ما قطع به وأُقرّ عليه؛ لأنه - - صلى الله عليه وسلم - لا يُقَرّ على خطأ.
ويشهد لذلك أيضًا اللفظ الآخر، فإنه - - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر ))، فتنبّه أنه قابَلَ بين الدين والرأي (أي: الاجتهاد الظنّي)، ولم يُقابل بين الدين والدنيا.
والمعنى: أنّ السنّة التي من الدِّين (أي من الوحي) هي التي لم تكن باجتهاد، وليست هي التي تكون في أمور الدنيا مطلقًا. فسياق الحديث دلّ الصحابة على الطريقة التي يفرّقون بها بين سنة الدين والرأي (الاجتهاد)، ولم يأت في الحديث ما يفرّقون به بينهما؛ إلا تصريحُه بأنه قال ما قال عن ظنّ واجتهاد. فالحديث جاء للتفريق بين النصّ الذي يُصَرَّح فيه بأنه ظنّ، والنصّ الآخر القاطع، وقد قال الطحاوي معلّقاً على هذا الحديث: " فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ جِهَةِ الظَّنِّ , فَهُوَ فِيهِ كَسَائِرِ النَّاسِ فِي ظُنُونِهِمْ , وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ , مِمَّا لَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ هُوَ مَا يَقُولُهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْغَيْلَةِ , لِمَا كَانَ خَافَ مِنْهَا عَلَى أَوْلَادِ الْحَوَامِلِ , ثُمَّ أَبَاحَهَا " (1) .
فتنبهْ أن الطحاوي (رحمه الله) جعل القِسْمَةَ: ظنًّا ووحيًا، لا دنيا ودين، وهذا هو موطن الشاهد في كلامه، وهو واضح الدلالة لمن تأمله.
أمَّا ما اجتهد فيه النبي - - صلى الله عليه وسلم - وأخبر به جازمًا، ثم صَوّبه الوحي بعد ذلك؛ فهذا وَجْهٌ آخر للتفريق بين سنَّة الوحي والاجتهاد منه - - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس بوحي، بأن يُقال في هذا الوجه:
__________
(1) - شرح معاني الآثار (3/48) (2854 ) و وانظر أيضا قوله (4538)(1/223)
إنّ ما أُقر عليه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فهو وحيٌ، وما صُوّبَ فقد عرفنا بالتصويب أنه ما قاله قبله ليس وحيًا.
وقد سبق أ ن ما اجتهد فيه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - وصَوّبه له الوحي لا يختصُّ بأمور الدنيا, فقد اجتهد النبيّ في أمور الدين أيضًا وصَوّب الوحي له اجتهاده. فإن كان مجرّد تصويب الوحي لاجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا، فيلزم أن يكون تصويب الوحي لاجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا أيضًا!!
وهذا ما لا يقوله إلا غُلاة أهل الضلال؛ لأنه يخالف قطعيات الكتاب والسنَّة وإجماع علماء المسلمين وعوامّهم.
وبذلك نخلص أن الشرع المحفوظ ونصوصه المصونة قد جعلا لنا وسيلتين للتمييز بين: سنَّة الوحي التي لا تحتملُ إلا الصدق وتوجب العلم أو العلم والعمل، وسنة الاجتهاد التي تحتمل الصواب والخطأ (1) .
وفيها ما هو للتشريع العام وما هو للتشريع الخاص، وقد حقق ذلك المحققون من العلماء .
* أهم الأولويات التي لا بد من مراعاتها *
1- أولوية الـ ( كيف ) على الـ ( كم )، ( أولوية الكيفية على الكمية )
فليست العبرة بالكثرة في العدد ولا بالضخامة في الحجم، وإنما المدار على النوعية والكيفية.
ولقد ذم القرآن الأكثرية إذا كان أصحابها ممن لا يعقلون أولا يعلمون أولا يؤمنون أولا يشكرون، كما نطقت بذلك آيات وفيرة من كتاب الله - تعالى -: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (63) سورة العنكبوت، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (6) سورة الروم
__________
(1) - انظر كتابي ((السنة النبوية وأثرها في اختلاف الفقهاء))-ط1 - (1 / 81) المبحث الثالث -هل اجتهادُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينافي كون السنَّة وحيٌ ؟(1/224)
في حين مدح القرآن القلة المؤمنة العاملة الشاكرة: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ.
ويذكر كثير من الناس الحديث النبوي عَنْ أنَسٍ، فَذَكَرَ حَدِيثًا بِهَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُ بِالَبْاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ..
ولكن الرسول الكريم لن يباهي الأمم بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، إنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين !
وعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّمَا النَّاسُ كَإِبِلِ مِائَةٍ لاَ يَجِدُ الرَّجُلَ فِيهَا رَاحِلَةً (2) ، دلالة على ندرة النوع الجيد في الناس، كندرة الراحلة الصالحة للسفر والركوب والحمل في الإبل، حتى إن المائة لا يكاد يوجد فيها واحدة من هذا النوع !
والتفاوت في بني الإنسان أكثر منه في جميع الفصائل والأنواع الأخرى من الحيوان وغيره، حتى جاء في الحديث عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ أَلْفٍ مِثْلِهِ إِلا الإِنْسَانَ. (3) .
ومن قرأ سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم أن عنايته كانت بالنوع لا بالكم، ومن قرأ سير أصحابه وخلفائه رأى ذلك بجلاء ووضوح أيضاً.العناية إذن يجب أن تتجه إلى الكيف والنوع لا مجرد الكم، والمقصود بـ" الكم " هنا: كل ما يعبر عن مقدار الجانب المادي وحده، من كثرة العدد، أو سعة المساحة، أو كبر الحجم، أو ثقل الوزن، أو طول المدة، أو غير ذلك مما يدخل في هذا المجال.وما قلناه في كثرة العدد نقوله في الأمور الأخرى، فالإنسان مثلاً لا يقاس بطول قامته أوقوة عضلاته أو ضخامة جسمه أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته .
__________
(1) - كشف الأستار - (2 / 148)(1400) حسن لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6663 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 46)(6172)
(3) - الفوائد لتمام 414 - (2 / 29)(973) حسن(1/225)
عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لَيَأْتِيَنَّ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " ثُمَّ قَرَأَ: { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [الكهف: 105].متفق عليه (1) .
وعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، كَانَ يَحْتَزُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِوَاكًا مِنْ أَرَاكٍ، وَكَانَ فِي سَاقَيْهِ دِقَّةٌ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا يُضْحِكُكُمْ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ (2) ..
وليس معنى هذا: أن الإسلام لا يقيم وزناً لصحة الجسم وقوته.كلا، فهو يهتم بذلك غاية الاهتمام، ففي الصحيح عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْنَهَا سَيِّئَةَ الْهَيْئَةِ، فَقُلْنَ: مَا لَكِ، مَا فِي قُرَيْشٍ رَجُلٌ أَغْنَى مِنْ بَعْلِكِ، قَالَتْ: مَا لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ ؟ أَمَّا نَهَارُهُ فَصَائِمٌ، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَقَائِمٌ، قَالَ: فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْنَ ذَلِكَ لَهُ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ: يَا عُثْمَانُ، أَمَا لَكَ فِي أُسْوَةٍ ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ؟ قَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، صَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، قَالَ: فَأَتَتْهُمُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَطِرَةً كَأَنَّهَا عَرُوسٌ، فَقُلْنَ لَهَا: مَهْ، قَالَتْ: أَصَابَنَا مَا أَصَابَ النَّاسُ (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَرٌّ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا قُلْ قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ اللهُ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (4) .
ولكنه لا يجعلها معيار الفضل.فالرجال يقاسون بما في رؤوسهم من علم وما في قلوبهم من إيمان وما يثمره الإيمان من عمل، والعمل في نظر الإسلام لا يقاس بحجمه ولا عدده، وإنما
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز -(4729) وصحيح مسلم- المكنز - (7222 )
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 546)(7069) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 19) (316) صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6945) وشعب الإيمان - (1 / 372)(191 )(1/226)
يقاس بمدى إحسانه وإتقانه، وإحسان العمل في الإسلام ليس نافلة، بل هو فريضة كتبها الله - تعالى - على المؤمنين، كما كتب عليهم الصيام وغيره من الفرائض !
وفي العبادات كذلك الكيفية مقدمة على الكمية فيها، ومثال ذلك الصائم لا يحصل على ثواب - إذا آذى الناس - مهما صام من الأيام والشهور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ. رواه ابن ماجه (1) .
2- الأولويات في مجال العلم والفكر :
ومنها :
أ-أولوية تقديم العلم على العمل
- قال الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد .
فأمر رسوله بالعلم والتوحيد أولاً، ثم ثنى بالاستغفار وهو عمل، والخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهومتناول لأمته.
وقال الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر، فالعلم هوالذي يورث الخشية الدافعة إلى العمل .
- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ (2) . لأنه إذا فقه عمل وأحسن ما عمل .
- عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: مَنْ لَمْ يَعُدْ كَلاَمُهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يَفْسُدُ أَكْثَرَ مِمَّا يَصْلُحُ (3) .، وهذا واضح في بعض الفئات من المسلمين،
__________
(1) - سنن ابن ماجة- ط-الرسالة - (2 / 591)(1690) حسن
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (71 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 291) (89)
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 470)(36246) صحيح لغيره(1/227)
الذين لم تكن تنقصهم التقوى أو الإخلاص والحماس، وإنما كان ينقصهم العلم والفهم بمقاصد الشرع وحقائق الدين .
- العلم شرط لأي عمل، عَنِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ " (1) .
- وكذلك في الفتوى، فلا يجوز أن يفتي الناسَ إلا عالم متمكن في علمه فقيه في دينه، وللأسف فإننا نرى بعض مَنْ هم في بداية علمهم، أوممن لم يتمكنوا تمام التمكن في الفقه، يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل وأخطر القضايا ،ويتطاولون على العلماء الكبار، بل يناطحون الأئمة العظام والصحابة الأعلام، ويقولون في غرور وانتفاخ: هم رجال ونحن رجال !!!.وهؤلاء أنفسهم يفتقرون إلى معرفة قدر أنفسهم، ثم فقه مقاصد الشرع وفقه حقائق الواقع، ولكن الغرور حجاب كثيف دون ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله !
ب- أولوية الفهم على مجرد الحفظ .
- الإسلام يريد منا التفقه في الدين، لا مجرد تعلم الدين، والتفقه شيء أعمق وأخص من العلم، إنه الفهم والفهم الدقيق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الأَمْرِ أَكْرَهَهُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَتَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ. (2) .
- عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ،
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 35)(7125 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3353 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6615) وصحيح ابن حبان - (13 / 69) (5757)(1/228)
وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ » (1) .
- هذا لا يعني أنه ليس للحفظ قيمة، ولكن المقصد أن الحفظ ليس مقصودا لذاته وإنما هو وسيلة لغيره.وإننا لنجد مبالغة في تكريم حفاظ القرآن الكريم - على ما في ذلك من فضل- بكثير من الجوائز القيمة، ولكن لم يرصد مثل هذه الجوائز للنابغين في العلوم الشرعية المختلفة، مع أن حاجة الأمة إلى هؤلاء أكثر ونفعهم أعظم وأغزر .
ج- أولوية المقاصد على الظواهر:
- وذلك من خلال الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، وردّ فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.وكثيراً ما أدت هذه الحرفية الظاهرية إلى تحجير ما وسَّع الله - تعالى -، وتعسير ما يسّر الشرع وتجميد ما من شأنه أن يتطور ،وتقييد ما من شأنه أن يتجدد ويتحرر ! .
د- أولوية الاجتهاد على التقليد ( في الأمور المستجدة والطارئة ).
- وهذا لا يعني نفي تقليد الأئمة - رحمهم الله تعالى -، وإنما مراعاة تغير زماننا عن زمانهم وحاجاتنا عن حاجاتهم، ومعارفنا عن معارفهم.وهم أنفسهم ربما لو تأخر الزمن حتى رأوا ما رأينا وعاشوا ما عشنا - وهم أهل الاجتهاد والنظر - لغيروا كثيراً من فتاواهم واجتهاداتهم، كيف وقد غير أصحابهم من بعدهم كثيراً منها لاختلاف العصر والزمان رغم قرب ما بين أولئك وهؤلاء؟ بل كيف وقد غير الأئمة كثيراً من أقوالهم في حياتهم، تبعاً لتغير اجتهادهم، بتأثير السن أوالنضج أوالزمان أوالمكان ؟
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (79 )
الأجادب : جمع أجدب وأجدب جمع جدب وهى الأرض التى لا تنبت كلأ
القيعان : جمع القاع ومعناها هنا الأرض التى لا نبات فيها(1/229)
هـ- أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا
- إذا كنا نقول بضرورة سبق العلم على العمل في أمور الدين، فنحن نؤكد ضرورة ذلك في شؤون الدنيا أيضاً، فنحن في عصر يؤسس كل شيء على العلم، ولم يعد يقبل الارتجال والغوغائية في أمر من أمور الحياة.فلا بد لأي عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه، ولا بد من الاقتناع بجدواه قبل البدء فيه، ولا بد من التخطيط قبل التنفيذ، ولا بد من الاستعانة بالأرقام والإحصاءات قبل الإقدام على العمل .فالإحصاء والتخطيط والدراسة قبل العمل، كلها من صميم الإسلام، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أول من أمر بعمل إحصائي منظم لمن آمن به بعد هجرته إلى المدينة، ولقد ظهر أثر التخطيط في سيرته في صور ومواقف شتى .فالتخطيط أساس لأي عمل يراد إنجاحه .
و- الأولويات في الآراء الفقهية .
- وذلك بمعرفة الآراء التي لا تحتمل الخلاف قط ولا يقبل فيها رأي آخر ولا مجال فيها لتسامح، والآراء التي تقبل نسبة - ولوضئيلة - من التسامح، والآراء التي تتسع للكثير من الخلاف والتسامح، وكذلك التفريق بين القطعي والظني من النصوص، فمن النصوص ما هوظني الثبوت وظني الدلالة معاً، ومنها ما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة معاً .
- وظنية الدلالة تشمل السنة والقرآن جميعاً، فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة وفيها المجاز والكناية، والخاص والعام، والمطلق والمقيد ... وكثيراً ما تخضع الأفهام لعقول الناس وظروفهم واتجاهاتهم النفسية والعقلية .
- والقرآن كله قطعي الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته - في جزئياتها - ظنية الدلالة، ولذا اختلف الفقهاء في الاستنباط منها .ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق ( فضائل ورذائل )، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحوذلك قد بيّنَتْها آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء.وأكدت هذه القضايا السنةُ النبويةُ قولاً وعملاً(1/230)
وفعلاً وتقريراً، كما أكدها الإجماع اليقيني من علماء الأمة، واقترن بها التطبيق العملي من الأمة .
- ومن هنا لا يجوز الخلط - جهلاً أوقصداً - بين النصوص بعضها وبعض .والذي يرفض أبداً هو رد النصوص القطعية الثبوت والدلالة جميعاً، فهذه - وإن كانت قليلة - تعتبر في غاية الأهمية في الدين، لأنها هي التي تجسد الوحدة العقدية والفكرية والشعورية والعملية للأمة المسلمة وهي التي يحتكم إليها عند النزاع.ولذلك لا بد أن نحذر من تلك المؤامرة الفكرية التي تعمل على تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات، مثل الذين يجادلون في آية تحريم الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) سورة المائدة
ويشككون في دلالة كلمة " فاجتنبوه " على التحريم ! ومثل الذين يجادلون في تحريم الربا، ومثل الذين يجادلون في تحريم لحم الخنزير، ومثل الذين يجادلون في ميراث المرأة أو في قوامية الرجل على الأسرة أو في لباس المرأة المسلمة المحتشم ...
- القطعيات هي التي يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف وأساس الدعوة والإعلام وأساس التربية والتعليم وأساس الوجود الإسلامي كله .
3- الأولويات في مجال الفتوى والدعوة :
أ- أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير .
- لقد دلت النصوص من الكتاب والسنة أن التيسير والتخفيف أحب إلى الله - تعالى - وإلى رسوله: قال الله -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة. وقال - سبحانه -: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (28) سورة النساء ،وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ(1/231)
أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) سورة المائدة.
وعَنِ الأَعْرَابِيِّ، الَّذِي سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُه (1) .
وعَنْ مِحْجَنٍ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَقَالَ لِي: مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: هَذَا فُلاَنٌ فَجَعَلْتُ أُطْرِيهِ وَأَقُولُ: هَذَا هَذَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةٍ ثُمَّ أَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ يَدِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ قَالَهَا ثَلاَثًا (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". (3) .
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ تُنْتَهَكُ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (4) .
- ويتأكد ترجيح الرخصة واختيار التيسير، إذا ظهرت الحاجة إليها، لضعف أو مرض أوشيخوخة أو لشدة مشقة أو غير ذلك من المرجحات .
- رأينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد دعا إلى تعجيل الفطور وتأخير السحور، تيسيراً على الصائم (5) ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا.قَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بِأَرْضٍ يُصْنَعُ فِيهَا شَرَابٌ مِنَ الْعَسَلِ: يُقَالُ لَهُ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 469)(15936) 16032- صحيح
(2) - مسند الطيالسي - (2 / 628)(1392) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 377)(918 ) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 520)(26262) 26792- وصحيح البخارى- المكنز - (3560 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6190 )
(5) - الفتاوى الكبري لابن تيمية - (3 / 132)(1/232)
الْبِتْعُ، وَشَرَابٌ مِنَ الشَّعِيرِ: يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. متفق عليه (1) .
بل رأيناه - صلى الله عليه وسلم - يشدد النكير على من يشدد على الناس ولا يراعي
ظروفهم المختلفة، كما فعل بعض الصحابة الذين كانوا يؤمون الناس ويطيلون في الصلاة طولاً اشتكى منه بعض مأموميهم ،ف فعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ، قَالَ: فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا لَكَ يَا فُلاَنُ، أَنَافَقْتَ ؟ قَالَ: مَا نَافَقْتُ، وَلَآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّى مَعَكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي، أَيْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، وَإِنَّمَا نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا قَالَ عَمْرٌو: وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ لاَ أَحْفَظُهَا، قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْنَا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: اقْرَأْ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا (2) ..
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلاَةً مِنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى تَمَامٍ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَارِبَةً وَكَانَتْ صَلاَةُ أَبِى بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَدَّ فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَالَ « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ». قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَوْهَمَ.ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَوْهَمَ (3) .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 650)(19742) 19980- وصحيح البخارى- المكنز - (4344) وصحيح مسلم- المكنز - (4623)
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 160)(2400) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (3 / 306)(1089 )(1/233)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ » متفق عليه (1) .
- وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد ما يكون إنكاراً للتشديد إذا كوَّن اتجاهاً، وتبنّاه جماعة، ولم يكن مجرد نزعة فردية عارضة، وهذا ما نلاحظه في إنكاره على الثلاثة الذين اتخذوا خطاً في التعبد غير خطه وإن كانوا لا يريدون إلا الخير ومزيد التقرب إلى الله - تعالى -: فعن حُمَيْدَ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِي قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ». قَالَهَا ثَلاَثًا. رواه مسلم (3) .
ب- الاعتراف بالضرورات الطارئة في حياة الناس سواء أكانت فردية أم جماعية
- وهذا من التيسير المطلوب، فقد جعلت الشريعة لهذه الضرورات أحكامها الخاصة وأباحت بها ما كان محظوراً في حالة الاختيار من الأطعمة والأشربة والملبوسات والعقود والمعاملات، وأكثر من ذلك أنها نزّلت الحاجة في بعض الأحيان - خاصة كانت أوعامة - منزلة الضرورة أيضاً، تيسيراً على الأمة ودفعاً للحرج عنها.والأصل في ذلك ما جاء في القرآن الكريم عقب ذكر الأطعمة المحرمة في أربعة مواضع من القرآن الكريم رُفٍعَ فيها الإثم عن متناولها مضطراً غير باغ ولا عاد ..: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (703 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1076)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5063) وصحيح ابن حبان - (2 / 20)(317)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6955 ) -التنطع في الكلام : التعمق فيه والتفاصح.(1/234)
وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (173) سورة البقرة، {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (115) سورة النحل.
وما جاء في السنة بعد تحريم لبس الحرير على الرجال: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حكّة بهما فأذن لهما بلبسه تقديراً لهذه الحاجة، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رُخِّصَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (1) .
ج- تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان .
- من التيسير المطلوب ضرورة الاعتراف بالتغير الذي يطرأ على الناس سواء أكان سببه فساد الزمان كما يعبر الفقهاء، أو تطور المجتمع، أو نزول ضرورات به، ومن ثَمَّ أجاز فقهاء الشريعة تغيير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف والأحوال مستدلين في ذلك بهدي الصحابة وعمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نهتدي بسنتهم ونعض عليها بالنواجذ، قال خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ الْكَلاَعِيُّ، قَالاَ: أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: ]، فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا: أَتَيْنَاكَ زَائِرَيْنَ وَمُقْتَبِسَيْنِ، فَقَالَ الْعِرْبَاضُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ (2) .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 465)(12863) 12894- وصحيح مسلم- المكنز - (5552 )
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 178)(5) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي عِنْدَ ذِكْرِهِ الاِخْتِلاَفَ الَّذِي يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى السُّنَنِ ، قَالَ بِهَا ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الآرَاءِ مِنَ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ فِي الْقِيَامَةِ ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ.(1/235)
بل هوما دلت عليه السنة وقبلها القرآن الكريم .
- هذا الأمر يوجب علينا في هذا العصر أن نعيد النظر في أقوال قيلت وآراء اتُّخذت في أعصار سابقة، ربما كانت ملائمة لتلك الأزمنة وتلك الأوضاع ولكنها لم تعد ملائمة لهذا العصر بما فيه من مستجدات هائلة، لم تكن لتخطر للسابقين على بال، والقول بها اليوم يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ويشوه وجه دعوته .
قلت : وهي التي كانت تستند إلى المصلحة المرسلة أو الأعراف .
الرد على من يزعم تغير بعض أحكام الإسلام الثابتة ومنها الجهاد
أما الزعم بأننا أصحبنا في عصر يرفض كثيرا من أحكام الإسلام، كتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وأن هذا عفا عليه الزمان اليوم لوجود القوانين الدولية، فهذا كفر صريح وخروج عن ملة الإسلام، فهذا التقسيم ليس قائما على المصلحة ولا على الأعراف ولا طارئاً كما يزعم فقهاء الهزيمة، بل هو من صميم رسالة الإسلام، والتي هي من عند الله تعالى، ويأتون بالآيات والأحاديث التي كانت في بداية الإسلام للدلالة على زعمهم ،وكأن السابق ينسخ اللاحق بنظر فقهاء الهزيمة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل: " أَوّلَ مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرُ 1، 2 ] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ { اقْرَأْ } وَأَرْسَلَهُ ب { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، ثُمّ أَنْذَرَ الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ.ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى(1/236)
الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ.وَلَمّا نَزَلَتْ ( سُورَةُ بَرَاءَةٌ ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا، فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ " يُقَاتِلَ عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ .
وَأَمَرَهُ فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ.وَقِسْمًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ.وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التّوْبَةُ 2 ] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةُ 5 ] فَالْحُرُمُ هَا هُنَا: هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التّوْبَةُ 36 ] فَإِنّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ.وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ.فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ.وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ(1/237)
وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ.وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ.خُلّفُوا.وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ .
وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ.وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) و ( الْمُؤْمِنُونَ ) فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْأَعْرَافِ 199 - 200 ] فَأَمَرَهُ بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا، فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَلَا بُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ.وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ.وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ(1/238)
هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ الْمُؤْمِنُونَ 93 - 97 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 134 ] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ (1) .
لقد فات هؤلاء المحجوبين - عن الحق- أن الكفار هم الكفار، وأنهم يتربصون بنا الدوائر، وأنهم غزوا العالم الإسلامي، وأبادوا الملايين، وصدَّروا لنا جميع الأراجيف والأضاليل ،وأنه لا يخيفهم شيء مثل كلمة الجهاد في سبيل الله، لذلك يسعون بكل ما أوتوا من قوة وضلال إلى تغيير مفاهيم الإسلام المحكمة الثابتة بحجة عدم مناسبتها للعصر أو أنها تخالف القوانين الدولية أو تنافي الرحمة والإنسانية ....
ومتى كان أعداء الإسلام يحملون من الرحمة والإنسانية ذرةً؟!!
وماذا أفاد دعاة الحوار مع هؤلاء ؟!!
هل أصحبت العلاقة بيننا وبين الكفار والفجار علاقة حميمة قائمة على المحبة والاحترام المتبادل ؟!!
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا، جاء ليقرر ألوهية اللّه في الأرض، وعبودية البشر جميعا لإله واحد، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد، فلا تحكمهم إلا شريعة اللّه، التي يتمثل فيها سلطان اللّه، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته .. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي، أو أوضاع الناس الاجتماعية .. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية! هذا تصور .. وذاك تصور .. ولو أن
__________
(1) -زاد المعاد - (ج 3 / ص 143)(1/239)
الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافا بعيدا، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية «الإنسان» في الاختيار.
وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته. إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة، المفسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج «الناس» من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية اللّه للعالمين، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة اللّه وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع اللّه فيه للعباد كلهم. حاكمهم ومحكومهم.
أسودهم وأبيضهم. قاصيهم ودانيهم. فقيرهم وغنيهم تشريعا واحدا يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصا وعملا، سواء ادعاها قولا أم لم يعلن هذا الادعاء!
وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية، سواء سماها باسمها أم لم يسمها! والإسلام ليس مجرد عقيدة. حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس. والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو.
ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام. وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله للّه. فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد! إن(1/240)
الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة. لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة. ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة «الدين» .. وأنه مجرد «عقيدة» في الضمير لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة .. ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادا لفرض العقيدة على الضمير! ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام. فالإسلام منهج اللّه للحياة البشرية. وهو منهج يقوم على إفراد اللّه وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام. أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة.
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن اللّه يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام. مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان .. فإذا كف اللّه أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ. مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة، في المراحل التاريخية المتجددة. ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل (1) .
د- مراعاة سنة التدرج .
__________
(1) - معالم في الطريق بتحقيقي - (1 / 84) وفى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1432)
وانظر كتابي (( مراحل تشريع الجهاد في الإسلام )) وكتابي ((الخلاصة في أهداف القتال في الإسلام ))(1/241)
- فمن التيسير المطلوب مراعاة سنة التدرج جرياً على سنة الله - تعالى - في عالم الخلق، وعالم الأمر، واتباعاً لمنهج التشريع الإسلامي في فرض الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما، وفي تحريم المحرمات كذلك .ولعل أوضح مثال على ذلك هوتحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي.ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته يبقي على " نظام الرق " الذي كان نظاماً سائداً في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها كلما وجد إلى سبيلاً وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج .
الرد على من يزعم إلغاء الرق اليوم
قلت : وليس معنى ذلك إلغاؤه نهائيًّا، فالأحكام الشرعية الواردة في القرآن والسنة غير قابلة للنسخ، والرقُّ أمر مرتبط بالجهاد في سبيل الله تعالى، وهو باق إلى يوم القيامة، والمقصود به في الدرجة الأولى هو جهاد الطلب، وقد غاب عن الوجود بعد سقوط الدولة العثمانية، وسيعود للحياة مرة أخرى بإذن الله تعالى، رغم أنف دعاة الهزيمة، ودعاة الضلال .
والآن يزعمون أنهم ألغوه، وهم يسترقُّون الأمم والشعوب بلا حقٍّ ولا ذنبٍ، ولا يسمَّى هذا رقًّا عند أصحاب القانون الدولي - الكفري-والذي لم يكن تعبيراً عن آمال الأمم والشعوب ؛ وإنما كان إملاءً من القوي على الضعيف، ومن ثم فإن الذين صاغوه لا يلتزمون به، فما هو إلا حبر على ورق ليس إلا، ومع ذلك فإن الحمقى والمغفَّلين من قومنا يعوِّلون عليه كثيراً .
بل يزعمون - زوراً وهتاناً - أنه غير مخالف للإسلام !!!
يعني الذي تربَّوا عليه وألفوه، مما صدَّره لهم أعداء الإسلام.
- وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس عندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة اليوم بعد عصر الغزو الثقافي والتشريعي والاجتماعي للحياة الإسلامية .فإذا أردنا أن نقيم " مجتمعاً إسلامياً حقيقياً " فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرّة قلم، أو بقرار من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان ! وإنما يتحقق ذلك بطريق(1/242)
التدرج ،وذلك بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة التي قامت عليها مؤسسات عدة لأزمنة طويلة .
- لا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ، واتخاذ كلمة التدرج تكأة لتمويت الدعوة إلى دين الله، لا بل التدرج الواعي المخطط له، وهوالمنهج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية .
- وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه خامس الخلفاء الراشدين - فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدي الخلفاء الأربعة، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، وكان له ابن يقال له: عبد الملك، فيه فتوّة، وحماس، وحيوية وتقى، فأنكر على أبيه البطء، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم، حتى تعود الحياة إلى سيرتها الأولى أيّام الراشدين، إذ قال له يوما: مالك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق.
فكان جواب الأب الفقيه: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة... إلخ (1) يريد الخليفة الراشد أن يعالج الأمور بحكمة وتدرج، مهتدياً بسنة الله - تعالى - في تحريم الخمر، فهو يجرعهم الحق جرعة جرعة، ويمضي بهم إلى المنهج المنشود خطوة خطوة، وهذا هو الفقه الصحيح .
هـ- تصحيح ثقافة المسلم .
- من المهم واللازم اليوم وخلال تثقيف المسلمين في دينهم: أن نعرف ما ينبغي أن يقدم لهم، وما ينبغي أن يؤخر، وما ينبغي أن يحذف من ثقافة المسلم، ولا بد من دراسة المهم والنافع من العلوم، لا التي تضيع وقته دون فائدة تذكر!
و- الاهتمام بما اهتم به القرآن أولاً.
__________
(1) -انظر: الموافقات للشاطبي 2/ 94 طبعة داار المعرفة بيروت .وآفات على الطريق كامل - (1 / 15) ونحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم(1/243)
- فما اهتم به القرآن كل الاهتمام، وكرره في سوره وآياته، وأكده في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، يجب أن تكون له الأولوية والتقديم والعناية في تفكيرنا وفي سلوكنا، وفي تقويمنا وتقديرنا.وذلك مثل الإيمان بالله - تعالى - وبرسالاته إلى أنبيائه، وبالدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، وجنة ونار.ومثل أصول العبادات والشعائر، ومثل أصول الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، ومثل الكلام عن الجهاد في سبيل الله فهو يأتي بعد العبادات المحضة مباشرة، ومثل الكلام عن أعداء الإسلام ومعرفة طبيعتهم والحذر منهم، وكيفية التخلص منهم، ومثل بيان طبيعة الإيمان والكفر وصفات المؤمنين وصفات الكافرين وصفات المنافقين، حتى لا تلتبس هذه الأمور في نفس المؤمن .
وأما ما اهتم به القرآن اهتماماً قليلاً فنعطيه مثل ذلك القدر من الاهتمام ولا نبالغ فيه.فهذا معيار لا يخطئ، لأن القرآن الكريم هو عمدة الملة وأصل الدين وينبوع الإسلام، والسنة إنما تأتي شارحة ومبينة.والله - تعالى - يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء
فهو يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى اللّه، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.(1/244)
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
« إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء. فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه. فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لاركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم .. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان. الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له: «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ..ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري.
أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه .. فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان. هدى القرآن وهو الإنسان! ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه اللّه لهم في الكتاب، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن اللّه في(1/245)
العباد، ومن قواعد العمل والجزاء والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم (1) ..
ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (16) سورة المائدة
يا أهل الكتاب إنا أرسلنا محمدا رسول الله، وخاتم النبيين ليبين لكم كثيرا من الأحكام التي أنزلها الله في التوراة والإنجيل، وكنتم تخفونها ( كالرجم للزاني المحصن، وكصفات محمد، والبشارة به التي حرفتموها وحملتموها على معان أخرى، ومثل الأحكام التي أخفيتموها ونسيتموها كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من أخبار الحساب والجزاء في الآخرة، وقد أظهر الرسول لهم كل ذلك ) ومع هذا فقد كان الرسول الكريم يعفو عن كثير مما كانوا يحفونه، ولا يظهر الكثير مما كانوا يكتمونه .
ثم يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب: إنهم قد جاءهم نور من الله وكتاب مبين، فالنور هو النبي الذي لولا ما جاء به من الهدى والقرآن، لما عرفوا الدين الحق، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من تبديل وتحريف، والكتاب هو القرآن .
يهدي الله بالقرآن، من أراد اتباع رضوان ربه، إلى طريق الجنة والسلامة، ومناهج الاستقامة، ويخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والظلم إلى نور الإيمان والحق والعدل، بإذن ربه، ويهديهم إلى الطريق القويم (2) .
لقد كان أهل الكتاب يستكثرون أن يدعوهم إلى الإسلام نبي ليس منهم .. نبي من الأميين الذين كانوا يتعالون عليهم من قبل ويتعالمون لأنهم هم أهل الكتاب وهؤلاء أميون! فلما أراد اللّه الكرامة لهؤلاء الأميين بعث منهم خاتم النبيين، وجعل فيهم الرسالة الأخيرة، الشاملة للبشر أجمعين. وعلم هؤلاء الأميين، فإذا هم أعلم أهل الأرض وأرقاهم
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2215)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 685)(1/246)
تصورا واعتقادا وأقومهم منهجا وطريقا، وأفضلهم شريعة ونظاما، وأصلحهم مجتمعا وأخلاقا .. وكان هذا كله من فضل اللّه عليهم ومن إنعامه بهذا الدين وارتضائه لهم ..
