الخُلاصَةُ
في فِقِه الأوْلَويَّاتِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430هـ -2009 م
(( ماليزيا))
((بهانج- دار المعمور ))
((حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فإنَّ فقه الأولوليات جزء لا ينجزأ من هذا الدين، وهو قائم على المصالح والمفاسد، وتعارض فرض العين مع فرض الكفاية، والسنة مع الواجب، وغير ذلك.
وقد ذكره علماؤنا القدامى في كتبهم الفقهية ولاسيما كتب السياسية الشرعية، وممن أفاض فيه الإمام الغزالي في كتابه (( إحياء علوم الدين ))، وكذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام في القواعد وغيرها، والعلامة شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى بشكل كبير، بحيث يستحق أن يفرد بكتاب كبير.
وممن ذكره من المعاصرين وأفرده بكتاب الدكتور القرضاوي بكتابه (( فقه الأولويات )) (1) ، وهو كتاب قيِّم ونافع، ولكنه يفتقر إلى بعض من الأدلة الشرعية الدقيقة، كما أنه لا يخلو من بعض الآراء الشاذة والمنحرفة التي قالها تحت ضغط الواقع المرِّ والأليم.
وفي كتابنا هذا خلاصة لهذا الموضوع، مع الرد على بعض الأخطاء التي وردت بكتاب القرضاوي هدانا الله وإياه إلى الحق.
وكلٌّ منا يؤخذ من قوله ويردُّ إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قسمته للمباحث التالية :
المبحث الأول= تعريفه وأدلته
المبحث الثاني=ارتباط فقه الأولويات بغيره من أنواع الفقه
المبحث الثالث=أهم الأولويات التي لا بد من مراعاتها
1- أولوية الـ ( كيف ) على الـ ( كم )، ( أولوية الكيفية على الكمية ) ...
__________
(1) - هو موجود على موقعه وكثير من مواقع النت بصيغ مختلفة(1/1)
2- الأولويات في مجال العلم والفكر
3- الأولويات في مجال الفتوى والدعوة
4- الأولويات في مجال العمل
5- الأولويات في مجال المأمورات
6- الأولويات في مجال المنهيات
7- الأولويات في مجال الإصلاح ( أي أثناء عملية الإصلاح )
المبحث الرابع= أمثلة على فقه الأولويات في تراثنا الإسلامي
وقد ذكرت دليل كل مسألة بذيلها من الكتاب والسنة، مع تخريج الأحاديث من مظانها، وشرح غريبها، والتعليق على بعض الموضوعات التي تحتاج لذلك.
وغالب الآيات قمت بشرحها، وهي في الغالب من التفسير الميسر .
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..} (143) سورة البقرة.
أسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين.
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 12 شوال 1430 هـ الموافق ل 2/10/2009 م
- - - - - - - - - - - -(1/2)
المبحث الأول
تعريفه وأدلته
تعريفه :
وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدم الأولى فالأولى بناءً على معايير ( موازين ) شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي ونور العقل: " نور على نور "، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم ولا المرجوح على الراجح، بل يقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير ولا يصغر الكبير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا إخسار.
فالقيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتاً بليغاً، وليست كلها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى، والفاضل والمفضول.
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تدلُّ على تفاوت في الدرجات في الأحكام والأمور، منها :
1- قال الله - تعالى - في سورة التوبة: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (19) سورة التوبة.
أجعلتم -أيها القوم- ما تقومون به من سقي الحجيج وعِمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ لا تتساوى حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله، لأن الله لا يقبل عملا بغير الإيمان.والله سبحانه لا يوفق لأعمال الخير القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر.(1/3)
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. (1)
3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَرْفَعُهَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ (2) .
قال أبو حاتم: " وَالْخَبَرُ فِي بِضْعٍ وَسَبْعِينَ خَبَرٌ مُتَقَصًّى صَحِيحٌ لاَ ارْتِيَابَ فِي ثُبُوتِهِ، وَخَبَرُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ خَبَرٌ مُخْتَصَرٌ غَيْرُ مُتَقَصًّى.وَأَمَّا الْبِضْعُ، فَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى أَحَدِ أَجْزَاءِ الأَعْدَادِ، لأَنَّ الْحِسَابَ بِنَاؤُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى الأَعْدَادِ، وَالْفُصُولِ، وَالتَّرْكِيبِ، فَالأَعْدَادُ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى التِّسْعَةِ، وَالْفُصُولُ هِيَ الْعَشَرَاتُ وَالْمِئُونُ وَالْأُلُوفُ، وَالتَّرْكِيبُ مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَا.وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَعْنَى الْخَبَرِ مُدَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِلاَّ بِفَائِدَةٍ، وَلاَ مِنْ سُنَنِهِ شَيْءٌ لاَ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ، فَجَعَلْتُ أَعُدُّ الطَّاعَاتِ مِنَ الإِيمَانِ، فَإِذَا هِيَ تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى السُّنَنِ، فَعَدَدْتُ كُلَّ طَاعَةٍ عَدَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الإِيمَانِ، فَإِذَا هِيَ تَنْقُصُ مِنَ الْبِضْعِ وَالسَّبْعِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنْ كَلاَمِ رَبِّنَا، وَتَلَوْتُهُ آيَةً آيَةً بِالتَّدَبُّرِ، وَعَدَدْتُ كُلَّ طَاعَةٍ عَدَّهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ مِنَ الإِيمَانِ، فَإِذَا هِيَ تَنْقُصُ عَنِ الْبِضْعِ وَالسَّبْعِينَ، فَضَمَمْتُ الْكِتَابَ إِلَى السُّنَنِ، وَأَسْقَطْتُ الْمُعَادَ مِنْهَا، فَإِذَا كُلُّ شَيْءٍ عَدَّهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ مِنَ الإِيمَانِ فِي كِتَابِهِ، وَكُلُّ طَاعَةٍ جَعَلَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الإِيمَانِ فِي سُنَنِهِ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً لاَ يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَعَلِمْتُ أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ، فَذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِكَمَالِهَا بِذِكْرِ شُعْبَةَ فِي كِتَابِ وَصْفُ الإِيمَانِ وَشُعَبِهِ بِمَا أَرْجُو أَنَّ فِيهَا الْغَنِيَّةَ لِلْمُتَأَمِّلِ إِذَا تَأَمَّلَهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تِكْرَارهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ أَجْزَاءٌ بِشُعَبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي خَبَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَذَكَرَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ شُعَبِهِ، هِيَ كُلُّهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقُلْ: وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ،
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 420) (191) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (162) وصحيح ابن حبان - (1 / 384)(166)(1/4)
وَالإِيمَانُ بِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الشُّعْبَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، حَيْثُ قَالَ: أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَائِرَ الأَجْزَاءِ مِنْ هَذِهِ الشُّعْبَةِ كُلُّهَا مِنَ الإِيمَانِ، ثُمَّ عَطَفَ فَقَالَ: وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَذَكَرَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ شُعَبِهِ هِيَ نَفْلٌ كُلُّهَا لِلْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ هَذِهِ الشُّعْبَةِ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشُّعَبِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَيْنِ الْجُزْأَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْخَبَرِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْلَى الإِيمَانِ وَأَدْنَاهُ كُلُّهُ مِنَ الإِيمَانِ.وَأَمَّا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ، فَهُوَ لَفْظَةٌ أُطْلِقَتْ عَلَى شَيْءٍ بِكِنَايَةِ سَبَبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَاءَ جِبِلَّةٌ فِي الإِنْسَانِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُكْثِرُ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ ذَلِكَ فِيهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، لأَنَّ النَّاسَ لَيْسُوا كُلُّهُمْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحَيَاءِ.فَلَمَّا اسْتَحَالَ اسْتِوَاؤُهُمْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ، صَحَّ أَنَّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ أَكْثَرُ، كَانَ إِيمَانُهُ أَزِيدَ، وَمَنْ وُجِدَ فِيهِ مِنْهُ أَقَلُّ، كَانَ إِيمَانُهُ أَنْقَصَ.وَالْحَيَاءُ فِي نَفْسِهِ: هُوَ الشَّيْءُ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ مَا يُبَاعِدُهُ مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، فَكَأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ تَرْكَ الْمَحْظُورَاتِ شُعْبَةً مِنَ الإِيمَانِ بِإِطْلاَقِ اسْمِ الْحَيَاءِ عَلَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاه" (1) .
4- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ».قَالُوا: وَكَيْفَ قَالَ: « كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا » (2) ..
وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بيّنت تفاوتها عند الله - تعالى - من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحياناً بعض النسب بين بعضها وبعض، فمثلاً :
1- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً (3) ..
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 386)
(2) - سنن النسائي- المكنز - (2539) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 334)(21957) 22303- صحيح(1/5)
2- عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ. (1) .
3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟ فَقَالَ: هُمُ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ، أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا (2) .
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَسْوَأُ النَّاسِ سَرَقَةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ ؟ قَالَ: لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا، وَلاَ سُجُودَهَا (3) ..
4- قال الله - تعالى -: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
أهذا الكافر المتمتع بكفره خير، أم من هو عابد لربه طائع له، يقضي ساعات الليل في القيام والسجود لله، يخاف عذاب الآخرة، ويأمُل رحمة ربه؟ قل -أيها الرسول-: هل يستوي الذين يعلمون ربهم ودينهم الحق والذين لا يعلمون شيئًا من ذلك؟ لا يستوون.إنما يتذكر ويعرف الفرق أصحاب العقول السليمة.
6- قال الله - تعالى -: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) }[فاطر: 19 - 22].
وما يستوي الأعمى عن دين الله، والبصير الذي أبصر طريق الحق واتبعه، وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان، ولا الظل ولا الريح الحارة، وما يستوي أحياء القلوب بالإيمان، وأموات القلوب بالكفر.إن الله يسمع مَن يشاء سماع فَهْم وقَبول، وما أنت -أيها
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 42) (3250) صحيح
شح هالع: الشح :أشد البخل، والهلع: أشد الجزع، والمراد: أن الشحيح يجزع جزعا شديدا، ويحزن على درهم يفوته، أو يخرج عن يده ، وهذا من باب قولهم: «ليل نائم، ويوم عاصف» أي: ينام فيه، وتعصف فيه الريح، ويحتمل أن يكون قال: «هالع» لمكان «خالع للازدواج» و«الخالع»: الذي كأنه خلع فؤاده لشدة خوفه وفزعه.
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 370)(8822) 8808- صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (5 / 209) (1888) صحيح(1/6)
الرسول- بمسمع مَن في القبور، فكما لا تُسمع الموتى في قبورهم- سماع منفعة- فكذلك لا تُسمع هؤلاء الكفار لموت قلوبهم، إن أنت إلا نذير لهم غضب الله وعقابه.
ولونظرنا في حال المجتمعات اليوم لوجدنا أن الأولويات غير مرتبة، فنرى - مثلاً - أن الناس يمدحون أهل الرياضة والرقص أكثر من مدحهم أهل العلوم المختلفة.وحتى بعض الملتزمين بالدين لا يلتزمون بهذا النوع من الفقه ... فنرى البعض يهتم ببناء المساجد في أماكن فيها مساجد أصلا بدل اهتمامه ببناء المؤسسات التعليمية من جامعات ومعاهد وغيرها، ونرى البعض الآخر يهتم بأداء فريضة الحج كل عام بينما باستطاعته حج الفريضة مرة أو اثنتين أو ثلاثة ... وإنفاق الباقي على المشاريع الخيرية والدعوية والإنسانية !
حتى بعض المسلمين يسيرون بين الناس ويقيمون معارك يومية يحمى وطيسها من أجل مسائل جزئية أو خلافية، مهملين أصول الإسلام الكبرى، فبعضهم وجدوا أكبر همهم في: الساعة أين تلبس، أفي اليد اليمنى أم في اليسرى ؟!!
ولبس الثوب الأبيض بدل ( القميص والبنطال ( السروال ) ): واجب أم سنة ؟!!
والأكل على المنضدة والجلوس على الكرسي للطعام واستخدام الملعقة والشوكة: هل يدخل في التشبه بالكفار أولا ؟؟!! وغيرها من المسائل التي تأكل الأوقات وتمزق الجماعات وتخلق الحزازات وتضيع الجهود ... وبعض الفتيان الملتزمين والمتعبدين يعاملون آباءهم بقسوة وأمهاتهم بغلظة وإخوانهم وأخواتهم بعنف، وحجتهم أنهم عصاة أو منحرفون عن الدين ! ناسين أن الله - تعالى - أوصى بالوالدين إحساناً، وإن كانا مشركين يجاهدان ولدهما على الشرك، ويحاولان بكل جهدهما فتنته عن إسلامه: قال الله -تعالى-: { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} سورة لقمان.(1/7)
وإذا ألح عليك والداك ليحملاك على أن تكفر بالله ربك، وعلى أن تشرك معه بالعبادة غيره من أصنام وأنداد، وأنت لا تعلم لهؤلاء الأصنام والأنداد شركة مع الله في الخلق والألوهية، فلا تطعهما فيما أمراك به، ولكن ذلك يجب أن لا يمنعك من الإحسان إليهما، ومصاحبتهما بالمعروف خلال أيام هذه الدنيا القليلة الفانية كإطعامهما وكسوتهم، والعناية بهما إذا مرضا...واتبع في أمور الدين سبيل الذين أخلصوا العبادة لله من المؤمنين، وأنابوا إليه بدون وهن ولا تردد، فإنكم راجعون إليه تعالى جميعا يوم القيامة، فيخبركم بم كنتم تعملون من خير وشر ويجازيكم به (1) .
ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط ولا زال قائماً إلى اليوم :
1- أنهم أهملوا - إلى حد كبير - فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة: كالتفوق العلمي والصناعي والحربي، الذي يجعل الأمة مالكة لأمر نفسها وسيادتها حقاً وفعلاً، لا دعوى وقولاً، ومثل الاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، ومثل نشر الدعوة إلى الإسلام..!
2- وأهملوا بعض الفرائض العينية أوأعطوها دون قيمتها، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !
بل تركوا الجهاد في سبيل الله، وهو فرض عين على كل مسلم في حال الاعتداء على المسلمين.
3- واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا وُجٍد من المسلمين والمسلمات من يتكاسل عن الصلاة، ووجد من ينقضي عمره دون أن ينحني لله راكعاً ساجداً، كما أن أكثر الناس اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله - تعالى - قرن بينهما في كتابه الكريم في ( 28 ) موضعاً ! كقوله تعالى :{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة البقرة
4- واهتموا ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات، كما هو ملاحظ عند كثير من المتدينين الذين أكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد ولم يولوا هذا الاهتمام
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3365)(1/8)
لكثير من الفرائض وخصوصاً الاجتماعية مثل: بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان بالجار، الرحمة بالضعفاء، رعاية اليتامى والمساكين..!
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلاَتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ (1) .
5- واهتموا بالعبادات الفردية كالصلاة والذكر أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، كالفقه والإصلاح بين الناس والجهاد الواعي، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر والمرحمة، والدعوة إلى العدل والشورى، ورعاية حقوق الإنسان عامة والإنسان الضعيف خاصة !
6- واهتم كثير من الناس بفروع الأعمال وأهملوا الأصول، مع أن الأقدمين قالوا: من ضيَّع الأصول حُرٍمَ الوصول.كما أغفلوا أصل البناء كله وهو العقيدة والإيمان وإخلاص الدين لله !
7- ومما وقع فيه الخلل والاضطراب: اشتغال كثير من الناس بتغيير المكروهات أو الشبهات، أكثر مما اشتغلوا بتغيير المحرمات المنتشرة أو الواجبات المضيعة، ومثل ذلك: الاشتغال بما اختلف في حله وحرمته عما هو مقطوع بتحريمه، وهناك أناس مولعون بهذه الخلافيات مثل مسائل التصوير والغناء والنقاب ونحوها، وكأنما لا همَّ لهم إلا إدارة المعارك الملتهبة حولها، ومحاولة سَوْق الناس قسراً إلى رأيهم فيها، في حين هم غافلون عن القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة ومصيرها وبقائها على الخريطة !
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 556)(9675) 9673- حسن(1/9)
المبحث الثاني
ارتباط فقه الأولويات بغيره من أنواع الفقه
يرتبط فقه الأولويات بأنواع أخرى من أنوع الفقه: منها :
1- فقه الموازنات
ومنها :
أ - الموازنات بين المصالح بعضها ببعض، فقد رأينا في صلح الحديبية مثلاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - - يُغَلٍّب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية على المصالح والاعتبارات الشكلية التي يتشبث بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يُظَنّ - لأول وهلة - أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة أو رضا بالدون ورضي - عليه الصلاة والسلام - أن تحذف البسملة المعهودة من وثيقة الصلح، ويكتب بدلها: باسمك اللهم، ورضي أن يحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم: محمد رسول الله، ويُكتَفى باسم محمد بن عبد الله، وذلك ليكسب من وراء ذلك الهدنة التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة ومخاطبة ملوك العالم، ولا غرو ولا عجب أن سماها القرآن: " فتحاً مبيناً "..
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ لِعَلِيٍّ: اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ: اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لاَتَّبَعْنَاكَ وَلَمْ نُكَذِّبْكَ اكْتُبْ بِنَسَبِكَ مِنْ أَبِيكِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ: اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَكَتَبَ: مَنْ أَتَى مِنْكُمْ رَدَدْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ أَتَى مِنَّا تَرَكْنَاهُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ نُعْطِيهِمْ هَذَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَتَاهُمْ مِنَّا، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَتَانَا مِنْهُمْ، فَرَدَدْنَاهُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ، فَرَجًا، وَمَخْرَجًا (1) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2731 و2732) وصحيح ابن حبان - (11 / 214)(4870)(1/10)
قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : سَهُلَ مِنْ أَمْرِكُمْ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا.فَدَعَا الْكَاتِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا هُوَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ.فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ مَا نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ لَكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ.فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: عَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا.فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا ؟ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ، وَقَالَ يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: يَرْصُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ.فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ، أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لاَ نُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا.فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : فَأَجِزْهُ لِي قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزُهُ لَكَ.قَالَ: بَلَى، فَافْعَلْ قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ.فَقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ ؟ قَالَ: بَلَى قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ ؟ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي.قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قُلْتُ: لاَ.قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ(1/11)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللهِ حَقًّا ؟ قَالَ: بَلَى.قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ: بَلَى.قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ يَعْصِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: تَطَوَّفْ بِغَرْزِهِ حَتَّى تَمُوتَ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ.قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ: بَلَى.قَالَ: أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قُلْتُ: لاَ.قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ.قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً.قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: قُومُوا، فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ، فَيَحْلِقَكَ.فَقَامَ، فَخَرَجَ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ هَدْيَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ.فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا (1) .
والأمثلة على ذلك كثيرة.
ب- الموازنات بين المفاسد أو المضار بعضها ببعض، فالمفاسد أو المضار متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها وقد وضع الفقهاء جملة قواعد ضابطة لذلك، منها: لا ضرر ولا ضرار، الضرر يزال بقدر الإمكان، الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، يُرتكب أخف الضررين وأهون الشرّين، يُتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (2) .
فعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي مَشَارِبِ النَّخْلِ بِالسَّيْلِ الأَعْلَى عَلَى الأَسْفَلِ حَتَّى يَشْرَبَ الأَعْلَى، وَيَرْوِي
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 428) وصحيح البخارى- المكنز - (2731 و2732)
(2) - انظر الأشباه والنظائر للسيوطي- (1 / 158) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (1 / 85)(1/12)
الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يَسْرَحُ الْمَاءُ إِلَى الأَسْفَلِ وَكَذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِي الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ (1) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ خَشَبَةً فِي حَائِطِ جَارِهِ، وَالطَّرِيقُ الْمِيتَاءُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ (2) .
ج- الموازنات بين المصالح والمفاسد عند التعارض.فإذا اجتمع في أمر من الأمور مصلحة ومفسدة، أو مضرة ومنفعة، فلا بد من الموازنة بينهما، والعبرة للأغلب والأكثر، فإن للأكثر حكم الكل.فإذا كانت المفسدة أكثر وأغلب على الأمر من المنفعة أو المصلحة التي فيه، وجب منعه لغلبة مفسدته، ولم تُعتبر المنفعة القليلة الموجودة فيه.وهذا ما ذكره القرآن في قضية الخمر والميسر في إجابته عن السائلين عنهما: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (219) سورة البقرة.
يسألك المسلمون -أيها النبي- عن حكم تعاطي الخمر شربًا وبيعًا وشراءً، والخمر كل مسكر خامر العقل وغطاه مشروبًا كان أو مأكولا ويسألونك عن حكم القمار -وهو أَخْذُ المال أو إعطاؤه بالمقامرة وهي المغالبات التي فيها عوض من الطرفين-، قل لهم: في ذلك أضرار ومفاسد كثيرة في الدين والدنيا، والعقول والأموال، وفيهما منافع للناس من جهة كسب الأموال وغيرها، وإثمهما أكبر من نفعهما; إذ يصدَّان عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويتلفان المال.وكان هذا تمهيدًا لتحريمهما.ويسألونك عن القَدْر الذي ينفقونه من أموالهم تبرعًا وصدقة، قل لهم: أنفقوا القَدْر الذي يزيد على حاجتكم.مثل ذلك البيان الواضح يبيِّن الله لكم الآيات وأحكام الشريعة; لكي تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة.
وبالعكس: إذا كانت المنفعة هي الأكبر والأغلب، فيُجاز الأمر ويشرع، وتهدر المفسدة القليلة الموجودة به.ومن القواعد المهمة هنا: أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة (3) ،
__________
(1) - الآحاد والمثاني - (4 / 55)(2200) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 797)(2865) 2867- صحيح لغيره
(3) - تلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية - (3 / 54) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (4 / 240)(1/13)
ويكمل هذه قاعدة أخرى، وهي: أن المفسدة الصغيرة تُغْتَفر من أجل المصلحة الكبيرة، وتُغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة، ولا تُترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة.
2- فقه المقاصد (1) :
أي: مقاصد النصوص الواردة وروحها وجوهرها، فمن المتفق عليه أن أحكام الشريعة في مجموعها معلَّلة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدف الشرع إلى تحقيقها، فإن من أسماء الله - تعالى - " الحكيم " الذي تكرر في القرآن الكريم بضعاً وتسعين مرة، والحكيم لا يشرع شيئاً عبثاً ولا اعتباطاً، كما لا يخلق شيئاً باطلاً - سبحانه -.
وحتى التعبديات المحضة في الشرع لها مقاصدها، ولهذا علّل القرآن العبادات ذاتها، فالصلاة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (45) سورة العنكبوت.
اتل ما أُنزل إليك من هذا القرآن، واعمل به، وأدِّ الصلاة بحدودها، إن المحافظة على الصلاة تنهى صاحبها عن الوقوع في المعاصي والمنكرات; وذلك لأن المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها، يستنير قلبه، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر، ولَذكر الله في الصلاة وغيرها أعظم وأكبر وأفضل من كل شيء.والله يعلم ما تصنعون مِن خيرٍ وشر، فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه.
والزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103) سورة التوبة.
خذ -أيها النبي- من أموال هؤلاء التائبين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا صدقة تطهرهم مِن دنس ذنوبهم، وترفعهم عن منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وادع لهم
__________
(1) - المأمول من لباب الأصول - (1 / 11) والموافقات - (10 / 53) وتيسير علم أصول الفقه .. للجديع - (3 / 54) ومقاصد الشريعة الإسلامية - (1 / 1)(1/14)
بالمغفرة لذنوبهم واستغفر لهم منها، إن دعاءك واستغفارك رحمة وطمأنينة لهم.والله سميع لكل دعاء وقول، عليم بأحوال العباد ونياتهم، وسيجازي كلَّ عامل بعمله.
والصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، فرض الله عليكم الصيام كما فرضه على الأمم قبلكم; لعلكم تتقون ربكم، فتجعلون بينكم وبين المعاصي وقاية بطاعته وعبادته وحده.
والحج: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) } سورة الحج.
وأعلِمْ- يا إبراهيم- الناس بوجوب الحج عليهم يأتوك على مختلف أحوالهم مشاةً وركبانًا على كل ضامر من الإبل، وهو:(الخفيف اللحم من السَّيْر والأعمال لا من الهُزال)، يأتين من كل طريق بعيد; ليحضروا منافع لهم من: مغفرة ذنوبهم، وثواب أداء نسكهم وطاعتهم، وتكَسُّبِهم في تجاراتهم، وغير ذلك؛ وليذكروا اسم الله على ذَبْح ما يتقربون به من الإبل والبقر والغنم في أيام معيَّنة هي: عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده; شكرًا لله على نعمه، وهم مأمورون أن يأكلوا مِن هذه الذبائح استحبابًا، ويُطعموا منها الفقير الذي اشتد فقره.