وما كان للأميين أن يكونوا أوصياء على هذه البشرية لولا هذه النعمة وما كان لهم - وليس لهم بعد - من زاد يقدمونه للبشرية إلا ما يزودهم به هذا الدين ..
وفي هذا النداء الإلهي لأهل الكتاب، يسجل عليهم أنهم مدعوون إلى الإسلام. مدعوون للإيمان بهذا الرسول ونصره وتأييده، كما أخذ عليهم ميثاقه. ويسجل عليهم شهادته - سبحانه - بأن هذا النبي الأمي هو رسوله إليهم - كما أنه رسول إلى العرب، وإلى الناس كافة - فلا مجال لإنكار رسالته من عند اللّه أولا ولا مجال للادعاء بأن رسالته مقتصرة على العرب، أو ليست موجهة إلى أهل الكتاب ثانيا :«يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا، يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ..فهو رسول اللّه إليكم. ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب اللّه الذي معكم .. سواء في ذلك اليهود والنصارى .. وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين .. التوحيد ..
وأخفى اليهود كثيرا من أحكام الشريعة كرجم الزاني، وتحريم الربا كافة. كما أخفوا جميعا خبر بعثة النبي الأمي «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» .. كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه مما لم يرد به شرعه. فقد نسخ اللّه من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني، مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة، التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم اللّه - من الزمان، قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة، وتستقر - وقد أكملها اللّه وأتم بها نعمته ورضيها للناس دينا - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل.
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول، ووظيفته في الحياة البشرية، وما قدر اللّه من أثره في حياة الناس.«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..(1/247)
وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب .. القرآن .. وعلى طبيعة هذا المنهج .. الإسلام ..
من أنه «نور» ..إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص ..
يجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيمان في قلبه .. «نور» نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف. ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم.
ثقلة الطين في كيانه، وظلمة التراب، وكثافة اللحم والدم، وعرامة الشهوة والنزوة .. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى .. تخف الثقلة، وتشرق الظلمة، وترق الكثافة، وترف العرامة ..
واللبس والغبش في الرؤية، والتأرجح والتردد في الخطوة، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه .. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى .. يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق ..
«نُورٌ. وَكِتابٌ مُبِينٌ» .. وصفان للشيء الواحد .. لهذا الذي جاء به الرسول الكريم ..«يَهْدِي بِهِ اللَّهُ - مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ - سُبُلَ السَّلامِ. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
لقد رضي اللّه الإسلام دينا .. وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه اللّه له .. يهديه ..
«سبل السلام» ..وما أدق هذا التعبير وأصدقه إنه «السلام» هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها .. سلام الفرد.
وسلام الجماعة. وسلام العالم .. سلام الضمير، وسلام العقل، وسلام الجوارح .. سلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية .. السلام مع الحياة. والسلام مع الكون. والسلام مع اللّه رب الكون والحياة .. السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوما - إلا في هذا الدين وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته.(1/248)
حقا إن اللّه يهدي بهذا الدين الذي رضيه، من يتبع رضوان اللّه، «سبل السلام» .. سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها .. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة .. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير. وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة.
وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام. إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا ويلتذون هذا المذاق المريح ..وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات .. من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون! ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا .. بينما نملك الدخول في السلم التي منحها اللّه لنا حين نتبع رضوانه ونرضى لأنفسنا ما رضيه اللّه لنا! إننا نعاني من ويلات الجاهلية والإسلام منا قريب. ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء .. فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟
إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان. ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام، حين نفيء إلى رضوان اللّه ونتبع ما ارتضاه. فنكون من هؤلاء الذين يقول اللّه عنهم إنه يهديهم سبل السلام .
«وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ» ..والجاهلية كلها ظلمات .. ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات. وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه. وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين. والنور هو النور .. هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفا في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور ..(1/249)
«وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه. مستقيم إلى اللّه لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات (1) ..
وقال - تعالى -: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل.
واذكر -أيها الرسول- حين نبعث يوم القيامة في كل أمة من الأمم شهيدًا عليهم، هو الرسول الذي بعثه الله إليهم من أنفسهم وبلسانهم، وجئنا بك -أيها الرسول- شهيدًا على أمتك، وقد نَزَّلْنا عليك القرآن توضيحًا لكل أمر يحتاج إلى بيان، كأحكام الحلال والحرام، والثواب والعقاب، وغير ذلك، وليكون هداية من الضلال، ورحمة لمن صدَّق وعمل به، وبشارة طيبة للمؤمنين بحسن مصيرهم.
4- الأولويات في مجال العمل :
أ- أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع .
- لقد بيّن القرآن الكريم كما وضحت السنة النبوية أن الأعمال عند الله - تعالى - متفاوتة المراتب، وأن هناك الأفضل والأحب إلى الله - تعالى - من غيره.ولكن هذا التفاوت ليس اعتباطياً، وإنما هو مبني على معايير وأسس ينبغي أن تراعى، ومنها أن يكون العمل أدوم، أي: أن يداوم عليه فاعله ويواظب عليه، بخلاف العمل الذي يقع منه بعض المرات في بعض الأوقات.قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَدْوَمَهَا، وَإِنْ قَلَّ، كَانَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا يَقُولُ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ اللَّهُ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج]. "متفق عليه (2) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 861)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6465) وصحيح مسلم- المكنز - (1866) وصحيح ابن حبان - (4 / 446)(1578)(1/250)
ب- أولوية العمل الأطول نفعاً وأبقى أثراً .
- إن امتداد العمل وبقاؤه زماناً مطلوب ومفضل عند الله - عز وجل -، وكلما كان النفع به أطول، كان أفضل وأحب إلى الله.ومن أجل ذلك فُضٍّلت الصدقة بما يطول النفع به، عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنِيحَةُ خَادِمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » (1) .
وعَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ: مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا يَعْمَلُ عَبْدٌ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أُدْخَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْجَنَّةَ " قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ " رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ " وَنَحْوِهِ فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2)
منيحة: المنيحة: هي الناقة أو الشاة يعطيها الرجل رجلاً آخر يحلبها، وينتفع بلبنها، ثم يعيدها إليه.
تشميت العاطس: بالشين والسين، والشين أعلى، وهو أن تقول له: يرحمك الله، ونحو ذلك، وهو في الأصل: الدعاء، وكل داعٍ بخير: مشمِّت.
- ومن هنا كان فضل الصدقة الجارية التي يستمر نفعها وأثرها بعد وفاة المتصدق بها، مثل الأوقاف الخيرية التي عرفها المسلمون منذ عصر النبوة، وتميزت الحضارة الإسلامية بسعتها وكثرتها وتنوعها، حتى استوعبت كل جوانب البر ونواحي الخير، مما شمل كل ذوي الحاجات من بني الإنسان بل امتد خيرها إلى الحيوان !
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رواه مسلم (3) .
صدقة جارية: الصدقة الجارية: هي الدارة المتصلة، كالوقف وما يجري مجراه.
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (1727 ) حسن -الطروقة : الأنثى التى بلغت أن يطأها الفحل -الفسطاط : الخيمة
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2631) وشعب الإيمان - (5 / 72) (3112 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4310) وصحيح ابن حبان - (7 / 286)(3016)(1/251)
ج- أولوية العمل المتعدي النفع على العمل القاصر النفع .
- فالعمل الأكثر نفعاً مفضلٌ على غيره، وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله - تعالى - .
فعَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَئِنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ ".الطبراني (1) .
- ومن هنا كان كل عمل يتعلق بإصلاح المجتمع ونفعه أفضل من العمل المقصور النفع على صاحبه، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ قَالَ: وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ. رواه أحمد (2) .
الحالقة: الخصلة التي من شَأْنها أَنْ تحلق، أَراد: أَنها خصلة سوء تذهب الدين كما تذهب الموسى الشَّعر.
- ومن هنا كان فضل الدعوة والعمل الواعي في سبيل الله أعظم أجراً من الانقطاع إلى العبادة مرات ومرات .وكذلك قرر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام (3) ، ولأن تفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة ! وعلى قدر من ينتفع بعلمه ودعوته يكون أجره ومثوبته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ
__________
(1) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 106)(861) والصحيحة (906) وصحيح الجامع (176) حسن لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 887)(27508) 28058- صحيح
(3) - انظر الآداب الشرعية - (2 / 35)(1/252)
لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا. رواه مسلم (1) .
وكذلك جاء فضل عمل الإمام العادل على عبادة غيره عشرات السنين، لأنه في يوم واحد قد يصدر من القرارات ما ينصف آلاف المظلومين أو ملايينهم، ويرد الحق الضائع إلى أهله، ويعيد البسمة إلى شفاه حُرِمت منها، وقد يصدر من العقوبات ما يقطع سبيل المجرمين، ويستأصل شأفتهم، أو يفتح لهم باب الهداية والتوبة .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، قِيَامُ لَيْلِهَا، وَصِيَامُ نَهَارِهَا، وَجَوْرُ سَاعَةٍ فِي حُكْمٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ مَعْصِيَةِ سِتِّينَ سَنَةً » (2) .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ أَزْكَى فِيهَا مِنْ قَطْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً » (3) .
وقد يهيء للناس من الأسباب، ويفتح لهم من الأبواب: ما يرد الشاردين إلى الله، ويهدي الضالين إلى طريقه، ويعين المنحرفين على الاستقامة.وقد يقيم من المشروعات البناءة والنافعة ما يساعد على إيجاد عمل لكل عاطل، وخبز لك جائع، ودواء لكل مريض، وبيت لكل مشرد، وكفاية لكل محتاج.وهذا ما جعل العلماء الأوائل يقولون: لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان ( أي :الرئيس أوالحاكم )، فإن الله يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً .
د- أولوية العمل في أزمنة الفتن والشدائد .
- أي في الأزمنة الصعبة على الأمة، فالعمل الصالح هنا دليل القوة في الدين والصلابة في اليقين والثبات على الحق كما أن الحاجة إلى صالح الأعمال في هذا الزمن أشد من الحاجة إليه في سائر الأزمان.بل إن العاملين في هذه الأزمنة لهم الأجر الأكبر، قَالَ أَبُو أُمَيَّةَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6980 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 318)(112)
(2) - فضيلة العادلين من الولاة - (1 / 8)[ 12 ] حسن
(3) - فضيلة العادلين من الولاة - (1 / 8)[ 13 ] وشعب الإيمان - (9 / 483)(6995 ) والمعجم الكبير للطبراني - (10 / 31)(11764 ) حسن(1/253)
الشَّعْبَانِيُّ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ] ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ وَزَادَنِي غَيْرُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: خَمْسِينَ مِنْكُمْ. (1) .
الشح: البخل الشديد، وطاعته: أن يتبع الإنسان هوى نفسه لبخله، وينقاد له. -دنيا مؤثرة: أي محبوبة مشتهاة.
هـ- أولوية عمل القلب على عمل الجوارح .
- إن أعمال القلوب الباطنة مفضلة على أعمال الجوارح الظاهرة، لأن الأعمال الظاهرة نفسها لا تقبل عند الله -تعالى - ما لم يصحبها عمل باطن هو أساس القبول، وهو النية فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ".متفق عليه (2) .
ولأن القلب هوحقيقة الإنسان، ومدار صلاحه أوفساده عليه، فعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " وَأَوْمَأَ النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، قَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي، يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ " وفي رواية عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 109)(385) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6689) وصحيح مسلم- المكنز - (5036 ) وشعب الإيمان - (9 / 160) (6419 )(1/254)
بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ ".فَذَكَرَهُ وَقَالَ: الشُّبُهَاتُ وَزَادَ " أَلَا، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ "متفق عليه (1) .
- وتقوى الله - تعالى - هي وصية الله للأولين والآخرين، وهي أساس الفضائل والخيرات والمكاسب في الدنياوالآخرة وهي في حقيقتها ولبها أمر قلبي، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، حَسْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ (2) .
أي كرر ثلاث مرات مع الإشارة الحسية بيده إلى صدره ليثبتها في العقول والأنفس .
- وللأسف فإن بعض المتدينين عامة والدعاة خاصة يركزون على بعض الأعمال والآداب التي تتعلق بالظاهر أكثر من الباطن، وبالشكل أكثر من الجوهر، مثل تقصير ثوب الرجل ! وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحى، وصورة حجاب المرأة، وعدد درجات المنبر، وطريقة وضع اليدين أو القدمين أثناء القيام في الصلاة، إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق
بالصورة والشكل أكثر مما تتعلق بالحوهر والروح، فهذه - مهما كان وضعها - لا تأخذ الأولوية في الدين .
وليس معنى كلامنا إهمالها، بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الأهم فالمهم .
- وإننا نلاحظ - للأسف الشديد - أن كثيراً ممن يدققون في تلك الأمور الظاهرة وأمثالها - وليس كلهم - يغفلون هذا التدقيق ولا يكترثون به في أمور أشد خطراً وأعمق أثراً، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء الأمانات ،ورعاية الحقوق، وإتقان العمل، وإعطاء كل ذي حق حقه، والرحمة بخلق الله، ولاسيما الضعفاء منهم، والتورع عن المحرمات
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (52) وصحيح مسلم- المكنز - (4178) وشعب الإيمان - (7 / 492) (5355 و5356)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 131)(7727) 7713- صحيح مسلم- المكنز - (6706 )(1/255)
اليقينية، إلى غير ذلك مما وصف الله - تعالى - به المؤمنين في كتابه، مثل أوائل سورة الأنفال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال: 2 - 4]، وأوائل سورة المؤمنين { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }[المؤمنون: 1 - 11]، وأواخر سورة الفرقان { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } [الفرقان: 63 - 77]، وغيرها.وللأسف الشديد أيضاً نجد بعض المتشددين على أنفسهم وعلى الناس في أمور مثل اللحم الحلال المذبوح بطريقة شرعية قطعية، وتحريهم أشد التحري في ذلك،(1/256)
وتفتيشهم عن احتمال أن يكون في الطعام أثر من لحم الخنزير أو دهنه، ولو كان واحداً في المائة أو في الألف، وهو لا يبالي أن يأكل لحم إخوانه ميتاً في اليوم عدة مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، حتى إنه ليتصيد لهم الشبهات، أو يختلق لهم التهم، أو يصدِّقها ويشيعها إن لم يكن هو مختلقها!
و- اختلاف الأفضل باختلاف الزمان والمكان والحال .
- إن الأولوية والأفضلية في كثير من الأمور لا تكون أولوية مطلقة في الزمان والمكان والأشخاص والأحوال وإن تفاوتت؛بل الغالب أنها تتفاوت بتفاوت المؤثرات الزمانية والبيئية والشخصية، ولهذا أمثلة كثيرة :
• أفضل الأعمال الدنيوية :
فقد اختلف علماؤنا: أي هذه الأعمال أفضل وأكثر مثوبة عند الله: الزراعة أم الصناعة أم التجارة ؟ والذي دعاهم إلى هذا الاختلاف ما ورد في فضل كل منها :
ففي فضل الزراعة
عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنهم - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ » (1) .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةً وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ » (2) .
وعَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا فِي نَخْلٍ لِي، فَقَالَ: " لِمَنْ هَذَا النَّخْلُ ؟ " قُلْتُ: لِي، قَالَ: " مَنْ غَرَسَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ ؟ " قُلْتُ: مُسْلِمٌ، قَالَ: "
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2320 ) وصحيح مسلم- المكنز -(4055)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4050 ) -يرزأ : يأخذ منه وينقصه(1/257)
مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، أَوْ طَيْرٌ، أَوْ سَبْعٍ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً " (1) .
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ (2) .
وَعَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أَمْسَى كَالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3) .
وفي فضل الصناعة:
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ صَاحِبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ (4) .
وفي فضل التجارة :
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (5) .
وعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ مَعَ السَّبْعَةِ فِي ظِلِّ عَرْشِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالسَّبْعَةُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَمَيْسَمٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَرَجُلٌ ذُكِرَ اللهُ عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ مِنْ حُبِّهِ إِيَّاهَا، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَكَادَتْ يَمِينُهُ تُخْفِي مِنْ شِمَالِهِ، وَرَجُلٌ لَقِيَ أَخَاهُ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ
__________
(1) - شعب الإيمان - (5 / 149)(3222 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4056 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 493)(12981) 13012- صحيح
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (7733 ) حسن لغيره
فيه سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس روى عنه جماعة وقال الذهبي في الكاشف (2139) وثق
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2072 ) وشعب الإيمان - (2 / 434)(1170 )
(5) - شعب الإيمان - (2 / 437)(1175) حسن(1/258)
فِي اللهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ فِي اللهِ حَتَّى تَصَادَرَا عَلَى ذَلِكَ، وَرَجُلٌ نَشَأَ فِي الْخَيْرِ مِنْ هُوَ غُلَامٌ " (1) .
وعَنْ أَبِي حَرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ يَقُولُ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: التَّاجِرُ الأَمِينُ الصَّادِقُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: صَدَقَ الْحَسَنُ، أَوْ لَيْسَ فِي جِهَادٍ؟ (3) .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ (4) .
قال العلماء: لا نفضل واحدة منهم بإطلاق، بل التفضيل يكون بحسب حاجة المجتمع إليها: فحيث تقل الأقوات ويكون المجتمع في حاجة إلى غذائه اليومي الذي لا عيش له إلا به، تكون الزراعة أفضل من غيرها لحماية الأمة من الجوع وتوفير الأمن الغذائي، وخصوصاً إذا كان في الزراعة بعض المشقة والصعوبة، فالصبر عليها يكون من أفضل الأعمال .
وأما حيث تكثر الأقوات وتتسع دائرة الزراعة، ويحتاج الناس إلى الصناعات المختلفة للاستغناء عن الاستيراد من ناحية، ولتشغيل الأيدي العاملة من ناحية أخرى، ولحماية حرمات الأمة وحدودها - بالنسبة للصناعات الحربية - من ناحية ثالثة، ولتفادي نقص الكفاية الإنتاجية للأمة من ناحية رابعة، فهنا تكون الصناعة أفضل.وأما حين تتوفر الزراعة والصناعة، ويحتاج الناس إلى من ينقل ما تنتجه هذه وتلك من بلد إلى آخر، فهو وسيط جيد بين المنتج والمستهلك، وكذلك عندما يسيطر على السوق تجار جشعون محتكرون ومستغلون لحاجات جماهير الخلق ومتلاعبون بأسعار السلع، فهنا تكون التجارة أفضل،
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 333)(8613 ) فيه انقطاع
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (7 / 271)(23546) صحيح مرسل
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (7 / 271)(235476) صحيح مرسل
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 144)(37196-و37197) صحيح لغيره(1/259)
وخصوصاً إذا كان من الرجال الذين { لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور.
وأحوج ما تحتاج إليه أمتنا في عصرنا هو التكنولوجيا المتطورة، وكذلك تطور مناهجها ونظمها التعليمية، بما يعيد إليها مكانتها العالمية، يوم كانت لها حضارة متميزة، عميقة الجذور، باسقة الفروع، وأن تستشرف المستقبل وتنظر إليه من خلال ما يطلبه منها الإسلام، وما ينشده أهله، وما يتطلع إليه العالم من المعرفة به عقيدة ونظاماً وحضارة .
وإن تحصيل هذه التكنولوجيا المتقدمة والتفوق فيها، وفي العلوم الموصلة إليها أصبح فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، وهي في مقدمة الأولويات للأمة اليوم .
• أفضل العبادات :
وقد اختلف العلماء بالنسبة لأفضل العبادات بالنسبة للفرد اختلافاً بعيداً، وتعددت أقوالهم وتباينت، والقول المرجّح ما ذكره الإمام ابن القيم، وهوأن ذلك يختلف من شخص إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن حال إلى آخر.فالأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والدعاء والذكر والاستغفار.والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه .
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ قَالَ: حَجَّاجٌ: خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ (1) ....وهكذا .
5- الأولويات في مجال المأمورات :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 322)(5022) صحيح(1/260)
أ- أولوية الأصول على الفروع .
- وذلك بتقديم ما يتصل بالإيمان بالله - تعالى - وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأركان الإيمان كما بينها القرآن الكريم، قال الله - تعالى -: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة،.
وقال - تعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة.
وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (136) سورة النساء.
ب- أولوية الفرائض على السنن والنوافل .
- إن فقه الأولويات يقتضي أن نقدم الأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، وأن نتساهل في السنن والمستحبات ما لا نتساهل في الفرائض والواجبات، وأن نؤكد أمر الفرائض الأساسية أكثر من غيرها، وبخاصة الصلاة والزكاة الفريضتان الأساسيتان اللتان قرن الله بينهما في القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعاً، وجاءت عدة أحاديث صحيحة في ذلك، فعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُسًا، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لاِبْنِ عُمَرَ: أَلاَ تَغْزُو ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،(1/261)
يَقُولُ: بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ. متفق عليه (1) .
- ومن الخطأ إذن اشتغال الناس بالسنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض، فنرى بعض المنتسبين إلى الدِّين مَن يقوم كل الليل، ثم يذهب إلى عمله الذي يتقاضى عليه أجراً وهو متعب كليل القوة، فلا يقوم بواجبه كما ينبغي , ولو علم أن إحسان العمل فريضة: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. (2) .
وأن التفريط فيه خيانة للأمانة وأكل للمال - آخر الشهر - بالباطل، لوفّر على نفسه ذلك القيام لأنه ليس أكثر من نفل، لم يلزمه الله به ولا رسوله .
ومثله من يصوم الاثنين والخميس، فيتعبه الصيام، وخصوصاً في أيام الصيف، فيمضي إلى عمله مكدوداً مهدوداً، وكثيراً ما يؤخر مصالح الناس بتأثير الصوم عليه.والصوم هنا نفل غير واجب ولا لازم وإنجاز المصالح واجب ولازم !
فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِى بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ » (4) .
وذلك لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة.وكذلك نرى بعض المسلمين الذين يحجون تطوعاً بعد الفريضة مرات عديدة، مع أن كثيراً من الفقراء يحتاجون إلى المال، وكثيراً من
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (8 ) وصحيح مسلم- المكنز - (122) وصحيح ابن حبان - (1 / 373)(158)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5167 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 200)(5884)
(3) - شعب الإيمان - (7 / 233)(4930 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5195 )(1/262)
المناطق تحتاج إلى المراكز الدعوية لتعليم الناس أمور الدين، وكثيراً من الناس يموتون لأنهم لا يجدون الدواء المناسب !!
وهؤلاء لو فقهوا دينهم وعرفوا شيئاً من فقه الأولويات، لقدموا مساعدة مشاريع دعوية وإنسانية كثيرة على استمتاعهم الروحي بالحج التطوعي !!
ج- أولوية فرض العين على فرض الكفاية .
- كما أن الفرائض مقدمة في الرتبة على النوافل بلا نزاع، فالفرائض في نفسها متفاوتة، ففرض العين مقدم على فرض الكفاية.وقد دلت الأحاديث النبوية على ذلك، وأظهر مثال ما جاء في شأن بر الوالدين والجهاد في سبيل الله حينما يكون الجهاد فرض كفاية، وهو جهاد الطلب لا جهاد الدفع.فقد روى الشيخان عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ، فقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ (1) . ( أي الخدمة والرعاية والطاعة .. ).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَىَّ يَبْكِيَانِ.قَالَ :« فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا » (2) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلاَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ قَالَ: فَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَالِدَيْكَ ؟ فَقَالَ: أُمِّي قَالَ: فَابْلُ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرِّهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَبَرَّهَا " الطبراني (3) .
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِىِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ.فَقَالَ « هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا ». رواه النسائي (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3004 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6668 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 21)(318)
(2) - مسند الحميدي - المكنز - (612) صحيح
(3) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 144)(218) حسن
(4) - سنن النسائي- المكنز - (3117 ) صحيح(1/263)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بن جَاهِمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْتَشِيرُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَكَ وَالِدَانِ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " الْزَمْهُمَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَرْجُلِهِمَا " (1) .
• فروض الكفاية تتفاوت :
- وفروض الكفاية نفسها تتفاوت، فهناك فروض كفاية قام بها بعض الناس، وربما أصبح فيها فائض، وفروض كفاية أخرى لم يقم بها عدد كافٍ، أولم يقم بها أحد قط.ففي زمن الإمام الغزالي عاب على أهل عصره أنهم تكدسوا في طلب الفقه، وطلبه فرض كفاية، على حين تخلَّفوا عن ثغرة في واجب كفائي آخر، مثل علم الطب، حتى إن البلدة يوجد بها خمسون متفقهاً، ولا يوجد بها إلا طبيب من أهل الذمة، مع ضرورة الطب الدنيوية ومع أن للطب مدخلاً في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية.ففرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به بعض، ولولم يسد كل الحاجة، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كافٍ يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كافٍ، وربما زائد عن الحاجة.وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمرومن الناس ؛ لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، ووجد الموجب لقيامه، ولم يوجد المانع منه .
كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس، وهو وحده التي تعلَّم الفقه، أو هو وحده القادر على تحصيله.ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس، وكل ذي علم أو صنعة يحتاج إليها الناس، وهو يملكها دون غيره !
د- أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد.
- فروض الأعيان تتفاوت فيما بينها أيضاً، ولقد رأينا الشريعة تؤكد في كثير من أحكامها تعظيمَ ما يتعلق بحقوق العباد .
ففرض العين، المتعلق بحق الله - تعالى - وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد. فقد قال العلماء: إن حقوق الله - تعالى - مبنية على المسامحة،
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 418)(2157) صحيح(1/264)
وحقوق العباد مبنية على المشاحة. ولهذا إذا كان الحج مثلاً واجباً، وأداء الدَّين واجباً، فإن أداء الدَّين مقدَّم، فلا يجوز للمسلم أن يقدم على الحج حتى يؤدي دينه، إلا إذا استأذن من صاحب الدين، أو كان الدين مؤجلاً، وهو واثق من قدرته على الوفاء به !
- ولأهمية حقوق العباد هنا - وبخاصة الحقوق المالية - صحَّ الحديث أن الشهادة في سبيل الله - وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه - لا تُسقط عنه الدَّين !
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ ». رواه مسلم (1) .
- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَتَغَيَّرَتْ وجُوهُ الْقَوْمِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللهِ فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لاَ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ (2) .
فمن أجل درهمين أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن الطمع في المال العام، قلّ أوكثر !!
- هذه الأحاديث تدل على تعظيم حقوق الخلق، ولاسيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصاً أم عاماً، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافهاً، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجرُّ إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر .
هـ- أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد
- إن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد.فإن الفرد لا بقاء له إلا بالجماعة، ولا يستطيع أن يعيش وحده، فهومدني بطبعه، كما قال القدماء، أو هوحيوان اجتماعي كما قال المحدثون، فالمرء قليل بنفسه، كثير بجماعته.بل هو عدم بنفسه، موجود بجماعته .ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة آكد من
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4991 )
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 191) (4853) حسن(1/265)
الواجب المتعلق بحق الفرد.ومن الأمثلة على ذلك: فك الأسرى وتخليصهم من ذل الأسر، مهما كلف ذلك من الأموال.لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة الأمة الإسلامية، وكرامة الأمة فوق الحرمة الخاصة لأموال الأفراد، فعَنْ أَبِى مُوسَى - رضي الله عنهم - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فُكُّوا الْعَانِىَ - يَعْنِى الأَسِيرَ - وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ » (1) .
وكذلك إذا اقتضت ظروف الدولة فرض ضرائب عادلة على القادرين وأهل اليسار لحفظ هيبة الدولة ونظامها، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان الكثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة (2) !
و- أولوية الولاء للأمة والجماعة على الولاء للقبيلة والفرد .
- كانت القبيلة في المجتمع الجاهلي هي أساس الانتماء ومحور الولاء، وكان ولاء الرجل لقبيلته في الحق وفي الباطل .وكان شعار كل منهم: " انصر أخاك ظالماً أومظلوماً " على ظاهر معناها !! فلما أن جاء الإسلام جعل ولاء المسلمين لأمتهم وربّاهم - من خلال القرآن الكريم والسنَّة - على القيام لله شهداء بالقسط، لا يمنعهم من ذلك عاطفة الحب لقريب ،ولا عاطفة البغض لعدو! فالعدل يجب أن يكون فوق العواطف، وأن يكون لله، فلا يحابي مَن يحب، ولا يحيف على من يكره.قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (135) سورة النساء.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، كونوا قائمين بالعدل، مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى، ولو كانت على أنفسكم، أو على آبائكم وأمهاتكم، أو على أقاربكم، مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا; فإن الله تعالى أولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلا يحملنَّكم الهوى والتعصب على ترك العدل، وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3046 )
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (35 / 13)(1/266)
فتأتوا بها على غير حقيقتها، أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها، فإن الله تعالى كان عليمًا بدقائق أعمالكم، وسيجازيكم بها.
وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة.
يا أيها الذين آمَنوا بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كونوا قوَّامين بالحق، ابتغاء وجه الله، شُهداء بالعدل، ولا يحملنكم بُغْضُ قوم على ألا تعدلوا، اعدِلوا بين الأعداء والأحباب على درجة سواء، فذلك العدل أقرب لخشية الله، واحذروا أن تجوروا. إن الله خبير بما تعملون، وسيجازيكم به.
واستخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - - بعض عبارات الجاهلية، وأعطاها مفهوماً جديداً، لم يكن لهم به عهد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ: تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ. (1) .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: " وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الظَّالِمَ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا، أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [النساء: 110]، فَكَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَرَ الْمَظْلُومُ - إِذَا كَانَ غَيْرَ نَفْسِ الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْهُ - كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَرَ إِذَا كَانَ نَفْسَ الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ بِنُصْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، إِذَا رَآهُ يَظْلِمُ وَقَدَرَ عَلَى نَصْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا جَمَعَهُمَا صَارَا كَالْبَدَنِ الْوَاحِدِ، كَمَا أَنَّ أُخُوَّةَ النَّسَبِ لَوْ جَمَعْتُهُمَا كَانَا كَالْبَدَنِ الْوَاحِدِ، وَالدِّينُ أَقْوَى مِنَ الْقَرَابَةِ، وَأَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] (2) .
- كما حذّر - عليه الصلاة والسلام - من الدعوة للعصبية، أو القتال تحت رايتها، فمن قُتِل تحتها فقتلته جاهلية، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ مِنَّا مَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6952) وصحيح ابن حبان - (11 / 571) (5167)
(2) - شعب الإيمان - (10 / 84)(1/267)
دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ». رواه أبوداود (1) .
وعن خُصَيْلَةَ بنتِ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا، يَقُولُ: قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْعَصَبِيَّةُ؟ قَالَ: أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ "رواه أبوداود (2) .
وكما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - " العصبية " وبرىء منها، وممن دعا إليها، أو قاتل عليها، أو مات عليها ،فإنه دعا إلى " الجماعة " [ المجتمع وحفظه ] وأكد أمرها، بقوله وفعله وتقريره، وحذَر من الفرقة والخلاف والانفراد والشذوذ، فعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الأَشْجَعِىِّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ « إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِى هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَوْ يُرِيدُ تَفْرِيقَ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ » (3) .
وعَنِ السَّائِبِ بْنِ مِهْجَانٍ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ إِيلِيَاءَ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الشَّامَ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا خَطِيبًا كَقِيَامِي فِيكُمْ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَقَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا، وَمَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، وَسَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ فَهُوَ أَمَارَةُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَمَارَةُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا تَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ وَلَا تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ إِنْ عَمِلَ خَيْرًا لَمْ
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5123) حسن لغيره
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 472)(17696 ) وسنن أبي داود - المكنز - (5121 ) ومن طريق آخر المعجم الكبير للطبراني - (15 / 456) (17658 ) والإصابة(10387) حسن
في سنده فسيلة بنت واثلة بن الأسقع وقيل جميلة روى عنها جماعة ووثقها ابن حبان التهذيب(11900) وتهذيب الكمال (7806) والراوي عنها سلمة بن بشر الدمشقي روى عنه جماعة وذكره ابن حبان في ثقاته التهذيب(2906) وسكت عليه أبو حاتم4/157
قلت : وله متابع تام عند الطبراني
(3) - سنن النسائي- المكنز - (4037 ) صحيح -يركض : يتحرك ويضطرب(1/268)
يَرْجُ مِنَ اللهِ فِي ذَلِكَ ثَوَابًا، وَإِنْ عَمِلَ شَرًّا لَمْ يَخَفْ مِنَ اللهِ فِي ذَلِكَ الشَّرِّ عُقُوبَةً، وَأَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِكُمْ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لَهُ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ عَامِلًا، اسْتَعِينُوا بِاللهِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَإِنَّهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ " - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ.السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " هَذِهِ خُطْبَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، أَثَرَهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِيَ فَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا غَيْرَهُ , فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ , وَرَبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ , ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ الْمُؤْمِنُ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ , وَمُنَاصَحَةُ الْمُسْلِمِينَ , وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ , فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَأْتِي مِنْ وَرَاءِهِمْ , وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ , فَمَنْ شَذَّ عَنْ يَدِ اللَّهِ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شُذُوذُهُ " (2) .
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ: مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ.التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ. رواه أحمد (3) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْجَمَاعَةٌ بَرَكَةٌ، وَالثَّرِيدُ بَرَكَةٌ، وَالسَّحُورُ بَرَكَةٌ، تَسَحَّرُوا فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ، وَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ تَسَحَّرُوا وَلَوْ عَلَى جَرْعٍ مِنْ مَاءٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ " (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا فَقَالَ: " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَحَتَّى يَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 426)(10574 ) صحيح
(2) - مسند الشاميين 360 - (2 / 260)(1302) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 297)(18449) 18640- وصحيح الجامع ( 3014 ) والشعب ( 4419 و9119 ) وكشف الأستار - (2 / 253) (1637) حسن لغيره
(4) - مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ (2861 ) ضعيف(1/269)
وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا شَيْطَانٌ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتَهُ حَسَنَتْهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ " (1) .