ومن حسن الفقه في دين الله أن ندرك مقصود الشرع من التكليف، حتى نعمل على تحقيقه، وحتى لا نشدد على أنفسنا وعلى الناس فيما لا يتصل بمقاصد الشرع وأهدافه.فلا مبرر للتشديد في ضرورة إخراج صدقة الفطر من الأطعمة في كل البيئات في عصرنا، فليست هي مقصودة لذاتها، إنما المقصود إغناء الفقير في هذا اليوم الأغرّ عن السؤال.ولا(1/15)
معنى كذلك للتشديد في رمي الجمار في الحج قبل الزوال حتى وإن ترتب على ذلك شدة الزحام وموت المئات تحت الأقدام كما حدث في مواسم حج ماضية ! (1)
فليس في الشرع ما يدلُّ على أن هذا أمر مقصود لذاته، بل المقصود هو ذكر الله - تعالى -، والمطلوب هو التيسير ورفع الحرج.
ومن المهم هنا التفريق بين المقاصد الثابتة للشريعة والوسائل المتغيرة، فنكون في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير !
3- فقه نصوص الشريعة الجزئية :
بحيث يربط بينها وبين المقاصد الكلية والقواعد العامة، فتُرد الجزئيات إلى كلياتها والفروع إلى أصولها.ومن الضروري هنا: التمييز بين القطعي والظني من النصوص، وبين المحكم والمتشابه منها، وفهم الظني في ضوء القطعي، والمتشابه في ضوء المحكم.وألزم ما يكون هذا الفقه بالنسبة للسنَّة النبوية، فهي التي كثيراً ما يقع الخلط في فهمها أكثر من القرآن، نظراً لتعرضها للتفصيلات، ودخولها في الكثير من الجزئيات والتطبيقات، ولأن فيها ما هو للتشريع وهو الأصل، وما ليس للتشريع كحديث تأبير النخل وما على شاكلته.
ـــــــــــ
الرد على من فرق بين أحاديث الدين والدنيا
قلت: لا يوجد إلا هذا الحديث الفرد فقط والذي يتشبث به دعاة الهزيمة والانحلال، والباقي كله تشريع إلا ما ورد تخصيصه به - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه التفرقة باطلة لا أصل لها، فلو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعل فعلاً وسكت عنه الوحي فهو تشريع بلا ريب، خاضع للأحكام التكليفية الخمسة.
وفي الموسوعة الفقهية: " وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لاَ تَقِل خَطَرًا عَنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَقُول: إِنَّنَا نَقْبَل السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِل بِالْعِبَادَاتِ، أَمَّا مَا يَتَّصِل بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ
__________
(1) - انظر كتابي ((الخلاصة في أحكام الحج والعمرة)) ففيه تفصيل لذلك(1/16)
سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا، وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ، وَهِيَ حَادِثَةُ تَأْبِيرِ النَّخْل، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْوَاتًا فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: لَوْ تَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ لَصَلُحَ فَتَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا: تَرَكُوهُ لِمَا قُلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ (1) .
هَذَا الْخَبَرُ إِنْ دَل عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُل عَلَى أَنَّ الأُْمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لاَ صِلَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلاً أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، بَل هِيَ مِنْ الأُْمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ، لاَ تَدْخُل تَحْتَ مُهِمَّةِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - كَمُبَلِّغٍ عَنْ رَبِّهِ، بَل هَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ مِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى أَنَّ الأُْمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لاَ عَلاَقَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُل الْجَهْدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الأَْصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَنْ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ هَذَا حَلاَلٌ أَوْ حَرَامٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنْ صُلْبِ وَظِيفَةِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ فِي كُل مَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ (2) .
ومنهم من قال هو غير معصوم لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، ووقع الإجماعُ على عدم الإقرار بالخطأ مطلقًا (3) , سواءً كانت دنوية أو دينيّة، ومما يدل على ذلك آيات عتابه - - صلى الله عليه وسلم - , مما يدل على حصول الاجتهاد منه - - صلى الله عليه وسلم - , ووقوع الخطأ، وأنه - - صلى الله عليه وسلم - لم يقرّ عليه.
ومن ذلك أيضاً: حديث عائشة ، قالت: دخل عليّ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - , وعندي امرأةٌ من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تُفْتَنُون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: "إنما تُفْتَنُ يهود".قالت عائشة: فلبثنا لياليَ، ثم قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - : "هل شعرتِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 392)(12544) 12572- صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (1 / 45)
(3) - المسوّدة لآل تيمية (79، 190) .(1/17)
أنه أُوحِىَ إليَّ أنّكم تُفتنون في القبور؟".قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ يستعيذُ من عذاب القبر. (1)
قال العلماء (2) : " إن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - نفى فتنة القبر أوّلًا عن أهل التوحيد، اجتهادًا منه، لمّا وجد أماراتٍ تدلُّ على أن عذاب القبر خاصٌّ بالكفار.ثمّ أُوحي إليه بأن من أهل التوحيد من يُعذّب في قبره، فرجع عن اجتهاده، وأخبر بما نزل عليه به الوحي في ذلك.
وفي هذا الحديث إلزامٌ قويٌّ لمن احتجّ باجتهاد النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا وخطأه فيها، كما في حديث تأبير النخل، على أن السنَّة في أمور الدنيا ليست وحياً.فهذا الحديث وقع فيه للنبيّ - - صلى الله عليه وسلم - اجتهادٌ في أمر عقدي من أمور الدين، وأخطأ فيه، فهل سيلتزمون بطريقة استدلالهم: أن السنَّة في أمور العقيدة أو الدين عمومًا ليست وحيًا؟! هذا مما يدل على وهاء استدلالهم.
وفي ذلك يقول القاضي عياض (ت544هـ) في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "وأمّا أقواله الدنيويّة: من إخباره عن أحواله وأحوال غيره، وما يفعله أو فعله، فقد قدّمْنا أن الخُلفَ فيها ممتنع عليه من كل حال وعلى أي وجهٍ: من عمدٍ أو سهوٍ، أو صحّةٍ أو مرضٍ، أ و رضيً أو غضب.وأنه - - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ فيما طريقُه الخبر المحض مما يدخله الصِّدْقُ والكذب" (3) .
وبذلك نخلص أن اجتهاد النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا والدِّين لا يُخْرِجُ السنَّة عن أن تكون بوحي؛ لأن اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في بعض المسائل لا ينفي أنه كان يُوحَى إليه بسنن غيرها ابتداءً (وهذا محلّ إجماع)، وأمّا اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - : فهو إما أن يُقَرَّ عليه من ربّه -عز وجل-، وهو الغالب, بدليل قلّة المسائل التي صُوّبَ فيها اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - , وبدليل أنه - - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى الخلق بإصابة الحقِّ.
__________
(1) - أخرجه مسلم رقم( 584)
(2) - وقد شرحه الطحاوي في مشكل الآثار (13/191 - 198)، والقرطبي في المفهم (2/207 - 208) والنووي في المنهاج شرح مسلم (3/87- 88) وغيرهم: بما دلَّ عليه ظاهر الحديث
(3) - الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري- (4/471).(1/18)
فيكون بهذا الإقرار منزَّهًا عن الخطأ، وإمّا أن يُصَوَّبَ اجتهادُه بنزول الوحي عليه بكتابٍ أو سنَّةٍ ببيان أنه أخطأ وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عُصِم من نَقْصِ البلاغ أو تكذيب الواقع لخطابه - - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا التقرير البالغ هو الذي يفيدنا التقرير التالي، الذي به تتحرَّر المسألة، وينحلّ محلّ النزاع، وهو: أنّ السنّة وحيٌ: حالًا أو مآلًا، أي إنها وحي: ابتداءً، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
وأنت تلحظ في هذين الجوابين أنهما يعودان بالاجتهاد النبوي إلى أنه معبِّرٌ عن مراضي الله تعالى في التشريع: إمّا بعصمة النبي - - صلى الله عليه وسلم - عن الخطأ في الاجتهاد، أو بعدم إقراره - - صلى الله عليه وسلم - على الخطأ، فما أُقرَّ عليه (وهو الغالب) فهو مُقَرٌّ عليه من الله تعالى، فالله تعالى راضٍ عنه.وما لم يُقرَّ عليه، فقد بلَّّغنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فيه عن مراضي الله، فكان اجتهادُه - - صلى الله عليه وسلم - الأول كالمنسوخ ببلاغه الثاني لتصويب الله تعالى الذي جاء كالناسخ له.
ولم يقل أحدٌ من أهل العلم، لا من السلف ولا من الخلف: إن ما لم يُقرَّ عليه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - إلى وفاته مشروعٌ يجوز العمل به، وكيف يقول هذا أحدٌ وهو - - صلى الله عليه وسلم - لم يُقرَّ عليه من ربّه عز وجل.فهذا الصِّنف من اجتهاداته - - صلى الله عليه وسلم - خارجُ محلِّ النقاش أصلاً، ولا ينازع فيه أحد.وأمّا ما سواه: فقد أفادنا الجوابان السابقان أنّ الاجتهاد النبوي فيه معّبِّرٌ عن مراضي الله عز وجل، في التشريع، وبالتالي فهو وَحْيٌ، لكنه وَحْيٌ مآلاً.
وبذلك تصحّ تلك الأوامرُ المطلقةُ والنصوصُ العامةُ التي أضاء بها الكتاب وتلألأت بها السنة: الدالةُ الدلالةَ القطعيةَ: على وجوب تصديق خبره - - صلى الله عليه وسلم - ، وطاعة أوامره - - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه - - صلى الله عليه وسلم - (وبعد وفاته) لا يُحتملُ أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يُقرّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يُصَوَّب من أقواله - - صلى الله عليه وسلم - فكُلُّه وحي من الله تعالى، وما صُوِّب فقد بلَّغ - - صلى الله عليه وسلم - عن ربّه -عز وجل- ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلًا من أدلّة نبوّته - - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّ مدّعي النبوّة كذبًا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغُ وحُفِظَ الدين وعُصمت السنَّةُ من أي سببٍ يدعو إلى التردّد في الطاعة أو التصديق.(1/19)
وبذلك يتّضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - بوحي ابتداءً وما صدر عنه " باجتهاد: في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره؛ فكما كان الموحَى به إليه ابتداءً لا خلاف في وجوب ذلك فيه , فكذلك الاجتهادُ منه"؛ لأنه مُوحَى به إليه انتهاءً بالإقرار.فلا فرق بين سنة النبيّ " , فكلُّها وحيٌ يُوجِبُ التصديق والطاعة , بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة , والتي لم تُخصِّصْ سنةً من سننه ": لا سنةَ الوحي ابتداءً ولا سنة الوحي انتهاءً , ولا سنَّةَ الدِّين ولا سنةَ الدنيا.فالعموماتُ تشملُ جميع السنة, ولم تُخرج منها شيئًا.بل من تلك النصوص ما ورد في وجوب طاعته " في اجتهاده خاصة, ومنها ما ورد في وجوب طاعته في أمور الدنيا على وجه التحديد.
ومن هنا أدخل في الجواب عن الحديث الذي جعله بعضهم مُتّكأَهُ لردّ كثير من السُّننِ الثابتة عنه - - صلى الله عليه وسلم - , لا من جهة عدم صحّتها عنه - - صلى الله عليه وسلم - عندهم، وإنما من جهة أنها اجتهادٌ قابلٌ للصواب والخطأ.فهم قد لا يُعارضون في الثبوت، بل قد يقرّرون أن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك الحديث؛ لكنّهم يعارضون في وجوب التصديق بما تضمّنه ذلك الحديث، وفي العمل بما دلّ عليه؛ لأنه عندهم ليس من السنّة التي هي وحيٌ.
وهذا الحديث هو عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ « لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ».قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا (1) فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ « مَا لِنَخْلِكُمْ ».قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ».. (2)
وفي لفظ آخر لهذا الوجه من أوجه روايات الحديث: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ أَصْوَاتًا.فَقَالَ « مَا هَذَا الصَّوْتُ ».
قَالُوا النَّخْلُ يُؤَبِّرُونَهُ فَقَالَ « لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلَحَ ».فَلَمْ يُؤَبِّرُوا عَامَئِذٍ فَصَارَ شِيصًا فَذَكَرُوا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنَكُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ ».. (3)
__________
(1) - الشِّيص: التمر الذي لم يكتمل نُمُوُّهُ ونُضْجُهُ، حتى ربّما لم يأتِ له نوى .
(2) - صحيح مسلم (6277 )
(3) - سنن ابن ماجه(2565 ) صحيح(1/20)
ووجه دلالة هذا الحديث على ما يستدلُّ به القومُ المشار إليهم آنفًا: أنه صريح في أنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في أمور الدنيا، وأنه - - صلى الله عليه وسلم - لذلك قد يخطئ، وبناءً على ذلك وضع قاعدةً عامّةً لنصوصه المتعلّقة بأمور الدنيا، وأعلمنا أنّ الأمر فيها راجع إلى تحقيق المصلحة التي يعرفها أهل الدنيا، وأنه لا يلزمنا فيها اتّباع أمره - - صلى الله عليه وسلم - , وذلك عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وقال: "إذا كان شيءٌ من أمر دنياكم: فشأنكم، وإذا كان شيءٌ من أمر دينكم: فإليَّ".
هذا الحديث هو عمدة فئامٍ كبيرٍ ممّن ردّوا عامّةَ السنة أو قدْرًا منها، وجعلوه أصلًا ما أكثر ما يلهجون به في مقالاتهم وبحوثهم، وكأنّه أصل الأصول، وأصحُّ منقول!!
وأوّلُ ما يؤخذ على هؤلاء هو هذا الاعتماد المبالغ فيه وفي دلالته، حيث جعلوا هذا الحديث الوحيد أساسًا ترجع النصوص إليه؛ وكأنّه هو المُحْكَمُ الذي تؤول إليه كل نصوص القرآن والسنَّة التي تقدّم قطرةٌ من بحرها، وغرفةٌ من نهرها!!
وهذا خطأٌ منهجيّ، لا من جهة أنه نصٌّ واحد مقابل عشرات...بل مئات النصوص، بل من جهة أنّهم لم يُمعنوا النظر في ألفاظ الرّواية، لينظروا هل هي دالةٌ على ما يريدون، أم لا تدل؟ وهذا الخطأ كان سيكون مقبولًا، لو لم يكن هذا الاستدلالُ يخالف جميع تلك النصوص.
أمَا وقد خالفها، فكان هذا يوجب عليهم عميق النظر والدراسة.
وقبل الدخول إلى مناقشتهم في انتقائيّتهم لأحد ألفاظ الرواية؛ لأنها هي الرواية التي يؤيّد لفظُها مُرادَهم، أودّ مُبَاحَثَتَهم في أصل استدلالهم باللفظ الذي أوردوه واستدلّوا به:
فأقول لهم: ما المراد بأمر الدنيا الذي تجعلونه ممّا لا يرُجع فيه إلى السنّة؟ حيث إنه يدخل في أمر الدنيا كلّ ما لا يدخلُ في أمر العقائد والعبادات المحضة: كالمعاملات: من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وآداب للحديث واللباس والطعام والشراب وعموم الأخلاق...وغير ذلك.
فإن قالوا: المقصود جميعُ ما ذُكر، لدخوله تحت دلالة قوله (أمر الدنيا)، كان هذا القول منهم دليلًا على سقوط فهمهم وبطلانه؛ لأنه خالف قطعيّات الكتاب والسنَّة الدالة على(1/21)
وجوب طاعة النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر من أمور المعاملات والآداب والأخلاق، وخالف أيضًا إجماعَ العلماء: فهذه كتب الفقه على جميع المذاهب وكتب العلم لدى جميع أهل العلم: حفيلةٌ بنصوص السنَّة في ذلك، عظيمةُ العناية بالاهتداء بنورها، مستضيئةٌ بهدايتها.
وإن قالوا: بل بعض ذلك دون بعض، كأحاديث الطبّ.
قلنا: وما دليل هذا التخصيص؟ ثم إن الحديث الذي تحتجّون به ليس في الطب، بل النصّ الذي تعتمدونه ظاهره العموم (أمر الدنيا).فالتخصيص بلا دليل، دليلٌ على بطلان ذلك القيل.
وبذلك نخلص أن هذا الفهم باطلٌ من أساسه؛ فلا عُمومُهُ مقبول، ولا خُصوصُه بالذي يُساعدهُ الدليل؛ بل بُطلان طرفيه أوضحُ مِنْ أن يحتاجَ إلى شيءٍ من التطويل.
وهذا يكفي لانعقاد القلوب على خلاف هذا الفهم، وعلى أن نعلم علم اليقين أن معارضة النصوص القاطعة في الكتاب والسنة بهذا الفهم السَّقيم لهذا الحديث غير قويم.
فإن قيل: فما الفهم الصحيح لهذا الحديث؟
قيل: هو أن تجمع طرق الحديث، وتنظر في ألفاظه أوّلًا:
فقد روى هذا الحديث مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ « مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ».فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا ».قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».. (1)
ورواه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ».قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ: « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ».فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ
__________
(1) - صحيح مسلم(6275 )(1/22)
بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ».قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوَ هَذَا.قَالَ الْمَعْقِرِىُّ فَنَفَضَتْ.وَلَمْ يَشُكَّ. (1) .
وسنقف مع هذين اللفظين عدة وقفات:
أوّلاً: جاء التصريح في كلا اللفظين من النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينههم عن تلقيح النخل إلا بناءً على الاجتهاد، ووضّح لهم - - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً أنه لا يقول ما يقوله في ذلك اعتمادًا على خبر السماء، بل اعتمادًا على ظنّه واجتهاده.فقد قال في رواية طلحة -رضي الله عنه-: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، وقال في رواية رافع -رضي الله عنه-: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ومن المعلوم أنه لو كان ما قاله في شأن تلقيح النخل وحيًا لما قال: "أظن" ولا "لعلكم"، فهذان اللفظان قاطعان لمن سمعهما منه - - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُخبر عن وحي السماء, وإنما يُخبر عن اجتهاده.
وهذا التنبيه يوجب علينا التفريق بين نصٍّ نبويٍّ صريح بأنه اجتهادٌ غير مجزوم به، مثل هذا النص, ومن أمثلته أيضاً حديث ثابت بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-، قال: كنّا مع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في جيش، فأصبنا ضِبَابًا، فشويت منها ضَبًّا، فأتيتُ به النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل ينظر إليه ويُقلِّبُه, وقال: " إن أُمّةً مُسخت، لا يُدْرَي ما فَعَلت، وإني لا أدري لعل هذا منها ".فما أمر بأكلها، ولا نهى. (2)
وحديث أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّى فِى غَائِطٍ مَضَبَّةٍ وَإِنَّهُ عَامَّةُ طَعَامِ أَهْلِى - قَالَ - فَلَمْ يُجِبْهُ فَقُلْنَا عَاوِدْهُ.فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلاَثًا ثُمَّ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الثَّالِثَةِ فَقَالَ « يَا أَعْرَابِىُّ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَوْ غَضِبَ عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِى الأَرْضِ فَلاَ أَدْرِى لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا فَلَسْتُ آكُلُهَا وَلاَ أَنْهَى عَنْهَا ». (3)
__________
(1) - صحيح مسلم (6276) -يأبر: يلقح = نفضت: أسقطت ثمرها
(2) - أخرجه أبو داود: رقم( 3789) والنسائي: رقم( 4320 - 4322) وابن ماجه: رقم(3238) بإسناد صحيح.
(3) - صحيح مسلم (5156 )(1/23)
وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأْرَ أَلاَ تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ ». (1)
ثم إن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - أُوحي إليه بما صحّ من حديث عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ قَالَ مِسْعَرٌ وَأُرَاهُ قَالَ وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ». (2)
فتبيّن أن ما قاله - - صلى الله عليه وسلم - في شأن الضبّ والفأر كان ظنًّا (كما جاء مصرِّحًا به)، ثم أُوحي إليه - - صلى الله عليه وسلم - بأن المُسُوخ لا نسل لها.فقطع بذلك دون ظنّ أو تردّد. (3)
ونصٍّ آخر صدر منه - - صلى الله عليه وسلم - على وجه القطع وعدم الشك، فهذا حقٌ مطلقًا،إلا أن يُصوّبه النبي - - صلى الله عليه وسلم - بما يُوحَى إليه من قرآن أو سنّة.
ثانيًا: أن الخطأ في هذا الحديث قد وقع من الصحابة الذين تركوا تلقيح النَّخل (4) ؛ لأنهم حملوا ظنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - على عدم احتمال الخطأ، وكأنه وحيٌ، فقدّموا ظنّه - - صلى الله عليه وسلم - على ما علموه يقينًا من ضرورة تلقيح النخل!!
قال المناوي في (فيض القدير): « قوله: "إنما أنا بشر" يعني: أُخطئ وأُصيب فيما لا يتعلّق بالدين؛ لأن الإنسان محلُّ السهو والنسيان، ومراده بالرأي: في أمور الدنيا، على ما عليه جمعٌ.لكنّ بعض الكاملين قال: أراد به الظنّ؛ لأن ما صدر عنه برأيه واجتهاده وأُقِرَّ عليه حُجَّةُ الإسلام مطلقًا » (5) .
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء الكاملون، هو الذي يدلّ عليه لفظ الحديث وسياقُه، فاحرص أن تكون من الكاملين!!
__________
(1) - صحيح مسلم(7688 )
(2) - صحيح مسلم(6941)
(3) - وهذا ما قرّره الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/325-327، 328، 338 رقم 3273 - 3288).
(4) - هذا ما صرح به شيخ الإسلام إن تيميه (مجموع الفتاوى: 18/12) .
(5) - فيض القدير (2/567) .(1/24)
فإنك إن نظرت في لفظ الحديث بروايتيه السابقتين، تجد أنه - - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بظنّه المصرَّح بأنه ظنّ، ثم لمّا أخذوا بظنِّه قال لهم: (( إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ ))، أي ما دمتُ قد صَرّحتُ لكم بأني أظنّ فلا مؤاخذةَ عليَّ، ثم إنه - - صلى الله عليه وسلم - جعل الذي يُقابل الظن: ما أخبر به عن الله تعالى، فقال: (( ولكن إذا حدثكم عن الله شيئًا فخذوا به )).إذن فليس هناك إلا ظنٌّ أو وحيٌ، والظنّ هو ما صرَّح بكونه ظنًّا، والوحي ما قطع به وأُقرّ عليه؛ لأنه - - صلى الله عليه وسلم - لا يُقَرّ على خطأ.
ويشهد لذلك أيضًا اللفظ الآخر، فإنه - - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر ))، فتنبّه أنه قابَلَ بين الدين والرأي (أي: الاجتهاد الظنّي)، ولم يُقابل بين الدين والدنيا.
والمعنى: أنّ السنّة التي من الدِّين (أي من الوحي) هي التي لم تكن باجتهاد، وليست هي التي تكون في أمور الدنيا مطلقًا.فسياق الحديث دلّ الصحابة على الطريقة التي يفرّقون بها بين سنة الدين والرأي (الاجتهاد)، ولم يأت في الحديث ما يفرّقون به بينهما؛ إلا تصريحُه بأنه قال ما قال عن ظنّ واجتهاد.فالحديث جاء للتفريق بين النصّ الذي يُصَرَّح فيه بأنه ظنّ، والنصّ الآخر القاطع، وقد قال الطحاوي معلّقاً على هذا الحديث: " فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ جِهَةِ الظَّنِّ , فَهُوَ فِيهِ كَسَائِرِ النَّاسِ فِي ظُنُونِهِمْ , وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ , مِمَّا لَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ هُوَ مَا يَقُولُهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْغَيْلَةِ , لِمَا كَانَ خَافَ مِنْهَا عَلَى أَوْلَادِ الْحَوَامِلِ , ثُمَّ أَبَاحَهَا " (1) .
فتنبهْ أن الطحاوي (رحمه الله) جعل القِسْمَةَ: ظنًّا ووحيًا، لا دنيا ودين، وهذا هو موطن الشاهد في كلامه، وهو واضح الدلالة لمن تأمله.
أمَّا ما اجتهد فيه النبي - - صلى الله عليه وسلم - وأخبر به جازمًا، ثم صَوّبه الوحي بعد ذلك؛ فهذا وَجْهٌ آخر للتفريق بين سنَّة الوحي والاجتهاد منه - - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس بوحي، بأن يُقال في هذا الوجه:
__________
(1) - شرح معاني الآثار (3/48) (2854 ) و وانظر أيضا قوله (4538)(1/25)
إنّ ما أُقر عليه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فهو وحيٌ، وما صُوّبَ فقد عرفنا بالتصويب أنه ما قاله قبله ليس وحيًا.
وقد سبق أن ما اجتهد فيه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - وصَوّبه له الوحي لا يختصُّ بأمور الدنيا, فقد اجتهد النبيّ في أمور الدين أيضًا وصَوّب الوحي له اجتهاده.فإن كان مجرّد تصويب الوحي لاجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا، فيلزم أن يكون تصويب الوحي لاجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا أيضًا!!
وهذا ما لا يقوله إلا غُلاة أهل الضلال؛ لأنه يخالف قطعيات الكتاب والسنَّة وإجماع علماء المسلمين وعوامّهم.
وبذلك نخلص أن الشرع المحفوظ ونصوصه المصونة قد جعلا لنا وسيلتين للتمييز بين: سنَّة الوحي التي لا تحتملُ إلا الصدق وتوجب العلم أو العلم والعمل، وسنة الاجتهاد التي تحتمل الصواب والخطأ (1) .
وفيها ما هو للتشريع العام وما هو للتشريع الخاص، وقد حقق ذلك المحققون من العلماء.
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر كتابي ((السنة النبوية وأثرها في اختلاف الفقهاء))-ط1 - (1 / 81) المبحث الثالث -هل اجتهادُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينافي كون السنَّة وحيٌ ؟(1/26)
المبحث الثالث
أهم الأولويات التي لا بد من مراعاتها
1- أولوية الـ ( كيف ) على الـ ( كم )، ( أولوية الكيفية على الكمية )
فليست العبرة بالكثرة في العدد ولا بالضخامة في الحجم، وإنما المدار على النوعية والكيفية.
ولقد ذم القرآن الأكثرية إذا كان أصحابها ممن لا يعقلون أولا يعلمون أولا يؤمنون أولا يشكرون، كما نطقت بذلك آيات وفيرة من كتاب الله - تعالى -: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (63) سورة العنكبوت، وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (6) سورة الروم
في حين مدح القرآن القلة المؤمنة العاملة الشاكرة: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ.
ويذكر كثير من الناس الحديث النبوي عَنْ أنَسٍ، فَذَكَرَ حَدِيثًا بِهَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُ بِالَبْاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ..
ولكن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لن يباهي الأمم بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، إنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين !
فعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّمَا النَّاسُ كَإِبِلِ مِائَةٍ لاَ يَجِدُ الرَّجُلَ فِيهَا رَاحِلَةً (2) .
ففيه دلالة على ندرة النوع الجيد في الناس، كندرة الراحلة الصالحة للسفر والركوب والحمل في الإبل، حتى إن المائة لا يكاد يوجد فيها واحدة من هذا النوع !
__________
(1) - كشف الأستار - (2 / 148)(1400) حسن لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6663 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 46)(6172)(1/27)
والتفاوت في بني الإنسان أكثر منه في جميع الفصائل والأنواع الأخرى من الحيوان وغيره، حتى جاء في الحديث عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ أَلْفٍ مِثْلِهِ إِلا الإِنْسَانَ. (1) .
ومن قرأ سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم أن عنايته كانت بالنوع لا بالكم، ومن قرأ سير أصحابه وخلفائه رأى ذلك بجلاء ووضوح أيضاً.العناية إذن يجب أن تتجه إلى الكيف والنوع لا مجرد الكم، والمقصود بـ" الكم " هنا: كل ما يعبر عن مقدار الجانب المادي وحده، من كثرة العدد، أو سعة المساحة، أو كبر الحجم، أو ثقل الوزن، أو طول المدة، أو غير ذلك مما يدخل في هذا المجال.وما قلناه في كثرة العدد نقوله في الأمور الأخرى، فالإنسان مثلاً لا يقاس بطول قامته أوقوة عضلاته أو ضخامة جسمه أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته.
عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لَيَأْتِيَنَّ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " ثُمَّ قَرَأَ: { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [الكهف: 105].متفق عليه (2) .
وعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، كَانَ يَحْتَزُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِوَاكًا مِنْ أَرَاكٍ، وَكَانَ فِي سَاقَيْهِ دِقَّةٌ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا يُضْحِكُكُمْ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ (3) ..
وليس معنى هذا: أن الإسلام لا يقيم وزناً لصحة الجسم وقوته.كلا، فهو يهتم بذلك غاية الاهتمام، ففي الصحيح عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْنَهَا سَيِّئَةَ الْهَيْئَةِ، فَقُلْنَ: مَا لَكِ، مَا فِي قُرَيْشٍ رَجُلٌ أَغْنَى مِنْ بَعْلِكِ، قَالَتْ: مَا لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ ؟ أَمَّا نَهَارُهُ فَصَائِمٌ، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَقَائِمٌ، قَالَ: فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْنَ ذَلِكَ لَهُ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ: يَا عُثْمَانُ، أَمَا لَكَ فِي أُسْوَةٍ ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ
__________
(1) - الفوائد لتمام 414 - (2 / 29)(973) حسن
(2) - صحيح البخارى- المكنز -(4729) وصحيح مسلم- المكنز - (7222 )
(3) - صحيح ابن حبان - (15 / 546)(7069) صحيح(1/28)
أَبِي وَأُمِّي ؟ قَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، صَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، قَالَ: فَأَتَتْهُمُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَطِرَةً كَأَنَّهَا عَرُوسٌ، فَقُلْنَ لَهَا: مَهْ، قَالَتْ: أَصَابَنَا مَا أَصَابَ النَّاسُ (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَرٌّ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا قُلْ قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ اللهُ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2) .
ولكنه لا يجعلها معيار الفضل.فالرجال يقاسون بما في رؤوسهم من علم وما في قلوبهم من إيمان وما يثمره الإيمان من عمل، والعمل في نظر الإسلام لا يقاس بحجمه ولا عدده، وإنما يقاس بمدى إحسانه وإتقانه، وإحسان العمل في الإسلام ليس نافلة، بل هو فريضة كتبها الله - تعالى - على المؤمنين، كما كتب عليهم الصيام وغيره من الفرائض !
وفي العبادات كذلك الكيفية مقدمة على الكمية فيها، ومثال ذلك الصائم لا يحصل على ثواب - إذا آذى الناس - مهما صام من الأيام والشهور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ.رواه ابن ماجه (3) .
2- الأولويات في مجال العلم والفكر :
ومنها :
أ-أولوية تقديم العلم على العمل :
- قال الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 19) (316) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6945) وشعب الإيمان - (1 / 372)(191 )
(3) - سنن ابن ماجة- ط-الرسالة - (2 / 591)(1690) حسن(1/29)
فأمر رسوله بالعلم والتوحيد أولاً، ثم ثنى بالاستغفار وهو عمل، والخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهومتناول لأمته.
وقال الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر، فالعلم هوالذي يورث الخشية الدافعة إلى العمل.
-وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ (1) .لأنه إذا فقه عمل وأحسن ما عمل.
- عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: مَنْ لَمْ يَعُدْ كَلاَمُهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يَفْسُدُ أَكْثَرَ مِمَّا يَصْلُحُ (2) .، وهذا واضح في بعض الفئات من المسلمين، الذين لم تكن تنقصهم التقوى أو الإخلاص والحماس، وإنما كان ينقصهم العلم والفهم بمقاصد الشرع وحقائق الدين.
- العلم شرط لأي عمل، عَنِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ " (3) .
- وكذلك في الفتوى، فلا يجوز أن يفتي الناسَ إلا عالم متمكن في علمه فقيه في دينه، وللأسف فإننا نرى بعض مَنْ هم في بداية علمهم، أوممن لم يتمكنوا تمام التمكن في الفقه، يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل وأخطر القضايا، ويتطاولون على العلماء الكبار، بل يناطحون الأئمة العظام والصحابة الأعلام، ويقولون في غرور وانتفاخ: هم رجال ونحن رجال !!!.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (71 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 291) (89)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 470)(36246) صحيح لغيره
(3) - شعب الإيمان - (10 / 35)(7125 ) صحيح(1/30)
وهؤلاء أنفسهم يفتقرون إلى معرفة قدر أنفسهم، ثم فقه مقاصد الشرع وفقه حقائق الواقع، ولكن الغرور حجاب كثيف دون ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله !
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا (1) .
وعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ السَّعْدِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمَالُ الَّذِي لَيْسَ عَلَيَّ فِيهِ تَبِعَةٌ، مِنْ طَالِبٍ وَلا مِنْ ضَيْفٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : نِعْمَ الْمَالُ أَرْبَعُونَ، وَالْكَثْرَةُ سِتُّونَ، وَوَيْلٌ لأَصْحَابِ المِئِينَ، إِلاَّ مَنْ أَعْطَى الْكَرِيمَةَ، وَمَنَحَ الْغَزِيرَةَ، وَنَحَرَ السَّمِينَةَ، فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَكْرَمُ هَذِهِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَحِلُ بِوَادٍ أَنَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ نَعَمِي، فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِالْعَطِيَّةِ ؟ قُلْتُ: أُعْطِي الْبَكْرَ، وَأُعْطِي النَّابَ، قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَنِيحَةِ ؟ قَالَ: إِنِّي لأَمْنَحُ الْمِئَةَ، قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الطَّرُوقَةِ ؟ قَالَ: يَغْدُوا النَّاسُ بِحِبَالِهِمْ، وَلاَ يُوزَعُ رَجُلٌ مِنْ جَمَلٍ يَخْتَطِمُهُ، فَيُمْسِكُ مَا بَدَا لَهُ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : فَمَالُكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمْ مَالُ مَوَالِيكَ ؟ قَالَ: مَا لِي، قَالَ: فَإِنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَسَائِرُهُ لِمَوَالِيكَ، فَقُلْتُ: لاَ جَرَمَ، لَئِنْ رَجَعْتُ لأُقِلَّنَ عَدَدَهَا، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَمَعَ بَنِيهِ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ، خُذُوا عَنِّي، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْخُذُوا عَنْ أَحَدٍ هُوَ أَنْصَحُ لَكُمْ مِنِّي، لاَ تَنُوحُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنِ النِّيَاحَةِ، وَكَفِّنُونِي فِي ثِيَابِي الَّتِي كُنْتُ أُصَلِّي فِيهَا، وَسَوِّدُوا أَكَابِرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَوَّدْتُمْ أَكَابِرَكُمْ لَمْ يَزَلْ لأَبِيكُمْ فِيكُمْ خَلِيفَةً، وَإِذَا سَوَّدْتُمْ أَصَاغِرَكُمْ هَانَ أَكَابِرُكُمْ عَلَى النَّاسِ، وَزَهَدُوا فِيكُمْ، وَأَصْلِحُوا عَيْشَكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ غِنًى عَنْ طَلَبِ النَّاسِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهَا آخِرُ كَسْبِ الْمَرْءِ، وَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسَوُّوا عَلَيَّ قَبْرِي، فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ شَيْءٌ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (100 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6971 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 432)(4571)(1/31)
الْحَيِّ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ خُمَاشَاتٍ، فَلاَ آمَنُ سَفِيهًا أَنْ يَأْتِيَ أَمْرًا يُدْخِلُ عَلَيْكُمْ عَيْبًا فِي دِينِكُمْ (1) .
ب- أولوية الفهم على مجرد الحفظ.
- الإسلام يريد منا التفقه في الدين، لا مجرد تعلم الدين، والتفقه شيء أعمق وأخص من العلم، إنه الفهم والفهم الدقيق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الأَمْرِ أَكْرَهَهُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَتَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ. (2) .
- عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ » (3) .
- هذا لا يعني أنه ليس للحفظ قيمة، ولكن المقصد أن الحفظ ليس مقصودا لذاته وإنما هو وسيلة لغيره.وإننا لنجد مبالغة في تكريم حفاظ القرآن الكريم - على ما في ذلك من فضل- بكثير من الجوائز القيمة، ولكن لم يرصد مثل هذه الجوائز للنابغين في العلوم الشرعية المختلفة، مع أن حاجة الأمة إلى هؤلاء أكثر ونفعهم أعظم وأغزر.
ج- أولوية المقاصد على الظواهر:
__________
(1) - الأدب المفرد للبخاري - ( 953 ) حسن
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3353 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6615) وصحيح ابن حبان - (13 / 69) (5757)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (79 )
الأجادب: جمع أجدب وأجدب جمع جدب وهى الأرض التى لا تنبت كلأ
القيعان: جمع القاع ومعناها هنا الأرض التى لا نبات فيها(1/32)
- وذلك من خلال الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، وردّ فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.وكثيراً ما أدت هذه الحرفية الظاهرية إلى تحجير ما وسَّع الله - تعالى -، وتعسير ما يسّر الشرع وتجميد ما من شأنه أن يتطور، وتقييد ما من شأنه أن يتجدد ويتحرر ! (1) .
د- أولوية الاجتهاد على التقليد ( في الأمور المستجدة والطارئة ).
- وهذا لا يعني نفي تقليد الأئمة - رحمهم الله تعالى -، وإنما مراعاة تغير زماننا عن زمانهم وحاجاتنا عن حاجاتهم، ومعارفنا عن معارفهم.وهم أنفسهم ربما لو تأخر الزمن حتى رأوا ما رأينا وعاشوا ما عشنا - وهم أهل الاجتهاد والنظر - لغيروا كثيراً من فتاواهم واجتهاداتهم، كيف وقد غير أصحابهم من بعدهم كثيراً منها لاختلاف العصر والزمان رغم قرب ما بين أولئك وهؤلاء؟ بل كيف وقد غير الأئمة كثيراً من أقوالهم في حياتهم، تبعاً لتغير اجتهادهم، بتأثير السن أوالنضج أوالزمان أوالمكان ؟ (2)
هـ- أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا
- إذا كنا نقول بضرورة سبق العلم على العمل في أمور الدين، فنحن نؤكد ضرورة ذلك في شؤون الدنيا أيضاً، فنحن في عصر يؤسس كل شيء على العلم، ولم يعد يقبل الارتجال والغوغائية في أمر من أمور الحياة.فلا بد لأي عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه، ولا بد من الاقتناع بجدواه قبل البدء فيه، ولا بد من التخطيط قبل التنفيذ، ولا بد من الاستعانة بالأرقام والإحصاءات قبل الإقدام على العمل.فالإحصاء والتخطيط والدراسة قبل العمل، كلها من صميم الإسلام، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أول من أمر بعمل إحصائي منظم لمن آمن به بعد هجرته إلى المدينة، ولقد ظهر أثر التخطيط في سيرته في صور ومواقف شتى.فالتخطيط أساس لأي عمل يراد إنجاحه.
و- الأولويات في الآراء الفقهية.
__________
(1) - انظر شرح القواعد الفقهية - (1 / 55) وشرح القواعد الفقهية ــ للزرقا - (1 / 7)
(2) - انظر كتابي (( الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد )) وكتابي (( الخلاصة في بيان أسباب اختلاف الفقهاء ))(1/33)
- وذلك بمعرفة الآراء التي لا تحتمل الخلاف قط ولا يقبل فيها رأي آخر ولا مجال فيها لتسامح، والآراء التي تقبل نسبة - ولو ضئيلة - من التسامح، والآراء التي تتسع للكثير من الخلاف والتسامح، وكذلك التفريق بين القطعي والظني من النصوص، فمن النصوص ما هوظني الثبوت وظني الدلالة معاً، ومنها ما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة معاً.
- وظنية الدلالة تشمل السنَّة والقرآن جميعاً، فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة وفيها المجاز والكناية، والخاص والعام، والمطلق والمقيد...وكثيراً ما تخضع الأفهام لعقول الناس وظروفهم واتجاهاتهم النفسية والعقلية.
- والقرآن كله قطعيُّ الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته - في جزئياتها - ظنية الدلالة، ولذا اختلف الفقهاء في الاستنباط منها.ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق ( فضائل ورذائل )، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحوذلك قد بيّنَتْها آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء.وأكدت هذه القضايا السنةُ النبويةُ قولاً وعملاً وفعلاً وتقريراً، كما أكدها الإجماع اليقيني من علماء الأمة، واقترن بها التطبيق العملي من الأمة.
- ومن هنا لا يجوز الخلط - جهلاً أوقصداً - بين النصوص بعضها وبعض.والذي يرفض أبداً هو رد النصوص القطعية الثبوت والدلالة جميعاً، فهذه - وإن كانت قليلة - تعتبر في غاية الأهمية في الدين، لأنها هي التي تجسد الوحدة العقدية والفكرية والشعورية والعملية للأمة المسلمة وهي التي يحتكم إليها عند النزاع.ولذلك لا بد أن نحذر من تلك المؤامرة الفكرية التي تعمل على تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات، مثل الذين يجادلون في آية تحريم الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) سورة المائدة
ويشككون في دلالة كلمة " فاجتنبوه " على التحريم !(1/34)
ومثل الذين يجادلون في تحريم الربا، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276) سورة البقرة.
ومثل الذين يجادلون في تحريم لحم الخنزير، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (173) سورة البقرة.
ومثل الذين يجادلون في ميراث المرأة، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا} (11) سورة النساء.
أو في قوامية الرجل على الأسرة، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء
أو في لباس المرأة المسلمة المحتشم، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور.(1/35)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب.
- القطعيات هي التي يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف وأساس الدعوة والإعلام وأساس التربية والتعليم وأساس الوجود الإسلامي كله.
3- الأولويات في مجال الفتوى والدعوة :
أ- أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير.
- لقد دلت النصوص من الكتاب والسنة أن التيسير والتخفيف أحب إلى الله - تعالى - وإلى رسوله: قال الله -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة.
وقال - سبحانه -: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (28) سورة النساء، وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) سورة المائدة.
وعَنِ الأَعْرَابِيِّ، الَّذِي سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُه (1) .
وعَنْ مِحْجَنٍ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَقَالَ لِي: مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: هَذَا فُلاَنٌ فَجَعَلْتُ أُطْرِيهِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 469)(15936) 16032- صحيح(1/36)
وَأَقُولُ: هَذَا هَذَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةٍ ثُمَّ أَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ يَدِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ قَالَهَا ثَلاَثًا (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ تُنْتَهَكُ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (3) .
- ويتأكد ترجيح الرخصة واختيار التيسير، إذا ظهرت الحاجة إليها، لضعف أو مرض أوشيخوخة أو لشدة مشقة أو غير ذلك من المرجحات.
فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدَ، حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَعَا لِي بِلَبَنٍ لِقْحَةً، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ، صِيَامٌ حَسَنٌ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ قَالَ: وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَمَّرَنِي عَلَى الطَّائِفِ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، تَجَاوَزِ الصَّلاةَ، وَاقْدُرِ النَّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، وَالسَّقِيمُ، وَالْبَعِيدُ، وَذَا الْحَاجَةِ " (4) .
- رأينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد دعا إلى تعجيل الفطور وتأخير السحور، تيسيراً على الصائم (5) ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِبِلاَلٍ: أَنْتَ يَا بِلاَلُ تُؤَذِّنُ إِذَا كَانَ الصُّبْحُ سَاطِعًا فِي السَّمَاءِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالصُّبْحِ، إِنَّمَا الصُّبْحُ هَكَذَا مُعْتَرِضًا ثُمَّ دَعَا بِسَحُورِهِ فَتَسَحَّرَ، وَكَانَ يَقُولُ: لاَ تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السَّحُورَ، وَعَجَّلُوا الْفِطْرَ (6) .
__________
(1) - مسند الطيالسي - (2 / 628)(1392) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 377)(918 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 520)(26262) 26792- وصحيح البخارى- المكنز - (3560 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6190 )
(4) - الآحاد والمثاني - (3 / 56)( 1542) صحيح
(5) - الفتاوى الكبري لابن تيمية - (3 / 132)
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 208)(21507) 21839- حسن لغيره(1/37)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الإِفْطَارَ (1) .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا وَأَبْطَأَهُ سُحُورًا " (2) .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا.قَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بِأَرْضٍ يُصْنَعُ فِيهَا شَرَابٌ مِنَ الْعَسَلِ: يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ، وَشَرَابٌ مِنَ الشَّعِيرِ: يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.متفق عليه (3) .
بل رأيناه - صلى الله عليه وسلم - يشدد النكير على من يشدد على الناس ولا يراعي
ظروفهم المختلفة، كما فعل بعض الصحابة الذين كانوا يؤمون الناس ويطيلون في الصلاة طولاً اشتكى منه بعض مأموميهم، ف فعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ، قَالَ: فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا لَكَ يَا فُلاَنُ، أَنَافَقْتَ ؟ قَالَ: مَا نَافَقْتُ، وَلَآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّى مَعَكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي، أَيْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، وَإِنَّمَا نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا قَالَ عَمْرٌو: وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ لاَ أَحْفَظُهَا، قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْنَا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ:
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (6 / 127) (9046) صحيح
(2) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ( 7343 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 650)(19742) 19980- وصحيح البخارى- المكنز - (4344) وصحيح مسلم- المكنز - (4623)(1/38)
اقْرَأْ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا (1) ..
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلاَةً مِنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى تَمَامٍ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَارِبَةً وَكَانَتْ صَلاَةُ أَبِى بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَدَّ فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَالَ « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ».قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَوْهَمَ.ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَوْهَمَ (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ » متفق عليه (3) .
- وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد ما يكون إنكاراً للتشديد إذا كوَّن اتجاهاً، وتبنّاه جماعة، ولم يكن مجرد نزعة فردية عارضة، وهذا ما نلاحظه في إنكاره على الثلاثة الذين اتخذوا خطاً في التعبد غير خطه وإن كانوا لا يريدون إلا الخير ومزيد التقرب إلى الله - تعالى -: فعن حُمَيْدَ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِي قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ».قَالَهَا ثَلاَثًا.رواه مسلم (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (6 / 160)(2400) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3 / 306)(1089 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (703 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1076)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5063) وصحيح ابن حبان - (2 / 20)(317)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6955 ) -التنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح.(1/39)
ب- الاعتراف بالضرورات الطارئة في حياة الناس سواء أكانت فردية أم جماعية
- وهذا من التيسير المطلوب، فقد جعلت الشريعة لهذه الضرورات أحكامها الخاصة وأباحت بها ما كان محظوراً في حالة الاختيار من الأطعمة والأشربة والملبوسات والعقود والمعاملات، وأكثر من ذلك أنها نزّلت الحاجة في بعض الأحيان - خاصة كانت أوعامة - منزلة الضرورة أيضاً، تيسيراً على الأمة ودفعاً للحرج عنها.والأصل في ذلك ما جاء في القرآن الكريم عقب ذكر الأطعمة المحرمة في أربعة مواضع من القرآن الكريم رُفٍعَ فيها الإثم عن متناولها مضطراً غير باغ ولا عاد..: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (173) سورة البقرة، {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (115) سورة النحل.
إنما حرم الله عليكم ما يضركم كالميتة التي لم تذبح بطريقة شرعية، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والذبائح التي ذبحت لغير الله.ومِنْ فَضْلِ الله عليكم وتيسيره أنه أباح لكم أكل هذه المحرمات عند الضرورة.فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء منها، غير ظالم في أكله فوق حاجته، ولا متجاوز حدود الله فيما أُبيح له، فلا ذنب عليه في ذلك.إن الله غفور لعباده، رحيم بهم.
وما جاء في السنة بعد تحريم لبس الحرير على الرجال: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حكّة بهما فأذن لهما بلبسه تقديراً لهذه الحاجة، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رُخِّصَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (1) .
ج- تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
- من التيسير المطلوب ضرورة الاعتراف بالتغير الذي يطرأ على الناس سواء أكان سببه فساد الزمان كما يعبر الفقهاء، أو تطور المجتمع، أو نزول ضرورات به، ومن ثَمَّ أجاز
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 465)(12863) 12894- وصحيح مسلم- المكنز - (5552 )(1/40)
فقهاء الشريعة تغيير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف والأحوال مستدلين في ذلك بهدي الصحابة وعمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نهتدي بسنتهم ونعض عليها بالنواجذ، قال خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ الْكَلاَعِيُّ، قَالاَ: أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: ]، فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا: أَتَيْنَاكَ زَائِرَيْنَ وَمُقْتَبِسَيْنِ، فَقَالَ الْعِرْبَاضُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ (1) .
البليغة: المؤثرة التي يُبَالغ فيها بالإنذار والتخويف
ذرفت العيون: سال منها الدمع
الوجل: الخوف والخشية والفزع
المودع: المفارق للدنيا
النواجذ: هي أواخُر الأسنان.وقيل: التي بعد الأنياب.
محدثة: مُبتَدَعة
محدثة: أمر جديد لم يكن موجودًا
البدعة بِدْعَتَان: بدعة هُدًى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمَر اللّه به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو في حَيِّز الذّم والإنكار، وما كان واقعا تحت عُموم ما نَدب اللّه إليه وحَضَّ عليه اللّه
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 178)(5) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي عِنْدَ ذِكْرِهِ الاِخْتِلاَفَ الَّذِي يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى السُّنَنِ ، قَالَ بِهَا ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الآرَاءِ مِنَ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ فِي الْقِيَامَةِ ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ.(1/41)
أو رسوله فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنَوْع من الجُود والسخاء وفعْل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وَردَ الشرع به.
بل هوما دلت عليه السنة وقبلها القرآن الكريم.