- والملاحظ أن الشريعة الإسلامية تغرس روح الجماعة في أفراد الأمة، وهي لم تغفل أمر المجتمع في عباداتها ومعاملاتها وآدابها وجميع أحكامها، فهي تعدُّ الفرد يكون " لبنة " في بنيان المجتمع، أو" عضواً " في بنية جسده الحي.فعَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.متفق عليه (2) ،.
وعن عَامِرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى (3) . .
تداعى له: تداعى البناء: إذا تبع بعضه بعضا في الانهدام، كأن أجزاءه قد دعا بعضها بعضا.
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ (4) .
6- الأولويات في مجال المنهيات :
- كما أن هناك تفاوتاً في المأمورات ودرجاتها ومستوياتها: من مستحب إلى واجب إلى فرض كفاية إلى فرض عين إلى تفاوت في فروض الأعيان ..إلخ، هناك تفاوت أيضاً في جانب المنهيات، وهي مراتب متفاوتة غاية التفاوت، أعلاها بلا شك: الكفر بالله - تعالى -، وأدناها: المكروه تنزيهاً، أوما يُعَبَّر عنه بـ " خلاف الأولى " .
__________
(1) - عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة - (1 / 239)327-7981 - وسنن الترمذى برقم(2318 ) والمستدرك للحاكم برقم(387) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (481) وصحيح مسلم- المكنز - (6750 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 467)(231)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 276)(18373) 18563- وصحيح مسلم- المكنز - (6751 )
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 281)(18393) 18583- وصحيح مسلم- المكنز - (6753 )(1/270)
- والكفر أيضا درجات بعضها دون بعض :
• كفر الإلحاد والجحود: وهوالذي لا يؤمن صاحبه بأن للكون رباً، ولا أن له ملائكة أوكتباً أورسلاً مبشرين ومنذرين، ولا أن هناك آخرة يُجزى الناس فيها بما عملوا خيراً أوشراً.فهؤلاء لا يعترفون بألوهية ولا نبوة ولا رسالة ولا جزاء أخروي، بل هم كما قال القرآن عن أسلاف لهم يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (37) سورة المؤمنون.
وهذا شر أنواع الكفر، وصدق الله العظيم إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (136) سورة النساء.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن طاعتهما، وبالقرآن الذي نزله عليه، وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل. ومن يكفر بالله تعالى، وملائكته المكرمين، وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه، ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته، واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب، فقد خرج من الدين، وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق.
• كفر الشرك: وهذا دون السابق، وذلك مثل شرك عرب الجاهلية، فقد كانوا يؤمنون بوجود الإله، وبخالقيته للسماوات والأرض والناس وبتدبيره لأمر الرزق والحياة والموت، ولكنهم أشركوا بالله وعبدوا معه أو من دونه آلهة أخرى في الأرض أو في السماء.وفي هذا يقول القرآن الكريم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (61) سورة العنكبوت.
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (31) سورة يونس .
• كفر أهل الكتاب: ودون هذا الكفر: كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكفرهم من جهة تكذيبهم برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي بعثه الله - تعالى - بالرسالة(1/271)
الخاتمة، وأنزل عليه الكتاب الخالد، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل من جهة، ومصححاً لها من جهة أخرى، وفي هذا يقول الله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة.
وكفرهم أيضاً من حيث أنهم حرفوا التوراة والإنجيل اللتين نزلتا على موسى وعيسى عليهما السلام .
وبالرغم من ذلك فإن لهم وضعاً خاصاً في الشريعة ،وهم أنفسهم درجات فمنهم المسالم الطيب ومنهم المحارب ومنهم ... ومنهم ... فإن كانوا خاضعين لقوانين الإسلام فهم أهل ذمة ينطبق عليهم قانون أهل الذمة، وإلا كانوا محاربين فيخيرون بين ثلاث إما الإسلام وإما دفع الجزية عن يد وهم صاغرون وإما الحرب، قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (29) سورة التوبة.
• كفر أهل الردة: وهو شر أنواع الكفر.قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة
• كفر النفاق: وهو من أغلظ أنواع الكفر وأشدها خطراً على الحياة الإسلامية والوجود الإسلامي، قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا(1/272)
يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) } [البقرة: 8 - 16] .
التفريق بين الأكبر والأصغر من الكفر والشرك والنفاق :
- فالكفر الأكبر هو ما ذكرناه سابقاً، وعقوبته ذكرها الله - تعالى - في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء.
فأما من لم يتبين له الهدى بأن لم تبلغه الدعوة أصلاً، أو بلغته بلوغاً مشوَّهاً لا يحمل على النظر والبحث فيها، فهو معذور، وقد قال الله - تعالى -: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء.
قلت: اليوم لا عذر لأحد من أهل الأرض في ترك الإسلام، فقد بلغتهم دعوة الإسلام عن طريق النت وغيره من وسائل الإعلام وبشكل صحيح ودقيق، فلا عذر لهم عند الله تعالى .
- ونعتقد أن المسلمين مسؤولون - إلى حد كبير - عن ضلال أمم الأرض، وجهلهم بحقائق الإسلام، واعتناقهم لأباطيل خصومه، وعليهم أن يبذلوا جهوداً أكبر وأصدق في تبليغ رسالتهم، ونشر دعوتهم لدى كل قوم بلسانهم، حتى يبينوا لهم ويثبتوا لهم عالمية الإسلام حقاً .
قلت: الضعفاء لا يلتفت إليهم أحد، فقبل تبليغ دعوة الإسلام لهؤلاء وتحميل المسلمين المسؤولية في ذلك، يجب أن ننتبه لأمر في غاية الخطورة، وهو أننا ندعو الناس اليوم إلى دين غير مطبق على الواقع قد حاربه أهله في عقر داره وتنكروا له، فيستطيع أي واحد من هؤلاء المدعوين أن يقول لنا: كلامكم جميل ولكن أروني أين هو على(1/273)
الواقع، وما أكثر الذين يحملون الكلام المعسول، فإذا نظرت إليهم أثناء تطبيقه تستطيع أن تكشفهم بسهولة، فكان من أوجب الواجبات السعي لإيجاد دولة تتبنى الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ومنهج حياة، لتبين للناس إمكانية تطبيق الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، ولتدافع عن الدعاة إلى الله لا أن تسلِّمهم إلى الكفار والفجار ليسيموهم أشد أنواع العذاب بحجة محاربة الإرهاب- كما يحدث اليوم- !!!
فالإسلام لم ينتشر في الأرض إلا بعد وجود الدولة الإسلامية، ولكن فقهاء الهزيمة والتطبيع والحوار لا يعلمون .
ونسي هؤلاء أن الذي يرفض التحاكم إلى الإسلام أنه ليس بمسلم ولو صام وصلى وزعم أنه مسلم، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام. يقرره اللّه سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحدّ الإسلام، ولا تأويل لمؤول.
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام .. وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا. فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد .. وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه. إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه. وإلا لم يبق لشريعة اللّه وسنة رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبي بكر - رضي اللّه عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين: بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير. وهو مجرد عدم الطاعة للّه ورسوله، في حكم الزكاة وعدم قبول حكم رسول اللّه فيها، بعد الوفاة! وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة اللّه وحكم رسوله .. فإنه لا يكفي في «الإيمان» هذا، ما لم يصحبه الرضى(1/274)
النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام .. وهذا هو الإيمان .. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقبل الرضى والتسليم بقضائه، يعود ليقول: إن هذا المنهج الذي يدعون إليه وهذه الشريعة التي يقال لهم: تحاكموا إليها - لا لسواها - وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به ... إنه منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم .. إنه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم ولا يكلفهم عنتا يشق عليهم ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم .. فاللّه يعلم ضعف الإنسان ويرحم هذا الضعف. واللّه يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة، ما أداها إلا قليل منهم .. وهو لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية .. ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية (1) .
فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة اللّه، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون» ثم هم لا يحكمون شريعة اللّه في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم .. إنما يدعون دعوى كاذبة وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (43) سورة المائدة. فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة اللّه من الحكام فحسب بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم اللّه من المحكومين، يخرجهم من دائرة الإيمان، مهما ادعوه باللسان (2) .
- أما الكفر الأصغر فهو المعاصي مهما يكن مقدارها في الدين، وصاحبه -عند جمهور العلماء-فاسق أو عاص لا كافر.{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (48) سورة النساء
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 696)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 895)(1/275)
- ومن الشرك الأصغر: يسير الرياء والحلف بغير الله .
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْكِي ؟ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا , قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ (1) .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَحَلَفَ رَجُلٌ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ (2) .
- وأما النفاق الأصغر فهو نفاق العمل والسلوك، وهو الذي يتخلق بأخلاق المنافقين، ويسلك سلوكهم، وإن كانت عقيدته سليمة، وهو ما حذرت منه الأحاديث الصحاح، مثل الحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »متفق عليه (4) .
__________
(1) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (5 / 126)(3989) وموسوعة السنة النبوية - (5 / 247) (6353) صحيح لغيره
عادى : حارب الذين يطيعون الله ويتبعون أوامره ، بارز : أعلن حربه مع الله تعالى -الأخفياء : الذين يعكفون على عبادة الله ويتركون الرياء وحب الظهور - مصابيح الهدى : لكثرة إيمانهم أضاء الله بصائرهم- غبراء مظلمة : جهالات مفسدة أى يهديهم الله إلى الحق فيبعدون عن كل الفتن
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 200)(4358) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (34 ) وصحيح مسلم- المكنز - (219) وصحيح ابن حبان - (1 / 488)(254)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (33 ) وصحيح مسلم- المكنز - (220)(1/276)
وفي رواية لمسلم: وَقَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ » (1) .
وهذه الأحاديث وأمثالها هي التي جعلت الصحابة - رضوان الله عليهم - يخافون على أنفسهم النفاق، وفي صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ >> كِتَابُ الإِيمَانِ >> بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: " مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا " وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: " أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ " وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: " مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ.وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ "
وعَنْ حُذَيْفَةَ، - رضي الله عنهم - ، قَالَ: دُعِيَ عُمَرُ، لِجِنَازَةٍ، فَخَرَجَ فِيهَا أَوْ يُرِيدُهَا فَتَعَلَّقْتُ بِهِ فَقُلْتُ: اجْلِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ أُولَئِكَ، فَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ، قَالَ: لاَ وَلاَ أُبَرِّئُ أَحَدًا بَعْدَكَ (2) .
وأما المعاصي فتنقسم إلى :
أ- الكبائر، ومنها كبائر معاصي القلوب كالكبر والحسد والبغضاء، الشح المطاع، الهوى المتبع، الإعجاب بالنفس ،حب الدنيا على الآخرة، حب الجاه والمنصب ولو قاد ذلك إلى ظلم الغير، اليأس من رحمة الله -تعالى -، الأمن من مكر الله - سبحانه -، حب انتشار الفاحشة ...
وأما كبائر الأعمال فقد وردت في آيات وأحاديث كثيرة، ومنها: قتل النفس بغير الحق، أكل الربا، السحر ،أكل مال اليتيم،عقوق الوالدين، شرب الخمر، الزنى، قطع الطريق، الانتحار، قذف المحصنات، ... .الخ .
والكبائر - عموماً - تتفاوت في درجاتها، فعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ، وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (222)
(2) - كشف الأستار - (1 / 391)(831) صحيح(1/277)
رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ أَبَوَيْهِ ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ الرَّجُلُ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (1) .
وقد فرقت الشريعة بين المعصية التي سببها الظلم ( كالربا ) والمعصية التي سببها الضعف ( كالزنى )، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً. (2) .
ب- الصغائر.فبعد الكبائر تأتي صغائر المحرمات المقطوع بحرمتها(100% )، وقد سمتها الشريعة لمماً، وهذه لا يكاد أحد يسلم من الإلمام بها حينا من الزمن، ولهذا تفترق عن الكبائر بأنها تكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة وصيام رمضان وقيامه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُمَا، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (3) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم
وقال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (31) سورة النساء
إن تبتعدوا -أيها المؤمنون- عن كبائر الذنوب كالإشراك بالله وعقوق الوالدين وقَتْلِ النفس بغير الحق وغير ذلك، نكفِّر عنكم ما دونها من الصغائر، وندخلكم مدخلا كريمًا، وهو الجنَّة.
أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح، قال تعالى :{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 708)(7029) وصحيح البخارى- المكنز - (5973 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 334)(21957) 22303- والصحيحة (1033) وصحيح الجامع (3375) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (574) وشعب الإيمان - (5 / 230)(3347 )(1/278)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) } [الفرقان: 68 - 71]
والشريعة - وإن سامحت وخففت في الصغائر - قد حذرت من الاستهانة بها والإصرار عليها، فإن الصغير إذا أضيف إلى الصغير أصبح كبيراً !
ومما يلحق بالمعاصي البدع الاعتقادية والعملية .والبدع ليست كلها في مرتبة واحدة، فهناك بدع مغلظة وبدع مخففة، وبدع متفق عليها وبدع مختلف فيها.وهناك بدع مغلظة تصل بصاحبها إلى درجة الكفر مثل الفرق التي خرجت على أصول الملة الإسلامية، وهناك بدع مغلظة ولكنها لا تصل بصاحبها إلى الكفر، وإنما تصل به إلى الفسق فسق الاعتقاد (1) .
وبعد الصغائر تأتي الشبهات: وهي الأمور التي لا يعلم حكمها كثير من الناس ويشتبهون في حلها أوحرمتها، فهي - إذن - ليست كالمحرمات المقطوع بها، ولا يجور لنا أن نرفعها إلى درجة الحرام الصريح، فإن من أخطر الأمور - تذويب الحدود بين مراتب الأحكام الشرعية، فعَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَأَهْوَى بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ، يَقُولُ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنَ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (2) .
وفي أدنى مراتب المنهيات تأتي المكروهات: والمقصود منها هنا المكروه التنزيهي الذي هوإلى الحلال أقرب، والمكروه - كما يعرفه العلماء -: ما كان في تركه أجر ولم يكن في فعله وزر، فلا عقاب - إذن - على من ارتكب المكروه التنزيهي وإنما قد يعاتب، فلا
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 21)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (6 / 560)(22435) صحيح - وهو في الصحيحين(1/279)
ينبغي أن ينكر مثل ذلك فكيف بمن يشدد في إنكاره!! كما لا يجوز أن يشغل الناس بمحاربة المكروهات وهم واقعون في المحرمات الصريحة ! .
7- الأولويات في مجال الإصلاح ( أي أثناء عملية الإصلاح ) :
أ -تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة، ولهذا لا بد من التربية قبل الجهاد، وحتى الجهاد نفسه مراتب :
- جهاد النفس.- جهاد الشيطان ( جهاد الشكوك والشبهات ) .
- جهاد الكفار والمنافقين وفق شروط وضوابط .
ب- تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر وتصحيح التصور وتصويب منهج النظر والعمل وهوما يسمى بأولوية المعركة الفكرية، ولها مجالان :
1 - معركة فكرية خارج الساحة الإسلامية ( مع غير المسلمين ) .
2 - معركة فكرية داخلية ( داخل المسلمين أنفسهم ) .
أما الأولى فلها قواعدها وضوابطها وآدابها، وأما الثانية فهي التي سنتكلم عنها فيما يلي .
لا شك أن لدينا - المسلمين - تيارات متعددة :
1) التيار الخرافي، وله عدة صفات، منها :
- الخرافة في الاعتقاد.- الابتداع في العبادة.- الجمود في الفكر .- التقليد الأعمى المتعصب ( دون فهم ).- السلبية في السلوك .
2) التيار الحرفي، وله عدة صفات، منها :
- الجدلية في العقيدة.- الشكلية في العبادة.- الظاهرية في الفقه .- الجزئية في الاهتمام.- الجفاف في الروح.- الخشونة في الدعوة .- الضيق بالخلاف .
3) تيار الرفض والعنف: وهو تيار يقوم على رفض المجتمع بجميع مؤسساته، ولهذا التيار عدة صفات، منها :
- الشدة والصرامة في الالتزام بالدين.- الاعتزاز بالذات اعتزازا يؤدي إلى التكبر على المجتمع .- سوء الظن بالآخرين.- استعجال الأشياء قبل أوانها في الإصلاح .- ضيق الأفق(1/280)
في فهم الدين وفهم الواقع وفهم السنن الكونية والاجتماعية .- المسارعة إلى التكفير.- اتخاذ القوة سبيلاً إلى تحقيق الأهداف .
قلت: ولا علاقة لهذا التيار بالتيار الجهادي الحركي، الذي جاءت النصوص القطعية بمدحه وبيان صفاته، وقد أفردته بكتاب (1) .
4) التيار الوسطي: الذي يقوم على التوازن والوسطية في فهم الدين والحياة والعمل لتمكين الدين ،وله صفات ومميزات تميزه عن غيره، منها :
- فقهه للدين فقها شاملا متزنا عميقا .