- هذا الأمر يوجب علينا في هذا العصر أن نعيد النظر في أقوال قيلت وآراء اتُّخذت في أعصار سابقة، ربما كانت ملائمة لتلك الأزمنة وتلك الأوضاع ولكنها لم تعد ملائمة لهذا العصر بما فيه من مستجدات هائلة، لم تكن لتخطر للسابقين على بال، والقول بها اليوم يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ويشوه وجه دعوته.
قلت: وهي التي كانت تستند إلى المصلحة المرسلة أو الأعراف السائدة، فتغيرت هذه أو تلك، أما التي تستند لنص من القرآن والسنة أو الإجماع أو القياس، فلا تتغير ولا تتبدل، فهي محكمة ثابتة.
ـــــــــــ
الرد على من يزعم تغير بعض أحكام الإسلام الثابتة ومنها الجهاد
أما الزعم بأننا أصحبنا في عصر يرفض كثيرا من أحكام الإسلام، كتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وأن هذا عفا عليه الزمان اليوم لوجود القوانين الدولية، فهذا كفر صريح وخروج عن ملة الإسلام، فهذا التقسيم ليس قائما على المصلحة ولا على الأعراف ولا طارئاً كما يزعم فقهاء الهزيمة، بل هو من صميم رسالة الإسلام، والتي هي من عند الله تعالى، ويأتون بالآيات والأحاديث التي كانت في بداية الإسلام للدلالة على زعمهم، وكأن السابق ينسخ اللاحق بنظر فقهاء الهزيمة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل: " أَوّلَ مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرُ 1، 2 ] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ { اقْرَأْ } وَأَرْسَلَهُ ب { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، ثُمّ أَنْذَرَ(1/42)
الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ.ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ.وَلَمّا نَزَلَتْ ( سُورَةُ بَرَاءَةٌ ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا، فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ " يُقَاتِلَ عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ.
وَأَمَرَهُ فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ.وَقِسْمًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ.وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التّوْبَةُ 2 ] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةُ 5 ] فَالْحُرُمُ هَا هُنَا: هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التّوْبَةُ 36 ] فَإِنّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ.وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ فَأَسْلَمَ(1/43)
هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ.فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ.وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ.وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ.خُلّفُوا.وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ.
وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ.وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) و ( الْمُؤْمِنُونَ ) فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْأَعْرَافِ 199 - 200 ] فَأَمَرَهُ بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا، فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَلَا بُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ(1/44)
الْمَعْرُوفُ الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ.وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ.وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ الْمُؤْمِنُونَ 93 - 97 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 134 ] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ (1) .
لقد فات هؤلاء المحجوبين - عن الحق- أن الكفار هم الكفار، وأنهم يتربصون بنا الدوائر، وأنهم غزوا العالم الإسلامي، وأبادوا الملايين، وصدَّروا لنا جميع الأراجيف والأضاليل، وأنه لا يخيفهم شيء مثل كلمة الجهاد في سبيل الله، لذلك يسعون بكل ما أوتوا من قوة وضلال إلى تغيير مفاهيم الإسلام المحكمة الثابتة بحجة عدم مناسبتها للعصر أو أنها تخالف القوانين الدولية أو تنافي الرحمة والإنسانية....
ومتى كان أعداء الإسلام يحملون من الرحمة والإنسانية ذرةً؟!!
وماذا أفاد دعاة الحوار مع هؤلاء ؟!!
هل أصحبت العلاقة بيننا وبين الكفار والفجار علاقة حميمة قائمة على المحبة والاحترام المتبادل ؟!!
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا، جاء ليقرر ألوهية اللّه في الأرض، وعبودية البشر جميعا لإله واحد، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد، فلا تحكمهم إلا شريعة
__________
(1) -زاد المعاد - (ج 3 / ص 143)(1/45)
اللّه، التي يتمثل فيها سلطان اللّه، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته..فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي، أو أوضاع الناس الاجتماعية..إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه.فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية! هذا تصور..وذاك تصور..ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد..ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافا بعيدا، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء.فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم..ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية «الإنسان» في الاختيار.
وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته.إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة، المفسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج «الناس» من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده..ليحقق إعلانه العام بربوبية اللّه للعالمين، وتحرير الناس أجمعين..وعبادة اللّه وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي.فهو وحده النظام الذي يشرع اللّه فيه للعباد كلهم.حاكمهم ومحكومهم.
أسودهم وأبيضهم.قاصيهم ودانيهم.فقيرهم وغنيهم تشريعا واحدا يخضع له الجميع على السواء..أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد.وهو من خصائص الألوهية.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصا وعملا، سواء ادعاها قولا أم لم يعلن هذا الادعاء!
وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية، سواء سماها باسمها أم لم يسمها! والإسلام ليس مجرد عقيدة.حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة(1/46)
البيان.إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس.والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو.
ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام.وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله للّه.فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد! إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة.لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة.والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة.ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة..ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة «الدين»..وأنه مجرد «عقيدة» في الضمير لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة..ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادا لفرض العقيدة على الضمير! ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام.فالإسلام منهج اللّه للحياة البشرية.وهو منهج يقوم على إفراد اللّه وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام.أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات..ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة.
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن اللّه يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام.مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان..فإذا كف اللّه أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ.مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة.وعلى هذا الأساس الواضح(1/47)
يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة، في المراحل التاريخية المتجددة.ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل (1) .
ــــــــــــ
د- مراعاة سنة التدرج.
- فمن التيسير المطلوب مراعاة سنة التدرج جرياً على سنة الله - تعالى - في عالم الخلق، وعالم الأمر، واتباعاً لمنهج التشريع الإسلامي في فرض الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما، وفي تحريم المحرمات كذلك.ولعل أوضح مثال على ذلك هوتحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي.
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية، ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي.وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده..فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها (كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها!)..وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام.وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه.فالذي قدحه (المعلى) يأخذ النصيب الأوفر، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه.وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها! وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية.
__________
(1) - معالم في الطريق بتحقيقي - (1 / 84) وفى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1432)
وانظر كتابي (( مراحل تشريع الجهاد في الإسلام )) وكتابي ((الخلاصة في أهداف القتال في الإسلام ))(1/48)
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغائرة جهد ضائع.حاشا للمنهج الرباني أن يفعله! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى.عقدة العقيدة.بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره وإقامة التصور الإسلامي الصحيح.إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة..بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق.وحين عرفوا إلههم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبه منهم هذا الإله الحق وما يكرهه.وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة..إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة وما لم تنعقد هذه العقدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي..إن مفتاح الفطرة البشرية هاهنا.وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية، وكلما كشف منها زقاق انبهمت أزقة وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك..إلى ما لا نهاية..
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها، من هذه الرذائل والانحرافات..
إنما بدأ من العقيدة..بدأ من شهادة أن لا إله إلا اللّه..وطالت فترة إنشاء لا إله إلا اللّه هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهم لسلطانه..حتى إذا خلصت نفوسهم للّه وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره اللّه..عندئذ بدأت التكاليف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية..بدأت في الوقت الذي يأمر اللّه فيطيع العباد بلا جدال.لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر اللّه به أو ينهى عنه أيا كان! أو بتعبير آخر: لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد «الإسلام»..بعد الاستسلام..بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء..بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر اللّه رأي أو اختيار..أو(1/49)
كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» تحت عنوان: «انحلت العقدة الكبرى» :
«..انحلت العقدة الكبرى..عقدة الشرك والكفر..فانحلت العقد كلها وجاهدهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى، فكان النصر حليفه في كل معركة.وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى.حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد..نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم فحال أمر اللّه بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة » (1) .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا..فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها.
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي :
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال اللّه سبحانه في سورة النحل المكية: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً..» فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر (و هو المخمر) في مقابل الرزق الحسن..فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر.
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما»..وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام
__________
(1) - ص 87 - 88 من الطبعة الرابعة.(1/50)
الإثم أكبر من النفع.إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع.
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ»..والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة.وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي.وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها!
ثم كانت هذه الرابعة الحاسمة والأخيرة، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان :
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا...(أخرجه أصحاب السنن) (1) .
ولما نزلت آيات التحريم هذه، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة: «ألا أيها القوم.إن الخمر قد حرمت»..فمن كان في يده كأس
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 189)(378) وسنن أبي داود - المكنز - (3672 ) صحيح
لعل آية النحل هي التي أثارت قلق عمر - رضي الله عنهم - ورغبته في بيان شفاء. وقد كان عمر - كما حكى عن نفسه - رجل خمر في الجاهلية. مما يدل على تغلغل هذه العادة في المجتمع الجاهلي ..(1/51)
حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه..وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر! والآن ننظر في صياغة النص القرآني والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ».
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»..لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى..
يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ»..فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف «الطيبات» التي أحلها اللّه.وهي من عمل الشيطان.والشيطان عدو الإنسان القديم ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه، وتشمئز منه نفسه، ويجفل منه كيانه، ويبعد عنه من خوف ويتقيه! وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق: «فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»..
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ...»..
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان، وغاية كيده، وثمرة رجسه..إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد «الذين آمنوا» عن ذكر اللّه وعن الصلاة..ويا لها إذن من مكيدة! وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون أن يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته.فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة(1/52)
والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس.فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم، وبما تهيج من نزوات ودفعات.والميسر الذي يصاحبها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات وأحقاد إذ المقمور لا بد أن يحقد على قامره الذي يستولي على ماله أمام عينيه، ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور..إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة! وأما الصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، فلا يحتاجان إلى نظر..فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين وعالم المقامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح! وهكذا عند ما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب «الذين آمنوا» وتحفزها، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي اللّه عنه وهو يسمع : «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»؟ فيجيب لتوه: «انتهينا.انتهينا»..
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير: « وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا.فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»..
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله: طاعة اللّه وطاعة الرسول..الإسلام..الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة للّه وللرسول..والحذر من المخالفة، والتهديد الملفوف: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»..وقد بلّغ وبيّن، فتحددت التبعة على المخالفين، بعد البلاغ المبين..
إنه التهديد القاصم، في هذا الأسلوب الملفوف، الذي ترتعد له فرائص المؤمنين!..إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم.لقد بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدى ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم، وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى اللّه سبحانه.وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين! إنه المنهج الرباني يطرق القلوب، فتفتح له مغاليقها، وتتكشف له فيها المسالك والدروب....(1/53)
إن غيبوبة السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا باللّه في كل لحظة، مراقبا للّه في كل خطرة.ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء.والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة.تكاليف لربه، وتكاليف لنفسه، وتكاليف لأهله، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها، وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها.وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف.وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع، فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة.إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره..وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه.
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار.والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق، وأن يواجهوها، ويعيشوا فيها، ويصرفوا حياتهم وفقها، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام..إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل، ووهن العزيمة، وتذاوب الإرادة.والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة..الإدمان..
وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات..وهي رجس من عمل الشيطان..مفسد لحياة الإنسان.
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات، وذكر فيها تحريم الخمر، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة، مختلفتان في الباعث والهدف.
قال بعض المتحرجين من الصحابة: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر..أو قالوا: فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم (أي قبل تحريمها).(1/54)
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة..هذا القول أو ما يشبهه يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم وهي رجس من عمل الشيطان، ماتوا والرجس في بطونهم! عندئذ نزلت هذه الآية: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»..نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرّم لا يحرم وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله وأنه لا يحرم بأثر رجعي فلا عقوبة إلا بنص سواء في الدنيا أو في الآخرة لأن النص هو الذي ينشئ الحكم..والذين ماتوا والخمر في بطونهم، وهي لم تحرم بعد، ليس عليهم جناح فإنهم لم يتناولوا محرما ولم يرتكبوا معصية..لقد كانوا يخافون اللّه ويعملون الصالحات ويراقبون اللّه ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم..ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية.
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس: هل هو ناشئ عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها، أم إنه ناشئ عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها.وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم..فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي!..واللّه حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه.سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر.وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته، أو من ناحية مصلحة الجماعة..
فاللّه سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله والطاعة لأمره واجبة، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية.والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني..ولا يقولن أحد: إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه!! فلا بد أن للّه - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم.ومرد الأمر كله إلى اللّه.وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر وما يراه علة قد لا يكون هو(1/55)
العلة.والأدب مع اللّه يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية..واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون.
إن العمل بشريعة اللّه يجب أن يقوم ابتداء على العبودية..على الطاعة للّه إظهارا للعبودية له سبحانه..
فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام..وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة اللّه - بقدر ما يستطيع - فيما أمر اللّه به أو نهى عنه - سواء بين اللّه حكمته أم لم يبينها، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة اللّه في أمر من الأمور ليس هو الإنسان! إنما الحكم هو اللّه.فإذا أمر اللّه أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي..فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع اللّه..فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية؟
ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا، إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»..ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على هذا النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح، ومرة مع الإيمان، ومرة مع الإحسان..كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الآن..وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو ما قاله ابن جرير الطبري: «الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر اللّه بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل.والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل»..وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو: «إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال.
فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى.ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة..ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى.ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني.فالتقوى..تلك الحساسية المرهفة برقابة اللّه، والاتصال به في كل(1/56)
لحظة.والإيمان باللّه والتصديق بأوامره ونواهيه، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة.والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها..هذه هي مناط الحكم، لا الظواهر والأشكال..وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان» (1) .
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم.وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته.ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر.
عند ما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى.
ولكن عند ما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيّئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة.
فعند ما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك: أمضى أمره منذ اللحظة الأولى.في ضربة حازمة جازمة.
لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق.لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.
فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف.والعادة تحتاج إلى علاج..فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع.وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى..ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ»..والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 973)(1/57)
في الموعد الذي اعتاد تناوله.فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها..حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (1) ..
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته يبقي على " نظام الرق " الذي كان نظاماً سائداً في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها كلما وجد إلى سبيلاً وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج.
وفي الظلال: " وأما في الرق مثلا، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها.والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية..ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى.ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي.ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا، يأخذ به المحاربون جميعا..فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله - مع الزمن - إلا الإلغاء، دون إحداث هزة اجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها.وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة.
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء..ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان.وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض.ولو
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 229)(1/58)
أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السيّء في عالم الرق هناك.وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام..ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ..لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ.فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» ..ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم.وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طيبعة موقفها.فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين.
وبتجفيف موارد الرق الأخرى - وكانت كثيرة جدا ومتنوعة - يقل العدد..وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية.فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده.ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته - أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا - ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة.والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته..وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة.كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار..وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه.
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي، شيئا فشيئا.وهذه حقيقة..ولكن مبادئ الإسلام ليست هي المسئولة عنه..ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس(1/59)
عن منهجه، قليلا أو كثيرا..ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا..لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك.فالإسلام لم يتغير.ولم تضف إلى مبادئه مبادئه مبادئ جديدة.إنما الذي تغير هم الناس.
وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم.ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه.
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ.إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة..
وهذه الحقيقة مهمة جدا.سواء من وجهة التحقيق النظري، أو النمو الحركي، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي.ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي.ومن شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي.ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة.وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي.ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطئ في فهم هذا التاريخ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين!" (1) .
ـــــــــــــ
الرد على من يزعم إلغاء الرِّق اليوم
قلت: وليس معنى ذلك إلغاؤه نهائيًّا، فالأحكام الشرعية الواردة في القرآن والسنَّة غير قابلة للنسخ، والرقُّ أمر مرتبط بالجهاد في سبيل الله تعالى، وهو باق إلى يوم القيامة، والمقصود به في الدرجة الأولى هو جهاد الطلب، وقد غاب عن الوجود بعد سقوط الدولة
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 229)(1/60)
العثمانية، وسيعود للحياة مرة أخرى بإذن الله تعالى، رغم أنف دعاة الهزيمة، ودعاة الضلال.
والآن يزعمون أنهم ألغوه، وهم يسترقُّون الأمم والشعوب بلا حقٍّ ولا ذنبٍ، ولا يسمَّى هذا رقًّا عند أصحاب القانون الدولي - الكفري-والذي لم يكن تعبيراً عن آمال الأمم والشعوب؛ وإنما كان إملاءً من القوي على الضعيف، ومن ثم فإن الذين صاغوه لا يلتزمون به، فما هو إلا حبر على ورق ليس إلا، ومع ذلك فإن الحمقى والمغفَّلين من قومنا يعوِّلون عليه كثيراً.بل يزعمون - زوراً وهتاناً - أنه غير مخالف للإسلام !!!
يعني الذي تربَّوا عليه وألفوه، مما صدَّره لهم أعداء الإسلام.
قلت :
والرق من آثار الحرب التي تقضي على الرجال المقاتلين وتبقي النساء والأطفال، فهؤلاء صاروا تحت ملك المسلمين، فلو تركوا لضاعوا لعدم وجود معيل لهم، ولعاثوا في الأرض فساداً ؛ لأنهم في الأصل أعداء، ولنشروا الفاحشة وسط المجتمع الإسلامي.
أو نوزعهم على المجاهدين، وعندئذ نأمن شرهم وخطرهم، ويقوم المسلمون بإعالتهم وتربيتهم تربية إسلامية، كما يربي المسلم أبناءه، وهؤلاء يتعرفون على الإسلام من الداخل، وفي الغالب سوف يسلمون، وذلك لأن سيدهم مأمور بعرض الإسلام عليهم، فمن أسلم على يديه واحد منهم أعتق الله رقبته من النار بسببه.
وكذلك لو تزوج الأمة وجاءه ولد منها فولدها يحررها وتصبح أم ولد لا يجوز له بيعها، فإن لم يحررها هو فتصبح بموته حرة، وابنها منذ البداية حرٌّ، ومن أفضل القربات عند الله أن تسلم الأمة على يديه ثم يعتقها ثم يتزوجها كحرة.
وقد حض الإسلام على عتق الرقاب بشتى الوسائل والسبل من كفارات ومكاتبة وغيرها، وذلك للتقليل من الرق.
ــــــــــــــ(1/61)
- وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس عندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة اليوم بعد عصر الغزو الثقافي والتشريعي والاجتماعي للحياة الإسلامية.فإذا أردنا أن نقيم " مجتمعاً إسلامياً حقيقياً " فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرّة قلم، أو بقرار من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان ! وإنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، وذلك بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة التي قامت عليها مؤسسات عدة لأزمنة طويلة.
- لا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ، واتخاذ كلمة التدرج تكأة لتمويت الدعوة إلى دين الله، لا بل التدرج الواعي المخطط له، وهوالمنهج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية.
- وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه خامس الخلفاء الراشدين - فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدي الخلفاء الأربعة، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، وكان له ابن يقال له: عبد الملك، فيه فتوّة، وحماس، وحيوية وتقى، فأنكر على أبيه البطء، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم، حتى تعود الحياة إلى سيرتها الأولى أيّام الراشدين، إذ قال له يوما: مالك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق.
فكان جواب الأب الفقيه: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة...إلخ (1) يريد الخليفة الراشد أن يعالج الأمور بحكمة وتدرج، مهتدياً بسنة الله - تعالى - في تحريم الخمر، فهو يجرعهم الحق جرعة جرعة، ويمضي بهم إلى المنهج المنشود خطوة خطوة، وهذا هو الفقه الصحيح.
هـ- تصحيح ثقافة المسلم.
__________
(1) -انظر: الموافقات للشاطبي 2/ 94 طبعة داار المعرفة بيروت .وآفات على الطريق كامل - (1 / 15) ونحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم(1/62)
- من المهم واللازم اليوم وخلال تثقيف المسلمين في دينهم: أن نعرف ما ينبغي أن يقدم لهم، وما ينبغي أن يؤخر، وما ينبغي أن يحذف من ثقافة المسلم، ولا بد من دراسة المهم والنافع من العلوم، لا التي تضيع وقته دون فائدة تذكر! (1)
و- الاهتمام بما اهتم به القرآن أولاً.
- فما اهتم به القرآن كل الاهتمام، وكرره في سوره وآياته، وأكده في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، يجب أن تكون له الأولوية والتقديم والعناية في تفكيرنا وفي سلوكنا، وفي تقويمنا وتقديرنا.وذلك مثل الإيمان بالله - تعالى - وبرسالاته إلى أنبيائه، وبالدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، وجنة ونار.ومثل أصول العبادات والشعائر، ومثل أصول الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، ومثل الكلام عن الجهاد في سبيل الله فهو يأتي بعد العبادات المحضة مباشرة، ومثل الكلام عن أعداء الإسلام ومعرفة طبيعتهم والحذر منهم، وكيفية التخلص منهم، ومثل بيان طبيعة الإيمان والكفر وصفات المؤمنين وصفات الكافرين وصفات المنافقين، حتى لا تلتبس هذه الأمور في نفس المؤمن.
وأما ما اهتم به القرآن اهتماماً قليلاً فنعطيه مثل ذلك القدر من الاهتمام ولا نبالغ فيه.فهذا معيار لا يخطئ، لأن القرآن الكريم هو عمدة الملة وأصل الدين وينبوع الإسلام، والسنة إنما تأتي شارحة ومبينة.والله - تعالى - يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء
فهو يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى
__________
(1) - انظر كتابي (( موسوعة الغزو الفكري والثقافي )) وكتابي (( المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية ))(1/63)
وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى اللّه، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء.ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار.ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض.الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
« إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»..«وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء.فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه.فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان.الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لاركيزة له.وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم..وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان.الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له: «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا»..ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها.ولقد يفعل الفعل وهو شر، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري.
أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه..فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟(1/64)
ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان.هدى القرآن وهو الإنسان! ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه اللّه لهم في الكتاب، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن اللّه في العباد، ومن قواعد العمل والجزاء والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم (1) .
ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (16) سورة المائدة
يا أهل الكتاب إنا أرسلنا محمدا رسول الله، وخاتم النبيين ليبين لكم كثيرا من الأحكام التي أنزلها الله في التوراة والإنجيل، وكنتم تخفونها ( كالرجم للزاني المحصن، وكصفات محمد، والبشارة به التي حرفتموها وحملتموها على معان أخرى، ومثل الأحكام التي أخفيتموها ونسيتموها كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من أخبار الحساب والجزاء في الآخرة، وقد أظهر الرسول لهم كل ذلك ) ومع هذا فقد كان الرسول الكريم يعفو عن كثير مما كانوا يحفونه، ولا يظهر الكثير مما كانوا يكتمونه.
ثم يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب: إنهم قد جاءهم نور من الله وكتاب مبين، فالنور هو النبي الذي لولا ما جاء به من الهدى والقرآن، لما عرفوا الدين الحق، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من تبديل وتحريف، والكتاب هو القرآن.
يهدي الله بالقرآن، من أراد اتباع رضوان ربه، إلى طريق الجنة والسلامة، ومناهج الاستقامة، ويخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والظلم إلى نور الإيمان والحق والعدل، بإذن ربه، ويهديهم إلى الطريق القويم (2) .
لقد كان أهل الكتاب يستكثرون أن يدعوهم إلى الإسلام نبي ليس منهم..نبي من الأميين الذين كانوا يتعالون عليهم من قبل ويتعالمون لأنهم هم أهل الكتاب وهؤلاء أميون! فلما
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2215)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 685)(1/65)
أراد اللّه الكرامة لهؤلاء الأميين بعث منهم خاتم النبيين، وجعل فيهم الرسالة الأخيرة، الشاملة للبشر أجمعين.وعلم هؤلاء الأميين، فإذا هم أعلم أهل الأرض وأرقاهم تصورا واعتقادا وأقومهم منهجا وطريقا، وأفضلهم شريعة ونظاما، وأصلحهم مجتمعا وأخلاقا..وكان هذا كله من فضل اللّه عليهم ومن إنعامه بهذا الدين وارتضائه لهم..
وما كان للأميين أن يكونوا أوصياء على هذه البشرية لولا هذه النعمة وما كان لهم - وليس لهم بعد - من زاد يقدمونه للبشرية إلا ما يزودهم به هذا الدين..
وفي هذا النداء الإلهي لأهل الكتاب، يسجل عليهم أنهم مدعوون إلى الإسلام.مدعوون للإيمان بهذا الرسول ونصره وتأييده، كما أخذ عليهم ميثاقه.ويسجل عليهم شهادته - سبحانه - بأن هذا النبي الأمي هو رسوله إليهم - كما أنه رسول إلى العرب، وإلى الناس كافة - فلا مجال لإنكار رسالته من عند اللّه أولا ولا مجال للادعاء بأن رسالته مقتصرة على العرب، أو ليست موجهة إلى أهل الكتاب ثانيا :«يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا، يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ»..فهو رسول اللّه إليكم.ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب اللّه الذي معكم..سواء في ذلك اليهود والنصارى..وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين..التوحيد..