- فقهه لواقع الحياة دون تهوين ولا تهويل: واقع المسلمين وواقع غيرهم .
- فقه سنن الله وقوانينه التي لا تتبدل، وخصوصا سنن الاجتماع البشري .
- فقه مقاصد الشريعة وعدم الجمود على ظواهرها .
- فقه الأولويات وهو مرتبط بأنواع أخرى من الفقه .
- فقه الاختلاف وآدابه ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ).
- الجمع بين الأصالة والمعاصرة .
- الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر .
- الإيمان بأن التغيير الفكري والنفسي والخلقي أساس كل تغيير حضاري .
- تقديم الإسلام مشروعاً حضارياً متكاملاً لبعث الأمة وإنقاذ البشرية .
- اتخاذ منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة .
- إبراز القيم الاجتماعية والسياسية في الإسلام، مثل: الحرية والكرامة والشورى والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان .
- الحوار بالحسنى مع المخالفين من غير المسلمين، ومع المسلمين المغزوين عقلياً والمهزومين روحياً .
__________
(1) - انظر كتابي (( المفصل في تخريج أحاديث الطائفة المنصورة ))(1/281)
- فهم الجهاد فهما صحيحا بأنواعه كلها دون استثناء ومعرفة أوقاتها المعتبرة وضوابطه الشرعية .
والتيار الوسطي هو التيار الذي نريده ونسعى إليه، فهو المعبر الحقيقي عن الإسلام، كما أنزل الله - تعالى - في كتابه، وكما هدى إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته وسيرته، وكما فهمه وطبقه الراشدون المهديون من أصحابه، وكما فقهه التابعون لهم بإحسان من خير قرون هذه الأمة .
قلت: الكلام النظري يقنع الناس، ولكنك إذا وضعته على المحك تظهر حقيقته، فأصحاب هذا التيار الوسطي - على حدِّ زعمهم - قد تخلَّوا عن كثير من الثوابت الشرعية تحت ضغط الواقع، أو بحجة عدم مناسبتها لعصرنا، أو عدم صلاحيتها، أو إرضاءً للكفار والفجار، ومن ثم لم يعد تياراً وسطيًّا، كما يزعم أصحابه، بل أصحاب التيارات الأخرى يزعمون أنهم يمثلون تيار الوسطية، وعندما يأتون بالأدلة تعرف الوسطية التي يدْعون إليها فهي وسطية غير صحيحة في حقيقة الأمر (1) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر الوسطية في القرآن الكريم للعمر والصلابي(1/282)
المبحث الحادي والعشرون
معرفة سنن الله الكونية في القرآن الكريم
ومن الأمور التي لا بد للداعية معرفتها والبحث عنها وفهمها: سنن الله الكونية في القرآن الكريم
منها :
1- في سورة القصص شرح مُسْتَفيضٌ لِعواقِب الحُكم الفَرْدِيّ والاسْتِبْداد السياسي، وشرح آخر لعواقب الطُّغيان الاقتصادي والاغْتِرار بالمال العَريضِ، أَوْجزَهُ المولى - تبارك اسمه - في هذه الخُلاصة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (83) سورة القصص.
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم.العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية.تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق.تلك الدار الآخرة «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً» ..
فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها.إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور باللّه، ومنهجه في الحياة.أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا.ولا يبغون فيها كذلك فسادا.أولئك هم الذين جعل اللّه لهم الدار الآخرة.تلك الدار العالية السامية.
«وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» الذين يخشون اللّه ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه (1) .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» ..عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله، وتحت عنوان «عهد القيادة الإسلامية»: «الأئمة المسلمون وخصائصهم»: «ظهر المسلمون، وتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3968)(1/283)
من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم.
« أولا: أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم.لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء، وقد جعل اللّه لهم نورا يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» وقد قال اللّه تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا.اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
ثانيا: - أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق، يزكيهم ويؤدبهم، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية اللّه، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها.عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَك اللَّهُ , وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ: إنَّا وَاللهِ لاَ نُوَلِّي هَذَا الْعَمَلَ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ (1) ».
ولا يزال يقرع سمعهم: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ..
فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب، فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة، ويزكوا أنفسهم، وينشروا دعاية لها، وينفقوا الأموال سعيا وراءها.فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد بل عدوه أمانة في عنقهم،
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (17 / 370)(33208) صحيح(1/284)
وامتحانا من اللّه ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم، ومسؤولون عن الدقيق والجليل، وتذكروا دائما قول اللّه تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» ..وقوله ..«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» ..
«ثالثا: أنهم لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم.
ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة اللّه وحده.وتلك حقيقة كان يعلنها الصحابة وقادة المسلمين في غزواتهم .ثُمَّ بَعَثَ سَعْدٌ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّادَاتِ مِنْهُمْ، النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعَ التَّمِيمِيُّ، وَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، يَدْعُونَ رُسْتُمَ إِلَى اللَّهِ - عز وجل - فَقَالَ لَهُمْ رُسْتُمُ: مَا أَقْدَمَكُمْ ؟ فَقَالُوا: جِئْنَا لِمَوْعُودِ اللَّهِ إِيَّانَا؛ أَخْذِ بِلَادِكُمْ وَسَبْيِ نِسَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِكُمْ، فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ.وَقَدْ رَأَى رُسْتُمُ فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَخَتَمَ عَلَى سِلَاحِ الْفُرْسِ كُلِّهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عُمَرَ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ رُسْتُمَ طَاوَلَ سَعْدًا فِي اللِّقَاءِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَمُلْتَقَاهُ سَعْدًا بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، كُلُّ ذَلِكَ لَعَلَّهُ يَضْجَرُ سَعْدًا وَمَنْ مَعَهُ لِيَرْجِعُوا، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلِكَ اسْتَعْجَلَهُ مَا الْتَقَاهُ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِمَا رَأَى فِي مَنَامِهِ، وَلِمَا يَتَوَسَّمُهُ، وَلِمَا سَمِعَ مِنْهُمْ، وَلِمَا عِنْدَهُ مِنْ عَلَمِ النُّجُومِ الَّذِي يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِمَا لَهُ مِنَ الْمُمَارَسَةِ لِهَذَا الْفَنِّ.وَلَمَّا دَنَا جَيْشُ رُسْتُمَ مِنْ سَعْدٍ، أَحَبَّ سَعْدٌ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى أَخْبَارِهِمْ عَلَى الْجَلِيَّةِ، فَبَعَثَ سَرِيَّةً لِتَأْتِيَهُ بِرَجُلٍ مِنَ الْفُرْسِ، وَكَانَ فِي السَرِيَّةِ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ الَّذِي كَانَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ثُمَّ تَابَ، وَتَقَدَّمَ الْحَارِثُ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى رَجَعُوا،(1/285)
فَلَمَّا بَعَثَ سَعْدٌ السَّرِيَّةَ اخْتَرَقَ طُلَيْحَةُ الْجُيُوشَ وَالصُّفُوفَ، وَتَخَطَّى الْأُلُوفَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ حَتَّى أَسَرَ أَحَدَهُمْ، وَجَاءَ بِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَسَأَلَهُ سَعْدٌ عَنِ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ يَصِفُ شَجَاعَةَ طُلَيْحَةَ، فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا وَأَخْبِرْنَا عَنْ رُسْتُمَ.فَقَالَ: هُوَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَيَتْبَعُهَا مِثْلُهَا.وَأَسْلَمَ الرَّجُلُ مِنْ فَوْرِهِ.رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ سَيْفٌ عَنْ شُيُوخِهِ: وَلَمَّا تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ بَعَثَ رُسْتُمُ إِلَى سَعْدٍ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ عَالِمٍ بِمَا أَسْأَلُهُ عَنْهُ.فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، - رضي الله عنهم - فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ جَعَلَ رُسْتُمُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكُمْ جِيرَانُنَا وَكُنَّا نُحْسِنُ إِلَيْكُمْ وَنَكُفُّ الْأَذَى عَنْكُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَلَا نَمْنَعُ تُجَّارَكُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِنَا.فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: إِنَّا لَيْسَ طَلَبُنَا الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هَمُّنَا وَطَلَبُنَا الْآخِرَةُ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ سَلَّطْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَدِنْ بِدِينِي، فَأَنَا مُنْتَقِمٌ بِهِمْ مِنْهُمْ، وَأَجْعَلُ لَهُمُ الْغَلَبَةَ مَا دَامُوا مُقِرِّينَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ لَا يَرْغَبُ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ، وَلَا يَعْتَصِمُ بِهِ إِلَّا عَزَّ.فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ: فَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَمُودُهُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِهِ، فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَيْضًا ؟ قَالَ: وَإِخْرَاجُ الْعِبَادِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ.قَالَ: وَحَسَنٌ أَيْضًا، وَأَيُّ شَيْءٍ أَيْضًا ؟ قَالَ: وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، فَهُمْ إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ.قَالَ: وَحَسَنٌ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ رُسْتُمُ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلْنَا فِي دِينِكُمْ، أَتَرْجِعُونَ عَنْ بِلَادِنَا ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ، ثُمَّ لَا نَقْرَبُ بِلَادَكُمْ إِلَّا فِي تِجَارَةٍ أَوْ حَاجَةٍ.قَالَ: وَحَسَنٌ أَيْضًا.قَالَ: وَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ مِنْ عِنْدِهِ ذَاكَرَ رُسْتُمُ رُؤَسَاءَ قَوْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَنِفُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ.
قَالُوا: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ، وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ، وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ،وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالُوا لَهُ: ضَعْ سِلَاحَكَ.فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ(1/286)
دَعَوْتُمُونِي، فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ.فَقَالَ رُسْتُمُ: ائْذَنُوا لَهُ.فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا، فَقَالُوا لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ فَقَالَ: اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ.قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ.فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ؟ قَالَ: لَا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا.فَقَالَ: مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ.فَقَالَ: أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ.فَاجْتَمَعَ رُسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ ؟ !
فَقَالَ: وَيْلَكُمْ لَا تَنْظُرُوا إِلَى الثِّيَابِ، وَانْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ، وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ." (1) ..
فالأمم عندهم سواء، والناس عندهم سواء.الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب.لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ».
فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها.
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (7 / 46) وتاريخ الرسل والملوك - (2 / 267) حسن(1/287)
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد، بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين ..
«رابعا: إن الإنسان جسم وروح، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها، ويتغذى غذاء صالحا، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني.وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية، وأصحاب عقول سليمة راجحة، وعلوم صحيحة نافعة» ..إلى أن يقول تحت عنوان: «دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة»:
« وكذلك كان، فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل.وفي ظهور المدنية الصالحة ..كانت حكومة من أكبر حكومات العالم، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها، تسود فيها المثل الخلقية العليا، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة، فتقل الجنايات، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها، وتحسن علاقد الفرد بالفرد، والفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد.وهو دور كما لي لم يحلم الإنسان بأرقى منه، ولم يفترض المفترضون أزهى منه ..».(1/288)
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع «سورة العصر» قواعده، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة.
ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة.وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار.وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة للّه.وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق.وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية اللّه ما تزال.وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح.
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض.وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير.وهناك.هناك الربح الحق والخسر الحق.هناك في الأمد الطويل، وفي الحياة الباقية، وفي عالم الحقيقة ..هناك الربح والخسر: ربح الجنة والرضوان، أو خسر الجنة والرضوان.هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له، أو يرتكس فتهدر آدميته، وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» (1)
2- في سورة يوسف، وفي أَضواء فُصولٍ مُثيرَةٍ من الغُرْبَةِ والسجن والإغْرار والظلم، يَبْرُزُ قانونان جَليلان: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (90) سورة يوسف.
فالصبر والتقوى تنال بهما سعادة الدارين والتمكين في الأرض، والرضى والرضوان .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2714) و ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - (1 / 128)(1/289)
والآخر ... {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (87) سورة يوسف
الأول نَهْجٌ خُلُقِيٌّ صارِمٌ في جَدْوى الاسْتِقامَةِ، والثاني الاسْتِناد إلى الله في ارْتِقابِ مُسْتقبل أفضل مهما أظْلَمَتِ الآفاق في مَرْأى العَين، فهل تَتِمُّ تَنْشِئة الشباب على هذه القواعد ؟ أم أنَّ التَّعَلُّقَ بالقُشورِ هودَيْدَنُنا ؟!
3- بدأت سورة محمد بهذه الآية: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (1) سورة محمد.
ألا تَلْمَحُ في هذا المطلع الحاسِم أنَّ الإلحادَ - مهما صَحِبَهُ مِنْ علم - مَشْؤومُ النهاية، وأنَّ الكفار والفَتَّانِين مهما بلغ ذكاؤهم لا بد أنْ يُحْرَموا بركات الله ويواجهوا الفشل والدمار، وأنَّ التَّعْوِيلَ إنما يكون على الإيمان والإصلاح ؟
وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير.والتي يبدو على ظاهرها الصلاح.فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان.فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه.
والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل.وقد يكون الباعث طيبا.ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة.لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير، متصل بخط سير الحياة العريض، ولا بناموس الوجود الأصيل.فلا بد من الإيمان ليشد النفس إلى أصل تصدر عنه في كل اتجاهاتها، وتتأثر به في كل انفعالاتها.وحينئذ يكون للعمل الصالح معناه.ويكون له هدفه ويكون له اطراده وتكون له آثاره وفق المنهج الإلهي الذي يربط أجزاء هذا الكون كله في الناموس ويجعل لكل عمل ولكل حركة وظيفة وأثرا في كيان هذا الوجود، وفي قيامه بدوره، وانتهائه إلى غايته.
وفي الجانب الآخر: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» ..(1/290)
والإيمان الأول يشمل الإيمان بما نزل على محمد.ولكن السياق يبرزه ويظهره ليصفه بصفته: «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» ويؤكد هذا المعنى ويقرره.وإلى جوار الإيمان المستكن في الضمير، العمل الظاهر في الحياة.وهو ثمرة الإيمان الدالة على وجوده وحيويته وانبعاثه.
وهؤلاء: «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» ..في مقابل إبطال أعمال الذين كفروا ولو كانت حسنات في شكلها وظاهرها.وبينما يبطل العمل ولو كان صالحا من الكافرين، فإن السيئة تغفر للمؤمنين.وهو تقابل تام مطلق يبرز قيمة الإيمان وقدره عند اللّه، وفي حقيقة الحياة ..
«وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» ..وإصلاح البال نعمة كبرى تلي نعمة الإيمان في القدر والقيمة والأثر.والتعبير يلقي ظلال الطمأنينة والراحة والثقة والرضى والسلام.ومتى صلح البال، استقام الشعور والتفكير، واطمأن القلب والضمير، وارتاحت المشاعر والأعصاب، ورضيت النفس واستمتعت بالأمن والسلام ..وماذا بعد هذا من نعمة أو متاع؟ ألا إنه الأفق المشرق الوضيء الرفاف.
ولم كان هذا وكان ذاك؟ إنها ليست المحاباة.وليست المصادفة.وليس الجزاف.إنما هو أمر له أصله الثابت، المرتبط بالناموس الأصيل الذي قام عليه الوجود يوم خلق اللّه السماوات والأرض بالحق، وجعل الحق هو الأساس: «ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ» ..
والباطل ليست له جذور ضاربة في كيان هذا الوجود ومن ثم فهو ذاهب هالك وكل من يتبعه وكل ما يصدر عنه ذاهب هالك كذلك.ولما كان الذين كفروا اتبعوا الباطل فقد ضلت أعمالهم، ولم يبق لهم منها شيء ذو غناء.
والحق ثابت تقوم عليه السماوات والأرض، وتضرب جذوره في أعماق هذا الكون.ومن ثم يبقى كل ما يتصل به ويقوم عليه.ولما كان الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم، فلا جرم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
فهو أمر واضح مقرر يقوم على أصوله الثابتة، ويرجع إلى أسبابه الأصيلة.وما هو فلتة ولا مصادفة ولا جزاف «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ».وكذلك يضع لهم القواعد التي(1/291)
يقيسون إليها أنفسهم وأعمالهم.فيعلمون المثل الذي ينتمون إليه ويقاسون عليه.ولا يحتارون في الوزن والقياس! (1) .
4- الرغبة والرهبة أحاسيس مجنونة تَلْمسُها وراء الطمع الجامِح والخوف المذل، فهل يُعاني مِنْ ذلك إنسان أوشعب يفهم قول الله -تعالى-: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) سورة فاطر؟!
ورحمة اللّه تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.