وأخفى اليهود كثيرا من أحكام الشريعة كرجم الزاني، وتحريم الربا كافة.كما أخفوا جميعا خبر بعثة النبي الأمي «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ»..كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه مما لم يرد به شرعه.فقد نسخ اللّه من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني، مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة، التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم اللّه - من الزمان، قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة، وتستقر - وقد أكملها اللّه وأتم بها نعمته ورضيها للناس دينا - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل.(1/66)
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول، ووظيفته في الحياة البشرية، وما قدر اللّه من أثره في حياة الناس.«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ.يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ.وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»..
وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب..القرآن..وعلى طبيعة هذا المنهج..الإسلام..من أنه «نور»..إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص..يجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيمان في قلبه..«نور» نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف.ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم.
ثقلة الطين في كيانه، وظلمة التراب، وكثافة اللحم والدم، وعرامة الشهوة والنزوة..كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى..تخف الثقلة، وتشرق الظلمة، وترق الكثافة، وترف العرامة..
واللبس والغبش في الرؤية، والتأرجح والتردد في الخطوة، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه..كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى..يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق..
«نُورٌ.وَكِتابٌ مُبِينٌ»..وصفان للشيء الواحد..لهذا الذي جاء به الرسول الكريم..«يَهْدِي بِهِ اللَّهُ - مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ - سُبُلَ السَّلامِ.وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
لقد رضي اللّه الإسلام دينا..وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه اللّه له..يهديه..«سبل السلام»..وما أدق هذا التعبير وأصدقه إنه «السلام» هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها..سلام الفرد.
وسلام الجماعة.وسلام العالم..سلام الضمير، وسلام العقل، وسلام الجوارح..سلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية..السلام مع الحياة.والسلام مع الكون.والسلام مع اللّه رب الكون والحياة..السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوما(1/67)
- إلا في هذا الدين وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته.
حقا إن اللّه يهدي بهذا الدين الذي رضيه، من يتبع رضوان اللّه، «سبل السلام»..سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها..ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة..ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير.وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة.
وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام.إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا ويلتذون هذا المذاق المريح..وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات..من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون! ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا..بينما نملك الدخول في السلم التي منحها اللّه لنا حين نتبع رضوانه ونرضى لأنفسنا ما رضيه اللّه لنا! إننا نعاني من ويلات الجاهلية والإسلام منا قريب.ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء..فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟
إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان.ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام، حين نفيء إلى رضوان اللّه ونتبع ما ارتضاه.فنكون من هؤلاء الذين يقول اللّه عنهم إنه يهديهم سبل السلام.
«وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ»..والجاهلية كلها ظلمات..ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات.وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه.وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن(1/68)
المأنوس.وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين.والنور هو النور..هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفا في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور..
«وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»..مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها.مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه.مستقيم إلى اللّه لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات (1) ..
وقال - تعالى -: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل.
واذكر -أيها الرسول- حين نبعث يوم القيامة في كل أمة من الأمم شهيدًا عليهم، هو الرسول الذي بعثه الله إليهم من أنفسهم وبلسانهم، وجئنا بك -أيها الرسول- شهيدًا على أمتك، وقد نَزَّلْنا عليك القرآن توضيحًا لكل أمر يحتاج إلى بيان، كأحكام الحلال والحرام، والثواب والعقاب، وغير ذلك، وليكون هداية من الضلال، ورحمة لمن صدَّق وعمل به، وبشارة طيبة للمؤمنين بحسن مصيرهم.
4- الأولويات في مجال العمل :
أ- أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع.
- لقد بيّن القرآن الكريم كما وضحت السنة النبوية أن الأعمال عند الله - تعالى - متفاوتة المراتب، وأن هناك الأفضل والأحب إلى الله - تعالى - من غيره.ولكن هذا التفاوت ليس اعتباطياً، وإنما هو مبني على معايير وأسس ينبغي أن تراعى، ومنها أن يكون العمل أدوم، أي: أن يداوم عليه فاعله ويواظب عليه، بخلاف العمل الذي يقع منه بعض المرات في بعض الأوقات.قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَدْوَمَهَا، وَإِنْ قَلَّ،
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 861)(1/69)
كَانَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا يَقُولُ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ اللَّهُ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج]."متفق عليه (1) .
ب- أولوية العمل الأطول نفعاً وأبقى أثراً.
- إن امتداد العمل وبقاؤه زماناً مطلوب ومفضل عند الله - عز وجل -، وكلما كان النفع به أطول، كان أفضل وأحب إلى الله.ومن أجل ذلك فُضٍّلت الصدقة بما يطول النفع به، عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنِيحَةُ خَادِمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » (2) .
وعَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ: مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا يَعْمَلُ عَبْدٌ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أُدْخَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْجَنَّةَ " قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ " رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ " وَنَحْوِهِ فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3)
منيحة: المنيحة: هي الناقة أو الشاة يعطيها الرجل رجلاً آخر يحلبها، وينتفع بلبنها، ثم يعيدها إليه.
تشميت العاطس: بالشين والسين، والشين أعلى، وهو أن تقول له: يرحمك الله، ونحو ذلك، وهو في الأصل: الدعاء، وكل داعٍ بخير: مشمِّت.
- ومن هنا كان فضل الصدقة الجارية التي يستمر نفعها وأثرها بعد وفاة المتصدق بها، مثل الأوقاف الخيرية التي عرفها المسلمون منذ عصر النبوة، وتميزت الحضارة الإسلامية بسعتها وكثرتها وتنوعها، حتى استوعبت كل جوانب البر ونواحي الخير، مما شمل كل ذوي الحاجات من بني الإنسان بل امتد خيرها إلى الحيوان !
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6465) وصحيح مسلم- المكنز - (1866) وصحيح ابن حبان - (4 / 446)(1578)
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (1727 ) حسن -الطروقة: الأنثى التى بلغت أن يطأها الفحل -الفسطاط: الخيمة
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2631) وشعب الإيمان - (5 / 72) (3112 )(1/70)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ.رواه مسلم (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا نَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ (2) .
صدقة جارية: الصدقة الجارية: هي الدارة المتصلة، كالوقف وما يجري مجراه.
ج- أولوية العمل المتعدي النفع على العمل القاصر النفع.
- فالعمل الأكثر نفعاً مفضلٌ على غيره، وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله - تعالى -.
فعَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَئِنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ ".الطبراني (3) .
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ , وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ , وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ , وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4310) وصحيح ابن حبان - (7 / 286)(3016)
(2) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (1 / 163)(242) حسن
(3) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 106)(861) والصحيحة (906) وصحيح الجامع (176) حسن لغيره(1/71)
عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ , وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ , وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا , وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ , فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" (1) ..
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَىْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِى الْبَحْرِ (2) ..
- ومن هنا كان كل عمل يتعلق بإصلاح المجتمع ونفعه أفضل من العمل المقصور النفع على صاحبه، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ قَالَ: وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ.رواه أحمد (3) .
الحالقة: الخصلة التي من شَأْنها أَنْ تحلق، أَراد: أَنها خصلة سوء تذهب الدين كما تذهب الموسى الشَّعر.
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ " قَالَ: " يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ لَهُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ " (4) .
- ومن هنا كان فضل الدعوة والعمل الواعي في سبيل الله أعظم أجراً من الانقطاع إلى العبادة مرات ومرات.وكذلك قرر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام (5) ، ولأن تفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة !
وعلى قدر من ينتفع بعلمه ودعوته يكون أجره ومثوبته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 225)(1231) صحيح
(2) - مسسنن الدارمى- المكنز - (352) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 887)(27508) 28058- صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز -(2989) وشعب الإيمان -(5 / 31)(3053 ) وصحيح ابن حبان - (8 / 174)(3381)
(5) - انظر الآداب الشرعية - (2 / 35)(1/72)
شَيْءٌ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا.رواه مسلم (1) .
وكذلك جاء فضل عمل الإمام العادل على عبادة غيره عشرات السنين، لأنه في يوم واحد قد يصدر من القرارات ما ينصف آلاف المظلومين أو ملايينهم، ويرد الحق الضائع إلى أهله، ويعيد البسمة إلى شفاه حُرِمت منها، وقد يصدر من العقوبات ما يقطع سبيل المجرمين، ويستأصل شأفتهم، أو يفتح لهم باب الهداية والتوبة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، قِيَامُ لَيْلِهَا، وَصِيَامُ نَهَارِهَا، وَجَوْرُ سَاعَةٍ فِي حُكْمٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ مَعْصِيَةِ سِتِّينَ سَنَةً » (2) .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ أَزْكَى فِيهَا مِنْ قَطْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً » (3) .
وقد يهيء للناس من الأسباب، ويفتح لهم من الأبواب: ما يرد الشاردين إلى الله، ويهدي الضالين إلى طريقه، ويعين المنحرفين على الاستقامة.وقد يقيم من المشروعات البناءة والنافعة ما يساعد على إيجاد عمل لكل عاطل، وخبز لك جائع، ودواء لكل مريض، وبيت لكل مشرد، وكفاية لكل محتاج.وهذا ما جعل العلماء الأوائل يقولون: لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان ( أي :الرئيس أوالحاكم )، فإن الله يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً.
د- أولوية العمل في أزمنة الفتن والشدائد.
- أي في الأزمنة الصعبة على الأمة، فالعمل الصالح هنا دليل القوة في الدين والصلابة في اليقين والثبات على الحق كما أن الحاجة إلى صالح الأعمال في هذا الزمن أشد من الحاجة إليه في سائر الأزمان.بل إن العاملين في هذه الأزمنة لهم الأجر الأكبر، قَالَ أَبُو أُمَيَّةَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6980 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 318)(112)
(2) - فضيلة العادلين من الولاة - (1 / 8)[ 12 ] حسن
(3) - فضيلة العادلين من الولاة - (1 / 8)[ 13 ] وشعب الإيمان - (9 / 483)(6995 ) والمعجم الكبير للطبراني - (10 / 31)(11764 ) حسن(1/73)
الشَّعْبَانِيُّ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ] ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ وَزَادَنِي غَيْرُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: خَمْسِينَ مِنْكُمْ. (1) .
الشح: البخل الشديد، وطاعته: أن يتبع الإنسان هوى نفسه لبخله، وينقاد له.-دنيا مؤثرة: أي محبوبة مشتهاة.
وعَنْ أبِي مُوسَى، قال: قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أرْمَلُوا فِي الْغَزْو، أَوْ قل طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ ،جَمعُوا مَاكَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بالسَّويَّةِ، فَهُمْ منِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ (2) .
قال ابن التين: قال جماعة هو النفقة بالسوية في السفر وغيره، والذي يظهر أن أصله في السفر، وقد تتفق رفقة فيضعونه في الحضر..، وأنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة، وأما في الأكل فلا تسوية لاختلاف حال الآكلين، وأحاديث الباب تشهد لكل ذلك.وقال ابن الأثير: هو ما تخرجه الرفقة عند المناهدة إلى الغزو، وهو أن يقتسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يكون لأحدهم على الآخر فضل، فزاده قيدا آخر وهو سفر الغزو، والمعروف أنه خلط الزاد في السفر مطلقا.
وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وفي الحديث فضيلة عظيمة للأشعريين قبيلة أبي موسى، وتحديث الرجل بمناقبه، وجواز هبة المجهول،
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 109)(385) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2486) وصحيح مسلم- المكنز - (6564 )(1/74)
وفضيلة الإيثار والمواساة، واستحباب خلط الزاد في السفر وفي الإقامة أيضا. والله أعلم (1) .
هـ- أولوية عمل القلب على عمل الجوارح.
- إن أعمال القلوب الباطنة مفضلة على أعمال الجوارح الظاهرة، لأن الأعمال الظاهرة نفسها لا تقبل عند الله -تعالى - ما لم يصحبها عمل باطن هو أساس القبول، وهو النية فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ".متفق عليه (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلا أَحْسَابِكُمْ وَلا أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ (4) .
وعَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلا إِلَى أَحْسَابِكُمْ وَلا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ صَالِحٌ تَحَنَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ بنو آدَمَ وأَحَبُّكُمْ إِلَيَّ أَتْقَاكُمْ " (5) .
ولأن القلب هوحقيقة الإنسان، ومدار صلاحه أوفساده عليه، فعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " وَأَوْمَأَ النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، قَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي،
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر - (5 / 129)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6689) وصحيح مسلم- المكنز - (5036 ) وشعب الإيمان - (9 / 160) (6419 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6707 ) والفوائد لتمام 414 - (1 / 40)(73)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6708 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 120)(394)
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 478)(3378) فيه ضعف(1/75)
يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ " وفي رواية عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ ".فَذَكَرَهُ وَقَالَ: الشُّبُهَاتُ وَزَادَ " أَلَا، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ "متفق عليه (1) .
- وتقوى الله - تعالى - هي وصية الله للأولين والآخرين، وهي أساس الفضائل والخيرات والمكاسب في الدنياوالآخرة وهي في حقيقتها ولبها أمر قلبي، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، حَسْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ (2) .
أي كرر ثلاث مرات مع الإشارة الحسية بيده إلى صدره ليثبتها في العقول والأنفس.
- وللأسف فإن بعض المتدينين عامة والدعاة خاصة يركزون على بعض الأعمال والآداب التي تتعلق بالظاهر أكثر من الباطن، وبالشكل أكثر من الجوهر، مثل تقصير ثوب الرجل ! وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحى، وصورة حجاب المرأة، وعدد درجات المنبر، وطريقة وضع اليدين أو القدمين أثناء القيام في الصلاة، إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بالصورة والشكل أكثر مما تتعلق بالحوهر والروح، فهذه - مهما كان وضعها - لا تأخذ الأولوية في الدين.
وليس معنى كلامنا إهمالها، بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الأهم فالمهم.
- وإننا نلاحظ - للأسف الشديد - أن كثيراً ممن يدققون في تلك الأمور الظاهرة وأمثالها - وليس كلهم - يغفلون هذا التدقيق ولا يكترثون به في أمور أشد خطراً وأعمق أثراً،
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (52) وصحيح مسلم- المكنز - (4178) وشعب الإيمان - (7 / 492) (5355 و5356)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 131)(7727) 7713- صحيح مسلم- المكنز - (6706 )(1/76)
مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء الأمانات، ورعاية الحقوق، وإتقان العمل، وإعطاء كل ذي حق حقه، والرحمة بخلق الله، ولاسيما الضعفاء منهم، والتورع عن المحرمات اليقينية، إلى غير ذلك مما وصف الله - تعالى - به المؤمنين في كتابه، مثل أوائل سورة الأنفال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال: 2 - 4]، وأوائل سورة المؤمنين { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }[المؤمنون: 1 - 11]، وأواخر سورة الفرقان { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } [الفرقان: 63 - 77]،(1/77)
وغيرها.وللأسف الشديد أيضاً نجد بعض المتشددين على أنفسهم وعلى الناس في أمور مثل اللحم الحلال المذبوح بطريقة شرعية قطعية، وتحريهم أشد التحري في ذلك، وتفتيشهم عن احتمال أن يكون في الطعام أثر من لحم الخنزير أو دهنه، ولو كان واحداً في المائة أو في الألف، وهو لا يبالي أن يأكل لحم إخوانه ميتاً في اليوم عدة مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، حتى إنه ليتصيد لهم الشبهات، أو يختلق لهم التهم، أو يصدِّقها ويشيعها إن لم يكن هو مختلقها!
و- اختلاف الأفضل باختلاف الزمان والمكان والحال.
- إن الأولوية والأفضلية في كثير من الأمور لا تكون أولوية مطلقة في الزمان والمكان والأشخاص والأحوال وإن تفاوتت؛بل الغالب أنها تتفاوت بتفاوت المؤثرات الزمانية والبيئية والشخصية، ولهذا أمثلة كثيرة :
• أفضل الأعمال الدنيوية :
فقد اختلف علماؤنا: أي هذه الأعمال أفضل وأكثر مثوبة عند الله: الزراعة أم الصناعة أم التجارة ؟ والذي دعاهم إلى هذا الاختلاف ما ورد في فضل كل منها :
ففي فضل الزراعة
عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنهم - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ » (1) .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةً وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ » (2) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2320 ) وصحيح مسلم- المكنز -(4055)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4050 ) -يرزأ: يأخذ منه وينقصه(1/78)
وعَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا فِي نَخْلٍ لِي، فَقَالَ: " لِمَنْ هَذَا النَّخْلُ ؟ " قُلْتُ: لِي، قَالَ: " مَنْ غَرَسَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ ؟ " قُلْتُ: مُسْلِمٌ، قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، أَوْ طَيْرٌ، أَوْ سَبْعٍ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً " (1) .
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ (2) .
وَعَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أَمْسَى كَالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3) .
وفي فضل الصناعة:
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ صَاحِبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ (4) .
وفي فضل التجارة :
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (5) .
وعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ مَعَ السَّبْعَةِ فِي ظِلِّ عَرْشِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالسَّبْعَةُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَمَيْسَمٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَرَجُلٌ ذُكِرَ اللهُ عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ مِنْ حُبِّهِ إِيَّاهَا، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَكَادَتْ يَمِينُهُ تُخْفِي مِنْ شِمَالِهِ، وَرَجُلٌ لَقِيَ أَخَاهُ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ
__________
(1) - شعب الإيمان - (5 / 149)(3222 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4056 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 493)(12981) 13012- صحيح
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (7733 ) حسن لغيره
فيه سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس روى عنه جماعة وقال الذهبي في الكاشف (2139) وثق
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2072 ) وشعب الإيمان - (2 / 434)(1170 )
(5) - شعب الإيمان - (2 / 437)(1175) حسن(1/79)
فِي اللهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ فِي اللهِ حَتَّى تَصَادَرَا عَلَى ذَلِكَ، وَرَجُلٌ نَشَأَ فِي الْخَيْرِ مِنْ هُوَ غُلَامٌ " (1) .
وعَنْ أَبِي حَرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ يَقُولُ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: التَّاجِرُ الأَمِينُ الصَّادِقُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: صَدَقَ الْحَسَنُ، أَوْ لَيْسَ فِي جِهَادٍ؟ (3) .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ (4) .
قال العلماء: لا نفضل واحدة منهم بإطلاق، بل التفضيل يكون بحسب حاجة المجتمع إليها: فحيث تقل الأقوات ويكون المجتمع في حاجة إلى غذائه اليومي الذي لا عيش له إلا به، تكون الزراعة أفضل من غيرها لحماية الأمة من الجوع وتوفير الأمن الغذائي، وخصوصاً إذا كان في الزراعة بعض المشقة والصعوبة، فالصبر عليها يكون من أفضل الأعمال.
وأما حيث تكثر الأقوات وتتسع دائرة الزراعة، ويحتاج الناس إلى الصناعات المختلفة للاستغناء عن الاستيراد من ناحية، ولتشغيل الأيدي العاملة من ناحية أخرى، ولحماية حرمات الأمة وحدودها - بالنسبة للصناعات الحربية - من ناحية ثالثة، ولتفادي نقص الكفاية الإنتاجية للأمة من ناحية رابعة، فهنا تكون الصناعة أفضل.وأما حين تتوفر الزراعة والصناعة، ويحتاج الناس إلى من ينقل ما تنتجه هذه وتلك من بلد إلى آخر، فهو وسيط جيد بين المنتج والمستهلك، وكذلك عندما يسيطر على السوق تجار جشعون محتكرون ومستغلون لحاجات جماهير الخلق ومتلاعبون بأسعار السلع، فهنا تكون التجارة أفضل،
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 333)(8613 ) فيه انقطاع
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (7 / 271)(23546) صحيح مرسل
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (7 / 271)(235476) صحيح مرسل
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 144)(37196-و37197) صحيح لغيره(1/80)
وخصوصاً إذا كان من الرجال الذين { لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور.
وأحوج ما تحتاج إليه أمتنا في عصرنا هو التكنولوجيا المتطورة، وكذلك تطور مناهجها ونظمها التعليمية، بما يعيد إليها مكانتها العالمية، يوم كانت لها حضارة متميزة، عميقة الجذور، باسقة الفروع، وأن تستشرف المستقبل وتنظر إليه من خلال ما يطلبه منها الإسلام، وما ينشده أهله، وما يتطلع إليه العالم من المعرفة به عقيدة ونظاماً وحضارة.
وإن تحصيل هذه التكنولوجيا المتقدمة والتفوق فيها، وفي العلوم الموصلة إليها أصبح فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، وهي في مقدمة الأولويات للأمة اليوم.
• أفضل العبادات :
وقد اختلف العلماء بالنسبة لأفضل العبادات بالنسبة للفرد اختلافاً بعيداً، وتعددت أقوالهم وتباينت، والقول المرجّح ما ذكره الإمام ابن القيم، وهوأن ذلك يختلف من شخص إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن حال إلى آخر.فالأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والدعاء والذكر والاستغفار.والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ قَالَ: حَجَّاجٌ: خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ (1) ....وهكذا.
5- الأولويات في مجال المأمورات :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 322)(5022) صحيح(1/81)
أ- أولوية الأصول على الفروع.
- وذلك بتقديم ما يتصل بالإيمان بالله - تعالى - وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأركان الإيمان كما بينها القرآن الكريم، قال الله - تعالى -: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة.
ليس الخير عند الله- تعالى- في التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، وإنما الخير كل الخير هو إيمان من آمن بالله وصدَّق به معبودًا وحدَه لا شريك له، وآمن بيوم البعث والجزاء، وبالملائكة جميعًا، وبالكتب المنزلة كافة، وبجميع النبيين من غير تفريق، وأعطى المال تطوُّعًا -مع شدة حبه- ذوي القربى، واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم وهم دون سن البلوغ، والمساكين الذين أرهقهم الفقر، والمسافرين المحتاجين الذين بَعُدوا عن أهلهم ومالهم، والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدة حاجتهم، وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى، وأقام الصلاة، وأدى الزكاة المفروضة، والذين يوفون بالعهود، ومن صبر في حال فقره ومرضه، وفي شدة القتال.أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، وأولئك هم الذين اتقَوا عقاب الله فتجنبوا معاصيه.
وقال - تعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة.
صدَّق وأيقن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أوحي إليه من ربه وحُقَّ له أن يُوقن، والمؤمنون كذلك صدقوا وعملوا بالقرآن العظيم، كل منهم صدَّق بالله رباً وإلهًا متصفًا بصفات الجلال والكمال، وأن لله ملائكة كرامًا، وأنه أنزل كتبًا، وأرسل إلى خلقه رسلا لا نؤمن(1/82)
-نحن المؤمنين- ببعضهم وننكر بعضهم، بل نؤمن بهم جميعًا.وقال الرسول والمؤمنون: سمعنا يا ربنا ما أوحيت به، وأطعنا في كل ذلك، نرجو أن تغفر -بفضلك- ذنوبنا، فأنت الذي ربَّيتنا بما أنعمت به علينا، وإليك -وحدك- مرجعنا ومصيرنا.
وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (136) سورة النساء.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن طاعتهما، وبالقرآن الذي نزله عليه، وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل.ومن يكفر بالله تعالى، وملائكته المكرمين، وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه، ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته، واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب، فقد خرج من الدين، وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق.
ب- أولوية الفرائض على السنن والنوافل.
- إن فقه الأولويات يقتضي أن نقدم الأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، وأن نتساهل في السنن والمستحبات ما لا نتساهل في الفرائض والواجبات، وأن نؤكد أمر الفرائض الأساسية أكثر من غيرها، وبخاصة الصلاة والزكاة الفريضتان الأساسيتان اللتان قرن الله بينهما في القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعاً، وجاءت عدة أحاديث صحيحة في ذلك، فعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُسًا، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لاِبْنِ عُمَرَ: أَلاَ تَغْزُو ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ.متفق عليه (1) .
- ومن الخطأ إذن اشتغال الناس بالسنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض، فنرى بعض المنتسبين إلى الدِّين مَن يقوم كل الليل، ثم يذهب إلى عمله الذي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (8 ) وصحيح مسلم- المكنز - (122) وصحيح ابن حبان - (1 / 373)(158)(1/83)
يتقاضى عليه أجراً وهو متعب كليل القوة، فلا يقوم بواجبه كما ينبغي , ولو علم أن إحسان العمل فريضة: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. (1) .
وأن التفريط فيه خيانة للأمانة وأكل للمال - آخر الشهر - بالباطل، لوفّر على نفسه ذلك القيام لأنه ليس أكثر من نفل، لم يلزمه الله به ولا رسوله.
ومثله من يصوم الاثنين والخميس، فيتعبه الصيام، وخصوصاً في أيام الصيف، فيمضي إلى عمله مكدوداً مهدوداً، وكثيراً ما يؤخر مصالح الناس بتأثير الصوم عليه.والصوم هنا نفل غير واجب ولا لازم وإنجاز المصالح واجب ولازم !
فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِى بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ » (3) .
وذلك لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة.وكذلك نرى بعض المسلمين الذين يحجون تطوعاً بعد الفريضة مرات عديدة، مع أن كثيراً من الفقراء يحتاجون إلى المال، وكثيراً من المناطق تحتاج إلى المراكز الدعوية لتعليم الناس أمور الدين، وكثيراً من الناس يموتون لأنهم لا يجدون الدواء المناسب !!
وهؤلاء لو فقهوا دينهم وعرفوا شيئاً من فقه الأولويات، لقدموا مساعدة مشاريع دعوية وإنسانية كثيرة على استمتاعهم الروحي بالحج التطوعي !!
ج- أولوية فرض العين على فرض الكفاية.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5167 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 200)(5884)
(2) - شعب الإيمان - (7 / 233)(4930 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5195 )(1/84)
- كما أن الفرائض مقدمة في الرتبة على النوافل بلا نزاع، فالفرائض في نفسها متفاوتة، ففرض العين مقدم على فرض الكفاية.وقد دلت الأحاديث النبوية على ذلك، وأظهر مثال ما جاء في شأن بر الوالدين والجهاد في سبيل الله حينما يكون الجهاد فرض كفاية، وهو جهاد الطلب لا جهاد الدفع.فقد روى الشيخان عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ، فقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ (1) .( أي الخدمة والرعاية والطاعة..).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَىَّ يَبْكِيَانِ.قَالَ :« فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا » (2) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلاَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ قَالَ: فَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَالِدَيْكَ ؟ فَقَالَ: أُمِّي قَالَ: فَابْلُ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرِّهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَبَرَّهَا " الطبراني (3) .
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِىِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ.فَقَالَ « هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ».قَالَ نَعَمْ.قَالَ « فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا ».رواه النسائي (4) .
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بن جَاهِمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْتَشِيرُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَكَ وَالِدَانِ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " الْزَمْهُمَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَرْجُلِهِمَا " (5) .
• فروض الكفاية تتفاوت :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3004 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6668 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 21)(318)
(2) - مسند الحميدي - المكنز - (612) صحيح
(3) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 144)(218) حسن
(4) - سنن النسائي- المكنز - (3117 ) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 418)(2157) صحيح(1/85)
- وفروض الكفاية نفسها تتفاوت، فهناك فروض كفاية قام بها بعض الناس، وربما أصبح فيها فائض، وفروض كفاية أخرى لم يقم بها عدد كافٍ، أولم يقم بها أحد قط.ففي زمن الإمام الغزالي عاب على أهل عصره أنهم تكدسوا في طلب الفقه، وطلبه فرض كفاية، على حين تخلَّفوا عن ثغرة في واجب كفائي آخر، مثل علم الطب، حتى إن البلدة يوجد بها خمسون متفقهاً، ولا يوجد بها إلا طبيب من أهل الذمة، مع ضرورة الطب الدنيوية ومع أن للطب مدخلاً في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية.ففرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به بعض، ولولم يسد كل الحاجة، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كافٍ يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كافٍ، وربما زائد عن الحاجة.وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمرومن الناس؛ لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، ووجد الموجب لقيامه، ولم يوجد المانع منه.
كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس، وهو وحده التي تعلَّم الفقه، أو هو وحده القادر على تحصيله.ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس، وكل ذي علم أو صنعة يحتاج إليها الناس، وهو يملكها دون غيره !
د- أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد.
- فروض الأعيان تتفاوت فيما بينها أيضاً، ولقد رأينا الشريعة تؤكد في كثير من أحكامها تعظيمَ ما يتعلق بحقوق العباد.
ففرض العين، المتعلق بحق الله - تعالى - وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد.فقد قال العلماء: إن حقوق الله - تعالى - مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة.ولهذا إذا كان الحج مثلاً واجباً، وأداء الدَّين واجباً، فإن أداء الدَّين مقدَّم، فلا يجوز للمسلم أن يقدم على الحج حتى يؤدي دينه، إلا إذا استأذن من صاحب الدين، أو كان الدين مؤجلاً، وهو واثق من قدرته على الوفاء به !
- ولأهمية حقوق العباد هنا - وبخاصة الحقوق المالية - صحَّ الحديث أن الشهادة في سبيل الله - وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه - لا تُسقط عنه الدَّين !(1/86)
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ ».رواه مسلم (1) .
- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَتَغَيَّرَتْ وجُوهُ الْقَوْمِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللهِ فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لاَ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ (2) .
فمن أجل درهمين أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن الطمع في المال العام، قلّ أوكثر !!
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قَالَ أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ " قَالُوا: الْمُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (3) .
- هذه الأحاديث تدل على تعظيم حقوق الخلق، ولاسيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصاً أم عاماً، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافهاً، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجرُّ إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
هـ- أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد
- إن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد.فإن الفرد لا بقاء له إلا بالجماعة، ولا يستطيع أن يعيش وحده، فهومدني بطبعه، كما قال القدماء، أو هوحيوان اجتماعي كما قال المحدثون، فالمرء قليل بنفسه، كثير بجماعته.بل هو
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4991 )
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 191) (4853) حسن
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6744 ) وشعب الإيمان - (1 / 522)(338 )(1/87)
عدم بنفسه، موجود بجماعته.ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة آكد من الواجب المتعلق بحق الفرد.ومن الأمثلة على ذلك: فك الأسرى وتخليصهم من ذل الأسر، مهما كلف ذلك من الأموال.لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة الأمة الإسلامية، وكرامة الأمة فوق الحرمة الخاصة لأموال الأفراد، فعَنْ أَبِى مُوسَى - رضي الله عنهم - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فُكُّوا الْعَانِىَ - يَعْنِى الأَسِيرَ - وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ » (1) .
وكذلك إذا اقتضت ظروف الدولة فرض ضرائب عادلة على القادرين وأهل اليسار لحفظ هيبة الدولة ونظامها، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان الكثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة (2) !
فعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ , وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة (3) .
و- أولوية الولاء للأمة والجماعة على الولاء للقبيلة والفرد.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3046 )
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (35 / 13)
(3) - شرح معاني الآثار - (2 / 27)(3043 ) حسن لغيره
وصحح بعض الأئمة وقفه على بعض الصحابة والتابعين وورد عكسه وهو ليس فى المال حق سوى الزكاة وفى سنده ضعف وفى معناه: إذا أديت زكاة مالك فقد ذهب عنك شره --- هق 4/84 صحيح
والجمع بينهما سهل ميسور بإذن الله ،فالحديث الثانى محمول على الحالة العادية للمسلمين حيث أن زكاة المال ونحوها من موارد الدولة الإسلامية تكفى حاجة الفقراء والمساكين .
والحديث الأول يحمل على الأحوال الطارئة: حروب كوارث طبيعية --- حيث زكاة المال لا تكفى لسد مثل هذه الضروريات فيجوز لولى الأمر العادل أخذ ما يحتاج إليه الفقراء أو الجهاد -- من فضول أموال الأغنياء -- وهذا ما قاله كثير من علماء السلف والخلف وهو الحق ، انظر الفيض 2/472 و 473 ، ومشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام للقرضاوى حفظه الله(1/88)
- كانت القبيلة في المجتمع الجاهلي هي أساس الانتماء ومحور الولاء، وكان ولاء الرجل لقبيلته في الحق وفي الباطل.وكان شعار كل منهم: " انصر أخاك ظالماً أومظلوماً " على ظاهر معناها !!
فلما أن جاء الإسلام جعل ولاء المسلمين لأمتهم وربّاهم - من خلال القرآن الكريم والسنَّة - على القيام لله شهداء بالقسط، لا يمنعهم من ذلك عاطفة الحب لقريب، ولا عاطفة البغض لعدو! فالعدل يجب أن يكون فوق العواطف، وأن يكون لله، فلا يحابي مَن يحب، ولا يحيف على من يكره.قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (135) سورة النساء.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، كونوا قائمين بالعدل، مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى، ولو كانت على أنفسكم، أو على آبائكم وأمهاتكم، أو على أقاربكم، مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا; فإن الله تعالى أولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلا يحملنَّكم الهوى والتعصب على ترك العدل، وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها، أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها، فإن الله تعالى كان عليمًا بدقائق أعمالكم، وسيجازيكم بها.
وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة.
يا أيها الذين آمَنوا بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كونوا قوَّامين بالحق، ابتغاء وجه الله، شُهداء بالعدل، ولا يحملنكم بُغْضُ قوم على ألا تعدلوا، اعدِلوا بين الأعداء والأحباب على درجة سواء، فذلك العدل أقرب لخشية الله، واحذروا أن تجوروا.إن الله خبير بما تعملون، وسيجازيكم به.(1/89)
واستخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - - بعض عبارات الجاهلية، وأعطاها مفهوماً جديداً، لم يكن لهم به عهد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ: تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ. (1) .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: " وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الظَّالِمَ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا، أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [النساء: 110]، فَكَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَرَ الْمَظْلُومُ - إِذَا كَانَ غَيْرَ نَفْسِ الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْهُ - كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَرَ إِذَا كَانَ نَفْسَ الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ بِنُصْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، إِذَا رَآهُ يَظْلِمُ وَقَدَرَ عَلَى نَصْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا جَمَعَهُمَا صَارَا كَالْبَدَنِ الْوَاحِدِ، كَمَا أَنَّ أُخُوَّةَ النَّسَبِ لَوْ جَمَعْتُهُمَا كَانَا كَالْبَدَنِ الْوَاحِدِ، وَالدِّينُ أَقْوَى مِنَ الْقَرَابَةِ، وَأَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] (2) .
- كما حذّر - صلى الله عليه وسلم - من الدعوة للعصبية، أو القتال تحت رايتها، فمن قُتِل تحتها فقتلته جاهلية، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ».رواه أبوداود (3) .
وعن خُصَيْلَةَ بنتِ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا، يَقُولُ: قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْعَصَبِيَّةُ؟ قَالَ: أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ "رواه أبوداود (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6952) وصحيح ابن حبان - (11 / 571) (5167)
(2) - شعب الإيمان - (10 / 84)
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5123) حسن لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 472)(17696 ) وسنن أبي داود - المكنز - (5121 ) ومن طريق آخر المعجم الكبير للطبراني - (15 / 456) (17658 ) والإصابة(10387) حسن
في سنده فسيلة بنت واثلة بن الأسقع وقيل جميلة روى عنها جماعة ووثقها ابن حبان التهذيب(11900) وتهذيب الكمال (7806) والراوي عنها سلمة بن بشر الدمشقي روى عنه جماعة وذكره ابن حبان في ثقاته التهذيب(2906) وسكت عليه أبو حاتم4/157
قلت: وله متابع تام عند الطبراني(1/90)
وكما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - " العصبية " وبرىء منها، وممن دعا إليها، أو قاتل عليها، أو مات عليها، فإنه دعا إلى " الجماعة " [ المجتمع وحفظه ] وأكد أمرها، بقوله وفعله وتقريره، وحذَر من الفرقة والخلاف والانفراد والشذوذ، فعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الأَشْجَعِىِّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ « إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِى هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَوْ يُرِيدُ تَفْرِيقَ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ » (1) .
وعَنِ السَّائِبِ بْنِ مِهْجَانٍ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ إِيلِيَاءَ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الشَّامَ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا خَطِيبًا كَقِيَامِي فِيكُمْ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَقَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا، وَمَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، وَسَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ فَهُوَ أَمَارَةُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَمَارَةُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا تَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ وَلَا تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ إِنْ عَمِلَ خَيْرًا لَمْ يَرْجُ مِنَ اللهِ فِي ذَلِكَ ثَوَابًا، وَإِنْ عَمِلَ شَرًّا لَمْ يَخَفْ مِنَ اللهِ فِي ذَلِكَ الشَّرِّ عُقُوبَةً، وَأَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِكُمْ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لَهُ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ عَامِلًا، اسْتَعِينُوا بِاللهِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَإِنَّهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ " - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ.السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " هَذِهِ خُطْبَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، أَثَرَهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " (2) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِيَ فَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا غَيْرَهُ , فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ , وَرَبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ , ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ الْمُؤْمِنُ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ , وَمُنَاصَحَةُ الْمُسْلِمِينَ , وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ , فَإِنَّ
__________
(1) - سنن النسائي- المكنز - (4037 ) صحيح -يركض: يتحرك ويضطرب
(2) - شعب الإيمان - (13 / 426)(10574 ) صحيح(1/91)
دَعْوَتَهُمْ تَأْتِي مِنْ وَرَاءِهِمْ , وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ , فَمَنْ شَذَّ عَنْ يَدِ اللَّهِ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شُذُوذُهُ " (1) .
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ: مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ.التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ.رواه أحمد (2) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْجَمَاعَةٌ بَرَكَةٌ، وَالثَّرِيدُ بَرَكَةٌ، وَالسَّحُورُ بَرَكَةٌ، تَسَحَّرُوا فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ، وَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ تَسَحَّرُوا وَلَوْ عَلَى جَرْعٍ مِنْ مَاءٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ " (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا فَقَالَ: " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَحَتَّى يَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا شَيْطَانٌ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتَهُ حَسَنَتْهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ " (4) .
- والملاحظ أن الشريعة الإسلامية تغرس روح الجماعة في أفراد الأمة، وهي لم تغفل أمر المجتمع في عباداتها ومعاملاتها وآدابها وجميع أحكامها، فهي تعدُّ الفرد يكون " لبنة " في
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 260)(1302) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 297)(18449) 18640- وصحيح الجامع ( 3014 ) والشعب ( 4419 و9119 ) وكشف الأستار - (2 / 253) (1637) حسن لغيره
(3) - مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ (2861 ) ضعيف
(4) - عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة - (1 / 239)327-7981 - وسنن الترمذى برقم(2318 ) والمستدرك للحاكم برقم(387) صحيح(1/92)
بنيان المجتمع، أو" عضواً " في بنية جسده الحي.فعَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.متفق عليه (1) .
وعن عَامِرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى (2) ..
تداعى له: تداعى البناء: إذا تبع بعضه بعضا في الانهدام، كأن أجزاءه قد دعا بعضها بعضا.
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ (3) .
6- الأولويات في مجال المنهيات :
- كما أن هناك تفاوتاً في المأمورات ودرجاتها ومستوياتها: من مستحب إلى واجب إلى فرض كفاية إلى فرض عين إلى تفاوت في فروض الأعيان..إلخ، هناك تفاوت أيضاً في جانب المنهيات، وهي مراتب متفاوتة غاية التفاوت، أعلاها بلا شك: الكفر بالله - تعالى -، وأدناها: المكروه تنزيهاً، أوما يُعَبَّر عنه بـ " خلاف الأولى ".
- والكفر أيضا درجات بعضها دون بعض :
• كفر الإلحاد والجحود:
وهوالذي لا يؤمن صاحبه بأن للكون رباً، ولا أن له ملائكة أوكتباً أورسلاً مبشرين ومنذرين، ولا أن هناك آخرة يُجزى الناس فيها بما عملوا خيراً أوشراً.فهؤلاء لا يعترفون بألوهية ولا نبوة ولا رسالة ولا جزاء أخروي، بل هم كما قال القرآن عن أسلاف لهم
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (481) وصحيح مسلم- المكنز - (6750 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 467)(231)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 276)(18373) 18563- وصحيح مسلم- المكنز - (6751 )
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 281)(18393) 18583- وصحيح مسلم- المكنز - (6753 )(1/93)
يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (37) سورة المؤمنون.
وهذا شر أنواع الكفر، وصدق الله العظيم إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (136) سورة النساء.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن طاعتهما، وبالقرآن الذي نزله عليه، وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل.ومن يكفر بالله تعالى، وملائكته المكرمين، وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه، ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته، واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب، فقد خرج من الدين، وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق.
• كفر الشرك:
وهذا دون السابق، وذلك مثل شرك عرب الجاهلية، فقد كانوا يؤمنون بوجود الإله، وبخالقيته للسماوات والأرض والناس وبتدبيره لأمر الرزق والحياة والموت، ولكنهم أشركوا بالله وعبدوا معه أو من دونه آلهة أخرى في الأرض أو في السماء.وفي هذا يقول القرآن الكريم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (61) سورة العنكبوت.
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (31) سورة يونس.
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: مَن يرزقكم من السماء، بما يُنزله من المطر، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات والشجر تأكلون منه أنتم وأنعامكم؟ ومَن يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواسِّ السمع والأبصار؟ ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في الكون كلِّه، فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات، وفيما لا تعرفون؟ ومَن يدبِّر أمر السماء والأرض وما فيهن، وأمركم وأمر الخليقة جميعًا؟(1/94)
فسوف يجيبونك بأن الذي يفعل ذلك كله هو الله، فقل لهم: أفلا تخافون عقاب الله إن عبدتم معه غيره؟
• كفر أهل الكتاب:
ودون هذا الكفر: كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكفرهم من جهة تكذيبهم برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي بعثه الله - تعالى - بالرسالة الخاتمة، وأنزل عليه الكتاب الخالد، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل من جهة، ومصححاً لها من جهة أخرى، وفي هذا يقول الله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة.
وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن، وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب قبله، وأنها من عند الله، مصدقًا لما فيها من صحة، ومبيِّنًا لما فيها من تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها، فاحكم بين المحتكمين إليك من اليهود بما أنزل الله إليك في هذا القرآن، ولا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهوائهم وما اعتادوه، فقد جعلنا لكل أمة شريعة، وطريقة واضحة يعملون بها.ولو شاء الله لجعل شرائعكم واحدة، ولكنه تعالى خالف بينها ليختبركم، فيظهر المطيع من العاصي، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين بالعمل بما في القرآن، فإن مصيركم إلى الله، فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون، ويجزي كلا بعمله.
وكفرهم أيضاً من حيث أنهم حرفوا التوراة والإنجيل اللتين نزلتا على موسى وعيسى عليهما السلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (41) سورة المائدة(1/95)
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك من المنافقين الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم خالية منه، فإني ناصرك عليهم.ولا يحزنك تسرُّع اليهود إلى إنكار نبوتك، فإنهم قوم يستمعون للكذب، ويقبلون ما يَفْتَريه أحبارُهم، ويستجيبون لقوم آخرين لا يحضرون مجلسك، وهؤلاء الآخرون يُبَدِّلون كلام الله من بعد ما عَقَلوه، ويقولون: إن جاءكم من محمد ما يوافق الذي بدَّلناه وحرَّفناه من أحكام التوراة فاعملوا به، وإن جاءكم منه ما يخالفه فاحذروا قبوله، والعمل به.ومن يشأ الله ضلالته فلن تستطيع -أيها الرسول- دَفْعَ ذلك عنه، ولا تقدر على هدايته.وإنَّ هؤلاء المنافقين واليهود لم يُرِدِ الله أن يطهِّر قلوبهم من دنس الكفر، لهم الذلُّ والفضيحة في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
وبالرغم من ذلك فإن لهم وضعاً خاصاً في الشريعة، وهم أنفسهم درجات فمنهم المسالم الطيب ومنهم المحارب ومنهم ... ومنهم ... فإن كانوا خاضعين لقوانين الإسلام فهم أهل ذمة ينطبق عليهم قانون أهل الذمة، وإلا كانوا محاربين فيخيرون بين ثلاث إما الإسلام وإما دفع الجزية عن يد وهم صاغرون وإما الحرب، قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (29) سورة التوبة.
أيها المسلمون قاتلوا الكفار الذين لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يجتنبون ما نهى الله عنه ورسوله، ولا يلتزمون أحكام شريعة الإسلام من اليهود والنصارى، حتى يدفعوا الجزية التي تفرضونها عليهم بأيديهم خاضعين أذلاء.
• كفر أهل الردة:
وهو شر أنواع الكفر.قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة(1/96)
يسألك المشركون -أيها الرسول- عن الشهر الحرام: هل يحل فيه القتال؟ قل لهم: القتال في الشهر الحرام عظيم عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه، ومَنْعكم الناس من دخول الإسلام بالتعذيب والتخويف، وجحودكم بالله وبرسوله وبدينه، ومَنْع المسلمين من دخول المسجد الحرام، وإخراج النبي والمهاجرين منه وهم أهله وأولياؤه، ذلك أكبر ذنبًا، وأعظم جرمًا عند الله من القتال في الشهر الحرام.والشرك الذي أنتم فيه أكبر وأشد من القتل في الشهر الحرام.وهؤلاء الكفار لم يرتدعوا عن جرائمهم، بل هم مستمرون عليها، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا تحقيق ذلك.ومن أطاعهم منكم -أيها المسلمون- وارتدَّ عن دينه فمات على الكفر، فقد ذهب عمله في الدنيا والآخرة، وصار من الملازمين لنار جهنم لا يخرج منها أبدًا.
• كفر النفاق:
وهو من أغلظ أنواع الكفر وأشدها خطراً على الحياة الإسلامية والوجود الإسلامي، قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) } [البقرة: 8 - 16].
التفريق بين الأكبر والأصغر من الكفر والشرك والنفاق :
- فالكفر الأكبر هو ما ذكرناه سابقاً، وعقوبته ذكرها الله - تعالى - في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء.(1/97)
ومن يخالف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعد ما ظهر له الحق، ويسلك طريقًا غير طريق المؤمنين، وما هم عليه من الحق، نتركه وما توجَّه إليه، فلا نوفقه للخير، وندخله نار جهنم يقاسي حرَّها، وبئس هذا المرجع والمآل.
فأما من لم يتبين له الهدى بأن لم تبلغه الدعوة أصلاً، أو بلغته بلوغاً مشوَّهاً لا يحمل على النظر والبحث فيها، فهو معذور، وقد قال الله - تعالى -: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء.
أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.
وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
واستدل بهذه الآية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم (1) .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها.وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد.إنما يسأل كل عن عمله، ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميما..
وقد شاءت رحمة اللّه ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وهي رحمة من اللّه أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب (2) .
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 455)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2217)(1/98)
قلت: اليوم لا عذر لأحد من أهل الأرض في ترك الإسلام، فقد بلغتهم دعوة الإسلام عن طريق النت وغيره من وسائل الإعلام وبشكل صحيح ودقيق، فلا عذر لهم عند الله تعالى.
- ونعتقد أن المسلمين مسؤولون - إلى حد كبير - عن ضلال أمم الأرض، وجهلهم بحقائق الإسلام، واعتناقهم لأباطيل خصومه، وعليهم أن يبذلوا جهوداً أكبر وأصدق في تبليغ رسالتهم، ونشر دعوتهم لدى كل قوم بلسانهم، حتى يبينوا لهم ويثبتوا لهم عالمية الإسلام حقاً.
ــــــــــ
هل المسلمون مسؤولون عن ضلال أهل الأرض ؟
قلت: الضعفاء لا يلتفت إليهم أحد، فقبل تبليغ دعوة الإسلام لهؤلاء وتحميل المسلمين المسؤولية في ذلك، يجب أن ننتبه لأمر في غاية الخطورة، وهو أننا ندعو الناس اليوم إلى دين غير مطبق على الواقع قد حاربه أهله في عقر داره وتنكروا له، فيستطيع أي واحد من هؤلاء المدعوين أن يقول لنا: كلامكم جميل ولكن أروني أين هو على الواقع، وما أكثر الذين يحملون الكلام المعسول، فإذا نظرت إليهم أثناء تطبيقه تستطيع أن تكشفهم بسهولة، فكان من أوجب الواجبات السعي لإيجاد دولة تتبنى الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ومنهج حياة، لتبين للناس إمكانية تطبيق الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، ولتدافع عن الدعاة إلى الله لا أن تسلِّمهم إلى الكفار والفجار ليسيموهم أشد أنواع العذاب بحجة محاربة الإرهاب- كما يحدث اليوم- !!!
فالإسلام لم ينتشر في الأرض إلا بعد وجود الدولة الإسلامية، ولكن فقهاء الهزيمة والتطبيع والحوار لا يعلمون.(1/99)
ونسي هؤلاء أن الذي يرفض التحاكم إلى الإسلام أنه ليس بمسلم ولو صام وصلى وزعم أنه مسلم، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام.يقرره اللّه سبحانه بنفسه.ويقسم عليه بذاته.فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحدّ الإسلام، ولا تأويل لمؤول.
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام..وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا.فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد..وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه.إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه.وإلا لم يبق لشريعة اللّه وسنة رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبي بكر - رضي اللّه عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين: بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير.وهو مجرد عدم الطاعة للّه ورسوله، في حكم الزكاة وعدم قبول حكم رسول اللّه فيها، بعد الوفاة! وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة اللّه وحكم رسوله..فإنه لا يكفي في «الإيمان» هذا، ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام..وهذا هو الإيمان..فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقبل الرضى والتسليم بقضائه، يعود ليقول: إن هذا المنهج الذي يدعون إليه وهذه الشريعة التي يقال لهم: تحاكموا إليها - لا لسواها - وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به...إنه منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم..إنه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم ولا يكلفهم عنتا يشق عليهم ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم..فاللّه يعلم(1/100)
ضعف الإنسان ويرحم هذا الضعف.واللّه يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة، ما أداها إلا قليل منهم..وهو لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية..ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية (1) .
فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة اللّه، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة.والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون» ثم هم لا يحكمون شريعة اللّه في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم..إنما يدعون دعوى كاذبة وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (43) سورة المائدة.فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة اللّه من الحكام فحسب بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم اللّه من المحكومين، يخرجهم من دائرة الإيمان، مهما ادعوه باللسان (2) .
ــــــــــــ
- أما الكفر الأصغر فهو المعاصي مهما يكن مقدارها في الدين، وصاحبه -عند جمهور العلماء-فاسق أو عاص لا كافر.{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (48) سورة النساء
إن الله تعالى لا يغفر ولا يتجاوز عمَّن أشرك به أحدًا من مخلوقاته، أو كفر بأي نوع من أنواع الكفر الأكبر، ويتجاوز ويعفو عمَّا دون الشرك من الذنوب، لمن يشاء من عباده، ومن يشرك بالله غيره فقد اختلق ذنبًا عظيمًا.
- ومن الشرك الأصغر: يسير الرياء والحلف بغير الله، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْكِي ؟ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 696)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 895)(1/101)
يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا , قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ (1) .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَحَلَفَ رَجُلٌ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ (2) .
- وأما النفاق الأصغر فهو نفاق العمل والسلوك، وهو الذي يتخلق بأخلاق المنافقين، ويسلك سلوكهم، وإن كانت عقيدته سليمة، وهو ما حذرت منه الأحاديث الصحاح، مثل الحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »متفق عليه (4) .
وفي رواية لمسلم: وَقَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ » (5) .
وهذه الأحاديث وأمثالها هي التي جعلت الصحابة - رضوان الله عليهم - يخافون على أنفسهم النفاق، وفي صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ >> كِتَابُ الإِيمَانِ >> بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: " مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا " وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: " أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، كُلُّهُمْ
__________
(1) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (5 / 126)(3989) وموسوعة السنة النبوية - (5 / 247) (6353) صحيح لغيره
عادى: حارب الذين يطيعون الله ويتبعون أوامره ، بارز: أعلن حربه مع الله تعالى -الأخفياء: الذين يعكفون على عبادة الله ويتركون الرياء وحب الظهور - مصابيح الهدى: لكثرة إيمانهم أضاء الله بصائرهم- غبراء مظلمة: جهالات مفسدة أى يهديهم الله إلى الحق فيبعدون عن كل الفتن
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 200)(4358) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (34 ) وصحيح مسلم- المكنز - (219) وصحيح ابن حبان - (1 / 488)(254)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (33 ) وصحيح مسلم- المكنز - (220)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (222)(1/102)
يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ " وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: " مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ.وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ "
وعَنْ حُذَيْفَةَ، - رضي الله عنهم - ، قَالَ: دُعِيَ عُمَرُ، لِجِنَازَةٍ، فَخَرَجَ فِيهَا أَوْ يُرِيدُهَا فَتَعَلَّقْتُ بِهِ فَقُلْتُ: اجْلِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ أُولَئِكَ، فَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ، قَالَ: لاَ وَلاَ أُبَرِّئُ أَحَدًا بَعْدَكَ (1) .
وأما المعاصي فتنقسم إلى كبائر وصغائر :
أ- الكبائر، ومنها كبائر معاصي القلوب كالكبر والحسد والبغضاء، الشح المطاع، الهوى المتبع، الإعجاب بالنفس، حب الدنيا على الآخرة، حب الجاه والمنصب ولو قاد ذلك إلى ظلم الغير، اليأس من رحمة الله -تعالى -، الأمن من مكر الله - سبحانه -، حب انتشار الفاحشة ...
وأما كبائر الأعمال فقد وردت في آيات وأحاديث كثيرة، ومنها: قتل النفس بغير الحق، أكل الربا، السحر، أكل مال اليتيم،عقوق الوالدين، شرب الخمر، الزنى، قطع الطريق، الانتحار، قذف المحصنات، ... .الخ. (2)
والكبائر - عموماً - تتفاوت في درجاتها، فعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ، وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ أَبَوَيْهِ ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ الرَّجُلُ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (3) .
__________
(1) - كشف الأستار - (1 / 391)(831) صحيح
(2) - انظر كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 708)(7029) وصحيح البخارى- المكنز - (5973 )(1/103)
وقد فرقت الشريعة بين المعصية التي سببها الظلم ( كالربا ) والمعصية التي سببها الضعف ( كالزنى )، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً. (1) .
ب- الصغائر.فبعد الكبائر تأتي صغائر المحرمات المقطوع بحرمتها(100% )، وقد سمتها الشريعة لمماً، وهذه لا يكاد أحد يسلم من الإلمام بها حينا من الزمن، ولهذا تفترق عن الكبائر بأنها تكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة وصيام رمضان وقيامه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُمَا، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم
والله سبحانه وتعالى ملك ما في السموات وما في الأرض؛ ليجزي الذين أساءوا بعقابهم على ما عملوا من السوء، ويجزي الذي أحسنوا بالجنة، وهم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب والفواحش إلا اللمم، وهي الذنوب الصغار التي لا يُصِرُّ صاحبها عليها، أو يلمُّ بها العبد على وجه الندرة، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، يغفرها الله لهم ويسترها عليهم، إن ربك واسع المغفرة، هو أعلم بأحوالكم حين خلق أباكم آدم من تراب، وحين أنتم أجنَّة في بطون أمهاتكم، فلا تزكُّوا أنفسكم فتمدحوها وتَصِفُوها بالتقوى، هو أعلم بمن اتقى عقابه فاجتنب معاصيه من عباده.
وقال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (31) سورة النساء
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 334)(21957) 22303- والصحيحة (1033) وصحيح الجامع (3375) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (574) وشعب الإيمان - (5 / 230)(3347 )(1/104)
إن تبتعدوا -أيها المؤمنون- عن كبائر الذنوب كالإشراك بالله وعقوق الوالدين وقَتْلِ النفس بغير الحق وغير ذلك، نكفِّر عنكم ما دونها من الصغائر، وندخلكم مدخلا كريمًا، وهو الجنَّة.
أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح، قال تعالى :{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) } [الفرقان: 68 - 71]
والذين يوحدون الله، ولا يدعون ولا يعبدون إلهًا غيره، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحق قتلها به: من كفر بعد إيمان، أو زنى بعد زواج، أو قتل نفس عدوانًا، ولا يزنون، بل يحفظون فروجهم، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ومن يفعل شيئًا من هذه الكبائر يَلْقَ في الآخرة عقابًا.يُضاعَفْ له العذاب يوم القيامة، ويَخْلُدْ فيه ذليلا حقيرًا.(والوعيد بالخلود لمن فعلها كلَّها، أو لمن أشرك بالله).لكن مَن تاب مِن هذه الذنوب توبة نصوحًا وآمن إيمانًا جازمًا مقرونًا بالعمل الصالح، فأولئك يمحو الله عنهم سيئاتهم ويجعل مكانها حسنات ؛ بسبب توبتهم وندمهم.وكان الله غفورًا لمن تاب، رحيمًا بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بأكبر المعاصي.ومن تاب عمَّا ارتكب من الذنوب، وعمل عملا صالحا فإنه بذلك يرجع إلى الله رجوعًا صحيحًا، فيقبل الله توبته ويكفر ذنوبه.
والشريعة - وإن سامحت وخففت في الصغائر - قد حذرت من الاستهانة بها والإصرار عليها، فإن الصغير إذا أضيف إلى الصغير أصبح كبيراً !
ومما يلحق بالمعاصي البدع الاعتقادية والعملية.والبدع ليست كلها في مرتبة واحدة، فهناك بدع مغلظة وبدع مخففة، وبدع متفق عليها وبدع مختلف فيها.وهناك بدع مغلظة تصل(1/105)
بصاحبها إلى درجة الكفر مثل الفرق التي خرجت على أصول الملة الإسلامية، وهناك بدع مغلظة ولكنها لا تصل بصاحبها إلى الكفر، وإنما تصل به إلى الفسق فسق الاعتقاد (1) .
وبعد الصغائر تأتي الشبهات: وهي الأمور التي لا يعلم حكمها كثير من الناس ويشتبهون في حلها أوحرمتها، فهي - إذن - ليست كالمحرمات المقطوع بها، ولا يجور لنا أن نرفعها إلى درجة الحرام الصريح، فإن من أخطر الأمور - تذويب الحدود بين مراتب الأحكام الشرعية، فعَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَأَهْوَى بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ، يَقُولُ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنَ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (2) .
وفي أدنى مراتب المنهيات تأتي المكروهات: والمقصود منها هنا المكروه التنزيهي الذي هوإلى الحلال أقرب، والمكروه - كما يعرفه العلماء -: ما كان في تركه أجر ولم يكن في فعله وزر، فلا عقاب - إذن - على من ارتكب المكروه التنزيهي وإنما قد يعاتب، فلا ينبغي أن ينكر مثل ذلك فكيف بمن يشدد في إنكاره!! كما لا يجوز أن يشغل الناس بمحاربة المكروهات وهم واقعون في المحرمات الصريحة !.
7- الأولويات في مجال الإصلاح ( أي أثناء عملية الإصلاح ) :
أ -تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة
ولهذا لا بد من التربية قبل الجهاد، وحتى الجهاد نفسه مراتب :
- جهاد النفس.- جهاد الشيطان ( جهاد الشكوك والشبهات ).
- جهاد الكفار والمنافقين وفق شروط وضوابط.
ب- تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر وتصحيح التصور وتصويب منهج النظر والعمل
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 21)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (6 / 560)(22435) صحيح - وهو في الصحيحين(1/106)
وهو ما يسمى بأولوية المعركة الفكرية، ولها مجالان :
1 - معركة فكرية خارج الساحة الإسلامية ( مع غير المسلمين ).
2 - معركة فكرية داخلية ( داخل المسلمين أنفسهم ).
أما الأولى فلها قواعدها وضوابطها وآدابها، وأما الثانية فهي التي سنتكلم عنها فيما يلي.
لا شك أن لدينا - المسلمين - تيارات متعددة :
1) التيار الخرافي، وله عدة صفات، منها :
- الخرافة في الاعتقاد.- الابتداع في العبادة.- الجمود في الفكر.- التقليد الأعمى المتعصب ( دون فهم ).- السلبية في السلوك.
2) التيار الحرْفي، وله عدة صفات، منها :
- الجدلية في العقيدة.- الشكلية في العبادة.- الظاهرية في الفقه.- الجزئية في الاهتمام.- الجفاف في الروح.- الخشونة في الدعوة.- الضيق بالخلاف.
3) تيار الرفض والعنف:
وهو تيار يقوم على رفض المجتمع بجميع مؤسساته، ولهذا التيار عدة صفات، منها :
- الشدة والصرامة في الالتزام بالدين.- الاعتزاز بالذات اعتزازا يؤدي إلى التكبر على المجتمع.- سوء الظن بالآخرين.- استعجال الأشياء قبل أوانها في الإصلاح.- ضيق الأفق في فهم الدين وفهم الواقع وفهم السنن الكونية والاجتماعية.- المسارعة إلى التكفير.- اتخاذ القوة سبيلاً إلى تحقيق الأهداف.
قلت: ولا علاقة لهذا التيار بالتيار الجهادي الحركي، الذي جاءت النصوص القطعية بمدحه وبيان صفاته، وقد أفردته بكتاب (1) .
4) التيار الوسطي:
الذي يقوم على التوازن والوسطية في فهم الدين والحياة والعمل لتمكين الدين، وله صفات ومميزات تميزه عن غيره، منها :
__________
(1) - انظر كتابي (( المفصل في تخريج أحاديث الطائفة المنصورة ))(1/107)
- فقهه للدين فقها شاملا متزنا عميقا.
- فقهه لواقع الحياة دون تهوين ولا تهويل: واقع المسلمين وواقع غيرهم.
- فقه سنن الله وقوانينه التي لا تتبدل، وخصوصا سنن الاجتماع البشري.
- فقه مقاصد الشريعة وعدم الجمود على ظواهرها.
- فقه الأولويات وهو مرتبط بأنواع أخرى من الفقه.
- فقه الاختلاف وآدابه ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ).
- الجمع بين الأصالة والمعاصرة.
- الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.
- الإيمان بأن التغيير الفكري والنفسي والخلقي أساس كل تغيير حضاري.
- تقديم الإسلام مشروعاً حضارياً متكاملاً لبعث الأمة وإنقاذ البشرية.
- اتخاذ منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
- إبراز القيم الاجتماعية والسياسية في الإسلام، مثل: الحرية والكرامة والشورى والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
- الحوار بالحسنى مع المخالفين من غير المسلمين، ومع المسلمين المغزوين عقلياً والمهزومين روحياً.
- فهم الجهاد فهما صحيحا بأنواعه كلها دون استثناء ومعرفة أوقاتها المعتبرة وضوابطه الشرعية.
والتيار الوسطي هو التيار الذي نريده ونسعى إليه، فهو المعبر الحقيقي عن الإسلام، كما أنزل الله - تعالى - في كتابه، وكما هدى إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته وسيرته، وكما فهمه وطبقه الراشدون المهديون من أصحابه، وكما فقهه التابعون لهم بإحسان من خير قرون هذه الأمة.
ــــــــــ
رأينا في التيار الوسطي(1/108)
قلت: الكلام النظري يقنع الناس، ولكنك إذا وضعته على المحك تظهر حقيقته، فأصحاب هذا التيار الوسطي - على حدِّ زعمهم - قد تخلَّوا عن كثير من الثوابت الشرعية تحت ضغط الواقع، أو بحجة عدم مناسبتها لعصرنا، أو عدم صلاحيتها، أو إرضاءً للكفار والفجار، ومن ثم لم يعد تياراً وسطيًّا، كما يزعم أصحابه، بل أصحاب التيارات الأخرى يزعمون أنهم يمثلون تيار الوسطية، وعندما يأتون بالأدلة تعرف الوسطية التي يدْعون إليها فهي وسطية غير صحيحة في حقيقة الأمر (1) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر الوسطية في القرآن الكريم للعمر والصلابي(1/109)
المبحث الرابع
أمثلة على فقه الأولويات في تراثنا الإسلامي
أولا- في عهد الصحابة
نهي الصحابة الحسين عن الخروج على يزيد
عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَخَذَلُوا أَخَاكَ ؟ فَقَالَ حُسَيْنٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " لَأَنْ أُقْتَلَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْتَحَلَّ بِي " (1) .
وعَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَنِي حُسَيْنٌ يَسْتَشِيرُنِي فِي الْخُرُوجِ إِلَى مَا هَاهُنَا، يَعْنِي الْعِرَاقَ، فَقُلْتُ: لَوْلاَ أَنْ يُزْرُوا بِي وَبِكَ لَشَبَّثْتُ يَدِي فِي شَعْرِكَ، إِلَى أَيْنَ تَخْرُجُ ؟ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاك وَطَعَنُوا أَخَاك، فَكَانَ الَّذِي سَخَا بِنَفْسِي عَنْهُ أَنْ قَالَ لِي: إِنَّ هَذَا الْحَرَمَ يُسْتَحَلُّ بِرَجُلٍ، وَلأَنْ أُقْتَلَ فِي أَرْضِ كَذَا وَكَذَا غَيْرَ أَنَّهُ يُبَاعِدُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ (2) .
وعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بَلَغَ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ بِمَالٍ لَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبَيْعَتُهُمْ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلْ، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الآخِرَةَ، وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، كَذَلِكَ يُرِيدُ مِنْكُمْ، فَأَبَى، فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ، وَالسَّلاَمُ (3) .
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (2 / 261)(1475 ) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (21 / 144) (38519) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (15 / 424) (6968) صحيح(1/110)
وعن يَحْيَى بْنِ سَالِمٍ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأُخْبِرَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهُ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: الْعِرَاقَ، وَمَعَهُ طُومَيْرٌ وَكُتُبٌ، فَقَالَ: لَا تَأْتِهِمْ , فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ وَبَيْعَتُهُمْ , فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ الْآخِرَةِ , فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكُمْ بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاللَّهِ لَا يَلِيَهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا , وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَارْجِعُوا , فَأَبَى وَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ وَبَيْعَتُهُمْ قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ قَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ " (1) .
قلت: هذا ولم يكن هناك موجب لهذا الخروج بعد أن بايعته الأمة ولو كان الحسين رضي الله عنه خيرا من ألف من مثل يزيد ولذلك فقد نهاه خيرة الصحابة والتابعين عن هذا الخروج فأبى، وقد جرَّ خروجه على الأمة شراًّ مستطيراً إلى الآن، والناس في خروجه على ثلاثة أضرب :
الفريق الأول: الذين يحاكمون الأشياء بعواطغهم وليس في عقولهم فقالوا لقد كان خروجه واجبا وذلك لأن يزيدا لا يستحق الخلافة وقد فرض على الأمة بالقوة، فكان يجب الخروج عليه لإصلاح هذا الخلل ورد الأمور إلى نصابها.
وأما الفريق الثاني: فيرون أنه قد خرج بغير حق على الإمام المنتخب شرعا، فلا يجوز خروجه هذا، وقالوا: إذا بايعت الأمة لشخص واستقر الأمر له فلا يجوز الخروج عليه إلا بكفر بواح وما أشبه ذلك، ولم يكن ذلك في يزيد بن معاوية، وما اتهم به من تهم لم يثبت منها تهمة واحدة وهي من نسج خيال أعدائه، ولو بويع لإمام وبقي نفر قليل لم يبايعوا فلا عبرة برأيهم فيجب عليهم الدخول فيما دخل فيه الناس، والحسين رضي الله عنه -ولو كان خيرا من يزيد بلا منازع- ولكن الأمة لم تبايعه وليس معه نصٌّ من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج بل النصوص الشرعية الصحيحة تمنع ذلك 000
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 2808) صحيح(1/111)
وأما الفريق الثالث: فقد قالوا: إنه قد اجتهد فأخطأ، وذلك لأنه كان قد بيَّت الخروج على يزيد قبل أن يظهر منه أي شيء يوجب هذا الخروج وظن أن الأمة ستبايعه هو لمكانته من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك لوثوقه باهل الكوفة، وهم قوم لا يوثق بهم فقد قتل على يديهم فهو مأجور من حيث قصده ولكن خروجه ما كان ينبغي، ولو نظرنا في تعامل يزيد مع خروج الحسين لوجدنا أنه قد تصرف بحكمة حتى نفذ صبره، وإلا أي حاكم في الأرض يعلم أن شخصاً سيقوم عليه ويتركه؟! فقد علم بخروجه وحاول والي مكة المكرمة أن يثنيه عن هذا الخروج فأبى بل أعطاه كتاباً فارغاً وقال له اكتب فيه ما شئت من حاجات ولا تفرق صفوف الأمة فأبى رضي الله عنه، وقد حاول خيرة الصحابة الذين عاصروه كابن عمر وابن عباس وأخيه ابن الحنفية وغيرهم أن يمنعوه فأبى، ومع هذا فقد خرج، وكان بإمكان ولاة يزيد منعه من ذلك ولكن لم يفعلوا، وحتى عندما جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل الذي بعث له قبل موته أن ارجع فإن أهل الكوفة قد خذلوه وأسلموه، ومع هذا لم يرجع حتى اقترب من الكوفة حتى بلغ السيل الزبى كان الجيش الذي شكِّل لقتاله هو من الذين كانوا قد بايعوه سراًّ، ولم يكن فيهم أمويٌّ واحد ومع هذا ينسب قتله إلى يزيد وهو غير صحيح، وقد حزن يزيد على مقتله وأكرم أهله وسيَّرهم إلى المدينة وأوصى واليه بهم خيرا، حتى عندما خرج أهل المدينة عليه لم يخرج أحد من أهل الحسين، فإذا كانوا يعتقدون بأن يزيداً قد قتله بغير حق فلم لم يخرجوا وقد جاءتهم الفرصة سانحة ؟!
والصحيح انهم كانوا يعتقدون أن الذي قتله هو الذي خذله وهم أهل الكوفة، وهم قاتلوه حقيقة وليس يزيد ولا حتى عبيد الله بن زياد وإن كان لعبيد الله تصرفات غير سائغة شرعاً.
وقال بعض العلماء: "لم يكن في خروج الحسين رضي الله عنه مصلحة ولذلك نهاه كثير من الصحابة وحاولوا منعه ولكنه لم يرجع، وبهذا الخروج نال أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله حتى قتلوه مظلوماً شهيداً.وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده، ولكنه أمر الله تبارك وتعالى وما قدره الله كان ولو لم يشأ(1/112)
الناس.وقتل الحسين ليس هو بأعظم من قتل الأنبياء وقد قُدّم رأس يحيى عليه السلام مهراً لبغي وقتل زكريا عليه السلام، وكثير من الأنبياء قتلوا كما قال تعالى: "{ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (183) سورة آل عمران.وكذلك قتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين".
ـــــــــــ
ابن عمر وأهل العراق
عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَا جَالِسٌ فَسَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ ؟ فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ: هَا انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ ؟ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتِي مِنَ الدُّنْيَا (1) .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى يَعْقُوبَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِى نُعْمٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَسَأَلَهُ عَنِ الْمُحْرِمِ، قَالَ شُعْبَةُ أَحْسِبُهُ يَقْتُلُ الذُّبَابَ فَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنِ الذُّبَابِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هُمَا رَيْحَانَتَاىَ مِنَ الدُّنْيَا » (2) ..
ـــــــــــ
ابن عمر والخارجون على يزيد بن معاوية
عَنْ نَافِعٍ قَالَ لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 440)(5675) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3753 )(1/113)
وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ، إِلاَّ كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ (1) .
الفيصل: الأمر القاطع بين الشيئين قطعا تاما.
وعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما جَمَعَ بَنِيهِ حِينَ انْتَزَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَخَلَعُوا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ بِبَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْغَادِرُ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ».وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُبَايِعَ الرَّجُلُ رَجُلاً عَلِى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ فَلاَ يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ وَلاَ يُسْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِى هَذَا الأَمْرِ فَيَكُونَ صَيْلَماً فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ."مسند أحمد (2) .
(الانتزاء) و(التنزي): تسرع الإنسان إلى الشر.و(الفيصل) و(الصيلم)؛ معناهما واحد.
قال ابن الأثير: "الفيصل: القطيعة التامة".وقال أيضا: "الصيلم: القطيعة المنكرة" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "في هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة،والمنع من الخروج عليه،ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق".انتهى (3) .
قلت: وهذا هو الفقه الحقيقي، ونعم ما صنع عبد الله - رضي الله عنهم - .
ـــــــــــ
بين ابن مطيع وابن الحنفية
قَالَ ابن كثير: وَمَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَأَرَادُوهُ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْكِتَابِ.فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7111 )
(2) - - مسند أحمد (5842) صحيح -صيلم: القطيعة المنكرة
(3) - - فتح الباري لابن حجر - (13 / 70)(1/114)
عَلَى الصَّلَاةِ، مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ.قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ.فَقَالَ: وَمَا الَّذِي خَافَ مِنِّي أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ ؟ ! أَفَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ فَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا.قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا لَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأَيْنَاهُ.فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (86) سورة الزخرف، وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ.قَالُوا: فَلَعَلَّكَ تَكْرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ غَيْرُكَ، فَنَحْنُ نُوَلِّيكَ أَمْرَنَا.قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي الجزء الحادي عشر عَلَيْهِ تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا.قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ.قَالَ جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.فَقَالُوا: فَمُرِ ابْنَيْكَ أَبَا هَاشِمٍ وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا.قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ.قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ.قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! آمُرُ النَّاسَ بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ ؟ ! إِذَا مَا نَصَحْتُ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ.قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ.قَالَ: إِذًا آمُرُ النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَلَّا يُرْضُوا الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ الْخَالِقِ.وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ (1) .
ـــــــــــ
بين ابن المبارك والفضيل بن عياض
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ أَبِي سُكَيْنَةَ:أَمْلَى عَلَيَّ ابْنُ المُبَارَكِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَةٍ، وَأَنفَذَهَا مَعِي إِلَى الفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ مِنْ طَرَسُوْسَ:
يَا عَابِدَ الحَرَمِيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا * لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ تَلْعَبُ
مَنْ كَانَ يَخْضِبُ جِيْدَهُ بِدُمُوْعِهِ * فَنُحُوْرُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ
أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِلٍ * فَخُيُوْلُنَا يَوْمَ الصَّبِيْحَةِ تَتْعَبُ
رِيْحُ العَبِيْرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيْرُنَا * رَهَجُ السَّنَابِكِ وَالغُبَارُ الأَطْيَبُ
وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَا * قَوْلٌ صَحِيْحٌ صَادِقٌ لاَ يُكْذَبُ:
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (8 / 255)(1/115)
لاَ يَسْتَوِي وَغُبَارُ خَيْلِ اللهِ فِي * أَنْفِ امْرِئٍ وَدُخَانُ نَارٍ تَلهبُ
هَذَا كِتَابُ اللهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا * لَيْسَ الشَّهِيْدُ بِمَيِّتٍ لاَ يُكْذَبُ
فَلَقِيْتُ الفُضَيْلَ بِكِتَابِهِ فِي الحَرَمِ، فَقَرَأَهُ، وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَنَصَحَ (1) .