ورحمة اللّه تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوع.ويجدها من يفتحها اللّه له في كل شي ء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان ..يجدها في نفسه، وفي مشاعره ويجدها في نفسه، وفي مشاعره ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان.ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان ..ويفتقدها من يمسكها اللّه عنه في كل شي ء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان.ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان! وما من نعمة - يمسك اللّه معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة.وما من محنة - تحفها رحمة اللّه - حتى تكون هي بذاتها نعمة ..ينام الإنسان على الشوك - مع رحمة اللّه - فإذا هو مهاد.وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد.ويعالج أعسر الأمور - برحمة اللّه - فإذا هي هوادة ويسر.ويعالج أيسر الأمور - وقد تخلت رحمة اللّه - فإذا هي مشقة وعسر.ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام.ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار! ولا ضيق مع رحمة اللّه.إنما الضيق في إمساكها دون سواه.لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك.ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء.فمن داخل النفس برحمة اللّه تتفجّر ينابيع السعادة
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3280)(1/292)
والرضا والطمأنينة.ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة! هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك ..فلا عليك.
فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء ..وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع.وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء! هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق.ويضيق السكن.ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع ..
فلا عليك.فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة.وهذا الفيض يمسك.ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء.
فلا جدوى.وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء! المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان ..تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة اللّه.فإذا فتح اللّه أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.
يبسط اللّه الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة.ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.
ويمنح اللّه الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر اللّه.ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار! ويهب اللّه الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة.ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه اللّه على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب! ويعطي اللّه السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر.ويمسك اللّه رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار! والعلم الغزير.والعمر الطويل.والمقام الطيب.كلها تتغير وتتبدل من حال(1/293)
إلى حال ..مع الإمساك ومع الإرسال ..وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك اللّه فيه.وزهيد من المتاع يجعل اللّه فيه السعادة.
والجماعات كالآحاد.والأمم كالأفراد.في كل أمر وفي كل وضع، وفي كل حال ..ولا يصعب القياس على هذه الأمثال! ومن رحمة اللّه أن تحس برحمة اللّه! فرحمة اللّه تضمك وتغمرك وتفيض عليك.ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة.ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة.وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة.والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها.وهو عذاب لا يصبه اللّه على مؤمن أبدا.«إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ».
ورحمة اللّه لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال.وجدها إبراهيم - عليه السّلام - في النار.
ووجدها يوسف - عليه السّلام - في الجب كما وجدها في السجن.ووجدها يونس - عليه السّلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث.ووجدها موسى - عليه السّلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه.ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور.فقال بعضهم لبعض: «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ».ووجدها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار ..ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها.منقطعا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدا باب اللّه وحده دون الأبواب.
ثم إنه متى فتح اللّه أبواب رحمته فلا ممسك لها.ومتى أمسكها فلا مرسل لها.ومن ثم فلا مخافة من أحد.
ولا رجاء في أحد.ولا مخافة من شي ء، ولا رجاء في شيء.ولا خوف من فوت وسيلة، ولا رجاء مع الوسيلة.(1/294)
إنما هي مشيئة اللّه.ما يفتح اللّه فلا ممسك.وما يمسك اللّه فلا مرسل.والأمر مباشرة إلى اللّه ..«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك.ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك.
«ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها» ..وما بين الناس ورحمة اللّه إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام.«وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ».فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه.فما أحد بمرسل من رحمة اللّه ما أمسكه اللّه.
أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟! آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها.ذهبت أم جاءت.كبرت أم صغرت.جلت أم هانت.كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء! صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات.ولو تضافر عليها الإنس والجن.وهم لا يفتحون رحمة اللّه حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها ..«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام.الفئة التي صنعت على عين اللّه بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة، تنشئ في الأرض ما شاء اللّه أن ينشئ من عقيدة وتصور، وقيم وموازين، ونظم وأوضاع.وتقر في الأرض ما شاء اللّه أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام.الفئة التي كانت قدرا من قدر اللّه يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء اللّه من محو ومن إثبات.ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها ..وكفى ..ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن، وتعيش في واقعها بها، ولها ..(1/295)
وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس، قادرا على أن ينشئ بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الأرض - بإذن اللّه - ما يشاء اللّه ..ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب، فتأخذها جدا، وتتمثلها حقا.حقا تحسه، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار . (1) .
إنَّ اضطراب الأعصاب ومستشفيات الأمراض النفسية وحوادث الانتِحار تملأ أقطار الغرب، لِنُضُوب هذه الرَّوْحانِيَّة وانطلاق الجماهير وراء الماديات لا تدري سِواها .فكيف حَصَّنَّا أنفسنا من هذه الأوْبِئَة ؟ ...
5- قال الله - تعالى - في سورة يونس: { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)} [يونس: 81، 82] .
فلما ألقَوا حبالهم وعصيَّهم قال لهم موسى: إنَّ الذي جئتم به وألقيتموه هو السحر، إن الله سيُذْهب ما جئتم به وسيُبطله، إن الله لا يصلح عمل مَن سعى في أرض الله بما يكرهه، وأفسد فيها بمعصيته.
ويثبِّت الله الحق الذي جئتكم به من عنده فيُعليه على باطلكم بكلماته وأمره، ولو كره المجرمون أصحاب المعاصي مِن آل فرعون.
وهكذا كل مفسد عمل عملا واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.
وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم (2) .
6- قال الله - سبحانه - في سورة الرعد: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2921)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 371)(1/296)
يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (17) سورة الرعد.
ضرب الله سبحانه مثلا للحق والباطل بماء أنزله من السماء، فجَرَت به أودية الأرض بقدر صغرها وكبرها، فحمل السيل غثاء طافيًا فوقه لا نفع فيه.وضرب مثلا آخر: هو المعادن يوقِدون عليها النار لصهرها طلبًا للزينة كما في الذهب والفضة، أو طلبًا لمنافع ينتفعون بها كما في النحاس، فيخرج منها خبثها مما لا فائدة فيه كالذي كان مع الماء، بمثل هذا يضرب الله المثل للحق والباطل: فالباطل كغثاء الماء يتلاشى أو يُرْمى إذ لا فائدة منه، والحق كالماء الصافي، والمعادن النقية تبقى في الأرض للانتفاع بها، كما بيَّن لكم هذه الأمثال، كذلك يضربها للناس; ليتضح الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام، الذي تجري في جوه قضايا السورة وموضوعاتها.وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار ..وأن تسيل هذه الأودية بقدرها، كل بحسبه، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء ..وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة ..وليس هذا أو ذلك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد اللّه ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه.
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان.هذا الزبد نافش راب منتفخ ..ولكنه بعد غثاء.والماء من تحته سارب ساكن هادئ ..ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة ..كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل.ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق والباطل في هذا الحياة.فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه.والحق يظل هادئا ساكنا.وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات.ولكنه هو الباقي(1/297)
في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس.«كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات.ومصائر الأعمال والأقوال.وهو اللّه الواحد القهار، المدبر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل والباقي والزائل (1) .
وإن الإنسان ليجد مصداق قول اللّه هذا في كل من يلقاه من الناس معرضا عن هذا الحق الذي تضمنه دين اللّه، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول اللّه ..فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة.وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها، وهو يسبح بحمد ربه وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره.
وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميا - بشهادة اللّه سبحانه - فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول اللّه، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند اللّه ..لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه ..وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر - غير الإسلامي - بجملته - فيما عدا العلوم المادية البحتة وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم».فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى اللّه ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول اللّه، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق ..فهو أعمى بشهادة اللّه سبحانه ..ولن يرد شهادة اللّه مسلم ..ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم!!! إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم ..وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها إن لم يكن هو رد شهادة اللّه - سبحانه - وهو الكفر البواح في هذه الصورة! وأعجب العجب أن ناسا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2074)(1/298)
ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم اللّه سبحانه: إنهم عمي.ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون! إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل، وجزم لا يحتمل التميع، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة ..
فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه.واللّه غني عن العالمين «!
وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته وهو يعلم أن ما جاءه به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق «أعمى».ثم يتبع هذا الأعمى، ويتلقى عنه، بعد شهادة اللّه سبحانه وتعالى . (1) .
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق.ومن ثم يوفون بعهد اللّه على الفطرة، وبعهد اللّه على آدم وذريته، أن يعبدوه وحده، فيدينوا له وحده، ولا يتلقوا عن غيره، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه.ومن ثم يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ويخافون سوء الحساب، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ويصبرون على الاستقامة على عهد اللّه ذاك بكل تكاليف الاستقامة ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم اللّه سرا وعلانية ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان ..
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة التي تسير على هدى اللّه وحده والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه ..إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق وحده والتي تتبع - من ثم - مناهج أخرى غير منهج اللّه الذي ارتضاه للصالحين من عباده ..إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2053)(1/299)
إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو وحده الحق، الذي لا يجوز العدول عنه، ولا التعديل فيه ..إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون اللّه، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة، وتشرع للناس ما لم يأذن به اللّه وتعبدهم لما تشرع، فتجعل دينونتهم لغير اللّه ..
وآية هذا الذي نقوله - استمداد من النص القرآني - هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين.وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها ..سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية! ..وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية! ..إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق ..لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ولا تلتزم - من ثم - بعهد اللّه وشرعه ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه.
إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه باللّه وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج اللّه وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي وكل وضع كذلك سياسي، غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد الذي سنه اللّه وارتضاه للصالحين من عباده.
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير اللّه، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام للّه فالإسلام للّه هو توحيد الدينونة له دون سواه.
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض ..فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي! ..(1/300)
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون.فلم تسعد قط ولم ترتفع «إنسانيتها» قط، ولم تكن في مستوى الخلافة عن اللّه في الأرض قط، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم (1) .
7- قال الله - تعالى - في سورة المائدة: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (100) سورة المائدة.
قل -أيها الرسول-: لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء، فالكافر لا يساوي المؤمن، والعاصي لا يساوي المطيع، والجاهل لا يساوي العالم، والمبتدع لا يساوي المتبع، والمال الحرام لا يساوي الحلال، ولو أعجبك -أيها الإنسان- كثرة الخبيث وعدد أهله.فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة باجتناب الخبائث، وفعل الطيبات; لتفلحوا بنيل المقصود الأعظم، وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة (2) .
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام.والحرام خبيث، والحلال طيب ..ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب.ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض ..وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة ..والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقاقة القلب له، يختار الطيب على الخبيث فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
هذه هي المناسبة الحاضرة ..ولكن النص - بعد ذلك - أفسح مدى وأبعد أفقا.وهو يشمل الحياة جميعا، ويصدق في مواضع شتى:
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2075)
(2) - التفسير الميسر - (2 / 274)(1/301)
لقد كان اللّه الذي أخرج هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، يعدها لأمر عظيم هائل ..كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط.ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة.رياضة تخلعها أولا من جاهليتها وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته.ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان اللّه ..حتى تكون ربانية حقا ..وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم ..وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ولو أعجبها كثرة الخبيث! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس.ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان اللّه، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته ..وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة ..القوامة على البشرية ..تزن لها بميزان اللّه وتقدر لها بقدر اللّه وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث! وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان ..ذلك حين ينتفش الباطل فتراه النفوس رابيا وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته ..ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان اللّه إلى هذا الباطل المنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ولا عدة حوله ولا عدد ..إنما هو الحق ..الحق المجرد إلا من صفته وذاته وإلا من ثقله في ميزان اللّه وثباته وإلا من جماله الذاتي وسلطانه! لقد ربى اللّه هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوي الذي تؤتمن فيه على دين اللّه ..
لا في نفوسها وضمائرها فحسب، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع، وأهواء ومشارب، وتصادم بين المصالح، وغلاب بين الأفراد والجماعات.ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام.(1/302)
لقد رباها بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى الابتلاءات، وشتى التشريعات وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورا في النهاية واحدا، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها، وبمشاعرها واستجاباتها، وبسلوكها وأخلاقها، وبشريعتها ونظامها، لأن تقوم على دين اللّه في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر ..
وحقق اللّه ما يريده بهذه الأمة ..واللّه غالب على أمره ..وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين اللّه ..حلما يتمثل في واقع ..وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها اللّه . (1) .
8- قال الله - تعالى - في سورة آل عمران: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (160) سورة آل عمران.
أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.
{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.
وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله توكلوا لا على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.
وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله (2) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 983)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 154)(1/303)
إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر اللّه - سبحانه - وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله ..إن سنة اللّه تجري بترتيب النتائج على الأسباب.
ولكن الأسباب ليست هي التي «تنشئ» النتائج.فالفاعل المؤثر هو اللّه.واللّه يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته ..ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه، وأن يبذل جهده، وأن يفي بالتزاماته.وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب اللّه النتائج ويحققها ..وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة اللّه وقدره.هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء، وكيفما يشاء ..وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله.فهو يعمل ويبذل ما في طوقه وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر اللّه ومشيئته.ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب.فهو لا يحتم أمرا بعينه على اللّه! وهنا في قضية النصر والخذلان، بوصفهما نتيجتين للمعركة - أية معركة - يرد المسلمين إلى قدر اللّه ومشيئته ويعلقهم بإرادة اللّه وقدرته: إن ينصرهم اللّه فلا غالب لهم.وإن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده ..وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود.حيث لا قوة إلا قوة اللّه، ولا قدرة إلا قدرته، ولا مشيئة إلا مشيئته.
وعنها تصدر الأشياء والأحداث ..ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج، وطاعة التوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذل الجهد، والتوكل بعد هذا كله على اللّه: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير اللّه ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ويتوكل على اللّه وحده في إحداث النتائج، وتحقيق المصاير، وتدبير الأمر بحكمته، وتقبل ما يجيء به قدر اللّه في اطمئنان أيا كان.
إنه التوازن العجيب، الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام (1) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 503)(1/304)
9- قال الله - تعالى - في سورة السجدة: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) سورة السجدة.
وجعلنا من بني إسرائيل هداة ودعاة إلى الخير، يأتمُّ بهم الناس، ويدعونهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده وطاعته، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية حين صبروا على أوامر الله، وترك زواجره، والدعوة إليه، وتحمُّل الأذى في سبيله، وكانوا بآيات الله وحججه يوقنون (1) .
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ } أي: من بني إسرائيل { أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي: علماء بالشرع، وطرق الهداية، مهتدين في أنفسهم، يهدون غيرهم بذلك الهدى، فالكتاب الذي أنزل إليهم، هدى، والمؤمنون به منهم، على قسمين: أئمة يهدون بأمر اللّه، وأتباع مهتدون بهم.والقسم الأول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة، وهي درجة الصديقين، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم، والدعوة إلى اللّه، والأذى في سبيله، وكفوا أنفسهم عن جماحها في المعاصي، واسترسالها في الشهوات.
{ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي: وصلوا في الإيمان بآيات اللّه، إلى درجة اليقين، وهو العلم التام، الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين، لأنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين.
فما زالوا يتعلمون المسائل، ويستدلون عليها بكثرة الدلائل، حتى وصلوا لذاك، فبالصبر واليقين، تُنَالُ الإمامة في الدين (2) .
10- قال الله - سبحانه وتعالى - في سورة الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (53) سورة الأنفال.
يخبر الله تعالى عن تمام عدله في حكمه في أمور العباد، وأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه .وأنه إنما أخذ قريشا - بكفرها بنعم الله إذ بعث فيهم رسولا
__________
(1) - التفسير الميسر - (7 / 303)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 656)(1/305)
يتلو عليهم آيات ربهم، فكذبه الكفار منهم وأخرجوه وحاربوه - كما أخذ الأمم المكذبة قبلهم بذنوبهم (1) .
{ ذَلِكَ } العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم،فإن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن ازدادوا له شكرا.{ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من الطاعة إلى المعصية فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.
وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره (2) .
إذن فذرية آدم بدأت أولاً بتغيير نعمة الإيمان إلى الكفر، ومن شكر النعمة إلى جحودها، فجزاهم الله تعالى بالطوفان وبالصواعق وبالهلاك؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم، ولو أنهم عادوا إلى شكر الله وعبادته؛ لأعاد لهم الله نعَم الأمن والاستقرار والحياة الطيبة.
ويلفتنا المولى سبحانه وتعالى إلى أن اتباع المنهج يزيد النعم ولا ينقصها، فيقول:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ }[الأعراف: 96].
وطبقاً لهذا القانون الإلهي نجد أن تغير الناس من الإيمان إلى الكفر لا بد أن يقابله تغيير من نعمة الله عليهم وإلا لأصبح منهج الله بلا قيمة، والمثال أن كل طالب يدخل امتحاناً، ولكن لا ينجح إلا من ذاكر فقط، وأما من لم يستذكر فإنه يرسب؛ حتى لا تكون الدنيا فوضى.ولو أن الله سبحانه وتعالَى أعطى لمن اتبعوا المنهج نفس العطاء الذي يعطيه لمن لا يتبعون المنهج فما هي قيمة المنهج؟.
إذن لا بد أن يدخل الإنسان إلى الإيمان، وأن يكون هذا الإيمان متغلغلاً في أعماقك وليس أمراً ظاهريا فقط، فلا تدَّع الإصلاح وأنت تفسد، ولا تدع الشرف والأمانة وأنت تسرق، ولا تدع العدل وأنت تظلم الفقير وتحابي الغني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يعطي
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1214)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 324)(1/306)
نعمه الظاهرة والباطنة إلا لمن يتبعون منهجه.وإذا رأيت قوماً عمّ فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون باتباع المنهج الإلهي.