فتأمل كيف وصف انشغال الإمام الفضيل بن عياض بالعبادة ومجاورة الحرم باللعب والباطل مقارنةً بتركه للقتال في سبيل الله, هذا مع كون الجهاد المتحدث عنه فرض كفاية لا فرض عين.فكيف لو رأى الإمام ابن المبارك -رحمه الله- حال القاعدين عن الجهاد المتعين انشغالاً بنوافل وتطوعات, بماذا يا ترى سيصف أعمالهم التي قعدوا بها عن هذا الجهاد..؟
ـــــــــــ
فقهاء السلف الصالح
1- بحث العلماء في أيهما أولى بالمسلم في زمن الفتنة وانتشار المعاصي والفساد: الاختلاط بالمجتمع ومحاولة إصلاحهأم العزلة والنجاة بالنفس ؟
والأولى هوالاختلاط بالمجتمع، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ قَالَ: حَجَّاجٌ: خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ (2) ..
2- بحث العلماء في أيهما أولى وأفضل عند الله - تعالى -: ترك المناهي والمحرمات، أم فعل الأوامر والطاعات ؟ والأولى هوالأول، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (3) .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (2 / 203) وسير أعلام النبلاء (8/413) وتاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (12 / 240) والخلاصة في أحاديث الطائفة المنصورة - (1 / 358)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 322)( 5022) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7288 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 199)(19)(1/116)
3-بحث العلماء في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر ؟
والأفضل الأول للأحاديث الكثيرة التي تدل على استعاذة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - من الفقر، كما أن أفضلية الأول تدعو إلى العمل والجد والاجتهاد لا الكسل.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا وَلَيْسَ لَنَا مَالٌ نَتَصَدَّقُ بِهِ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا ذَرٍّ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تُدْرِكُ بِهِنَّ مَنْ سَبَقَكَ وَلاَ يَلْحَقُكَ مَنْ خَلْفَكَ إِلاَّ مَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ عَمَلِكَ ».قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « تُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتَحْمَدُهُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتُسَبِّحُهُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتَخْتِمُهَا بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ » (1) .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيلٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُور بَيْن السَّلَف وَالْخَلَف مِنَ الطَّوَائِف وَاَللَّه أَعْلَم" (2) .
ولا يخفى أن كُلاًّ من الغنى والفقر لون من ألوان الامتحان للناس، فالغنيُّ ابتلاه الله بالمال، وكلَّفه أن ينفقه في مرضاته، ويؤدِّي حقَّ الفقير فيه، فإن فعل فقد فاز ونجا، وإن امتنع فقد خاب وخسر.وأمَّا الفقير فقد ابتلاه الله بالفقر، فهل يصبر أم يتضجَّر ويتأفَّف، فإن صبر كان له مثل أجر الغنيِّ الشاكر، وإن لجَّ وتأفَّف وتضجَّر، وسخط على قسمة الله، كان مستحقّاً للعقاب كالغنيِّ الفاجر، الَّذي لم يأتمر بأمر الله في ماله.ويجب على جميع المسلمين أن يجدُّوا في الكسب الحلال، ليصبحوا أغنياء، ويقوموا بأداء الزَّكاة ـ وكأن الإسلام جعل الغنى ركناً من أركانه ـ فلا يفوتهم هذا الركن المكين (3) .
ـــــــــــ
الإمام الغزالي في الإحياء
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (1506 ) صحيح -الدثور: جمع دثر وهو المال العظيم
(2) - عون المعبود - (3 / 432)
(3) - القرآن منهاج حياة - (1 / 415)(1/117)
ومن العلماء الذين اهتموا بفقه الأولويات: الإمام أبوحامد الغزالي - رحمه الله - في موسوعته: ( إحياء علوم الدين )
والأمثلة التي ذكرها كثيرة، منها :
أ- بعض الناس يهملون الفرائض ويشتغلون بالنوافل..وهذا خطأ.
ب- بعض الناس يكثرون الشكوك في الطهارة والنجاسة، وبينما لا توجد عندهم شكوك في أكل أموال الناس بغير حق !
ج- ذكر الإمام الغزالي حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِى قَالَ « أُمُّكَ ».قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ « أُمُّكَ ».قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ « أُمُّكَ ».قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ « ثُمَّ أَبُوكَ » (1) .
د- بعض الأغنياء يحرصون على بناء المساجد والمدارس و ... و ... ، ولكنهم لا يهتمون أحلال أموالهم أم حرام !؟ (2)
هـ- بعض الأغنياء ينشغلون بنوافل الصلاة والصيام مع أن أفضل عبادة لهم هي الإنفاق في وجوه الخير!
و- عاب الغزالي على بعض المتدينين من أصحاب الأموال أنهم يحجون كثيراً، وربما تركوا جيرانهم جياعاً !! (3)
وأمثلة أخرى كثيرة.
ـــــــــــ
شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى
وممن اهتم بفقه الأولويات ( مع جهل كثيرين من الناس بذلك) الإمام ابن تيمية - رحمه الله -، والأمثلة التي ذكرها في موسوعته: ( مجموع الفتاوى ) كثيرة، منها :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5971 )
(2) - إحياء علوم الدين - (3 / 96)
(3) - إحياء علوم الدين - (3 / 98)(1/118)
أ- ذكر الإمام ابن تيمية حديث ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بناء الكعبة على قواعد سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وذلك إبعاداً للفتنة، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَهَدَمْتُ الْبَيْتَ حَتَّى أُدْخِلَ فِيهِ مَا أَخْرَجُوا مِنْهُ فِي الْحِجْرِ، فَإِنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ نَفَقَتِهِ، وَأَلْصَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَوَضَعْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، قَالَ: فَكَانَ هَذَا الَّذِي دَعَا ابْنَ الزُّبَيْرِ إِلَى هَدْمِهِ وَبِنَائِهِ (1) .
فَتَرَكَ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ: لِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَجُلٌ يَرَى الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ فَأَمَّ بِقَوْمِ لَا يَسْتَحِبُّونَهُ أَوْ بِالْعَكْسِ وَوَافَقَهُمْ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ (2) .
وقال: "َتَرَكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَهُوَ حِدْثَانُ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْفِيرِ لَهُمْ فَكَانَتْ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً عَلَى الْمَصْلَحَةِ.وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ.." (3) .
وقال: " فَلَوْلَا الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ لَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُغَيِّرُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ.فَيَجُوزُ تَغْيِيرُ بِنَاءِ الْوَقْفِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ؛ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ" (4) .
ب- وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ بَيَانِ السُّنَّةِ وَتَعْلِيمِهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا كَانَ حَسَنًا، مِثْلَ أَنْ يَجْهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَو التَّعَوُّذِ أَو الْبَسْمَلَةِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (9 / 124)(3816) صحيح
(2) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (22 / 268)
(3) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (24 / 195)
(4) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (31 / 253)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (918 )(1/119)
وَلِهَذَا شَاعَ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ حَتَّى عَمِلَ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ.وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ (1) .
ج- اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ بِأَنْ يُسَلِّمَ فِي الشَّفْعِ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ، وَهُوَ يَؤُمُّ قَوْمًا لَا يَرَوْنَ إلَّا وَصْلَ الْوِتْرِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْأَفْضَلِ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ بِوَصْلِ الْوِتْرِ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ فَصْلِهِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمُخَافَتَةَ بِالْبَسْمَلَةِ أَفْضَلَ أَو الْجَهْرَ بِهَا وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ فَفَعَلَ الْمَفْضُولَ عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّتِي هِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا (2) ..
د- إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ لَهَا مَنَافِعُ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً: كَانَ فِي تَرْكِهَا مَضَارُّ وَالسَّيِّئَاتُ فِيهَا مَضَارُّ وَفِي الْمَكْرُوهِ بَعْضُ حَسَنَاتٍ.فَالتَّعَارُضُ إمَّا بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ فَتُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمَا بِتَفْوِيتِ الْمَرْجُوحِ وَإِمَّا بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُمَا؛ فَيَدْفَعُ أَسْوَأَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.وَإِمَّا بَيْنَ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ لَا يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ بَلْ فِعْلُ الْحَسَنَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ السَّيِّئَةِ؛ وَتَرْكُ السَّيِّئَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْحَسَنَةِ؛ فَيُرَجَّحُ الْأَرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ وَمَضَرَّةِ السَّيِّئَةِ.فَالْأَوَّلُ كَالْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ؛ وَكَفَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ مِثْلَ تَقْدِيمِ قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.وَالثَّانِي كَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ الْأَهْلِ عَلَى نَفَقَةِ الْجِهَادِ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَىُّ الأَعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا ».قُلْتُ وَمَاذَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَالَ « بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ».قُلْتُ وَمَاذَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » (3) .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (24 / 196)
(2) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (24 / 195)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (263 )(1/120)
هـ - وَتَقْدِيمُ الْجِهَادِ عَلَى الْحَجِّ كَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَعَيَّنٌ عَلَى مُتَعَيَّنٍ وَمُسْتَحَبٌّ عَلَى مُسْتَحَبٍّ، وَتَقْدِيمُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الذِّكْرِ إذَا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا إذَا شَارَكَتْهُمَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَرَجَّحُ الذِّكْرُ بِالْفَهْمِ وَالْوَجَلِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا تُجَاوِزُ الْحَنَاجِرَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
و-وَالثَّالِثُ كَتَقْدِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُهَاجِرَةِ لِسَفَرِ الْهِجْرَة بِلَا مَحْرَمٍ عَلَى بَقَائِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَا فَعَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا آيَةَ الِامْتِحَانِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (10) سورة الممتحنة.
ي - وَكَتَقْدِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة.
فَتُقْتَلُ النُّفُوسُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْفِتْنَةُ عَن الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ قَتْلِ النَّفْسِ.
ك- وَكَتَقْدِيمِ قَطْعِ السَّارِقِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَجَلْدِ الشَّارِبِ عَلَى مَضَرَّةِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُوبَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهَا مَعَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سَيِّئَةٌ وَفِيهَا ضَرَرٌ؛ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْهَا؛ وَهِيَ جَرَائِمُهَا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ الْفَسَادِ الْكَبِيرِ إلَّا بِهَذَا الْفَسَادِ الصَّغِيرِ.
ن- وَكَذَلِكَ فِي " بَابِ الْجِهَادِ " وَإِنْ كَانَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِن النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ حَرَامًا فَمَتَى اُحْتِيجَ إلَى قِتَالٍ قَدْ يَعُمُّهُمْ مِثْلُ: الرَّمْيُ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالتَّبْيِيتُ بِاللَّيْلِ جَازَ ذَلِكَ(1/121)
كَمَا جَاءَتْ فِيهَا السُّنَّةُ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَفِي أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَبِيتُونَ وَهُوَ دَفْعٌ لِفَسَادِ الْفِتْنَةِ أَيْضًا بِقَتْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَصْدُ قَتْلِهِ.
وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ التَّتَرُّسِ " الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ هُوَ دَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ فَيَحْصُلُ فِيهَا مِن الْمَضَرَّةِ مَا هُوَ دُونَهَا؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَن الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِمَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ أُولَئِكَ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ جَازَ ذَلِكَ؛ وَإِنْ لَمْ يَخَفِ الضَّرَرَ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجِهَادُ إلَّا بِمَا يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ.وَمَنْ يُسَوِّغُ ذَلِكَ يَقُولُ: قَتْلُهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجَهاد مِثْلَ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَبَاذِلِ؛ وَقِتَالِ الْبُغَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
لا- وَمِنْ ذَلِكَ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ خَشْيَةَ الْعَنَتِ.وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَمِثْلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ؛ فَإِنَّ الْأَكْلَ حَسَنَةٌ وَاجِبَةٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِهَذِهِ السَّيِّئَةِ وَمَصْلَحَتُهَا رَاجِحَةٌ وَعَكْسُهُ الدَّوَاءُ الْخَبِيثُ؛ فَإِنَّ مَضَرَّتَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْعِلَاجِ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ؛ وَلِأَنَّ الْبُرْءَ لَا يُتَيَقَّنُ بِهِ وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْخَمْرِ لِلدَّوَاءِ.فَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُحْتَمَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ دَفْعِ مَا هُوَ أَسْوَأُ مِنْهَا إذَا لَمْ تُدْفَعْ إلَّا بِهَا وَتَحْصُلُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ تَرْكِهَا إذَا لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِهَا، وَالْحَسَنَةُ تُتْرَكُ فِي مَوْضِعَيْنِ إذَا كَانَتْ مُفَوِّتَةً لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا؛ أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِسَيِّئَةٍ تَزِيدُ مَضَرَّتُهَا عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ.هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَازَنَاتِ الدِّينِيَّةِ.
وَأَمَّا سُقُوطُ الْوَاجِبِ لِمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا؛ وَإِبَاحَةُ الْمُحَرَّمِ لِحَاجَةِ فِي الدُّنْيَا؛ كَسُقُوطِ الصِّيَامِ لِأَجْلِ السَّفَرِ؛ وَسُقُوطِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ فَهَذَا بَابٌ آخَرُ يَدْخُلُ فِي سِعَةِ الدِّينِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ؛ بِخِلَافِ الْبَابِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ جِنْسَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِي أَعْيَانِهِ، بَلْ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَيَنْشُدُ :
إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا مِنْ جِسْمِهِ مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الْأَخْطَرَا(1/122)
وَهَذَا ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ الطَّبِيبَ مَثَلًا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيَةِ الْقُوَّةِ وَدَفْعِ الْمَرَضِ؛ وَالْفَسَادُ أَدَاةٌ تَزِيدُهُمَا مَعًا؛ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ عِنْدَ وُفُورِ الْقُوَّةِ تَرْكُهُ إضْعَافًا لِلْمَرَضِ وَعِنْدَ ضَعْفِ الْقُوَّةِ فِعْلُهُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ إبْقَاءِ الْقُوَّةِ وَالْمَرَضِ أَوْلَى مِنْ إذْهَابِهِمَا جَمِيعًا؛ فَإِنَّ ذَهَابَ الْقُوَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْهَلَاكِ وَلِهَذَا اسْتَقَرَّ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَنَّهُ عِنْدَ الْجَدْبِ يَكُونُ نُزُولُ الْمَطَرِ لَهُمْ رَحْمَةً وَإِنْ كَانَ يَتَقَوَّى بِمَا يُنْبِتُهُ أَقْوَامٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ، لَكِنَّ عَدَمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ وَيُرَجِّحُونَ وُجُودَ السُّلْطَانِ مَعَ ظُلْمِهِ عَلَى عَدَمِ السُّلْطَانِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ: سِتُّونَ سَنَةً مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ.
ثُمَّ السُّلْطَانُ يُؤَاخَذُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْعُدْوَانِ وَيُفَرِّطُ فِيهِ مِنَ الْحُقُوقِ مَعَ التَّمَكُّنِ لَكِنْ أَقُولُ هُنَا؛ إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلسُّلْطَانِ الْعَامَّ أَوْ بَعْضَ فُرُوعِهِ كَالْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ وَتَرْكُ مُحَرَّمَاتِهِ وَلَكِنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ قَصْدًا وَقُدْرَةً: جَازَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَرُبَّمَا وَجَبَتْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إذَا كَانَتْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَحْصِيلُ مَصَالِحهَا مِنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ وَقَسْمِ الْفَيْءِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَمْنِ السَّبِيلِ: كَانَ فِعْلُهَا وَاجِبًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِتَوْلِيَةِ بَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَأَخْذِ بَعْضِ مَا لَا يَحِلُّ وَإِعْطَاءِ بَعْضِ مَنْ لَا يَنْبَغِي؛ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ ذَلِكَ: صَارَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ إلَّا بِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ دُونَ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ، بَلْ لَوْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمٍ؛ وَمَنْ تَوَلَّاهَا أَقَامَ الظُّلْمَ حَتَّى تَوَلَّاهَا شَخْصٌ قَصْدُهُ بِذَلِكَ تَخْفِيفُ الظُّلْمِ فِيهَا.وَدَفْعُ أَكْثَرِهِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِ: كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ وَكَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنَ السَّيِّئَةِ بِنِيَّةِ دَفْعِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا جَيِّدًا.
وَهَذَا بَابٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُ ظَالِمٌ قَادِرٌ وَأَلْزَمَهُ مَالًا فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ بَيْنَهُمَا لِيَدْفَعَ عَنِ الْمَظْلُومِ كَثْرَةَ الظُّلْمِ وَأَخَذَ مِنْهُ وَأَعْطَى الظَّالِمَ مَعَ اخْتِيَارِهِ أَنْ لَا يَظْلِمَ وَدَفْعَهُ ذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَ: كَانَ مُحْسِنًا وَلَوْ تَوَسَّطَ إعَانَةً لِلظَّالِمِ كَانَ مُسِيئًا (1) ..
وهناك علماء كثيرون في تاريخنا القديم والحديث اهتموا بفقه الأولويات...
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (20 / 50) فما بعد(1/123)
أهم المصادر
1. صحيح ابن حبان
2. سنن النسائي- المكنز -
3. مسند أحمد (عالم الكتب)
4. الموسوعة الفقهية الكويتية
5. المسوّدة لآل تيمية
6. صحيح مسلم المكنز
7. الطحاوي في مشكل الآثار
8. القرطبي في المفهم
9. النووي في المنهاج شرح مسلم
10. الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري
11. سنن ابن ماجه
12. سنن أبي داود
13. فيض القدير للمناوي
14. شرح معاني الآثار
15. السنة النبوية وأثرها في اختلاف الفقهاء-ط1 -
16. كشف الأستار
17. الفوائد لتمام
18. صحيح البخارى- المكنز -
19. سنن ابن ماجة- ط-الرسالة -
20. مصنف ابن أبي شيبة
21. شعب الإيمان
22. مسند الطيالسي
23. المعجم الكبير للطبراني
24. الفتاوى الكبري لابن تيمية
25. زاد المعاد لابن القيم
26.(1/124)
معالم في الطريق بتحقيقي
27. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
28. مراحل تشريع الجهاد في الإسلام
29. الخلاصة في أهداف القتال في الإسلام
30. الموافقات للشاطبي
31. آفات على الطريق كامل
32. أيسر التفاسير لأسعد حومد
33. سنن الترمذى- المكنز -
34. المعجم الصغير للطبراني
35. الصحيحة للألباني
36. صحيح الجامع للألباني
37. الآداب الشرعية
38. فضيلة العادلين من الولاة
39. المعجم الأوسط للطبراني
40. مسند الحميدي
41. الموسوعة الفقهية الكويتية
42. الإصابة لابن حجر
43. مسند الشاميين
44. مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ
45. عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة -
46. المستدرك للحاكم
47. موسوعة السنة النبوية
48. المفصل في تخريج أحاديث الطائفة المنصورة
49. الوسطية في القرآن الكريم للعمر والصلابي
50. تفسير ابن كثير - دار طيبة -
51. سير أعلام النبلاء
52. تاريخ الإسلام للإمام الذهبي
53.(1/125)
الخلاصة في أحاديث الطائفة المنصورة
54. عون المعبود
55. القرآن منهاج حياة
56. إحياء علوم الدين
57. مجموع الفتاوى لابن تيمية
58. فقه الأولويات للقرضاوي
59. http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=877&version=1&template_id=89&parent_id=1
60. الأشباه والنظائر للسيوطي
61. الأشباه والنظائر لابن نجيم
62. تلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية
63. كتب وليد بن راشد السعيدان
64. المأمول من لباب الأصول
65. الموافقات للشاطبي
66. تيسير علم أصول الفقه .. للجديع
67. مقاصد الشريعة الإسلامية
68. الخلاصة في أحكام الحج والعمرة للمؤلف
69. شرح القواعد الفقهية
70. الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد للمؤلف
71. الخلاصة في بيان أسباب اختلاف الفقهاء للمؤلف
72. موسوعة الغزو الفكري والثقافي للمؤلف
73. المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية للمؤلف
74. فتح الباري لابن حجر
75. البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع
76. الشاملة 3
77. برنامج قالون(1/126)
الفهرس العام
المبحث الأول ... 3
تعريفه وأدلته ... 3
تعريفه : ... 3
المبحث الثاني ... 10
ارتباط فقه الأولويات بغيره من أنواع الفقه ... 10
1- فقه الموازنات ... 10
2- فقه المقاصد: ... 14
3- فقه نصوص الشريعة الجزئية : ... 16
الرد على من فرق بين أحاديث الدين والدنيا ... 16
المبحث الثالث ... 27
أهم الأولويات التي لا بد من مراعاتها ... 27
1- أولوية الـ ( كيف ) على الـ ( كم )، ( أولوية الكيفية على الكمية ) ... 27
2- الأولويات في مجال العلم والفكر : ... 29
أ-أولوية تقديم العلم على العمل : ... 29
ب- أولوية الفهم على مجرد الحفظ. ... 32
ج- أولوية المقاصد على الظواهر: ... 32
د- أولوية الاجتهاد على التقليد ( في الأمور المستجدة والطارئة ). ... 33
هـ- أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا ... 33
و- الأولويات في الآراء الفقهية. ... 33
3- الأولويات في مجال الفتوى والدعوة : ... 36
أ- أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير. ... 36
ب- الاعتراف بالضرورات الطارئة في حياة الناس سواء أكانت فردية أم جماعية ... 40
ج- تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان. ... 40
الرد على من يزعم تغير بعض أحكام الإسلام الثابتة ومنها الجهاد ... 42(1/127)
د- مراعاة سنة التدرج. ... 48
الرد على من يزعم إلغاء الرِّق اليوم ... 60
هـ- تصحيح ثقافة المسلم. ... 62
و- الاهتمام بما اهتم به القرآن أولاً. ... 63
4- الأولويات في مجال العمل : ... 69
أ- أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع. ... 69
ب- أولوية العمل الأطول نفعاً وأبقى أثراً. ... 70
ج- أولوية العمل المتعدي النفع على العمل القاصر النفع. ... 71
د- أولوية العمل في أزمنة الفتن والشدائد. ... 73
هـ- أولوية عمل القلب على عمل الجوارح. ... 75
و- اختلاف الأفضل باختلاف الزمان والمكان والحال. ... 78
• أفضل الأعمال الدنيوية : ... 78
• أفضل العبادات : ... 81
5- الأولويات في مجال المأمورات : ... 81
أ- أولوية الأصول على الفروع. ... 82
ب- أولوية الفرائض على السنن والنوافل. ... 83
ج- أولوية فرض العين على فرض الكفاية. ... 84
• فروض الكفاية تتفاوت : ... 85
د- أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد. ... 86
هـ- أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد ... 87
و- أولوية الولاء للأمة والجماعة على الولاء للقبيلة والفرد. ... 88
6- الأولويات في مجال المنهيات : ... 93
• كفر الإلحاد والجحود: ... 93
• كفر الشرك: ... 94
• كفر أهل الكتاب: ... 95
• كفر أهل الردة: ... 96
• كفر النفاق: ... 97(1/128)
التفريق بين الأكبر والأصغر من الكفر والشرك والنفاق : ... 97
هل المسلمون مسؤولون عن ضلال أهل الأرض ؟ ... 99
وأما المعاصي فتنقسم إلى كبائر وصغائر : ... 103
7- الأولويات في مجال الإصلاح ( أي أثناء عملية الإصلاح ) : ... 106
أ -تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة ... 106
ب- تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر وتصحيح التصور وتصويب منهج النظر والعمل ... 106
1) التيار الخرافي، وله عدة صفات، منها : ... 107
2) التيار الحرْفي، وله عدة صفات، منها : ... 107
3) تيار الرفض والعنف: ... 107
4) التيار الوسطي: ... 107
رأينا في التيار الوسطي ... 108
المبحث الرابع ... 110
أمثلة على فقه الأولويات في تراثنا ... 110
أولا- في عهد الصحابة ... 110
نهي الصحابة الحسين عن الخروج على يزيد ... 110
ابن عمر وأهل العراق ... 113
ابن عمر والخارجون على يزيد بن معاوية ... 113
بين ابن مطيع وابن الحنفية ... 114
بين ابن المبارك والفضيل بن عياض ... 115
فقهاء السلف الصالح ... 116
الإمام الغزالي في الإحياء ... 117
شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ... 118(1/129)