وإن شكونا من سوء حالنا فلنعرف أولاً ماذا فعلنا ثم نغيره إلى ما يرضي الله عز وجل فيغير الله حالنا.ولذلك إذا وجدت كل الناس يشكون فاعلم أن هذا قد حدث بسبب أن الله غير نعمه عليهم؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم.أي أن حالتهم الأولى أنهم كانوا في نعمة ومنسجمين مع منهج الله، فغيروا انسجامهم وطاعتهم فتغيرت النعمة، أي أن هناك تغييرين أساسيين، أن يغير الله نعمة أنعمها على قوم، وهذا لا يحدث حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وقوله تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال: 53].
أي أن الله تعالى يعلم حقيقة ما يفعلون ويسمع سرّهم وجهرهم، ولذلك إذا غيروا، سمع الله سبحانه وعلم؛ لأن التغيير إما أن يكون بالقول وإما أن يكون بالفعل، فإن كان التغيير بالقول فالحق سبحانه يسمعه ولو كان مجرد خواطر في النفوس، وإن كان التغيير بالعمل فالحق يراه ويعلمه ولو كان في أقصى الأرض (1) .
إنه، من جانب، يقرر عدل اللّه في معاملة العباد فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها ..ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم، حين يجعل قدر اللّه به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم ..ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة - تقابل التكريم العظيم - على هذا الكائن.فهو يملك أن يستبقي نعمة اللّه عليه ويملك أن يزاد عليها، إذا هو عرف فشكر كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر، وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 1200)(1/307)
وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانبا من جوانب «التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان» وعلاقة قدر اللّه به في هذا الوجود وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه ..ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان اللّه وتكريمه بهذا التقدير كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله فيبدو عنصرا إيجابيا في صياغة هذا المصير - بإذن اللّه وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه - وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية، التي تصوره عنصرا سلبيا إزاء الحتميات الجبارة.حتمية الاقتصاد، وحتمية التاريخ، وحتمية التطور ..إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة، ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول !
كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه وتصور عدل اللّه المطلق، في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره، ولا يظلم فيها عبد من عبيده: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..«فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» ..«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..والحمد للّه رب العالمين (1) ..
هذه القوانين العشرة السابقة نموذج لِما يَكفل الحضارات ويُحَصِّن الأمم .ودراستها حياة ونماء للعقائد والأخلاق، ومهما كان الوزن لفروع الفقه فهذه الأصول أسبق، والعُكوف عليها أجدى، ذلك أنها حقائق، والمقابل لها أباطيل، أوأنها معروف، والمقابل لها منكر .أما الاختلاف في كثير من الأحكام الفقهية فلا يَعْدُو أن يكون وجهات نَظَرٍ قد تكون متساوية الأجر عند مَنْ يُصَوِّبون كل اجتهاد، أو مُتَفاوِتَةَ الأجر عند مَنْ يرون المجتهدين عُرْضَةً للخطأ والصواب!!
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1535)(1/308)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج
3. التفسير الميسر
4. تفسير ابن أبي حاتم
5. تفسير ابن كثير - دار طيبة
6. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
7. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
8. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
9. الترغيب والترهيب
10. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
11. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
12. المجالسة وجواهر العلم (333)
13. المدخل إلى السنن الكبرى
14. المستدرك للحاكم مشكلا
15. المسند الجامع
16. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (852)
17. المعجم الأوسط للطبراني
18. المعجم الصغير للطبراني
19. المعجم الكبير للطبراني
20. تهذيب الآثار للطبري
21. جامع الأحاديث
22. جامع الأصول في أحاديث الرسول
23. دلائل النبوة للبيهقي
24. سنن أبي داود - المكنز
25. سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة
26.(1/309)
سنن الترمذى- المكنز
27. سنن الدارقطنى- المكنز
28. سنن الدارمى- المكنز
29. سنن النسائي- المكنز
30. شرح مشكل الآثار (321)
31. شرح معاني الآثار (321)
32. شعب الإيمان (458)
33. صحيح ابن حبان
34. صحيح ابن خزيمة مشكل
35. صحيح البخارى- المكنز
36. صحيح مسلم- المكنز
37. عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة
38. غاية المقصد فى زوائد المسند 1
39. غاية المقصد فى زوائد المسند 2
40. كشف الأستار
41. مجمع الزوائد
42. مسند أبي عوانة مشكلا
43. مسند أبي يعلى الموصلي مشكل
44. مسند أحمد (عالم الكتب)
45. مسند أحمد ط الرسالة (241)
46. مسند احمد بن حنبل ( بأحكام شعيب الأرنؤوط)
47. مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار
48. مسند الحميدي - المكنز
49. مسند الشاميين 360
50. مسند الطيالسي
51. مصنف ابن أبي شيبة
52. مصنف عبد الرزاق مشكل
53.(1/310)
معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
54. موسوعة السنة النبوية
55. موطأ مالك- المكنز
56. ركائز الإيمان للعلامة محمد قطب بتحقيقي
57. الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد
58. الخلاصة في شرح حديث الولي
59. الواضح في أركان الإيمان
60. سيرة ابن هشام
61. الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
62. التَّوَاضُعُ وَالْخُمُولُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
63. سير أعلام النبلاء - (1 / 378)
64. http://alboraq.info/showthread.php?t=37921
65. القرآن منهاج حياة - (3 / 60)
66. الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ
67. http://www.daawa-info.net/books1.php?id=5128&bn=195&page=6
68. حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ ( 12177 )
69. إحياء علوم الدين
70. البرهان المؤيد
71. المدخل لابن الحاج
72. ttp://services.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=13308
73. http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=48187&SecID=363
74. قصة أصحاب القرية للمؤلف
75. معجم أسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي
76. مذكرة في فقه الدعوة
77. دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ
78. منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم في تصحيح الأخطاء(1/311)
79. الِاعْتِقَادُ لِلْبَيْهَقِيِّ
80. دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ
81. أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
82. تربية الأولاد في الإسلام للنابلسي
83. http://montada.rasoulallah.net/index.php?showtopic=265
84. مجموع الفتاوى لابن تيمية
85. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
86. أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية
87. الترغيب بالجنة والترهيب من النار للمؤلف
88. الخلاصة في فضائل الأعمال للمؤلف
89. موسوعة فقه الابتلاء للمؤلف
90. الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي
91. الإيمان والعمل الصالح سبب النجاح والفلاح للمؤلف
92. مجلة المنار
93. فضائل الصحابة لعبد الله بن أحمد
94. تفسير السعدي
95. الخلاصة في فقه الابتلاء للمؤلف
96. فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر -
97. فقه الأولويات للدكتور يوسف القرضاوي
98. المسوّدة لآل تيمية
99. السنة النبوية وأثرها في اختلاف الفقهاء-ط1 - للمؤلف
100. زاد المعاد لا بن القيم
101. معالم في الطريق بتحقيقي
102. مراحل تشريع الجهاد في الإسلام للمؤلف
103. الخلاصة في أهداف القتال في الإسلام للمؤلف
104. الموافقات للشاطبي طبعة داار المعرفة بيروت
105.(1/312)
آفات على الطريق كامل
106. الآداب الشرعية لابن مفلح
107. فضيلة العادلين من الولاة
108. الموسوعة الفقهية الكويتية
109. الإصابة لابن حجر
110. المفصل في تخريج أحاديث الطائفة المنصورة للمؤلف
111. الوسطية في القرآن الكريم للعمر والصلابي
112. الشاملة 3
113. برنامج قالون(1/313)
الفهرس العام
المبحث الأول ... 5
تعاريف ... 5
عِلْمُ فِقْهِ الدَّعْوَةِ: ... 5
هل هذا العلمُ بِدْعَةٌ؟ ... 5
معنى كلمة " دعوة" في اللغةِ: ... 5
ماذا نُسَمِّي مَنْ يعملُ بالدعوةِ؟ ... 5
أصْنافُ الدعوةِ أوأصنافُ الدُّعاةِ : ... 5
الداعيةُ إلى اللهِ : ... 6
الدعوةُ إلى اللهِ واجِبٌ ثَقيلٌ : ... 6
أهداف الدعوة التي نعنيها : ... 6
حكم الدعوة إلى الله والأدلة على ذلك: ... 7
هل الدعوة فرض عين أم فرض كفاية؟ ... 8
هل الدعوة فرض على الرجال وحدهم، أم تَشْمَلُ النساء؟ ... 9
الدعوة ضرورة اجتماعية : ... 10
فضل الدعوة إلى الله : ... 13
المبحث الثاني ... 15
خصائصُ الدَّعوةِ الإسْلاميَّةِ ... 15
المبحث الثالث ... 54
أساليب الإقناع وطُرُقُهُ المختلفة ... 54
الحكمة في الدعوة: ... 54
إلى أي شيءٍ ندعوالناسَ ؟ ... 55
عَوامِلُ ( أسْبابُ ) نجاحِ الدعوة : ... 55
المبحث الرابع ... 58
قواعد وأسس للفهم الصحيح ... 58(1/314)
المبحث الخامس ... 62
درجات الإصلاح في نظر الدعوة الصحيحة ... 62
المبحث السادس ... 63
من صفات الداعية الناجح ... 63
1- حسن الصلة بالله - تعالى - أوَّلاً وقبل كل شيءٍ : ... 63
2- الصدق : ... 64
3- الأمانة: ... 66
4- الإخلاص : ... 69
* دلائل الإخلاص* ... 72
* من ثمرات الإخلاص* ... 76
* من بواعث الإخلاص* ... 77
6- الصبر: ... 82
7- الحرص : ... 87
8- الأمل والثقة بنصر الله : ... 88
9- الوعي والفقه : ... 92
10-حسن الخلق : ... 93
المبحث السابع ... 94
موقف الداعي من المجتمع ... 94
المبحث الثامن ... 95
القواعد والأصول المرتبطة بالدعوة وفنونها ... 95
- مقاصد الشريعة: ... 95
1- الضروريات: ... 95
2- الحاجيات : ... 95
3- التحسينيات أوالتكميليات : ... 95
شروط التصدي للمنكر : ... 97
- إنكار المنكر أربع درجات : ... 98(1/315)
المبحث التاسع ... 100
قواعد أساسية في الدعوة إلى الله - تعالى - ... 100
1) القدوة قبل الدعوة. ... 100
2) التأليف قبل التعريف . ... 103
3- عدم تعنيف المدعو ولو بالكلمة مع الرفق به . ... 110
هل كان تكسير النبي إبراهيم عليه السلام للأصنام خطأً ؟؟!! ... 112
4- أن تُدْنيَ المدعو منك وتُلاطِفَهُ وتهشَّ في وجهه ولا تَتَّبِعْ عوراته. ... 120
5- أن تُعْطِيَهُ وجهَكَ حينَ التحدُّثِ إليه، ولا تُقاطِعه ولا تَسْتَهْزِئَ بقوله . ... 123
6- أن تُحاوِرَهُ دونَ تَعالٍ ( تكَبُّرٍ ) عليه، وأَنْ تُنْزِلَهُ مَنْزِلَتَهُ . ... 125
7- أن تُسِرَّ إليه بالموعظةِ ولا تُكاشِفه بين الناس . ... 126
8- إعطاؤه بعضَ الهدايا والعطايا تأليفاً لقلبه . ... 128
9- أن تَسْتَثيرَ هِمَّتَهُ بِما يَفْتَحُ قَلْبَهُ للحَقِّ مع مُداراةِ سَفَهِهِ إِنْ كانَ سَفيهاً . ... 130
10- أن تَتَجَنَّبَ معه الخلافاتِ الفقهيةَ وتتركَ المراء المذمومَ . ... 136
المبحث العاشر ... 138
التعريف قبل التكليف ... 138
المبحث الحادي عشر ... 145
التدرج في التكاليف ... 145
المبحث الثاني عشر ... 152
التيسير لا التعسير، والتبسيط لا التعقيد ... 152
المبحث الثالث عشر ... 155
الأُصول قبل الفروع ... 155
المبحث الرابع عشر ... 157
الترغيب قبل الترهيب أو البشارة قبل النذارة ... 157
المبحث الخامس عشر ... 162
التفهيم لا التلقين ... 162
المبحث السادس عشر ... 165(1/316)
التربية لا التعرية ... 165
المبحث السابع عشر ... 169
تلميذ إمام ( أستاذ وذي تجربة ) لا تلميذ كتاب ... 169
المبحث الثامن عشر ... 172
نصائح لا بد من مراعاتها أثناء الدعوة ... 172
المبحث التاسع عشر ... 180
قواعد في التصورات والأساليب والوسائل ... 180
1/ الدعوة إلى الله سبيل النجاة في الدنيا والآخرة : ... 180
2/ ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ): ... 182
3/ الأجر يقع بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة : ... 183
4/ على الداعية أن يصل إلى رتبة المبلِّغ وأن يسعى إلى البلاغ : ... 185
5/ على الداعية أن يقدِّم الجهد البشري وهو يطلب المدد الرباني : ... 187
6/ الداعية مرآة دعوته والنموذج المعبر عنها: ( لا ينفصل الداعي عن دعوته ) : ... 188
7/ خاطبوا الناس على قدر عقولهم : ... 189
8/ الابتلاء سنة الله - تعالى - وهوالسبيل إلى تمثل الدعوة وصياغة النفس وفق العقيدة : ... 190
9/ مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته : ... 194
10/ الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة : ... 195
11/ الدعوة فن وقيادة وهي تقوم على التخطيط والمتابعة : ... 196
- هنالك نوعان من الأهداف : ... 196
جمع المعلومات أساس الخطة : ... 197
الزمن عنصر فعال في الخطة : ... 197
العين الساهرة ( المتابعة ) : ... 197
12/ الدعوة صورة أكيدة من صور الجهاد ومقدَّمة على القتال : ... 198
13/ الدعوة سلعة شريفة لا تباع بالأعراض الدنيوية : ... 203
14/ التعرف على المدعو عامل أساسي في كسبه : ... 205
15/ المعاصرة ومعرفة البيئة العامة من أسباب نجاح الدعوة : ... 206(1/317)
المبحث العشرون ... 208
الخلاصة في فقه الأولويات ... 208
تعريفه : ... 208
ارتباط فقه الأولويات بغيره من أنواع الفقه : ... 212
1- فقه الموازنات ... 212
2- فقه المقاصد: ... 213
3- فقه النصوص نصوص الشريعة الجزئية : ... 214
* أهم الأولويات التي لا بد من مراعاتها * ... 224
1- أولوية الـ ( كيف ) على الـ ( كم )، ( أولوية الكيفية على الكمية ) ... 224
2- الأولويات في مجال العلم والفكر : ... 227
أ-أولوية تقديم العلم على العمل ... 227
ب- أولوية الفهم على مجرد الحفظ . ... 228
ج- أولوية المقاصد على الظواهر: ... 229
د- أولوية الاجتهاد على التقليد ( في الأمور المستجدة والطارئة ). ... 229
هـ- أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا ... 230
و- الأولويات في الآراء الفقهية . ... 230
3- الأولويات في مجال الفتوى والدعوة : ... 231
أ- أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير . ... 231
ب- الاعتراف بالضرورات الطارئة في حياة الناس سواء أكانت فردية أم جماعية ... 234
ج- تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان . ... 235
الرد على من يزعم تغير بعض أحكام الإسلام الثابتة ومنها الجهاد ... 236
د- مراعاة سنة التدرج . ... 241
الرد على من يزعم إلغاء الرق اليوم ... 242
هـ- تصحيح ثقافة المسلم . ... 243
و- الاهتمام بما اهتم به القرآن أولاً. ... 243
4- الأولويات في مجال العمل : ... 250
أ- أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع . ... 250(1/318)
ب- أولوية العمل الأطول نفعاً وأبقى أثراً . ... 251
ج- أولوية العمل المتعدي النفع على العمل القاصر النفع . ... 252
د- أولوية العمل في أزمنة الفتن والشدائد . ... 253
هـ- أولوية عمل القلب على عمل الجوارح . ... 254
و- اختلاف الأفضل باختلاف الزمان والمكان والحال . ... 257
5- الأولويات في مجال المأمورات : ... 260
أ- أولوية الأصول على الفروع . ... 261
ب- أولوية الفرائض على السنن والنوافل . ... 261
ج- أولوية فرض العين على فرض الكفاية . ... 263
د- أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد. ... 264
هـ- أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد ... 265
و- أولوية الولاء للأمة والجماعة على الولاء للقبيلة والفرد . ... 266
6- الأولويات في مجال المنهيات : ... 270
هل المسلمون مسؤولون عن ضلال أهل الأرض ؟ ... 273
7- الأولويات في مجال الإصلاح ( أي أثناء عملية الإصلاح ) : ... 280
المبحث الحادي والعشرون ... 283
معرفة سنن الله الكونية في القرآن الكريم ... 283(1/319)